تفسير سورة آل عمران

تفسير القاسمي
تفسير سورة سورة آل عمران من كتاب محاسن التأويل المعروف بـتفسير القاسمي .
لمؤلفه جمال الدين القاسمي . المتوفي سنة 1332 هـ
الجزء الرابع
ويشتمل على تفسير سورة آل عمران
وهي مدنية. مائتا آية، أو إلا آية. سميت بذلك لأن اصطفاء آل عمران، وهم عيسى ويحيى ومريم وأمها، نزل فيه منها ما لم ينزل في غيره. اذ هو بضع وثمانون آية. وقد جعل هذا الاصطفاء دليلا على اصطفاء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وجعله متبوعا لكل محب لله ومحبوب له.
وتسمى الزهراء، لأنها كشفت عما التبس على أهل الكتابين من شأن عيسى عليه السلام. والأمان، لأن من تمسك بما فيها أمن من الغلط في شأنه. والكنز، لتضمنها الأسرار العيسوية. والمجادلة، لنزول نيف وثمانين آية منها في مجادلة رسول الله صلى الله عليه وسلم نصارى نجران. وسورة الاستغفار، لما فيها من قوله :( والمستغفرين بالأسحار ). وطيبة، لجمعها من أصناف الطيبين في قوله :( الصابرين والصادقين ). إذا آخره، أفاده المهايمي.
والمراد بعمران هو والد مريم، أم عيسى عليهما السلام، كما يأتي التنويه به في قوله تعالى :( ان الله اصطفى آدم ونوحا وآل ابراهيم وآل عمران على العالمين ).

القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣)
الم سلف الكلام على ذلك أول البقرة. اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ سبق تأويله في آية الكرسي. نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ أي القرآن. عبر عنه باسم الجنس إيذانا بكمال تفوقه على بقية الأفراد في حيازة كمالات الجنس، كأنه هو الحقيق بأن يطلق عليه اسم الكتاب دون ما عداه، كما يلوح به التصريح باسمي التوراة والإنجيل بِالْحَقِّ أي الصدق الذي لا ريب فيه مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أي من الكتب المنزلة قبله.
قال المهايميّ: أي معرّفا صدق الكتب السالفة. وقال أبو مسلم: المراد منه أنه تعالى لم يبعث نبيّا قط إلا بالدعاء إلى توحيده والإيمان به، وتنزيهه عما لا يليق به، والأمر بالعدل والإحسان، وبالشرائع التي هي صلاح كل زمان. فالقرآن مصدق لتلك الكتب في كل ذلك. وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ تعيين لما بين يديه وتبيين لرفعة محله. تأكيدا لما قبله، وتمهيدا لما بعده. إذ بذلك يترقى شأن ما يصدقه رفعة ونباهة، ويزداد في القلوب قبولا ومهابة، ويتفاحش حال من كفر بهما في الشناعة، واستتباع ما سيذكر من العذاب الشديد والانتقام. قاله أبو السعود.
والتوراة اسم عبرانيّ معناه (الشريعة). والإنجيل لفظة يونانية معناها (البشرى) أي الخبر الحسن. هذا هو الصواب كما نص عليه علماء الكتابين في مصنفاتهم. وقد حاول بعض الأدباء تطبيقهما على أوزان لغة العرب واشتقاقهما منها. وهو خبط. بغير ضبط.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٤]
مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤)
مِنْ قَبْلُ متعلق ب أَنْزَلَ، أي أنزلهما من قبل تنزيل الكتاب. والتصريح به مع ظهور الأمر، للمبالغة في البيان هُدىً لِلنَّاسِ أي لقوم موسى وعيسى. أو ما هو أعم. لأن هذه الأمة متعبدة بما لم ينسخ من الشرائع وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ وهو الكتب السماوية التي ذكرها. لأن كلها فرقان يفرق بين الحق والباطل. أو هو القرآن.
وإنما كرر ذكره بما هو نعت له، ومدح له، من كونه فارقا بين الحق والباطل، بعد ما ذكره باسم الجنس، تعظيما لشأنه، وإظهارا لفضله، قال الرازيّ: أو يقال إنه تعالى أعاد ذكره ليبيّن أنه أنزله بعد التوراة والإنجيل، ليجعله فرقا بين ما اختلف فيه اليهود والنصارى من الحق والباطل. وعلى هذا التقدير فلا تكرار. ثم استظهر حمل الفرقان على المعجزات التي قرنها الله تعالى بإنزال هذه الكتب الفارقة بين دعواهم ودعوى الكذابين. قال: فالفرقان هو المعجز القاهر الذي يدل على صحتها، ويفيد الفرق بينها وبين سائر الكتب المختلفة. انتهى.
ويجوز أن يكون المراد بالفرقان (الميزان) المشار إليه في قوله تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد: ٢٥]. والميزان هو العدل في الأمور كلها واللفظ مما يشمل ذلك كله لتلاقيها في المعنى.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أي جحدوا بها لَهُمْ بسبب كفرهم بها عَذابٌ شَدِيدٌ وهذا الوعيد. جيء به إثر ما تقدم حملا على الإذعان، وزجرا عن العصيان وَاللَّهُ عَزِيزٌ لا يغالب يفعل ما يشاء ذُو انْتِقامٍ أي معاقبة، يقال: انتقم الله منه: عاقبه. والنقمة: المكافأة بالعقوبة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٥]
إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥)
إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ أي هو مطلع على كفر من كفر وإيمان من آمن، وهو مجازيهم عليه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٦]
هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦)
هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ أي يخلقكم في الأرحام كما يشاء من ذكر وأنثى، وحسن وقبيح، وشقيّ وسعيد لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٧]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ واضحات الدلالة هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ أي أصله المعتمد عليه في الأحكام وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ وهي ما استأثر الله بعلمها لعدم اتضاح حقيقتها التي أخبر عنها، أو ما احتملت أوجها. وجعله كله محكما في قوله: أُحْكِمَتْ آياتُهُ [هود: ١]، بمعنى أنه ليس فيه عيب، وأنه كلام حق فصيح الألفاظ، صحيح المعاني. ومتشابها في قوله كِتاباً مُتَشابِهاً [الزمر: ٢٣]، بمعنى أنه يشبه بعضه بعضا في الحسن، ويصدق بعضه بعضا فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ أي ميل عن استقامة إلى كفر وأهواء وابتداع فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ أي طلب الإيقاع في الشبهات واللبس وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وحده وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ أي الثابتون المتمكنون مبتدأ خبره يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ أي بالمتشابه على ما أراد الله تعالى كُلٌّ من المحكم والمتشابه مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ أي العقول الخالصة من الركون إلى الأهواء الزائغة. وهو تذييل سيق منه تعالى مدحا للراسخين بجودة الذهن وحسن النظر.
تنبيه:
للعلماء في المحكم والمتشابه أقوال كثيرة، ومباحث واسعة. وأبدع ما رأيته في تحرير هذا المقام مقالة سابغة الذيل لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية عليه الرحمة والرضوان. يقول في خلالها:
المحكم في القرآن، تارة يقابل بالمتشابه والجميع من آيات الله، وتارة يقابل
256
بما نسخه الله، مما ألقاه الشيطان. ومن الناس من يجعله مقابلا لما نسخه الله مطلقا، حتى يقول هذه الآية محكمة ليست منسوخة، ويجعل المنسوخ ليس محكما، وإن كان الله أنزله أوّلا اتباعا للظاهر من قوله: فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ. فهذه ثلاثة معان تقابل المحكم، ينبغي التفطن لها.
وجماع ذلك أن الإحكام تارة يكون في التنزيل. فيكون في مقابلته ما يلقيه الشيطان. فالمحكم المنزل من عند الله أحكمه الله أي فصله من الاشتباه بغيره، وفصل منه ما ليس منه، فإن الإحكام هو الفصل والتمييز والفرق والتحديد الذي به يتحقق الشيء ويحصل إتقانه، ولهذا دخل فيه معنى المنع، كما دخل في الحد بالمنع جزء معناه، لا جميع معناه، وتارة يكون في إبقاء التنزيل عند من قابله بالنسخ الذي هو رفع ما شرع، وهو اصطلاحيّ. أو يقال (وهو أشبه) : السلف كانوا يسمون كل رفع نسخا، سواء كان رفع حكم، أو رفع دلالة ظاهرة، فكل ظاهر ترك ظاهره لمعارض راجح، كتخصيص العام، وتقييد المطلق، فهو منسوخ في اصطلاح السلف. وإلقاء الشيطان في أمنيته قد يكون في نفس لفظ المبلّغ، وقد يكون في مسمع المبلّغ، وقد يكون في فهمه، كما قال: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها [الرعد: ١٧]. ومعلوم أن من سمع، سمع النص الذي قد رفع حكمه، أو دلالة له، فإنه يلقى الشيطان في تلك التلاوة اتباع ذلك المنسوخ، فيحكم الله آياته بالناسخ الذي به رفع الحكم، وبان المراد. وعلى هذا التقدير، فيصح أن يقال:
المتشابه والمنسوخ. بهذا الاعتبار. والله أعلم.
وتارة يكون الإحكام في التأويل والمعنى، وهو تمييز الحقيقة المقصودة من غيرها، حتى لا تشتبه بغيرها. وفي مقابلة المحكمات الآيات المتشابهات التي تشبه هذا وتشبه هذا. فتكون محتملة للمعنيين، ولم يقل في المتشابه (لا يعلم تفسيره ومعناه إلا الله)، وإنما قال: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وهذا هو فصل الخطاب بين المتنازعين في هذا الموضع. فإن الله أخبر أنه لا يعلم تأويله إلا هو. والوقف هنا.
على ما دل عليه أدلة كثيرة، وعليه أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وجمهور التابعين، وجماهير الأمة. ولكن لم ينف علمهم بمعناه وتفسيره، بل قال: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ [ص: ٢٩]. وهذا يعم الآيات المحكمات والآيات المتشابهات. وما لا يعقل له معنى لا يتدبر، وقال: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [النساء: ٨٢]. ولم يستثن شيئا منه نهى عن تدبره. والله ورسوله إنما ذم من اتبع المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، فأما من تدبر المحكم والمتشابه كما أمره الله
257
وطلب فهمه ومعرفة معناه، فلم يذمه الله، بل أمر بذلك ومدح عليه. يبيّن ذلك أن التأويل، قد روي أن من اليهود الذين كانوا بالمدينة على عهد النبيّ صلّى الله عليه وسلم كحييّ بن أخطب وغيره من طلب من حروف الهجاء التي في أوائل السور تأويل بقاء هذه الأمة، كما سلك ذلك طائفة من المتأخرين موافقة للصابئة المنجمين، وزعموا أنه ستمائة وثلاثة وتسعون عاما. لأن ذلك هو عدد ما للحروف في حساب الجمل، بعد إسقاط المكرر. وهذا من نوع تأويل الحوادث التي أخبر بها القرآن في اليوم الآخر. وروي أن من النصارى الذين وفدوا على النبيّ صلّى الله عليه وسلم في وفد نجران من تأوّل (أنا ونحن) على أن الآلهة ثلاثة. لأن هذا ضمير جمع. وهذا تأويل في الإيمان بالله. فأولئك تأولوا في اليوم الآخر. وهؤلاء تأولوا في الله. ومعلوم أن (أنا ونحن) من المتشابه. فإنه يراد بها الواحد الذي معه غيره من جنسه، ويراد بها الواحد الذي معه أعوانه وإن لم يكونوا من جنسه، ويراد الواحد المعظم نفسه، الذي يقوم مقام من معه غيره لتنوع أسمائه التي كل اسم منها يقوم مقام مسمى. فصار هذا متشابها لأن اللفظ واحد، والمعنى متنوع، والأسماء المشتركة في اللفظ هي من المتشابه، وبعض المتواطئ أيضا من المتشابه. ويسميها أهل التفسير (الوجوه والنظائر) وصنفوا كتب الوجوه والنظائر.
فالوجوه في الأسماء المشتركة، والنظائر في الأسماء المتواطئة. وقد ظن بعض أصحابنا المصنفين في ذلك أن الوجوه والنظائر جميعا في الأسماء المشتركة، فهي نظائر باعتبار اللفظ، ووجوه باعتبار المعنى، وليس الأمر على ما قاله، بل كلامهم صريح فيما قلناه لمن تأمله. والذين في قلوبهم زيغ يدعون المحكم الذي لا اشتباه فيه مثل: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [البقرة: ١٦٣]. إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي [طه: ١٤]. مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ [المؤمنون: ٩١]. وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ [الفرقان: ٢]. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص: ٣- ٤]. ويتبعون المتشابه ابتغاء الفتنة ليفتنوا به الناس إذا وضعوه على غير مواضعه، وحرفوا الكلم عن مواضعه. وابتغاء تأويله وهو الحقيقة التي أخبر عنها. وذلك أن الكلام نوعان: إنشاء فيه الأمر، وإخبار. فتأويل الأمر هو نفس الفعل المأمور به، كما قال من قال من السلف: إن السنة هي تأويل الأمر.
قالت عائشة رضي الله عنها «١» : كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي
. يتأول القرآن، تعني قوله:
(١) أخرجه البخاريّ في: الأذان، ١٣٩- باب التسبيح والدعاء في السجود.
258
فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً [النصر: ٣]. وأما الإخبار فتأويله عين الأمر المخبر به إذا وقع. ليس تأويله فهم معناه، وقد جاء اسم التأويل في القرآن في غير موضع. وهذا معناه. قال الله تعالى: وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ، يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ [الأعراف: ٥٢- ٥٣] فقد أخبر أنه فصل الكتاب، وتفصيله بيانه وتمييزه بحيث لا يشتبه، ثم قال: هَلْ يَنْظُرُونَ، أي ينتظرون، إِلَّا تَأْوِيلَهُ، يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ. إلى آخر الآية. وإنما ذلك مجيء ما أخبر به القرآن بوقوعه من القيامة وأشراطها. كالدابة ويأجوج ومأجوج وطلوع الشمس من مغربها ومجيء ربك والملك صفا صفا، وما في الآخرة من الصحف والموازين والجنة والنار وأنواع النعيم والعذاب وغير ذلك. فحينئذ يقولون: قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ. وهذا القدر الذي أخبر به القرآن من هذه الأمور لا يعلم وقته وقدره وصفته إلا الله. فإن الله يقول: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة: ١٧]. ويقول «١» :
أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
وقال ابن عباس: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء، فإن الله قد أخبر أن في الجنة خمرا ولبنا وماء وحريرا وذهبا وفضة وغير ذلك، ونحن نعلم قطعا أن تلك الحقيقة ليست مماثلة لهذه، بل بينهما تباين عظيم مع التشابه. كما في قوله:
وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً [البقرة: ٢٥]، على أحد القولين أي يشبه ما في الدنيا، وليس مثله. فأشبه اسم تلك الحقائق أسماء هذه الحقائق، كما أشبهت الحقائق الحقائق من بعض الوجوه، فنحن نعلمها إذا خوطبنا بتلك الأسماء من القدر المشترك بينهما، ولكن لتلك الحقائق خاصية لا ندركها في الدنيا، ولا سبيل إلى إدراكنا لها لعدم إدراك عينها أو نظيرها من كل وجه، وتلك الحقائق على ما هي تأويل ما أخبر الله به، وهذا فيه رد على اليهود والنصارى والصابئين من المتفلسفة وغيرهم. فإنهم ينكرون أن يكون في الجنة أكل وشرب ولباس ونكاح، ويمنعون وجود ما أخبر به القرآن.
ومن دخل في الإسلام ونافق المؤمنين تأول ذلك على أن هذه أمثال مضروبة لتفهيم النعيم الروحانيّ، إن كان من المتفلسفة الصابئة المنكرة لحشر الأجساد. وإن كان
(١)
أخرجه البخاريّ في: التوحيد، ٣٥- باب قوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ. ونصه:
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قال الله: أعددت...
إلخ.
259
من منافقة الملّتين المقرين بحشر الأجساد، تأول ذلك على تفهيم النعيم الذي في الجنة من الروحانيّ والسماع الطيب والروائح العطرة. كلّ ضال يحرف الكلم عن مواضعه إلى ما اعتقد ثبوته. وكان في هذا أيضا متبعا للمتشابه، إذ الأسماء تشبه الأسماء، والمسميات تشبه المسميات ولكن تخالفها أكثر مما تشابهها. فهؤلاء يتبعون هذا المتشابه ابتغاء الفتنة بما يوردونه من الشبهات على امتناع أن يكون في الجنة هذه الحقائق، وابتغاء تأويله ليردوه إلى المعهود الذي يعلمونه في الدنيا، قال الله تعالى: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، فإن تلك الحقائق قال الله فيها: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة: ١٧]، لا ملك مقرب ولا نبيّ مرسل.
وقوله: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ. إما أن يكون الضمير عائدا على الكتاب أو على المتشابه. فإن كان عائدا على الكتاب لقوله: منه، ومنه: فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ، فهذا يصح. فإن جميع آيات الكتاب المحكمة والمتشابهة التي فيها إخبار عن الغيب الذي أمرنا أن نؤمن به، لا يعلم حقيقة ذلك الغيب ومتى يقع إلّا الله. وقد يستدل لهذا أن الله جعل التأويل للكتاب كله مع إخباره أنه مفصل بقوله: وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ. فجعل التأويل الجائي الكتاب المفصل، وقد بينا أن ذلك التأويل لا يعلمه وقتا وقدرا ونوعا وحقيقة إلا الله. وإنا نعلم نحن بعض صفاته بمبلغ علمنا لعدم نظيره عندنا. وكذلك قوله: بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ. وإذا كان التأويل الكتاب كله والمراد به ذلك، ارتفعت الشبهة، وصار هذا بمنزلة قوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها، قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ، ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ- إلى قوله- إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ [الأعراف: ١٨٧]. وكذلك قوله: يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ، قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ، وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً [الأحزاب: ٦٣]. فأخبر أنه ليس علمها إلا عند الله، وإنما هو علم وقتها المعين وحقيقتها، وإلا فنحن قد علمنا من صفاتها ما أخبرنا به، فعلم تأويله كعلم الساعة والساعة من تأويله. وهذا واضح بيّن، ولا ينافي كون علم الساعة عند الله أن نعلم من صفاتها وأحوالها ما علمناه، وأن نفسر النصوص المبينة لأحوالها. فهذا هذا.
وإن كان الضمير عائدا إلى ما تشابه كما يقوله كثير من الناس، فلأن المخبر به من الوعد والوعيد متشابه، بخلاف الأمر والنهي. ولهذا في الآثار: العمل بمحكمه والإيمان بمتشابهه. لأن المقصود في الخبر الإيمان. وذلك لأن المخبر به من الوعد
260
والوعيد فيه من التشابه ما ذكرناه. بخلاف الأمر والنهي فإنه متميز غير مشتبه بغيره، فإنه أمور نفعلها قد علمناها بالوقوع وأمور نتركها لا بد أن نتصورها.
ومما جاء من لفظ التأويل في القرآن قوله تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ [يونس: ٣٩] والكتابة عائدة على القرآن، أو على ما لم يحيطوا بعلمه، وهو يعود إلى القرآن. قال تعالى: وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ، قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ، كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ، وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ [يونس: ٣٧- ٤٠]. فأخبر سبحانه أن هذا القرآن ما كان ليفترى من دون الله. وهذه الصيغة تدل على امتناع المنفيّ كقوله: وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ [هود: ١١٧] لأن الخلق عاجزون عن الإتيان بمثله. كما تحداهم وطالبهم لما قال: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ، قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يونس: ٣٨]، فهذا تعجيز لجميع المخلوقين. قال تعالى: وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ [يونس: ٣٧]، أي مصدق الذي بين يديه، وتفصيل الكتاب، أي مفصل الكتاب، فأخبر أنه مصدق الذي بين يديه ومفصل الكتاب. والكتاب اسم جنس. ولما تحدى القائلين: افتراه، ودل على أنهم هم المفترون، قال: بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ. ففرق بين الإحاطة بعلمه، وبين إتيان تأويله.
فتبين أنه يمكن أن يحيط أهل العلم والإيمان بعلمه، ولما يأتهم تأويله، وأنّ الإحاطة بعلم القرآن ليست إتيان تأويله، فإن الإحاطة بعلمه معرفة معاني الكلام على التمام، وإتيان التأويل نفس وقوع المخبر به. وفرق بين معرفة الخبر وبين المخبر به.
فمعرفة الخبر هي معرفة تفسير القرآن. ومعرفة المخبر به هي معرفة تأويله. وهذا هو الذي بيناه فيما تقدم.
إن الله إنما أنزل القرآن ليعلم ويفهم ويفقه ويتدبر ويتفكر به محكمه ومتشابهه، وإن لم يعلم تأويله. ويبين ذلك أن الله يقول عن الكفار: وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً، وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ
261
نُفُوراً
[الإسراء: ٤٥- ٤٦]. فقد أخبر، ذما للمشركين، أنه إذا قرئ عليهم القرآن حجب بين أبصارهم وبين الرسول بحجاب مستور، وجعل على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا. فلو كان أهل العلم والإيمان على قلوبهم أكنة أن يفقهوا بعضه لشاركوهم في ذلك. وقوله: أَنْ يَفْقَهُوهُ يعود إلى القرآن كله. فعلم أن الله يحب أن يفقه. ولهذا قال الحسن البصريّ: ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم في ماذا أنزلت وماذا عنى بها. وما استثنى من ذلك لا متشابها ولا غيره. وقال مجاهد:
عرضت المصحف على ابن عباس من أوله إلى آخره مرات أقفه عند كل آية وأسأله عنها. فهذا ابن عباس حبر الأمة، وهو أحد من كان يقول: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، يجيب مجاهدا عن كل آية في القرآن. وهذا هو الذي جعل مجاهدا ومن وافقه كابن قتيبة على أن جعلوا الوقف عن قوله وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ فجعلوا الراسخين يعلمون التأويل. لأن مجاهد تعلم من ابن عباس تفسير القرآن كله وبيان معانيه. فظن أن هذا هو التأويل المنفيّ عن غير الله. وأصل ذلك أن لفظ التأويل، وبه أشير إلى بين ما عناه الله في القرآن وبين ما كان يطلقه طوائف من السلف، وبين اصطلاح طوائف من المتأخرين فبسبب الاشتراك في لفظ (التأويل) اعتقد كل من فهم منه معنى بلغته أن ذلك هو المذكور في القرآن.
ومجاهد إمام التفسير، قال الثوريّ: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به.
وأما التأويل فشأن آخر. ويبين ذلك أن الصحابة والتابعين لم يمتنع أحد منهم عن تفسير آية من كتاب الله وقال: هذه من المتشابه الذي لا يعلم معناه، ولا قال قط أحد من سلف الأمة ولا من الأئمة المتبوعين: إن في القرآن آيات لا يعلم معناها ولا يفهمها رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولا أهل العلم والإيمان جميعهم. وإنما قد ينفون علم بعض ذلك على بعض الناس، وهذا لا ريب فيه، وإنما وضع هذه المسألة المتأخرون من الطوائف بسبب الكلام في آيات الصفات وآيات القدر وغير ذلك. فلقبوها، هل يجوز أن يشتمل القرآن على ما لا يعلم معناه، وما تعبدنا بتلاوة حروفه بلا فهم؟
فجوّز ذلك طوائف متمسكين بظاهر من هذه الآية، وبأن الله يمتحن عباده بما شاء، ومنعها طوائف ليتوصلوا بذلك إلى تأويلاتهم الفاسدة التي هي تحريف الكلم عن مواضعه. والغالب على كلتا الطائفتين الخطأ. أولئك يقصرون في فهمهم القرآن بمنزلة من قيل فيه: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [البقرة: ٧٨]. وهؤلاء معتدون بمنزلة الذين يحرفون الكلم عن مواضعه. ومن
262
المتأخرين من وضع المسألة بلقب شنيع فقال: لا يجوز أن يتكلم الله بكلام ولا يعني به شيئا، خلافا للحشوية. وهذا لم يقله مسلم إن الله يتكلم بما لا معنى له وإنما النزاع هل يتكلم بما لا يفهم معناه. وبين نفي المعنى عند المتكلم، ونفي الفهم عن المخاطب، بون عظيم. ثم احتج بما لا يجري على أصله، فقال: هذا عبث، والعبث على الله محال، وعنده أن الله لا يقبح منه شيء أصلا، بل يجوز أن يفعل كل شيء، وليس له أن يقول العبث صفة نقص، فهو منتف عنه، لأن النزاع في الحروف، وهي عنده مخلوقة من جملة الأفعال، ويجوز أن يشتمل الفعل عنده على كل صفة، فلا نقل صريح، ولا عقل صحيح.
ومثار الفتنة بين الطائفتين ومحار عقولهم أن مدعي التأويل أخطئوا في زعمهم أن العلماء يعلمون التأويل، وفي دعواهم أن التأويل هو تأويلهم الذي هو تحريف الكلم عن مواضعه. فإن الأولين، لعلمهم بالقرآن والسنن، وصحة عقولهم، وعلمهم بكلام السلف، وكلام العرب، علموا يقينا أن التأويل الذي يدعيه هؤلاء ليس هو معنى القرآن. فإنهم حرفوا الكلم عن مواضعه، وصاروا مراتب ما بين قرامطة وباطنية يتأولون للأخبار والأوامر. وما بين صابئة فلاسفة يتأولون عامة الأخبار عن الله وعن اليوم الآخر، حتى عن أكثر أحوال الأنبياء. وما بين جهمية ومعتزلة يتأولون بعض ما جاء في اليوم الآخر وفي آيات القدر، ويتأولون آيات الصفات. وقد وافقهم بعض متأخري الأشعرية على ما جاء في بعض الصفات، وبعضهم في بعض ما جاء في اليوم الآخر. وآخرون من أصناف الأمة، وإن كان يغلب عليهم السنة، فقد يتأولون أيضا مواضع يكون تأويلهم من تحريف الكلم عن مواضعه.
والذين ادعوا العلم بالتأويل مثل طائفة من السلف وأهل السنة، وأكثر أهل الكلام والبدع، رأوا أيضا أن النصوص دلت على معرفة معاني القرآن. ورأوا عجزا وعيبا وقبيحا أن يخاطب الله عباده بكلام يقرءونه ويتلونه وهم لا يفهمونه. وهم مصيبون فيما استدلوا به من سمع وعقل، لكن أخطئوا في معنى التأويل الذي نفاه الله، وفي التأويل الذي أثبتوه وتسلق بذلك مبتدعتهم إلى تحريف الكلم عن مواضعه، وصار الأولون أقرب إلى السكوت والسلامة بنوع من الجهل، وصار الآخرون أكثر كلاما وجدالا، ولكن بفرية على الله، وقول عليه ما لا يعلمونه، وإلحاد في أسمائه وآياته، فهذا هذا.
ومنشأ الشبهة الاشتراك في لفظ التأويل. فإن التأويل في عرف المتأخرين من
263
المتفقهة والمتكلمة والمحدثة والمتصوفة ونحوهم هو صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به، وهذا هو التأويل الذي يتكلمون عليه في أصول الفقه ومسائل الخلاف. فإذا قال أحد منهم: هذا الحديث أو هذا النص مؤول، أو هو محمول على كذا، قال الآخر: هذا نوع تأويل، والتأويل يحتاج إلى دليل. والمتأول عليه وظيفتان: بيان احتمال اللفظ للمعنى الذي ادعاه، وبيان الدليل الموجب للصرف إليه عن المعنى الظاهر، وهذا هو التأويل الذي يتنازعون فيه في مسائل الصفات، إذا صنف بعضهم في إبطال التأويل، أو ذم التأويل، أو قال بعضهم:
آيات الصفات لا تؤول، وقال الآخر: بل يجب تأويلها، وقال الثالث: بل التأويل جائز يفعل عند المصلحة، يترك عند المصلحة، أو يصح للعلماء دون غيرهم، إلى غير ذلك من المقالات والتنازع.
وأما لفظ التأويل في لفظ السلف فله معنيان:
أحدهما- تفسير الكلام وبيان معناه، سواء وافق ظاهره أو خالفه، فيكون التأويل والتفسير عند هؤلاء متقاربا أو مترادفا، وهذا- والله أعلم- هو الذي عناه مجاهد أن العلماء يعلمون تأويله. ومحمد بن جرير الطبريّ يقول في تفسيره: القول في تأويل قوله كذا وكذا. واختلف أهل التأويل في هذه الآية. ونحو ذلك، ومراده التفسير.
والمعنى الثاني- في لفظ السلف وهو الثالث من مسمى التأويل مطلقا هو نفس المراد بالكلام. فإن الكلام إن كان طلبا كان تأويله نفس الفعل المطلوب. وإن كان خبرا كان تأويله نفس الشيء المخبر به. وبين هذا المعنى والذي قبله بون. فإن الذي قبله يكون التأويل فيه من باب العلم، والكلام كالتفسير والشرح والإيضاح.
ويكون وجود التأويل في القلب واللسان، له الوجود الذهنيّ واللفظيّ والرسميّ. وأما هذا، فالتأويل فيه نفس الأمور الموجودة في الخارج، سواء كانت ماضية أو مستقبلة.
فإذا قيل: طلعت الشمس، فتأويل هذا نفس طلوعها. وهذا الوضع والعرف. الثالث هو لغة القرآن التي نزل بها. وقد قدمنا التبيين في ذلك. ومن ذلك قول يعقوب عليه السلام ليوسف: وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ [يوسف: ٦]. وقوله: وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ، قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً، وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ، نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ. إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ
264
[يوسف: ٣٦- ٣٧]. وقول الملأ: أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ [يوسف: ٤٤]. وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ [يوسف: ٤٥]. وقول يوسف لما دخلوا عليه مصر وآوى إليه أبويه وقال:
ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [يوسف: ٩٩]. وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا [يوسف: ١٠٠].
فتأويل الأحاديث التي هي رؤيا المنام هي نفس مدلولها التي تؤول إليه، كما قال يوسف: هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ [يوسف: ١٠٠]. والعالم بتأويلها الذي يخبر به، كما قال يوسف: لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ. أي في المنام. إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما. أي قبل أن يأتيكما التأويل. وقال الله تعالى:
فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء: ٥٩]. قالوا: أحسن عاقبة ومصيرا، فالتأويل هنا تأويل فعلهم الذي هو الرد إلى الكتاب والسنة، والتأويل في سورة يوسف تأويل أحاديث الرؤيا، والتأويل في الأعراف ويونس تأويل القرآن، وكذلك في سورة آل عمران. وقال تعالى في قصة موسى والعالم: قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً [الكهف: ٧٨]. إلى قوله: وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي، ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً [الكهف: ٨٢]. فالتأويل هنا تأويل الأفعال التي فعلها العالم من خرق السفينة بغير إذن صاحبها. ومن قتل الغلام، ومن إقامة الجدار. فهو تأويل عمل، لا تأويل قول، وإنما كان كذلك لأن التأويل مصدر أوّله يؤوله تأويلا، مثل حوّل تحويلا، وعول تعويلا. و (أوّل يؤوّل) تعدية (آل يؤول أولا)، مثل حال يحول حولا وقولهم (آل يؤول) أي عاد إلى كذا ورجع إليه، ومنه المآل، وهو ما يؤول إليه الشيء. ويشاركه في الاشتقاق الموئل، فإنه وأل، وهذا من أول، والموئل المرجع، قال تعالى: لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا. ومما يوافقه في اشتقاقه الأصغر الآل، فإن آل الشخص من يؤول إليه، ولهذا لا يستعمل إلا في عظيم، بحيث يكون المضاف إليه يصلح أن يؤول إليه الآل. كآل إبراهيم وآل لوط وآل فرعون. بخلاف الأهل. والأول أفعل، لأنهم قالوا في تأنيثه أولى، كما قالوا جمادى الأولى، وفي القصص: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ. ومن الناس من يقول فوعل ويقول (أوّله) إلا أن هذا يحتاج إلى شاهد من كلام العرب، بل عدم صرفه يدل على أنه أفعل لا فوعل. فإن فوعل مثل كوثر وجوهر مصروف. سمي المتقدم أول- والله أعلم- لأن ما بعده يؤول إليه ويبنى عليه، فهو أس لما بعده وقاعدة له. والصيغة
265
صيغة تفضيل مثل أكبر وكبرى وأصغر وصغرى لا من أحمر وحمراء، ولهذا يقولون:
جئته أول من أمس وقال: مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ [التوبة: ١٠٨]. وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام: ١٦٣]. وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ [البقرة: ٤١]. ومثل هذا أول هؤلاء، فهذا الذي فضل عليهم في الأوّل، لأن كل واحد يرجع إلى ما قبله، فيعتمد عليه، وهذا السابق، كلهم يؤول إليه. فإن من تقدم من فعل، فاستبق به من بعده، كان السابق الذي يؤول الكل إليه. فالأول له وصف السؤدد والاتباع. ولفظ الأول مشعر بالرجوع والعود. والأول مشعر بالابتداء، والمبتدي خلاف العائد. لأنه إنما كان أولا لما بعده، فإنه يقال (أوّل المسلمين)، و (أوّل يوم)، فما فيه من معنى الرجوع والعود، هو للمضاف إليه لا للمضاف. وإذا قلنا: آل فلان فالعود في المضاف. لأن ذلك صيغة تفضيل في كونه مآلا ومرجعا لغيره. لأنه كونه مفضلا دلّ على أنه مآل ومرجع، لا آيل راجع. إذ لا فضل في كون الشيء راجعا إلى غيره، آئلا إليه، وإنما الفضل في كونه هو الذي يرجع إليه ويؤال. فلما كانت الصيغة صيغة تفضيل أشعرت بأنه مفضل في كونه مآلا ومرجعا، والتفضيل المطلق في ذلك يقتضي أن يكون هو السابق المبتدئ. والله أعلم.
فتأويل الكلام ما أوّله إليه المتكلم أو ما يؤول إليه الكلام أو ما تأوله المتكلم.
فإن التفعيل يجري على غير فعّل كقوله: وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا [المزمل: ٨]، فيجوز أن يقال تأول الكلام إلى هذا المعنى تأويلا، والمصدر واقع موقع الصفة، إذ قد يحصل المصدر صفة بمعنى الفاعل. كعدل وصوم وفطر، وبمعنى المفعول كدرهم ضرب الأمير، وهذا خلق الله. فالتأويل هو ما أول إليه الكلام أو يؤول إليه، أو تأول هو إليه. والكلام إنما يرجع ويعود ويستقر ويؤول ويؤوّل إلى حقيقته التي هي عين المقصود به، كما قال بعض السلف في قوله: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ، وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الأنعام: ٦٧]. قال: حقيقة. فإن كان خبرا فإلى الحقيقة الخبر بها يؤول ويرجع، وإلا لم تكن له حقيقة ولا مآل ولا مرجع، بل كان كذبا. وإن كان طلبا فإلى الحقيقة المطلوبة يؤول ويرجع، وإلا لم يكن مقصوده موجودا ولا حاصلا، ومتى كان الخبر وعدا أو وعيدا فإلى الحقيقة المطلوبة المنتظرة يؤول. كما
روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه تلا هذه الآية: قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً [الأنعام: ٦٥]. قال: إنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد.
266

فصل


وأما إدخال أسماء الله وصفاته أو بعض ذلك في المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله، أو اعتقاد أن ذلك هو المتشابه الذي استأثر الله بعلم تأويله كما يقول كلّ واحد من القولين طوائف من أصحابنا وغيرهم، فإنهم، وإن أصابوا في كثير مما يقولونه ونجوا من بدع وقع فيها غيرهم، فالكلام على هذا من وجهين:
الأول- من قال إن هذا من المتشابه وأنه لا يفهم معناه، ما الدليل على ذلك؟
فإني ما أعلم عن أحد من سلف الأمة، ولا من الأئمة، لا أحمد بن حنبل ولا غيره، أنه جعل ذلك من المتشابه الداخل في هذه الآية، ونفى أن يعلم أحد معناه، وجعلوا أسماء الله وصفاته بمنزلة الكلام الأعجميّ الذي لا يفهم. ولا قالوا إن الله ينزل كلاما لا يفهم أحد معناه. وإنما قالوا: كلمات لها معان صحيحة. قالوا في أحاديث الصفات: تمرّ كما جاءت، ونهو عن تأويلات الجهمية وردّوها وأبطلوها. التي مضمونها تعطيل النصوص على ما دلت عليه. ونصوص أحمد والأئمة قبله بينة في أنهم كانوا يبطلون تأويلات الجهمية، ويقرون النصوص على ما دلت عليه من معناها، ويفهمون منها بعض ما دلت عليه، كما يفهمون ذلك في سائر نصوص الوعد والوعيد والفضائل وغير ذلك. وأحمد قد قال: في غير أحاديث الصفات: تمر كما جاءت في أحاديث الوعد. مثل: من غشنا فليس منا «١». وأحاديث الفضائل.
ومقصوده بذلك أن الحديث لا يحرف كله عن مواضعه كما يفعله من يحرفه ويسمي تحريفه تأويلا، بالعرف المتأخر.
فتأويل هؤلاء المتأخرين عند الأئمة تحريف باطل. وكذلك نص أحمد في كتاب الرد على الزنادقة الجهمية أنهم تمسكوا بمتشابه القرآن. وتكلم أحمد على ذلك المتشابه، وبين معناه وتفسيره بما يخالف تأويل الجهمية، وجرى في ذلك على سنن الأئمة قبله. فهذا اتفاق من الأئمة على أنه يعلمون معنى هذا المتشابه وأنه لا يسكت عن بيانه وتفسيره. بل يبين ويفسر. فاتفاق الأئمة من غير تحريف له عن مواضعه أو إلحاد في أسماء الله وآياته.
ومما يوضح لك ما وقع هنا من الاضطراب، أن أهل السنة متفقون على إبطال
(١)
أخرجه مسلم في: الإيمان، حديث ١٦٤ ونصه: عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «من حمل علينا السلاح فليس منا، ومن غشنا فليس منا»
.
267
تأويلات الجهمية ونحوهم من المنحرفين الملحدين، والتأويل المردود هو صرف الكلام عن ظاهره إلى ما يخالف ظاهره. فلو قيل: إن هذا هو التأويل المذكور في الآية، وأنه لا يعلمه إلا الله، لكان في هذا تسليم للجهمية أن للآية تأويلا يخالف دلالتها، لكن ذلك لا يعلمه إلا الله. وليس هذا مذهب السلف والأئمة، وإنما مذهبهم نفي هذه التأويلات وردها، لا التوقف عنها. وعندهم قراءة الآية والحديث تفسيرها وتمر كما جاءت دالة على المعاني. لا تحرف ولا يلحد فيها.
والدليل على أن هذا ليس بمتشابه لا يعلم معناه، أن نقول: لا ريب أن الله سمى نفسه في القرآن بأسماء مثل الرحمن والودود والعزيز والجبار والعليم والقدير والرؤوف ونحو ذلك، ووصف نفسه بصفات مثل سورة الإخلاص وآية الكرسيّ وأول الحديد وآخر الحشر، وقوله: أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، و: عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، و: فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ و: الْمُقْسِطِينَ، و: الْمُحْسِنِينَ، وأنه:
(يرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات)، و: فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ [الزخرف: ٥٥]. ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ [محمد: ٢٨]. وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ [التوبة: ٤٦]. الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: ٥]. ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف: ٥٤]. يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [الحديد: ٤]. وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ، وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ [الزخرف: ٨٤]. إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر: ١٠].
إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى [طه: ٤٦] وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ [الأنعام: ٣]. ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: ٧٥] بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ [المائدة: ٦٤]. وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرحمن: ٢٧]. يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الكهف: ٢٨]. وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي [طه: ٣٩]. إلى أمثال ذلك. فيقال لمن ادعى في هذا أنه متشابه لا يعلم معناه:
أتقول هذا في جميع ما سمى الله ووصف به نفسه أم في البعض؟ فإن قلت هذا في الجميع كان هذا عنادا ظاهرا، وجحد لما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، بل كفر صريح. فإنا نفهم من قوله: أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، معنى. ونفهم من قوله:
إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ معنى ليس هو الأول. ونفهم من قوله: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف: ١٥٦]. معنى، ونفهم من قوله: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ [إبراهيم: ٤٧]، معنى. وصبيان المسلمين، بل وكل عاقل يفهم هذا.
268
وقد رأيت بعض من ابتدع وجحد من أهل المغرب مع انتسابه إلى الحديث، لكن أثرت فيه الفلسفة الفاسدة، من يقول: إنا نسمي الله الرحمن الرحيم العليم القدير علما محضا من غير أن نفهم منه معنى يدل على شيء قط، وكذلك في قوله:
وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ. يطلق هذا اللفظ من غير أن نقول له علم. وهذا الغلو في الظاهر، من جنس غلو القرامطة في الباطن. لكن هذا أيبس وذاك أكفر.
ثم يقال لهذا المعاند: فهل هذه الأسماء دالة على الإله المعبود، أو على حق موجود. أم لا؟ فإن قال: لا، كان معطلا محضا. وما أعلم مسلما يقول هذا. وإن قال: نعم قيل له: فهل فهمت منها دلالتها على نفس الرب، ولم تفهم دلالتها على ما فيها من المعاني من الرحمة والعلم، وكلاهما في الدلالة سواء؟ فلا بد أن يقول: لأن ثبوت الصفات محال في العقل، لأنه يلزم منه التركيب أو الحدوث. بخلاف الذات.
فيخاطب حينئذ بما يخاطب به الفريق الثاني كما سنذكره. وهو من أقر بفهم بعض معنى هذه الأسماء والصفات دون بعض. فيقال له: ما الفرق بين ما أثبته وبين ما نفيته أو سكت عن إثباته ونفيه؟ فإن الفرق إما أن يكون من جهة السمع، لأن أحد النصين دال دلالة قطعية أو ظاهرة، بخلاف الآخر. أو من جهة العقل بأن أحد المعنيين يجوز أو يجب إثباته دون الآخر، وكلا الوجهين باطل في أكثر المواضع، أما الأول فدلالة القرآن على أنه رحمن رحيم ودود سميع بصير عليّ عظيم كدلالته على أنه عليم قدير، ليس بينهما فرق من جهة النص. وكذلك ذكره لرحمته ومحبته وعلوه مثل ذكره لمشيئته وإرادته. وأما الثاني فيقال لمن أثبت شيئا ونفى آخر: لم نفيت، مثلا، حقيقة رحمته ومحبته وأعدت ذلك إلى إرادته؟ فإن قال: لأن المعنى المفهوم من الرحمة في حقنا هي رقة تمتنع على الله، قيل له: والمعنى المفهوم من الإرادة في حقنا هي ميل يمتنع على الله. فإن قال: إرادته ليست من جنس إرادة خلقه. قيل له:
ورحمته ليست من جنس رحمة خلقه. وكذلك محبته. وإن قال (وهو حقيقة قوله) : لم أثبت الإرادة وغيرها بالسمع، وإنما أثبت العلم والقدرة والإرادة بالعقل.
وكذلك السمع والبصر والكلام على إحدى الطريقتين. لأن الفعل دل على القدرة، والإحكام دل على العلم. والتخصيص دل على الإرادة. قيل له: الجواب من ثلاثة أوجه:
أحدها- أن الإنعام والإحسان وكشف الضر دل أيضا على الرحمة كدلالة التخصيص على الإرادة والتقريب والإدناء. وأنواع التخصيص التي لا تكون إلا من المحب تدل على المحبة، أو مطلق التخصيص يدل على الإرادة. وأما التخصيص
269
بالإنعام فتخصيص خاص، والتخصيص بالتقريب والاصطفاء تقريب خاص، وما سلكه في مسلك الإرادة يسلك في مثل هذا.
الثاني- يقال له: هب أن العقل لا يدل على هذا، فإنه لا ينفيه إلا بمثل ما ينفي به الإرادة، والسمع دليل مستقل بنفسه، بل الطمأنينة إليه في هذه المضايق أعظم، ودلالته أتم، فلأي شيء نفيت مدلوله أو توقفت وأعدت هذه الصفات كلها إلى الإرادة؟ مع أن النصوص تفرق. فلا يذكر حجة إلا عورض بمثلها في إثباته الإرادة زيادة على الفعل.
الثالث- يقال له: إذا قال لك الجهميّ: الإرادة لا معنى لها إلا عدم الإكراه، أو نفس الفعل والأمر به، وزعم أن إثبات إرادة تقتضي محذورا إن قال بقدمها، ومحذورا إن قال بحدوثها.
وهنا اضطربت المعتزلة. فإنهم لا يقولون بإرادة قديمة لامتناع صفة قديمة عندهم. ولا يقولون بتجدد صفة له، لامتناع حلول الحوادث عن أكثرهم. مع تناقضهم.
فصاروا حزبين:
البغداديون- وهم أشد غلوّا في البدعة في الصفات وفي القدر، نفوا حقيقة الإرادة. وقال الجاحظ: لا معنى لها إلا عدم الإكراه. وقال الكعبيّ: لا معنى لها إلا نفس الفعل، إذا تعلقت بفعله، ونفس الأمر إذا تعلقت بطاعة عباده.
والبصريون- كأبي عليّ وأبي هاشم. قالوا: تحدث إرادة لا في محل، فلا إرادة. فالتزموا حدوث حادث غير مراد وقيام صفة بغير محل، وكلاهما عند العقل معلوم الفساد بالبديهة. كان جوابه: أن ما ادعى إحالته من ثبوت الصفات ليس بمحال، والنص قد دل عليها، والفعل أيضا. فإذا أخذ الخصم ينازع في دلالة النص أو العقل، جعله مسفسطا أو مقرمطا، وهذا بعينه موجود في الرحمة والمحبة، فإن خصومه ينازعونه في دلالة السمع والعقل عليها على الوجه القطعيّ.
ثم يقال لخصومه: بم أثبتم أنه عليم قدير؟ فما أثبتوه به من سمع وعقل فبعينه تثبت الإرادة، وما عارضوا به من الشبه عورضوا بمثله في العليم والقدير، وإذا انتهى الأمر إلى ثبوت المعاني، وأنها تستلزم الحدوث أو التركيب والافتقار، كان الجواب ما قررناه في غير هذا الموضع، فإن ذلك لا يستلزم حدوثا ولا تركيبا مقتضيا حاجة إلى غيره.
270
ويعارضون أيضا بما ينفي به أهل التعطيل الذات من الشبه الفاسدة، ويلزمون بوجود الرب الخالق المعلوم بالفطرة الخلقية، والضرورة العقلية، والقواطع العقلية، واتفاق الأمم، وغير ذلك من الدلائل. ثم يطالبون بوجود من جنس ما نعهده، أو بوجود يعلمون كيفيته، فلا بد أن يفروا إلى إثبات ما لا تشبه حقيقته الحقائق.
فالقول في سائر ما سمي ووصف به نفسه، كالقول في نفسه سبحانه وتعالى.
ونكتة هذا الكلام أن غالب من نفى وأثبت شيئا مما دل عليه الكتاب والسنة، لا بد أن يثبت الشيء لقيام المقتضى، وانتفاء المانع. وينفي الشيء لوجود المانع أو لعدم المقتضى، أو يتوقف إذا لم يكن عنده مقتض ولا مانع، فيبيّن له أن المقتضى فيما نفاه قائم، كما أنه فيما أثبته قائم. إما من كل وجه، أو من وجه يجب به الإثبات. فإن كان المقتضى هناك حقّا، فكذلك هنا. وإلا فدرء ذاك المقتضى من جنس درء هذا. وأما المانع فيبين أن المانع الذي تخيله فيما نفاه من جنس المانع الذي تخيله فيما أثبته، فإذا كان ذلك المانع المستحيل موجودا على التقديرين لم ينج من محذوره بإثبات أحدهما ونفي الآخر، فإنه إن كان حقّا نفاهما، وإن كان باطلا لم ينف واحدا منهما، فعليه أن يسوي بين الأمرين في الإثبات والنفي، ولا سبيل إلى النفي فتعين الإثبات. فهذه نكتة الإلزام لمن أثبت شيئا. وما من أحد إلا ولا بد أن يثبت شيئا أو يجب عليه إثباته، فهذا يعطيك من حيث الجملة أن اللوازم التي يدعي أنها موجبة النفي خيالات غير صحيحة، وإن لم يعرف فسادها على التفصيل، وأما من حيث التفصيل فيبين فساد المانع وقيام المقتضى كما قرر هذا غيره مرة.
فإن قال من أثبت هذه الصفات التي هي فينا أعراض كالحياة والعلم والقدرة، ولم يثبت ما هو فيها أبعاض كاليد والقدم: هذه أجزاء وأبعاض تستلزم التركيب والتجسيم. قيل له: وتلك أعراض تستلزم التجسيم والتركيب العقليّ كما استلزمت هذه عندك التركيب الحسيّ. فإن أثبت تلك على وجه لا تكون أعراضا أو تسميتها أعراضا لا يمنع ثبوتها، قيل له: وأثبت هذه على وجه لا تكون تركيبا وأبعاضا أو تسميتها تركيبا وأبعاضا لا يمنع ثبوتها.
فإن قال: هذه لا يعقل منها إلا الأجزاء، قيل له: وتلك لا يعقل منها إلا الأعراض.
فإن قال: العرض ما لا يبقى وصفات الرب باقية. قيل: والبعض ما جاز انفصاله
271
عن الجملة، وذلك في حق الله محال. فمفارقة الصفات القديمة مستحيلة في حق الله تعالى مطلقا، والمخلوق يجوز أن تفارقه أعراضه وأبعاضه.
فإن قال: ذلك تجسيم والتجسيم منتف، قيل: وهذا تجسيم والتجسيم منتف.
فإن قال: أنا أعقل صفة ليست عرضا بغير متحيز، وإن لم يكن له في الشاهد نظير، قيل له: فاعقل صفة هي لنا بعض لغير متحيز وإن لم يكن له في الشاهد نظير.
فإن نفى عقل هذا نفى عقل ذاك، وإن كان بينهما نوع فرق، لكنه فرق غير مؤثر في موضع النزاع. ولهذا كانت المعطلة الجهمية تنفي الجميع لكن ذاك أيضا مستلزم لنفي الذات، ومن أثبت هذه الصفات الخبرية من نظير هؤلاء، صرح بأنها صفة قائمة به كالعلم والقدرة، وهذا أيضا ليس هو معقول النص، ولا مدلول العقل، وإنما الضرورة ألجأتهم إلى هذه المضايق.
وأصل ذلك أنهم أتوا بألفاظ ليست في الكتاب ولا في السنة، وهي ألفاظ مجملة. مثل متحيز ومحدد وجسم ومركب، ونحو ذلك، ونفوا مدلولها، وجعلوا ذلك مقدمة بينهم مسلّمة، ومدلولا عليها بنوع قياس، وذلك القياس أوقعهم فيه مسلك سلكوه في إثبات حدوث العالم بحدوث الأعراض، أو إثبات إمكان الجسم بالتركيب من الأجزاء، فوجب طرد الدليل بالحدوث والإمكان لكل ما شمله هذا الدليل، إذ الدليل القطعيّ لا يقبل الترك لمعارض راجح، فرأوا ذلك يعكر عليهم من جهة النصوص ومن جهة العقل من ناحية أخرى فصاروا أحزابا، تارة يغلّبون القياس الأول ويدفعون ما عارضه وهم المعتزلة، وتارة يغلبون القياس الثاني ويدفعون الأول كهشام بن الحكم الرافضيّ، فإنه قد قيل: أول ما تكلّم في الجسم نفيا وإثباتا من زمن هشام بن الحكم وأبى الهذيل العلاف، فإن أبا الهذيل ونحوه من قدماء المعتزلة نفوا الجسم لما سلكوا من القياس وعارضهم هشام وأثبت الجسم لما سلكوه من القياس، واعتقد الأولون إحالة ثبوته، واعتقد هذا إحالة نفيه، وتارة يجمعون بين النصوص والقياس بجمع يظهر فيه الإحالة والتناقض.
فما أعلم أحدا من الخارجين عن الكتاب والسنة من جميع فرسان الكلام والفلسفة إلا ولا بد أن يتناقض فيحيل ما أوجب نظيره، ويوجب ما أحال نظيره، إذ كلامهم من عند غير الله، وقد قال الله تعالى: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء: ٨٢].
272
والصواب ما عليه أئمة الهدى، وهو أن يوصف الله بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، لا يتجاوز القرآن والحديث، ويتبع في ذلك سبل السلف الماضين، أهل العلم والإيمان. والمعاني المفهومة من الكتاب والسنة لا تردّ بالشبهات فتكون من باب تحريف الكلم عن مواضعه. ولا يعرض عنها، فيكون من باب الذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا. ولا يترك تدبر القرآن، فيكون من باب الذين لا يعلمون الكتاب إلا أمانيّ. فهذا أحد الوجهين. وهو منع أن تكون هذه من المتشابه. الوجه الثاني: أنه إذا قيل هذه من المتشابه، أو كان فيها ما هو من المتشابه، كما نقل عن بعض الأئمة أنه سمى بعض ما استدل به الجهمية متشابها، فيقال: الذي في القرآن أنه لا يعلم تأويله إلّا الله، إما المتشابه، وإما الكتاب كله كما تقدم. ونفي علم تأويله ليس نفي علم معناه كما قدمناه في القيامة وأمور القيامة.
وهذا الوجه قويّ إن ثبت حديث ابن إسحاق في وفد نجران، أنهم احتجّوا على النبيّ صلّى الله عليه وسلم
بقوله: «إنا ونحن»
ونحو ذلك، ويؤيده أيضا أنه قد ثبت أن في القرآن متشابها، وهو ما يحتمل معنيين، وفي مسائل الصفات ما هو من هذا الباب، كما أن ذلك في مسائل المعاد وأولى، فإن نفي المتشابه بين الله وبين خلقه أعظم من نفي المتشابه بين موعود الجنة وموجود الدنيا، وإنما نكتة الجواب هو ما قدمناه أولا أن نفي علم التأويل ليس نفيا لعلم المعنى، ونزيده تقريرا أن الله سبحانه يقول: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ [الزمر:
٢٧- ٢٨]، وقال تعالى: الر، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [يوسف: ١- ٢]، فأخبر أنه أنزله ليعقلوه، وأنه طلب تذكرهم. وقال أيضا: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر: ٢١]، فحض على تدبره وفقهه وعقله والتذكر به والتفكير فيه، ولم يستثن من ذلك شيئا. بل نصوص متعددة تصرح بالعموم فيه، مثل قوله: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [محمد: ٢٤]، وقوله: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء: ٨٢]، ومعلوم أن نفي الاختلاف عنه لا يكون إلا بتدبره كله، وإلا فتدبر بعضه لا يوجب الحكم بنفي مخالفة ما لم يتدبر لما تدبر.
وقال عليّ عليه السلام «١»
لما قيل له: هل ترك عندكم رسول الله صلّى الله عليه وسلم شيئا؟ فقال: لا! والذي
(١)
أخرجه البخاريّ في: الديات، ٢٤- باب العاقلة. ونصه: عن أبي جحيفة قال: سألت عليّا رضي الله عنه: هل عندكم شيء ما ليس في القرآن؟ (وقال مرة: ليس عند الناس) فقال: والذي فلق الحب وبرأ النسمة! ما عندنا إلا ما في القرآن، إلا فهما يعطى رجل في كتابه. وما في الصحيفة.
قلت: وما في الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر
.
273
فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه وما في هذه الصحيفة.
فأخبر أن الفهم فيه مختلف في الأمة، والفهم أخص من العلم والحكم، قال الله تعالى: فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ، وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً [الأنبياء: ٧٩].
وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم «١» : رب مبلّغ أوعى من سامع
وقال «٢» : بلغوا عني ولو آية.
وأيضا فالسلف من الصحابة والتابعين وسائر الأمة قد تكلموا في جميع نصوص القرآن، آيات الصفات وغيرها، وفسروها بما يوافق دلالتها. ورووا عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة توافق القرآن. وأئمة الصحابة في هذا أعظم من غيرهم. مثل عبد الله بن مسعود الذي كان يقول: لو أعلم أعلم بكتاب الله مني تبلغه آباط الإبل لأتيته. وعبد الله بن عباس الذي دعا له النبيّ صلّى الله عليه وسلم وهو حبر الأمة وترجمان القرآن، كانا هما وأصحابهما من أعظم الصحابة والتابعين إثباتا للصفات ورواية لها عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم. ومن له خبرة بالحديث والتفسير يعرف هذا، وما في التابعين أجل من أصحاب هذين السيدين، بل وثالثهما في علية التابعين من جنسهم أو قريب منهم جلالة، أصحاب زيد بن ثابت، لكن أصحابه مع جلالتهم ليسوا مختصين به، بل أخذوا عن غيره مثل عمر، وابن عمر، وابن عباس. ولو كان معاني هذه الآيات منفيا أو مسكوتا عنه، لم يكن ربانيّو الصحابة أهل العلم بالكتاب والسنة أكثر كلاما فيه. ثم إن الصحابة نقلوا عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنهم كانوا يتعلمون منه التفسير مع التلاوة، ولم يذكر أحد منهم عنه قط أنه امتنع من تفسير آية.
قال أبو عبد الرحمن السلميّ: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا: عثمان بن عفان
(١)
أخرجه البخاريّ في الحج، ١٣٢- باب الخطبة أيام منى. ونصه: عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: خطبنا النبيّ صلّى الله عليه وسلم يوم النحر. قال «أتدرون أي يوم هذا؟» قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. قال «أليس يوم النحر؟» قلنا: بلى. قال «أي شهر هذا؟» قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. فقال «أليس ذو الحجة؟» قلنا: بلى.
قال «أي بلد هذا؟» قلنا الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. قال «أليست بالبلدة الحرام؟» قلنا: بلى. قال: «فإن دماءكم وأموالكم عليّ حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم. ألا هل بلغت؟» قالوا: نعم. قال «اللهم! اشهد. فليبلغ الشاهد الغائب. فرب مبلّغ أوعى من سامع. فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض»
. (٢)
أخرجه البخاريّ في: الأنبياء، ٥٠- باب ما ذكر عن بني إسرائيل ونصه: عن عبد الله بن عمرو أن النبيّ ﷺ قال «بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعدة من النار».
274
وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبيّ ﷺ عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل. وكذلك الأئمة كانوا إذا سئلوا شيئا من ذلك لم ينفوا معناه، بل يثبتون المعنى وينفون الكيفية. كقول مالك بن أنس لما سئل عن قوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى كيف استوى؟ فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. وكذلك ربيعة قبله. وقد تلقى الناس هذا الكلام بالقبول. فليس في أهل السنة من ينكره. وقد بيّن أن الاستواء معلوم، كما أن سائر ما أخبر به معلوم، ولكن الكيفية لا تعلم، ولا يجوز السؤال عنها، لا يقال: كيف استوى؟ ولم يقل مالك: الكيف معدوم، وإنما قال: الكيف مجهول. وهذا فيه نزاع بين أصحابنا وغيرهم من أهل السنة، غير أن أكثرهم يقولون: لا تخطر كيفيته ببال، ولا تجري ماهيته في مقال. ومنهم من يقول: ليس له كيفية ولا ماهية. فإن قيل:
معنى قوله (الاستواء معلوم) أن ورود هذا اللفظ في القرآن معلوم كما قاله بعض أصحابنا الذين يجعلون معرفة معانيها من التأويل الذي استأثر الله بعلمه، قيل: هذا ضعيف، فإن هذا من باب تحصيل الحاصل، فإن السائل قد علم أن هذا موجود في القرآن، وقد تلا الآية، وأيضا فلم يقل ذكر الاستواء في القرآن، ولا إخبار الله بالاستواء، وإنما قال: الاستواء معلوم، فأخبر عن الاسم المفرد أنه معلوم، لم يخبر عن الجملة. وأيضا فإنه قال: والكيف مجهول، ولو أراد ذلك لقال معنى الاستواء مجهول، أو تفسير الاستواء مجهول، أو بيان الاستواء غير معلوم، فلم ينف إلا العلم بكيفية الاستواء، لا العلم بنفس الاستواء، وهذا شأن جميع ما وصف الله به نفسه.
لو قال في قوله: إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى [طه: ٤٦]، كيف يسمع وكيف يرى؟ لقلنا: السمع والرؤية معلوم، والكيف مجهول. ولو قال: كيف كلم موسى تكليما؟ لقلنا: التكليم معلوم والكيف غير معلوم. وأيضا فإن من قال هذا من أصحابنا وغيرهم من أهل السنة يقرون بأن الله فوق العرش حقيقة، وأن ذاته فوق ذات العرش، لا ينكرون معنى الاستواء، ولا يرون هذا من المتشابه الذي لا يعلم معناه بالكلية. ثم السلف متفقون على تفسيره بما هو مذهب أهل السنة. قال بعضهم:
ارتفع على العرش: علا على العرش. وقال بعضهم عبارات أخرى. وهذه ثابتة عن السلف. وقد ذكر البخاريّ في صحيحه بعضها في آخره، في (كتاب الرد على الجهمية).
وأما التأويلات المحرفة مثل استولى وغير ذلك، فهي من التأويلات المبتدعة
275
لما ظهرت الجهمية. وأيضا قد ثبت أن اتباع المتشابه ليس في خصوص الصفات، بل
في صحيح البخاري «١» أن النبي ﷺ قال لعائشة: يا عائشة! إذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذي سمى الله، فاحذريهم
، وهذا عامّ. وقصة صبيغ ابن عسل مع عمر بن الخطاب من أشهر القضايا، فإنه بلغه أنه يسأل عن متشابه القرآن، حتى رآه عمر، فسأل عمر عن: الذَّارِياتِ ذَرْواً [الذاريات: ١]، فقال:
ما اسمك؟ قال: عبد الله صبيغ، فقال: وأنا عبد الله عمر، وضربه الضرب الشديد.
وكان ابن عباس إذا ألحّ عليه رجل في مسألة من هذا الجنس يقول: ما أحوجك أن يصنع بك كما صنع عمر بصبيغ. وهذا لأنهم رأوا أن غرض السائل ابتغاء الفتنة لا الاسترشاد والاستفهام، كما
قال النبيّ عليه الصلاة والسلام: إذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه.
وكما قال تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ فعاقبوهم على هذا القصد الفاسد، كالذي يعارض بين آيات القرآن. وقد نهى النبيّ ﷺ عن ذلك
وقال «٢» : لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض فإن ذلك يوقع الشك في قلوبهم ومع ابتغاء الفتنة ابتغاء تأويله الذي لا يعلمه إلا الله
، فكان مقصودهم مذموما، ومطلوبهم متعذرا، مثل أغلوطات المسائل التي نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عنها «٣». ومما يبين الفرق بين المعنى والتأويل أن صبيغا سأل عمر عن الذاريات وليست من الصفات. وقد تكلم الصحابة في تفسيرها مثل عليّ بن أبي طالب مع ابن الكواء لما سأله عنها، كره سؤاله، لما رآه من قصده. لكن عليّ كان رعيته ملتوية عليه، لم يكن مطاعا فيهم طاعة عمر حتى يؤدبه. والذاريات والحاملات والجاريات
(١)
أخرجه البخاريّ في: التفسير، ٣- سورة آل عمران، ١- باب مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ، ونصه:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلم هذه الآية: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ- إلى قوله: أُولُوا الْأَلْبابِ. قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذي سمى الله فاحذروهم»
. (٢)
أخرجه ابن ماجة في: المقدمة، ١٠- باب في القدر، حديث ٨٥ ونصه: عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم على أصحابه وهم يختصمون في القدر، فكأنما يفقأ في وجهه حب الرمان، من الغضب. فقال «بهذا أمرتم أو لهذا خلقتم؟ تضربون القرآن بعضه ببعض، بهذا هلكت الأمم قبلكم»
. قال فقال عبد الله بن عمرو: ما غبطت نفسي بمجلس تخلفت فيه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما غبطت نفسي بذلك المجلس وتخلفي عنه. قال في الزوائد:
هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات.
(٣)
أخرجه الإمام أحمد في مسنده بالصفحة ٤٣٥ من ج ٥ ونصه: عن رجل من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الغلوطات.
قال الأوزاعيّ: الغلوطات شداد المسائل وصعابها.
276
والمقسمات فيها اشتباه، لأن اللفظ يحتمل الرياح والسحاب والنجوم والملائكة ويحتمل غير ذلك، إذ ليس في اللفظ ذكر الموصوف. والتأويل الذي لا يعلمه إلا الله هو أعيان الرياح ومقاديرها وصفاتها وأعيان السحاب وما تحمله من الأمطار ومتى ينزل المطر. وكذلك في الجاريات والمقسمات، فهذا لا يعلمه إلا الله تعالى.
وكذلك في قوله: (أنا ونحن) ونحوهما من أسماء الله التي فيها معنى الجمع كما اتبعته النصارى، فإن معناه معلوم وهو الله سبحانه، لكن اسم الجمع يدل على تعدد المعاني بمنزلة الأسماء المتعددة، مثل العليم والقدير والسميع والبصير، فإن المسمى واحد، ومعاني الأسماء متعددة، فهكذا الاسم الذي لفظه الجمع. وأما التأويل الذي اختص الله به. فحقيقة ذاته وصفاته، كما قال مالك: والكيف مجهول فإذا قالوا: ما حقيقة علمه وقدرته وسمعه وبصره؟ قيل: هذا هو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله. وما أحسن ما يعاد التأويل إلى القرآن كله. فإن قيل:
فقد قال النبيّ صلّى الله عليه وسلم لابن عباس «١» : اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل.
قيل: أما تأويل الأمر والنهي فذاك يعلمه، واللام هنا للتأويل المعهود، لم يقل تأويل كل القرآن. فالتأويل المنفي هو تأويل الأخبار التي لا يعلم حقيقة مخبرها إلا الله، والتأويل المعلوم هو الأمر الذي يعلم العباد تأويله. وهذا كقوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ [الأعراف: ٥٣]، وقوله: بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ [يونس: ٣٩]، فإن المراد تأويل الخبر الذي فيه عن المستقبل، فإنه هو الذي ينتظر ويأتي، ولما يأتهم. وأما تأويل الأمر والنهي فذاك في الأمر، وتأويل الخبر عن الله وعمن مضى إن أدخل في التأويل لا ينتظر، والله سبحانه أعلم وبه التوفيق.
انتهى كلام الشيخ تقي الدين. وإنما سقته بطوله لما أن هذا البحث من المعارك المهمة التي قل من حررها ونهج فيها منهج الحق كالشيخ قدس سرّه. مع ما في خلال البحث من القواعد الجليلة في فن التفسير. فخذ ما أوتيت وكن من الشاكرين. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
وقال الإمام الجليل أبو عبد الله محمد بن المرتضى اليمانيّ في كتاب «إيثار الحق على الخلق» في بحث سبب الاختلاف الشديد بين الفرق ما نصه:
وأما الأصل الثاني وهو السمعيّ فهو اختلافهم في أمرين:
(١)
أخرجه ابن ماجة في: المقدمة، ١١- باب فضائل أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، حديث ١٦٦، ونصه:
عن ابن عباس قال: ضمني رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وقال «اللهم علمه الحكمة وتأويل الكتاب»
.
277
أحدهما- في معرفة المحكم والمتشابه أنفسهما والتمييز بينهما حتى يردّ المتشابه إلى المحكم، وثانيهما- اختلافهم هل يعلمون تأويل المتشابه، ثم اختلافهم في تأويله على تسليم أنهم قد عرفوا المتشابه.
ولنذكر سبب وقوع المتشابه على العقول من حيث الحكمة والدقة في كتب الله تعالى أولا، والمشهور أن سببه الابتلاء بالزيادة في مشقة التكليف لتعظيم الثواب، وهذا أنسب بالمتشابه من حيث اللفظ. وأما أنا فوقع لي أن سببه زيادة «علم الله» على علم الخلق، فإن العوائد التجربية، والأدلة السمعية، دلت على امتناع الاتفاق في تفاصيل الحكم، وتفاصيل التحسين والتقبيح، ولذلك وقع الاختلاف بين أهل العصمة من الملائكة والأنبياء، كما قال تعالى حاكيا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وآله:
ما كانَ لِي (مِنْ عِلْمٍ) بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ [ص: ٦٩]، وحكى الله تعالى اختلاف سليمان وداود، وموسى وهارون، وموسى والخضر. وصح في الحديث «١» اختلاف موسى وآدم، واختلاف الملائكة في حكم قاتل المائة نفس «٢»، إلى أمثال لذلك قد أفردتها لبيان امتناع الاتفاق في نحو ذلك، وإن علة الاختلاف التفاصيل في العلم، فوجب من ذلك أن يكون في أحكام الله تعالى وحكمه ما تستقبحه عقول البشر، لأن الله تعالى لو ماثلنا في جميع الأحكام والحكم دل على مماثلته لنا في العلم المتعلق بذلك وفي مؤداه ولطائفة وأصوله وفروعه ولذلك تجد الأمثال والنظراء في العلوم أقل اختلافا، خصوصا من المقلدين. وإنما عظم الاختلاف بين الخضر وموسى لما خص به الخضر عليهما السلام. وهذه فائدة نفيسة جدا، وبها
(١)
أخرجه البخاريّ في: الأنبياء، ٣١- باب وفاة موسى وذكره بعد، حديث ١٦٠٤ ونصه: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «احتج آدم وموسى. فقال له موسى: أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك من الجنة؟ فقال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه ثم تلومني على أمر قدّر عليّ قبل أن أخلق؟» فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «فحج آدم موسى» مرتين.
(٢)
أخرجه البخاريّ في: الأنبياء، ٥٤- باب حدثنا أبو اليمان، حديث ١٦٢٩ ونصه: عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال «كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنسانا. ثم خرج يسأل: فأتى راهبا فسأله. فقال له: هل من توبة؟ قال: لا. فقتله. فجعل يسأل. فقال له رجل:
ائت قرية كذا وكذا. فأدركه الموت. فناء بصدره نحوها. فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب. فأوحى الله إلى هذه: أن تقرّبي. وأوحى الله إلى هذه: أن تباعدي. وقال: قيسوا ما بينهما. فوجد إلى هذه أقرب بشبر. فغفر له
. [.....]
278
يكون ورود المتشابه أدل على الله تعالى وعلى صدق أنبيائه، لأن الكذابين إنما يأتون بما يوافق الطباع، كما هو دين القرامطة والزنادقة. وقد أشار السمع إلى ذلك بقوله تعالى: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ [المؤمنون: ٧١]. وقال في رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ [الحجرات: ٧]. وكيف يستنكر اختلاف الإنسان الظلوم الجهول وعلام الغيوب الذي جمع معارف العارفين في علمه مثل ما أخذه العصفور في منقاره من البحر الأعظم؟ بل كيف لا يختص هذا الرب الأعظم بمعرفة ما لا نعرفه من الحكم اللطيفة التي يستلزم تفرده بمعرفتها أن يتفرد بمعرفة حسن ما تعلقت به وتأويله، وبهذا ينشرح صدر العارف للإيمان بالمتشابه، والإيمان بالغيب في تأويله. ولنذكر بعد هذا كل واحد من الأمرين المقدم ذكرهما على الإيجاز.
أما الأمر الأول- وهو اختلافهم في ماهيتهما. فمنهم من قال: المحكم ما لا يحتمل إلا معنى واحدا، والمتشابه ما احتمل أكثر من معنى. فهؤلاء رجعوا بالمحكم إلى النص الجليّ، وما عداه متشابه. وعزاه الإمام يحيى إلى أكثر المتكلمين وطوائف من الحشوية. ومنهم من قال: المحكم ما كان إلى معرفته سبيل، والمتشابه ما لا سبيل إلى معرفته بحال، نحو قيام الساعة والحكمة في العدد المخصوص في حملة العرش، وخزنة النار. ومنهم من قصر المتشابه على آيات مخصوصة. ثم اختلفوا، فمنهم من قال: هي الحروف المقطعة في أوائل السور، ومنهم من قال آيات الشقاوة والسعادة، ومنهم من قال: المنسوخ، ومنهم من قال: القصص والأمثال، ومنهم من عكس فقال: المحكم آيات مخصوصة، وهي آيات الحلال والحرام وما عداها متشابه، إلى غير ذلك- حكى الجميع الإمام يحيى في (الحاوي) - واختار أن المحكم ما علم المراد بظاهره بدليل عقليّ أو نقليّ، والمتشابه به ما لم يعلم المراد منه لا على قرب ولا على بعد مثل قيام الساعة والأعداد المبهمة. وقد ترك الإمام والشيخ ابن تيمية وجها آخر من المتشابه الذي يحتاج إلى التأويل مما لا يعلمه إلا الله على الصحيح، وذلك وجه الحكم المعينة فيما لا تعرف العقول وجه حسنه، مثل خلق أهل النار، وترجيح عذابهم على العفو مع سبق العلم وسعة الرحمة وكمال القدرة على كل شيء، والدليل على أن الحكمة الخفية فيه تسمى تأويلا له، ما ذكره الله تعالى في قصة موسى والخضر، فإن قوله: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً [الكهف: ٧٦]، صريح في ذلك، وهذا مراد في الآية، لأن الله وصف الذين في قلوبهم زيغ بابتغائهم تأويله وذمهم بذلك، وهم لا يبتغون علم
279
العاقبة، عاقبة الخبر عن الوعد والوعيد، وما يؤول إليه، على ما فسّره الشيخ، فهم لا يبتغون الجنة والنار والقيامة وذات الرب سبحانه كما يبغيها طالب العيان، إنما يستقبحون شيئا من الظواهر بعقولهم فيتكلفون لها معاني كثيرة يختلفون فيها، وكل منهم يتفرد بمعنى من غير حجة صحيحة إلا مجرد الاحتمال، وربما خالف ذلك التأويل المعلوم من الشرع فتأولوه، وربما استلزم الوقوع في أعظم مما فروا منه، والذي وضح لي في هذا وضوحا لا ريب فيه بحسن توفيق الله أمور:
أحدها- أن الكلام في ذات الله تعالى على جهة التصور والتفصيل أو على جهة الإحاطة على حد علم الله، كلاهما باطل، بل من المتشابه الممنوع الذي لا يعلمه إلا الله تعالى لقوله تعالى: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً [طه: ١١٠]، ولقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: ١١]، وإنما تتصوّر المخلوقات وما هو نحوها. ولما روي من النهي عن التفكير في ذات الله، والأمر في التفكير في آلاء الله، ولما اشتهر عن أمير المؤمنين عليه السلام أن ذلك مذهبه، حتى رواه عنه الخصوم.
ومن أشهر ما حفظ عنه عليه السلام في ذلك قوله في امتناع معرفة الله عزّ وجلّ على العقول: امتنع منها بها، وإليها حاكمها. ومن التفكير في الله والتحكم فيه والدعوى الباطلة على العقول والتكلف لتعريفها ما لا تعرفه، حدثت هنا البدع المتعلقة بذات الله وصفاته وأسمائه. ومن البدع في هذا الموضع بدع المشبهة على اختلاف أنواعهم، وبدع المعطلة على اختلافهم أيضا، فغلاتهم يعطلون الذات والصفات والأسماء. الجميع، ومنهم الباطنية، ودونهم الجهمية. ومن الناس من يوافقهم في بعض ذلك دون بعض. فالفريقان المشبهة والمعطلة إنما أتوا من تعاطي علم ما لا يعلمون. ولو أنهم سلكوا مسالك السلف في الإيمان بما ورد من غير تشبيه لسلموا.
فقد أجمعوا على أن طريقة السلف أسلم، ولكنهم ادعوا أن طريقة الخلف أعلم، فطلبوا العلم من غير مظانه، بل طلبوا علم ما لا يعلم، فتعارضت أنظارهم العقلية، وعارض بعضهم بعضا في الأدلة السمعية. فالمشبهة ينسبون خصومهم إلى رد آيات الصفات ويدعون فيها ما ليس من التشبيه. والمعطلة ينسبون خصومهم وسائر أئمة الإسلام جميعا إلى التشبيه، ويدعون في تفسيره ما لا تقوم عليه حجة. والكل حرموا طريق الجمع بين الآيات والآثار، والاقتداء بالسلف الأخيار، والاقتصار على جليات الأبصار، وصحاح الآثار، وقد روى الإمام أبو طالب عليه السلام في أماليه بإسناده من حديث زيد بن أسلم أن رجلا سأل أمير المؤمنين عليه السلام في مسجد الكوفة فقال: يا أمير المؤمنين! هل تصف لنا ربنا فنزداد له حبا؟ فغضب عليه السلام ونادى
280
(الصلاة جامعة) فحمد الله وأثنى عليه إلى قوله: فكيف يوصف الذي عجزت الملائكة مع قربهم من كرسيّ كرامته، وطول ولههم إليه، وتعظيم جلال عزته، وقربهم من غيب ملكوت قدرته أن يعلموا من علمه إلا ما علمهم وهم من ملكوت القدس كلهم ومن معرفته على ما فطرهم عليه فقالوا: سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [البقرة: ٣٢]. فعليك أيها السائل بما دل عليه القرآن من صفته، وتقدّمك فيه الرسل بينك وبين معرفته فأتم به واستضئ بنور هدايته، فإنما هي نعمة وحكمة أوتيتها. فخذ ما أوتيت وكن من الشاكرين، وما كلفك الشيطان علمه مما ليس عليك في الكتاب فرضه، ولا في سنة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم، ولا عن أئمة الهدى أثره فكل علمه إلى الله سبحانه، فإنه منتهى حق الله عليك.
وقد روى السيّد في الأمالي أيضا الحديث المشهور في كتاب الترمذيّ عن عليّ عليه السلام عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال «١» : ستكون فتنة! قلت: فما المخرج منها؟ قال: كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وفصل ما بينكم، فهو الفاصل بين الحق والباطل، من ابتغى الهدى من غيره أضله الله إلى قوله: من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم. ورواه في أماليه بسند آخر عن معاذ بن جبل رضي الله عنه.
ورواه ابن الأثير في (الجامع) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فهو مع شهرته في شرط أهل الحديث متلقى بالقبول عند علماء الأصول، ولكن المبتدعة يرون تصانيفهم أهدى منه، لبيانهم فيها، على زعمهم، المحكم من المتشابه.
(١)
أخرجه الترمذيّ في: ثواب القرآن، ١٤- باب ما جاء في فضل القرآن، ونصه: عن الحارث قال: مررت في المسجد فإذا الناس يخوضون في الأحاديث. فدخلت على عليّ فقلت: يا أمير المؤمنين! ألا ترى أن الناس قد خاضوا في الأحاديث؟ قال: وقد فعلوها؟ قلت: نعم. قال: أما إني قد سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول «ألا إنها تكون فتنة» قلت: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال «كتاب الله، فيه نبأ ما كان قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم. هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبّار قصمه الله. ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله. وهو حبل الله المتين، هو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم. هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه. هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ. من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم». خذها إليك يا أعور!
(قال أبو عيسى) هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإسناده مجهول، وفي الحارث مقال.
281
فمنهم من صرح بذلك وقال: إن كلامه أنفع من كلام الله تعالى، وكتبه أهدى من كتب الله، وهم الحسينية أصحاب الحسين بن القاسم العنانيّ. وقد حمله الإمام المطهر بن يحيى على الجنون، وقيل: لم يصح عنه. ومنهم من يلزمه ذلك وإن لم يصرح به. فهذا الأمر الأول من المتشابه وهو التحكم بالنظر في ذات الله تعالى. وما يؤدي إليه.
الأمر الثاني- من المتشابه الواضح تشابهه والمنع منه، هو النظر في سر القدر السابق في الشرور مع عظيم رحمة الله تعالى وقدرته على ما يشاء. وقد ثبت في كتاب الله تعالى تحير الملائكة الكرام عليهم السلام في ذلك وسؤالهم عنه بقولهم:
أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ، قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ [البقرة: ٣٠]، ثم ساق خبر آدم وتعليمه الأسماء وتفضيله في ذلك عليهم إلى قوله: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ [البقرة: ٣٣]، وفي ذلك إشارة واضحة إلى ما سيأتي بيانه من أن مراد الله بالخلق هم أهل الخير، فالخلق كلهم كالشجرة، وأهل الخير ثمرة تلك الشجرة، وإليه الإشارة بقوله: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: ٥٦]، وفي حديث الخليل عليه السلام حين دعا على العصاة، قال الله:
كفّ عن عبادي. إن مصير عبدي مني إحدى ثلاث: إما أن يتوب فأتوب عليه، أو يستغفرني فأغفر له، أو أخرج من صلبه من يعبدني- رواه الطبرانيّ-.
وقال الإمام الغزاليّ في كتاب العلم في (الإحياء) في أقسام العلوم الباطنة: ولا يبعد أن يكون ذكر بعض الحقائق مضرّا ببعض الخلق، كما يضر نور الشمس أبصار الخفافيش وكما يضر ريح الورد بالجعل. وكيف يبعد هذا، وقولنا: إن كل شيء بقضاء من الله وقدر- حق في نفسه، وقد أضر سماعه بقوم حيث أوهم ذلك عندهم دلالة على السفه، ونقيض الحكمة، والرضا بالقبيح والظلم. وألحد ابن الراونديّ وطائفة من المخذولين بمثل ذلك. وكذلك سر القدر لو أفشي أوهم عند أكثر الخلق عجزا، إذ تقصر أفهامهم عن إدراك ما يزيل هذا الوهم عنهم.
وقال في شرح (أسماء الله الحسنى) في شرح الرحمن الرحيم: والآن إن خطر لك نوع من الشر لا ترى فيه خيرا، أو إن تحصيل ذلك الخير من غير شر أولى، فاتهم عقلك القاصر في كلا الطرفين، فإنك مثل أم الصبيّ التي ترى الحجامة شرّا محضا، والغبيّ الذي يرى القصاص شرّا محضا، لأنه ينظر إلى خصوص شخص المقتول، وأنه في حقه شر محض، ويذهل عن الخير العام الحاصل للناس كافة، ولا يدري أن
282
التوصل بالشر الخاص إلى الخير العام خير محض، لا ينبغي لحكيم أن يهمله. هذا أو قريب من هذا. وفي بعض كلامه نظر قد أوضحته في (العواصم) والسر في ذلك أن الله تعالى لا يريد الشر لكونه شرا قطعا، وإنما يريده وسيلة إلى الخير الراجح كما قال: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: ١٧٩]، وكما صح في الحدود والمصائب أنها كفارات، فهذا هو سر القدر في الجملة، وإنما الذي خفي تفصيله ومعرفته في عذاب الآخرة وشقاوة الأشقياء، فمن الناس من كبر ذلك عليه وأداه إلى الحكم بنفي التحسين والتقبيح، فصرحوا بنفي حكمة الله تعالى، وهم غلاة الأشعرية، إلا بمعنى إحكام المصنوعات في تصويرها لا سواه، ومن الناس من أداه ذلك إلى القول بالجبر، ونفي قدرة العباد واختيارهم، ومنهم من جمع بينهما. ومن الناس من جعل الوجه في تحسين ذلك من الله عدم قدرته سبحانه على هدايتهم، وهم جمهور المعتزلة، لكنهم يعتذرون عن تسميته عجزا، ويسمونه غير مقدور. ومنهم من جعل العذر في ذلك أن الله لا يعلم الغيب، وهم غلاة القدرية، نفاة الأقدار. وقد تقصيت الردود الواضحة عليهم، والبراهين الفاضحة لهم في (العواصم)، وجمعت في ذلك ما لم أسبق إليه ولا إلى قريب منه، في علمي. فتمت هذه المسألة في مجلد ضخم، وبلغت أحاديث وجوب الإيمان بالقدر اثنين وسبعين، وأحاديث صحته مائة وخمسة وخمسين، الجملة مائتان وسبعة وعشرون حديثا، من غير الآيات القرآنية، والأدلة البرهانية. وصنف ابن تيمية في بيان الحكمة في العذاب الأخرويّ، وتبعه تلميذه ابن قيّم الجوزية، وبسط ذلك في كتابه (حادي الأرواح إلى ديار الأفراح)، فأفردت ذلك في جزء لطيف وزادت عليه. ومضمون كلامهم أنه لا يجوز اعتقاد أن الله لا يريد الشر لكونه شرا، بل لا بد من خير راجح يكون ذلك الشر وسيلة إليه، وذلك الخير هو تأويل ذلك الشر السابق له على نحو تأويل الخضر لموسى. وطردوا ذلك في شرور الدارين معا. ونصر ذلك الغزاليّ في شرح (الرحمن الرحيم)، ولنورد في ذلك حديثا واحدا، مما يدل على المنع من الخوض في تعيين الحكمة في ذلك فنقول: قال البيهقيّ في كتابه (الأسماء والصفات) عن عمرو بن ميمون، عن ابن عباس: لما بعث الله موسى وكلمه قال:
اللهم! أنت رب عظيم، ولو شئت أن تطاع لأطعت، ولو شئت أن لا تعصى لما عصيت، وأنت تحب أن تطاع، وأنت في ذلك تعصى، فكيف هذا يا رب؟ فأوحى الله إليه أني لا أسأل عما أفعل، وهم يسألون. فانتهى موسى.
ورواه الهيثميّ في مجمع الزوائد، وعزاه إلى الطبرانيّ، وزاد فيه: فلما بعث الله
283
عزيرا سأل الله مثل ما سأل موسى، ثلاث مرات، فقال الله تعالى له: أتستطيع أن تصرّ صرّة من الشّمس؟ قال: لا. قال: أفتسطيع أن تجيء بمكيال من الريح؟ قال: لا.
قال: أفتسطيع أن تجيء بمثقال أو بقيراط من نور؟ قال: لا. قال: فهكذا لا تقدر على الذي سألت عنه. أما أني لا أجعل عقوبتك إلا أني أمحو اسمك من الأنبياء، فلا تذكر فيهم. فلما بعث الله عيسى ورأى منزلته سأل عن ذلك، كموسى. وأجيب عليه بمثل ذلك، وقال الله تعالى: لئن لم تنته لأفعلن بك كما فعلت بصاحبك بين يديك، فجمع عيسى من معه فقال: القدر سر الله تعالى فلا تكلفوه.
وروى الطبرانيّ عن وهب عن ابن عباس أنه سئل عن القدر؟ فقال: وجدت أطول الناس فيه حديثا أجهلهم به. وأضعفهم فيه حديثا أعلمهم به، ووجدت الناظر فيه كالناظر في شعاع الشمس، كلما ازداد فيه نظرا ازداد تحيرا. قلت: ويشهد لهذه الآيات ما جاء في كتاب الله من قول الملائكة: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [البقرة: ٣٠]. والجواب الجمليّ عليهم كما مر. وأما أحاديث النهي عن الخوض في القدر فعشرة أحاديث، رجال بعضها ثقات، وبعضها شواهد لبعض، كما أوضحته في (العواصم) وأقلّ من هذا مع شهادة القرآن والبرهان لذلك، يكفي المنصف. وما حدث بسبب الخوض من الضلالات زيادة عبرة وحيرة.
الأمر الثالث- من المتشابه: الحروف المقطعة أوائل السور، فإن الجهل بالمراد بها معلوم، كالألم والصحة. والفرق بينها وبين أقيموا الصلاة، ونحو ذلك ضروريّ.
ودعوى التمكن من معرفة معانيها تستلزم جواز أن ينزل الله سورة كلها كذلك أو كتابا من كتبه الكريمة، ويستلزم جواز أن يتخاطب العقلاء بمثل ذلك، ويلوموا من طلب منهم بيان مقاصدهم، ونحو ذلك. وهذا هو اختيار زيد بن عليّ عليه السلام، والقاسم والهادي عليهما السلام، وهو نص في تفسيرهما المجموع. وكذلك الإمام يحيى عليه السلام، ذكره في (الحاوي) وقولهم: إنا مخاطبون بها فيجب أن نفهمها- مقلوب. وصوابه: أن لا نفهمها فيجب أن لا نكون مخاطبين بفهمها. وقد ذكرت في الحجة على أنها غير معلومة أكثر من عشرين حجة في تكميلة ترجيح أساليب القرآن.
الأمر الرابع- من المتشابه: المجمل الذي لا يظهر معناه بعلم ولا ظن، سواء كان بسبب الاشتراك في معناه، أو لغرابته، أو عدم صحة تفسيره في اللغة والشرع، أو غير ذلك. فقد وقع الوهم في المجمل لنوح عليه السلام، كيف لغيره؟ وذلك قوله:
284
إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ [هود: ٤٥- ٤٦].
وأما المحكم فهو ما عدا المتشابه، وغالبه النص الجليّ، والظاهر الذي لم يعارض والمفهوم الصحيح الذي لم يعارض، والخاص والمقيد وإن عارضهما العام والمطلق. ويلحق بهذا فوائد:
الأولى- الصحيح في قوله تعالى وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ الوقف على الله، بدليل ذم مبتغي تأويل المتشابه في الآية. وهو اختيار الإمام يحيى في (الحاوي) واحتجّ بأن «أمّا» للتفصيل على بابها، والتقدير و «أما الراسخون» بدليل قوله تعالى فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ كما تقول: أما زيد فعالم وعمرو جاهل، أي وأما عمرو فجاهل، يوضحه أن المخالف مسلّم أن هذا هو الظاهر منها، لكنه يقول: إنه يجب تأويلها على أن المراد ذمهم بابتغاء تأويله الباطل، فيقيد إطلاق الآية بغير حجة، ويجعلها من المتشابه، مع أنها الفارقة بين المحكم والمتشابه، وهذا خلف.
وقد روى الحاكم عن ابن عباس أنه قرأ «ويقول الراسخون» وقال: صحيح.
ورواه الزمخشريّ في كشافه قراءة عن أبيّ وغيره، ورواه الإمام أبو طالب في أماليه عن عليّ عليه السلام. ولم يتأوله ولم يطعن فيه، وهو في (النهج) أيضا، وهو نص لا يمكن تأويله، فإن لفظه عليه السلام: اعلم أيها السائل أن الراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن الاقتحام على السدد المضروبة دون الغيوب، الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب، فمدح الله اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علما، وسمى تركهم التعمق، فيما لم يكلفهم البحث عنه، رسوخا.
فاقتصر على ذلك. انتهى بحروفه.
وأيضا فلا يجب علم جميع المكلفين بذلك عند الخصوم، إذ في المتكلفين الأميّ والعجميّ ونحوهم. وإذا كان علم البعض يكفي ويخرج الخطاب بذلك عن العبث، جاز أن يكون ذلك البعض هو رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، ومن شاء الله من ملائكته وخواص عباده. والله سبحانه أعلم.
الفائدة الثانية- إذا تعارض العام والخاص، فالمحكم هو الخاص والبناء عليه واجب، وفيه الجمع بينهما، وفي العكس طرح الخاص مع رجحانه بالنصوصية. وهي قاعدة كبيرة فاحفظها. ولا خلاف فيها في الاعتقاد، لعدم القاعدة في التاريخ فيه، ولذلك أجمعوا على إثبات الخلة للمتقين، وتأويل نفي الخلة المطلق، فتأمل ذلك.
285
الفائدة الثالثة- إذا كان التحسين العقليّ مع بعض السمع فهو المحكم، والمتشابه مخالفه، لما وضح من تأويل الخضر بموافقة العقل، وفي مخالفة هذه القاعدة عناد بيّن وضلال كبير، فاعرفها واعتبر مواضعها ترشد. إن شاء الله تعالى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٨]
رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨)
رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا من مقال الراسخين، أي لا تمل قلوبنا عن الهدى بعد إذ أقمتها عليه، ولا تجعلها كالذين في قلوبهم زيغ، الذين يتبعون ما تشابه من القرآن، ولكن ثبتنا على صراطك المستقيم وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً تثبت بها قلوبنا إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ كثير النعم والإفضال، جزيل العطايا والنوال.
وفيه دلالة على أن الهدى والضلال من قبله تعالى.
وعن عائشة رضي الله عنها «١» قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم كثيرا ما يدعو: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، قلت: يا رسول الله! ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء! فقال: ليس من قلب إلّا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن، إذا شاء أن يقيمه أقامه، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه- وهو في الصحيح والسنن.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٩]
رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩)
رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ وهذا من تتمة كلام الراسخين في العلم، وذلك لأنهم لما طلبوا من الله تعالى أن يصونهم عن الزيغ، وأن يخصهم بالهداية والرحمة، فكأنهم قالوا: ليس الغرض من هذا السؤال ما يتعلق بمصالح الدنيا، فإنها منقضية منقرضة. وإنما الغرض الأعظم منه، ما يتعلق بالأخرة،
(١)
أخرجه الترمذيّ في: الدعوات، ٨٩- باب حدثنا أبو موسى الأنصاريّ ونصه: عن شهر بن حوشب قال: قلت لأم سلمة، أم المؤمنين: ما كان أكثر دعاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا كان عندك؟ قالت: كان أكثر دعائه «يا مقلب القلوب ثبت قلبي علي دينك» قالت: قلت يا رسول الله! ما أكثر دعاءك: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك! قال «يا أم سلمة! ليس آدميّ إلا وقلبه بين إصبعين من أصابع الله. فمن شاء أقام ومن شاء أزاغ» فتلا معاذ (أحد رجال السند) : رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا
.
286
فإنها القصد والمآل. فإنا نعلم أنك يا إلهنا جامع الناس للجزاء في يوم القيامة، ونعلم أن وعدك لا يكون خلفا، فمن زاغ قلبه بقي هناك في العذاب أبدا، ومن منحته الرحمة والهداية بقي هناك في السعادة والكرامة أبدا. فالغرض الأعظم من ذلك الدعاء، ما يتعلق بالآخرة- أفاده الرازيّ- ثم قال: احتجّ الجبائي بهذه الآية على القطع بوعيد الفساق، قال: وذلك لأن الوعيد داخل تحت لفظ الوعد بدليل قوله تعالى: أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا [الأعراف: ٤٤]. والوعد والموعد والميعاد واحد. وقد أخبر في هذه الآية أنه لا يخلف الميعاد. فكان هذا دليلا على أنه لا يخلف في الوعيد. والجواب: لا نسلّم أنه تعالى يوعد الفساق مطلقا، بل ذلك الوعيد عندنا مشروط بشرط عدم العفو، كما أنه بالاتفاق مشروط بشرط عدم التوبة، فكما أنكم أثبتم ذلك الشرط بدليل منفصل، فكذا نحن أثبتنا شرط عدم العفو بدليل منفصل، سلمنا أنه يوعدهم، ولكن لا نسلم أن الوعيد داخل تحت لفظ الوعد. أما قوله تعالى: فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا، قلنا: لم لا يجوز أن يكون ذلك، كما في قوله: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آل عمران: ٢١]. وقوله: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان: ٤٩]. وأيضا لم لا يجوز أن يكون المراد منه أنهم كانوا يتوقعون من أوثانهم أنها تشفع لهم عند الله، فكان المراد من الوعد تلك المنافع.
وذكر الواحديّ في (البسيط) طريقة أخرى فقال: لم لا يجوز أن يحمل هذا على ميعاد الأولياء، دون وعيد الأعداء، لأن خلف الوعيد كرم عند العرب. قال:
والدليل عليه أنهم يمدحون بذلك، قال الشاعر:
إذا وعد السرّاء أنجز وعده وإن أوعد الضراء فالعفو مانعه
وروى المناظرة التي دارت بين أبي عمرو بن العلاء، وبين عمرو بن عبيد. قال أبو عمرو بن العلاء لعمرو بن عبيد: ما تقول في أصحاب الكبائر؟ قال: أقول إن الله وعد وعدا وأوعد إيعادا، فهو منجز إيعاده كما هو منجز وعده، فقال أبو عمرو بن العلاء: إنك رجل أعجم، لا أقول أعجم اللسان، ولكن أعجم القلب. إن العرب تعدّ الرجوع عن الوعد لؤما، وعن الإيعاد كرما، وأنشد:
وإني وإن أوعدته أو وعدته لمكذب إيعادي ومنجز موعدي
واعلم أن المعتزلة حكوا أن أبا عمرو بن العلاء لما قال هذا الكلام، قال له عمرو بن عبيد: يا أبا عمرو؟ فهل يسمى الله مكذب نفسه؟ فقال: لا، فقال عمرو
287
ابن عبيد فقد سقطت حجتك، قالوا: فانقطع عمرو بن العلاء.
وعندي أنه كان لأبي عمرو بن العلاء أن يجيب عن هذا السؤال فيقول: إنك قست الوعيد على الوعد، وأنا إنما ذكرت هذا لبيان الفرق بين البابين، وذلك لأن الوعد حق عليه، والوعيد حق له، ومن أسقط حق نفسه فقد أتى بالجود والكرم، ومن أسقط حق غيره فذلك هو اللؤم، فظهر الفرق بين الوعد والوعيد، وبطل قياسك.
وإنما ذكرت هذا الشعر لإيضاح هذا الفرق. فأما قولك: لو لم يفعل لصار كاذبا ومكذبا نفسه، فجوابه أن هذا إنما يلزم لو كان الوعيد ثابتا جزما من غير شرط، وعندي جميع الوعيدات مشروطة بعدم العفو، فلا يلزم من تركه دخول الكذب في كلام الله تعالى. فهذا ما يتعلق بهذه الحكاية. والله أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٠]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ التي يبذلونها في جلب المنافع ودفع المضار وَلا أَوْلادُهُمْ الذي بهم يتناصرون في الأمور المهمة مِنَ اللَّهِ أي من عذابه تعالى شَيْئاً من الإغناء، أي لن تدفع عنهم شيئا من عذابه. يقال: ما أغنى فلان شيئا، أي لم ينفع في مهم، ولم يكف مؤنة. ورجل مغن أي مجزئ كاف- قاله الأزهريّ. ونظير هذه الآية قوله تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء: ٨٨- ٨٩]، وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ بفتح الواو أي حطبها، وقرئ بالضم بمعنى أهل وقودها، وأكثر اللغويين على أن الضم للمصدر أي التوقد، والفتح للحطب. وقال الزجّاج: المصدر مضموم، ويجوز فيه الفتح. وهذا كقوله تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ [الأنبياء: ٩٨].
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١١]
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (١١)
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ خبر مبتدأ محذوف، أي دأب هؤلاء في الكفر كدأب آل فرعون. والدأب (بالسكون، ويحرّك) مصدر دأب في العمل إذا كدح فيه، فوضع
موضع ما عليه الإنسان من شأنه وحاله، مجازا. يقال: هذا دأبك أي شأنك وعملك، قال الأزهريّ: عن الزجّاج في هذه الآية: أي كأمر آل فرعون، كذا قال أهل اللغة. قال الأزهري: والقول عندي فيه- والله أعلم- أن دأبهم هنا اجتهادهم في كفرهم وتظاهرهم على النبيّ صلّى الله عليه وسلم، كتظاهر آل فرعون على موسى عليه الصلاة والسلام يقال: دأبت أدأب دأبا ودؤوبا إذا اجتهدت في الشيء- انتهى- قال أبو البقاء: وفي ذلك تخويف لهم لعلمهم بما حل بآل فرعون وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي من قبل آل فرعون من الأمم الكافرة، فالموصول في محل جر عطف على ما قبله كَذَّبُوا بِآياتِنا بيان وتفسير لدأبهم الذي فعلوا على طريقة الاستئناف المبنيّ على السؤال المقدر فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ أي عاقبهم وأهلكهم بسببها. وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ أي الأخذ بالذنب. فيه تهويل للمؤاخذة وزيادة تخويف للكفرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٢]
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢)
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا بهذا الدين وهم اليهود (للزاوية الآتية) أو نصارى نجران، لأن السورة نزلت لإحقاق الحق معهم، أو أعمّ سَتُغْلَبُونَ أي في الدنيا وَتُحْشَرُونَ أي يوم القيامة إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ الفراش، أي فكفركم ككفر آل فرعون بموسى، وقد فعل بقريش لكفرهم ما رأيتم، فسيفعل بكم ما فعل بهم، وهو أنكم تغلبون كما غلبوا. وقد صدق الله وعده بقتل قريظة «١»، وإجلاء بني النضير «٢»، وفتح خيبر «٣»، وضرب الجزية على من عداهم، وهو من أوضح شواهد النبوة.
وقد روى أبو داود في سننه والبيهقيّ في الدلائل من طريق ابن إسحاق، عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما أصاب من أهل بدر ما أصاب، ورجع إلى المدينة، جمع اليهود في سوق بني قينقاع وقال: يا معشر يهود! أسلموا قبل أن يصيبكم الله بما أصاب قريشا، فقالوا: يا محمد! لا يغرنك من نفسك أن قتلت نفرا من قريش كانوا أغمارا لا يعرفون القتال، إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا، فأنزل الله قُلْ لِلَّذِينَ.... إلى قوله لِأُولِي الْأَبْصارِ.
(١) أخرجه البخاريّ في: المغازي، ٣٠- باب مرجع النبيّ صلّى الله عليه وسلم من الأحزاب، ومخرجه إلى بني قريظة ومحاصرته إياهم.
(٢) أخرجه البخاريّ في: المغازي، ١٤- باب حديث بني النضير ومخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم إليهم.
(٣) أخرجه البخاريّ في: المغازي، ٣٨- باب غزوة خيبر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٣]
قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (١٣)
قَدْ كانَ لَكُمْ أيها الكافرون المتقدم ذكرهم آيَةٌ عبرة ودلالة على أنكم ستغلبون، وعلى أن الله معزّ دينه، وناصر رسوله، ومعل أمره فِي فِئَتَيْنِ أي فرقتين الْتَقَتا يوم بدر للقتال فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي طاعته، وهم النبيّ وأصحابه وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا. معهم فرسان وست أدرع وثمانية سيوف وأكثرهم رجالة وَأُخْرى كافِرَةٌ وهم مشركو قريش وكانوا قريبا من ألف يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ أي يرى المشركون المسلمين مثلي عدد المشركين قريبا من ألفين، أراهم الله إياهم، مع قلتهم، أضعافهم ليهابوهم، ويجبنوا عن قتالهم، وكان ذلك مددا لهم من الله تعالى، كما أمدهم بالملائكة. فإن قلت: فهذا مناقض لقوله في سورة الأنفال:
وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ [الأنفال: ٤٤]، قلت: قللوا أولا في أعينهم حتى اجترءوا عليهم، فلما لاقوهم كثروا في أعينهم حتى غلبوا، فكان التقليل والتكثير في حالين مختلفين. ونظيره في المحمول على اختلاف الأحوال قوله تعالى: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [الرحمن: ٣٩]، وقوله تعالى: وَقِفُوهُمْ، إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ [الصافات: ٢٤]، وتقليلهم تارة وتكثيرهم أخرى في أعينهم، أبلغ في القدرة وإظهار الآية- كذا في الكشاف- قلت: أو يجاب بأنهم كثروا أولا في أعينهم ليحصل لهم الرعب والخوف والجزع والهلع، ثم لما حصل التصافّ والتقى الفريقان قلل الله هؤلاء في أعين هؤلاء ليقدم كل منهما على الآخر ليقضي الله أمرا كان مفعولا رَأْيَ الْعَيْنِ يعني رؤية ظاهرة مكشوفة لا لبس فيها، معاينة كسائر المعاينات- كذا في الكشاف- وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ أي يقوّي بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ أي التكثير والتقليل، وغلبة القليل، مع عدم العدة، على الكثير الشاكي السلاح لَعِبْرَةً أي لاعتبارا وآية وموعظة لِأُولِي الْأَبْصارِ لذوي العقول والبصائر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٤]
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤)
290
زُيِّنَ لِلنَّاسِ كلام مستأنف سيق لبيان حقارة شأن الحظوظ الدنيوية بأصنافها، وتزهيد الناس فيها، وتوجيه رغباتهم إلى ما عنده تعالى، إثر بيان عدم نفعها للكفرة الذين كانوا يتعززون بها. والمراد بالناس الجنس- قاله أبو السعود حُبُّ الشَّهَواتِ أي المشتهيات، وعبر عنها بذلك مبالغة في كونها مشتهاة مرغوبا فيها، أو تخسيسا لها، لأن الشهوة مسترذلة عند الحكماء، مذموم من اتبعها، شاهد على نفسه بالبهيمية، مِنَ النِّساءِ في تقديمهن إشعار بعراقتهن في معنى الشهوة إذ يحصل منهن أتم اللذات وَالْبَنِينَ للتكثر بهم، وأمل قيامهم مقامهم من بعدهم، والتفاخر والزينة وَالْقَناطِيرِ أي الأموال الكثيرة وقوله: الْمُقَنْطَرَةِ مأخوذ منها للتوكيد كقولهم ألف مؤلفة، وبدرة مبدرة، وإبل مؤبلة، ودراهم مدرهمة مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ قال الرازيّ: وإنما كانا محبوبين لأنهما جعلا ثمن جميع الأشياء، فمالكها كالمالك لجميع الأشياء، وصفة المالكية هي القدرة، والقدرة صفة كمال، والكمال محبوب لذاته، فلما كان الذهب والفضة أكمل الوسائل إلى تحصيل هذا الكمال الذي هو محبوب لذاته وما لا يوجد المحبوب إلا به فهو محبوب- لا جرم كانا محبوبين وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ أي المرسلة إلى المرعى ترعى حيث شاءت، أو التي عليها السيمياء- أي العلامة- قال أبو مسلم: المراد من هذه العلامات الأوضاح والغرر التي تكون في الخيل، وهي أن تكون الأفراس غرا محجلة وَالْأَنْعامِ جمع نعم وهي الإبل والبقر والغنم لتحصيل الأموال النامية وَالْحَرْثِ أي الأرض المتخذة للغراس والزراعة ذلِكَ أي المذكور مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا يتمتع به فيها ثم يفنى وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ أي المرجع وهو الجنة، فينبغي الرغبة فيه دون غيره. وفي إشعاره ذم من يستعظم تلك الشهوات ويتهالك عليها، ويرجح طلبها على طلب ما عند الله، وتزهيد في الدنيا وترغيب في الآخرة.
تنبيه:
في تزيين هذه الأمور المذكورات للناس إشارة لما تضمنته من الفتنة:
فأما النساء،
ففي الصحيح أنه صلّى الله عليه وسلم قال «١» : ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء.
وأما البنون،
ففي مسند أبي يعلى عن أبي سعيد مرفوعا: الولد ثمرة القلب،
(١) أخرجه البخاريّ في: النكاح، ١٧- باب ما يتقى من شؤم المرأة، حديث ٢١٠٩، عن أسامة بن زيد.
291
وإنه مجبنة مبخلة محزنة، أي يجبن أبوه عن الجهاد خوف ضيعته، ويمتنع أبوه من الإنفاق في الطاعة خوف فقره، ويحزن أبوه لمرضه خوف موته
، وقد قال تعالى: إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن: ١٤]، وقيل لبعض النساك: ما بالك لا تبتغي ما كتب الله لك؟ قال: سمعا لأمر الله. ولا مرحبا بمن إن عاش فتنني، وإن مات أحزنني. يريد قوله تعالى: نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
[التغابن: ١٥].
وأما القناطير المقنطرة ففيها الآية قبل، وقوله تعالى: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [العلق: ٦- ٧]، وقال تعالى: وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ [الإسراء: ٨٣]، فما يورث البطر مثل الغنى. وبه تستجمع أسباب السؤدد والرئاسة والمجد والتفاخر.
وأما الخيل فقد تكون على صاحبها وزرا: إذا ربطها فخرا ورياء ونواء لأهل الإسلام، كما في الصحيح «١» وفي مسند أحمد عن ابن مسعود مرفوعا: الخيل ثلاثة: ففرس للرحمن، وفرس للإنسان، وفرس للشيطان. فأما فرس الرحمن فالذي يربط في سبيل الله، فعلفه وروثه وبوله وذكر ما شاء الله وأما فرس الشيطان فالذي يقامر أو يراهن عليه، وأما فرس الإنسان فالفرس يرتبطها الإنسان يلتمس بطنها فهي تستر من فقر.
وأما الفتنة بالأنعام والحرث ففي معنى ما تقدم. والله أعلم.
ولما ذكر تعالى ما عنده من حسن المآب إجمالا، أشار إلى تفصيله مبالغة في الترغيب فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٥]
قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥)
قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ أي الشهوات المزينة لكم لِلَّذِينَ اتَّقَوْا الله ولم ينهمكوا في شهواتهم عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ من أنواع الأشربة من العسل واللبن والخمر والماء وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت
(١) أخرجه الإمام أحمد في المسند، رقم ٣٧٥٦.
ولا خطر على قلب بشر، ولِلَّذِينَ اتَّقَوْا خبر المبتدأ الذي هو جَنَّاتٌ وتَجْرِي صفة لها، وعِنْدَ إما متعلق بما تعلق به الجار من معنى الاستقرار، وإما صفة للجنات في الأصل، قدّم فانتصب على الحال. والعندية مفيدة لكمال علو رتبة الجنات وسمو طبقتها خالِدِينَ فِيها أي ماكثين فيها أبد الآباد لا يبغون عنها حولا وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ أي من الأرجاس والأدناس البدنية والطبيعية مما لا يخلو عنه نساء الدنيا غالبا وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ التنوين للتفخيم أي رضوان لا يقدر قدره. وهذه اللذة الروحانية تتمة ما حصل لهم من اللذات الجسمانية وأكبرها. كما قال تعالى في آية براءة وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة: ٧٢]، أي أعظم ما أعطاهم من النعيم المقيم.
روى الشيخان «١» عن أبي سعيد الخدريّ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: إن الله عزّ وجلّ يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة! فيقولون: لبيك ربنا وسعديك. فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك؟ فيقول:
أنا أعطيكم أفضل من ذلك؟ قالوا: يا ربنا وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحلّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا.
وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ أي عالم بمصالحهم فيجب أن يرضوا لأنفسهم ما اختاره لهم من نعيم الآخرة، وأن يزهدوا فيما زهّدهم فيه من أمور الدنيا. ثم وصف سبحانه الذين اتقوا ففازوا بتلك الكرامات بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٦]
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٦)
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ قال الحاكم: في الآية دلالة على أنه يجوز للداعي أن يذكر طاعاته وما تقرب به إلى الله، ثم يدعو ويؤيده ما في الصحيحين من حديث أصحاب الغار «٢»، وتوسل كل منهم بصالح عمله، ثم تفريج الباري تعالى عنهم. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٧]
الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (١٧)
الصَّابِرِينَ أي على البأساء والضراء وحين البأس وَالصَّادِقِينَ في إيمانهم
(١) أخرجه البخاريّ في: الرقاق، ٥١- باب صفة الجنة والنار، حديث ٢٤٥٨.
(٢) أخرجه البخاري في: البيوع، ٩٨- باب إذا اشترى شيئا لغيره بغير إذنه فرضي.
293
وأقوالهم ونياتهم وَالْقانِتِينَ المطيعين لله الخاضعين له وَالْمُنْفِقِينَ أموالهم في سبيل الله تعالى من الأرحام والقرابات، وسد الخلات، ومواساة ذوي الحاجات وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ. جمع سحر (بفتحتين وفتح وسكون) وهو الوقت الذي قبيل طلوع الفجر آخر الليل. وتسحّر إذا أكل في ذلك الوقت. قال الحرالىّ: وفي إفهامه تهجدهم في الليل كما قال تعالى: كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات: ١٧- ١٨].
وقال الرازيّ: واعلم أن المراد منه من يصلي بالليل ثم يتبعه بالاستغفار والدعاء، لأن الإنسان لا يشتغل بالدعاء والاستغفار إلا أن يكون قد صلّى قبل ذلك.
فقوله: وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ يدل على أنهم كانوا قد صلوا بالليل- انتهى- وقد روى ابن أبي حاتم أن عبد الله بن عمر كان يصلي من الليل، ثم يقول: يا نافع! هل جاء السحر؟ فإذا قال: نعم، أقبل على الدعاء والاستغفار حتى يصبح. وروى ابن مردويه عن أنس بن مالك قال: كنا نؤمر إذا صلينا من الليل أن نستغفر في آخر السحر سبعين مرة. وروى ابن جرير عن حاطب قال: سمعت رجلا في السحر في ناحية المسجد وهو يقول: يا رب أمرتني فأطعتك، وهذا السحر. فاغفر لي. فنظرت فإذا هو ابن مسعود.
وثبت في الصحيحين «١» وغيرهما من المسانيد والسنن من غير وجه عن جماعة من الصحابة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: ينزل ربنا، تبارك وتعالى، كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر. يقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟
وفي رواية لمسلم: ثم يبسط يديه تبارك وتعالى ويقول: من يقرض غير عدوم ولا ظلوم؟
وفي رواية: حتى ينفجر الفجر.
قال الحافظ ابن كثير: وقد أفرد الحافظ أبو الحسن الدارقطنيّ في ذلك جزءا على حدة فرواه من طرق متعددة. ويروى أن بعض الصالحين قال لابنه: يا بنيّ! لا يكن الديك أحسن منك، ينادي بالأسحار وأنت نائم، والحكمة في تخصيص الأسحار كونه وقت غفلة الناس عن التعرض للنفحات الرحمانية، والألطاف السبحانية، وعند ذلك تكون العبادة أشق، والنية خالصة، والرغبة وافرة، مع قربه، تعالى وتقدس، من عباده. قال السيوطيّ: في الآية فضيلة الاستغفار في السحر، وأن
(١) أخرجه البخاريّ في: التهجد، ١٤- باب الدعاء والصلاة من آخر الليل حديث ٦٢٩، عن أبي هريرة.
ومسلم في: صلاة المسافرين وقصرها، حديث ١٦٨- ١٧٢.
294
هذا الوقت أفضل الأوقات. وقال الرازيّ: واعلم أن الاستغفار بالسحر له مزيد أثر في قوة الإيمان، وفي كمال العبودية.
الأول- أن وقت السحر يطلع نور الصبح بعد أن كانت الظلمة شاملة للكل، وبسبب طلوع نور الصبح كان الأموات يصيرون أحياء، فهناك وقت الجود العام، والفيض التام، فلا يبعد أن يكون عند طلوع صبح العالم الكبير، يطلع صبح العالم الصغير، وهو ظهور نور جلال الله تعالى في القلب.
والثاني- أن وقت السحر أطيب أوقات النوام، فإذا أعرض العبد عن تلك اللذة، وأقبل على العبودية، كانت الطاعة أكمل.
والثالث- نقل عن ابن عباس وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ يريد المصلين صلاة الصبح، انتهى.
وهذا الثالث أخرجه ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم. وعليه، فإنما سميت الصلاة استغفارا لأنهم طلبوا بفعلها المغفرة.
لطيفة:
قال الزمخشريّ: الواو المتوسطة بين الصفات، للدلالة على كمالهم في كل واحدة منها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٨]
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨)
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي علم وأخبر أو قال أو بيّن أنه لا معبود حقيقيّ سوى ذاته العلية. وشهد بذلك وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ بالإقرار، وهذه مرتبة جليلة للعلماء، لقرنهم في التوحيد بالملائكة المشرفين، بعطفهم على اسم الله عزّ وجلّ قائِماً بِالْقِسْطِ أي بالعدل في أحكامه لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كرره تأكيدا وليبني عليه قوله الْعَزِيزُ فلا يرام جنابه عظمة الْحَكِيمُ فلا يصدر عنه شيء إلا على وفق الاستقامة- كذا في جامع البيان-.
وقال في الانتصاف: هذا التكرار لما قدمته في نظيره مما صدر الكلام به إذا طال عهده، وذلك أن الكلام مصدّر بالتوحيد، ثم أعقب التوحيد تعداد الشاهدين
به، ثم قوله: قائِماً بِالْقِسْطِ وهو التنزيه. فطال الكلام بذلك فجدد التوحيد تلو التنزيه، ليلي قوله: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ. ولولا هذا التجديد لكان التوحيد المتقدم. كالمنقطع في الفهم مما أريد إيصاله به. والله أعلم.
لطيفة:
قال الرازيّ: فإن قيل: المدعي للوحدانية هو الله، فكيف يكون المدعي شاهدا؟
الجواب: من وجوه: الأول: وهو أن الشاهد الحقيقيّ ليس إلا الله، وذلك لأنه تعالى هو الذي خلق الأشياء وجعلها دلائل على توحيده، ولولا تلك الدلائل لما صحت الشهادة. ثم بعد نصب تلك الدلائل، هو الذي وفق العلماء لمعرفة تلك الدلائل، ولولا تلك الدلائل التي نصبها الله تعالى وهدى إليها لعجزوا عن التوصل بها إلى معرفة الوحدانية، ثم بعد حصول العلم بالوحدانية، فهو تعالى وفقهم حتى أرشدوا غيرهم إلى معرفة التوحيد. وإذا كان الأمر كذلك، كان الشاهد على الوحدانية ليس إلا الله وحده، ولهذا قال: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ [الأنعام: ١٩]- ثم ساق بقية الوجوه فانظره.
وقال العارف الشعرانيّ، قدس سره، في كتاب (الجواهر والدرر) : سألت أخي أفضل الدين: لم شهد الحق تعالى لنفسه بأنه لا إله إلا هو؟ فقال رضي الله عنه: لينبه عباده على غناه عن توحيدهم له، وأنه هو الموحد نفسه. بنفسه. فقلت له: فلم عطف الملائكة على نفسه دون غيرهم؟ فقال: لأن علمهم بالتوحيد لم يكن حاصلا من النظر في الأدلة كالبشر، وإنما كان علمهم بذلك حاصلا من التجلي الإلهيّ، وذلك أقوى العلوم وأصدقها، فلذلك قدموا في الذكر على أولي العلم. وأيضا فإن الملائكة واسطة بين الحق وبين رسله، فناسب ذكرهم في الوسط، فاعلم ذلك، انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٩]
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩)
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ جملة مستأنفة مؤكدة للأولى، أي لا دين مرضيا لله تعالى سوى الإسلام الذي هو التوحيد والتدرع بالشريعة الشريفة- قاله أبو
السعود- وفي الآية الأخرى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ [آل عمران: ٨٥]. وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مطلقا، أو اليهود، في دين الإسلام إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ أي إلا بعد أن علموا بأنه الحق الذي لا محيد عنه. ولم يكن اختلافهم لشبهة عندهم بل بَغْياً بَيْنَهُمْ أي حسدا كائنا بينهم، وطلبا للرئاسة. وهذا تشنيع عليهم إثر تشنيع وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ المنزلة فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ قائم مقام جواب الشرط. علة له. أي: فإنه تعالى يجازيه ويعاقبه على كفره عن قريب. فإنه سريع الحساب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٢٠]
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٢٠)
فَإِنْ حَاجُّوكَ في الدين وجادلوك فيه بعد إقامة تلك الآيات فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ أي انقدت لآياته المنزلة، وأخلصت نفسي وعبادتي له، لا أشرك فيها غيره. قال أبو السعود: وإنما عبر عن النفس بالوجه لأنه أشرف الأعضاء الظاهرة ومظهر القوى والمشاعر، ومجمع معظم ما يقع به العبادة من السجود والقراءة، وبه يحصل التوجه إلى كل شيء وَمَنِ اتَّبَعَنِ عطف على الضمير المتصل.
لطيفة:
هل قوله تعالى: فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ، إعراض على المحاجة، أو هو محاجة وإظهار للدليل؟ فمن قائل بالأول، وذلك لأنه صلّى الله عليه وسلم كان قد أظهر لهم الحجة على صدقه قبل نزول هذه الآية مرارا وأطوارا، فإن هذه السورة مدنية، وكان قد أظهر لهم المعجزات الجمة بالقرآن وغيره، فبعد هذا قال: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ إلخ.
يعني إنّا بالغنا في تقرير الدلائل وإيضاح البينات، فإن تركتم الأنف والحسد وتمسكتم بها كنتم مهتدين. وإن أعرضتم، فإن الله تعالى من وراء مجازاتكم. وهذا التأويل طريق معتاد في الكلام. فإن المحقّ إذا ابتلي بالمبطل اللجوج، وأورد عليه الحجة حالا بعد حال، فقد يقول في آخر الأمر: أما أنا ومن اتبعني فمنقادون للحق مستسلمون له، مقبلون على عبودية الله تعالى، فإن وافقتم واتبعتم الحق الذي أنا عليه بعد هذه الدلائل التي ذكرتها فقد اهتديتم، وإن أعرضتم فإن الله بالمرصاد.
297
فهذا طريق قد يذكره المحتجّ المحقّ مع المبطل المصرّ في آخر كلامه. ومن قائل بالثاني، أعني أنه محاجة، وفي كيفية الاستدلال منها ما ذكره أبو مسلم الأصفهانيّ، وهو أن اليهود والنصارى وعبدة الأوثان كانوا مقرين بتعظيم إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، والإقرار بأنه كان محقّا في قوله، صادقا في دينه. فأمر الله تعالى محمدا صلّى الله عليه وسلم بأن يتبع ملته فقال: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً، وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل: ١٢٣]، ثم إنه تعالى أمر محمدا ﷺ في هذا الموضع أن يقول كقول إبراهيم صلّى الله عليه وسلم حيث قال: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: ٧٩]، فقول محمد صلّى الله عليه وسلم: أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ كقول إبراهيم عليه السلام: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ أي أعرضت عن كل معبود سوى الله تعالى، وقصدته بالعبادة، وأخلصت له. فتقدير الآية كأنه تعالى قال: فإن نازعوك يا محمد في هذه التفاصيل فقل أنا مستمسك بطريقة إبراهيم وأنتم معترفون بأن طريقته حقة، بعيدة عن كل شبهة وتهمة. فكان هذا من باب التمسك بالإلزامات، وداخلا تحت قوله: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: ١٢٥]، - نقله الرازيّ- وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أي الذين لا كتاب لهم كمشركي العرب أَأَسْلَمْتُمْ لهذه الآيات كما أسلمت، أم أنتم بعد على الكفر. قال الزمخشريّ: يعني أنه قد أتاكم من البينات ما يوجب الإسلام، ويقتضي حصوله لا محالة، فهل أسلمتم، أم أنتم بعد على كفركم؟ وهذا كقولك لمن لخصت له المسألة، ولم تبق من طرق البيان والكشف طريقا إلا سلكته: هل فهمتها؟ ومنه قوله عزّ وعلا: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة: ٩١]. بعد ما ذكر الصوارف عن الخمر والميسر. وفي هذا الاستفهام استقصار وتعيير بالمعاندة وقلة الإنصاف، لأن المنصف إذا تجلت له الحجة لم يتوقف إذعانه للحق، وللمعاند بعد تجلي الحجة ما يضرب أسدادا بينه وبين الإذعان. وكذلك في (هل فهمتها) توبيخ بالبلادة وكلّة القريحة، وفي فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ بالتقاعد عن الانتهاء والحرص الشديد على تعاطي المنهيّ عنه. انتهى. فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا أي خرجوا من الضلال فنفعوا أنفسهم وَإِنْ تَوَلَّوْا عن هداك وهديك فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ أي تبليغ آيات الله، لا الإكراه إذا عاندوك، إذ ليس عليك هداهم وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ وعد ووعيد.
قال ابن كثير: وهذه الآية وأمثالها من أصرح الدلالات على عموم بعثته صلوات الله وسلامه عليه إلى جميع الخلق، كما هو معلوم من دينه ضرورة، وكما دل عليه الكتاب والسنة في غير ما آية وحديث. فمن ذلك قوله تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي
298
رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً
[الأعراف: ١٥٨]، وقال تعالى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان: ١]. وفي الصحيحين «١» وغيرهما مما ثبت تواتره بالوقائع المتعددة أنه صلّى الله عليه وسلم بعث كتبه يدعو إلى الله ملوك الآفاق، وطوائف بني آدم، من عربهم وعجمهم، كتابيّهم وأميّهم، امتثالا لأمر الله له بذلك.
وقد روى عبد الرزاق عن معمر عن همّام عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال «٢» : والذي نفسي بيده! لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهوديّ ولا نصرانيّ، ومات ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أهل النار. رواه مسلم.
وقال صلّى الله عليه وسلم «٣» : بعثت إلى الأحمر والأسود.
وقال «٤» : كان النبيّ يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة
. إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٢١]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢١)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ وهم اليهود. قتلوا زكريا وابنه يحيى عليهما السلام، وقتلوا حزقيال عليه السلام، قتله قاض يهوديّ لما نهاه عن منكر فعله، وزعموا أنهم قتلوا عيسى ابن مريم عليهما السلام. ولما كان المخاطبون راضين بصنيع أسلافهم
(١) أخرجه البخاري في: الجهاد، ١٠١- باب دعوة اليهودي والنصراني، وعلى ما يقاتلون عليه، وما كتب النبي صلّى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر، والدعوة قبل القتال. وفيه كتابه إلى كسرى.
(٢) أخرجه مسلم في: الإيمان، حديث ٢٤٠.
(٣)
أخرجه مسلم في: المساجد ومواضع الصلاة، حديث ٣. ونصه: عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي. كان كلّ نبيّ يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود. وأحلت لي الغنائم ولم تحلّ لأحد قبلي. وجعلت لي الأرض طيبة طهورا ومسجدا. فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان. ونصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر. وأعطيت الشفاعة».
(٤) أخرجه البخاريّ في: التيمم، ١- باب قوله فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا. حديث ٢٣١. ونصه:
عن جابر بن عبد الله أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبل. نصرت بالرعب مسيرة شهر. وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلّ.
وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي. وأعطيت الشفاعة. وكان النبيّ يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة»
. [.....]
صحت هذه الإضافة إليهم. وقوله تعالى: بِغَيْرِ حَقٍّ إشارة إلى أن قتلهم للأنبياء كان بغير حق، في اعتقادهم أيضا، فهو أبلغ في التشنيع عليه فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٢٢]
أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٢)
أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أي بطلت أعمالهم التي اعملوها من البر والحسنات في الدارين، أما الدنيا فإبدال المدح بالذم، والثناء باللعن والخزي، ويدخل فيه ما ينزل بهم من القتل والسبي وأخذ الأموال منهم غنيمة، والاسترقاق لهم، إلى غير ذلك من الذل والصغار الظاهر فيهم. وأما حبوطها في الآخرة، فإبدال الثواب بالعذاب الأليم. وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ينصرونهم من عذاب الله. وقد دلت الآية على عظم حال من يأمر بالمعروف، وعظم ذنب قاتله، لأنه قرن ذلك بالكفر بالله تعالى، وقتل الأنبياء.
قال الحاكم: وتدل على صحة ما قيل، أنه يأمر بالمعروف وإن خاف على نفسه.
وأن ذلك يكون أولى لما فيه من إعزاز الدين. في الحديث «١» : أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٢٣]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ التوراة. والمراد بهم أحبار اليهود يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ وهو القرآن لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ استبعاد لتوليهم بعد علمهم أن الرجوع إلى كتاب الله واجب، إذ قامت عليهم الحجج الدالة على تنزيله وَهُمْ مُعْرِضُونَ حال من فريق، أي معرضون عن قبول حكمه. أو اعتراض، أي وهم قوم ديدنهم الإعراض عن الحق، والإصرار على الباطل. ومن المفسرين من حمل قوله يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ على التوراة، وأن الآية إشارة إلى
(١) أخرجه أبو داود في: الملاحم، ١٧- باب الأمر والنهي، حديث ٤٣٤٤.
قصة «١» تحاكم اليهود إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم لما زنى منهم اثنان، فحكم عليهما بالرجم، فأبوا وقالوا: لا نجد في كتابنا إلا التحميم، فجيء بالتوراة فوجد فيها الرجم، فرجما، فغضبوا فشنع عليهم بهذه الآية. والله أعلم.
قال بعض المفسرين: وللآية ثمرتان:
الأولى: أن من دعى إلى كتاب الله وإلى ما فيه من شرع وجب عليه الإجابة.
وقد قال العلماء رضي الله عنهم: يستحب أن يقول سمعا وطاعة، لقوله تعالى:
إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [النور: ٥١].
الثمرة الثانية: أن الإسلام ليس بشرط في الإحصان، لأنه صلّى الله عليه وسلم رجم اليهوديين، ونزلت الآية مقررة له. انتهى- أي على القول بذلك، والله أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٢٤]
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤)
ذلِكَ إشارة إلى التولي والإعراض بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ أي بسبب تسهيلهم أمر العقاب على أنفسهم وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ من قولهم ذلك. وفي التعبير بالغرور والافتراء إعلام بأن ما حدّثوا به أنفسهم وسهلوه عليها تعلل بباطل وتطمّع بما لا يكون. ثم رد قولهم المذكور، وأبطل ما غرهم باستعظام ما أعدّ لهم، وتهويله، وأنهم يقعون فيما لا حيلة لهم في دفعه بقوله:
(١)
أخرجه البخاريّ في: التفسير، ٣- سورة آل عمران، ٦- باب قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. ونصه: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن اليهود جاءوا إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم برجل منهم وامرأة قد زنيا. فقال لهم «كيف تفعلون بمن زنى منكم؟» قالوا: نحممهما ونضربهما. فقال «لا تجدون في التوراة الرجم؟» فقالوا: لا نجد فيها شيئا. فقال لهم عبد الله بن سلام: كذبتم.
فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فوضع مدراسها الذي يدرسها منهم كفه على آية الرجم.
فطفق يقرأ ما دون يده وما وراءها. ولا يقرأ آية الرجم. فنزع يده عن آية الرجم. فقال: ما هذه؟
فلما رأوا ذلك قالوا هي آية الرجم. فأمر بهما فرجما قريبا من حيث موضع الجنائز عند المسجد.
فرأيت صاحبها يجنأ عليها، يقيها الحجارة
.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٢٥]
فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٥)
فَكَيْفَ يصنعون، وكيف تكون حالتهم إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ أي في يوم لا رَيْبَ فِيهِ أي لا شك، وهو يوم القيامة وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ أي جزاء ما عملت من خير أو شر وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ الضمير لكل نفس على المعنى. لأنه في معني كل إنسان. أي لا يظلمون بزيادة عذاب، أو بنقص ثواب. ثم علّم تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلم كيف يدعوه ويمجده بقوله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٢٦]
قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦)
قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ أي مالك جنس الملك على الإطلاق ملكا حقيقيا بحيث تتصرف فيه كيفما تشاء. إيجادا وإعداما وإحياء وإماتة. وتعذيبا وإثابة. من غير مشارك ولا ممانع تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ بيان لبعض وجوه التصرف الذي تستدعيه مالكية الملك، وتحقيق لاختصاصها به تعالى حقيقة، وكون مالكية غيره بطريق المجاز، كما ينبئ عنه إيثار (الإيتاء) الذي هو مجرد الإعطاء على (التمليك) المؤذن بثبوت المالكية حقيقة- أفاده أبو السعود- وفي التعبير ب (من) العامة للعقلاء إشعار بمنال الملك من لم يكن من أهله، وأخص الناس بالبعد منه العرب، ففيه إشعار بأن الله ينوّل ملك فارس والروم العرب، كما وقع منه ما وقع، وينتهي منه ما بقي، إلى من نال الملك بسببها وعن الاستناد إليها، من سائر الأمم الذي دخلوا في هذه الأمة من قبائل الأعاجم، وصنوف أهل الأقطار، حتى ينتهي الأمر إلى أن يسلب الله الملك جميع أهل الأرض بظهور ملك يوم الدين- كذا في البقاعيّ- وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٢٧]
تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢٧)
تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ أي تدخل أحدهما في الآخر، إما بالتعقيب أو بالزيادة والنقص وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ كالحيوان من النطف والنطف منه، والبيض من الطير وعكسه. وقيل: إخراج المؤمن من الكافر وبالعكس. قال القفال: والكلمة محتملة للكل، أما الكفر والإيمان فقال تعالى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ [الأنعام: ١٢٢]. يريد كان كافرا فهديناه، فجعل الموت كفرا والحياة إيمانا، وسمى إخراج النبات من الأرض إحياء، وجعلها قبل ذلك ميتة، فقال: يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها [الروم: ٥٠]. وقال: فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها [فاطر: ٩]. وقال: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة: ٢٨].
وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ أي رزقا واسعا غير محدود.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٢٨]
لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٢٨)
لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ جمع وليّ، ومعانيه كثيرة، منها المحب والصديق والنصير. قال الزمخشريّ: نهوا أن يوالوا الكافرين لقرابة بينهم أو صداقة قبل الإسلام أو غير ذلك من الأسباب التي يتصادق بها ويتعاشر. وقد كرر ذلك في القرآن: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة: ٥١]. لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ [المائدة: ٥١]. لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ... [المجادلة:
٢٢] الآية، - والمحبة في الله، والبغض في الله باب عظيم وأصل من أصول الإيمان.
وقوله تعالى: مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ حال. أي متجاوزين المؤمنين إليهم استقلالا أو اشتراكا، وفيه إشارة إلى أنهم الأحقاء بالموالاة وأن في موالاتهم مندوحة عن موالاة الكفرة وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ أي ومن يوال الكفرة فليس من ولاية الله في شيء يقع عليه اسم الولاية، يعني أنه منسلخ من ولاية الله رأسا. وهذا أمر معقول، فإن موالاة الوليّ وموالاة عدوه متنافيان، قال:
تود عدوّي ثم تزعم أنني صديقك. ليس النوك عنك بعازب
- أفاده الزمخشريّ- إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً أي تخافوا منهم محذورا،
303
فأظهروا معهم الموالاة باللسان دون القلب لدفعه، كما قال البخاريّ عن أبي الدرداء أنه قال «١» : إنا لنكشر في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم. وأصل تُقاةً وقية، ثم أبدلت الواو تاء، كتخمة وتهمة وقلبت الياء ألفا. وفي المحكم: تقاة يجوز أن يكون مصدرا وأن يكون جمعا، والمصدر أجود، لأن في القراءة الأخرى: تقية.
تنبيه:
قال بعض مفسري الزيدية: ثمرة الآية الكريمة تحريم موالاة الكفار، لأن الله تعالى نهى عنها بقوله: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ، ثم استثنى تعالى (التقية) فرخص في موالاتهم لأجلها. فتجوز معاشرة ظاهرة، والقلب مطمئن بالعداوة لهم والبغضاء وانتظار زوال المانع. وقد قال الحاكم: في الآية دلالة على جواز إظهار تعظيم الظلمة، اتقاء لشرهم. قال: وإنما يحسن بالمعاريض التي ليست بكذب، وقال الصادق: التقية واجبة، وإني لأسمع الرجل في المسجد يشتمني فأستتر عنه بالسارية لئلا يراني. وعن الحسن: تقية باللسان، والقلب مطمئن بالإيمان.
واعلم أن الموالاة، التي هي المباطنة والمشاورة وإفضاء الأسرار للكفار، لا تجوز، فإن قيل: قد جوز كثير من العلماء نكاح الكافرة، وفي ذلك من الخلطة والمباطنة بالمرأة ما ليس بخاف، فجواب ذلك: أن المراد موالاتهم في أمر الدين، وفيما فيه تعظيم لهم. فإن قيل. في سبب نزول الآية أنه صلّى الله عليه وسلم منع عبادة بن الصامت عن الاستعانة باليهود على قريش، وقد حالف رسول الله صلّى الله عليه وسلم اليهود على حرب قريش، وفي هذا دلالة على جواز الاستعانة بهم، وقد ذكر الراضي بالله أنه يجوز الاستعانة بالفسّاق على حرب المبطلين. قال: وقد حالف رسول الله صلّى الله عليه وسلم اليهود على حرب قريش وغيرها إلى أن نقضوه يوم الأحزاب. وحدّ صلّى الله عليه وسلم الحلف بينه وبين خزاعة.
قال الراضي بالله: وهو ظاهر عن آبائنا عليهم السلام، وقد استعان عليّ عليه السلام بقتلة عثمان. ولعل الجواب- والله أعلم- أن الاستعانة جائزة مع الحاجة إليها.
ويحمل على هذا استعانة الرسول صلّى الله عليه وسلم لليهود. وممنوعة مع عدم الحاجة، أو خشية مضرة منهم. وعليه يحمل حديث عبادة بن الصامت. فصارت الموالاة المحظورة
(١) أخرجه البخاريّ في: الأدب، ٨٢- باب المداراة مع الناس ونصه: ويذكر عن أبي الدرداء: إنا لنكشر في وجوه قوم، وإن قلوبنا لتلعنهم.
304
تكون بالمعاداة بالقلب للمؤمنين والمودة للكفار على كفرهم، ولا لبس في تحريم ذلك، ولا يدخله استثناء والموالاة بإظهار التعظيم وحسن المخاللة والمصادقة بإظهار الأسرار ونحو ذلك، فلا لبس في تحريم ذلك ولا يدخله استثناء. والموالاة بإظهار التعظيم وحسن المخاللة والمشاورة فيما لا يضر المسلمين، فظاهر كلام الزمخشريّ أنه لا يجوز إلا للتقية. فحصل من هذا أن الموالي للكافر والفاسق عاص، ولكن أين تبلغ معصيته؟ يحتاج إلى تفصيل: إن كانت الموالاة بمعنى الموادة، وهي أن يوده لمعصيته كان ذلك كالرضا بالمعصية. وإن كانت الموالاة كفرا. كفر. وإن كانت فسقا، فسق. وإن كانت لا توجب كفرا ولا فسقا، لم يكفر ولم يفسق. وإن كانت الموالاة بمعنى المحالفة والمناصرة، فإن كانت محالفة على أمر مباح أو واجب، كأن يدفع المؤمنون عن أهل الذمة من يتعرض لهم. ويخالفونهم على ذلك، فهذا لا حرج فيه بل هو واجب. وإن كانت على أمر محظور كأن يحالفوهم على أخذ أموال المسلمين والتحكم عليهم، فهذه معصية بلا إشكال، وكذلك إذا كانت بمعنى أنه يظهر سر المسلمين ويحبّ سلامة الكافرين لا لكفرهم بل ليد لهم عليه أو لقرابة أو نحو ذلك، فهذا معصية بلا إشكال. لكن لا تبلغ حدها الكفر لأنه لم يرو أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم حكم بكفر حاطب بن أبي بلتعة.
وقال الراضي بالله: إن مناصرة الكفار على المسلمين توجب الكفر. لأنه صلّى الله عليه وسلم قال للعباس: ظاهرك علينا. وقد اعتذر بأنه خرج مكرها. وأما مجرد الإحسان إلى الكافر فجائز لا ليستعين به على المسلمين، ولا لإيناسه. وكذلك أن يضيق لضيقه في قضية معينة لأمر مباح فجائز، كما كان من ضيق المسلمين من غلب فارس الروم.
فصار تحقيق المذهب أن الذي يوجب الكفر من الموالاة أن يحصل من الموالي الرضا بالكفر. والذي يوجب الفسق أن يحصل الرضا بالفسق. إن قيل: فما حكم من يجند مع الظلمة ليستعينوا به على الجبايات وأنواع الظلم؟ قلنا: عاص بلا إشكال، وفاسق بلا إشكال لأنه صار من جملتهم. وفسقهم معلوم. فإن قيل: فإن تجند معهم لحرب إمام المسلمين؟ قلنا: صار باغيا، وحصل فسقه من جهة البغي والظلم. فإن قيل: حكي عن المهديّ عليّ بن محمد عليه السلام أنه كفّر من تجند مع سلطان اليمن وقضى بردته، قلنا: هذا يحتاج إلى بيان وجه التكفير بدليل قطعيّ، وإن ساغ أن نقول ذلك اصطلاح لأمر الإمام كما رد الهادي عليه السلام شهادة من امتنع من بيعة الإمام كان ذلك محتملا- انتهى كلامه رحمه الله.
ومن هذه الآية استنبط الأئمة مشروعية التقية عند الخوف، وقد نقل الإجماع
305
على جوازها عند ذلك الإمام مرتضى اليماني في كتابه (إيثار الحق على الخلق) فقال ما نصه:
وزاد الحق غموضا وخفاء أمران:
أحدهما: خوف العارفين، مع قلتهم، من علماء السوء وسلاطين الجور، وشياطين الخلق، مع جواز التقية عند ذلك بنص القرآن وإجماع أهل الإسلام. وما زال الخوف مانعا من إظهار الحق، ولا برح المحق عدوّا لأكثر الخلق. وقد صح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال في ذلك العصر الأول: حفظت من رسول الله صلّى الله عليه وسلم «١» وعاءين فأما أحدهما فبثثته في الناس، وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم. وما زال الأمر في ذلك يتفاحش. وقد صرح الغزاليّ بذلك في خطبة (المقصد الأسنى) ولوّح بمخالفته أصحابه فيها كما صرح بذلك في شرح (الرحمن الرحيم) فأثبت حكمة الله ورحمته، وجوّد الكلام في ذلك، وظن أنهم لا يفهمون المخالفة، لأن شرح هذين الاسمين ليس هو موضع هذه المسألة، ولذلك طوى ذلك، وأضرب عنه في موضعه، وهو اسم الضار كما يعرف ذلك أذكياء النظار.
وأشار إلى التقية الجوينيّ في مقدمات (البرهان) في مسألة قدم القرآن.
والرازيّ في كتابه المسمّى (بالأربعين في أصول الدين) - إلى آخر ما ساقه المرتضى فانظره.
وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ أي ذاته المقدسة، فلا تتعرضوا لسخطه بمخالفة أحكامه، وموالاة أعدائه، وهو تهديد عظيم مشعر بتناهي المنهيّ في القبح. وذكر النفس، ليعلم أن المحذر منه عقاب يصدر منه تعالى، فلا يؤبه دونه بما يحذر من الكفرة وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ أي المنقلب والمرجع ليجازي كل عامل بعمله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٢٩]
قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩)
قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ هذا توعد. وأراد إخفاء مودة الكفار وموالاتهم
(١) أخرجه البخاريّ في: العلم، ٤٢- باب حفظ العلم، حديث ١٠٣.
وإظهارها. أو تكذيب النبيّ صلّى الله عليه وسلم. أو الكفر. وفي هذه الآية تنبيه منه تعالى لعباده على خوفه وخشيته لئلا يرتكبوا ما نهى عنه، فإنه عالم بجميع أمورهم وقادر على معاجلتهم بالعقوبة، وإن أنظر من أنظر منهم فإنه يمهل ثم يأخذ أخذ عزيز مقتدر، ولهذا قال بعد هذا:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٣٠]
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٣٠)
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً بصور تناسبه، أو في صحف الملائكة، أو المعنى جزاء ما عملت وَتجد ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أي عملها السوء أَمَداً بَعِيداً أي غاية بعيدة لا يصل أحدهما إلى الآخر، و (تود) في موضع الحال. والتقدير: وتجد ما عملت من سوء محضرا، وادّة ذلك وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ كرره ليكون على بال منهم لا يغفلون عنه كذا في الكشاف-.
وقال أبو السعود: تكرير لما سبق وإعادة له، لكن لا للتأكيد فقط، بل لإفادة ما يفيده قوله عزّ وجلّ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ من أن تحذيره تعالى من رأفته بهم، ورحمته الواسعة، أو أن رأفته بهم لا تمنع تحقيق ما حذرهموه من عقابه، وأن تحذيره ليس مبنيّا على تناسي صفة الرأفة، بل هو متحقق مع تحققها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٣١]
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١)
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قال ابن كثير: هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله، وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في دعواه تلك، حتى يتبع الشرع المحمديّ في جميع أقواله وأفعاله، كما
ثبت في الصحيح «١» عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: من
(١) أخرجه البخاريّ في: الاعتصام، ٢٠- باب إذا اجتهد العامل أو الحاكم فأخطأ خلاف الرسول من غير علم فحكمه مردود، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم....
عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردّ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٣٢]
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٣٢)
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا أعرضوا عن الطاعة فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٣٣]
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣)
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى أي اختار بالنبوة آدَمَ فخلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وعلمه أسماء كل شيء، وأسكنه الجنة، ثم أهبطه منها لما له في ذلك من الحكمة وَاصطفى نُوحاً فجعله أول رسول إلى أهل الأرض، لما عبد الناس الأوثان وأشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ونجى من اتبعه في السفينة وأغرق من عصاه وَاصطفى آلَ إِبْراهِيمَ أي عشيرته وذوي قرباه، وهم إسماعيل وإسحاق والأنبياء من أولادهما الذين من جملتهم النبيّ صلّى الله عليه وسلم، وأما اصطفاء نفسه عليه الصلاة والسلام فمفهوم من اصطفائهم بطريق الأولوية. وعدم التصريح به للإيذان بالغنى عنه لكمال شهرة أمره في الخلة، وكونه إمام الأنبياء وقدوة الرسل عليهم الصلاة والسلام، وكون اصطفاء آله بدعوته بقوله: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة: ١٢٩]، - الآية- ولذلك
قال عليه الصلاة والسلام: أنا دعوة أبي إبراهيم
وَاصطفى آلَ عِمْرانَ إذ جعل فيهم عيسى عليه الصلاة والسلام الذي أوتي البينات وأيد بروح القدس، والمراد بعمران هذا والد مريم أم عيسى عليهما السلام عَلَى الْعالَمِينَ أي عالمي زمانهم. أي اصطفى كل واحد منهم على عالمي زمانه. قال السيوطيّ في (الإكليل) : يستدل بهذه الآية على تفضيل الأنبياء على الملائكة لدخولهم في العالمين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٣٤]
ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤)
ذُرِّيَّةً أي نسلا. نصب على البدلية من الآلين، أو على الحالية منهما.
لطيفة:
الذرية مثلثة، ولم تسمع إلا غير مهموزة. اسم لنسل الثقلين. وقد تطلق على الآباء والأصول أيضا. قال الله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [يس: ٤١].
قال الصاغانيّ: وفي اشتقاقها وجهان: أحدهما أنها من الذرء ووزنها فعولة أو فعيلة، والثاني: أنها من الذرّ بمعنى التفريق لأن الله ذرهم في الأرض ووزنها فعلية أو فعولة أيضا. وأصلها ذرورة فقلبت الراء الثالثة ياء كما في تقضت العقاب. كذا في القاموس وشرحه.
بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ في محل النصب على أنه صفة لذرية. أي اصطفى الآلين حال كونهم ذرية متسلسلة البعض من البعض في وراثة الاصطفاء وَاللَّهُ سَمِيعٌ لأقوال العباد عَلِيمٌ بضمائرهم وأفعالهم. وإنما يصطفي من خلقه من يعلم استقامته قولا وفعلا. ونظيره قوله تعالى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام:
١٢٤]. وقوله: إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ [الأنبياء: ٩٠].
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٣٥]
إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥)
إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ في حيز النصب على المفعولية، بفعل مقدر على طريقة الاستئناف لتقرير اصطفاء آل عمران، وبيان كيفيته. أي اذكر لهم وقت قولها إلخ. وامرأة عمران هذه هي أم مريم عليها السلام.
فائدة:
قال العلامة النوريّ في (غبث النفع) :(امرأت عمران) رسمت بالتاء، وكل ما في كتاب الله جلّ ذكره من لفظ (امرأة) فبالهاء. سبعة مواضع، هذا الأول، والثاني والثالث بيوسف (امرأت العزيز تراود) (امرأت العزيز الآن) والرابع بالقصص (امرأت فرعون) الخامس والسادس والسابع بالتحريم (امرأت نوح وامرأت لوط وامرأت فرعون) فلو وقف عليها، فالمكيّ والنحويان يقفون بالهاء، والباقون بالتاء- انتهى.
رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً أي مخلصا للعبادة (عن الشعبيّ) أو خادما يخدم في متعبداتك، حرره جعله نذيرا في خدمة المعبد ما عاش، لا يسعه تركه في دينه (عن الزجاج). وفي الآية دلالة على صحة نذر الأم بولدها، وأن للأم الانتفاع بالولد الصغير لمنافع نفسها، لذلك جعلته للغير. والمعنى: نذرته وقفا على طاعتك، لا أشغله بشيء من أموري. قال أبو منصور في (التأويلات) : جعلت ما في بطنها لله خالصا لم تطلب منه الاستئناس به ولا ما يطمع الناس من أولادهم، وذلك من الصفوة التي ذكر عزّ وجلّ. وهكذا الواجب على كل أحد إذا طلب ولدا أن يطلب للوجه الذي طلبت امرأة عمران وزكريا حيث قال: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً [آل عمران: ٣٨]، وما سأل إبراهيم رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات: ١٠٠]، وكقوله: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً [الفرقان: ٧٤]، هكذا الواجب أن يطلب الولد، لا ما يطلبون من الاستئناس والاستنصار والاستعانة بأمر المعاش بهم- انتهى-. فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أي تقبل مني قرباني وما جعلت لك خالصا، والتقبل أخذ الشيء على وجه الرضا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٣٦]
فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٣٦)
فَلَمَّا وَضَعَتْها الضمير لما في بطني، وإنما أنث على المعنى، لأن ما في بطنها كان أنثى في علم الله، أو على تأويل النفس أو النسمة قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى أي وكنت رجوت أن يكون ذكرا، وإنما تحسرت أو اعتذرت إذ جهلت قدرها وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ قرئ في السبع بسكون التاء وضمها، فعلى القراءة الأولى تكون الجملة المعترضة من كلامه تعالى إما لدفع ما يتراءى من أن قولها رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى قصدت بها إعلام الله تعالى عن أن يحتاج إلى إعلامها، فأزيلت الشبهة بقوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ هذا ما يتراءى لي. وإما لما ذكروه من أن الاعتراض تعظيم من جهته تعالى لموضوعها، وتفخيم لشأنه، وتجهيل لها بقدره، أي والله أعلم بالنفس التي وضعتها، وما علق بها من عظائم الأمور، وجعلها وابنها آية للعالمين، وهي غافلة عن ذلك. وعلى القراءة الثانية أعني ضم التاء، فالاعتراض من كلامها. إما للوجه الأول من الوجهين السابقين كما استظهرته، أو لما ذكروه من
310
قصد الاعتذار إلى الله تعالى حيث أتت بمولود لا يصلح لما نذرته، أو تسلية نفسها على معنى: لعل لله تعالى فيه سرّا وحكمة، ولعل هذه الأنثى خير من الذكر وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى جملة معترضة أيضا، إما من كلامه تعالى قصد به معذرتها في التحسر والتحزن ببيان فضل الذكر على الأنثى، ولذا جبلت النفوس على الرغبة فيه دونها لا سيما في هذا المقام أعني مقام قصد إخلاص النذير للعبادة. فإن الذكر يفضلها من وجوه منها: أن الذكر يصح أن يستمر على خدمة موضع العبادة ولا يصح ذلك في الأنثى لمكان الحيض فيه وسائر عوارض النسوان. ومنها: أن الذكر يصلح لقوّته وشدته للخدمة دون الأنثى فإنها ضعيفة لا تقوى على الخدمة. ومنها: أن الذكر لا يلحقه عيب في الخدمة والاختلاط بالناس وليس كذلك الأنثى. ومنها: أن الذكر لا يلحقه من التهمة عند الاختلاط ما يلحق الأنثى. فهذه الوجوه تقتضي فضل الذكر على الأنثى في هذا المقام. واللام في (الذكر والأنثى) على هذا الملحظ، للجنس- كذا ظهر لي- وعلى قولهم اللام للعهد فيهما أي ليس الذكر الذي طلبته وتخيلت فيه كمالا، قصاراه أن يكون كواحد من الأحبار، كالأنثى التي وهبت لها.
فإن دائرة علمها وأمنيتها لا تكاد تحيط بما فيها من جلائل الأمور. هذا، وإما أن تكون هذه الجملة من كلامها، والقصد حينئذ تأكيد الاعتذار ببيان أن الذكر ليس كالأنثى في الفضيلة والمزية، وصلاحية خدمة المتعبدات، فإنهنّ بمعزل عن ذلك، فاللام للجنس.
لطيفة:
قيل: قياس كونه من قولها أن يكون (وليست الأنثى كالذكر) فإن مقصودها تنقيص الأنثى بالنسبة إلى الذكر. والعادة في مثله أن ينفي عن الناقص شبهة بالكامل، لا العكس. قال الناصر في (الانتصاف) وقد وجد الأمر في ذلك مختلفا فلم يثبت عين ما قيل. ألا ترى إلى قوله تعالى: لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ [الأحزاب: ٣٢]، فنفى عن الكامل شبه الناقص، مع أن الكمال لأزواج النبيّ صلّى الله عليه وسلم ثابت بالنسبة إلى عموم النساء، وعلى ذلك جاءت عبارة امرأة عمران، والله أعلم.
ومنه أيضا: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النحل: ١٧]. انتهى.
وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ قال المفسرون: هي في لغتهم بمعنى العابدة، سمتها بذلك رجاء وتفاؤلا أن يكون فعلها مطابقا لاسمها. لكن رأيت في تأويل الأسماء الموجودة في التوراة والإنجيل أن مريم معناه مرارة أو مر البحر. فلينظر. قال السيوطيّ
311
في (الإكليل) : في الآية دليل على جواز تسمية الأطفال يوم الولادة وأنه لا يتعين يوم السابع. ، لأنه إنما قالت هذا بأثر الوضع، كما فيها مشروعية التسمية للأم، وأنها لا تختص بالأب. ثم طلبت عصمتها فقالت: وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ أي أجيرها بحفظك وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ أي المطرود لمخالفتك، فلا تجعل عليها وعلى ذريتها له سلطانا يكون سببا لطردهما.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٣٧]
فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٧)
فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ أي قبلها أو تكفل بها. ولم يقل (بتقبّل)، للجمع بين الأمرين: التقبل الذي هو الترقي في القبول، والقبول الذي يقتضي الرضا والإثابة. قال المهايميّ: بقبول حسن يجعلها فوق كثير من الأولياء وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً بجعل ذريتها من كبار الأنبياء- انتهى- وقال الزمخشريّ: نباتها مجاز عن التربية الحسنة العائدة عليها بما يصلحها في جميع أحوالها، أي كالصلاح والسداد والعفة والطاعة وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا أي ضمها إليه، وقرئ بالتشديد. ونصب زكريا ممدودا أو مقصورا والفاعل الله. أي جعله كافلا لها وضامنا لمصالحها، وقائما بتدبير أمورها. وقد روي أن أمها أخذتها وحملتها إلى المسجد، ووضعتها عند الأحبار وقالت: دونكم هذه النذيرة، فتنافسوا فيها إذ كانت بنت إمامهم، وصاحب قربانهم، وأحبّ كلّ أن يحظى بتربيتها، فقال لهم زكريا: أنا أحق بها. عندي خالتها، فأبوا إلا القرعة، وانطلقوا إلى نهر فألقوا فيه أقلامهم، على أن ثبت قلمه في الماء وصعد فهو أولى بها، فطفا قلم زكريا، ورسبت أقلامهم، وإليه الإشارة بقوله تعالى في آية أخرى: إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ [آل عمران: ٤٤].
فأخذها زكريا وربّاها في حجر خالتها، حتى إذا نشأت وبلغت مبالغ النساء، انزوت في محرابها تتعبد فيه وصارت بحيث كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ.
في الآية مسائل:
الأولى- في معنى المحراب: في القاموس وشرحه ما نصه: والمحراب: الغرفة
والموضع العالي، نقله الهرويّ في غريبه عن الأصمعيّ، قال وضاح اليمن:
ربة محراب إذا جئتها لم ألقها أو أرتقي سلّما
وقال أبو عبيدة: المحراب سيد المجالس ومقدمها وأشرفها. قال: وكذلك هو من المساجد وعن الأصمعيّ: العرب تسمي القصر محرابا لشرفه. وقال الأزهريّ:
المحراب عند العامة الذي يفهمه الناس مقام الإمام من المسجد. قال ابن الأنباريّ:
سمي محراب المسجد لانفراد الإمام فيه، وبعده من القوم. ومنه يقال: فلان حرب لفلان إذا كان بينهما بعد وتباغض. وفي المصباح: ويقال هو مأخوذ من المحاربة لأن المصلي يحارب الشيطان ويحارب نفسه بإحضار قلبه، ثم قال: ومحاريب بني إسرائيل هي مساجدهم التي كانوا يجلسون فيها. انتهى.
الثانية- في الآية دليل على وقوع الكرامة لأولياء الله تعالى، كما وجد، عند خبيب «١» بن عديّ الأنصاري رضي الله عنه المستشهد بمكة، قطف عنب. كما في البخاريّ. وفي الكتاب والسنة لهذا نظائر كثيرة، ومن اللطائف هنا ما نقله الإمام الشعرانيّ في (اليواقيت) عن العارف أبي الحسن الشاذليّ قدس سره أنه قال: إن مريم عليها السلام كان يتعرف إليها في بدايتها بخرق العوائد بغير سبب تقوية لإيمانها وتكميلا ليقينها، فكانت كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا. فلما قوي إيمانها ويقينها ردت إلى السبب لعدم وقوفها معه، فقيل لها: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا، انتهى.
الثالثة- قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ إلخ تعليل لكونه من عند الله. إما من تمام كلامها فيكون في محل نصب. وإما من كلامه عزّ وجلّ فهو مستأنف. ومعنى (بغير حساب) أي بغير تقدير لكثرته. وإما بغير استحقاق تفضلا منه تعالى.
الرابعة- زكريا المنوه به هنا هو والد يحيى عليهما السلام. ومعنى زكريا تذكار الرب كما في تأويل أسماء التوراة والإنجيل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٣٨]
هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨)
(١) أخرجه البخاريّ في: الجهاد، ١٧٠- باب هل يستأسر الرجل.
هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ كلام مستأنف، وقصة مستقلة، سيقت في تضاعيف حكاية مريم. لما بينهما من قوة الارتباط، وشدة الاشتباك، مع ما في إيرادها من تقرير ما سيقت له حكايتها من بان اصطفاء آل عمران. فإن فضائل بعض الأقرباء أدلة على فضائل الآخرين. وهنا ظرف مكان، أي في ذلك المكان، حيث هو عند مريم في المحراب، أو ظرف زمان أي في ذلك الوقت، إذ يستعار (هنا وثمت وحيث) للزمان، دعا زكريا ربه لما رأى كرامة مريم على الله ومنزلتها منه تعالى رغب في أن يكون له من زوجته ولد مثل ولد أختها في النجابة والكرامة على الله تعالى. وإن كانت عاقرا عجوزا- كذا في أبي السعود- والذرية هنا الولد، قال الزمخشريّ: تقع على الواحد والجمع، وقد سبق الكلام عليها قريبا عند قوله تعالى ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ قوله طَيِّبَةً بمعنى مطيعة لك، لأن ذلك طلبة أهل الخصوص كما سبق إيضاحه في آية رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ.... إلخ. وقوله تعالى إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ أي مجيبه، وقد أجابه الحق تعالى، فأرسل إليه الملائكة مبشرة كما قال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٣٩]
فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩)
فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ أي على ألسنتنا بِيَحْيى وقد قرئ في السبع بكسر إن وفتحها، ولفظ (يحيى) معرّب عن (يوحنا) اسمه في العبرانية. ومعنى يوحنا نعمة الرب. كما في تأويل أسماء التوراة والإنجيل مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ أي بنبيّ خلق بكلمة (كن) من غير أب. يرسله الله إلى عباده فيصدقه هو. وذلك عيسى عليه السلام وَسَيِّداً أي يسود قومه ويفوقهم وَحَصُوراً أي لا يقرب النساء حصرا لنفسه أي منعا لها عن الشهوات عفة وزهدا واجتهادا في الطاعة وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ أي ناشئا منهم لأنه من أصلابهم. أو كائنا من جملتهم. كقوله: وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [البقرة:
١٣٠]. ولما تحقق زكريا عليه السلام هذه البشارة أخذ يتعجب من وجود الولد منه بعد الكبر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٤٠]
قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (٤٠)
قالَ رَبِّ أَنَّى أي كيف أو من أين يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ أي أدركني الكبر الكامل المانع من الولادة فأضعفني وَامْرَأَتِي عاقِرٌ أي ذات عقر، فهو على النسب، وهو في المعنى مفعول أي معقورة، ولذلك لم يلحق تاء التأنيث قالَ كَذلِكَ يكون لك الولد على الحال التي أنت وزوجتك عليها لأن الله تعالى لا يحتاج إلى سبب بل اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ لا يعجزه شيء ولا يتعاظمه أمر. وفي إعراب كَذلِكَ أوجه. منها: أنه خبر لمحذوف أي الأمر كذلك. وقوله تعالى:
اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ بيان له. ومنها أن الكاف في محل النصب على أنها في الأصل نعت لمصدر محذوف. أي الله يفعل ما يشاء فعلا من ذلك الصنع العجيب الذي هو خلق الولد من شيخ فان وعجوز عاقر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٤١]
قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٤١)
قالَ زكريا رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً أي علامة أعرف بها حصول الحمل. وإنما سألها لكون العلوق أمرا خفيّا لا يوقف عليه. فأراد أن يعلمه الله به من أوله ليتلقى تلك النعمة بالشكر من أولها ولا يؤخره إلى أن يظهر ظهورا معتادا قالَ الله تعالى آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ أي أن لا تقدر على تكليمهم ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً أي إشارة بيد أو رأس. وإما جعلت آيته ذلك لتخليص المدة لذكره تعالى شكرا على ما أنعم به عليه. وقيل: كان ذلك عقوبة منه تعالى بسبب سؤاله الآية بعد مشافهة الملائكة إياه- حكاه القرطبيّ عن أكثر المفسرين- وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً أي ذكرا كثيرا وَسَبِّحْ أي وسبحه بِالْعَشِيِّ وهو آخر النهار. ويقع العشي أيضا على ما بين الزوال والغروب وَالْإِبْكارِ وهو الغدوة أو من صلاة الفجر إلى طلوع الشمس. قال السيوطيّ في (الإكليل) : في الآية الحث على ذكر الله تعالى وهو من شعب الإيمان.
قال محمد بن كعب: لو رخص الله لأحد في ترك الذكر لرخص لزكريا لأنه منعه من الكلام وأمره بالذكر- أخرجه ابن أبي حاتم-.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٤٢]
وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢)
وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ شروع في تتمة فضائل آل عمران. قال المهايميّ:
فيه إشارة إلى جواز تكليم الملائكة الوليّ، ويفارق النبيّ في دعوى النبوة إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ بالتقريب والمحبة وَطَهَّرَكِ عن الرذائل ليدوم انجذابك إليه وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ بالتفضيل وبما أظهره من قدرته العظيمة حيث خلق منك ولدا من غير أب، ولم يكن ذلك لأحد من النساء. وفي (الإكليل) : استدل بهذه الآية من قال بنبوة مريم. كما استدل بها من فضلها على بنات النبيّ صلّى الله عليه وسلم وأزواجه. وجوابه:
أن المراد عالمي زمانها- قاله السدّيّ-.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٤٣]
يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣)
يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ أي اعبديه شكرا على اصطفائه وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ أي لتزدادي بكثرة السجود والصلاة قربا. قال البقاعيّ: الظاهر أن المراد بالسجود هنا ظاهره، وبالركوع الصلاة نفسها، فكأنه قيل: واسجدي مصلية، ولتكن صلاتك مع المصلين، أي في جماعة، فإنك في عداد الرجال لما خصصت به من الكمال. ثم قال: وإنما قلت هذا لأني تتبعت التوراة فلم أره ذكر فيها الركوع في صلاة إبراهيم ولا من بعده من الأنبياء عليهم السلام، ولا أتباعهم إلا في موضع واحد، لا يحسن جعله فيه على ظاهره. ورأيته ذكر الصلاة فيها على ثلاثة أنحاء: الأول- إطلاق لفظها من غير بيان كيفية، والثاني- إطلاق لفظ السجود مجردا، والثالث- إطلاقه مقرونا بركوع أو حبو أو خرور على الوجه. ونحو ذلك. ثم ساق البقاعيّ ما وقع من النصوص في ذلك. وقال بعد: فالذي فهمته من هذه الأماكن وغيرها أن الصلاة عندهم تطلق على الدعاء وعلى فعل هو مجرد السجود، فإن ذكر معه ما يدل على وضع الوجه على الأرض فذاك، وحينئذ يسمى صلاة. وإلا كان المراد به مطلق الانحناء للتعظيم. وذلك موافق للغة، قال في القاموس: سجد خضع، والخضوع التطامن، وأما المكان الذي ذكر فيه الركوع فالظاهر أن معناه فعل الشعب كله ساجدا لله، لأن الركوع يطلق في اللغة على معان، منها الصلاة يقال: ركع أي صلى،
وركع إذا انحنى كثيرا، ولا يصح حمل الركوع على ظاهره لأنه لا يمكن في حال السجود، وإن ارتكب فيه تأويل لم يكن تأويل مما ذكرته في الركوع- والله أعلم- واحتججت باللغة لأن مترجم نسخة التوراة، التي وقعت لي، في عداد البلغاء، يعرف ذلك من تأمل مواقع ترجمته لها. على أن سألت عن صلاة اليهود الآن فأخبرت أنه ليس فيها ركوع، ثم رأيت البغويّ صرح في قوله تعالى وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة: ٤٣]. بأن صلاتهم لا ركوع فيها، وكذا ابن عطية وغيرهما. انتهى كلام البقاعيّ.
لطيفة:
قال السيوطيّ في (الإكليل) : في الآية دليل على أن الجماعة مطلوبة في الصلاة، وعلى أن المرأة تندب لها الجماعة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٤٤]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤)
ذلِكَ إشارة إلى ما سبق مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ أي الأنباء المغيبة عنك نُوحِيهِ إِلَيْكَ مطابقا لما في كتابهم. وتذكير الضمير في نُوحِيهِ بجعل مرجعه ذلك وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ أي وما كنت معاينا لفعلهم وما جرى من أمرهم في شأن مريم إذ يلقون أقلامهم أي سهامهم التي جعلوا عليها علامات يعرف بها من يكفل مريم على جهة القرعة وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ بسببها تنافسا في كفالتها وقد روي عن قتادة وغيره أنهم ذهبوا إلى نهر الأردنّ واقترعوا هنالك على أن يلقوا أقلامهم. فأيهم ثبت في جرية الماء فهو كافلها. فألقوا أقلامهم، فاحتملها الماء إلا قلم زكريا، فإنه ثبت، ويقال إنه ذهب صاعدا يشق جرية الماء- والله أعلم. قال أبو مسلم: معنى يلقون أقلامهم، مما كانت الأمم تفعله من المساهمة عند التنازع فيطرحون منها ما يكتبون عليها أسماءهم، فمن خرج له السهم سلم له الأمر، وقد قال الله تعالى: فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ
[الصافات: ١٤١]، وهو شبيه بأمر القداح التي تتقاسم بها العرب لحم الجزور. وإنما سميت هذه السهام أقلاما لأنها تقلم وتبرى، وكل ما قطعت منه شيئا بعد شيء فقد قلمته، ولهذا السبب يسمى ما يكتب به قلما. وقال السيوطيّ في (الإكليل) : هذه
الآية أصل في استعمال القرعة عند التنازع. وقال بعض مفسري الزيدية: ثمرة الآية أنه يجوز التخاصم لطلب الفضل حتى يتميز واحد بمزية، ودلت على أن التمييز يحصل بالقرعة في الأمر الملبس.
لطيفة:
قال الزمخشريّ: فإن قلت: لم نفيت المشاهدة، وانتفاؤها معلوم بغير شبهة، وترك نفي استماع الأنباء من حفاظها، وهو موهوم؟ قلت: كان معلوما عندهم علما يقينا أنه ليس من أهل السماع والقراءة، وكانوا منكرين للوحي، فلم يبق إلا المشاهدة، وهي في غاية الاستبعاد والاستحالة، فنفيت على سبيل التهكم بالمنكرين للوحي، مع علمهم بأنه لا سماع له ولا قراءة. ونحوه: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ [القصص: ٤٤]، وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ [القصص: ٤٦]، وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ [يوسف: ١٠٢]، - انتهى- وبالجملة، فالنفي تقرير وتحقيق لكون تلك الأنباء وحيا على طريقة التهكم بمنكريه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٤٥]
إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥)
إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ شروع في قصة عيسى عليه السلام يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ أي بمولود يحصل بكلمة منه بلا واسطة أب اسْمُهُ ذكّر الضمير الراجع إلى الكلمة لكونها عبارة عن مذكر. أي اسمه الذي يميزه لقبا الْمَسِيحُ وعلما عِيسَى معرب يسوع بالسين المهملة كلمة يونانية معناها (مخلّص) ويرادفها (يشوع) بالمعجمة، إلا أنها عبرانية كما في تأويل أسماء التوراة والإنجيل.
وفيها أن المسيح بمعنى الممسوح أو المدهون. قال البقاعيّ: وأصل هذا الوصف أنه كان في شريعتهم من مسحه الإمام بدهن القدس كان طاهرا متأهلا للملك والعلم والولايات الفاضلة مباركا، فدل سبحانه على أن عيسى عليه السلام ملازم للبركة الناشئة عن المسح وإن لم يمسح. انتهى. وإنما قال ابْنُ مَرْيَمَ مع كون الخطاب لها، تنبيها على أنه يولد من غير أب، فلا ينسب إلا إلى أمه، وبذلك فضلت على نساء العالمين وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أي سيدا ومعظما فيهما وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ أي من الله عز وجل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٤٦]
وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦)
وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ في محل النصب على الحال وَكَهْلًا عطف عليه بمعنى ويكلم الناس، حال كونه طفلا وكهلا، كلام الأنبياء من غير تفاوت بين الحالتين وذلك لا شك أنه غاية في المعجز. وفي ذلك بشارة ببقائه إلى أن يصير كهلا. والمهد الموضع الذي يهيأ للصبيّ ويوطأ لينام فيه. والكهل من وخطه الشيب، أو من جاوز الثلاثين إلى الأربعين أو الخمسين. قال ابن الأعرابيّ: يقال للغلام مراهق، ثم محتلم، ثم يقال: تخرج وجهه، ثم اتصلت لحيته، ثم مجتمع، ثم كهل، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة. قال الأزهريّ: وقيل له كهل حينئذ لانتهاء شبابه وكماله قوته. وقوله تعالى وَمِنَ الصَّالِحِينَ قال ابن جرير: يعني من عدادهم وأوليائهم. لأن أهل الصلاح بعضهم من بعض في الدين والفضل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٤٧]
قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧)
قالَتْ مخاطبة لله الذي بعث إليها الملائكة رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ أي لست بذات زوج قالَ كَذلِكِ أي على الحالة التي أنت عليها من عدم مس البشر اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ ولا يحتاج إلى سبب، ولا يعجزه شيء.
وصرح هاهنا بقوله يَخْلُقُ ما يَشاءُ ولم يقل يَفْعَلُ كما في قصة زكريا، لما أن الخلق المنبئ عن الإحداث للمكوّن أنسب بهذا المقام لئلا يبقى لمبطل شبهة، وأكد ذلك بقوله:
إِذا قَضى أَمْراً من الأمور أي أراد شيئا كما في قوله تعالى: إِذا أَرادَ شَيْئاً [يس: ٨٢] فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، من غير تأخر ولا حاجة إلى سبب كقوله:
وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [القمر: ٥٠]. أي إنما نأمر مرة واحدة لا تثنية فيها فيكون ذلك الشيء سريعا كلمح البصر. وتقدم الكلام على هذه الآية في سورة البقرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٤٨]
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨)
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ أي الكتابة أو جنس الكتب الإلهية وَالْحِكْمَةَ أي تهذيب الأخلاق وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ إفرادهما بالذكر على تقدير كون المراد بالكتاب جنس الكتب المنزلة، لزيادة فضلهما وإنافتهما على غيرهما.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٤٩]
وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩)
وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ منصوب بمضمر يقود إليه المعنى، معطوف على (يعلّمه) أي ويجعله رسولا إلى جميع الإسرائيليين. وقيل: معطوف على الأحوال السابقة أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ معمول ل (رسولا) لما فيه من معنى النطق. أي رسولا ناطقا بأني قد جئتكم بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ التنوين للتفخيم دون الوحدة لظهور تعددها، والجار متعلق بمحذوف وقع حالا أي متلبسا ومحتجا بآية أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ الضمير للكاف أي في ذلك الشيء المماثل لهيئة الطير فَيَكُونُ طَيْراً حقيقيا ذا حياة بِإِذْنِ اللَّهِ أي أمره، لا باستقلال مني وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ الذي ولد أعمى وَالْأَبْرَصَ المبتلى بالبرص وهو بياض يظهر في البشرة لفساد مزاج. وفي (الإكليل) : هذه الآية أصل لما يقوله الأطباء: إن الأكمه الذي ولد أعمى، والأبرص لا يمكن برؤهما كإحياء الموتى وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ لا باستقلال مني. نفيا لتوهم الألوهية، فهذه معجزات قاهرة فعلية وَأُنَبِّئُكُمْ أي أخبركم بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ مما لم أعاينه إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً أي دلالة لَكُمْ على صدقي في دعوى الرسالة إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ مصدقين بآيات الله. وقد ذكر في الإنجيل أنه عليه السلام ردّ بصر أعميين في كفر ناحوم، وأعمى في بيت صيدا، ورجل ولد أعمى في أورشليم، وشفى عشرة مصابين بالبرص في السامرة، وأبرأ أبرص في كفر ناحوم، وأقام ابن الأرملة من الموت في بلدة نايين، وأحيا ابنة جيروس في كفر ناحوم، والعازر في بيت عينا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٥٠]
وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠)
وَمُصَدِّقاً حال معطوفة على قوله (بآية) أي جئتكم بآية وصدقا لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ أي مقررا لهما ومثبتا وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ قال ابن كثير: فيه دلالة على أن عيسى عليه السلام نسخ بعض شريعة التوراة، وهو الصحيح من القولين. ومن العلماء من قال: لم ينسخ منها شيئا، وإنما أحل لهم بعض ما كانوا يتنازعون فيه خطأ، وانكشف لهم عن الغطاء في ذلك، كما قال في الآية الأخرى:
وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ [الزخرف: ٦٣]. والله أعلم- انتهى- أقول: من البعض الذي أحله عيسى عليه السلام لهم فعل الخير في السبوت، وقد كانوا يعتقدون تحريم مطلق عمل يوم السبت، ولذا لما اجتاز عليه السلام بالإسرائيلين مرة أبصر مريضا فسألوه: هل يحل أن يشفي في السبت؟ فقال لهم عليه السلام: أي إنسان منكم يكون له خروف، فيسقط في حفرة يوم السبت ولا يمسكه ويرفعه؟ والإنسان كم يفضل الخروف؟ فإذن يحل فعل الخير في السبوت، ثم أبرأ ذلك المريض- كذا في الأصحاح الثاني عشر. من الفقرة التاسعة إلى الثالثة عشرة من إنجيل متى- وفيه في الأصحاح الخامس الفقرة السابعة عشرة قول المسيح عليه السلام: لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء، ما جئت لأنقض بل لأكمل- انتهى- وقد اتفقوا على أن المسيح عليه السلام أقام شرائع التوراة كلها، ثم جاء بولس ومن بعده من الرهبان فادعوا أن المسيح عليه السلام فعل ذلك كله ورفعه عنهم، إذ أكمله وأتمه بفعله إياه. وكفاهم مؤونة العمل بشيء منه، وأغناهم بشريعته الروحانية، فنقضوا الناموس الذي جاء لإكماله المسيح. فمما نقضوه إباحة كثير من الحيوانات المحرمة في الناموس الموسويّ، فنسخت حرمتها في الشريعة العيسوية، وثبتت الإباحة العامة بفتوى بولس، إذ قال لهم: لا شيء نجس العين. كما في رسالته إلى أهل رومية. ومما نقضوه تعظيم السبت، فقد كان حكما أبديا في الشريعة الموسوية، وما كان لأحد أن يعمل فيه أدنى عمل، وكان من عمل فيه عملا واجب القتل. ومنه أحكام الأعياد المشروعة في التوراة، ومنه حكم الختان الذي كان أبديا في شريعة إبراهيم عليه السلام وأولاده إلى شريعة موسى، وقد ختن عيسى عليه
السلام، فنسخ حكمه الرهبان بعده، كما نسخوا جميع الأحكام العملية للتوراة، إلا الزنى، كما بيّن في (إظهار الحق)، في الباب الثالث في إثبات النسخ. وقد أسلفنا جملة جليلة في هذا الشأن في سورة البقرة عند قوله تعالى: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا [البقرة: ١٣٥]. فانظرها. وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ كرره تأكيدا وليبنى عليه قوله فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٥١]
إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١)
إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا أي ما آمركم به صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٥٢]
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢)
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ أي من بني إسرائيل الْكُفْرَ أي علمه ووجده منهم قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ جمع نصير. والجار متعلق بمحذوف وقع حالا. أي من أنصاري متوجها إلى الله ملتجئا إليه قالَ الْحَوارِيُّونَ وهم طائفة من بني إسرائيل انتدبت للإيمان بالمسيح عليه السلام فوازروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه- جمع حواريّ- وهو الناصر أو المبالغ في النصرة والوزير والخليل والخالص كما في (التوشيح) نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ أي أنصار دينه ورسوله آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ أي منقادون لرسالتك. ولما أشهدوه عليه السلام أشهدوا الله تعالى الآمر بما أنزل من الإيمان به وبأوامره فقالوا:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٥٣]
رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣)
رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فأشهدناك على ما نحن عليه من تصديقنا دعواه فَاكْتُبْنا أي جزاء على إشهادنا إياك مَعَ الشَّاهِدِينَ أي مع الذين يشهدون بوحدانيتك. وهم المتقدمون في آية شَهِدَ اللَّهُ أو مع الأنبياء الذين يشهدون لأتباعهم.
لطيفة:
جاء في إنجيل متى في الأصحاح العاشر ما يأتي:
١- ثم دعا تلاميذه الاثني عشر وأعطاهم سلطانا على أرواح نجسة حتى يخرجوها ويشفوا كل مرض وكل ضعف.
٢- وأما أسماء الاثني عشر رسولا فهي هذه. الأول سمعان الذي يقال له بطرس وأندراوس أخوه. يعقوب بن زبدي ويوحنّا أخوه.
٣- فيلبّس وبرثو لماوس. توما ومتّى العشّار. يعقوب بن حلفي ولبّاوس الملقب تدّاوس.
٤- سمعان القانويّ ويهوذا الإسخريوطي يوطيّ الذي أسلمه.
وكانوا يسمون رسل عيسى عليه السلام. لأنه بعثهم إلى الإسرائيليين الضالين يدعونهم إلى الحق الذي جاء به، فبذلوا الجهد في بثه وانتشاره وإقامته، إلى أن جاء بولس فسلبهم، بخداعه، دين المسيح الصحيح، فلم يسمعوا له بعد من خبر، ولا وقفوا له على أثر، وطمس لهم رسوم التوراة، وحلل لهم كل محرم، كما بين ذلك في غير هذا الموضع.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٥٤]
وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٥٤)
وَمَكَرُوا أي الذين أحس عيسى عليه السلام منهم الكفر بأن هموا بالفتك به وإرادته بالسوء حيث تمالئوا عليه ووشوا به إلى ملكهم وَمَكَرَ اللَّهُ أي بهم بعد ذلك فانتقم منهم وأورثهم ذلة مستمرة وأباد ملكهم وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ أي أقواهم مكرا، وأنفذهم كيدا، وأقدرهم على إيصال الضرر من حيث لا يحتسب.
وقال البقاعيّ كغيره في قوله تعالى وَمَكَرَ اللَّهُ: أي بأن رفعه إليه. وشبه ذلك عليهم حتى ظنوا أنهم صلبوه، وإنما صلبوا أحدهم، ويقال إنه الذي دلهم، وأما هو عليه السلام، فصانه عنده بعد رفعه إلى محل أوليائه وموطن قدسه، لينزله في آخر الزمان لاستئصالهم بعد أن ضربت عليه الذلة بعد قصدهم له بالأذى الذي طلبوا به العز إلى آخر الدهر، فكان تدميرهم في تدبيرهم، ثم أخبر تعالى ببشارته بالعصمة من مكرهم بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٥٥]
إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥)
إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ أي مستوفي مدة إقامتك بين قومك.
والتوفي، كما يطلق على الإماتة، كذلك يطلق على استيفاء الشيء. كما في كتب اللغة. ولو ادعي أن التوفي حقيقة في الأول، والأصل في الإطلاق الحقيقة فنقول: لا مانع من تشبيه سلب تصرفه عليه السلام بأتباعه وانتهاء مدته المقدرة بينهم بسلب الحياة. وهذا الوجه ظاهر جدا، وله نظائر في الكتاب العزيز، قال تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها [الزمر: ٤٢]. قال الزمخشريّ: يريد ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها، أي يتوفاها حين تنام تشبيها للنائمين بالموتى. ومنه قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ [الأنعام: ٦٠]. حيث لا يميزون ولا يتصرفون، كما أن الموتى كذلك- انتهى كلامه- ثم بين سبحانه في بشارته بالرفعة إلى محل كرامته وموطن ملائكته ومعدن النزاهة عن الأدناس فقال:
وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي من مكرهم وخبث صحبتهم وقد دلت هذه الآية بظاهرها على أن الله تعالى فوق سماواته كقوله تعالى: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً [النساء: ١٥٨]. وقوله تعالى: يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [النحل: ٥٠]. وقوله تعالى: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ [السجدة: ٥]. وقوله تعالى: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ [الملك: ١٦]. وهو مذهب السلف قاطبة كما نقله الإمام الذهبيّ في كتاب (العلوّ). قال أبو الوليد بن رشد في (مناهج الأدلة) : لم يزل أهل الشريعة من أول الأمر يثبتون لله سبحانه وتعالى جهة (الفوق) حتى نفتها المعتزلة، ثم تبعهم على نفيها متأخرو الأشاعرة كأبي المعالي ومن اقتدى بقوله- إلى أن قال: والشرائع كلها مبنية على أن الله في السماء، وأن منه تتنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين، وأن من السموات نزلت الكتب وإليها كان الإسراء بالنبيّ صلّى الله عليه وسلم.
وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله والملائكة في السماء، كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك بالمعقول. وبيّن بطلان الشبهة التي لأجلها نفتها الجهمية ومن وافقهم- إلى أن قال: فقد ظهر لك من هذا أن إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل.
وأن إبطاله إبطال الشرائع. قال الدارميّ: وقد اتفقت الكلمة من المسلمين أن الله فوق عرشه فوق سماواته. وقد بسط نصوص السلف الحافظ الذهبيّ في كتاب (العلوّ) فانظره، هذا، ولما كان لذوي الهمم العوال، أشد التفات إلى ما يكون عليه خلفاؤهم من بعدهم من الأحوال، بشره تعالى في ذلك بما بشره فقال وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وكذا كان لم يزل من انتحل النصرانية فوق اليهود، ولا يزالون كذلك إلى أن يعدموا فلا يبقى منهم أحد ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ثم فسر الحكم الواقع بين الفريقين بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٥٦]
فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٥٦)
فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٥٧]
وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧)
وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ أي يبغضهم، فإن هذه الكناية فاشية في جميع اللغات، جارية مجرى الحقيقة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٥٨]
ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨)
ذلِكَ إشارة إلى ما سبق من نبأ عيسى عليه السلام وهو مبتدأ وخبره نَتْلُوهُ عَلَيْكَ أي من غير أن يكون لك اطلاع سابق عليه. وقوله تعالى مِنَ الْآياتِ حال من الضمير المنصوب أو خبر بعد خبر وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ أي المشتمل على الحكم، أو المحكم المعصوم من تطرق الخلل إليه، والمراد به القرآن.
تنبيه:
في قوله: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ. وجوه في التأويل كثيرة، إلا أن الذي فتح المولى به مما أسلفناه هو أرجح التأويلات والله أعلم، وبه يسقط زعم النصارى أن هذه الآية حجة علينا، لإفادتها وفاته عليه السلام، أي بالصلب، ثم رفعه إلى السماء أعني قيامه حيّا بعد وفاته على زعمهم من أنه مات بجسده، وأقام على الصليب إلى وقت الغروب من يوم الجمعة، ثم أنزل ودفن في أول ساعة من ليلة السبت، وأقام في القبر
إلى صبيحة الأحد، ثم انبعث حيّا وتراءى للنسوة اللائي جئن إلى قبره زائرات. وقد استندوا في هذا الزعم إلى شهادة أنا جيلهم الأربع، وشهادة تلاميذه الشفاهية في العالم، ثم أتباعهم وكذا شهادة اليهود بوقوع الصلب على المسيح ذاتيا. ووجه سقوط زعمهم الفاسد المذكور ما بيناه في معنى الآية مما لا يبقى معه أدنى ارتياب.
وقد بين علماؤنا بطلان معتقدهم هذا في تآليف وتحارير فانظره في (حواشي تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب) تأليف الشيخ عبد الله بك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٥٩]
إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩)
إِنَّ مَثَلَ عِيسى أي شأنه العجيب في إنشائه بالقدرة من غير أب عِنْدَ اللَّهِ أي في تقديره وحكمه كَمَثَلِ آدَمَ أي كحاله العجيبة التي لا يرتاب فيها مرتاب خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ جملة مفسرة للتمثيل ببيان وجه الشبه بينهما. وحسم لمادة شبه الخصوم، فإن إنكار خلق عيسى عليه السلام بلا أب ممن اعترف بخلق آدم عليه السلام بغير أب وأم، مما لا يكاد يصح- قاله أبو السعود- وقوله خَلَقَهُ أي صور جسد آدم من تراب ثم قال له كُنْ أي بشرا كاملا روحا وجسدا فإن أمره تعالى يفيد قوة التكون. قال البقاعيّ: وعبر بصيغة المضارع المقترن بالفاء في فَيَكُونُ دون الماضي، وإن كان المتبادر إلى الذهن أن المعنى عليه حكاية للحال وتصويرا لها إشارة إلى أنه كان الأمر من غير تخلف، وتنبيها على أن هذا هو الشأن دائما بتجدد مع كل مراد، لا يتخلف عن مراد الآمر أصلا كما تقدم التصريح به في آية. إِذا قَضى أَمْراً.
لطيفة:
قال الرازيّ: الحكماء قالوا: إنما خلق آدم عليه السلام من تراب لوجوه:
الأول- ليكون متواضعا، الثاني- ليكون ستارا، الثالث- ليكون أشد التصاقا بالأرض. وذلك لأنه إنما خلق لخلافة أهل الأرض. قال تعالى: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة: ٣٠]، الرابع- أراد الحق إظهار القدرة فخلق الشياطين من النار التي هي أضوأ الأجرام وابتلاهم بظلمات الضلالة، وخلق آدم من التراب الذي هو أكثف الأجرام ثم أعطاه المحبة والمعرفة والنور والهداية، الخامس- خلق الإنسان من تراب ليكون مطفئا لنار الشهوة والغضب- انتهى ملخصا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٦٠]
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠)
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ خبر مبتدأ محذوف، أي الذي قصصنا عليك من نبأ عيسى الحق، وقيل: الحق مبتدأ، والظرف خبر، أي الحق المذكور. وقيل: الحق فاعل لمضمر، أي جاءك الحق. وفي (الحق) تأويلان: الأول- قال أبو مسلم: المراد أن هذا الذي أنزلت عليك هو الحق من خبر عيسى عليه السلام لا ما قالت النصارى واليهود. فالنصارى قالوا إن مريم ولدت إلها، واليهود رموا مريم عليها السلام بالإفك ونسبوها إلى يوسف النجار، فالله تعالى بيّن أن هذا الذي أنزل في القرآن هو الحق.
ثم نهى عن الشك فيه.
والقول الثاني- أن المراد أن الحق في بيان هذه المسألة ما ذكرناه من المثل، وهو قصة آدم عليه السلام، فإنه لا بيان أقوى منها. والله أعلم.
فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ خطاب إما للنبيّ صلّى الله عليه وسلم على طريقة التهييج لزيادة الثبات، أو لكل سامع.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٦١]
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (٦١)
فَمَنْ حَاجَّكَ أي جادلك من النصارى بإيراد حجة فِيهِ أي في شأن عيسى زعما منهم أنه ليس على الشأن المتلوّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ أي الذي أنزلناه إليك، وقصصناه عليك في أمره. وللفاضل المهايميّ في هذه الآية أسلوب لطيف في التأويل حيث قال الْحَقُّ أي الثابت الذي لا يقبل التأويل جاء مِنْ رَبِّكَ الذي رباك بالاطلاع على الحقائق فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ بما ورد في الإنجيل من إطلاق لفظ الأب على الله فإنه إطلاق مجازيّ لأنه لما حدث منه كان كأبيه. وإذا ظهر لك الحق من ربك بالبيان التام فَمَنْ حَاجَّكَ أي جادلك فِيهِ لإثبات أبنيته بظواهر الإنجيل مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ القطعيّ الموجب لتأويله.
فَقُلْ لم يبق بيننا وبينكم مناظرة، ولكن نرفع عنادكم بطريق المباهلة تَعالَوْا أي أقبلوا أيها المجادلون إلى أمر يعرف فيه علوّ الحق وسفول الباطل نَدْعُ أَبْناءَنا
327
وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ
أي يدع كل منا ومنكم نفسه، وأعزة أهله، وألصقهم بقلبه، ممن يخاطر الرجل بنفسه لهم ويحارب دونهم، ويحملهم على المباهلة ثُمَّ نَبْتَهِلْ أي نتضرع إلى الله تعالى ونجتهد في دعاء اللعنة فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ أي إبعاده وطرده عَلَى الْكاذِبِينَ منا ومنكم ليهلكهم الله وينجي الصادقين، فلا يبقى العناد الباقي عليكم بعد اتفاق الدلائل العقلية والنقلية.
تنبيهات:
الأول- قال القاشانيّ: إن لمباهلة الأنبياء تأثيرا عظيما سببه اتصال نفوسهم بروح القدس وتأييد الله إياهم به، وهو المؤثر بإذن الله في العالم العنصريّ، فيكون انفعال العالم العنصريّ منه كانفعال بدننا من روحنا بالهيئات الواردة عليه، كالغضب والحزن والفكر في أحوال المعشوق، وغير ذلك من تحرك الأعضاء عند حدوث الإرادات والعزائم. وانفعال النفوس البشرية منه كانفعال حواسنا وسائر قوانا من هيآت أرواحنا، فإذا اتصل نفس قدسيّ به كان تأثيرها في العالم عند التوجه الاتصاليّ تأثير ما يتصل به، فتنفعل أجرام العناصر والنفوس الناقصة الإنسانية منه بما أراد. ألم تر كيف انفعلت نفوس النصارى من نفسه عليه السلام بالخوف، وأحجمت عن المباهلة، وطلبت الموادعة بقبول الجزية؟
الثاني- قال ابن كثير: وكان سبب نزول هذه المباهلة وما قبلها من أول السورة إلى هنا في وفد نصارى نجران لما قدموا المدينة، فجعلوا يحاجون في عيسى ويزعمون فيه ما يزعمون من البنوّة والإلهية، فأنزل الله صدر هذه السورة ردّا عليهم كما ذكره الإمام محمد بن إسحاق وغيره، وكانوا ستين راكبا، منهم ثلاثة نفر، إليهم يؤول أمرهم: العاقب أمير القوم واسمه عبد المسيح، والسيد ثمالهم وصاحب رحلهم واسمه الأيهم: ، وأبو حارث بن علقمة أسقفهم وحبرهم. وفي القصة أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم لما أتاه الخبر من الله عز وجل، والفصل من القضاء بينه وبينهم، وأمر بما أمر به من ملاعنتهم إن ردوا ذلك عليه، دعاهم إلى المباهلة فقالوا: يا أبا القاسم! دعنا ننظر في أمرنا، ثم نأتيك بما نزيد أن نفعل فيما دعوتنا إليه، فانصرفوا عنه، ثم خلوا بالعاقب فقالوا: يا عبد المسيح ماذا ترى؟ فقال: والله يا معشر النصارى! لقد عرفتم إن محمدا لنبيّ مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، ولقد علمتم ما لاعن قوم نبيّا قط، فبقي كبيرهم، ولا نبت صغيرهم، وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم، فإن كنتم قد أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في
328
صاحبكم، فوادعوا الرجل ثم انصرفوا إلى بلادكم. فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم! قد رأينا أن لا نلاعنك، وأن نتركك على دينك، ونرجع على ديننا، فلم يلاعنهم صلّى الله عليه وسلم، وأقرهم على خراج يؤدونه إليه.
وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه عن الشعبيّ عن جابر قال: قدم على النبيّ صلّى الله عليه وسلم العاقب والطيّب فدعاهما إلى الملاعنة فواعداه على أن يلاعناه الغداة، قال: فغدا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأخذ بيد عليّ وفاطمة والحسن والحسين، ثم أرسل إليهما فأبيا أن يجيبا وأقرا له بالخراج، قال: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: والذي بعثني بالحق، لو قالا: لا، لأمطر عليهم الوادي نارا. قال جابر: وفيهم نزلت: نَدْعُ أَبْناءَنا...
الآية- قال جابر: أنفسنا وأنفسكم: رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعليّ بن أبي طالب، وأبناؤنا: الحسن والحسين، ونساؤنا: فاطمة، وهكذا- رواه الحاكم في مستدركه بمعناه، ثم قال:
صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. هكذا قال.
وقد رواه أبو داود الطيالسيّ عن شعبة عن المغيرة عن الشعبيّ مرسلا، وهذا أصح.
وقد روي عن ابن عباس والبراء نحو ذلك.
وروى البخاريّ «١» عن حذيفة رضي الله عنه قال: جاء العاقب والسيد، صاحبا نجران إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يريدان أن يلاعناه، قال: فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل، فو الله لئن كان نبيّا فلاعنا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا، قالا: إنا نعطيك ما سألتنا، وابعث معنا رجلا أمينا، ولا تبعث معنا إلّا أمينا. فقال: لأبعثن معكم رجلا أمينا، حق أمين. فاستشرف لها أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: قم يا أبا عبيدة بن الجراح. فلما قام قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: هذا أمين هذه الأمة. ورواه مسلم والنسائيّ
أيضا وغيرهم.
وروى الإمام أحمد «٢» عن ابن عباس قال: قال أبو جهل- قبحه الله-: إن رأيت محمدا يصلّي عند الكعبة لآتينه حتى أطأ على رقبته، قال: فقال: لو فعل لأخذته الملائكة عيانا، ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا، ولرأوا مقاعدهم من النار، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلّى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون مالا ولا أهلا.
(١) أخرجه البخاريّ في: المغازي، ٧٢- باب قصة أهل نجران.
(٢) أخرجه الإمام أحمد في مسنده، حديث ٢٢٢٥.
329
قال ابن كثير: وقد رواه البخاريّ والترمذيّ والنسائيّ. وقد ساق قصة وفد نجران الإمام ابن القيم عليه الرحمة في (زاد المعاد) وأعقبها بفصل مهم في فقهها.
فليراجع.
الثالث- قال الزمخشريّ: فإن قلت ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلا ليتبين الكاذب منه ومن خصمه، وذلك أمر يختص به وبمن يكاذبه، فما معنى ضم الأبناء والنساء؟ قلت: ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله، واستيقانه بصدقه، حيث استجرأ على تعريض أعزته وأفلاذ كبده وأحب الناس إليه لذلك. ولم يقتصر على تعريض نفسه له، وعلم ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته هلاك الاستئصال إن تمت المباهلة. وخص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل وألصقهم بالقلوب، وربما فداهم الرجل بنفسه وحارب دونهم حتى يقتل، ومن ثمت كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن في الحروب لتمنعهم من الهرب. ويسمون الذادة عنها بأرواحهم حماة الحقائق. وقدّمهم في الذكر على الأنفس لينبّه على لطف مكانهم وقرب منزلتهم وليؤذن بأنهم مقدّمون على الأنفس مفدّون بها. وفيه دليل، لا شيء أقوى منه، على فضل أصحاب الكساء عليهم السلام. وفيه برهان واضح على صحة نبوة النبيّ صلّى الله عليه وسلم. لأنه لم يرو أحد من موافق ولا مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك.
الرابع- استنبط من الآية جواز المحاجة في أمر الدين، وأن من جادل وأنكر شيئا من الشريعة جازت مباهلته اقتداء بما أمر به صلّى الله عليه وسلم. والمباهلة الملاعنة.
قال الكازروني في تفسيره: وقع البحث عند شيخنا العلامة الدوانيّ قدس الله سره في جواز المباهلة بعد النبيّ صلّى الله عليه وسلم، فكتب رسالة في شروطها المستنبطة من الكتاب والسنة والآثار، وكلام الأئمة، وحاصل كلامه فيها أنها لا تجوز إلا في أمر مهم شرعا، وقع فيه اشتباه وعناد لا يتيسر دفعه إلا بالمباهلة، فيشترط كونها بعد إقامة الحجة والسعي في إزالة الشبهة وتقديم النصح والإنذار وعدم نفع ذلك ومساس الضرورة إليها.
قال الإمام صديق خان في تفسيره: وقد دعا الحافظ ابن القيّم، رحمه الله، من خالفه في مسألة صفات الرب تعالى شأنه وإجرائها على ظواهرها من غير تأويل ولا تحريف ولا تعطيل، إلى المباهلة بين الركن والمقام فلم يحبه إلا ذلك وخاف سوء العاقبة. وتمام هذه القصة مذكور في أول كتابه المعروف ب (النونية) - انتهى- وقد ذكر في (زاد المعاد) في فصل فقه قصة وفد نجران ما نصه: ومنها أن السنّة في مجادلة أهل الباطل إذا قامت عليهم حجة الله ولم يرجعوا بل أصروا على العناد أن
330
يدعوهم إلى المباهلة، وقد أمر الله، سبحانه، بذلك رسوله، ولم يقل إن ذلك ليس لأمتك من بعدك. ودعا إليه ابن عمه عبد الله بن عباس لمن أنكر عليه بعض مسائل الفروع، ولم ينكر عليه الصحابة، ودعا إليه الأوزاعيّ سفيان الثوريّ في مسألة رفع اليدين ولم ينكر عليه ذلك، وهذا من تمام الحجة- انتهى-.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٦٢]
إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢)
إِنَّ هذا أي المتقدم من شأن عيسى عليه السلام لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ الذي لا معدل عنه، دون أقاصيص النصارى. والقصص تتبع الوقائع بالإخبار عنها شيئا بعد شيء على ترتيبها. في معنى قصّ الأثر، وهو اتباعه، حتى ينتهي إلى محل ذي الأثر- أفاده الحراليّ-.
قال البقاعيّ: ولما بدأ سبحانه القصة أول السورة بالإخبار بوحدانيته مستدلا على ذلك بأنه الحيّ القيّوم صريحا، ختم ذلك إشارة وتلويحا فقال، عاطفا على ما أنتجه ما تقدم من أن عيسى عبد الله ورسوله، معمّما للحكم: وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ فصرح فيه ب مِنْ الاستغراقية، تأكيدا للرد على النصارى في تثليثهم وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فلا يشاركه أحد في العزة والحكمة، ليشاركه في الألوهية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٦٣]
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣)
فَإِنْ تَوَلَّوْا أي أعرضوا عن قبول الحق الذي قص عليك بعد ما عاينوا تلك الحجج النيّرة فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ أي بهم فيجازيهم على إفسادهم. والتعبير عنهم بذلك إشارة إلى أنهم، بتوليهم، مفسدون اعتقادهم واعتقاد غيرهم في الله تعالى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٦٤]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤)
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أي إلى قول معتدل لا
يميل إلى التعطيل ولا إلى الشرك، متفق عليها لا يختلف فيها الرسل والكتب وهي أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً أي لا نرى غيره مستحقّا للعبادة فنشركه معه، بل نفرد العبادة لله وحده، لا شريك له. وهذه دعوة جميع الرسل. قال الله تعالى:
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: ٢٥]. وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل: ٣٦]. وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً أي كعزيز والمسيح والأحبار والرهبان الذين كانوا يحلّون لهم ويحرّمون، كما
روى الترمذيّ «١» عن عديّ ابن حاتم قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقرأ: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ. قال: إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه، وإذا حرموا عليه شيئا حرموه.
قال الكيا الهراسيّ: فيه رد على من قال بالاستحسان المجرد الذي لا يستند إلى دليل شرعيّ، وعلى من قال: يجب قبول قول الإمام في التحليل والتحريم ولو دون إبانة مستند شرعيّ.
قال البقاعيّ: ولما كان الرب قد يطلق على المعلم والمربّي بنوع تربية، نبه على أنّ المحذور إنما هو اعتقاد الاستبداد والاجتراء على ما يختص به الله فقال:
مِنْ دُونِ اللَّهِ الذي اختص بالكمال فَإِنْ تَوَلَّوْا أي عن هذه الكلمة السواء المتفق عليها فَقُولُوا أي تبعا لأبيكم إبراهيم عليه السلام إذ قال: أسلمت لربّ العالمين. وامتثالا لوصيته إذ قال: وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ أي لزمتكم الحجة فوجب عليكم أن تعترفوا بأنا مسلمون دونكم، كما يقول الغالب للمغلوب في جدال أو صراع أو غيرهما: اعترف بأني أنا الغالب، وسلم لي الغلبة. ويجوز أن يكون من باب التعريض، ومعناه: اشهدوا واعترفوا بأنكم كافرون حيث توليتم عن الحق بعد ظهوره- كذا قال الكشاف-.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٦٥]
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٥)
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ أي تجادلون فيه فيدعيه كل من
(١) أخرجه الترمذيّ في: التفسير، ٩- سورة التوبة، ١٠- حدثنا الحسن بن مرثد.
فريقكم وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ أي المقرّر كل منهما لأصل دين منتحله منكم إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ حتى لا تجادلوا مثل هذا الجدل المحال.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٦٦]
ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٦٦)
ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ أي الأشخاص الحمقى حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ من أمر محمد صلّى الله عليه وسلم إذ له ذكر في كتابكم فأمكنكم تغييره لفظا ومعنى، أو من أمر موسى وعيسى عليهما السلام، أو مما نطق به التوراة والإنجيل فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ من أمر إبراهيم لكونه لم يذكر في كتابكم بما حاججتم، فلا يمكنكم فيه التغيير وَاللَّهُ يَعْلَمُ فيبيّنه لنبيّه وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٦٧]
ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧)
ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا أي كما ادعى اليهود وَلا نَصْرانِيًّا كما ادعى النصارى وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً سبق معنى الحنيف عند قوله تعالى: بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً في البقرة وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ تعريض بأنهم مشركون بقولهم:
عزيز ابن الله والمسيح ابن الله، وردّ لادعاء المشركين أنهم على ملة إبراهيم عليه السلام.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٦٨]
إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨)
إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ أي أخصهم به وأقربهم منه. من (الولي) وهو القرب لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ أي في دينه من أمته وغيرهم وَهذَا النَّبِيُّ يعني خاتم الأنبياء محمدا صلّى الله عليه وسلم وَالَّذِينَ آمَنُوا به فعملوا بشريعته الموافقة لشريعة إبراهيم وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ بالنصر والمعونة والمحبة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٦٩]
وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٦٩)
وَدَّتْ أي تمنت طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ بالرجوع إلى دينهم حسدا وبغيا وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ أي وما يتخطاهم الإضلال، ولا يعود وباله إلا عليهم، إذ يضاعف به عذابهم وَما يَشْعُرُونَ أي أن وزره خاص بهم. ونظير هذه الآية قوله تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ [البقرة: ١٠٩]. وقوله: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً [النساء: ٨٩].
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٧٠]
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠)
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ أي المنزلة على محمد صلّى الله عليه وسلم وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ أي تعلمون حقيقتها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٧١]
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١)
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ أي تسترون الحق المنزل بتمويهاتكم الباطلة وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ أي الذي لا يقبل تمويها ولا تحريفا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي عالمين بما تكتمونه من حقيته وقد كانوا يعلمون ما في التوراة والإنجيل من البشارة برسول الله صلّى الله عليه وسلم ونبوته، ويلبسون على الناس في ذلك، كدأبهم في غيره. وفي الآية دلالة على قبح كتمان الحق، فيدخل في ذلك أصول الدين وفروعه والفتيا والشهادة وعلى قبح التلبيس. فيجب حل الشبهة وإبطالها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٧٢]
وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢)
وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ أي
أوله وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ هذه الآية حكاية لنوع آخر من تلبيساتهم.
وهي مكيدة أرادوها ليلبسوا على الضعفاء من المؤمنين أمر دينهم، وهو أنهم اشتوروا بينهم أن يظهروا الإيمان أول النهار ويصلّوا مع المسلمين، فإذا جاء آخر النهار ارتدوا إلى دينهم. فيظن الضعفاء أنه لا غرض لهم إلا الحق، وأنه ما ردهم عن الدين بعد اتباعهم له وترك العناد، وهم أولو علم وأهل كتاب، إلا ظهور بطلانه لهم، ولهذا قال:
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي عن الإسلام كما رجعتم.
لطيفة:
قال الرازيّ: الفائدة في إخبار الله تعالى عن تواطئهم على هذه الحيلة من وجوه:
الأول- أن هذه الحيلة كانت مخيفة فيما بينهم وما أطلعوا عليها أحدا من الأجانب، فلما أخبر الرسول عنها كان ذلك إخبارا عن الغيب فيكون معجزا.
الثاني- أنه تعالى لما أطلع المؤمنين على تواطئهم على هذه الحيلة لم يحصل لها أثر في قلوب المؤمنين، ولولا هذا الإعلام لكان ربما أثرت في قلب بعض من في إيمانه ضعف.
الثالث- أن القوم لما افتضحوا في هذه الحيلة صار ذلك رادعا لهم عن الإقدام على أمثالها من الحيل والتلبيس.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٧٣]
وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣)
وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ من تتمة كلامهم أي ولا تصدقوا إلا نبيا تابعا لشريعتكم، لا من جاء بغيرها، أو ولا تؤمنوا ذلك الإيمان المتقدم، وهو إيمانهم وجه النهار، إلا لأجل حفظ أتباعكم وأشياعكم وبقائهم على دينكم قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أي الذي هو الإسلام وقد جئتكم به، وما عداه ضلال فلا ينفعكم في دفعه هذا الكيد الضعيف ولا تقدرون على إضلال أحد منا بعد أن هدانا الله. ثم وصل به
تقريعهم فقال إِنَّ بمد الألف على الاستفهام، في قراءة ابن كثير. وتقديرها في قراءة غيره. أي دعاكم الحسد والبغي حتى قلتم ما قلتم ودبرتموه ألأن يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ من الشرائع والعلم والكتاب، أَوْ كراهة أن يُحاجُّوكُمْ أي الذين أوتوا مثل ما أوتيتم عِنْدَ رَبِّكُمْ أي بالشهادة عليكم يوم القيامة أنهم آمنوا وكفرتم بعد البيان الواضح فيفضحكم قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ أي بإنزال الآيات وغيرها بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ فلا يمكنكم منعه وَاللَّهُ واسِعٌ كثير العطاء عَلِيمٌ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٧٤]
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤)
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ فيزيده فضلا عليكم وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٧٥]
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥)
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً بالمطالبة والترافع وإقامة البينة، فلا يبعد منه الخيانة مع الله بكتمان ما أمر بإظهاره طمعا في إبقاء الرئاسة والرشا عليه. ثم استأنف علة الخيانة بقوله ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ أي ذلك الاستحلال والخيانة هو بسبب أنهم يقولون ليس علينا فيما أصبنا من أموال العرب عقاب ومؤاخذة فهم يخونون الخلق وَيَقُولُونَ أي في الاعتذار عنه عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ بادعائهم ذلك وغيره فيخونونه أيضا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أنه كذب محض وافتراء لتحريم الغدر عليهم. كما هو في التوراة. وقد مضى نقله في البقرة في آية: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا [البقرة: ٦٢]. فارجع إليه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٧٦]
بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦)
بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ اعلم أن (بلى) إما لإثبات
ما نفوه من السبيل عليهم في الأميين، أي بلى عليهم سبيل، فالوقف حينئذ على (بلى) وقف التمام، وقوله مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ جملة مقررة للجملة التي سدت (بلى) مسدّها وإما لابتداء جملة بلا ملاحظة كونها جوابا للنفي السابق، فإن كلمة (بلى) قد تذكر ابتداء لكلام آخر يذكر بعدها- كما نقله الرازيّ- وهذا هو الذي أرتضيه.
وإن اقتصر الكشاف ومقلدوه على الأول. وقد ذكروا في (نعم) أنها تأتي للتوكيد إذا وقعت صدرا. نحو: نعم هذه أطلالهم، فلتكن (بلى) كذلك، فإنهما أخوان، وإن تخالفا في صور، وعلى هذا فلا يحسن الوقف على (بلى). والضمير في بِعَهْدِهِ إما لاسم (الله) في قوله وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ على معنى إن كل من أوفى بعهد الله واتقاه في ترك الخيانة والغدر فإن الله يحبه. وإما ل مَنْ أَوْفى على أن كل من أوفى بما عاهد عليه واتقاه فإنه يحبه.
قال الزمخشريّ: فإن قلت فهذا عام. يخيل أنه ولو وفى أهل الكتاب بعهودهم وتركوا الخيانة لكسبوا محبة الله. قلت: أجل. لأنهم إذا وفوا بالعهود، وفوا أول شيء بالعهد الأعظم وهو ما أخذ عليهم في كتابهم من الإيمان برسول مصدق لما معهم، ولو اتقوا الله في ترك الخيانة لاتقوه في ترك الكذب على الله وتحريف كلمه- انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٧٧]
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٧)
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ أي يستبدلون بِعَهْدِ اللَّهِ أي بما أخذهم عليه في كتابه. أو بما عاهدوه عليه من الإيمان بالرسول المصدق لما معهم وَأَيْمانِهِمْ أي التي عقدوها بالتزام متابعة الحق على ألسنة الرسل ثَمَناً قَلِيلًا من الدنيا الزائلة الحقيرة التي لا نسبة لجميعها إلى أدنى ما فوتوه أُولئِكَ لا خَلاقَ أي لا نصيب ثواب لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وذلك لحجبهم عن مقامات قربه كما قال تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ. وَلا يُزَكِّيهِمْ أي ولا يثني عليهم كما يثني على أوليائه، أو لا يطهرهم من دنس ذنوبهم بالمغفرة وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي بالنار. واعلم أن في هذه الآية مسائل:
337
الأولى- قال بعض مفسري الزيدية: ثمرة الآية أن من نقض عهدا لله لغرض دنيويّ، أو حلف كاذبا، فإنه قد ارتكب كبيرة.
الثانية- في الجمع بين قوله تعالى هنا: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ. وقوله: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر: ٩٢]. قال القفال: المقصود من هذه الآية بيان شدة سخط الله عليهم، لأن من منع غيره كلامه فإنما ذلك بسخط عليه، وإذا سخط إنسان على آخر قال له: لا أكلمك. وقد يأمر بحجبه عنه، ويقول: لا أرى وجه فلان، وإذا جرى ذكره لم يذكره بالجميل، فثبت أن الآية كناية عن شدة الغضب، نعوذ بالله منه. ومنهم من قال: لا يبعد أن يكون إسماع الله جل جلاله أولياءه كلامه بغير سفير تشريفا عاليا يختص به أولياءه، ولا يكلم هؤلاء الكفرة والفساق، وتكون المحاسبة معهم بكلام الملائكة. ومنهم من قال: معنى الآية لا يكلمهم بكلام يسرهم وينفعهم، والكل حسن.
الثالثة-
روى الشيخان «١» عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: من حلف على مال امرئ مسلم بغير حقه لقي الله وهو عليه غضبان. قال عبد الله: ثم قرأ علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم مصداقه من كتاب الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا... إلى آخر الآية.
وفي رواية قال: من حلف على يمين صبر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان، فأنزل الله تصديق ذلك: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا... الآية. فدخل الأشعث بن قيس الكنديّ فقال: ما يحدثكم أبو عبد الرحمن؟ قلنا: كذا وكذا، فقال: صدق، فيّ نزلت، كان بيني وبين رجل خصومة في بئر، فاختصمنا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: شاهداك أو يمينه، قلت: إنه إذا يحلف ولا يبالي، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان، ونزلت: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا... إلى آخر الآية.
وأخرجه الترمذيّ وأبو داود وقالا: إن الحكومة كانت بين الأشعث وبين رجل يهوديّ.
(١) أخرجه البخاريّ في: التفسير، ٣- سورة آل عمران، ٣- باب إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا.. إلخ.
ومسلم في: الإيمان، حديث ٢٢٠ و ٢٢١.
338
وروى البخاريّ «١» عن عبد الله بن أبي أوفي أن رجلا أقام سلعة وهو في السوق. فحلف بالله لقد أعطى بها ما لم يعطه، ليوقع فيها رجلا من المسلمين، فنزلت: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا... إلى آخر الآية. وقدمنا في مقدمة التفسير، في بحث سبب النزول، وفي سورة البقرة أيضا عند آية: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ [البقرة: ٩٧]، ما يعلم به الجمع بين مثل هذه الروايات، وأنه لا تنافي. فتذكّر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٧٨]
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨)
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ قال الإمام ابن كثير: يخبر تعالى عن اليهود، عليهم لعائن الله، أن منهم فريقا يحرفون الكلم عن مواضعه، ويبدلون كلام الله، ويزيلونه عن المراد به ليوهموا الجهلة أنه في كتاب الله كذلك، وينسبونه إلى الله، وهو كذب على الله، وهم يعلمون من أنفسهم أنهم قد كذبوا وافتروا في ذلك كله، ولهذا قال تعالى: وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ قال مجاهد والشعبيّ والحسن وقتادة والربيع بن أنس: يلوون ألسنتهم بالكتاب. ويحرفونه. وهكذا روى البخاريّ عن ابن عباس «٢» أنهم يحرفون: ويزيلون.
وليس أحد يزيل لفظ كتاب من كتب الله عز وجل، ولكنهم يحرفونه يتأولونه على غير تأويله.
وقال وهب بن منبه: إن التوراة والإنجيل كما أنزلهما الله تعالى لم يغير منها حرف ولكنهم يضلون بالتحريف والتأويل، وكتب كانوا يكتبونها من عند أنفسهم ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله. فأما كتب الله فإنها محفوظة لا تحول.
رواه ابن أبي حاتم. قال ابن كثير: فإن عنى وهب ما بأيديهم من ذلك، فلا شك أنه
(١) أخرجه البخاريّ في: التفسير، ٣- سورة آل عمران، ٣- باب إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا.. إلخ.
(٢) أخرجه البخاريّ في: التوحيد، ٥٥- باب قوله تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ.
قد دخلها التبديل والتحريف والزّيادة والنقص. وأما تعريب ذلك المشاهد بالعربية ففيه خطأ كبير وزيادات كثيرة ونقصان ووهم فاحش. وهو من باب تفسير المعرّب المعبّر، وفهم كثير منهم فاسد وأما إن عنى كتب الله التي هي كتبه من عنده، فتلك كما قال محفوظة لم يدخلها شيء- انتهى- وقد قدمنا الكلام على ذلك في مقدمة التفسير عند الكلام على الإسرائيليات، وفي سورة البقرة أيضا عند قوله تعالى: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ [البقرة: ٧٥].
ولما بين تعالى كذبهم عليه- جل ذكره- بين افتراءهم على رسله إذ زعموا أن عيسى عليه السلام أمرهم أن يتخذوه ربا، فردّ سبحانه عليهم بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٧٩]
ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩)
ما كانَ لِبَشَرٍ أي ما صح ولا استقام. وفي التعبير ب (بشر) إشعار بعلة الحكم، فإن البشرية منافية لما افتروه عليهم أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ أي الفهم والعلم أو الحكمة وَالنُّبُوَّةَ وهي الخبر منه تعالى ليدعو الناس إلى الله بترك الأنداد ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ أي الذين بعثه الله إليهم ليدعوهم إلى عبادته وحده كُونُوا عِباداً لِي أي اتخذوني ربّا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ يقول لهم كُونُوا رَبَّانِيِّينَ أي منسوبين إلى الرب لاستيلاء الربوبية عليهم وطمس البشرية بسبب كونهم عالمين عاملين معلمين تالين لكتب الله. أي كونوا عابدين مرتاضين بالعلم والعمل والمواظبة على الطاعات، حتى تصيروا ربانيين بغلبة النور على الظلمة- أفاده القاشانيّ- بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ أي بسبب مثابرتكم على تعليم الناس الكتاب ودراسته، أي قراءته. فإن ذلك يجركم إلى الله تعالى بالإخلاص في عبادته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٨٠]
وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠)
وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ أي بالعود إليه
340
وقد بعث لمحو الشرك بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أي بعد استقراركم على الإسلام.
تنبيهات:
الأول- إذا كان ما ذكر في الآية لا يصلح لنبيّ ولا لمرسل، فلأن لا يصلح لأحد من الناس غيرهم، بطريق الأولى والأخرى. ولهذا قال الحسن البصريّ: لا ينبغي هذا لمؤمن، أن يأمر الناس بعبادته، قال: وذلك أن القوم كان يعبد بعضهم بعضا- يعني أهل الكتاب- كانوا يعبدون أحبارهم ورهبانهم، كما قال الله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ... [التوبة: ٣١] الآية- وفي جامع الترمذيّ «١» - كما سيأتي- أن عديّ بن حاتم قال: يا رسول الله ما عبدوهم. قال:
بلى، إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم.
فالجهلة من الأحبار والرهبان ومشايخ الضلال يدخلون في هذا الذم والتوبيخ.
بخلاف الرسل وأتباعهم من العلماء العاملين، فإنهم إنما يأمرون بما يأمر الله به وبلغتهم إياه الرسل الكرام، وإنما ينهونهم عما نهاهم الله عنه وبلغته إياه رسله الكرام- قاله ابن كثير- الثاني- في هذه الآية أعظم باعث لمن علم على أن يعمل، وأن من أعظم العمل بالعلم تعليمه والإخلاص لله سبحانه. والدراسة مذاكرة العلم والفقه. فدلت الآية على أن العلم والتعليم والدراسة توجب كون الإنسان ربانيّا، فمن اشتغل بها، لا لهذا المقصود، فقد ضاع سعيه وخاب عمله، وكان مثله مثل من غرس شجرة حسناء مونقة بمنظرها، ولا منفعة بثمرها، ولهذا
قال ﷺ «٢» :«نعوذ بالله من علم لا ينفع وقلب لا يخشع»
- كذا في فتح البيان والرازيّ.
الثالث- قرئ في السبع وَلا يَأْمُرَكُمْ بالرفع على الاستئناف أي ولا يأمركم الله أو النبيّ، وبالنصب عطفا على ثم يقول. و (لا) مزيدة لتأكيد معنى النفي.
(١) أخرجه الترمذيّ في: التفسير، ٩- سورة التوبة، ١٠- حدثنا الحسين بن مرثد.
(٢)
أخرجه مسلم في: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، حديث ٧٣. ونصه: عن زيد بن أرقم قال: لا أقول لكم إلا كما كان رسول الله ﷺ يقول. كان يقول «اللهم! إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل والهرم وعذاب القبر. اللهم! آت نفسي تقواها. وزكها أنت خير من زكاها. أنت وليها ومولاها. اللهم! إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها».
[.....]
341
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٨١]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ، قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي، قالُوا أَقْرَرْنا، قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٨٢]
فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٨٢)
فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ اعلم أن المقصود من هذه الآيات تعديد تقرير الأشياء المعروفة عند أهل الكتاب مما يدل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. قطعا لعذرهم وإظهارا لعنادهم. ومن جملتها ما ذكره الله تعالى في هذه الآية. وهو أنه تعالى أخذ الميثاق من الأنبياء الذين آتاهم الكتاب والحكمة بأنهم كلما جاءهم رسول مصدق لما معهم، وإن كان ناسخا لبعض أحكامهم بما دلت الحكمة على اقتضاء الزمان ذلك، آمنوا به ونصروه أيضا، مبالغة في تشهير أمره. ولا يمنعهم ما هم فيه من العلم والنبوة واتباع شرعه ونصره. وأخبر أنهم قبلوا ذلك، وحكم بأن من رجع عن ذلك كان من الفاسقين. وقد قرئ في السبع بفتح اللام من لَما آتَيْتُكُمْ.
وكسرها، فعلى الأول هي موطئة للقسم، لأن أخذ الميثاق بمعنى الاستحلاف، وما حينئذ تحتمل الشرطية، ولَتُؤْمِنُنَّ سادّ مسد جواب القسم والشرط.
وتحتمل الموصولة بمعنى (للّذي أتيتكموه لتؤمننّ به) وعلى الثاني، أعني كسر اللام فما إما مصدرية أي لأجل إيتائي إياكم الكتاب ثم لمجيء رسول مصدق لكم غير مخالف أخذ الله الميثاق لتؤمنن به ولتنصرنه. وإما موصولة والمعنى أخذه للذي آتيتكموه، وجاءكم رسول مصدق له، وقوله تعالى: فَاشْهَدُوا. أي يا أنبياء، بعضكم على بعض، بالإقرار. وفي قوله تعالى: وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ توكيد عليهم. ومن أمعن في نهج الآية علم أن هذا الميثاق قد بولغ في شأنه غاية المبالغة، وإذا كان هذا الإيجاب مع الأنبياء، فمع أممهم أولى. وقد روي عن عليّ بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهما: ما بعث الله نبيا من الأنبياء إلا أخذ عليه
342
الميثاق لئن بعث الله محمدا، وهو حيّ، ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه. قال ابن كثير: وهذا لا يضادّ ما قاله طاوس والحسن وقتادة: أخذ الله ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم بعضا، بل يستلزمه ويقتضيه، ولهذا روى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه مثل قول عليّ وابن عباس- انتهى- ومن أثر عليّ عليه السلام هذا، فهم بعض العلماء اختصاص هذا الميثاق بنبينا ﷺ كما نقل القاضي عياض في (الشفاء) عن أبي الحسن القابسيّ قال: استخص الله تعالى محمدا بفضل لم يؤته غيره أبانه به. وهو ما ذكره في هذه الآية- انتهى- وقد علمت المراد.
بقي أن الإمام أبا مسلم الأصفهانيّ ذهب إلى أن في قوله تعالى: مِيثاقَ النَّبِيِّينَ. حذف مضاف، أي أممهم، وعبارته: ظاهر الآية يدل على أن الذين أخذ الله الميثاق منهم يجب عليهم الإيمان بمحمد ﷺ عند مبعثه، وكل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يكونون عند مبعث محمد ﷺ من زمرة الأموات، والميت لا يكون مكلفا، فلما كان الذين أخذ عليهم الميثاق يجب عليهم الإيمان بمحمد عليه السلام عند مبعثه، ولا يمكن إيجاب الإيمان على الأنبياء عند مبعث محمد عليه السلام، علمنا أن الذين أخذ الميثاق عليهم ليسوا هم النبيين، بل هم أمم النبيين.
قال: ومما يؤكد هذا أنه تعالى حكم على الذين أخذ عليهم الميثاق، أنهم لو تولوا لكانوا فاسقين، وهذا الوصف لا يليق بالأنبياء عليهم السلام، وإنما يليق بالأمم.
أجاب القفال رحمه الله فقال: لم لا يجوز أن يكون المراد من الآية أن الأنبياء لو كانوا في الحياة لوجب عليهم الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام، ونظيره قوله تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: ٦٥]، وقد علم الله تعالى أنه لا يشرك قط، ولكن خرج هذا الكلام على سبيل التقدير والفرض، فكذا هنا. وقال:
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة: ٤٤- ٤٦]، وقال في صفة الملائكة: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأنبياء: ٢٩]، مع أنه تعالى أخبر عنهم بأنهم: لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء: ٢٧]، وبأنهم:
يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [النحل: ٥٠]. فكل ذلك خرج على سبيل الفرض والتقدير، فكذا هاهنا.
343
ونقول إنه سماهم فاسقين على تقدير التولي، فإن اسم الفسق ليس أقبح من اسم الشرك، وقد ذكر تعالى على سبيل الفرض والتقدير في قوله: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ فكذا هاهنا- نقله الرازيّ-.
ولما بين تعالى أن الإيمان بالنبيّ ﷺ شرع شرعه وأوجبه على جميع من مضى من الأنبياء والأمم، لزم أن كل من كره ذلك فإنه يكون طالبا دينا غير دين الله. فلهذا قال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٨٣]
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣)
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً أي استسلم له من فيهما بالخضوع والانقياد لمراده والجري تحت قضائه، كما قال تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ [الرعد: ١٥]. وقال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ [النحل: ٤٨]. لِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ [النحل: ٤٩].
فالمؤمن مستسلم بقلبه وقالبه لله، والكافر مستسلم له كرها. فإنه تحت التسخير والقهر والسلطان العظيم الذي لا يخالف ولا يمانع- أفاده ابن كثير وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ يوم القيامة فيجزي كلا بعمله، والجملة سيقت للتهديد والوعيد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٨٤]
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤)
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ أي أولاد يعقوب وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ بالإيمان بالبعض والكفر بالبعض، كدأب اليهود والنصارى وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أي منقادون فلا نتخذ أربابا من دونه.
لطيفة:
نكتة الجمع في قوله آمَنَّا بعد الإفراد في قُلْ كون الأمر عامّا، والإفراد لتشريفه عليه الصلاة والسلام، والإيذان بأنه أصل في ذلك. أو الأمر خاص بالإخبار عن نفسه الزكية خاصة. والجمع لإظهار جلالة قدره ورفعة محله بأمره بأن يتكلم عن نفسه على ديدن الملوك.
ثانية:
عدى (أنزل) هنا بحرف الاستعلاء، وفي البقرة بحرف الانتهاء لوجود المعنيين. إذ الوحي ينزل من فوق وينتهي إلى الرسول، فجاء تارة بأحد المعنيين، وأخرى بالآخر، وقال صاحب (اللباب) : الخطاب في البقرة للأمة لقوله: قولوا. فلم يصح إلا (إلى) لأن الكتب منتهية إلى الأنبياء وإلى أمتهم جميعا. وهنا قال (قل)، وهو خطاب للنبيّ ﷺ دون أمته، فكان اللائق به (على) لأن الكتب منزلة عليه لا شركة للأمة فيها.
وفيه نظر، لقوله تعالى: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:
٧٢]- أفاده النسفيّ-.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٨٥]
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٨٥)
وَمَنْ يَبْتَغِ أي يطلب غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً أي غير التوحيد والانقياد لحكم الله تعالى. كدأب المشركين صريحا. والمدعين للتوحيد مع إشراكهم كأهل الكتابين. فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ لأنه لم ينقد لأمر الله. وفي الحديث الصحيح: من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردّ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ لضلاله وجوه الهداية في الدنيا.
قال العلامة أبو السعود: والمعنى أن المعرض عن الإسلام والطالب لغيره فاقد للنفع، واقع في الخسران، بإبطال الفطرة السليمة التي فطر الناس عليها. وفي ترتيب الرد والخسران على مجرد الطلب دلالة على أنه حال من تدين بغير الإسلام واطمأن بذلك أفظع وأقبح- انتهى-.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٨٦]
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦)
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ استبعاد لأن يرشدهم الله للصواب ويوفقهم. فإن الحائد عن الحق، بعد ما وضح له، منهمك في الضلال، بعيد عن الرشاد. وقيل: نفي وإنكار له، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ. والمعنيّ بهذه الآية إما أهل الكتاب والمراد كفرهم بالرسول ﷺ حين جاءهم، بعد إيمانهم به قبل مجيئه، إذ رأوه في كتبهم وكانوا يستفتحون به على المشركين. وبعد شهادتهم بحقية رسالته لكونهم عرفوه كما يعرفون أبناءهم، وجاءهم البينات على صدقه التي آمنوا لمثلها ولما دونها بموسى وعيسى عليهما السلام. فظلموا بحقه الثابت ببيناته وتصديقه الكتب السماوية. وإما المعنيّ بالآية من ارتدّ بعد إيمانه. على ما روي في ذلك كما سنذكره. ثم بين تعالى الوعيد على كلّ بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٨٧]
أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧)
أُولئِكَ أي الموصوفون بما تقدم جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ أي طرده وغضبه وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ المراد بالناس إما المؤمنين أو العموم، فإن الكافر أيضا يلعن منكر الحق والمرتد عنه، فقد لعن نفسه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٨٨]
خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨)
خالِدِينَ فِيها أي في اللعنة أو العقوبة أو النار، وإن لم يجر ذكرهما لدلالة الكلام عليهما. والتخليد في اللعنة على الأول بمعنى أنهم يوم القيامة لا يزال تلعنهم الملائكة والمؤمنون ومن معهم في النار، فلا يخلو شيء من أحوالهم من أن يلعنهم لاعن من هؤلاء، أو بمعنى الخلود في أثر اللعن، لأن اللعن يوجب العقاب، فعبر عن خلود أثر اللعن بخلود اللعن، ونظيره قوله تعالى: مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ
الْقِيامَةِ وِزْراً خالِدِينَ فِيهِ [طه: ١٠٠- ١٠١]، - أفاده الرازيّ- لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ أي لا يمهلون، أو لا ينتظرون ليعتذروا، أولا ينظر نظر رحمة إليهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٨٩]
إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٨٩)
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي الكفر بعد الإيمان وَأَصْلَحُوا أي وضمّوا إلى التوبة الأعمال الصالحة. وفيه أن التوبة وحدها لا تكفي حتى يضاف إليها العمل الصالح فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فيقبل توبتهم ويتفضل عليهم. وهذا من لطفه وبره ورأفته وعائدته على خلقه أن من تاب إليه تاب عليه.
وقد روى ابن جرير «١» عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان رجل من الأنصار أسلم ثم ارتد، ولحق بالشرك ثم ندم، فأرسل إلى قومه: أرسلوا إلى رسول الله ﷺ هل لي من توبة؟ فنزلت: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ. إلى قوله: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. فأرسل إليه قومه فأسلم. وهكذا رواه النسائيّ والحاكم وابن حبان.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وروى عبد الرزاق عن مجاهد قال «٢» : جاء الحارث بن سويد فأسلم مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم كفر الحارث فرجع إلى قومه فأنزل الله فيه: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ. إلى قوله غَفُورٌ رَحِيمٌ. قال فحملها إليه رجل من قومه، فقرأها عليه، فقال الحارث: إنك والله، ما علمت، لصدوق، وإن رسول الله لأصدق منك، وإن الله لأصدق الثلاثة. قال: فرجع الحارث فأسلم فحسن إسلامه.
قال ابن سلامة: فصارت فيه توبة، وفي كل نادم إلى يوم القيامة.
تنبيه:
قال بعض مفسري الزيدية. ثمرة الآية جواز لعن الكفار، وسواء كان الكافر معيّنا أو غير معيّن، على ظاهر الأدلة. وقد قال النوويّ: ظاهر الأحاديث أنه ليس بحرام. وأشار الغزاليّ إلى تحريمه إلا في حق من أعلمنا الله أنه مات على الكفر.
كأبي لهب وأبي جهل وفرعون وهامان وأشباههم. قال: لأنه يدري بما يختم له. وأما الذين لعنهم رسول الله ﷺ بأعيانهم يجوز أنه ﷺ علم موتهم على الكفر. وأما ما
(١) أخرجه ابن جرير: في الأثر: ٧٣٦٠. والنسائي في: تحريم الدم، ١٥- باب توبة المرتد.
(٢) ابن جرير، في الأثر: ٧٣٦٣.
ورد في الترمذيّ «١» عنه صلى الله عليه وسلم: ليس المؤمن بالطعّان ولا اللعّان ولا الفاحش ولا البذيّ.
فقيل: اللعان مثل الضرّاب للمبالغة، والمعنى لا يعتاد اللعن حتى يكثر منه.
ومن ثمرات الآية صحة التوبة من الكافر والعاصي بالردة وغيرها، وذلك إجماع. إلّا توبة المرتد ففيها خلاف شاذ. فعند أكثر العلماء أن توبته مقبولة لهذا الآية وغيرها.
وعند ابن حنبل لا تقبل توبته- رواه عنه في (شرح الإبانة) قيل وهو غلط. ولهذه الآية ولقوله تعالى في سورة النساء: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا [النساء: ١٣٧]. فأثبت إيمانا بعد كفر تقدمه إيمان. ولو تكررت منه الردة صحت توبته أيضا عند جمهور العلماء، لقوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ [الأنفال: ٣٨]. وقال إسحاق بن راهويه: إذا ارتد في الدفعة الثالثة لم تقبل توبته بعد ذلك. أي لظاهر آية النساء- انتهى- قلت: وفي (زاد المستقنع) و (شرحه) : من فقه الحنابلة ما نصه: ولا تقبل توبة من تكررت ردته بل يقتل. لأن ذلك يدل على فساد عقيدته وقلة مبالاته بالإسلام- انتهى- وهو قريب من مذهب إسحاق.
وحكى في (فتح الباري) مثله عن الليث وعن أبي إسحاق المروزيّ من أئمة الشافعية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٩٠]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٩٠)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ أي الذين ضلوا سبيل الحق وأخطئوا منهاجه. وقد أشكل على كثير قوله تعالى لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ مع أن التوبة عند الجمهور مقبولة كما في الآية قبلها، وقوله سبحانه: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ [الشورى: ٢٥]. وغير ذلك.
فأجابوا: بأن المراد عند حضور الموت. قال الواحديّ في (الوجيز) : لن تقبل توبتهم لأنهم لا يتوبون إلا عند حضور الموت، وتلك التوبة لا تقبل- انتهى-، أي كما قال تعالى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ [النساء: ١٨]، الآية. وقيل عدم قبول توبتهم كناية عن عدم توبتهم أي لا يتوبون.
كقوله: أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة: ٦]. وإنما كنى بذلك تغليظا في شأنهم وإبرازا لحالهم في صورة حال الآيسين من الرحمة، وقيل: لأنهم توبتهم لا تكون إلا نفاقا لارتدادهم وازديادهم كفرا. وبقي للمفسرين وجوه أخرى، هي في
(١) الترمذي في: البر والصلة، ٤٨- باب ما جاء في اللعنة.
التأويل أبعد مما ذكر. ولا أرى هذه الآية إلا كآية النساء: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا إلخ. وكلاهما مما يدل صراحة على أن من تكررت ردته لا تقبل توبته، وإلى هذا ذهب إسحاق وأحمد كما قدمنا، وذلك لرسوخه في الكفر. وقد أشار القاشانيّ إلى أن هذه الآية مع التي قبلها يستفاد منها أن الكفرة قسمان في باب العناد، وعبارته عند قوله تعالى: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً: أنكر تعالى هدايته لقوم قد هداهم أولا بالنور الاستعداديّ إلى الإيمان ثم بالنور الإيمانيّ إلى أن عاينوا حقية الرسول وأيقنوا بحيث لم يبق لهم (كذا). وانضم إليه الاستدلال العقليّ بالبينات ثم ظهرت نفوسهم بعد هذه الشواهد كلها بالعناد واللجاج وحجبت أنوار قلوبهم وعقولهم وأرواحهم الشاهدة ثلاثتها بالحق للحق، لشؤم ظلمهم وقوة استيلاء نفوسهم الأمارة عليهم الذي هو غاية الظلم فقال: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، لغلظ حجابهم وتعمقهم في البعد عن الحق وقبول النور. وهم قسمان:
قسم رسخت هيئة استيلاء النفوس الأمارة على قلوبهم فيهم وتمكنت، وتناهوا في الغي والاستشراء، وتمادوا في البعد والعناد، حتى صار ذلك ملكة لا تزول وقسم لم يرسخ ذلك فيهم بعد، ولم يصر على قلوبهم رينا، ويبقى من وراء حجاب النفس مسكة من نور استعدادهم، عسى أن تتداركهم رحمة من الله وتوفيق فيندموا ويستحيوا بحكم غريز العقول. فأشار إلى القسم الأول بقوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ. إلى آخره، وإلى الثاني بقوله: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا، بالمواظبة على الأعمال والرياضات، ما أفسدوا- انتهى-.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٩١]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٩١)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ هذه الآية نظير قوله تعالى في سورة المائدة: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ، وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [المائدة: ٣٦].
وقد روى الإمام أحمد والشيخان «١» عن أنس بن مالك أن النبيّ ﷺ قال: يقال للرجل من أهل
(١) أخرجه، في قريب من هذا اللفظ، البخاريّ في: الرقاق، ٥١- باب صفة الجنة والنار.
ومسلم في: صفات المنافقين وأحكامهم، حديث ٥١.
349
النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديا به؟ قال:
فيقول نعم، فيقول الله: قد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر أبيك آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك!
وفي رواية للإمام أحمد «١» عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يؤتى بالرجل من أهل الجنة فيقول له: يا ابن آدم! كيف وجدت منزلك؟ فيقول: أي رب! خير منزل، فيقول: سل وتمنّ، فيقول: ما أسأل ولا أتمنى إلا أن تردني إلى الدنيا فأقتل في سبيلك عشر مرات- لما يرى من فضل الشهادة- ويؤتى بالرجل من أهل النار فيقول له: يا ابن آدم! كيف وجدت منزلك؟ فيقول: أي رب! شر منزل، فيقول له: أتفتدي منه بطلاع الأرض ذهبا؟
فيقول: أي رب! نعم. فيقول: كذبت! قد سألتك أقل من ذلك وأيسر فلم تفعل.
فيردّ إلى النار.
ولهذا قال أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ أي من منقذ من عذاب الله ولا مجير من أليم عقابه.
لطيفة:
في قوله تعالى وَلَوِ افْتَدى بِهِ قال صاحب الانتصاف: إن هذه الواو المصاحبة للشرط تستدعي شرطا آخر، يعطف عليه الشروط المقترنة به ضرورة.
والعادة في مثل ذلك أن يكون المنطوق به منبها على المسكوت عنه بطريق الأولى.
مثاله: قولك أكرم زيدا ولو أساء، فهذه الواو عطفت المذكور على محذوف تقديره:
أكرم زيدا لو أحسن ولو أساء، إلا أنك نبهت بإيجاب إكرامه وإن أساء على أن إكرامه إن أحسن بطريق الأولى. ومنه: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ [النساء: ١٣٥]. معناه- والله أعلم- لو كان الحق على غيركم ولو كان عليكم، ولكنه ذكر ما هو أعسر عليهم فأوجبه تنبيها على ما هو أسهل وأولى بالوجوب، فإذا تبين مقتضى الواو في مثل هذه المواضع وجدت آية آل عمران هذه مخالفة لهذا النمط ظاهرا. لأن قوله: وَلَوِ افْتَدى بِهِ. يقتضي شرطا آخر محذوفا يكون هذا المذكور منبها عليه بطريق الأولى. وهذه الحال المذكورة، وهي حالة افتدائهم بملء الأرض ذهبا، هي حالة أجدر الحالات بقبول الفدية، وليس وراءها حالة أخرى تكون أولى بالقبول منها، فلذلك قدر الزمخشريّ الكلام بمعنى: لن يقبل من أحد منهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهبا. حتى تبين حالة أخرى يكون الافتداء الخاص بملء الأرض ذهبا هو أولى بالقبول منها، فإذا انتفى حيث كان أولى
(١) أخرجه الإمام أحمد في المسند، بالجزء الثالث، صفحة ٢٠٨.
350
فلأن ينتفي فيما عدا هذه الحالة أولى فهذا كله بيان للباعث له على التقدير المذكور. وأما تنزيل الآية عليه فعسر جدا، فالأولى ذكر وجه يمكن تطبيق الآية عليه على أسهل وجه وأقرب مأخذ إن شاء الله. فنقول: قبول الفدية التي هي ملء الأرض ذهبا يكون على أحوال:
منها- أن يؤخذ منه على وجه القهر فدية عن نفسه كما تؤخذ الدية قهرا من مال القاتل على قول.
ومنها- أن يقول المفتدي في التقدير: أفدى نفسي بكذا- وقد لا يفعل- ومنها- أن يقول هذا القول وينجز المقدار الذي يفدي به نفسه ويجعله حاضرا عتيدا، وقد يسلمه مثلا لمن يأمن منه قبول فديته.
وإذا تعددت الأحوال فالمراد في الآية أبلغ الأحوال وأجدرها بالقبول، وهو أن يفتدي بملء الأرض ذهبا افتداء محققا، بأن يقدر على هذا الأمر العظيم ويسلمه وينجزه اختيارا، ومع ذلك لا يقبل منه. فمجرد قوله: أبذل المال وأقدر عليه، أو ما يجري هذا المجرى بطريق الأولى، فيكون دخول الواو والحالة هذه على بابها تنبيها على أن ثمّ أحوالا أخر لا ينفع فيها القبول بطريق الأولى بالنسبة إلى الحالة المذكورة. وقد ورد هذا المعنى مكشوفا في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ، وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [المائدة: ٣٦]، - والله أعلم- وهذا كله تسجيل بأنه لا محيص ولا مخلص لهم من الوعيد، وإلا فمن المعلوم أنهم أعجز عن الفلس في ذلك اليوم.
ونظير هذا التقدير من الأمثلة أن يقول القائل: لا أبيعك هذا الثوب بألف دينار ولو سلمتها إليّ في يدي هذه. فتأمل هذا النظر فإنه من السهل الممتنع والله وليّ التوفيق- انتهى-.
وثمة وجه ثان وهو أن المراد ولو افتدى بمثله معه كما صرح به في تلك الآية، فالمعنى لا يقبل ملء الأرض فدية، ولو زيد عليه مثله، والمثل يحذف كثيرا في كلامهم، كقولك: ضربته ضرب زيد، تريد مثل ضربه. وأبو يوسف أبو حنيفة:
تريد مثله. وقضية ولا أبا حسن لها، أي ولا مثل أبي حسن. كما أنه يراد في نحو قولهم: مثلك لا يفعل كذا، تريد: أنت. وذلك أن المثلين يسد أحدهما مسد الآخر، فكانا في حكم شيء واحد، وعلى هذا الوجه يجري الكلام على التأويل المتقدم لأنه نبه بعدم قبول مثلي ملء الأرض ذهبا على عدم قبول ملئها مرة واحدة بطريق الأولى.
351
ووجه ثالث: وهو أن لا يحمل (ملء الأرض) أولا على الافتداء بل على التصدق، ولا يكون الشرط المذكور من قبيل ما يقصد به تأكيد الحكم السابق، بل يكون شرطا محذوف الجواب، ويكون المعنى: لا يقبل منه ملء الأرض ذهبا تصدق به، ولو افتدى به أيضا لم يقبل منه. وضمير (به) للمال من غير اعتبار وصف التصدق.
ووجه رابع: وهو أن الواو زيدت لتأكيد النفي. فتبصر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٩٢]
لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٩٢)
لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ استئناف خطاب للمؤمنين سيق لبيان ما ينفعهم ويقبل منهم، إثر بيان ما لا ينفع الكفرة ولا يقبل منهم، أي لن تبلغوا حقيقة البر، وتلحقوا بزمرة الأبرار. بناء على أن تعريف البر للجنس. أو لن تنالوا بر الله سبحانه وتعالى وهو ثوابه وجنته، إذا كان للعهد، حتى تنفقوا في سبيل الله تعالى مما تحبون، أي تهوونه ويعجبكم من كرائم أموالكم، كما في قوله تعالى:
أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ [البقرة: ٢٦٧]
وقد روى الشيخان «١» عن أنس بن مالك قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالا من نخل، وكان أحب أمواله إلى بيرحاء وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله ﷺ يدخلها ويشرب من ماء فيها طيّب
. قال أنس: فلما أنزلت هذه الآية لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ قام أبو طلحة إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله! إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وإن أحب أموالي إليّ بيرحاء، وإنها صدقة لله عز وجل أرجو برها وذخرها عند الله. فضعها يا رسول الله حيث أراك الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بخ بخ. ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت. وإني أرى أن تجعلها في الأقربين، قال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله. فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه
- (وبيرحا روى بكسر الباء وفتحها وفتح الراء وضمها والمد والقصر، وهو اسم حديقة بالمدينة- وفي الفائق: إنها فيعلى من البراح، وهو الأرض الظاهرة. وبخ بخ كلمة استحسان ومدح كررت للتأكيد، ورابح بالموحدة أي ذو ربح، وبالمثناة التحتية أي يروح عليك نفعه وثوابه).
(١) أخرجه البخاريّ في: الزكاة، ٤٤- باب الزكاة على الأقارب، حديث ٧٧٦.
ومسلم في: الزكاة، حديث ٤٢.
وفي الصحيحين «١» أن عمر قال: يا رسول الله! لم أصب مالا قط هو أنفس عندي من سهمي الذي هو بخيبر، فما تأمرني به؟ قال: حبس الأصل وسبل الثمرة.
وروى الحافظ أبو بكر البزار أن عبد الله بن عمر قال: حضرتني هذه الآية لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ فذكرت ما أعطاني الله، فلم أجد شيئا أحب إليّ من جارية لي رومية، فقلت: هي حرة لوجه الله، فلو أني أعود في شيء جعلته لله، لنكحتها. يعني تزوجتها.
تنبيه:
قال القاشانيّ، في هذه الآية: كل فعل يقرب صاحبه من الله فهو بر، ولا يمكن التقرب إليه إلا بالتبرؤ عما سواه، فمن أحب شيئا فقد حجب عن الله تعالى به، وأشرك شركا خفيّا، لتعلق محبته بغير الله، كما قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة: ١٦٥]، وآثر نفسه به على الله، فقد بعد من الله بثلاثة أوجه. وهي محبة غير الحق، والشرك، وإيثار النفس على الحق فإن آثر الله به على نفسه وتصدق به وأخرجه من يده فقد زال البعد، وحصل القرب، وإلا بقي محجوبا، وإن أنفق من غيره أضعافه، فما نال برّا لعلمه تعالى بما ينفق وباحتجابه بغيره.
وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ أي فمجازيكم عليه، قليلا كان أو كثيرا، جيدا أو غيره.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٩٣]
كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٣)
كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قال الزمخشريّ: المعنى أن المطاعم كلها لم تزل حلالا لبني إسرائيل من قبل إنزال التوراة، وتحريم ما حرم عليهم منها لظلمهم وبغيهم، لم يحرم منها شيء قبل ذلك غير المطعوم الواحد الذي حرمه أبوهم إسرائيل على نفسه، فتبعوه على تحريمه.
(١) أخرجه في المسند حديث ٥١٧٩.
353
تنبيهات:
الأول- روي، فيما حرمه إسرائيل على نفسه، أنه لحوم الإبل وألبانها، رواه الإمام أحمد في قصة، والترمذيّ وقال: حسن غريب. وروى عن ابن عباس والضحاك والسدّيّ وغيرهم موقوفا عليهم أنه العروق. قالوا: كان يعتريه عرق النسا بالليل فيزعجه، فنذر لئن عوفي لا يأكل عرقا، ولا يأكل ولد ماله عرق، فاتبعه بنوه في إخراج العروق من اللحم استنانا به، واقتداء بطريقه. قال الرازيّ: ونقل القفال رحمه الله عن ترجمة التوراة أن يعقوب لما خرج من حران إلى كنعان بعث بردا إلى أخيه عيسو إلى أرض ساعير، فانصرف الرسول إليه وقال: إن عيسو هو ذا يتلقاك ومعه أربعمائة رجل، فذعر يعقوب وحزن جدا، فصلى ودعا، وقدم هدايا لأخيه، وذكر القصة، إلى أن ذكر الملك الذي لقيه في صورة رجل، فدنا ذلك الرجل، ووضع إصبعه على موضع عرق النسا، فخدرت تلك العصبة وجفت، فمن أجل هذا لا يأكل بنو إسرائيل العروق- انتهى- قلت: والقصة مسوقة في سفر التكوين من التوراة في الأصحاح الثاني والثلاثين.
الثاني: التحريم المذكور، على الرواية الأولى، أعني لحوم الإبل وألبانها، فكان تبرّرا وتعبدا وتزهدا وقهرا للنفس، طلبا لمرضاة الحق تعالى. وعلى الثانية فإما وفاء بالنذر وإما تداويا وإما لكونه يجد نفسه تعافه- والله أعلم- فالتحريم بمعنى الامتناع.
الثالث: قال الزمخشريّ: الآية رد على اليهود وتكذيب لهم حيث أرادوا براءة ساحتهم مما نعى عليهم في قوله تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ، وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما، إلى قوله: ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ [الأنعام: ١٤٦]. وجحود ما غاظهم واشمأزوا منه، وامتعضوا مما نطق به القرآن من تحريم الطيبات عليهم لبغيهم وظلمهم. فقالوا لسنا بأول من حرمت عليه، وما هو إلا تحريم قديم، كانت محرمة على نوح وعلى إبراهيم ومن بعده من بني إسرائيل وهلم جرا. إلى أن انتهى التحريم إلينا فحرمت علينا كما حرمت على من قبلنا. وغرضهم تكذيب شهادة الله عليهم بالبغي والظلم والصد عن سبيل الله وأكل الربا وأخذ أموال الناس بالباطل وما عدد من مساوئهم- انتهى-.
قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي في دعواكم أنه تحريم قديم.
وفي أمره ﷺ بأن يحاجهم بكتابهم ويبكتهم بما هو ناطق به من أن تحريم ما حرم
354
عليهم حادث لا قديم، كما يدعونه- أعظم برهان على صدقه وكذبهم إذ لم يجسروا على إخراج التوراة. فبهتوا وانقلبوا صاغرين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٩٤]
فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤)
فَمَنِ افْتَرى
أي تعمد عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ
أي في أمر المطاعم وغيرها مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
لتعرضهم إلى أن يهتكهم تعالى ويعذبهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٩٥]
قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥)
قُلْ صَدَقَ اللَّهُ تعريض بكذبهم، أي ثبت أن الله صادق فيما أنزل وأنتم الكاذبون فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ أي ملة الإسلام التي عليها محمد صلى الله عليه وسلم. ومن آمن معه والتي هي في الأصل ملة إبراهيم عليه السلام حتى تتخلصوا من اليهودية التي ورطتكم في فساد دينكم ودنياكم حيث اضطرتكم إلى تحريف كتاب الله لتسوية أغراضكم وألزمتكم تحريم الطيبات التي أحلها الله لإبراهيم ولمن تبعه حَنِيفاً أي مائلا عن الأديان الزائغة وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ تعريض بما في اليهودية والنصرانية من شرك إثبات الولد أو إلهية عيسى، فكيف يزعمون أنهم على ملته، وما كان يدعو إلا إلى التوحيد والبراءة عن كل معبود سوى الله تعالى وهو الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٩٦]
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦)
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ أي لنسكهم وعباداتهم لَلَّذِي بِبَكَّةَ أي للبيت الذي ببكة، أي فيها. وفي ترك الموصوف من التفخيم ما لا يخفى. وبكة لغة في مكة، فإن العرب تعاقب بين الباء والميم كما في قولهم (ضربة لازب ولازم) و (النميط والنبّيط) في اسم موضع بالدهناء، وقولهم (أمر راتب وراتم) و (أغبطت الحمى وأغمطت). وقيل: مكة البلد، وبكة موضع المسجد، سميت بذلك لدقها أعناق الجبابرة، فلم يقصدها جبار إلا قصمه الله تعالى، أو لازدحام الناس بها من (بكّه) إذا فرقه ووضعه وإذا زاحمه، كما أن مكة من (مكّه) أهلكه ونقصه.
لأنها تهلك من ظلم فيها وألحد وتنقص الذنوب أو تنفيها- كما في القاموس- وقد ذهب بعضهم إلى أن مكة هي (ميشا) أو (ماسا) المذكورة في التوراة، وآخر إلى أنه مأخوذ من اسم واحد من أولاد إسماعيل وهو (مسّا). مُبارَكاً أي كثير الخير، لما يحصل لمن حجه، واعتمره واعتكف عنده وطاف حوله، من الثواب وتكفير الذنوب وَهُدىً لِلْعالَمِينَ لأنه قبلتهم ومتعبدهم.
تنبيه:
ذكر بعض المفسرين أن المراد بالأولية كونه أولا في الوضع والبناء، ورووا في ذلك آثارا. منها أنه تعالى خلق هذا البيت قبل أن يخلق شيئا من الأرضين، ومنها أنه تعالى بعث ملائكة لبناء بيت في الأرض على مثال البيت المعمور، وذلك قبل خلق آدم، ومنها أنه أول بيت وضع على وجه الماء عند خلق السماء والأرض، وأنه خلق قبل الأرض بألفي عام. وليس في هذه الآثار خبر صحيح يعول عليه. والمتعين أن المراد أول بيت وضع مسجدا. كما بيّنه
رواية ابن أبي حاتم عن عليّ رضي الله عنه في هذه الآية قال: كانت البيوت قبله، ولكنه أول بيت وضع لعبادة الله تعالى.
وفي الصحيحين «١» عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله: أيّ مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: المسجد الحرام، قلت: ثم أيّ؟ قال: المسجد الأقصى، قلت:
كم كان بينهما؟ قال: أربعون سنة، ثم أينما أدركتك الصلاة بعد فصلّه. فإن الفضل فيه.
قال ابن القيم في (زاد المعاد) : وقد أشكل هذا الحديث على من لم يعرف المراد به، فقال: معلوم أن سليمان بن داود الذي بنى المسجد الأقصى. وبينه وبين إبراهيم أكثر من ألف عام. وهذا من جهل القائل، فإن سليمان إنما كان له من المسجد الأقصى تجديده لا تأسيسه، والذي أسسه هو يعقوب بن إسحاق صلى الله عليهما وسلم، بعد بناء إبراهيم عليه السلام بهذا المقدار. انتهى-.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٩٧]
فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧)
فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وهو الحجر الذي قام عليه عند رفعه قواعد
(١) أخرجه البخاريّ في: الأنبياء، ١٠- حدثنا موسى بن إسماعيل حديث ١٥٨٩.
ومسلم في: المساجد ومواضع الصلاة، حديث ١.
356
البيت. قال ابن كثير: وقد كان ملتصقا بجدار البيت حتى أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه في إمارته إلى ناحية الشرق، بحيث يتمكن الطّوّاف منه، ولا يشوشون على المصلين عنده بعد الطواف، لأن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة عنده، حيث قال:
وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى [البقرة: ١٢٥]، وتقدم الكلام على ذلك في سورة البقرة. قال المفسرين: ثمرة الآية الترغيب في زيارة البعض الحرم وفعل الطاعات فيه، لأنه تعالى وصفه بالبركة والهدى وجعل فيه آيات بينات.
لطيفة:
مقام إبراهيم مبتدأ حذف خبره، أي منها مقام إبراهيم، أو بدل من آيات، بدل البعض من الكل، أو عطف بيان، إما وحده باعتبار كونه بمنزلة آيات كثيرة لظهور شأنه وقوة دلالته على قدرة الله تعالى وعلى نبوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، كقوله تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً أو باعتبار اشتماله على آيات كثيرة. قالوا: فإن كل واحد من أثر قدميه في صخرة صماء، وغوصه فيها إلى الكعبين وإلانة بعض الصخور دون بعض، وإبقاءه دون سائر آيات الأنبياء عليهم السلام، وحفظه، مع كثرة الأعداء، ألوف سنة، آية مستقلة. ويؤيده قراءة (آية بينة) على التوحيد، وإما بما يفهم من قوله عز وجل:
وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً فإنه وإن كان جملة مستأنفة ابتدائية أو شرطية، لكنها في قوة أن يقال (وأمن من دخله) فتكون، بحسب المعنى والمآل، معطوفة على مقام إبراهيم، ولا يخفى أن الاثنين نوع من الجمع فيكتفى بذلك، أو يحمل على أنه ذكر من تلك الآيات اثنتان وطوى ذكر ما عداهما دلالة على كثرتها- أفاده أبو السعود. قال المهايميّ: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ رمي الطير أصحاب الفيل بحجارة من سجيل، وتعجيل عقوبة من عتا فيه، وإجابة دعاء من دعا تحت ميزابه، وإذعان النفوس لتوقيره من غير زاجر، ومن أعظمها. النازل منزلة الكل، مقام إبراهيم، الحجر الذي قام عليه عند رفعه قواعد البيت، كلما علا الجدار ارتفع الحجر في الهواء، ثم لين، فغرقت فيه قدماه، كأنهما في طين، فبقي أثره إلى يوم القيامة. ومن آياته أن من دخله كان آمنا من نهب العرب وقتالهم، وقد أمن صيده وأشجاره. قال أبو السعود:
ومعنى أمن داخله أمنه من التعرض له كما في قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت: ٦٧]، وذلك بدعوة إبراهيم عليه السلام: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً [إبراهيم: ٣٥]، وكان الرجل لو جرّ كل جريرة
357
ثم لجأ إلى الحرم لم يطلب. وعن عمر رضي الله عنه: لو ظفرت فيه بقاتل الخطاب ما مسسته حتى خرج عنه.
تنبيه:
ما أفادته الآية من إثبات الأمان لداخله إنما هو بتحريمه الشرعيّ الذي وردت به الآيات، وأوضحته الأحاديث والآثار.
ففي الصحيحين «١»، واللفظ لمسلم، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ يوم فتح مكة: لا هجرة، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا.
وقال يوم فتح مكة «٢» : إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته، إلا من عرفها، ولا يختلى خلاها. فقال العباس: يا رسول الله إلّا الإذخر، فإنه لقينهم ولبيوتهم، فقال: إلّا الإذخر. ولهما عن أبي هريرة مثله أو نحوه
ولهما «٣»، واللفظ لمسلم أيضا، عن أبي شريح العدويّ أنه قال لعمرو بن سعيد، وهو يبعث البعوث إلى مكة، ائذن لي أيها الأمير أن أحدثك قولا قام به رسول الله ﷺ الغد من يوم الفتح، سمعته أذناي، ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي، حين تكلم به، إنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن مكة حرمها الله، ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما أو يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله ﷺ فيها فقولوا له: إن الله أذن لنبيه ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب. فقيل لأبي شريح: ما قال لك؟ قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح. إن الحرم لا يعيذ عاصيا، ولا فارّا بدم، ولا فارّا بخربة.
قال الإمام ابن القيّم في (زاد المعاد) :
قوله فلا يحل لأحد أن يسفك بها دما،
هذا التحريم لسفك الدم المختص بها، وهو الذي يباح في غيرها، ويحرم فيها، لكونها حرما، كما أن تحريم عضد الشجرة بها واختلاء خلائها والتقاط لقطتها، هو أمر مختص بها، وهو مباح في غيرها، إذ الجميع في كلام واحد، ونظام واحد، وإلا
(١) أخرجه البخاريّ في: الجهاد، ٢٧- باب وجود النفير، حديث ٧١٠.
ومسلم في: الحج، حديث ٤٤٥.
(٢) أخرجه البخاريّ في: جزاء الصيد، ١٠- باب لا يحل القتال بمكة، حديث ٧١٠.
ومسلم في: الحج، حديث ٤٤٥.
(٣) أخرجه البخاريّ في: العلم، ٣٧- باب ليبلغ العلم الشاهد الغائب، حديث ٨٩.
ومسلم في: الحج، حديث ٤٤٦.
358
بطلت فائدة التخصيص، وهذا أنواع:
أحدها: وهو الذي ساقه أبو شريح العدويّ لأجله، أن الطائفة الممتنعة بها من مبايعة الإمام لا تقاتل لا سيما إن كان لها تأويل. كما امتنع أهل مكة من مبايعة يزيد، وبايعوا ابن الزبير. فلم يكن قتالهم ونصب المنجنيق عليهم وإحلال حرم الله جائزا بالنص والإجماع، وإنما خالف في ذلك عمرو بن سعيد الفاسق وشيعته، وعارض نص رسول الله ﷺ برأيه وهواه
فقال: إن الحرم لا يعيذ عاصيا
، فيقال له: هو لا يعيذ عاصيا من عذاب الله، ولو لم يعذه من سفك دمه لم يكن حرما بالنسبة إلى الآدميين، وكان حرما بالنسبة إلى الطير والحيوان البهيم، وهو لم يزل يعيذ العصاة من عهد إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه، وقام الإسلام على ذلك، وإنما لم يعد مقيس ابن صبابة وابن خطل ومن سمي معهما لأنه في تلك الساعة لم يكن حرما بل حلّا، فلما انقضت ساعة الحرب عاد إلى ما وضع عليه يوم خلق الله السموات والأرض.
وكانت العرب في جاهليتها، يرى الرجل قاتل أبيه أو ابنه في الحرم فلا يهيجه، وكان ذلك بينهم خاصة الحرم الذي صار بها حرما. ثم جاء الإسلام فأكد ذلك وقواه، وعلم النبيّ ﷺ أن من الأمة من يتأسى به في إحلاله بالقتال والقتل، فقطع الإلحاق وقال لأصحابه: «فإن أحد ترخص لقتال رسول الله ﷺ فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لك»، وعلى هذا فمن أتى حدّا أو قصاصا خارج الحرم يوجب القتل، ثم لجأ إليه، لم يجز إقامته عليه فيه. وذكر الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لو وجدت فيه قاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه. وذكر عن عبد الله ابن عمر أنه قال: لو وجدت فيه قاتل عمر ما بدهته. وعن ابن عباس أنه قال: لو لقيت قاتل أبي في الحرم ما هجته حتى يخرج منه، وهذا قول جمهور التابعين ومن بعدهم، بل لا يحفظ عن تابعيّ ولا صحابيّ خلافه. وإليه ذهب أبو حنيفة رحمه الله ومن وافقه من أهل العراق، والإمام أحمد ومن وافقه من أهل الحديث. وذهب مالك والشافعيّ إلى أنه يستوفي منه في الحرم كما يستوفي منه في الحل، وهو اختيار ابن المنذر، واحتج لهذا القول بعموم النصوص الدالة على استيفاء الحدود والقصاص في كل مكان وزمان، وبأن النبيّ ﷺ قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة «١»، وبما
(١)
أخرجه البخاريّ في: جزاء الصيد، ١٨- باب دخول الحرم ومكة بغير إحرام، حديث ٩٣٣ ونصه:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ دخل عام الفتح وعلى رأسه المغفر. فلما نزعه جاء رجل فقال: إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة. فقال «اقتلوه»
.
359
يروى عن النبيّ ﷺ أنه قال: إن الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارّا بدم ولا بخربة
، وبأنه لو كان الحدود والقصاص فيما دون النفس لم يعذه الحرم، ولم يمنعه من إقامته عليه، وبأنه لو أتى فيه بما يوجب حدّا أو قصاصا لم يعذه الحرم ولم يمنع من إقامته، فكذلك إذا أتاه خارجه ثم لجأ إليه، إذ كونه حرما بالنسبة إلى عصمته لا يختلف بين الأمرين، وبأنه حيوان أبيح قتله لفساده، فلم يفترق الحال بين قتله لاجئا إلى الحرم وبين كونه قد أوجب ما أبيح قتله فيه، كالحية والحدأة والكلب العقور،
ولأن النبيّ ﷺ قال «١» : خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم
. فنبه بقتلهن في الحل والحرم على العلة- وهي فسقهن- ولم يجعل التجاءهن إلى الحرم مانعا من قتلهن، وكذلك فاسق بني آدم الذي قد استوجب القتل. قال الأولون: ليس في هذا ما يعارض ما ذكرنا من الأدلة، ولا سيما قوله تعالى وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وهذا إما خبر بمعنى الأمر لاستحالة الخلف في خبره تعالى، وإما خبر عن شرعه ودينه الذي شرعه في حرمه، وإما إخبار عن الأمر المعهود المستمر في حرمه في الجاهلية والإسلام كما قال تعالى:
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت: ٦٧].
وقوله تعالى: وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا، أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ [القصص: ٥٧].
وما عدا هذا من الأقوال الباطلة فلا يلتفت إليه كقول بعضهم: من دخله كان آمنا من النار، وقوله بعضهم: كان آمنا من الموت على غير الإسلام، ونحو ذلك، فكم ممن دخله وهو في قعر الجحيم. وأما العمومات الدالة على استيفاء الحدود والقصاص في كل زمان ومكان فيقال أولا: لا تعرض في تلك العمومات لزمان الاستيفاء ولا مكانه، كما لا تعرض فيها لشروطه وعدم موانعه، فإن اللفظ لا يدل عليها بوضعه، ولا بتضمنه فهو مطلق بالنسبة إليها، ولهذا إذا كان للحكم شرط أو مانع لم يقل إن توقف الحكم عليه تخصيص لذلك العام، فلا يقول محصّل إن قوله تعالى: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ [النساء: ٢٤]. مخصوص بالمنكوحة في عدتها أو بغير إذن وليّها، أو بغير شهود، فهكذا النصوص العامة في استيفاء الحدود والقصاص لا تعرض فيها لزمنه ولا مكانه ولا شرطه ولا مانعه، ولو قدر تناول اللفظ
(١)
أخرجه البخاريّ في: جزاء الصيد، ٧- باب ما يقتل المحرم من الدواب، ونصه: عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله ﷺ قال «خمس من الدواب كلهنّ فاسق يقتلن في الحرم: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور».
ومسلم في: الحج، حديث ٦٧.
360
لذلك لوجب تخصيصه بالأدلة الدالة على المنع، لئلا يبطل موجبها، ووجب حمل اللفظ العام على ما عداها كسائر نظائره، وإذا خصصتم تلك العمومات بالحامل والمرضع والمريض الذي يرجى برؤه، والحال المحرّمة للاستيفاء كشدة المرض أو البرد أو الحر، فما المانع من تخصيصها بهذه الأدلة؟ وإن قلتم ليس ذلك تخصيصا بل تقييدا لمطلقها كلنا لكم هذا الصاع سواء بسواء. وأما قتل ابن خطل فقد تقدم أنه كان في وقت الحل، وإن النبيّ ﷺ قطع الإلحاق، ونص على أن ذلك من خصائصه،
وقوله صلى الله عليه وسلم: وإنما أحلت لي ساعة من نهار
، صريح في أنه إنما أحل له سفك دم حلال في غير الحرم في تلك الساعة خاصة، إذ لو كان حلالا في كل وقت، لم يختص بتلك الساعة، وهذا صريح في أن الدم الحلال في غيرها حرام فيها، فيما عدا تلك الساعة. وأما
قوله: الحرم لا يعيذ عاصيا
، فهو من كلام الفاسق عمرو بن سعيد الأشدق، يردّ به حديث رسول الله ﷺ حين روى له أبو شريح الكعبيّ هذا الحديث، كما جاء مبينا في الصحيح، فكيف يقدم على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وأما قولكم: لو كان الحد والقصاص فيما دون النفس لم يعذه الحرم منه، فهذه المسألة فيها قولان للعلماء وهما روايتان منصوصتان عن الإمام أحمد رحمه الله، فمن منع الاستيفاء نظر إلى عموم الأدلة العاصمة بالنسبة إلى النفس وما دونها، ومن فرق قال سفك الدم إما ينصرف إلى القتل ولا يلزم من تحريمه في الحرم تحريم ما دونه، لأن حرمة النفس أعظم، والانتهاك بالقتل أشد، قالوا: ولأن الحد بالجلد أو القطع يجري مجرى التأديب، فلم يمنع منه كتأديب السيد عبده. وظاهر هذا المذهب أنه لا فرق بين النفس وما دونها في ذلك. قال أبو بكر: هذه مسألة وجدتها لحنبل عن عمه: أن الحدود كلها تقام في الحرم إلا القتل، قال: والعمل على أن كل جان دخل الحرم لم يقم عليه الحد حتى يخرج منه، قالوا: وحينئذ فنجيبكم بالجواب المركب، وهو أنه إن كان بين النفس وما دونها في ذلك فرق مؤثر بطل الإلزام، وإن لم يكن بينهما فرق مؤثر سوينا بينهما في الحكم وبطل الاعتراض، فتحقق بطلانه على التقديرين. قالوا:
وأما قولكم إن الحرم لا يعيذ من هتك فيه الحرمة إذ أتى بما يوجب الحد، فكذلك اللاجئ إليه، فهو جمع بين ما فرق الله ورسوله والصحابة بينهما. فروى الإمام أحمد، حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال: من سرق أو قتل في الحد ثم دخل الحرم فإنه لا يجالس ولا يكلم ولا يؤوى حتى يخرج فيؤخذ فيقام عليه الحد. وإن سرق أو قتل في الحرم أقيم عليه في الحرم. وذكر الأثرم عن ابن عباس أيضا: من أحدث حدثا في الحرم أقيم عليه ما أحدث فيه من شيء، وقد أمر
361
الله سبحانه بقتل من قاتل في الحرم فقال وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ، فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ. والفرق بين اللاجئ والمتهتك فيه من وجوه:
أحدها: أن الجاني فيه هاتك لحرمته بإقدامه على الجناية فيه، بخلاف من جنى خارجه ثم لجأ إليه فإنه معظّم لحرمته مستشعر بها بالتجائه إليه، فقياس أحدهما على الآخر باطل.
الثاني: أن الجاني فيه بمنزلة المفسد الجاني على بساط الملك في داره وحرمه، ومن جنى خارجه ثم لجأ إليه فإنه بمنزلة من جنى خارج بساط الملك وحرمه ثم دخل إلى حرمه مستجيرا.
الثالث: أن الجاني في الحرم قد هتك حرمة الله سبحانه وحرمة بيته وحرمه فهو هاتك لحرمتين بخلاف غيره.
الرابع: أنه لو لم يقم الحد على الجناة في الحرم لعم الفساد وعظم الشر في حرم الله، فإن أهل الحرم كغيرهم في الحاجة إلى نفوسهم وأموالهم وأعراضهم، ولو لم يشرع الحد في حق من ارتكب الجرائم في الحرم لتعطلت حدود الله وعم الضرر للحرم وأهله.
والخامس: أن اللاجئ إلى الحرم بمنزلة التائب المتنصل اللاجئ إلى بيت الرب تعالى المتعلق بأستاره، فلا يناسب حاله ولا حال بيته وحرمه أن يهاج، بخلاف المقدم على انتهاك حرمته.
فظهر سر الفرق، وتبين أن ما قاله ابن عباس هو محض الفقه. وأما قولكم إنه حيوان مفسد فأبيح قتله في الحل والحرم كالكلب العقور فلا يصح القياس، فإن الكلب العقور طبعه الأذى، فلم يحرمه الحرم ليدفع أذاه عن أهله. وأما الآدميّ فالأصل فيه الحرمة وحرمته عظيمة، فإنما أبيح لعارض فأشبه الصائل من الحيوانات المباحة من المأكولات، فإن الحرم يعصمها، وأيضا فإن حاجة أهل الحرم إلى قتل الكلب العقور والحية والحدأة كحاجة أهل الحل سواء، فلو أعاذها الحرم لعظم عليهم الضرر بها- انتهى. (من الجزء الثاني من صفحة ١٧٧ إلى صفحة ١٨٠].
ولما ذكر تعالى فضائل البيت ومناقبه أردفه بذكر إيجاب الحج فقال وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا اللام في البيت للعهد. وحجه: قصده
362
للزيارة بالنسك المعروف. وكسر الحاء وفتحها لغتان، وهما قراءتان سبعيتان، وفي الآية مباحث:
الأول: في إعرابها قال أبو السعود في صدر الآية: جملة من مبتدأ هو حِجُّ الْبَيْتِ وخبر هو لِلَّهِ وقوله تعالى عَلَى النَّاسِ متعلق بما تعلق به الخبر من الاستقرار، أو بمحذوف هو حال من الضمير المستكن في الجار، والعامل فيه ذلك الاستقرار، ويجوز أن يكون عَلَى النَّاسِ هو الخبر، ولِلَّهِ متعلق بما تعلق به الخبر. ثم قال في قوله تعالى مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا في محل الخبر على أنه بدل من النَّاسِ بدل البعض من الكل مخصص لعمومه، فالضمير العائد إلى المبدل منه محذوف، أي (من استطاع منهم)، وقيل بدل الكل على أن المراد بالناس هو البعض المستطيع، فلا حاجة إلى الضمير، وقيل في محل الرفع على أنه خبر مبتدأ مضمر، أي هم من استطاع، وقيل في حيز النصب بتقدير أعني.
الثاني: هذه الآية هي آية وجوب الحج عند الجمهور، وقيل بل هي قوله وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة: ١٩٦]، والأول أظهر. وفي فتح البيان: اللام في قوله لِلَّهِ هي التي يقال لها لام الإيجاب والإلزام، ثم زاد هذا المعنى تأكيدا حرف عَلَى فإنه من أوضح الدلالات على الوجوب عند العرب، كما إذا قال القائل:
لفلان عليّ كذا. فذكره الله سبحانه بأبلغ ما يدل على الوجوب تأكيدا لحقه، وتعظيما لحرمته. وقد وردت الأحاديث المتعددة بأنه أحد أركان الإسلام ودعائمه وقواعده، وأجمع المسلمون على ذلك إجماعا ضروريا.
الثالث: يجب الحج على المكلف في العمر مرة واحدة. بالنص والإجماع
روى الإمام أحمد ومسلم «١» وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله ﷺ فقال: «أيها الناس إنه فرض الله عليكم الحج فحجوا. فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت. حتى قالها ثلاثا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم. ثم قال: ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه».
وروى الإمام أحمد وأبو داود «٢» والنسائيّ وغيرهم عن ابن عباس قال:
(١) أخرجه مسلم في: الحج، حديث ٤١٢. [.....]
(٢) رواه الإمام أحمد في المسند، حديث ٢٣٠٤.
وأبو داود في: المناسك، ١- باب فرض الحج، حديث ١٧٢١.
363
خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: «يا أيها الناس! إن الله كتب عليكم الحج. فقام الأقرع ابن حابس فقال: يا رسول الله أفي كل عام؟ فقال: لو قلتها لوجبت، ولو وجبت لم تعملوا بها ولن تستطيعوا أن تعملوا بها. الحج مرة، فمن زاد فهو تطوع».
الرابع: استطاعة السبيل عبارة عن إمكان الوصول إليه. قال ابن المنذر: اختلف العلماء في قوله تعالى مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا فقالت طائفة: الآية على العموم، إذ لا نعلم خبرا ثابتا عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، ولا إجماعا لأهل العلم يوجب أن نستثني من ظاهر الآية بعضا، فعلى كل مستطيع للحج يجد إليه السبيل بأي وجه كانت الاستطاعة، الحجّ. على ظاهر الآية. قال: وروينا عن عكرمة أنه قال: الاستطاعة الصحة. وقال الضحاك: إذا كان شابا صحيحا ليس له مال فليؤجر نفسه بأكله وعقبه حتى يقضي نسكه. فقال له قائل: أكلف الله الناس أن يمشوا إلى البيت؟ فقال: لو كان لبعضهم ميراث بمكة أكان يتركه؟ قال: لا، بل ينطلق إليه ولو حبوا، قال: فكذلك يجب عليه حج البيت. وقال مالك: الاستطاعة على إطاقة الناس، الرجل يجد الزاد والراحلة ولا يقدر على المشي، وآخر يقدر على المشي على رجليه. وقالت طائفة:
الاستطاعة الزاد والراحلة، كذلك قال الحسن وسعيد بن جبير ومجاهد وأحمد بن حنبل، واحتجوا
بحديث ابن عمر أن رجلا قال: يا رسول الله ما يوجب الحج؟ قال:
الزاد والراحلة- رواه الترمذيّ
- وفي إسناده الخوزي فيه مقال. قال ابن كثير: لكن قد تابعه غيره. وقد اعتنى الحافظ أبو بكر بن مردويه بجمع طرق هذا الحديث.
ورواه الحاكم من حديث قتادة عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سئل عن قول الله عز وجل:
مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا. فقيل: ما السبيل؟ قال: الزاد والراحلة
، ثم قال: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه.
الخامس: قال الإمام ابن القيّم الدمشقيّ رضي الله عنه في (زاد المعاد) في سياق هديه صلّى الله عليه وسلم في حجته: لا خلاف أنه لم يحج بعد هجرته إلى المدينة سوى حجة واحدة، وهي حجة الوداع، ولا خلاف أنها كانت سنة عشر، واختلف هل حج قبل الهجرة؟
وروى الترمذيّ «١» عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: حج النبيّ صلّى الله عليه وسلم ثلاث حجج: حجتين قبل أن يهاجر، وحجة بعد ما هاجر، معها عمرة. قال الترمذيّ:
(١) أخرجه الترمذيّ في: الحج، ٦- باب ما جاء: كم حجّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم.
364
هذا حديث غريب من حديث سفيان. قال: وسألت محمدا- يعني البخاريّ- عن هذا فلم يعرفه من حديث الثوريّ. وفي رواية: لا يعد هذا الحديث محفوظا. ولما نزل فرض الحج بادر رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى الحج من غير تأخير، فإن فرض الحج تأخر إلى سنة تسع أو عشر. وأما قوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ، فإنها، وإن نزلت سنة ست عام الحديبية، فليس فيها فريضة الحج، وإنما فيها الأمر بإتمامه وإتمام العمرة بعد الشروع فيهما، وذلك لا يقتضي وجوب الابتداء. فإن قيل: فمن أين لكم تأخر نزول فرضه إلى التاسعة أو العاشرة؟ قيل: لأن صدر سورة آل عمران نزل عام الوفود، وفيه قدم وقد نجران على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وصالحهم على أداء الجزية، والجزية إنما نزلت عام تبوك سنة تسع، وفيها نزل صدر سورة آل عمران، وناظر أهل الكتاب ودعاهم إلى التوحيد والمباهلة. ويدل عليه أن أهل مكة وجدوا في نفوسهم لما فاتهم من التجارة من المشركين لما أنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا، فأعاضهم الله تعالى من ذلك بالجزية. ونزول هذه الآيات والمناداة بها إنما كان في سنة تسع. وبعث الصدّيق يؤذن بذلك في مكة في مواسم الحج وأردفه بعليّ رضي الله عنه، وهذا الذي ذكرناه قد قاله غير واحد من السلف والله أعلم. وقوله تعالى:
وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ إما مستأنف لوعيد من كفر به تعالى، لا تعلق له بما قبله، وإما أنه متعلق به ومنتظم معه، وهو أظهر وأبلغ. والكفر، على هذا، إما بمعنى جحد فريضة الحج، أو بمعنى ترك ما تقدم الأمر به. ونظيره في السنة ما
رواه النسائيّ والترمذيّ «١» عن بريدة مرفوعا: العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر
. وعن عبد الله بن شقيق قال «٢» : كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة- أخرجه الترمذيّ-
ولأبي داود «٣» عن جابر مرفوعا: بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة.
ولفظ مسلم «٤» : بين الرجل وبين الشرك ترك الصلاة.
وروى الترمذيّ «٥» عن عليّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله
(١) أخرجه النسائي في: الصلاة، ٨- باب الحكم في تارك الصلاة.
والترمذيّ في: الإيمان، ٩- باب ما جاء في ترك الصلاة.
(٢) أخرجه الترمذيّ في: الإيمان، ٩- باب ما جاء في ترك الصلاة.
(٣) أخرجه أبو داود في: السنة، ١٥- باب الدليل على الزيادة والنقصان حديث ٤٦٧٨.
(٤) أخرجه مسلم في: الإيمان، حديث ١٣٤.
(٥) أخرجه الترمذيّ في: الحج، ٣- باب ما جاء في التغليظ في ترك الحج.
365
صلى الله عليه وسلم: من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج، فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا
، وذلك أن الله تعالى يقول: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا. قال الترمذيّ: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وفي إسناده مقال. وقد روى الحافظ أبو بكر الإسماعيليّ عن عمر بن الخطاب قال: من أطاق الحج فلم يحج، فسواء عليه مات يهوديا أو نصرانيا. قال ابن كثير: إسناده صحيح إلى عمر رضي الله عنه. وروى سعيد بن منصور في سننه عن الحسن البصريّ قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لقد هممت أن أبعث رجلا إلى هذه الأمصار، فينظروا إلى كل من كان عنده جدة فلم يحج، فيضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين. قال السيوطيّ في (الإكليل) : وقد استدل بظاهر الآية ابن حبيب على أن من ترك الحج، وإن لم ينكره، كفر. ثم قال: وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر: من كان يجد وهو موسر صحيح ولم يحج، كان سيماه بين عينيه كافر، ثم تلا هذه الآية.
تنبيه:
هذه الآية الكريمة حازت من فنون الاعتبارات المعربة عن كمال الاعتناء بأمر الحج والتشديد على تاركه ما لا مزيد عليه، فمنها الإتيان ب (اللّام وعلى) في قوله:
وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ. يعني أنه حق واجب لله في رقاب الناس لا ينفكون عن أدائه والخروج عن عهدته ومنها أنه ذكر (الناس) ثم أبدل عنه مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، وفيه ضربان من التأكيد: أحدهما- أن الإبدال تثنية للمراد وتكرير له.
والثاني- أن الإيضاح بعد الإبهام، والتفصيل بعد الإجمال إيراد له في صورتين مختلفتين.
ومنها قوله وَمَنْ كَفَرَ مكان (من لم يحج) تغليظا على تارك الحج. ومنها ذكر الاستغناء عنه. وذلك مما يدل على المقت والسخط والخذلان. ومنها قوله:
عَنِ الْعالَمِينَ، ولم يقل: عنه. وما فيه من الدلالة على الاستغناء عنه ببرهان، لأنه إذا استغنى عن العالمين تناوله الاستغناء لا محالة، ولأنه يدل على الاستغناء الكامل، فكان أدل على عظم السخط الذي وقع عبارة عنه- أشار لذلك الزمخشريّ- ثم عنف تعالى كفرة أهل الكتاب على عنادهم للحق بقوله:
366
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٩٨]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (٩٨)
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ أي الدالة على نبوة محمد ﷺ وقوله: وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ حال مفيدة لتشديد التوبيخ. وإظهار الجلالة في موضع الإضمار لتربية المهابة وتهويل الخطب. وصيغة المبالغة في (شهيد) لتأكيد الوعيد، وكل ذلك موجب لعدم الاجتراء على ما يأتونه. ثم عقب تعالى الإنكار عليهم في ضلالهم توبيخهم في إضلالهم فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٩٩]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٩)
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي عن دينه. وكانوا يحتالون لصدهم عن الإسلام مَنْ آمَنَ مفعول (تصدون) قدم عليه الجار والمجرور للاهتمام به تَبْغُونَها على الحذف والإيصال، أي تبغون لها، أي لسبيل الله التي هي أقوم السبل عِوَجاً أي اعوجاجا وزيغا وتحريفا. قال ابن الأنباريّ: البغي يقتصر له على مفعول واحد إذا لم يكن معه اللام، كقولك: بغيت المال والأجر والثواب، وأريد هاهنا: تبغون لها عوجا ثم أسقطت اللام. كما قالوا: وهبتك درهما، أي وهبت لك درهما، ومثله صدتك ظبيا، أي صدت لك ظبيا، وأنشد:
فتولى غلامهم ثم نادى أظليما أصيدكم أم حمارا
أراد: أصيد لكم.
قال الرازيّ: وفي الآية وجه آخر، وهو أن يكون (عوجا) في موضع الحال.
والمعنى تبغونها ضالين، وذلك أنهم كانوا يدّعون أنهم على دين الله وسبيله، فقال تعالى: إنكم تبغون سبيل الله ضالين، وعلى هذا القول لا يحتاج إلى الحذف والإيصال.
وذكر ناصر الدين في (الانتصاف) وجها آخر قال: هو أتم معنى، وهو أن تجعل الهاء هي المفعول به، و (عوجا) حال وقع فيها المصدر الذي هو (عوجا) موقع الاسم، وفي هذا الإعراب من المبالغة أنهم يطلبون أن تكون الطريقة المستقيمة
نفس العوج. على طريقة المبالغة في مثل رجل صوم، ويكون ذلك أبلغ في ذمهم وتوبيخهم- والله أعلم- وَأَنْتُمْ شُهَداءُ بأنها سبيل الله والصد عنها ضلال وإضلال وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ تهديد ووعيد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٠٠]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (١٠٠)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي بحسن اعتقادكم فيهم لكونهم أهل الكتاب يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ أي بالتوحيد والنبوة كافِرِينَ لأنهم يحسدون المؤمنين على ما آتاهم الله من فضله، كما قال تعالى:
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ.. [البقرة: ١٠٩] الآية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٠١]
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١)
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ معنى الاستفهام فيه الإنكار والتعجيب. والمعنى: من أين يتطرق لكم الكفر؟ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وهي القرآن المعجز الذي هو أجلّ من الآيات المتلوّة عليهم وَفِيكُمْ رَسُولُهُ ينبهكم ويعظكم ويزيح شبهكم، وقد هداكم من الضلالة، وأنقذكم من الجهالة وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي من يتمسك بدينه الحق الذي بيّنه بآياته على لسان رسوله، وهو الإسلام والتوحيد، المعبر عنه بسبيل الله، فهو على هدى لا يضل متبعه. قال الزمخشريّ: ويجوز أن يكون حثّا لهم على الالتجاء إليه في دفع شرور الكفار ومكايدهم- انتهى- فالجملة حينئذ تذييل لقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا... إلخ، لأن مضمونه أنكم إن تطيعوهم لخوف شرورهم ومكايدهم، فلا تخافوهم، والتجئوا إلى الله في دفع ذلك، لأن من التجأ إليه كفاه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٠٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ أي حق تقواه، وذلك بدوام خشيته ظاهرا وباطنا والعمل بموجبها. وروى الحافظ ابن أبي حاتم بإسناد صحيح عن عبد الله بن مسعود أنه قال في معنى الآية: هو أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر. ورواه ابن مردويه والحاكم مرفوعا، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
قال ابن كثير: والأظهر أنه موقوف- والله أعلم-.
وروي عن أنس أنه قال: لا يتقي العبد الله حق تقاته حتى يخزن لسانه. وقال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية: (أن يجاهدوا في سبيل الله حق جهاده ولا تأخذهم في الله لومة لائم. ويقوموا بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم).
أقول: كل ما روي، مما تشمله الآية بعمومها، فلا تنافي.
تنبيه:
زعم بعضهم أن هذه الجملة من الآية منسوخة بآية: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: ١٦]، متأولا حق تقاته بأن يأتي العبد بكل ما يجب لله ويستحقه. قال: فهذا يعجز العبد عن الوفاء، فتحصيله ممتنع. وهذا الزعم لم يصب المحزّ، فإن كلّا من الآيتين سيق في معنى خاص به، فلا يتصور أن يكون في هذه الجملة طلب ما لا يستطاع من التقوى، بل المراد منها دوام الإنابة له تعالى وخشيته وعرفان جلاله وعظمته قلبا وقالبا، كما بينا. وهذا من المستطاع لكل منيب. وقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ. أمر بعبادته قدر الاستطاعة بلا تكليف لما لا يطاق، إذ: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة: ٢٨٦]. وظاهر أن من أتى بما يستطيعه من عبادته تعالى وأناب لجلاله، وأخلص في أعماله، وكان مشفقا في طاعاته، فقد اتقى الله حق تقاته. وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أي مخلصون نفوسكم لله تعالى. لا تجعلون فيها شركة لما سواه أصلا، كما في قوله تعالى:
وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [النساء: ١٢٥]. وهو استثناء مفرغ من أعمّ الأحوال، أي لا تموتن على حال من الأحوال، إلا حال تحقق إسلامكم وثباتكم عليه، كما ينبئ عنه الجملة الاسمية. ولو قيل (إلا مسلمين) لم يفد فائدتها.
والعامل في الحال ما قبل (إلا) بعد النقض. وظاهر النظم الكريم، وإن كان نهيا عن الموت المقيد بقيد، هو الكون على أي حال غير حال الإسلام- لكن المقصود هو النهي عن ذلك القيد عند الموت المستلزم للأمر بضده الذي هو الكون على حال الإسلام حينئذ. وحيث كان الخطاب للمؤمنين، كان المراد إيجاب الثبات على الإسلام إلى الموت. وتوجيه النهي إلى الموت للمبالغة في النهي عن قيده المذكور.
فإن النهي عن المقيد في أمثاله، نهي عن القيد ورفع له من أصله بالكلية، مفيد لما لا يفيده النهي عن نفس القيد. فإن قولك: لا تصلّ إلا وأنت خاشع، يفيد من المبالغة في إيجاب الخشوع في الصلاة ما لا يفيده قولك: لا تترك الخشوع في الصلاة. لما أن هذا نهي عن ترك الخشوع فقط، وذاك نهي عنه وعما يقارنه، ومفيد لكون الخشوع هو العمدة في الصلاة، وأن الصلاة بدونه حقها أن لا تفعل. وفيه نوع تحذير عما وراء الموت- أفاده أبو السعود-.
وقد مضى في سورة البقرة الكلام على لون آخر من سر البلاغة في هذه الجملة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٠٣]
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣)
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا الحبل إما بمعنى العهد، كما قال تعالى في الآية بعدها: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ [آل عمران: ١١٢]. أي بعهد وذمة، وإما بمعنى القرآن، كما في صحيح مسلم «١» عن زيد بن أرقم أن رسول الله ﷺ قال: ألا وإني تارك فيكم ثقلين أحدهما
(١)
أخرجه مسلم في: فضائل الصحابة، حديث ٣٦ ونصه: عن يزيد بن حيان قال: انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم. فلما جلسنا إليه قال له حصين: لقد لقيت، يا زيد، خيرا كثيرا. رأيت رسول الله ﷺ وسمعت حديثه، وغزوت معه، وصليت خلفه، لقد لقيت، يا زيد، خيرا كثيرا. حدثنا، يا زيد، ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: يا ابن أخي، والله! لقد كبرت سني، وقدم عهدي، ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فما حدثتكم فاقبلوا. وما لا، فلا تكلفونيه. ثم قال: قام رسول الله ﷺ فينا خطيبا، بماء يدعى خمّا، بين مكة والمدينة، فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ وذكر. ثم قال «أما بعد. ألا أيها الناس. فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب. وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما، كتاب الله فيه
370
كتاب الله هو حبل الله، من اتبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على ضلالة...
الحديث، والوجهان متقاربان، فإن عهده أي شرعه ودينه وكتابه حرز للمتمسك به من الضلالة، كالحبل الذي يتمسك به خشية السقوط، وقوله وَلا تَفَرَّقُوا أي لا تتفرقوا عن الحق بوقوع الاختلاف بينكم، كما اختلف اليهود والنصارى، أو كما كنتم متفرقين في الجاهلية، متدابرين، يعادي بعضكم بعضا، ويحاربه. أو ولا تحدثوا ما يكون عنه التفرق، ويزول معه الاجتماع والألفة التي أنتم عليها مما يأباه جامعكم والمؤلف بينكم، وهو اتباع الحق والتمسك بالإسلام- أفاده الزمخشريّ- وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً قال الزمخشريّ: كانوا في الجاهلية بينهم الإحن والعداوات والحروب المتواصلة، فألف الله بين قلوبهم بالإسلام، وقذف فيها المحبة، فتحابوا وتوافقوا وصاروا إخوانا متراحمين متناصحين مجتمعين على أمر واحد، قد نظم بينهم وأزال الاختلاف، وهو الأخوة في الله وَكُنْتُمْ عَلى شَفا أي طرف حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ بما كنتم فيه من الجاهلية فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها أي بالإسلام. قال ابن كثير: وهذا السياق في شأن الأوس والخزرج، فإنه كان بينهم حروب كثيرة في الجاهلية وعداوة شديدة وضغائن وإحن طال بسببها قتالهم، والوقائع بينهم. فلما جاء الله بالإسلام، فدخل فيه من دخل منهم، صاروا إخوانا متحابين بجلال الله، متواصلين في ذات الله، متعاونين على البر والتقوى. قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ [الأنفال: ٦٢- ٦٣] الآية- وكانوا على شفا حفرة من النار، بسبب كفرهم، فأنقذهم الله منها، إذ هداهم للإيمان. وقد امتن عليهم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم قسم غنائم حنين، فعتب من عتب منهم، بما فضل عليهم في القسمة، بما أراه الله، فخطبهم
الهدى والنور. فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به» فحث على كتاب الله ورغّب فيه. ثم قال «وأهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي». فقال له حصين: ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته. ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده. قال: ومن هم؟ قال: هم: آل عليّ، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس.
قال: كل هؤلاء حرم الصدقة؟ قال: نعم.
وفي الحديث رقم ٣٧ قال: «ألا وإني تارك فيكم ثقلين:
أحدهما كتاب الله، هو حبل الله، من اتبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على ضلال»
. وفيه:
فقلنا له: من هم أهل بيته؟ نساؤه؟ قال: لا. وأيم الله، إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها. أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده.
371
فقال «١» : يا معشر الأنصار! ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي؟ فكلما قال شيئا قالوا: الله ورسوله أمنّ-
انتهى-.
لطيفة:
قال الزمخشريّ: الضمير في: منها. للحفرة أو للنار أو للشّفا، وإنما أنث لإضافته إلى الحفرة، وهو منها كما قال:
كما شرقت صدر القناة من الدم- انتهى- وقال أبو حيان: لا يحسن عوده إلا إلى الشفا، لأنه المحدّث عنه- انتهى-.
وفي الانتصاف: يجوز عود الضمير إلى الحفرة، فلا يحتاج إلى تأويله المذكور، كما تقول: أكرمت غلام هند، وأحسنت إليها، والمعنى على عوده إلى الحفرة أتم، لأنها التي يمتنّ بالانقاذ منها حقيقة، وأما الامتنان بالانقاذ من الشفا، فلما يستلزمه الكون على الشفا غالبا من الهويّ إلى الحفرة، فيكون الإنقاذ من الشفا إنقاذا من الحفرة التي يتوقع الهويّ فيها. فإضافة المنة إلى الإنقاذ من الحفرة تكون أبلغ وأوقع. مع أنّ اكتساب التأنيث من المضاف إليه قد عده أبو عليّ في (التعاليق) من ضرورة الشعر، خلاف رأيه في (الإيضاح) - نقله ابن يسعون- وما حمل الزمخشريّ على إعادة الضمير إلى الشفا إلا أنه هو الذي كانوا عليه، ولم يكونوا في الحفرة حتى يمتن عليهم بالانقاذ منها. وقد بينا في أدراج هذا الكلام ما يسوغ الامتنان عليهم بالانقاذ من الحفرة، لأنهم كانوا صائرين إليها غالبا، لولا
(١)
أخرجه البخاريّ في: المغازي، ٥٦- باب عزوة الطائف في شوال سنة ثمان، حديث ١٩٣١ ونصه:
عن عبد الله بن زيد بن عاصم قال: لما أفاء الله على رسوله صلّى الله عليه وسلم، يوم حنين، قسم في الناس في المؤلفة قلوبهم ولم يعط الأنصار شيئا. فكأنهم وجدوا، إذ لم يصبهم ما أصاب الناس. فخطبهم فقال: «يا معشر الأنصار: ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟
وعالة فأغناكم الله بي؟ كلما قال شيئا، قالوا: الله ورسوله أمنّ. قال «ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟»
قال كلما قال شيئا قالوا: الله ورسوله أمنّ. قال «لو شئتم قلتم: جئتنا كذا وكذا.
أترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون بالنبيّ صلّى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟ لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار. ولو سلك الناس واديا وشعبا لسلكت وادي الأنصار وشعبها. الأنصار شعار والناس دثار. إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض»
.
وأخرجه مسلم في: الزكاة، حديث ١٣٩
.
372
الإنقاذ الربانيّ. ألا ترى إلى
قوله صلّى الله عليه وسلم «١» : الراتع حول الحمى يوشك أن يواقعه؟
وإلى قوله تعالى: أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ [التوبة: ١٠٩]. وانظر كيف جعل تعالى كون البنيان على الشفا سببا مؤديا إلى انهياره في نار جهنم، مع تأكيد ذلك بقوله هارٍ. والله أعلم- انتهى-.
ثم قال الزمخشريّ: وشفا الحفرة وشفتها حرفها، بالتذكير والتأنيث، ولامها واو إلا أنها في المذكر مقلوبة، وفي المؤنث محذوفة. ونحو الشفا والشفة، الجانب والجانبة- انتهى.
وحكى الزجاج في تثنية شفا (شفوان). قال الأخفش لما لم تجز فيه الإمالة عرف أنه من الواو، لأنه الإمالة من الياء- كذا في الصحاح.
ثم قال الزمخشريّ: فإن قلت: كيف جعلوا على حرف حفرة من النار؟ قلت:
لو ماتوا على ما كانوا عليه وقعوا في النار، فمثلت حياتهم التي يتوقع بعدها الوقوع في النار، بالقعود على حرفها مشفين على الوقوع فيها.
قال الرازيّ: وهذا فيه تنبيه على تحقير مدة الحياة، فإنه ليس بين الحياة وبين الموت المستلزم للوقوع في الحفرة، إلا ما بين طرف الشيء وبين ذلك الشيء.
كَذلِكَ أي مثل ذلك البيان يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ في كل مكان لإنقاذكم عن الضلال فيه لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ لرشدكم الدينيّ والدنيويّ فيه. ثم أشار إلى أنه كما أنقذكم من النار والضلال بإرسال الرسل وإنزال الآيات، فليكن فيكم من ينقذ إخوانه، فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٠٤]
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤)
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ أي جماعة، سميت بذلك لأنها يؤمها فرق الناس، أي
(١)
أخرجه البخاريّ في: البيوع، ٢- باب الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما مشبهات: عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال النبيّ صلّى الله عليه وسلم «الحلال بيّن والحرامّ بيّن وبينهما أمور مشتبهة. فمن ترك ما شبه عليه من الإثم كان لما استبان أترك. ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان. والمعاصي حمى الله. من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه».
373
يقصدونها ويقتدون بها يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وهو ما فيه صلاح دينيّ ودنيويّ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ أي بكل معروف، من واجب ومندوب يقربهم إلى الجنة ويبعدهم عن النار وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ أي عن كل منكر، من حرام ومكروه يقربهم إلى النار ويبعدهم من الجنة وَأُولئِكَ الداعون الآمرون الناهون هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بأجور أعمالهم وأعمال من تبعهم.
قال بعضهم: الفلاح هو الظفر وإدراك البغية. فالدنيويّ هو إدراك السعادة التي تطيب بها الحياة، والأخرويّ أربعة أشياء: بقاء بلا فناء، وعز بلا ذل، وغنى بلا فقر، وعلم بلا جهل.
لطيفة:
قيل: عطف: وَيَأْمُرُونَ على ما قبله، من عطف الخاص على العام- كذا قاله الزمخشريّ. وناقشه في الانتصاف. وعبارته: عطف الخاص على العام يؤذن بمزيد اعتناء بالخاص لا محالة إذا اقتصر على بعض متناولات العام، كقوله: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [البقرة: ٩٨]. وكقوله: فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ [الرحمن: ٦٨]. وكقوله: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى [البقرة: ٢٣٨]. وشبه ذلك. لأن الاقتصار على تخصيص ما يفرد بالذكر يفيده تمييزا عن غيره من بقية المتناولات. وأما هذه الآية فقد ذكر، بعد العام فيها، جميع ما يتناوله، إذ الخير المدعوّ إليه إما فعل مأمور، أو ترك منهيّ، لا يعدو واحدا من هذين حتى يكون تخصيصها يميزها عن بقية المتناولات، فالأولى في ذلك أن يقال: فائدة هذا التخصيص ذكر الدعاء إلى الخير عامّا ثم مفصلا. وفي تنبيه أن الذكر على وجهين مالا يخفى من العناية- والله أعلم- إلا أن يثبت عرف بخصّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ببعض أنواع الخير، فإذ ذاك يتم مراد الزمخشريّ، وما أرى هذا العرف ثابتا- والله أعلم- انتهى.
تنبيه:
وفي الآية دليل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووجوبه ثابت بالكتاب والسنة، وهو من أعظم واجبات الشريعة المطهرة، وأصل عظيم من أصولها، وركن مشيد من أركانها، وبه يكمل نظامها ويرتفع سنامها- كذا في فتح البيان.
قال الغزاليّ رضي الله عنه: في هذه الآية بيان الإيجاب. فإن قوله تعالى وَلْتَكُنْ أمر. وظاهر الأمر الإيجاب، وفيها بيان أن الفلاح منوط به، إذ حصر وقال وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وفيها بيان أنه فرض كفاية لا فرض عين، وأنه إذا قام به أمة
374
سقط الفرض عن الآخرين. إذ لم يقل: كونوا كلكم آمرين بالمعروف. بل قال:
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ. فإذا، مهما قام به واحد أو جماعة سقط الحرج عن الآخرين، واختص الفلاح بالقائمين به المباشرين. وإن تقاعد عنه الخلق أجمعون، عمّ الحرج كافة القادرين عليه لا محالة. انتهى.
فإن قلت: فمن يباشره؟ فالجواب: كل مسلم تمكن منه ولم يغلب على ظنه أنه إن أنكر لحقته مضرة عظيمة، أو إن نهيه لا يؤثر، لأنه عبث، إلا أنه يستحب لإظهار شعار الإسلام، وتذكير الناس بأمر الدين. فإن قلت: فمن يؤمر وينهى؟ قلت:
كل مكلف، وغير المكلف إذا همّ بضرر غيره منع، كالصبيان والمجانين، وينهى الصبيان عن المحرمات حتى لا يتعودوها، كما يؤخذون بالصلاة ليمرنوا عليها- ذكره الزمخشريّ-.
وتفصيل هذا البحث في (الإحياء) للغزاليّ قدس سره، وقد قال، قدس سره، في طليعة ذلك البحث ما نصه: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طوي بساطه وأهمل عمله لتعطلت النبوّة، واضمحلت الديانة، وعمّت الفترة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد، وهلك العباد، وإن لم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد، وقد كان الذي خفنا أن يكون، إنا لله وإنا إليه راجعون، إذ قد اندرس من هذا القطب عمله وعلمه، وانمحى بالكلية حقيقته ورسمه، واستولت على القلوب مداهنة الخلق، وانمحت عنها مراقبة الخالق، واسترسل الناس في اتباع الهوى والشهوات استرسال البهائم، وعزّ على بساط الأرض مؤمن صادق لا تأخذه في الله لومة لائم، فمن سعى في تلافي هذه الفترة، وسد هذه الثلمة، إما متكفلا بعملها، أو متقلدا لتنفيذها، مجددا لهذه السنة الداثرة، ناهضا بأعبائها، ومتشمرا في إحيائها، كان مستأثرا من بين الخلق بإحياء سنة أفضى الزمان إلى إماتتها، ومستبدّا بقربة تتضاءل درجات القرب دون ذروتها- انتهى-.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٠٥]
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٥)
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ
375
عَظِيمٌ
ينهى تعالى عباده أن يكونوا كاليهود والنصارى في افتراقهم مذاهب، واختلافهم عن الحق بسبب اتباع الهوى، وطاعة النفس، والحسد، حتى صار كل فريق منهم يصدق من الأنبياء بعضا دون بعض، ويدعو إلى ما ابتدعه في دينه، فصاروا إلى العداوة والفرقة من بعد ما جاءتهم الآيات الواضحة، المبينة للحق، الموجبة للاتفاق على كلمة واحدة، وهي كلمة الحق. فالنهي متوجه إلى المتصدين للدعوة أصالة، وإلى أعقابهم تبعا. وفي قوله تعالى: وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ من التأكيد والمبالغة في وعيد المتفرقين، والتشديد في تهديد المشبهين بهم، مالا يخفى.
تنبيهات:
الأول: ذكر الفخر الرازيّ من وجوه قوله تعالى: اخْتَلَفُوا أي بأن صار كل واحد منهم يدّعي أنه على الحق، وأن صاحبه على الباطل. ثم قال: وأقول إنك إذا أنصفت علمت أن أكثر علماء هذا الزمان صاروا موصوفين بهذه الصفة، فنسأل الله العفو والرحمة- انتهى كلامه- وقوله (هذا الزمان) إشارة إلى أن هذا الحال لم يكن في علماء السلف، وما زالوا يختلفون في الفروع وفي الفتاوى بحسب ما قام لديهم من الدليل، وما أداه إليه اجتهادهم، ولم يضلل بعضهم بعضا، ولم يدّع أحدهم أنه على الصواب الذي لا يحتمل الخطأ وأن مخالفه على خطأ لا يحتمل الصواب، وإنما نشأ هذا من جمود المقلدة المتأخرين وتعصبهم وظنهم عصمة مذهبهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وقد تفرق أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم في البلاد، وصار عند كل قوم علم غير ما عند الآخرين، وهم على وحدتهم وتناصرهم.
الثاني: قال القاشانيّ: يعني ب «الآيات» الحجج العقلية والشرعية الموجبة لاتحاد الوجهة، واتفاق الكلمة، فإن للناس طبائع وغرائز مختلفة، وأهواء متفرقة، وعادات وسيرا متفاوتة، مستفادة من أمزجتهم وأهويتهم، ويترتب على ذلك فهوم متباينة، وأخلاق متعادية، فإن لم يكن لهم مقتدى وإمام، تتحد عقائدهم وسرهم وآراؤهم بمتابعته، وتتفق كلماتهم وعاداتهم وأهواؤهم بمحبته وطاعته، كانوا مهملين متفرقين، فرائس للشيطان، كشريدة الغنم، تكون للذئب. ولهذا
قال أمير المؤمنين عليه السلام: لا بد للناس من إمام، بر أو فاجر
. ولم يرسل نبيّ الله صلّى الله عليه وسلم رجلين فصاعدا لشأن، إلا وأمّر أحدهما على الآخر، وأمر الآخر بطاعته ومتابعته، ليتحد الأمر، وينتظم، وإلا وقع الهرج والمرج، واضطرب أمر الدين والدنيا، واختل
376
نظام المعاش والمعاد.
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «١» : من فارق الجماعة قيد شبر لم ير بحبوحة الجنة.
وقال «٢» : الله مع الجماعة
. ألا ترى أن الجمعية الإنسانية إذا لم تنضبط برئاسة القلب، وطاعة العقل، كيف اختل نظامها، وآلت إلى الفساد والتفرق، الموجب لخسار الدنيا والآخرة. ولما نزل قوله تعالى: وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ،
خط رسول الله صلّى الله عليه وسلم خطّا فقال «٣» : هذا سبيل الرشد، ثم خط عن يمينه وشماله خطوطا فقال: هذه سبل، على كل سبيل شيطان يدعو إليه.
الثالث: قال شيخ الإسلام تقيّ الدين ابن تيمية، قدس سره، في أول كتابه (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) : وليعلم أنه ليس أحد من الأئمة المقبولين عند الأمة قبولا عامّا يعتقد مخالفة رسول الله صلّى الله عليه وسلم في شيء من سنته، دقيق ولا جليل، فإنهم متفقون اتفاقا يقينيّا على وجوب اتباع الرسول، وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك، إلا الرسول صلّى الله عليه وسلم. ولكن إذا وجد لواحد منهم قول، قد جاء حديث صحيح بخلافه، فلا بد له من عذر في تركه، وجماع الأعذار ثلاثة أصناف:
أحدها- عدم اعتقاده أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قاله، الثاني- عدم اعتقاده أنه أراد تلك المسألة بذلك القول، الثالث- اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ.
وهذه الأصناف الثلاثة تتفرع إلى أسباب متعددة- ثم أوسع المقال في ذلك.
وذكر قدس سره، في بعض فتاويه، أن السلف والأئمة الأربعة والجمهور يقولون: الأدلة بعضها أقوى من بعض في نفس الأمر. وعلى الإنسان أن يجتهد
(١)
أخرجه البخاريّ في: الفتن، ٢- باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: سترون بعدي أمورا تنكرونها، حديث ٢٥٤٦ ونصه: عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبيّ ﷺ قال «من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه، فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات إلا مات ميتة جاهلية»
. (٢)
أخرجه الترمذيّ في: الفتن، ٧- باب ما جاء في لزوم الجماعة، ونصه: عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال: «إن الله لا يجمع أمتي، (أو قال أمة محمد صلى الله عليه وسلم) على ضلالة، ويد الله مع الجماعة، ومن شذّ شذّ إلى النار».
(٣)
أخرجه الدارميّ في: المقدمة، ٢٣- باب في كراهية أخذ الرأي ونصه: عن عبد الله بن مسعود: خط لنا رسول الله ﷺ يوما خطّا ثم قال «هذا سبيل الله» ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله ثم قال «هذه سبل. على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه». ثم تلا: وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ.
[.....]
377
ويطلب الأقوى. فإذا رأى دليلا أقوى من غيره، ولم ير ما يعارضه، عمل به، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها. وإذا كان في الباطن ما هو أرجح منه كان مخطئا معذورا، وله أجر على اجتهاده وعمله بما بين له رجحانه، وخطؤه مغفور له، وذلك الباطن هو الحكم، لكن بشرط القدرة على معرفته، فمن عجز عن معرفته لم يؤاخذ بتركه، فإذا أريد بالخطإ الإثم، فليس المجتهد بمخطئ، بل كل مجتهد مصيب، مطيع لله، فاعل ما أمره الله به، وإذا أريد له عدم العلم بالحق في نفس الأمر، فالمصيب واحد، وله أجران. كما في المجتهدين في جهة الكعبة، إذا صلوا إلى أربع جهات، فالذي أصاب الكعبة واحد، وله أجران لاجتهاده وعمله، كان أكمل من غيره، والمؤمن «١» القوىّ أحب إلى الله من المؤمن الضعيف، ومن زاده الله علما وعملا زاده الله أجرا بما زاده من العلم والعمل، قال تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ، نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ، إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام: ٨٣].
قال مالك عن زيد بن أسلم: بالعلم، وكذلك قال في قصة يوسف: ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [يوسف: ٧٦]. وقد تبين بذلك أن جميع المجتهدين إنما قالوا بعلم، واتبعوا العلم، وأن الفقه من أجلّ العلوم، وأنهم ليسوا من الذين لا يتبعون إلا الظن، لكن بعضهم قد يكون عنده علم ليس عند الآخر، إما بأن سمع ما لم يسمع الآخر، وإما بأن فهم ما لم يفهم الآخر، كما قال تعالى: وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً [الأنبياء: ٧٨- ٧٩]. وهذه حال أهل الاجتهاد والنظر والاستدلال، في الأصول والفروع.
ثم قال: وإذا تدبر الإنسان تنازع الناس وجد عند كل طائفة من العلم ما ليس عند الأخرى، كما في مسائل الأحكام. ولم يستوعب الحقّ إلا من اتبع المهاجرين والأنصار، وآمن بما جاء به الرسول كله على وجهه، وهؤلاء هم أهل المرحمة الذين لا يختلفون- انتهى.
(١)
أخرجه مسلم في: كتاب القدر، حديث ٣٤ ونصه: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ «المؤمن القويّ خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف. وفي كلّ خير. احرص على ما ينفعك واستعن بالله. ولا تعجز. وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا. ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل. فإن (لو) تفتح عمل الشيطان»
.
378
فعلم أن اختلاف الصحابة والتابعين والمجتهدين في الفروع ليس مما تشمله الآية، فإن المراد منها الاختلاف عن الحق، بعد وضوحه، برفضه، وشتان ما بين الاختلافين. ثم على طالب الحق أن يستعمل نظره فيما يؤثر من هذه الخلافيات، فما وجده أقوى دليلا أخذ به، وإلا تركه. وحينئذ يكون ممن قال الله تعالى فيه:
فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [الزمر: ١٧- ١٨]. وإذا اشتبه عليه مما قد اختلف فيه، فليدع بما رواه مسلم «١» في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله ﷺ كان يقول- إذا قام يصلي من الليل- اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم. فإن الله تعالى قال فيما
رواه عنه رسول الله ﷺ «٢» : يا عبادي كلكم ضال إلا من هديت، فاستهدوني أهدكم-
انتهى.
الرابع: ذكر بعض المفسرين، هنا، ما روي من حديث (اختلاف أمتي رحمة)، ولا يعرف له سند صحيح، ورواه الطبرانيّ والبيهقيّ في (المدخل) بسند ضعيف عن ابن عباس مرفوعا. قال بعض المحققين: هو مخالف لنصوص الآيات والأحاديث، كقوله تعالى: وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ [هود: ١١٨- ١١٩].
(١) أخرجه مسلم في: صلاة المسافرين وقصرها، حديث ٢٠٠.
(٢)
أخرجه مسلم في: البر والصلة والآداب، حديث ٥٥ ونصه: عن أبي ذر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: «يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما. فلا تظالموا. يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته. فاستهدوني أهدكم. يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته. فاستطعموني أطعمكم. يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته. فاستكسوني أكسكم. يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعا. فاستغفروني أغفر لكم. يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئا.
يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد، ما نقص ذلك من ملكي شيئا. يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك من عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر. يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها. فمن وجد خيرا فليحمد الله. ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
379
ونحوه
قوله صلى الله عليه وسلم: لا تختلفوا فتختلف قلوبكم «١»
وغيره من الأحاديث الكثيرة.
والذي يقطع به أن الاتفاق خير من الخلاف- انتهى-
وقد روى الإمام أحمد وأبو داود «٢» بسندهما عن أبي عامر عبد الله بن يحيى قال: حججنا مع معاوية بن أبي سفيان، فلما قدمنا مكة قام حين صلّى صلاة الظهر فقال: إن رسول الله ﷺ قال: إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على اثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة- يعني الأهواء- كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة. وأنه سيخرج في أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء، كما يتجارى الكلب بصاحبه. لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله والله! يا معشر العرب لئن لم تقوموا بما جاء نبيكم ﷺ لغيركم من الناس أحرى أن لا يقوم به.
قال ابن كثير: وقد روي هذا الحديث من طرق- انتهى.
نبذة في مبدأ الاختلاف في هذه الأمة من أهل الأهواء:
ذكر الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتاب (الفرقان بين الحق والباطل) أن المسلمين كانوا في خلافة أبي بكر وعمر، وصدرا من خلافة عثمان في السنة الأولى من ولايته متفقين لا تنازع بينهم، ثم حدث في أواخر خلافة عثمان أمور أوجبت نوعا من التفرق، وقام قوم من أهل الفتنة والظلم، فقتلوا عثمان فتفرق المسلمون بعد مقتل عثمان. ولما اقتتل المسلمون بصفّين واتفقوا على تحكيم حكمين خرجت الخوارج على أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، وفارقوه وفارقوا جماعة المسلمين. وحدث في أيامه الشيعة أيضا، لكن كانوا مختفين بقولهم لا يظهرونه لعليّ وشيعته، بل كانوا ثلاث طوائف:
طائفة: تقول إنه إله، وهؤلاء، لما ظهر عليهم، أحرقهم بالنار.
والثانية: السابة وكان قد بلغه عن أبي السودا أنه كان يسب أبا بكر وعمر، فطلبه قيل إنه طلبه ليقتله فهرب منه.
والثالثة: المفضّلة الذين يفضلونه على الشيخين، وقد تواتر عنه أنه قال: خير
(١)
أخرجه مسلم في: الصلاة، حديث ١٢٢. عن أبي مسعود قال: كان رسول الله ﷺ يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول «استووا ولا تختلفوا، فتختلف قلوبكم. ليلني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم».
قال أبو مسعود: فأنتم اليوم أشد اختلافا.
(٢) أخرجه الإمام أحمد في مسنده، ٤/ ١٠٢.
وأبو داود في: السنة، ١- باب في شرح السنة، حديث ٤٥٩٧. ونصه هنا عن المسند.
380
هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر. وروى ذلك البخاريّ في صحيحه.
ثم في آخر عصر الصحابة حدثت القدرية، ثم حدثت المرجئة. ثم قال: وإن الناس في ترتيب أهل الأهواء على أقسام: منهم من يرتبهم على زمان حدوثهم فيبدأ بالخوارج. ومنهم من يرتبهم بحسب خفة أمرهم وغلظه فيبدأ بالمرجئة ويختم بالجهمية، كما فعله كثير من أصحاب أحمد رضي الله عنه، كعبد الله ابنه، ونحوه، وكالخلّال، وأبي عبد الله بن بطة وأمثالهما، وكأبي الفرج المقدسيّ. وكلا الطائفتين تختم بالجهمية، لأنهم أغلظوا البدع. وكالبخاريّ في صحيحه. فإنه بدأ بكتاب الإيمان والرد على المرجئة، وختمه بكتاب التوحيد والرد على الزنادقة والجهمية.
ثم قال قدس سره: إن السلف كان اعتصامهم بالقرآن والإيمان، فلما حدث في الأمة ما حدث من التفرق والاختلاف، صار أهل التفرق والاختلاف شيعا، وعمدتهم في الباطن ليست على القرآن والإيمان، ولكن على أصول ابتدعها شيوخهم، عليها يعتمدون في التوحيد والصفات والقدرية والإيمان بالرسول وغير ذلك. ثم ما ظنوا أنه يوافقها من القرآن احتجوا به، وما خالفها تأولوه، فلهذا تجدهم إذا احتجوا بالقرآن والحديث لم يعتنوا بتحرير دلالتهما، ولم يستقصوا ما في القرآن من ذلك المعنى، إذ كان اعتمادهم في نفس الأمر إلى غير ذلك والآيات التي تخالفهم يشرعون في تأويلها شروع من قصد ردها كيف أمكن. ليس مقصوده أن يفهم مراد الرسول، بل أن يدفع منازعه من الاحتجاج بها. ثم قال قدس سره: فعلى كل مؤمن أن لا يتكلم في شيء من الدين إلا تبعا لما جاء به الرسول، ولا يتقدم بين يديه، بل ينظر ما قال، فيكون قوله تبعا لقوله، وعلمه تبعا لأمره، كما كان الصحابة ومن سلك سبيلهم من التابعين لهم بإحسان، وأئمة المسلمين. فلهذا لم يكن أحد منهم يعارض النصوص بمعقوله ولا يوسوس دينا غير ما جاء به الرسول. وإذا أراد معرفة شيء من الدين والكلام فيه، نظر فيما قاله الله والرسول، فمنه يتعلم وبه يتكلم، وفيه ينظر ويتفكر، وبه يستدل، فهذا أصل أهل السنة.
وقال قدس سره في رسالته إلى جماعة الشيخ عديّ بن مسافر ما نصه: وهذا التفريق الذي حصل من الأمة علمائها ومشايخها وأمرائها وكبرائها هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها، وذلك بتركهم العمل بطاعة الله ورسوله، كما قال تعالى:
وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ [المائدة:
381
١٤]، فمتى ترك الناس بعضهم ما أمرهم الله به وقعت بينهم العداوة والبغضاء، وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا، فإن الجماعة رحمة، والفرقة عذاب، وجماع ذلك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا. إلى قوله: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:
١٠٢- ١٠٤]. فمن الأمر بالمعروف الأمر بالائتلاف والاجتماع والنهي عن الاختلاف والفرقة، ومن النهي عن المنكر إقامة الحدود على من خرج من شريعة الله تعالى. ثم قال: ويجب على أولي الأمر، وهم علماء كل طائفة وأمراؤها ومشايخها أن يقوّموا عامتهم ويأمروهم بالمعروف وينهوهم عن المنكر، فيأمرونهم بما أمر الله به ورسوله، وينهونهم عما نهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٠٦]
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦)
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ أي تبيض وجوه كثيرة وهي وجوه المؤمنين لاتباعها الدين الحق الذي هو النور الساطع. وتسودّ وجوه كثيرة، وهي وجوه الكافرين من أهل الكتاب والمشركين، لاتباعها الضلالات المظلمة، وليستدل بذلك على إيمانهم وكفرهم، فيجازي كل بمقتضى حاله، وهذه الآية لها نظائر، منها قوله تعالى: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ، أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر: ٦٠] ومنها قوله تعالى: وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ [يونس: ٢٦]. ومنها قوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ [عبس: ٣٨- ٤١]. ومنها قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ [القيامة:
٢٢- ٢٥]. ومنها تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ [المطففين: ٢٤]. إلى غير ذلك. والمفسرين في هذا البياض والنضرة والغبرة والقترة وجهان:
أحدهما: أن البياض مجاز عن الفرح والسرور. والسواد عن الغم. وهذا مجاز مستعمل، قال تعالى: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ [النحل: ٥٨]. ويقال: لفلان عندي يد بيضاء، أي جلية سارة.
382
وتقول العرب لمن نال بغيته وفاز بمطلوبه: ابيض وجهه، ومعناه الاستبشار والتهلل. وعند التهنئة بالسرور يقولون: الحمد لله الذي بيض وجهك. ويقال لمن وصل إليه مكروه: اربدّ وجهه واغبرّ لونه، وتبدلت صورته. فعلى هذا معنى الآية: إن المؤمن يرد يوم القيامة على ما قدمت يداه، فإن كان ذلك من الحسنات ابيض وجهه بمعنى استبشر بنعم الله وفضله، وعلى ضد ذلك، إذا رأى الكافر أعماله القبيحة محصاة اسودّ وجهه بمعنى شدة الحزن والغم، وهذا قول أبي مسلم الأصفهانيّ.
والوجه الثاني: أن هذا البياض والسواد يحصلان في وجوه المؤمنين والكافرين، وذلك لأن اللفظ حقيقة فيهما، ولا دليل يوجب ترك الحقيقة، فوجب المصير إليه. ولأبي مسلم أن يقول الدليل دل على ما قلناه، وذلك لأنه تعالى قال:
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ [عبس: ٣٨- ٤١]. فجعل الغبرة والقترة في مقابلة الضحك والاستبشار فلو لم يكن المراد بالغبرة والقترة ما ذكرنا من المجاز لما صح جعله مقابلا له، فعلمنا أن المراد من هذه الغبرة والقترة والغم والحزن حتى يصح هذا التقابل- أفاده الرازيّ-
لطيفة:
(يوم) منصوب إما مفعول لمضمر خوطب به المؤمنون تحذيرا لهم عن عاقبة التفرق بعد مجيء البينات، وترغيبا في الاتفاق على التمسك بالدين. أي اذكروا يوم... إلخ أو ظرف للاستقرار في (لهم) أو ل (عظيم) أو ل (عذاب).
فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ هذا تفصيل لأحوال الفريقين بعد الإشارة إليها إجمالا، وتقديم بيان هؤلاء لما أن المقام مقام التحذير عن التشبه بهم مع ما فيه من الجمع بين الإجمال والتفصيل والإفضاء إلى ختم الكلام بحسن حال المؤمنين كما بدئ بذلك عند الإجمال، وقوله تعالى: أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ على إرادة القول، أي فيقال لهم ذلك، والهمزة للتوبيخ والتعجيب من حالهم- أفاده أبو السعود- والمعنى: أكفرتم بعد ما ظهر لكم ما يوجب الإيمان، وهو الدلائل التي نصبها الله تعالى على التوحيد والنبوّة، وما يناجيكم به وجدانكم من صدق هذه الدعوى وحقيتها وشهادته بصحتها، كما قال تعالى فيما قبل هذه الآية: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ [آل عمران: ٧٠] : فذمهم على الكفر بعد وضوح الآيات، وقال للمؤمنين. وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ
383
لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ
[آل عمران: ١٠٥]. فقوله تعالى هنا: أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ، محمول على ما ذكر، حتى تصير هذه الآية مقررة لما قبلها، وهي عامة في حق كل الكفار.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٠٧]
وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٠٧)
وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ المراد برحمة الله الجنة، عبر عنها بالرحمة تنبيها على أن المؤمن وإن استغرق عمره في طاعة الله تعالى فإنه لا يدخل الجنة إلا برحمته تعالى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٠٨]
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (١٠٨)
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ الإشارة إلى ما تقدم من الوعد والوعيد وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ أي لا يشاء أن يظلم عباده، فيأخذ أحدا بغير جرم، أو يزيد في عقاب مجرم، أو ينقص من ثواب محسن. قال الرازيّ: إنما حسن ذكر الظلم هاهنا لأنه تقدم ذكر العقوبة الشديدة، وهو سبحانه وتعالى أكرم الأكرمين فكأنه تعالى يعتذر عن ذلك، وقال: إنهم ما وقعوا فيه إلا لسبب أفعالهم المنكرة، وكل ذلك مما يشعر بأن جانب الرحمة مغلّب. وقال أبو السعود: وفي سبك الجملة نوع إيماء إلى التعريض بأن الكفرة هم الظالمون، ظلموا أنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد، كما في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [يونس: ٤٤].
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٠٩]
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٩)
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي له تعالى وحده، من غير شركة، ما فيهما من المخلوقات ملكا وخلقا إحياء وإماتة وإثابة وتعذيبا وَإِلَى اللَّهِ أي إلى حكمه وقضائه تُرْجَعُ الْأُمُورُ أي أمورهم فيجازي كلّا منهم بما وعده وأوعده، فلا داعي له إلى الظلم؟ لأنه غنيّ عن كل شيء، وقادر على كل شيء.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١١٠]
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (١١٠)
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ كلام مستأنف سيق لتثبيت المؤمنين على ما هم عليه من الاتفاق على الحق، والدعوة إلى الخير، وكُنْتُمْ من (كان) التامة، والمعنى وجدتم وخلقتم خير أمة، أو (الناقصة) والمعنى كنتم في علم الله خير أمة، أو في الأمم الذين كانوا قبلكم مذكورين بأنكم خير أمة وأُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ صفة لأمة، واللام متعلقة ب أُخْرِجَتْ أي أظهرت لهم حتى تميزت وعرفت، وفصل بينها وبين غيرها. ثم بين وجه الخيرية بما لم يحصل مجموعه لغيرهم بقوله تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ فبهذه الصفات فضلوا على غيرهم ممن قال تعالى فيهم: كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ، لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة: ٧٩]. وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ [النساء:
١٥٠]. قال أبو السعود: وتؤمنون بالله أي إيمانا متعلقا بكل ما يجب أن يؤمن به من رسول وكتاب وحساب وجزاء. وإنما لم يصرح به تفصيلا لظهور أنه الذي يؤمن به المؤمنون، وللإيذان بأنه هو الإيمان بالله تعالى حقيقة، وأن ما خلا عن شيء من ذلك كإيمان أهل الكتاب ليس من الإيمان به تعالى في شيء. قال تعالى:
وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا [النساء: ١٥٠- ١٥١] وإنما أخر ذلك عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع تقدمه عليهما وجودا ورتبة، لأن دلالتهما على خيريتهم للناس أظهر من دلالته عليها وليقترن به ما بعده- انتهى- روى ابن جرير أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى من الناس رعة، فقرأ هذه الآية كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ثم قال: من سره أن يكون من هذه الأمة فليؤد شرط الله فيها. ونظير هذه الآية قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً، أي خيارا، لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة: ١٤٣]، أي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقد روي في معنى الآية عن النبيّ ﷺ أحاديث وافرة، منها ما
أخرجه الإمام
أحمد والترمذيّ «١» والحاكم عن معاوية بن حيدة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا إنكم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله عزّ وجلّ
. قال ابن كثير: وهو حديث مشهور، وقد حسنه الترمذيّ. ويروى من حديث معاذ بن جبل وأبي سعيد ونحوه. وإنما حازت هذه الأمة قصب السبق إلى الخيرات بنبيها محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه أشرف خلق الله، وأكرم الرسل على الله، وبعثه الله بشرع كامل عظيم، لم يعطه نبيّ قبله، ولا رسول من الرسل، فالعمل على منهاجه وسبيله، يقوم القليل منه ما لا يقوم العمل الكثير من أعمال غيرهم مقامه. وقد ذكر الحافظ ابن كثير هاهنا حديث السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب، وساق طرقه ومخرجيه فأجاد رحمه الله تعالى. وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ أي بما أنزل على محمد ﷺ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ أي مما هم عليه، إشارة إلى تسفيه أحلامهم في وقوفهم مع ما منعهم عن الإيمان من العوض القليل الفاني والرياسة التافهة، وتركهم الغنى الدائم، والعز الباهر. ولما كان هذا ربما أوهم أنه لم يؤمن منهم أحد قال مستأنفا مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ أي بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم ولكنهم قليل وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ ولما كانت مخالفة الأكثر قاصمة، خفف سبحانه عن أوليائه بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١١١]
لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١١١)
لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً أي بألسنتهم لا يبالي به من طعن وتهديد وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ أي يوما من الأيام يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ يعني منهزمين مخذولين ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ يعني لا يكون لهم النصر عليكم، بل تنصرون عليهم. وقد صدق الله ومن أصدق من الله قيلا؟ لم يقاتلوا في موطن إلا كانوا كذلك. قال ابن كثير: فإنهم يوم خيبر أذلهم الله، وأرغم أنوفهم، وكذلك من قبلهم من يهود المدينة: بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة، كلهم أذلهم الله. وكذلك النصارى بالشام كسرهم الصحابة في غير ما موطن وسلبوهم ملك الشام أبد الآبدين ودهر الداهرين. ولا تزال عصابة الإسلام قائمة بالشام حتى ينزل عيسى ابن مريم، وهم كذلك، ويحكم بملة الإسلام، وشرع محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير،
(١) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٥/ ٣.
والترمذيّ في: التفسير، ٣- سورة آل عمران، ٩- حدثنا عبد بن حميد.
ويضع الجزية، ولا يقبل إلا الإسلام.
لطائف:
قال الزمخشريّ: فإن قلت: هلا جزم المعطوف في قوله ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ؟
قلت: عدل به عن حكم الجزاء إلى حكم الإخبار ابتداء، كأنه قيل ثم أخبركم أنهم لا ينصرون.
فإن قلت: فأي فرق بين رفعه وجزمه في المعنى؟
قلت: لو جزم لكان نفي النصر مقيدا بمقاتلتهم كتولية الأدبار، وحين رفع كان نفي النصر وعدا مطلقا كأنه قال: ثم شأنهم وقصتهم التي أخبركم عنها وأبشركم بها بعد التولية أنهم مخذولون منتف عنهم النصر والقوة لا ينهضون بعدها بجناح، ولا يستقيم لهم أمر، وكان كما أخبر من حال بني قريظة والنضير وبني قينقاع ويهود خيبر.
فإن قلت: فما الذي عطف عليه هذا الخبر؟
قلت: جملة الشرط والجزاء. كأنه قيل: أخبركم أنهم إن يقاتلوكم ينهزموا، ثم أخبركم أنهم لا ينصرون.
فإن قلت: فما معنى التراخي في (ثم) ؟
قلت: التراخي في المرتبة، لأن الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الإخبار بتوليتهم الأدبار.
قال الناصر بن المنير: وهذا من الترقي في الوعد عما هو أدنى إلى ما هو أعلى، لأنهم وعدوا بتولية عدوهم الأدبار عند المقابلة، ثم ترقى الوعد إلى ما هو أتم في النجاح من أن هؤلاء لا ينصرون مطلقا، ويزيد هذا الترقي بدخول (ثم) دون (الواو)، فإنها تستعار هاهنا للتراخي في الرتبة لا في الوجود، كأنه قال: ثم هاهنا ما هو أعلى في الامتنان، وأسمح في رتب الإحسان، وهو أن هؤلاء قوم لا ينصرون البتة- والله أعلم-.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١١٢]
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢)
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ أي أحيط بهم
الهوان والصغار كما يحيط البيت المضروب بساكنه أينما وجدوا، وقوله: إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ. في محل النصب على الحال. بتقدير: إلا معتصمين أو متمسكين أو ملتبسين بحبل من الله، وهو استثناء من أعمّ عام الأحوال، والمعنى ضربت عليهم الذلة في عامة الأحوال، إلا في حال اعتصامهم بحبل الله وحبل الناس، يعني ذمة الله وذمة المسلمين، أي لا عزّ لهم قط إلا هذه الواحدة وهي التجائوهم إلى الذمة لما قبلوه من الجزية- كذا في الكشاف- وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ أي استوجبوه وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ أي الفقر ليكونوا بهذه الأوصاف أعرق شيء في الذل ذلِكَ أي ضربت المسكنة والذلة والغضب بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ أي استكبارا وعتوّا وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ أي الآتين من عند الله حقا. ولما كانوا معصومين دينا ودنيا قال بِغَيْرِ حَقٍّ أي يبيح القتل ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ أي ضرب الذلة والمسكنة في الدنيا واستيجاب الغضب في الآخرة، كما هو معلل بكفرهم وقتلهم الأنبياء، فهو مسبب عن عصيانهم واعتدائهم حدود الله تعالى. وقيل: ذلك إشارة إلى علة العلة، وهو الكفر والقتل، أي حصلا منهم بسبب عصيانهم واعتدائهم، فإن الإقدام على المعاصي، والاستهانة بمجاوزة الحدود يهوّن الكفر. قال الأصفهانيّ: قال أرباب المعاملات: من ابتلي بترك الآداب، وقع في ترك السنن. ومن ابتلي بترك السنن، وقع في ترك الفرائض. ومن ابتلي بترك الفرائض، وقع في استحقار الشريعة. ومن ابتلي بذلك، وقع في الكفر.
قال برهان الدين البقاعيّ رحمه الله تعالى: والآية دليل على مؤاخذة الابن الراضي بذنب الأب وإن علا. وذلك طبق ما رأيته في ترجمة التوراة التي بين أيديهم، لأنه قال في السفر الثاني: وقال الله جميع هذه الآيات كلها أنا الرب إلهك الذي أصعدتك من أرض مصر من العبودية والرق لا يكون لك آلهة لا تعملن شيئا من الأصنام والتماثيل التي مما في السماء فوق وفي الأرض من تحت ومما في الماء أسفل الأرض لا تسجدن لها ولا تعبدنها لأني أنا الرب إلهك غيور آخذ الأبناء بذنوب الآباء إلى ثلاثة أحقاب وأربعة خلوف وأثبت النعمة إلى ألف حقب لأحباري وحافظي وصاياي- انتهى-
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١١٣]
لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣)
لَيْسُوا سَواءً جملة مستأنفة سيقت تمهيدا للثناء على من أقبل على الحق
388
من أهل الكتاب وخلع الباطل ولم يراع سلفا ولا خلفا، وتذكيرا لقوله تعالى: مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ أي ليس أهل الكتاب متساوين ومتشاركين في المساوئ. ثم استأنف قوله بيانا لعدم استوائهم مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ.
في قوله تعالى قائِمَةٌ وجوه:
الأول- أنها قائمة في الصلاة، وعبّر عن تهجدهم بتلاوة القرآن في ساعات الليل كقوله تعالى: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً [الفرقان: ٦٤]. وقوله:
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ [المزمل: ٢٠]. وقوله: قُمِ اللَّيْلَ [المزمل: ٢]. وقوله: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ [البقرة: ٢٣٨].
والثاني- أنها ثابتة على التمسك بالدين الحق، ملازمة له، غير مضطربة في التمسك به، كقوله: إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً [آل عمران: ٧٥] أي ملازما للاقتضاء، ثابتا على المطالبة. ومنه قوله تعالى: قائِماً بِالْقِسْطِ [آل عمران: ١٨].
الثالث- أنها مستقيمة عادلة من قولك: أقمت العود فقام، بمعنى استقام.
والآناء الأوقات واحدها (إنا) مثل (معى) و (أمعاء) و (إني) مثل (نحي) و (أنحاء) وقوله تعالى: وَهُمْ يَسْجُدُونَ جملة مستقلة مستأنفة، وليست حالا من فاعل يَتْلُونَ لما صح في السنة من النهي عن التلاوة في السجود، وذلك فيما
رواه الإمام أحمد ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا إني نهيت أن أقرأ القرآن راكعا أو ساجدا، فأما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم «١».
فمعنى الآية أنهم يقومون تارة ويسجدون أخرى، يبتغون الفضل والرحمة كقوله تعالى: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً [الفرقان: ٦٤]. وقوله: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزمر: ٧]. ويحتمل أن يكون المعنى: وهم يصلون، والصلاة تسمى سجودا وسجدة كما تسمى ركوعا وركعة وتسبيحا وتسبيحة. وعليه فالجملة يجوز فيها الوجهان، وتكرير الإسناد لتقوية الحكم وتأكيده. ثم وصفهم تعالى بصفات أخر، مبينة لمباينتهم اليهود من جهة أخرى، بقوله:
(١) أخرجه مسلم في: الصلاة، حديث ٢٠٧.
389
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١١٤]
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤)
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أي على الوجه الذي نطق به الشرع. وظاهر أن الإيمان بالله يستلزم الإيمان بجميع أنبيائه ورسله. والإيمان باليوم الآخر يستلزم الحذر من المعاصي، وهؤلاء اليهود ينكرون أنبياء الله، ولا يحترزون عن معاصي الله، فلم يحصل لهم الإيمان بالمبدأ والمعاد وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ تعريض بمداهنة اليهود في الاحتساب، بل بتعكيسهم في الأمر بإضلال الناس وصدّهم عن سبيل الله، فإنه أمر بالمنكر ونهي عن المعروف، وقوله تعالى وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ صفة أخرى جامعة لفنون المحاسن المتعلقة بالنفس وبالغير. والمسارعة في الخير فرط الرغبة فيه. وفيه تعريض بتباطؤ اليهود فيها، بل بمبادرتهم إلى الشرور وَأُولئِكَ أي المنعوتون بتلك الصفات الفاضلة مِنَ الصَّالِحِينَ أي من عداد من صلحت أحوالهم عند الله تعالى واستحقوا رضاه.
والوصف بالصلاح دالّ على أكمل الدرجات. فهو غاية المدح، ولذا وصفت به الأنبياء في التنزيل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١١٥]
وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥)
وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ أي لن يعدموا ثوابه. وإيثار صيغة المجهول للجري على سنن الكبرياء. وقرئ الفعلان بالخطاب وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ فيوفيهم أجورهم. وهؤلاء الموصوفون هم المذكورون في آخر السورة: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ... [آل عمران: ١٩٩] الآية.
تنبيه:
قال البقاعيّ: أرشد السياق إلى أن التقدير: وأكثرهم ليسوا بهذه الصفات وقال الرازيّ: لما قال تعالى: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ. كان تمام الكلام أن يقال:
(ومنهم أمّة مذمومة) إلا أنه أضمر ذكر الأمة المذمومة على مذهب العرب من أن ذكر أحد الضدين يغني عن ذكر الضد الآخر. وتحقيقه: أن الضدين يعلمان معا. فذكر
أحدهما يستقل بإفادة العلم بهما، فلا جرم يحسن إهمال الضد الآخر، قال أبو ذؤيب:
دعاني إليها القلب. إني لأمره مطيع. فما أدرى أرشد طلابها
أراد أم غيّ، فاكتفى بذكر الرشد عن الغيّ، وهذا قول الفراء وابن الأنباريّ.
وقال الزجاج: لا حاجة إلى إضمار الأمة المذمومة لأن ذكرها قد جرى قبل، ولأنا قد ذكرنا أن العلم بالضدين معا، فذكر أحدهما مغن عن ذكر الآخر. كما يقال زيد وعمرو لا يستويان، زيد عاقل ديّن ذكي، فيغني هذا عن أن يقال: وعمرو ليس كذلك. فكذا هاهنا. لما تقدم قوله: ليسوا سواء. أغني عن ذلك الإضمار- انتهى ملخصا- أقول: لا مانع من كون الآية الآتية هي الشق الثاني المقابل للأول. فإن عنوان الذين كفروا مقابل بمفهومه لما قبله كما لا يخفى- والله أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١١٦]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١٦)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أي لن تدفع عنهم أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي من عذاب الله، وإن كان التصدق بالأموال يطفئ غضب الرب في حق المؤمنين، ويغفر لهم بموت أولادهم، أو استغفارهم وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ولما بين تعالى أن أموال الكفار لا تغني عنهم شيئا، ثم إنهم ربما أنفقوها في وجوه الخيرات، فيخطر في البال أنهم ينتفعون بها، فأزال تلك الشبهة، وضرب لها مثلا بذهابها هباء منثورا بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١١٧]
مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٧)
َلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا
من المكارم ويواسون فيه من المغارم مَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ
أي برد شديد كالصرصرصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ
بالكفر والمعاصي فباءوا بغضب من الله أَهْلَكَتْهُ
فكذا ريح الكفر إذا أصابت حرث إنفاق قومه تهلكه. فصار الظلم ريحا لحصوله من هوى النفس ذات برودة شديدة لكونه ظلم الكفر الذي هو الموت المعنويّ فأهلكته- قاله المهايميّ-
ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ
بإهلاك حرثهم بإرسال ريح من عنده لكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
بإرسال ريح الظلم الكفريّ على حرثهم الأخرويّ.
لطائف:
إن قيل: الغرض تشبيه (ما أنفقوا) في ضياعه، بالحرث الذي ضربته الصر، وقد جعل ما ينفقون ممثلا بالريح، فما وجه المطابقة للغرض؟ أجيب: بأن هذا من التشبيه المركب وهو ما حصلت فيه المشابهة بين ما هو المقصود من الجملتين، وإن لم تحصل المشابهة بين أجزائيهما، والمقصود تشبيه الحال بالحال ويجوز أن يراد: مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح، أو مثل ما ينفقون كمثل مهلك ريح فتحصل المشابهة.
قال ناصر الدين في (الانتصاف) : والأقرب أن يقال أصل الكلام- والله أعلم- مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل حرث قوم ظلموا أنفسهم فأصابته ريح فيها صر فأهلكته، ولكن خولف هذا النظم في المثل المذكور لفائدة جليلة. وهو تقديم ما هو أهم. لأن الريح التي هي مثل العذاب، ذكرها في سياق الوعيد والتهديد أهم من ذكر الحرث. فقدمت عناية بذكرها، واعتمادا على أن الأفهام الصحيحة تستخرج المطابقة برد الكلام إلى أصله على أيسر وجه. ومثل هذا، في تحويل النظم لمثل هذه الفائدة، قوله تعالى: فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما... [البقرة: ٢٨٢] الآية. ومثله أيضا: أعددت هذه الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه، والأصل: أن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت. وأن أدعم بها الحائط إذا مال، وأمثال ذلك كثيرة والله الموفق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١١٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ أي أصحابا يستبطنون أمركم من دون أبناء جنسكم وهم المسلمون. قال الزمخشريّ: بطانة الرجل ووليجته خصيصه وصفيّه الذي يفضي إليه بشقوره ثقة به. شبّه ببطانة الثوب. كما يقال:
فلان شعاري- انتهى- ومن أمثال العرب في سرار الرجل إلى أخيه ما يستره عن
392
غيره: أفضيت إليه بشقوري- بضم الشين وقد تفتح- أي أخبرته بأمري، وأطلعته على ما أسره من غيره: وفي القاموس وشرحه: البطانة الصاحب للسر الذي يشاور في الأحوال، والوليجة وهو الذي يختص بالولوج والاطلاع على باطن الأمر. وقال الزجاج: البطانة الدخلاء الذين ينبسط إليهم ويستبطنون، يقال: فلان بطانة لفلان أي مداخل له موانس. وهؤلاء المنهي عنهم، إما أهل الكتاب، كما رواه ابن جرير وابن إسحاق عن ابن عباس: أنهم اليهود. وذلك لأن السياق في السورة، والسباق معهم. وقد كان بين الأنصار وبين مجاوريهم من اليهود ما هو معروف من سابق الرضاع والحلف. وإما المنافقون لقوله بعد: وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا [آل عمران: ١١٩]... إلخ. وهذه صفة المنافقين كقوله تعالى في سورة البقرة: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ [البقرة:
١٤]... إلخ- وربما كان يغتر بعض المؤمنين بظاهر أقوال المنافقين ويظنون أنهم صادقون فيفشون إليهم الأسرار. وإما جميع أصناف الكفار وقوفا مع عموم قوله تعالى: مِنْ دُونِكُمْ كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ [الممتحنة: ١]. ومما يؤكد ذلك ما رواه ابن أبي حاتم أنه قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن هاهنا غلاما من أهل الحيرة نصرانيا، حافظ كاتب. فلو اتخذته كاتبا؟ فقال: قد اتخذت إذن بطانة من دون المؤمنين.
قال الرازيّ: فقد جعل عمر رضي الله عنه هذه الآية دليلا على النهي من اتخاذ النصرانيّ بطانة.
وقال الحافظ ابن كثير: ففي هذا الأثر مع هذه الآية دليل على أن أهل الذمة لا يجوز استعمالهم في الكتابة التي فيها استطالة على المسلمين، واطلاع على دواخل أمورهم التي يخشى أن يفشوها إلى الأعداء من أهل الحرب.
وقال السيوطيّ في (الإكليل) : قال الكيا الهراسيّ: في الآية دلالة على أنه لا يجوز الاستعانة بأهل الذمة في شيء من أمور المسلمين- انتهى-.
ووجه ذلك، كما قال القاشانيّ، أن بطانة الرجل صفيه وخليصه الذي يبطنه ويطلع على أسراره، ولا يمكن وجود مثل هذا الصديق إلا إذا اتحدا في المقصد واتفقا في الدين والصفة، متحابين في الله لغرض. كما قيل في الأصدقاء: نفس واحدة في أبدان متفرقة. فإذا كان من غير أهل الإيمان، فبأن يكون كاشحا أحرى.
ثم بيّن نفاقهم واستبطانهم العداوة بقوله: لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا أي لا يقصرون بكم
393
في الفساد. قال القاشانيّ: لأن المحبة الحقيقية الخالصة لا تكون إلا بين الموحدين لكونها ظل الوحدة. فلا تكون في غيرهم لكونهم في عالم التضادّ. بل ربما تتألفهم الجنسية العامة الإنسانية لاشتراكهم في النوع والمنافع والملاذ واحتياجهم إلى التعاون فيها. والمنافع الدنيوية واللذات النفسانية سريعة الانقضاء فلا تدوم المحبة عليها. بخلاف المحبة الأولى فإنها مستندة إلى أمر لا تغير فيه أصلا.
قال الزمخشريّ: يقال: ألا في الأمر، يألو: إذا قصر فيه. ثم استعمل معدّى إلى مفعولين. في قولهم: لا آلوك نصحا، ولا آلوك جهدا، على التضمين. والمعنى:
لا أمنعك نصحا ولا أنقصكه. والخبال الفساد وَدُّوا ما عَنِتُّمْ أي عنتكم، على أن (ما) مصدرية، والعنت شدة الضرر والمشقة، أي تمنّوا ما يهلككم قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ أي ظهر البغض الباطن حتى خرج من أفواههم لأنهم لا يتمالكون، مع ضبطهم أنفسهم وتحاملهم عليها، أن ينفلت من ألسنتهم ما يعلم به بغضهم للمسلمين. وقد قيل: كوامن النفوس تظهر على صفحات الوجوه وفلتات اللسان وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ مما ظهر. لأن ظهوره ليس عن روية واختيار بل فلتة. ومثله يكون قليلا قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ الدالة على سوء اتخاذكم إياهم بطانة لتمتنعوا منها فتخلصوا في الدين وتوالوا المؤمنين وتعادوا الكافرين إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ أي من أهل العقل. أو تعقلون ما بيّن لكم فعملتم به. قال الزمخشريّ: فإن قلت: كيف موقع هذه الجمل؟ قلت: يجوز أن يكون (لا يألونكم) صفة للبطانة.
وكذلك (قد بدت البغضاء). كأنه قيل: بطانة غير آليكم خبالا، بادية بغضاؤهم.
وأما (قد بينا) فكلام مبتدأ. وأحسن منه وأبلغ أن تكون مستأنفات كلها على وجه التعليل للنهي عن اتخاذهم بطانة. ثم بيّن تعالى خطأهم في موالاتهم حيث يبذلونها لأهل البغضاء بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١١٩]
ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١١٩)
ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ أي تخالطونهم وتفشون إليهم أسراركم ولا يفعلون مثل ذلك بكم، وقوله وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ الواو للحال وهي منتصبة
من ضمير المفعول في (لا يحبونكم) والمعنى لا يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابهم فلا تنكرون منه شيئا، فليس فيكم ما يوجب بغضهم لكم. فما بالكم تحبونهم وهم يكفرون بكتابكم كله؟.
ولم تجعل الواو للعطف على (ولا يحبونكم) أو (تحبونهم) كما ارتضاه أبو حيان لأنه في معرض التخطئة. ولا كذلك الإيمان بالكتاب فإنه محض الصواب. وإن اعتذر له بأن المعنى: يجمعون بين محبة الكفار والإيمان وهما لا يجتمعان، لبعده.
والحالية مقررة للخطأ فتأمل، نقله الخفاجيّ.
قال الزمخشريّ: فيه توبيخ شديد بأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم.
ونحوه: فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ [النساء:
١٠٤]. وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا نفاقا وتغريرا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ أي من أجله، تأسفا وتحسرا. حيث لم يجدوا إلى التشفي سبيلا. وعضّ الأنامل عادة النادم العاجز والمغتاظ إذا عظم حزنه على فوات مطلوبه. ولما كثر هذا الفعل من الغضبان صار ذلك كناية عن الغضب. حتى يقال في الغضبان: إنه يعض يده غيظا، وإن لم يكن هناك عض قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ دعاء عليهم بأن يزداد غيظهم حتى يهلكوا به. والمراد بزيادة الغيظ زيادة ما يغيظهم من قوة الإسلام وعز أهله. وما لهم في ذلك من الذل والخزي والتبار. كذا في الكشاف إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ فيعلم ما في صدورهم من البغضاء والحنق. وهو يحتمل أن يكون من (المقول) أي وقل لهم: إن الله عليم بما هو أخفى مما تخفونه من عض الأنامل غيظا. وأن يكون خارجا عنه بمعنى: قل لهم ذلك ولا تتعجب من اطلاعي إياك على أسرارهم فإني عليم بالأخفى من ضمائرهم. وقيل: هو أمر لرسول الله ﷺ بطيب النفس، وقوة الرجاء، والاستبشار بوعد الله تعالى أن يهلكوا غيظا بإعزاز الإسلام وإذلالهم به من غير أن يكون ثمة قول. كأنه قيل: حدث نفسك بذلك- أفاده أبو السعود- ثم بين تعالى تناهي عداوتهم بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٢٠]
إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (١٢٠)
إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ بظهوركم على العدوّ، ونيلكم الغنيمة، وخصب
395
معاشكم، وتتابع الناس في دينكم تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ بإصابة العدوّ منكم، أو اختلاف بينكم، أو جدب أو بلية يَفْرَحُوا بِها ولا يعلمون ما لله تعالى في ذلك من الحكمة.
لطيفة:
المس أصله باليد، ثم يسمى كل ما يصل إلى الشيء مسّا. والتعبير به في جانب الحسنة، وبالإصابة في جانب السيئة للتفنن. وقد سوى بينهما في غير هذا الموضع كقوله: إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ [التوبة: ٥٠] وقوله: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء: ٧٩]. وقال: إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً [المعارج:
٢٠- ٢١].
قال ناصر الدين في (الانتصاف) : يمكن أن يقال: المس أقل تمكنا من الإصابة، وكأنه أقل درجاتها، فكأن الكلام- والله أعلم- إن تصبكم الحسنة أدنى إصابة تسؤهم ويحسدوكم عليها. وإن تمكنت الإصابة منكم وانتهى الأمر فيها إلى الحد الذي يرثي الشامت عنده منها، فهم لا يرثون لكم ولا ينفكّون عن حسدهم، ولا في هذه الحال. بل يفرحون ويسرون. والله أعلم- انتهى- وهذا من أسرار بلاغة التنزيل. فدل التعبير على إفراطهم في السرور والحزن.
فإذا ساءهم أقل خيرنا، فغيره أولى. وإذا فرحوا بأعظم المصائب مما يرثي له الشامت فهم لا يرجى موالاتهم أصلا. فكيف تتخذونهم بطانة؟. قال البقاعيّ: ولما كان هذا الأمر منكيا غائظا مؤلما داواهم بالإشارة إلى النصر بشرط التقوى والصبر فقال: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا أي تصبروا على ما يبتليكم الله به من الشدائد والمحن والمصائب وتثبتوا على الطاعة وتنفوا الاستعانة بهم في أموركم والالتجاء إلى ولايتهم لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً لأن المتوكل على الله الصابر على بلائه، المستعين به لا يغيره: ظافر في طلبته، غالب على خصمه، محفوظ بحسن كلاءة ربه. والمستعين بغيره: مخذول موكول إلى نفسه، محروم عن نصرة ربه. أفاده القاشانيّ.
وقيل: المراد بنفي الضرر عدم المبالاة به، لأن المتدرب بالاتقاء والصبر يكون قليل الانفعال، جريئا على الخصم. (الكيد) الاحتيال على إيقاع الغير في مكروه إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ قرئ بياء الغيبة، على معنى أنه عالم بما يعملون في
396
معاداتكم من الكيد فيعاقبهم عليه. وبتاء الخطاب، أي بما تعملون من الصبر والتقوى فيجازيكم بما أنتم أهله.
تنبيه مهم:
قال الرازيّ: إطلاق لفظ (المحيط) على الله مجاز، لأن المحيط بالشيء هو الذي يحيط به من كل جوانبه، وذلك من صفات الأجسام، لكنه تعالى لما كان عالما بكل الأشياء، قادرا على كل الممكنات، جاز في مجاز اللغة أنه محيط بها، ومنه قوله: وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ [البروج: ٢٠]. - انتهى-.
أقول: ما ذكره شبهة جهمية مبناها قياس صفة القديم على الحوادث، وأخذ خاصتها به، وهو قياس مع الفارق. والسمعيات تتلقى من عرف المتكلم بالخطاب، لا من الوضع المحدث. فليس لأحد أن يجعل الألفاظ التي جاءت في القرآن موضوعة لمعاني، ثم يريد أن يفسر مراد الله تعالى بتلك المعاني. وتتمة هذا البحث تقدمت في تفسير (الرحمن الرحيم) من البسملة أول التنزيل الجليل. فارجع إليها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٢١]
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١)
وَإِذْ غَدَوْتَ أي خرجت مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ أي تنزل الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ أي أماكن ومراكز يقفون فيها لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ذهب الجمهور وعلماء المغازي إلى أن هذه الآية نزلت في وقعة أحد، والسر في سوق هذه الوقعة الأحديّة وإيلائها البدرية، وهو تقرير ما سبق. فإن المدعي فيما قبلها المساءة بالحسنة والمسرة بالمصيبة وسنة الله تعالى فيهم في باب النصر والمعونة ودفع مضار العدوّ، إذا هم صبروا واتقوا، والتغيير إذا غيروا. أي اذكر لهم ما يصدق ذلك من أحوالكم الماضية حين لم يصبروا في أحد، فأصيبوا وسرّت الأعداء مصيبتكم، وحين صبروا واتبعوا فنصروا وساء العدوّ نصرهم. وفي توجيه الخطاب إليه ﷺ تهييج لغيره إلى تدقيق النظر واتباع الدليل، من غير أدنى وقوف مع المألوف- كذا يستفاد من تفسير البقاعيّ-.
وهذه الآية هي افتتاح القصة، وقد أنزل فيها ستون آية، وأشير في هذه السورة إلى بعض الحكم والغايات المحمودة التي في هذه الوقعة، كما سيذكر، وكانت في شوال سنة ثلاث باتفاق الجمهور، وكان سببها أن الله تعالى لما قتل أشراف قريش ببدر، وأصيبوا بمصيبة لم يصابوا بمثلها، ورأس فيهم أبو سفيان بن حرب لذهاب
397
أكابرهم، وجاءوا إلى أطراف المدينة في غزوة السّويق، ولم ينل ما في نفسه، أخذ يؤلّب على رسول الله ﷺ وعلى المسلمين، ويجمع الجموع قريبا من ثلاثة آلاف من قريش والحلفاء والأحابيش. وجاءوا بنسائهم لئلا يفروا ليحاموا عنهن. ثم أقبل بهم نحو المدينة، فنزل قريبا من جبل أحد، واستشار رسول الله ﷺ أصحابه:
أيخرج إليهم أم يمكث في المدينة وكان رأيه أن لا يخرجوا من المدينة، وأن يتحصنوا بها، فإن دخلوها قاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة، والنساء من فوق البيوت، ووافقه على هذا الرأي عبد الله بن أبيّ، وكان هو الرأي. فبادر جماعة من فضلاء الصحابة ممن فاته الخروج يوم بدر، وأشاروا عليه بالخروج، وألحوا عليه في ذلك، فنهض ودخل بيته، ولبس لأمته، وخرج عليهم وقد انثنى عزم أولئك الملحّين، وقالوا: أكرهنا رسول الله ﷺ على الخروج. فقالوا: يا رسول الله إن أحببت أن تمكث في المدينة فافعل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ينبغي لنبيّ، إذا لبس لأمته، أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوّه
. وخرج رسول الله ﷺ في ألف من أصحابه، واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة ببقية المسلمين في المدينة، وكان رسول الله ﷺ رأى رؤيا وهو بالمدينة: رأى أن في سيفه ثلمة، ورأى أن بقرا تذبح، وأنه أدخل يده في درع حصينة. فتأول الثلمة في سيفه برجل يصاب من أهل بيته، وتأول البقر بنفر من أصحابه يقتلون. وتأول الدرع بالمدينة. فخرج يوم الجمعة! فلما صار بالشّوط، بين المدينة وأحد، انخزل عنه عبد الله بن أبيّ في ثلث الناس، مغاضبا لمخالفة رأيه في المقام. فتبعهم عبد الله بن عمرو، والد جابر، يوبخهم ويحضهم على الرجوع ويقول: تعالوا قاتلوا في سبيل الله، أو ادفعوا. قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع. فرجع عنهم وسبّهم، وسأل النبيّ ﷺ قوم من الأنصار أن يستعينوا بحلفائهم من يهود فأبى، وسلك حرّة بني حارثة، ومر بين الحوائط، وأبو خيثمة من بني حارثة يدل به، حتى نزل الشعب من أحد مستندا إلى الجبل، ونهى الناس عن القتال حتى يأمرهم، فلما أصبح يوم السبت تعبّى للقتال وهو في سبعمائة. فيهم خمسون فارسا وخمسون راميا وأمّر على الرماة عبد الله بن جبير. وأمره وأصحابه أن يلزموا مراكزهم، وألا يفارقوه ولو رأوا الطير تخطف العسكر. وكانوا خلف الجيش.
وأمرهم أن ينضحوا المشركين بالنبل لئلا يأتوا المسلمين من ورائهم. وظاهر رسول الله ﷺ بين درعين يومئذ، وأعطى اللواء مصعب بن عمير، وجعل على إحدى المجنّبتين الزبير بن العوام، وعلى الأخرى المنذر بن عمرو. واستعرض الشباب يومئذ. فردّ من استصغره عن القتال. منهم عبد الله بن عمر وأسامة بن زيد وأسيد
398
ابن ظهير والبراء بن عازب وزيد بن أرقم وزيد بن ثابت وعرابة بن أوس وعمرو بن حزام. وأجاز من رآه مطيقا. منهم سمرة بن جندب ورافع بن خديج ولهما خمس عشرة سنة. فقيل: أجاز من أجازه، لبلوغه بالسن خمس عشرة سنة، وردّ من رد لصغره عن سنّ البلوغ، وقالت طائفة: إنما أجاز من أجاز لإطاقته، ورد من رد لعدم إطاقته، ولا تأثير للبلوغ وعدمه في ذلك. قالوا: وفي بعض ألفاظ حديث ابن عمر:
فلما رآني مطيقا أجازني. وتعبّت قريش للقتال، وهم في ثلاثة آلاف، وفيهم مائتا فارس، فجعلوا على ميمنتهم خالد بن الوليد، وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل، ودفع رسول الله ﷺ سيفه إلى أبي دجانة سماك بن خرشة، وكان شجاعا بطلا يختال عند الحرب، وكان أول من بدر من المشركين أبو عامر الفاسق، واسمه عبد بن عمرو بن صيفيّ، وكان يمسي (الراهب) لترهبه وتنسكه في الجاهلية، فسماه رسول الله ﷺ (الفاسق). وكان رأس الأوس في الجاهلية. فلما جاء الإسلام شرق به، وجاهر رسول الله ﷺ بالعداوة، فخرج من المدينة، وذهب إلى قريش يؤلّبهم على رسول الله ﷺ ويحضهم على قتاله، ووعدهم بأن قومه إذا رأوه أطاعوه ومالوا معه. فكان أول من لقي من المسلمين فنادى قومه وتعرف إليهم. قالوا: لا أنعم الله لك عينا يا فاسق! فقاتل المسلمين قتالا شديدا، وأبلى يومئذ حمزة وطلحة وشيبة وأبو دجانة والنضر بن أنس بلاء شديدا، وأصيب جماعة من الأنصار مقبلين غير مدبرين، واشتد القتال، وكان الدولة أول النهار للمسلمين على الكفار، فانهزمت أعداء الله وولوا مدبرين حتى انتهوا إلى نسائهم. فلما رأى الرماة هزيمتهم تركوا مركزهم الذي أمرهم رسول الله ﷺ بحفظه، وقالوا: يا قوم! الغنيمة! الغنيمة! فذكّرهم أميرهم عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يسمعوا، وظنوا أن ليس للمشركين رجعة، فذهبوا في طلب الغنيمة، وأخلوا الثغر، ولم يطع أميرهم منهم إلا نحو العشرة، فكرّ المشركون وقتلوا من بقي من الرماة، ثم أتوا الصحابة من ورائهم وهم ينتهبون، فأحاطوا بهم، واستشهد منهم من أكرمه الله، ووصل العدوّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقاتل مصعب بن عمير صاحب اللواء دونه حتى قتل، وجرح رسول الله ﷺ في وجهه، وكسرت رباعيته اليمنى السفلى بحجر، وهشمت البيضة في رأسه، يقال: إن الذي تولى ذلك عتبة بن أبي وقاص وعمرو بن قميئة الليثيّ. وشد حنظلة الغسيل على أبي سفيان ليقتله، فاعترضه شداد بن الأسود الليثيّ، من شعوب، فقتله. وكان جنبا. فأخبر رسول الله ﷺ أن الملائكة غسلته. وأكبت الحجارة على رسول الله ﷺ حتى سقط من بعض حفر هناك، فأخذ عليّ بيده، واحتضنه طلحة حتى قام، ومص الدم من جرحه مالك
399
ابن سنان الخدريّ، والد أبي سعيد، ونشبت حلقتان من حلق المغفرة في وجهه ﷺ فانتزعهما أبو عبيدة بن الجراح. فندرت ثنيتاه فصار أهتم. ولحق المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم. وكرّ دونه نفر من المسلمين فقتلوا كلهم وكان آخرهم عمار بن يزيد بن السكن، ثم قاتل طلحة حتى أجهض المشركون. وأبو دجانة يلي النبيّ ﷺ بظهره وتقع فيه النبل فلا يتحرك، وأصيبت عين قتادة بن النعمان. فرجع وهي على وجنته.
فردها عليه السلام بيده فصحّت. وكان أحسن عينيه. وانتهى النضر بن أنس إلى جماعة من الصحابة وقد دهشوا، وقالوا: قتل رسول الله، فقال: فما تصنعون في الحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه، ثم استقبل الناس وقاتل حتى قتل، ووجد به سبعون ضربة. وجرح يومئذ عبد الرحمن بن عوف عشرين جراحة بعضها في رجله فعرج منها. وقتل حمزة عمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم. ونادى الشيطان: ألا إن محمدا قد قتل. لأن عمرو بن قميئة كان قد قتل مصعب بن عمر يظن أنه النبيّ صلى الله عليه وسلم. ووهن المسلمون لصريخ الشيطان. ثم إن كعب بن مالك الشاعر، من بني سلمة، عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم. فنادى بأعلى صوته يبشر الناس.
ورسول الله ﷺ يقول له: انصت.
فاجتمع عليه المسلمون ونهضوا معه نحو الشعب، وأدركه أبيّ بن خلف في الشعب، فتناول ﷺ الحربة من الحارث بن الصمة وطعنه بها في عنقه. فكرّ أبيّ منهزما. وقال له المشركون: ما بك من بأس. فقال: والله! لو بصق عليّ لقتلني، وكان ﷺ قد توعده بالقتل. فمات عدوّ الله بسرف، مرجعهم إلى مكة. ثم جاء عليّ رسول الله ﷺ بالماء فغسل وجهه ونهض. فاستوى على صخرة من الجبل. وحانت الصلاة فصلى بهم قعودا. وغفر الله للمنهزمين من المسلمين. ونزل: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ [آل عمران: ١٥٥] الآية واستشهد نحو من سبعين. معظمهم من الأنصار. وقتل من المشركين اثنان وعشرون. ورجع رسول الله ﷺ وأصحابه إلى المدينة. ويقال إنه
قال لعليّ: لا يصيب المشركون منا مثلها حتى يفتح الله علينا.
هذا ملخص هذه القصة. وقد ساقها بأطول من هذا أهل السير. وفيما ذكر كفاية. وأما ما اشتملت عليه من الأحكام والفقه والحكم والغايات المحمودة، فقد تكفل بيانها الإمام ابن القيّم في (زاد المعاد) فارجع إليه.
تنبيه:
فسر أكثر العلماء (غدوت) بأصلها، وهو الخروج غدوة أي بكرة. ثم
400
استشكلوا أنه ﷺ خرج إلى أحد بعد صلاة الجمعة كما اتفقت عليه كلمة أهل السير، فكيف المطابقة؟
فمنهم من أجاب بأنه المراد غدوة السبت، وأنه كان في صباحه التبوؤ للمقاعد إلا أنه لا يساعده (من أهلك) لأنه لم يكن وقتئذ أهله معه.
ومنهم من قال: المراد غدوة الجمعة أي: اذكر إذ غدوت من أهلك صبيحة الجمعة إلى أصحابك في مسجدك تستشيرهم في أمر المشركين، ثم قال: وبنى من (غدوت) حالا إعلاما بأن الشروع في السبب شروع في مسببه، فقال (تبوئ المؤمنين) أي صبيحة يوم السبت.
وكان يخطر لي أن الأقرب جعل الغدوّ بمعنى الخروج غير مقيد بالبكرة، وكثيرا ما يستعمل كذلك.
ثم رأيت في فتح البيان ما استظهرته فحمدت الله على الموافقة ونصه: وعبر عن الخروج بالغدوّ الذي هو الخروج غدوة مع كونه ﷺ خرج بعد صلاة الجمعة، لأنه قد يعبر بالغدوة والرواح عن الخروج والدخول من غير اعتبار أصل معناهما، كما يقال (أضحى) وإن لم يكن في وقت الضحى- انتهى- قال البقاعيّ: ولما كان رجوع عبد الله بن أبيّ المنافق، كما يأتي في صريح الذكر آخر القصة، من الأدلة على أن المنافقين، فضلا عن المصارحين بالمصارمة، متصفون بإخبار الله تعالى عنهم من العداوة والبغضاء، مع أنه كان سببا في هم الطائفتين من الأنصار بالفشل- كان إيلاء هذه القصة للنهي عن اتخاذ بطانة السوء الذين لا يقصرون عن فساد، في غاية المناسبة. ولذلك افتتحها سبحانه بقوله مبدلا من (إذ غدوت) دليلا على ما قبله من أن بطانة السوء لا يألونهم خبالا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٢٢]
إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٢٢)
إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أي بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس أَنْ تَفْشَلا أي تكسلا وتجبنا وتضعفا لرجوع المنافقين عن نصرهم وولايتهم فعصمهما الله، فمضيا مع رسول الله ﷺ وَاللَّهُ وَلِيُّهُما ناصرهما، ومتولي أمرهما، فأمدهما بالتوفيق والعصمة، وَعَلَى اللَّهِ وحده دون ما عداه استقلالا أو اشتراكا فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ في جميع أمورهم، فإنه حسبهم. و (التوكل: تفعل)
من وكل أمره إلى فلان إذا اعتمد في كفايته عليه، ولم يتوله بنفسه. وفي الآية إشارة إلى أنه ينبغي أن يدفع الإنسان ما يعرض له من مكروه وآفة بالتوكل على الله، وأن يصرف الجزع عن نفسه بذلك التوكل. روى الشيخان «١» عن جابر رضي الله عنه قال: فينا نزلت. إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما- قال: نحن الطائفتان: بنو حارثة وبنو سلمة، وما نحب أنها لم تنزل لقوله تعالى: والله وليهما.
أي لفرط الاستبشار بما حصل لهم من الشرف بثناء الله تعالى وإنزاله فيهم آية ناطقة بصحة الولاية. وإن تلك الهمّة ما أخرجتهم عن ولاية الله تعالى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٢٣]
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣)
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لما ذكر تعالى قصة أحد أتبعها بذكر قصة بدر. وذلك لأن المسلمين يوم بدر كانوا في غاية الضعف عددا وعددا، والكفار كانوا في غاية الشدة والقوة. ثم إنه تعالى نصر المسلمين على الكافرين، فصار ذلك من أقوى الدلائل على أن ثمرة التوكل عليه تعالى والصبر والتقوى هو النصر والمعونة والتأييد. و (بدر) موضع بين الحرمين، إلى المدينة أقرب، يقال هو منها على ثمانية وعشرين فرسخا. أو اسم بئر هناك حفرها رجل اسمه يدر، وقوله لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي راجين أن تشكروا ما أنعم به عليكم بتقواكم من نصرته. وقد أشير في مواضع من التنزيل إلى غزوة بدر، وكانت في شهر رمضان، السنة الثانية من الهجرة، وكان سببها أن النبيّ ﷺ بلغه أن عيرا لقريش فيها أموال عظيمة مقبلة من الشام إلى مكة. معها ثلاثون أو أربعون رجلا من قريش، عميدهم أبو سفيان، ومعه عمرو بن العاص، ومخرمة بن نوفل. فندب ﷺ إلى هذه العير. وأمر من كان ظهره حاضرا بالخروج. ولم يحتفل في الحشد. لأنه لم يظن قتالا. وخرج مسرعا في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا، لم يكن معهم من الخيل إلا فرسان، وكان معهم سبعون بعيرا يعتقبونها. واتصل خروجه بأبي سفيان، فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاريّ، وبعثه إلى أهل مكة يستنفرهم لعيرهم. فنفروا وأوعبوا، وخرج ﷺ لثمان خلون من رمضان، واستخلف على الصلاة عمرو بن أم مكتوم، وردّ
(١) أخرجه البخاريّ في: التفسير، ٣- سورة آل عمران، ٨- باب إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا.
ومسلم في: فضائل الصحابة، حديث ١٧١.
402
أبا لبابة من الروحاء واستعمله على المدينة، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير، ودفع إلى عليّ راية، وإلى رجل من الأنصار راية أخرى، يقال كانتا سوداوين. وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة. وراية الأنصار يومئذ مع سعد بن معاذ، فسلكوا نقب المدينة إلى ذي الحليفة، ثم انتهوا إلى صخيرات يمام، ثم إلى بئر الروحاء، ثم رجعوا ذات اليمين عن الطريق إلى الصفراء، وبعث ﷺ قبلها بسبس بن عمرو وعديّ بن أبي الزغباء إلى بدر يتجسسان أخبار أبي سفيان وعيره، ثم تنكب عن الصفراء يمينا، وخرج على وادي دقران، فبلغه خروج قريش ونفيرهم، فاستشار أصحابه فتكلم المهاجرون، وأحسنوا، وهو يريد ما يقول الأنصار، وفهموا ذلك، فتكلم سعد بن معاذ، وكان فيما قال: لو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك، فسر بنا يا رسول الله على بركة الله. فسرّ بذلك وقال: سيروا وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين. ثم ارتحلوا من دقران إلى قريب من بدر، وبعث عليّا والزبير وسعدا في نفر يلتمسون الخبر. فأصابوا غلامين لقريش، فأتوا بهما، وهو ﷺ قائم يصلي، وقالوا:
نحن سقاة قريش، فكذبوهما، كراهية في الخبر، ورجاء أن يكونا من العير للغنيمة وقلة المؤنة، فجعلوا يضربونهما فيقولان: نحن من العير. فسلّم رسول الله ﷺ وأنكر عليهم، وقال للغلامين: أخبراني أين قريش؟ فأخبراه أنهم وراء الكثيب، وأنهم ينحرون يوما عشرا من الإبل ويوما تسعا،
فقال صلى الله عليه وسلم: القوم ما بين التسعمائة والألف.
وقد كان بسبس وعديّ مضيا يتجسسان ولا خبر، حتى نزلا وأناخا قرب الماء، واستقيا في شن لهما، ومجدي بن عمرو من جهينة بقربهما. فسمع عديّ جارية من جواري الحي تقول لصاحبتها: العير تأتي غدا أو بعد غد، وأعمل لهم وأقضيك الذي لك، وجاءت إلى مجدي بن عمرو، فصدقها. فرجع بسبس وعديّ بالخبر.
وجاء أبو سفيان بعدهما بتجسس الخبر. فقال لمجدي: هل أحسست أحدا؟ فقال:
راكبين أناخا يميلان لهذا التل، فاستقيا الماء ونهضا. فأتى أبو سفيان مناخهما، وفتت من أبعار رواحلهما. فقال: هذه، والله، علائف يثرب. فرجع سريعا وقد حذر، وتنكب بالعير إلى طريق الساحل فنجا. وأوصى إلى قريش بأنا قد نجونا بالعير فارجعوا. فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نرد ماء بدر، ونقيم به ثلاثا، وتهابنا العرب أبدا، ورجع الأخنس بن شريق بجميع بني زهرة، وكان حليفهم ومطاعا فيهم وقال: إنما خرجتم تمنعون أموالكم وقد نجت، فارجعوا. وكان بنو عديّ لم ينفروا مع القوم، فلم يشهد بدرا من قريش عدويّ ولا زهريّ. وسبق رسول الله ﷺ قريشا إلى ماء بدر، وثبطهم عنه مطر نزل وبله مما يليهم، وأصاب مما يلي المسلمين
403
دهس الوادي، وأعانهم على السير. فنزل ﷺ على أدنى ماء من مياه بدر إلى المدينة، فقال له الحباب بن المنذر: الله أنزلك بهذا المنزل فلا نتحول عنه، أم قصدت الحرب والمكيدة؟
فقال صلى الله عليه وسلم: لا بل هو الرأي والحرب. فقال: يا رسول الله! ليس هذا بمنزل، وإنما نأتي أدنى ماء من القوم، فننزله ونبني عليه حوضا، ونملؤه ونعوّر القلب كلها، فنكون قد منعناهم الماء، فاستحسنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم بنوا عريشا على تل مشرف على المعركة يكون فيه رسول الله ﷺ حتى يأتيه النصر من ربه، ومشى يريهم مصارع القوم واحدا واحدا. ولما نزل قريش مما يليهم بعثوا عمير بن وهب الجمحيّ يحزر أصحاب رسول الله ﷺ فحزرهم وانصرف وخبرهم الخبر. ورام حكيم بن حزام وعتبة بن ربيعة أن يرجعا بقريش، ولا يكون الحرب، فأبى أبو جهل، وساعده المشركون، وتواقفت الفئتان، وعدل رسول الله ﷺ الصفوف بيده، ورجع إلى العريش، ومعه أبو بكر وحده، وطفق يدعو ويلح، وأبو بكر يقاوله. ويقول في دعائه: اللهم! إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض، اللهم! أنجز لي ما وعدتني.
وسعد بن معاذ وقوم معه من الأنصار على باب العريش يحمونه، وأخفق رسول الله ﷺ ثم انتبه،
فقال: أبشر يا أبا بكر! فقد أتى نصر الله.
ثم خرج يحرض الناس.
ورمى في وجوه القوم بحفنة من حصى وهو يقول: شاهت الوجوه.
ثم تزاحفوا.
فخرج عتبة وأخوه شيبة وابنه الوليد يطلبون البراز، فخرج إليهم عبيدة بن الحارث وحمزة بن عبد المطلب وعليّ بن أبي طالب، فقتل حمزة وعليّ شيبة والوليد، وضرب عتبة عبيدة، فقطع رجله فمات، وجاء حمزة وعليّ إلى عتبة فقتلاه، وقد كان برز إليهم عوف ومعاذ ابنا عفراء وعبد الله بن رواحة من الأنصار فأبوا إلا قومهم.
وجال القوم جولة. فهزم المشركون. وقتل منهم يومئذ سبعون رجلا. وأسر سبعون.
واستشهد من المسلمين أربعة عشر رجلا. ثم انجلت الحرب، وانصرف إلى المدينة، وقسم الغنائم في الصفراء، ودخل المدينة لثمان بقين من رمضان. وبسط القصة في السير. ومن أبدعها سياقا وفقها (زاد المعاد) فليرجع إليه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٢٤]
إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤)
إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ لتقويتكم ونصركم ودفع
أعدائكم بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ من سمائه لقتال أعدائه. وقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٢٥]
بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥)
بَلى إما من تتمة مقوله ﷺ للمؤمنين أو ابتداء خطاب من الله تعالى تأييدا لقول نبيه وزيادة على ما وعدهم تكرما وفضلا. أي: نعم يكفيكم الإمداد بثلاثة آلاف ولكنه يزيدكم إِنْ تَصْبِرُوا على قتالهم وَتَتَّقُوا الفرار عنهم وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا أي ساعتهم هذه فلا تنزعجوا بمفاجأتهم يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ في حال إتيانهم لا يتأخر نزولهم عن إتيانهم مُسَوِّمِينَ بكسر الواو أي معلمين أنفسهم بأداة الحرب على عادة الفرسان يوم اللقاء ليعرفوا بها. وقرئ بفتح الواو أو معلّمين من قبله تعالى.
روى البخاريّ «١» عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ قال يوم بدر: هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب.
تنبيه:
وفي وعده ﷺ للمؤمنين بالإمداد بقوله إِذْ تَقُولُ وجهان:
الأول- أنه كان في يوم بدر، فإن سياق ما قبله يدل عليه وهو قوله وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ ف (إذ) ظرف ل (نصركم)، أي نصركم وقت قولك للمؤمنين وقد أظهروا العجز واستغاثوا ربهم. فإن قيل: فما الجمع بين هذه الآية، على هذا الوجه، وبين قوله في سورة الأنفال في قصة بدر: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال: ٩] ؟
فالجواب: أن التنصيص على الألف هاهنا لا ينافي الثلاثة آلاف فما فوقها، لقوله (مردفين) بمعنى يردفهم غيرهم ويتبعهم ألوف أخر مثلهم، وذلك أنهم لما استغاثوا أمدهم بألف ثم أمدهم بتمام ثلاثة آلاف، ثم أمدهم بتمام خمسة آلاف لما صبروا واتقوا، وكان هذا التدريج ومتابعة الإمداد أحسن موقعا وأقوى لتقويتهم، وأسرها من أن يأتي مرة واحدة، وهو بمنزلة متابعة الوحي، ونزوله مرة بعد مرة. قال الربيع بن أنس: أمد الله المسلمين بألف، ثم صاروا ثلاثة آلاف، ثم صاروا خمسة
(١) أخرجه البخاريّ في: المغازي، ١١- باب شهود الملائكة بدرا، حديث ١٨٥٥.
405
آلاف، ومما يؤيد هذا الوجه أن سياق بدر في الأنفال من قوله تعالى: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ... [الأنفال: ٧]، الآيات شبيهة بهذا السياق هنا. كما يذوقه من تدبره.
الوجه الثاني: أن هذا الوعد كان يوم أحد، فإن القصة في سياق أحد، وإنما أدخل ذكر بدر اعتراضا في أثنائها ليذكرهم بنعمته عليهم، لما نصرهم ببدر وهم أذلة، وإنه كذلك هو قادر على نصرهم في سائر المواطن. ثم عاد إلى قصة أحد، وأخبر عن قول رسوله لهم: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ... الآية. ثم وعدهم أنهم إن صبروا واتقوا أمدهم بخمسة آلاف. فهذا من قول رسوله، والإمداد الذي ببدر من قوله تعالى، وهذا بخمسة آلاف. وإمداد بدر بألف، وهذا معلق على شرط، وذاك مطلق، والقصة في هذه السورة هي قصة أحد مستوفاة مطولة، وبدر ذكرت فيها اعتراضا. والقصة في الأنفال قصة بدر مستوفاة مطولة، فالسياق هنا غير السياق في الأنفال- أشار لذلك ابن القيّم في (زاد المعاد).
وقد انتصر للوجه الأول العلامة أبو السعود، وبين ضعف الثاني بأوجه وجيهة.
فليرجع إليه.
ونقل الخازن عن ابن جرير أنه قال: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال:
إن الله أخبر عن نبيه محمد ﷺ أنه قال للمؤمنين: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ؟ فوعدهم الله بثلاثة آلاف من الملائكة مددا لهم، ثم وعدهم بعد الثلاثة الآلاف، خمسة آلاف إن صبروا لأعدائهم واتقوا الله.
ولا دلالة في الآية على أنهم أمدوا بالثلاثة آلاف ولا بالخمسة آلاف، ولا على أنهم لم يمدّوا بهم. وقد يجوز أن يكون الله عز وجل أمدهم على نحو ما رواه الذين أثبتوا أنه أمدهم. وقد يجوز أن يكون لم يمدهم على نحو الذي ذكره من أنكر ذلك. ولا خبر عندنا صحّ من الوجه الذي يثبت أنهم أمدّوا بالثلاثة الآلاف. ولا بالخمسة الآلاف.
وغير جائز، أن يقال في ذلك قول إلا بخبر تقوم به الحجة. ولا خبر به كذلك، فنسلم لأحد الفريقين قوله.
غير أن في القرآن دلالة على أنهم قد أمدوا يوم بدر بألف من الملائكة وذلك قوله: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال: ٩].
406
فأما في يوم أحد فالدلالة على أنهم لم يمدّوا أبين منها في أنهم أمدوا. وذلك أنهم لو أمدوا، لم يهزموا، وينال منهم ما نيل منهم.
فالصواب فيه من القول أن يقال كما قال تعالى ذكره.
(هذا هو نص ابن جرير. صفحة ١٨٠- ١٨١ من الجزء السابع (طبعة المعارف).
فإن قلت: فما تصنع بحديث سعد بن أبي وقاص المرويّ في الصحيحين أنه قال «١» رأيت رسول الله ﷺ يوم أحد ومعه رجلان يقاتلان عنه، عليهما ثياب بيض، كأشد القتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد، يعني جبريل وميكائيل؟ قلت: إنما كان ذلك للنبيّ ﷺ خاصة، لأنه صبر ولم يهزم كما انهزم أصحابه يوم أحد- انتهى.
فائدة:
الإمداد، لغة الإعانة. والمراد هنا إعانة الجيش. وهل إعانة الملائكة للجيش بالقتال معهم للحديث السابق.
ولحديث عائشة في الصحيحين «٢» قالت: لما رجع رسول الله ﷺ من الخندق ووضع السلاح واغتسل، أتاه جبريل فقال: قد وضعت السلاح؟ والله ما وضعناه، اخرج إليهم! قال: فإلى أين؟ قال: هاهنا- وأشار إلى بني قريظة، فخرج النبيّ ﷺ إليهم
- أو هي بتكثير سواد المسلمين وتثبيت قلوبهم، كما قال تعالى في الأنفال: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا، سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ [الأنفال: ١٢]. أو بهما معا وهو الظاهر. وقد سئل السبكيّ عن الحكمة في قتال الملائكة، مع أن جبريل قادر على أن يدفع الكفار بريشة من جناحه، فأجاب بأن ذلك لإرادة أن يكون الفضل للنبيّ وأصحابه، وتكون الملائكة مددا على عادة مدد الجيوش، رعاية لصورة الأسباب التي أجراها الله تعالى في عباده. والله فاعل الجميع- انتهى-
(١) أخرجه البخاريّ في: المغازيّ، ١٨- باب إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ، حديث ١٨٧٣.
ومسلم في: الفضائل، حديث ٤٦ و ٤٧.
(٢) أخرجه البخاريّ في: المغازي، ٣٠- باب مرجع النبي ﷺ من الأحزاب ومخرجه إلى بني قريظة ومحاصرته إياهم، حديث ٣٠٨.
ومسلم في: الجهاد والسير، حديث ٦٥.
407
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٢٦]
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦)
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ أي ما جعل الإمداد بالملائكة إلا لتستبشروا به فتزداد قوة قلوبكم وشجاعتكم ونجدتكم ونشاطكم وَلِتَطْمَئِنَّ أي تسكن قُلُوبُكُمْ بِهِ أي فلا تجزع من كثرة عدوكم وقلة عددكم وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وحده لا من الملائكة ولا من غيرهم، فالأسباب الظاهرة بمعزل من التأثير، وفيه توثيق للمؤمنين، وعدم إقناط من النصر عند فقدان أسبابه وأماراته الْعَزِيزِ أي الذي لا يغالب في حكمه الْحَكِيمِ الذي يفعل كل ما يفعل حسبما تقتضيه حكمته الباهرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٢٧]
لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (١٢٧)
لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي ليهلك وينقص طائفة منهم بالقتل والأسر، كما كان يوم بدر، من قتل سبعين وأسر سبعين منهم، واللام متعلقة، إما بقوله تعالى: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ. وما بينهما تحقيق لحقيقته، وبيان لكيفية وقوعه- إما بما تعلق به الخبر في قوله تعالى: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. من الثبوت والاستقرار أَوْ يَكْبِتَهُمْ أي يخزيهم ويغيظهم بالهزيمة تقويه للمؤمنين فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ أي فيرجعوا منقطعي الآمال. وإنما أوقع بين المعطوف والمعطوف عليه في أثناء الكلام قوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٢٨]
لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (١٢٨)
لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ اعتراضا لئلا يغفل رسول الله ﷺ فيرى لنفسه تأثيرا في بعض هذه الأمور فيحتجب عن التوحيد، أي ليس لك من أمرهم شيء، كيفما كان، ما أنت إلا بشر مأمور بالإنذار. إن عليك إلا البلاغ، إنما أمرهم إلى الله- أفاده القاشانيّ- وفي الاعتراض تخفيف من حزنه لكفرهم، وحرصه على هداهم، كما قال: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ. وقوله تعالى: أَوْ يَتُوبَ
408
عَلَيْهِمْ
. أي مما هم فيه من الكفر فيهديهم للإسلام بعد الضلالة أَوْ يُعَذِّبَهُمْ أي في الدنيا والآخرة على كفرهم وذنوبهم فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ أي يستحقون ذلك لاستمرارهم على العناد.
روى البخاريّ «١» عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ كان إذا أراد أن يدعوا على أحد أو يدعوا لأحد، قنت بعد الركوع، فربما قال، إذا قال سمع الله لمن حمده: اللهم! ربنا ولك الحمد: اللهم! أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة، اللهم! اشدد وطأتك على مضر واجعلها سنين كسني يوسف، يجهر بذلك، وكان يقول في بعض صلاته في صلاة الفجر: اللهم العن فلانا وفلانا (لأحياء من العرب) حتى أنزل الله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ... الآية.
وقد أسند ما علقه عن ابن عمر «٢»
أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الآخرة من الفجر، يقول: اللهم العن فلانا وفلانا وفلانا. بعد ما يقول: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد. فأنزل الله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ... الآية
ورواه الإمام أحمد عن ابن عمر أيضا ولفظه: اللهم! العن فلانا وفلانا. اللهم العن الحارث بن هشام. اللهم العن سهيل بن عمرو. اللهم العن صفوان ابن أمية. فنزلت هذه الآية: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ... الآية،
فيتوب عليهم كلهم.
وقال الإمام أحمد «٣» حدثنا هشيم حدثنا حميد عن أنس رضي الله عنه أن النبيّ ﷺ كسرت رباعيته يوم أحد وشج في جبهته حتى سال الدم على وجهه، فقال: كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم عز وجل، فأنزل الله:
لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ. الآية- انفرد به مسلم. ورواه البخاريّ تعليقا
. وقد تقدم لنا في مقدمة التفسير تحقيق معنى سبب النزول، وأن الآية قد تذكر استشهادا في مقام، لكونها مما تشمله. فيطلق الراوي عليها النزول فيه، ولا يكون قصده أن هذا كان سببا لنزولها. والحكمة في منعه ﷺ من الدعاء عليهم ظهرت من توبتهم أخيرا. والإلحاح في الدعاء مظنة الإجابة، لا سيما من أشرف
(١) أخرجه في: التفسير، ٣- سورة آل عمران، ٩- باب لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، حديث ٤٨٣.
(٢) أخرجه في: التفسير، ٣- سورة آل عمران، ٩- باب لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، حديث ١٨٧٥.
(٣) أخرجه الإمام أحمد في المسند بالصفحة ٩٩ ج ٣. [.....]
409
خلقه. فاقتضت حكمته تعالى إمهالهم إلى أن يتوبوا لسابق علمه فيهم. وفيه طلب التفويض في الأمور الملمة، لما في طيّها من الأسرار الإلهية.
لطيفة:
قوله تعالى: أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ. منصوب بإضمار (أن) في حكم اسم معطوف ب (أو) على (الأمر) أو على (شيء)، أي ليس لك من أمرهم شيء، أو من التوبة عليهم، أو من تعذيبهم، أو ليس لك من أمرهم شيء أو التوبة عليهم أو تعذيبهم.
أقول: جعل أَوْ يَتُوبَ منصوبا بالعطف على (يكبتهم) - بعيد جدا. وإن قدمه بعض المفسرين على الوجه المتقدم. وذلك لأن قوله تعالى لَيْسَ لَكَ كلام مستأنف على ما صرحت به الروايات في سبب النزول. وهي المرجع في التأويل- والله أعلم-.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٢٩]
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢٩)
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ تقرير لما قبله من قوله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، أي له ما فيهما ملكا وأمرا يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ فيحكم في خلقه بما يشاء، لا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ تذييل مقرر لمضمون قوله: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ، مع زيادة. وفي تخصيص التذييل به دون قرينة، من الاعتناء بشأن المغفرة والرحمة ما لا يخفى- أفاده أبو السعود-.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٣٠]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً هذا نهي عن الربا مع التوبيخ بما كانوا عليه في الجاهلية من تضعيفه، كان الرجل منهم إذا بلغ الدّين محله يقول: إما أن تقضي حقي أو تربي وأزيد في الأجل. وفي ندائهم باسم (الإيمان) إشعار بأن من مقتضى الإيمان وتصديقه ترك الربا. وقد تقدم في البقرة من المبالغة في النهي عنه ما يروع من له أدنى تقوى. يوجب، لمن لم يتركه وما يقاربه، الضمان
بالخذلان في كل زمان: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة: ٢٧٩].
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ، فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ [البقرة: ٨٦]. وقوله أَضْعافاً مُضاعَفَةً أي زيادات متكررة، وليس لتقييد النهي به، لما هو معلوم من تحريمه على كل حال، بل لمراعاة عادتهم كما بيّنا. ومحله النصب على الحالية من الربا. وقرئ (ضعفة) وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما تنهون عنه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ بإيفاء حقوقكم وصونكم عن أعدائكم، كما صنتم حقوق الأشياء. ومما يعلم به حكمة نظم هذه الآية في سلك قصة أحد، ما رواه أبو داود «١» عن أبي هريرة أن عمرو بن أقيش رضي الله عنه كان له ربا في الجاهلية، فكره أن يسلم حتى يأخذه، فجاء يوم أحد، فقال: أين بنو عمي؟ قالوا بأحد. قال: أين فلان؟
قالوا: بأحد. قال: فأين فلان؟ قالوا: بأحد. فلبس لأمته، وركب فرسه، ثم توجه قبلهم، فلما رآه المسلمون قالوا: إليك عنا يا عمرو! قال: إني قد آمنت، فقاتل حتى جرح، فحمل إلى أهله جريحا، فجاءه سعد بن معاذ رضي الله عنه، فقال لأخته:
سليه: حمية لقومك وغضبا لهم أم غضبا لله عز وجل؟ فقال: بل غضبا لله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، فمات، فدخل الجنة، وما صلى لله عز وجل صلاة.
قال الدينوريّ: وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: حدثوني عن رجل دخل الجنة لم يصل قط! فيسكت الناس، فيقول أبو هريرة: هو أخو بني عبد الأشهل.
وعند ابن إسحاق: فذكر لرسول الله ﷺ فقال: إنه لمن أهل الجنة- هذا ملخص ما أورده البقاعيّ رحمه الله تعالى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٣١]
وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (١٣١)
وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ بالتحرز عن متابعتهم في الربا ونحوه. روي عن أبي حنيفة رضي الله عنه أنه كان يقول: هي أخوف آية في القرآن، حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٣٢]
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ أي في ترك الربا ونحوه لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ.
(١) أخرجه أبو داود في: الجهاد، ٣٧- باب فيمن يسلم ويقتل مكانه في سبيل الله عز وجل، حديث ٢٥٣٧.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٣٣]
وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣)
وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ أي إلى ما يؤدي إليهما من الاستغفار والتوبة والأعمال الصالحة. وقوله عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أي كعرضهما، كما قال في سورة الحديد: سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [الحديد: ٢١]. وفي العرض وجهان:
الأول- أنه على حقيقته. وتخصيصه بالذكر تنبيها على اتساع طولها. فإن العرض في العادة أدنى من الطول، كما قال تعالى في صفة فرض الجنة: بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ [الرحمن: ٥٤]. أي فما ظنك بظاهرها؟ فكذا هنا.
والثاني- أنه مجاز عن السعة والبسطة. قال القفال: ليس المراد بالعرض هاهنا ما هو خلاف الطول، بل هو عبارة عن السعة، كما تقول العرب: بلاد عريضة، ويقال: هذه دعوى عريضة أي واسعة عظيمة. والأصل فيه أن ما اتسع عرضه لم يضق وما ضاق عرضه دق، فجعل العرض كناية عن السعة. وقال الزمخشريّ: المراد وصفها بالسعة والبسطة. فشبهت بأوسع ما علمه الناس من خلقه تعالى وأبسطه- والله أعلم. أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٣٤]
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤)
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ أي في حال الرخاء واليسر وَالضَّرَّاءِ أي في حال الضيقة والعسر. وإنما افتتح بذكر الإنفاق لأنه أشق شيء على النفس، فمخالفتها فيه منقبة شامخة وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ أي الممسكين عليه في نفوسهم، الكافّين عن إمضائه مع القدرة عليه، اتقاء التعدي فيه إلى ما وراء حقه.
روى الإمام أحمد «١» عن جارية بن قدامة السعديّ أنه سأل رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله قل لي قولا ينفعني وأقلل عليّ لعلّي أعيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(١) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٣/ ٤٨٤.
412
لا تغضب. فأعاد عليه. حتى أعاد عليه مرارا. كل ذلك يقول: لا تغضب- انفرد به أحمد
وروى من طريق آخر أن رجلا قال: يا رسول الله أوصني، قال: لا تغضب.
قال الرجل: ففكرت حين قال النبيّ ﷺ ما قال، فإذا الغضب يجمع الشركله
وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ أي ظلمهم لهم، ولو كانوا قد قتلوا منهم، فلا يؤاخذون أحدا بما يجني عليهم، ولا يبقى في أنفسهم موجدة، كما قال تعالى: وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [الشورى: ٣٧]. قال القفال رحمه الله: يحتمل أن يكون هذا راجعا إلى ما ذم من فعل المشركين في أكل الربا، فنهى المؤمنون عن ذلك، وندبوا إلى العفو عن المعسرين. قال تعالى عقيب قصة الربا والتداين: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ، وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ، إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: ٢٨٠].
ويحتمل أن يكون كما قال تعالى في الدية: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ [البقرة: ١٧٨]. إلى قوله: وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ. ويحتمل أن يكون هذا بسبب غضب رسول الله ﷺ حين مثلوا بحمزة وقال: لأمثلنّ بهم. فندب إلى كظم هذا الغيظ والصبر عليه والكف عن فعل ما ذكر أنه يفعله من المثلة، فكان تركه فعل ذلك عفوا. قال تعالى في هذه القصة: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ، وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [النحل: ١٢٦]- انتهى- وظاهر أن عموم الآية مما يشمل كل ما ذكر. إذ لا تعيين وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ اللام إما للجنس، وهم داخلون فيه دخولا أوليا. وإما للعهد، عبر عنهم بالمحسنين إيذانا بأن النعوت المعدودة من باب الإحسان الذي هو الإتيان بالأعمال على الوجه اللائق الذي هو حسنها الوصفيّ المستلزم لحسنها الذاتيّ. وقد فسره صلى الله عليه وسلم
بقوله «١» : أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك.
والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها- أفاده أبو السعود-.
(١)
أخرجه البخاريّ في: الإيمان، ٣٧- باب سؤال جبريل النبيّ ﷺ عن الإيمان والإسلام والإحسان.
ونصه: عن أبي هريرة قال: كان النبيّ ﷺ بارزا يوما للناس. فأتاه جبريل فقال: ما الإيمان؟ قال «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وبلقائه ورسله، وتؤمن بالبعث» قال: ما الإسلام؟ قال «أن تعبد الله ولا تشرك به. وتقيم الصلاة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان» قال: ما الإحسان؟ قال «أن تعبد الله كأنك تراه. فإن لم تكن تراه فإنه يراك» قال: متى الساعة؟ قال «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل. وسأخبرك عن أشراطها: إذا ولدت الأمة ربتها. وإذا تطاول رعاة الإبل البهم في البنيان. في خمس لا يعلمهن إلا الله». ثم تلا النبيّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ.. الآية.
ثم أدبر. فقال «ردوه» فلم يروا شيئا. قال «هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم»
.
413
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٣٥]
وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥)
وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً من السيئات الكبار أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ أي بأي نوع من الذنوب ذَكَرُوا اللَّهَ أي تذكروا حقه وعهده فاستحيوه وخافوه فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ أي لأجلها بالتوبة والإنابة إليه تعالى.
قال البقاعيّ: ولما كان هذا مفهما أنه يغفر لهم لأنه غفار لمن تاب، أتبعه بتحقيق ذلك، ونفى القدرة عليه عن غيره، مرغبا في الإقبال عليه بالاعتراض بين المتعاطفين بقوله وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ أي يمحو آثارها حتى لا تذكر ولا يجازي عليها إِلَّا اللَّهُ أي الملك الأعلى. وقال أبو السعود مَنْ استفهام إنكاريّ. أي لا يغفر الذنوب أحد إلا الله، خلا أن دلالة الاستفهام على الانتفاء أقوى وأبلغ لإيذانه بأنه كل أحد ممن له حظ من الخطاب يعرف ذلك الانتفاء، فيسارع إلى الجواب به.
والمراد به وصفه سبحانه بغاية سعة الرحمة وعموم المغفرة، والجملة معترضة بين المعطوفين، أو بين الحال وصاحبها لتقرير الاستغفار والحث عليه، والإشعار بالوعد بالقبول.
وقال الزمخشريّ: في هذه الجملة وصف لذاته تعالى بسعة الرحمة، وقرب المغفرة، وأن التائب من الذنب عنده كمن لا ذنب له، وأنه لا مفزع للمذنبين إلا فضله وكرمه، وأن عدله يوجب المغفرة للتائب، لأن العبد إذا جاء في الاعتذار والتنصل بأقصى ما يقدر عليه، وجب العفو والتجاوز. وفيه تطييب لنفوس العباد، وتنشيط للتوبة، وبعث عليها، وردع عن اليأس والقنوط، وأن الذنوب وإن جلت فإن عفوه أجل، وكرمه أعظم. والمعنى أنه وحده معه مصححات المغفرة- انتهى-.
وفي مسند الإمام أحمد «١» عن الأسود بن سريع رضي الله عنه أن النبيّ ﷺ أتي بأسير، فقال: اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: عرف الحق لأهله. وفيه أيضا «٢» : عن أبي سعيد الخدريّ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
(١) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٣/ ٤٣٥.
(٢) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٣/ ٢٩.
يقول: إن إبليس قال لربه: بعزتك وجلالك لا أبرح أغوي بني آدم ما دامت الأرواح فيهم! فقال الله: فبعزتي وجلالي لا أبرح أغفر لهم ما استغفروني.
وفيه أيضا «١» : عن عليّ رضي الله عنه قال: كنت إذا سمعت من رسول الله ﷺ حديثا نفعني الله بما شاء منه، وإذا حدثني عنه غيري استحلفته، فإذا حلف لي صدقته وإن أبا بكر رضي الله عليه حدثني، وصدق أبو بكر، أنه سمع رسول الله ﷺ قال: ما من رجل يذنب ذنبا فيتوضأ فيحسن الوجوء، ثم يصلي ركعتين، فيستغفر الله عزّ وجل إلا غفر له، ورواه أهل السنن وابن حبان في صحيحه
وغيرهم- قال الترمذيّ: حديث حسن وَلَمْ يُصِرُّوا أي لم يقيموا عَلى ما فَعَلُوا أي ما فعلوه من الذنوب من غير استغفار وَهُمْ يَعْلَمُونَ حال من فاعل (يصروا) أي لم يصروا على ما فعلوا وهم عالمون بقبحه، والنهي عنه، والوعيد عليه. والتقييد بذلك، لما أنه قد يعذر من لا يعلم قبح القبيح.
وقد روى أبو داود والترمذيّ «٢» والبزار وأبو يعلى عن مولى لأبي بكر الصديق رضي الله عنه عن أبي بكر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أصرّ من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة
، وإسناده لا بأس به. قال ابن كثير: وقول عليّ بن المدينيّ والترمذيّ: ليس إسناد هذا الحديث بذاك- فالظاهر أنه لأجل جهالة مولى أبي بكر، ولكن جهالة مثله لا تضرّ لأنه تابعيّ كبير، ويكفيه نسبته إلي أبي بكر، فهو حديث حسن- والله أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٣٦]
أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (١٣٦)
أُولئِكَ إشارة إلى المذكورين باعتبار اتصافهم بما مر من الصفات الحميدة جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ أي ستر لذنوبهم وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي من أنواع المشروبات خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ المخصوص بالمدح
(١) أخرجه الإمام أحمد في المسند رقم ٢.
ورواه الترمذيّ في: الصلاة، ١٨١- باب ما جاء في الصلاة عند التوبة.
(٢) أخرجه أبو داود في: الوتر، ٢٦- باب في الاستغفار، حديث ١٥١٤ والترمذيّ في: الدعوات، ١٠٦- باب حدثنا حسين بن يزيد الكوفيّ.
محذوف، أي ذلك. يعني ما ذكر من المغفرة والجنات. ثم عاد التنزيل إلى تفصيل بقية قصد أحد، بعد تمهيده مبادئ الرشد والصلاح بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٣٧]
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١٣٧)
قَدْ خَلَتْ أي مضت مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ أي وقائع من أنواع المؤاخذات والبلايا للأمم المكذبين فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ التي فيها ديارهم الخربة وآثار إهلاكهم فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ أي وقيسوا بهم عاقبة اللاحقين بهم في الهلاك والاستئصال. والأمر بالسير والنظر. لما أن لمشاهدة آثار المتقدمين أثرا في الاعتبار والروعة، أقوى من أثر السماع.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٣٨]
هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨)
هذا أي القرآن أو ما تقدم من مؤاخذة المذكورين بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ أي تخويف نافع لِلْمُتَّقِينَ ثم شجع قلوب المؤمنين وسلاهم عما أصابهم بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٣٩]
وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩)
وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي لا تضعفوا عن الجهاد بما نالكم من الجراح، ولا تحزنوا على من قتل منكم، والحال أنكم الأعلون الغالبون دون عدوكم، فإن مصير أمرهم إلى الدمار حسبما شاهدتم من عاقبة أسلافهم، فهو تصريح بالوعد بالنصر بعد الإشعار به فيما سبق، وقوله إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ متعلق بالنهي أو ب (الأعلون). وجوابه محذوف لدلالة ما تعلق به عليه. أي إن كنتم مؤمنين، فلا تهنوا ولا تحزنوا، فإن الإيمان يوجب قوة القلب، والثقة بصنع الله تعالى، وعدم المبالاة بأعدائه. أو إن كنتم مؤمنين فأنتم الأعلون، فإن الإيمان يقتضي العلو لا محالة- أفاده أبو السعود-.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٤٠]
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠)
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ بالفتح والضم قراءتان، وهما لغتان، كالضّعف والضّعف، أي إن أصابكم يوم أحد جراح فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ أي يوم بدر ولم يضعفوا ولم يجبنوا فأنتم أولى، لأنكم موعودون بالنصر دونهم، أي فقد استويتم في الألم، وتباينتم في الرجاء والثواب، كما قال: إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ
[النساء: ١٠٤]. فما بالكم تهنون وتضعفون عند القرح والألم، فقد أصابهم ذلك في سبيل الشيطان، وأنتم أصبتم في سبيل الله، وابتغاء مرضاته. وقيل: كلا المسّين كان يوم أحد، فإن المسلمين نالوا منهم قبل أن يخالفوا أمر رسول الله ﷺ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ أي أيام هذه الحياة الدنيا نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ أي نصرفها بينهم، نديل تارة لهؤلاء، وتارة لهؤلاء. فهي عرض حاضر، يقسمها بين أوليائه وأعدائه. بخلاف الآخرة، فإن عرضها ونصرها ورجاءها خالص للذين آمنوا.
قال ابن القيم قدس الله سره (في ذكر بعض الحكم والغايات المحمودة التي كانت في وقعة أحد) :
ومنها أن حكمة الله وسنته في رسله وأتباعهم جرت بأن يدالوا مرة ويدال عليهم أخرى، لكن تكون لهم العاقبة. فإنهم لو انتصروا دائما دخل معهم المسلمون وغيرهم، ولم يميز الصادق من غيره. ولو انتصر عليهم دائما لم يحصل المقصود من البعثة والرسالة. فاقتضت حكمة الله أن جمع لهم بين الأمرين ليتميز من يتبعهم ويطيعهم للحق وما جاءوا به، ممن يتبعهم على الظهور والغلبة خاصة- انتهى- وقوله تعالى: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا قال ابن القيم: حكمة أخرى وهي أن يتميز المؤمنون من المنافقين فيعلمهم علم رؤية ومشاهدة بعد أن كانوا معلومين في غيبه، وذلك العلم الغيبيّ لا يترتب عليه ثواب ولا عقاب، وإنما يترتبان على المعلوم إذا صار مشاهدا واقعا في الحس.
لطيفة:
في الآية وجهان:
أحدهما: أن يكون المعلل محذوفا معناه: وَلِيَعْلَمَ.. إلخ فعلنا ذلك.
417
الثاني: أن تكون العلة محذوفة وهذا عطف عليه معناه: وفعلنا ذلك ليكون كيت وكيت، وليعلم الله. وإنما حذف للإيذان بأن المصلحة فيما فعل ليست بواحدة ليسليهم عما جرى عليهم وليبصّرهم أن العبد يسوؤه ما يجري عليه من المصائب، ولا يشعر أن لله في ذلك من المصالح ما هو غافل عنه- أفاده الزمخشري-
تنبيه:
في هذه الآية بحث مشهور، وذلك بأن ظاهرها مشعر بأنه تعالى إنما فعل ذلك ليكتسب هذا العلم، ومعلوم أن ذلك محال على الله تعالى، ونظيرها في الإشكال قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ.. [آل عمران: ١٤٢] إلخ. وقوله: وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ [العنكبوت: ٣] وقوله: لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى.. [الكهف: ١٢] وقوله: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ [محمد: ٣١]. وقوله: إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ [البقرة: ١٤٣].
قال الرازيّ: وقد احتج هشام بن الحكم بظواهر هذه الآيات على أن الله تعالى لا يعلم حدوث الحوادث إلا عند وقوعها فقال: كل هذه الآيات دالة على أنه تعالى إنما صار عالما بحدوث هذه الأشياء عند حدوثها.
ولما كانت الدلائل القطعية دالة على أزلية علمه جل اسمه، أجاب عن ذلك العلماء بأجوبة:
منها- أن هذا من باب التمثيل. فالتقدير في هذه الآية: ليعاملكم معاملة من يريد أن يعلم المخلصين الثابتين على الإيمان من غيرهم.
ومنها- أن العلم فيها مجاز عن التمييز بطريق إطلاق اسم السبب على المسبب أي ليميز الثابتين على الإيمان من غيرهم.
ومنها- أن العلم على حقيقته. إلا أنه معتبر من حيث تعلقه بالمعلوم من حيث إنه واقع موجود بالفعل، أي ليعلم الثابت واقعا منهم كما كان يعلم أنه سيقع لأن المجازاة تقع على الواقع دون المعلوم الذي لم يوجد، وهذا ما اعتمده ابن القيّم كما نقلناه أولا.
ومنها- أن الكلام على حذف مضاف. أي ليعلم أولياء الله، فأضاف إلى نفسه تفخيما- والله أعلم.
418
ثم ذكر حكمة أخرى وهي اتخاذه سبحانه منهم شهداء بقوله وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ أي وليكرم ناسا منكم بالشهادة ليكونوا مثالا لغيرهم في تضحية النفس شهادة للحق، واستماتة دونه، وإعلاء لكلمته، وهو تعالى يحب الشهداء من عباده، وقد أعدّ لهم أعلى المنازل وأفضلها، وقد اتخذهم لنفسه، فلا بد أن ينيلهم درجة الشهادة. وفي لفظ (الاتخاذ) المنبئ عن الاصطفاء والتقريب، من تشريفهم وتفخيم شأنهم ما لا يخفى وقوله وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ قال ابن القيّم: تنبيه لطيف الموقع جدا على أن كراهته وبغضه للمنافقين الذين انخزلوا عن نبيه يوم أحد فلم يشهدوه، ولم يتخذ منهم شهداء، لأنه لم يحبهم، فأركسهم وردهم ليحرمهم ما خص به المؤمنون في ذلك اليوم، وما أعطاه من استشهد منهم، فثبط هؤلاء الظالمين عن الأسباب التي وفق لها أولياءه وحزبه. انتهى-.
فالتعريض بالمنافقين. ويحتمل أن يكون بالكفرة الذين أديل لهم، تنبيها على أن ذلك ليس بطريق النصرة لهم، بل لما ذكر من الفوائد العائدة إلى المؤمنين. ثم ذكر حكمة أخرى فيما أصابهم ذلك اليوم بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٤١]
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (١٤١)
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا أي لينقّيهم ويخلصهم من الذنوب ومن آفات النفوس. وأيضا فإنه خلصهم ومحصهم من المنافقين، فتميزوا منهم. فحصل لهم تمحيصان: تمحيص من نفوسهم، وتمحيص ممن كان يظهر أنه منهم وهو عدوّ. ثم ذكر حكمة أخرى وهي محق الكافرين بقوله وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ أي يهلكهم، فإنهم إذا ظفروا بغوا وبطروا. فيكون ذلك سبب دمارهم وهلاكهم، إذ جرت سنة الله تعالى، إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم، قيّض لهم الأسباب التي يستوجبون بها هلاكهم ومحقهم. ومن أعظمها، بعد كفرهم، بغيهم وطغيانهم في أذى أوليائه ومحاربتهم وقتالهم والتسليط عليهم. والمحق ذهاب الشيء بالكلية حتى لا يرى منه شيء، وقد محق الله الذي حاربوا رسول الله ﷺ يوم أحد، وأصرّوا على الكفر جميعا، ثم أنكر تعالى عليهم حسبانهم وظنهم أنهم يدخلون الجنة بدون الجهاد في سبيله والصبر على أذى أعدائه، وأن هذا ممتنع بحيث ينكر على من ظنه وحسبه فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٤٢]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ أي ولما يقع ذلك منكم فيعلمه، فإنه لو وقع لعلمه فجازاكم عليه بالجنة، فيكون الجزاء على الواقع المعلوم، لا على مجرد العلم، فإن الله لا يجزي العبد على مجرد علمه فيه دون أن يقع معلومه- أفاده ابن القيم- وفي الكشاف وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ بمعنى ولما تجاهدوا لأن العلم متعلق بالمعلوم، فنزل نفي العلم منزلة نفي متعلقه، لأنه منتف بانتفائه، يقول الرجل: ما علم الله في فلان خيرا، يريد ما فيه خير حتى علمه، و (لما) بمعنى (لم)، إلا أن فيها ضربا من التوقع، فدل على نفي الجهاد فيما مضى، وعلى توقعه فيما يستقبل، وتقول: وعدني أن يفعل كذا ولما. تريد. ولما يفعل، وأنا أتوقع فعله.
لطيفة:
قال أبو مسلم في أَمْ حَسِبْتُمْ: إنه نهي وقع بحرف الاستفهام الذي يأتي للتبكيت. وتلخيصه: لا تحسبوا أن تدخلوا الجنة ولم يقع منكم الجهاد، وهو كقوله: الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:
١- ٢]. وافتتح الكلام بذكر (أم) التي هي أكثر ما تأتي في كلامهم واقعة بين ضربين، يشك في أحدهما لا بعينه. يقولون: أزيدا ضربت أم عمرا؟ مع تيقن وقوع الضرب بأحدهما. قال: وعادة العرب يأتون بهذا الجنس من الاستفهام توكيدا، فلما قال وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا كأنه قال: أفتعلمون أن ذلك كما تؤمرون به أم تحسبون أن تدخلوا الجنة من غير مجاهدة وصبر. وإنما استبعد هذا لأن الله تعالى أوجب الجهاد قبل هذه الواقعة، وأوجب الصبر على تحمل متاعبها، وبيّن وجوه المصالح فيها في الدين وفي الدنيا، فلما كان كذلك، فمن البعيد أن يصل الإنسان إلى السعادة والجنة مع إهمال هذه الطاعة- انتهى-.
ثم وبخهم على هزيمتهم من أمر كانوا يتمنونه ويودون لقاءه، فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٤٣]
وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣)
وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ أي الحرب، فإنها من مبادئه، أو الموت على
الشهادة مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ أي تشاهدوه وتعرفوا هوله فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ أي ما تتمنونه من أسباب الموت، أو الموت بشاهدة أسبابه العادية، أو قتل إخوانكم بين أيديكم وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ حال من ضمير المخاطبين. وفي إيثار الرؤية على الملاقاة، وتقييدها بالنظر، مبالغة في مشاهدتهم له.
قال ابن عباس: لما أخبرهم الله تعالى على لسان نبيه بما فعل بشهداء بدر من الكرامة، رغبوا في الشهادة، فتمنوا قتالا يشهدون فيه فيلحقون إخوانهم، فأراهم الله ذلك يوم أحد، وسببه لهم، فلم يلبثوا أن انهزموا إلا من شاء الله منهم، فأنزل الله تعالى وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ... الآية-
وقد ثبت في الصحيحين «١» أن رسول الله ﷺ قال: لا تتمنوا لقاء العدوّ، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف.
قال أهل المغازي: لما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد، أقبل عبد الله ابن قميئة يريد قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذب عنه مصعب بن عمير رضي الله عنه، وهو يومئذ صاحب رايته، فقتله ابن قميئة وهو يرى أنه قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجع فقال:
قد قتلت محمدا وصرخ الشيطان: ألا إن محمدا قد قتل. فوقع ذلك في قلوب كثير من الناس، فحصل ضعف ووهن وتأخر عن القتال. ففي ذلك أنزل الله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٤٤]
وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤)
وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ والرسل منهم من مات، ومنهم من قتل، فلا منافاة بين
(١)
أخرجه البخاريّ في: الجهاد، ١١٢- باب كان النبيّ ﷺ إذا لم يقاتل أول النهار، أخر القتال حتى تزول الشمس. ونصه: عن سالم أبي النضر، مولى عمر بن عبيد الله، وكان كاتبا له، قال: كتب إليه عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما، فقرأته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، في بعض أيامه التي لقي فيها، انتظر حتى مالت الشمس. ثم قام في الناس قال «أيها الناس! لا تتمنوا لقاء العدوّ، وسلوا الله العافية. فإذا لقيتموهم فاصبروا. واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف» ثم قال «الله! منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم».
ومسلم في: الجهاد والسير، حديث ٢٠
.
421
الرسالة والقتل والموت، إذ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ فسيخلو كما خلوا أَفَإِنْ ماتَ أي أتؤمنون به في حال حياته فإن مات أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ أي ارتددتم عَلى أَعْقابِكُمْ أي بعد علمكم بخلو الرسل قبله، وبقاء دينهم، متمسكا به وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وإنما يضر نفسه بتعريضها للسخط والعذاب وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ بالنصر والغلبة في الدنيا، والثواب والرضوان في الآخرة، وهم الذين لم ينقلبوا، بل قاموا بطاعته، وقاتلوا على دينه، واتبعوا رسوله حيّا وميتا.
وسمّاهم (شاكرين) لأنهم شكروا نعمة الإسلام الذي هو أجل نعمة وأعز معروف.
والمعنى أن من كان على يقين من دينه، وبصيرة من ربه، لا يرتد بموت الرسول وقتله، ولا يفتر عما كان عليه، لأنه يجاهد لربه لا للرسول، كأصحاب الأنبياء السالفين، كما قال أنس «١» (عم أنس بن مالك، يوم أحد حين أرجف بقتل رسول الله عليه السلام وشاع الخبر، وانهزم المسلمون، وبلغ إليه تقاول بعضهم: ليت فلانا يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان. وقوله المنافقين: لو كان نبيّا ما قتل) : يا قوم! إن كان محمد قد قتل، فإن رب محمد حي لا يموت، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله، فقاتلوا على ما قاتل عليه، وموتوا على ما مات عليه، ثم قال: اللهم! إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء هؤلاء، ثم شد بسيفه وقاتل حتى قتل- أفاده القاشانيّ-.
روى ابن أبي نجيح عن أبيه أن رجلا من المهاجرين مرّ على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه، فقال له: يا فلان! أشعرت أن محمدا ﷺ قد قتل؟ فقال الأنصاريّ:
إن كان محمد قد قتل، فقد بلّغ، فقاتلوا عن دينكم، فنزل وَما مُحَمَّدٌ الآية- رواه أبو بكر البيهقيّ في (دلائل النبوة).
(١)
أخرجه البخاريّ في: الجهاد، ١٢- باب قول الله تعالى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا. ونصه: عن أنس رضي الله عنه قال: غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر. فقال: يا رسول الله! غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرينّ الله ما أصنع. فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون. قال: اللهم! إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء (يعني أصحابه) وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء (يعني المشركين). ثم قدم فاستقبله سعد بن معاذ. فقال: يا سعد بن معاذ! الجنة ورب النضر! إني أجد ريحها من دون أحد. قال سعد: فما استطعت، يا رسول الله!، ما صنع. قال أنس:
فوجدنا به بضعا وثمانين، ضربة بالسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم. ووجدناه قد قتل وقد مثّل به المشركون.
فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه. قال أنس: كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ... إلخ.
422
قال الإمام ابن القيّم في (زاد المعاد) : ومنها- أي من الغايات في هذه الغزوة- أن وقعة أحد كانت مقدمة وإرهاصا بين يدي موت رسول الله صلى الله عليه وسلم. فنبأهم ووبخهم على انقلابهم على أعقابهم إن مات رسول الله ﷺ أو قتل. بل الواجب له عليهم أن يثبتوا على دينه وتوحيده، يموتوا عليه ويقتلوا، فإنهم إنما يعبدون رب محمد وهو حيّ لا يموت. فلو مات محمد أو قتل لا ينبغي لهم أن يصرفهم ذلك عن دينه، وما جاء به، فكل نفس ذائقة الموت، وما بعث محمد ﷺ إليهم ليخلد، لا هو ولا هم، بل ليموتوا على الإسلام والتوحيد، فإن الموت لا بد منه، فسواء مات رسول الله ﷺ أو بقي. ولهذا وبخهم على رجوع من رجع منهم عن دينه لما صرخ الشيطان بأنه محمدا قد قتل، فقال: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ... الآية- والشاكرون هم الذين عرفوا قدر النعمة، فثبتوا عليها حتى ماتوا وقتلوا، فظهر أثر هذا العتاب، وحكم هذا الخطاب يوم مات رسول الله ﷺ وارتد من ارتد على عقبيه، وثبت الشاكرون على دينهم فنصرهم الله وأعزهم، وأظفرهم بأعدائهم، وجعل العاقبة لهم- انتهى-.
وثبت في الصحيح «١» أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه تلا هذه الآية يوم موت النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتلاها منه الناس كلهم، والحديث مشهور. ثم أخبر تعالى أنه جعل لكل نفس أجلا، لا بد أن تستوفيه وتلحق به، فيرد الناس كلهم حوض المنايا موردا واحدا، وإن تنوعت أسبابه، ويصدرون عن موقف القيامة مصادر شتى، فريق في الجنة وفريق في السعير، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٤٥]
وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥)
وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي بأمره وإرادته كِتاباً مُؤَجَّلًا مصدر مؤكد لمضمون ما قبله، أي كتب لكل نفس عمرها كتابا مؤقتا بوقت معلوم لا يتقدم ولا يتأخر. وفي الآية تشجيع للجبناء وترغيب لهم في القتال، فإن الإقدام والإحجام لا ينقص من العمر ولا يزيد فيه وَمَنْ يُرِدْ أي بعمله ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها أي ما نشاء أن نؤتيه، ولم يكن له في الآخرة من نصيب، وهو تعريض بمن
(١)
أخرجه البخاريّ في: فضائل أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، ٥- باب قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: لو كنت متخذا خليلا.
حضر لطلب الغنائم وَمَنْ يُرِدْ أي بعمله ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ونظير هذه الآية قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ، وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى: ٢٠]. وقوله سبحانه: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [الإسراء: ١٨- ١٩].
واعلم أن الآية، وإن كان سياقها في الجهاد ولكنها عامة في جميع الأعمال.
وذلك لأن المؤثر في جلب الثواب أو العقاب هو النيات والدواعي، لا ظواهر الأعمال.
ثم نعى عليهم تقصيرهم وسوء صنيعهم في صدودهم عن سنن الربانيين المجاهدين في سبيل الله مع الرسل الخالية، عليهم السلام، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٤٦]
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦)
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ أي كم من الأنبياء قاتل معهم، لإعلاء كلمة الله وإعزاز دينه، جماعتهم الأتقياء العباد فَما وَهَنُوا أي ضعفوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ من الجراح وشهادة بعضهم لأن الذي أصابهم إنما هو في سبيل الله وطاعته وإقامة دينه، ونصرة رسوله وَما ضَعُفُوا أي عن الجهاد أو العدوّ أو الدين وَمَا اسْتَكانُوا للأعداء بل صبروا على قتالهم وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ على قتال أعدائه.
تنبيهات
الأول- (كأين) بمعنى (كم) الخبرية، وفيها لغات، قرئ منها في السبع:
كائن ممدودا مهموزا لابن كثير. والباقون بالتشديد. وفيها كلام كثير في معناها ولغاتها وقراءاتها المتواترة والشاذة وصلا ووقفا، وفي رسمها. فانظر موادّ ذلك.
الثاني- قرئ في السبع قتل بالبناء للمجهول ونائب الفاعل رِبِّيُّونَ قطعا. وأما احتمال أن يكون ضميرا لنبيّ ومعه ربيون حال، أو يكون على معنى التقديم والتأخير، أي وكائن من نبيّ معه ربيون قتل- فتكلف ينبو عن سليم الأفهام. وتعسف يجب تنزيه التنزيل عن أمثاله. وإن نقله القفال، ونصره السهيليّ
وبالغ فيه. فما كل سوداء تمرة.
الثالث- (الربيون) بكسر الراء قراءة الجمهور، وقرئ بضمها وفتحها، فالفتح على القياس، والكسر والضم من تغييرات النسب، وهم الربانيون، أي الذين يعبدون الرب تعالى.
ثم أخبر سبحانه، بعد بيان محاسنهم الفعلية، بمحاسنهم القولية، وهو ما استنصرت به الأنبياء وأممهم على قومهم من اعترافهم وتوبتهم واستغفارهم وسؤالهم ربهم ن يثبت أقدامهم، وأن ينصرهم على عدوهم، فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٤٧]
وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (١٤٧)
وَما كانَ قَوْلَهُمْ أي هؤلاء الربانيين، مثل قول المنافقين ولا المعجبين.
وقَوْلَهُمْ بالنصب خبر ل (كان)، واسمها (أن) وما بعدها في قوله تعالى إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ.
قال ابن القيّم: لما علم القوم أن العدوّ إنما يدال عليهم بذنوبهم وأن الشيطان إنما يستزلّهم ويهزموهم بها. وأنها نوعان: تقصير في حق، أو تجاوز لحد. وأن النصر منوط بالطاعة، قالوا: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا. ثم علموا أن ربهم تبارك وتعالى، وإن لم يثبت أقدامهم وينصرهم، لم يقدروا على تثبيت أقدام أنفسهم ونصرها على أعدائهم، فسألوه ما يعلمون أنه بيده دونهم، وأنه إن لم يثبت أقدامهم وينصرهم، لم يثبتوا ولم ينتصروا. فوفّوا المقامين حقهما: مقام المقتضى، وهو التوحيد، والالتجاء إليه سبحانه. ومقام إزالة المانع من النصرة، وهو الذنوب والإسراف- انتهى- قال القاضي: وهذا تأديب من الله تعالى في كيفية الطلب بالأدعية عند النوائب والمحن، سواء كان في الجهاد أو غيره.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٤٨]
فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٤٨)
فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا من النصر والغنيمة، وقهر العدوّ، والثناء الجميل،
وانشراح الصدر بنور الإيمان، وكفارة السيئات وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وهو الجنة وما فيها من النعيم المقيم. وتخصيص وصف الحسن بثواب الآخرة للإيذان بفضله ومزيته، وأنه المعتدّ به عنده تعالى، بخلاف الدنيا لقلتها وامتزاجها بالمضار، وكونها منقطعة زائلة وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ إشارة إلى أن ما حكى عنهم من الأفعال والأقوال من باب الإحسان.
قال الرازيّ: فيه دقيقة لطيفة، وهي أن هؤلاء لما اعترفوا بكونهم مسيئين حيث قالوا: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا... الآية- سماهم الله محسنين كأن الله تعالى يقول لهم: إذا اعترفت بإساءتك وعجزك فأنا أصفك بالإحسان وأجعلك حبيبا لنفسي حتى تعلم أنه لا سبيل للعبد إلى الوصول إلى حضرة الله إلا بإظهار الذلة والمسكنة والعجز.
ثم حذرهم سبحانه، إثر ترغيبهم في الاقتداء بأنصار الأنبياء المفضي لسعادة الدارين، من طاعة عدوهم. وأخبر أنه إن أطاعوهم خسروا الدنيا والآخرة. وفي ذلك تعريض بالمنافقين الذي أطاعوا المشركين لما انتصروا وظفروا يوم أحد، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٤٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (١٤٩)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ أي إلى الشرك. والارتداد على العقب علم في انتكاس الأمر، ومثل في الحور بعد الكور فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ لدين الإسلام ولمحبة الله ورضوانه وثوابه الدنيويّ والأخرويّ.
فلا تعتقدوا أنهم يوالونكم كما توالونهم. قال بعض المفسرين: ثمرة الآية الدلالة على أن على المؤمنين أن لا ينزلوا على حكم الكفار ولا يطيعوهم ولا يقبلوا مشورتهم خشية أن يستنزلوهم عن دينهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٥٠]
بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠)
بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ فأطيعوه وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ينصركم خيرا من نصرهم لو نصروكم، وكيف لا يكون خير الناصرين وهو ينصركم بغير قتال، كما وعد بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٥١]
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١)
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ أي الذي يمنعهم من الهجوم عليكم والإقدام على حرمكم بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ أي بكونه إلها أو متصفا بصفاته أو مستحقّا للعبادة سُلْطاناً أي حجة قاطعة ينبني عليها الاعتقادات وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ هي. والمثوى: المقر والمأوى والمقام. من (ثوى يثوي).
لطائف
الأولى: أفادت الآية أن ذلك الرعب بسبب ما في قلوبهم من الشرك بالله، وعلى قدر الشرك يكون الرعب. قال القاشانيّ: جعل إلقاء الرعب في قلوب الكفار مسببا عن شركهم لأن الشجاعة وسائر الفضائل اعتدالات في قوى النفس لتنورها بنور التوحيد، فلا تكون تامة إلا للموحد الموقن في توحيده. وأما المشرك فلأنه محجوب عن منيع القدرة بما أشرك بالله من الموجود المشوب بالعدم الذي لم يكن له بحسب نفسه قوة، ولم ينزل الله بوجوده حجة، فليس له إلا العجز والجبن وجميع الرذائل.
وقال القفال رحمه الله: كأنه قيل: إنه وإن وقعت لكم هذه الواقعة في يوم أحد إلا أن الله تعالى سيلقي الرعب منكم بعد ذلك، في قلوب الكافرين، حتى يقهر الكفار. ويظهر دينكم على سائر الأديان، وقد فعل الله ذلك، حتى صار دين الإسلام قاهرا لجميع الأديان والملل- انتهى-
وقد ثبت في الصحيحين «١» عن جابر بن عبد الله أن رسول الله ﷺ قال: أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم، وكان النبيّ يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة، وأعطيت الشفاعة.
(١)
أخرجه البخاريّ في: الصلاة، ٥٦- باب قول النبيّ ﷺ «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا».
الثانية: في ذكر عدم تنزيل الحجة مع استحالة تحققها في نفسها، إشعار بنفيها ونفي نزولها جميعا. لأن ما لم ينزل به سلطانا، لا سلطان له.
الثالثة: قال أبو السعود: في الآية إيذان بأن المتبع في الباب هو البرهان السماويّ، دون الآراء والأهواء الباطلة.
وقد سبقه إلى ذلك الرازيّ حيث قال: هذه الآية دالة على فساد التقليد. وذلك لأن الآية دالة على أن الشرك لا دليل عليه، فوجب أن يكون القول به باطلا، وهذا إنما صح إذا كان القول بإثبات ما لا دليل على ثبوته، يكون باطلا، فيلزم فساد القول بالتقليد- انتهى- ثم أخبرهم أنه صدقهم وعده في النصر على عدوه، وهو الصادق الوعد، وأنهم لو استمروا على الطاعة ولزموا أمر الرسول لاستمرت نصرتهم، ولكن انخلعوا عن الطاعة، وفارقوا مركزهم ففارقهم النصر، فصرفهم عن عدوهم عقوبة وابتلاء وتعريفا لهم سوء عواقب المعصية وحسن عاقبة الطاعة بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٥٢]
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢)
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ في قوله: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ. إِذْ تَحُسُّونَهُمْ أي تقتلونهم قتلا كثيرا. من (حسه) إذا أبطل حسه بِإِذْنِهِ أي بتيسيره وتوفيقه حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ أي ضعفتم وتراخيتم بالميل إلى الغنيمة وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ أي في الإقامة بالمركز، فقال أصحاب عبد الله «١» :
الغنيمة. أي قوم! الغنيمة. ظهر أصحابكم فما تنظرون؟ قال عبد الله بن جبير:
أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إنا والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة، فلما أتوهم صرفت وجوههم، فأقبلوا منهزمين- رواه الإمام أحمد- و (الأمر) إما بمعنى الشأن والقصة، وإما الذي يضادّه (النهي) أي فيهم أمرتم به من عدم البراح وَعَصَيْتُمْ أي أمر الرسول أن لا تبرحوا إن رأيتمونا ظهرنا عليهم،
(١) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٤/ ٢٩٣.
428
وإن رأيتموهم ظهروا علينا، فلا تعينونا- رواه البخاريّ- مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ أي من الظفر والغنيمة، وانهزام العدوّ. روى البخاريّ «١» عن البراء قال: لقينا المشركين يومئذ، وأجلس النبيّ ﷺ جيشا من الرماة، وأمّر عليهم عبد الله بن جبير وقال: لا تبرحوا إن رأيتمونا ظهرنا عليهم- بلفظ ما تقدم- ثم قال البراء: فلما لقيناهم هربوا حتى رأيت النساء يشتددن في الجبل، رفعن عن سوقهن، قد بدت خلاخلهن، فأخذوا يقولون: الغنيمة الغنيمة... الحديث. مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا أي الغنيمة فترك المركز وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ فثبت فيه وهم الذين نالوا شرف الشهادة، ومنهم أنس بن النضر الأسد المقدام، القائل وقتئذ: اللهم! إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء- يعني المسلمين- وأبرأ إليك مما جاء به المشركون، فتقدم بسيفه، فلقي سعد بن معاذ، فقال أين يا سعد؟ إني أجد ريح الجنة دون أحد! فمضى فقتل، فما عرف حتى عرفته أخته بشامة أو ببنانه وبه بضع وثمانون من طعنة وضربة ورمية بسهم- هذا لفظ البخاريّ- وأخرجه مسلم بنحوه، فرضي الله عنه وأرضاه وقدس روحه الزكية ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ أي كفكم عنهم حتى حالت الحال، ودالت الدولة.
وفيه من اللطف بالمسلمين ما لا يخفى لِيَبْتَلِيَكُمْ أي ليجعل ذلك الصرف محنة عليكم لتتوبوا إلى الله، وترجعوا إليه، وتستغفروه فيما خالفتم فيه أمره، وملتم إلى الغنيمة. ثم أعلمهم أنه تعالى قد عفا عنهم بقوله وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ أي تفضلا عليكم لإيمانكم وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أي في الأحوال كلها، إما بالنصرة إما بالابتلاء، فإن الابتلاء فضل ولطف خفيّ، ليتمرنوا بالصبر على الشدائد، والثبات
(١)
أخرجه البخاريّ في: المغازي، ١٧- باب غزوة أحد وقول الله تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ... إلخ، حديث ١٤٤٢ وهذا نصه: عن البراء رضي الله عنه قال: لقد لقينا المشركين يومئذ، وأجلس النبيّ ﷺ جيشا من الرماة وأمّر عليهم عبد الله وقال «لا تبرحوا. إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا. وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا». فلما لقيناهم هربوا حتى رأيت النساء يشتددن في الجبل، يرفعن عن سوقهن، قد بدت خلاخلهن.
فأخذوا يقولون: الغنيمة! الغنيمة! فقال عبد الله: عهد إليّ النبي ﷺ أن لا تبرحوا. فأبوا. فلما أبوا صرف وجوههم، فأصيب سبعون قتيلا. وأشرف أبو سفيان فقال: أفي القوم محمد؟ فقال «لا تجيبوه» فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ قال «لا تجيبوه» فقال: أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال: إن هؤلاء قتلوا. فلو كانوا أحياء لأجابوا؟ فلم يملك عمر نفسه فقال: كذبت يا عدوّ الله! أبقى الله عليك ما يخزيك. قال أبو سفيان: أعل هبل. فقال النبيّ ﷺ «أجيبوا» قالوا: ما نقول؟ قال «قولوا: الله أعلى وأجلّ». قال أبو سفيان: لنا العزّى ولا عزّى لكم. فقال النبيّ ﷺ «أجيبوه» قالوا: ما نقول؟ قال «قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم». قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر والحرب سجال. وتجدون مثلة لم آمر بها ولم تسؤني.
429
في المواطن، ويتمكنوا في اليقين، ويجعلوه ملكة لهم، ويتحققوا أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، ولا يميلوا إلى الدنيا وزخرفها، ولا يذهلوا على الحق، وليكون عقوبة عاجلة للبعض، فيتمحصوا عن ذنوبهم، وينالوا درجة الشهادة، فيلقوا الله ظاهرين- أفاده القاشانيّ-.
لطائف:
الأولى: (إذا) في قوله تعالى حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ إما شرط، أو، لا. وعلى الأول فجوابها إما محذوف أو مذكور. فتقديره، على كونه محذوفا، حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون، منعكم الله نصره- لدلالة صدر الآية عليه- أو صرتم فريقين، لأن قوله تعالى: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ... إلخ يفيد فائدته، ويؤدي معناه. وعلى كونه مذكورا فهو إما (وعصيتم) والواو صلة. وحكي هذا عن الكوفيين والفراء، قالوا: ونظيره قوله تعالى: فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ [الصافات: ١٠٣- ١٠٤]. والمعنى ناديناه. وبعض من نصر هذا الوجه زعم أن من مذهب العرب إدخال الواو في جواب (حتى إذا) بدليل قوله أورد عليهم من لزوم تعليل الشيء بنفسه- إذ الفشل والتنازع معصية فكيف يكونان علة لها- بأن المراد من العصيان خروجهم عن ذلك المكان. ولا شك أن الفشل والتنازع هو الذي أوجب خروجهم عنه، فلا لزوم. وإمّا قوله تعالى صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ وكلمة (ثم) صلة- قاله أبو مسلم-.
وعلى الثاني أعني كونها ليست شرطا فهي اسم و (حتى) حرف جر بمعنى إلى متعلقة بقوله تعالى صَدَقَكُمُ باعتبار تضمنه لمعنى النصر كأنه قيل: لقد نصركم الله (إلى) وقت فشلكم وتنازعكم.
الثانية: فائدة قوله تعالى مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ التنبيه على عظم المعصية، لأنهم لما شاهدوا أن الله تعالى أكرمهم بإنجاز الوعد، كان من حقهم أن يمتنعوا عن المعصية، فلما أقدموا عليها سلبوا ذلك الإكرام.
الثالثة: ظاهر قوله تعالى: وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ. أنه تعالى عفا عنهم من غير توبة، لأنها لم تذكر، فدل على أنه تعالى قد يعفو عن أصحاب الكبائر.
الرابعة: في قوله تعالى: وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. دليل على أن صاحب الكبيرة مؤمن، فإن الذنب في الآية كان كبيرة- والله أعلم-.
430
ثم ذكرهم تعالى بحالهم وقت الفرار بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٥٣]
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٥٣)
إِذْ تُصْعِدُونَ متعلق ب (صرفكم) أو بقوله (ليبتليكم)، أو بمقدر.
والإصعاد الإبعاد في الأرض. أي تبعدون في الفرار، وقرئ: تصعدون. من الثلاثيّ، أي في الجبل وَلا تَلْوُونَ أي لا تعطفون بالوقوف عَلى أَحَدٍ أي من قريب ولا بعيد، من الدهش والروعة وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ أي ساقتكم وجماعتكم الأخرى، إلى ترك الفرار من الأعداء وإلى العود والكرة عليهم. وأنتم مدبرون وهو ثابت في مكانه في نحر العدو في نفر يسير وثوقا بوعد الله ومراقبة له.
قال السدّيّ: لما اشتد المشركون على المسلمين بأحد، فهزموهم، دخل بعضهم المدينة، وانطلق بعضهم إلى الجبل فوق الصخرة فقاموا عليها. فجعل الرسول ﷺ يدعو الناس: إليّ عباد الله! إليّ عباد الله! فذكر الله صعودهم إلى الجبل- ثم ذكر دعاء النبيّ ﷺ إياهم فقال: إذ تصعدون... إلخ
- قال ابن كثير: وكذا قال ابن عباس وقتادة والربيع وابن زيد.
وفي حديث البراء رضي الله عنه في مسند الإمام أحمد «١» أنهم لما انهزموا لم يبق مع النبيّ ﷺ إلا اثنا عشر رجلا.
وروى مسلم «٢» عن أنس أن رسول الله ﷺ أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش
فَأَثابَكُمْ أي جازاكم بهذا الهرب والفرار غَمًّا بِغَمٍّ أي غما متصلا بغم، يعني غم الهزيمة والكسرة، وغم صرخة الشيطان فيهم بأن محمدا قتل. وقيل الباء بمعنى مع، وقيل بمعنى على، وهما
(١) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٤/ ٢٩٣. [.....]
(٢)
أخرجه مسلم في: الجهاد، حديث ١٠٠ ونصه: عن أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش. فلما رهقوه قال «من يردهم عنا وله الجنة، أو هو رفيقي في الجنة؟». فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل. ثم رهقوه أيضا. فقال «من يردهم عنا وله الجنة، أو هو رفيقي في الجنة؟» فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل. فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة. فقال رسول الله ﷺ لصاحبيه «ما أنصفنا أصحابنا»
.
431
قريبان من الأول. وقيل الباء للمقابلة والعوض، أي أذاقكم غما بمقابلة غم أذقتموه رسول الله ﷺ وهو عصيانكم أمره. قاله الزجاج. وقال الحسن: يريد غم يوم أحد للمسلمين بغم يوم بدر للمشركين، وقيل: المعنى غما بعد غم أي غما مضاعفا. ثم أشار إلى سر ذلك بقوله لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ أي لتتمرنوا بالصبر على الشدائد، والثبات فيها، وتتعودوا رؤية الغلبة والظفر والغنيمة، وجميع الأشياء من الله لا من أنفسكم، فلا تحزنوا على ما فاتكم من الحظوظ والمنافع. وقوله: وَلا ما أَصابَكُمْ من الغموم والمضار.
قال العلامة ابن القيّم في (زاد المعاد) : وقيل جازاكم غما بما غممتم به رسوله بفراركم عنه، وأسلمتموه إلى عدوه. فالغم الذي حصل لكم جزاء على الغم الذي أوقعتموه بنبيه. والقول الأول أظهر لوجوه:
أحدها: أن قوله لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ تنبيه على حكمة هذا الغم بعد الغم، وهو أن ينسيهم الحزن على ما فاتهم من الظفر، وعلى ما أصابهم من الهزيمة والجراح، فنسوا بذلك السلب، وهذا إنما يحصل بالغم الذي يعقبه غم آخر.
الثاني: أنه مطابق للواقع، فإنه حصل لهم غم فوات الغنيمة، ثم أعقبه غم الهزيمة، ثم غم الجراح الذي أصابهم، ثم غم القتل ثم غم سماعهم أن رسول الله ﷺ قد قتل، ثم غم ظهور أعدائهم على الجبل فوقهم. وليس المراد غمين اثنين خاصة، بل غما متتابعا لتمام الابتلاء والامتحان.
الثالث: أن قوله (بغم) من تمام الثواب، لا أنه سبب جزاء الثواب. والمعنى أثابكم غما متصلا بغم، جزاء على ما وقع منكم من الهرب، وإسلامكم نبيه ﷺ وأصحابه، وترك استجابتكم له وهو يدعوكم، ومخالفتكم له في لزوم مركزكم، وتنازعكم في الأمر وفشلكم. وكل واحد من هذه الأمور يوجب غمّا يخصه، فترادفت عليهم الغموم، كما ترادفت منهم أسبابها وموجباتها. ولولا أن تداركهم بعفوه لكان أمرا آخر. ومن لطفه بهم، ورأفته ورحمته، أن هذه الأمور التي صدرت منهم كان من أمور الطباع، وهي من بقايا النفوس التي تمنع من النصرة المستقرة، فقيض لهم بلطفه أسبابا أخرجها من القوة إلى الفعل، فيترتب عليها آثارها المكروهة، فعلموا حينئذ أن التوبة منها، والاحتراز من أمثالها، ودفعها بأضدادها، أمر متعين لا يتم لهم الفلاح والنصرة الدائمة المستقرة إلا به، فكانوا أشد حذرا
432
بعدها ومعرفة بالأبواب التي دخل عليهم منها. وربما صحت الأجسام بالعلل.
لطيفة:
لفظ الثواب لا يستعمل في الأغلب إلا في الخير، ويجوز أيضا استعماله في الشر، لأنه مأخوذ من قولهم: ثاب إليه عقله، أي رجع إليه. قال تعالى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ [البقرة: ١٢٥]. والمرأة تسمى (ثيّبا) لأن الواطئ عائد إليها.
وأصل الثواب كل ما يعود إلى الفاعل من جزاء فعله، سواء كان خيرا أو شرّا، إلا أنه بحسب العرف اختص لفظ الثواب بالخير. فإن حملنا لفظ الثواب هاهنا على أصل اللغة استقام الكلام، وإن حملنا على مقتضى العرف كان ذلك واردا على سبيل التهكم، كما يقال: تحيته الضرب وعتابه السيف، أي جعل الغم مكان ما يرجون من الثواب على حد: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ [آل عمران: ٢١]- قاله الرازيّ-.
تنبيه:
قال المفضل: (لا) زائدة، والمعنى للتتأسفوا على ما فاتكم وعلى ما أصابكم عقوبة لكم، كقوله: أَلَّا تَسْجُدَ [الأعراف: ١٢]، و: لِئَلَّا يَعْلَمَ [الحديد:
٢٩]، أي أن تسجد وليعلم.
وعندي أنه بعيد، لا سيما مع تكرار (لا) في المعطوف، واستقامة المعنى الجيد على اعتبارها، فالوجه ما سلف.
وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ خيرا وشرا، قادر على مجازاتكم، وفيه أعظم زاجر عن الإقدام على المعصية. ثم إنه تداركهم سبحانه برحمته، وخفف عنهم ذلك الغم، وغيّبه عنهم بالنعاس الذي أنزله عليهم أمنا منه، كما قال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٥٤]
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٥٤)
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً أي أمنا. والأمنة (بتحريك الميم) مصدر،
433
يقال: أمن أمنا وأمانا وأمنا وأمنة (محركتين) وفي حديث «١» نزول عيسى عليه السلام، وتقع الأمنة في الأرض، أي الأمن. ومثله من المصادر العظمة والغلبة، وهو منصوب على المفعولية. وقوله تعالى نُعاساً بدل من أَمَنَةً وقيل: هو المفعول، وأَمَنَةً حال أو مفعول له يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وهم المخلصون، أهل اليقين والثبات والتوكل الصادق، والجازمون بأن الله عز وجل سينصر رسوله وينجز له مأموله. والنعاس في حال الحرب دليل على الأمان، كما قال في سورة الأنفال: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ... [الأنفال: ١١] الآية. وروى البخاريّ «٢» في التفسير عن أنس عن أبي طلحة قال: غشينا النعاس ونحن في مصافّنا يوم أحد، قال: فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه، ويسقط وآخذه. ورواه الترمذيّ والنسائيّ والحاكم.
ولفظ الترمذيّ «٣» : قال أبو طلحة: رفعت رأسي يوم أحد فجعلت أنظر، وما منهم يومئذ أحد إلا يميد تحت حجفته من النعاس. فذلك قوله تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً. وقد ساق الرازيّ لذلك النعاس فوائد: منها أن الأعداء كانوا في غاية الحرص على قتلهم، فبقاؤهم في النوم مع السلامة في مثل تلك المعركة من أدلّ الدلائل على أن حفظ الله وعصمته معهم. وذلك مما يزيل الخوف عن قلوبهم، ويورثهم مزيد الوثوق بوعد الله تعالى- انتهى- ثم أخبر تعالى أن من لم يصبه ذلك النعاس فهو ممن أهمته نفسه، لا دينه ولا نبيه ولا أصحابه، بقوله وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ أي ما بهم إلا هم أنفسهم وقد قصد خلاصها، فلم يغشهم النعاس، من القلق والجزع والخوف يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ أي غير الظن الحق الذي يجب أن يظن به سبحانه ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ كما قال تعالى في الآية الأخرى: بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً... [الفتح: ١٢] الآية- وهكذا هؤلاء اعتقدوا أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة أنها الفيصلة، وأن الإسلام قد باد
(١)
أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٢/ ٤٠٦ ونصه: عن أبي هريرة أن النبيّ ﷺ قال «الأنبياء إخوة لعلّات. أمهاتهم شتى ودينهم واحد. وأنا أولى الناس بعيسى ابن مريم. لأنه لم يكن بيني وبينه نبيّ. وإنه نازل. فإذا رأيتموه فاعرفوه. رجلا مربوعا إلى الحمرة والبياض، عليه ثوبان ممصران. كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل. فيدق الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويدعو الناس إلى الإسلام. فيهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام. ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال. وتقع الأمنة على الأرض حتى ترتع الأسود مع الإبل، والنمار مع البقر، والذئاب مع الغنم. ويلعب الصبيان بالحيات لا تضرهم. فيمكث أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون.
(٢) أخرجه البخاريّ في: التفسير، ٣- باب آل عمران، ١١- باب أَمَنَةً نُعاساً.
(٣) أخرجه الترمذيّ في: التفسير، ٣- باب آل عمران، ١٥- حدثنا عبد بن حميد.
434
وأهله، وهذا شأن أهل الريب والشك، إذا حصل أمر من الأمور الفظيعة، تحصل لهم هذه الظنون الشنيعة.
قال الإمام ابن القيّم في (زاد المعاد) : وقد فسر هذا الظن الذي لا يليق بالله بأنه سبحانه لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل، وأنه يسلمه للقتل. وفسر بأن ما أصابهم لم يكن بقضائه وقدره، ولا حكمة له فيه. ففسر بإنكار الحكمة، وإنكار القدر، وإنكار أن يتم أمر رسوله، ويظهره على الدين كله. وهذا هو ظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون به سبحانه وتعالى في سورة الفتح، حيث يقول:
وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ، عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ، وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ، وَساءَتْ مَصِيراً [الفتح: ٦]. وإنما كان هذا ظن السوء، وظن الجاهلية المنسوب إلى أهل الجهل، وظن غير الحق، لأنه ظن غير ما يليق بأسمائه الحسنى، وصفاته العليا، وذاته المبرأة من كل سوء. بخلاف ما يليق بحكمته وحمده، وتفرده بالربوبية والإلهية، وما يليق بوعده الصادق الذي لا يخلفه، وكلمته التي سبقت لرسله أنه ينصرهم ولا يخذلهم، ولجنده بأنهم هم الغالبون. فمن ظن به أنه لا ينصر رسله، ولا يتم أمره، ولا يؤيده ويؤيد جنده، ويعليهم ويظفرهم بأعدائه، ويظهرهم عليهم، وأنه لا ينصر دينه وكتابه، وأنه يديل الشرك على التوحيد، والباطل على الحق، إدالة مستقرة يضمحل معها التوحيد والحق اضمحلالا لا يقوم بعده أبدا- فقد ظن بالله السوء ونسبه إلى خلاف ما يليق بكماله وجلاله وصفاته ونعوته. فإن عزته وحكمة إلهيته تأبى ذلك، ويأبى أن يذل حزبه وجنده، وأن تكون النصرة المستقرة والظفر الدائم لأعدائه المشركين به، العادلين به- فمن ظن به ذلك فما عرفه ولا عرف أسماءه، ولا عرف صفاته وكماله. وكذلك من أنكر أن يكون ذلك بقضائه وقدره فما عرفه، ولا عرف ربوبيته وملكه وعظمته. وكذلك من أنكر أن يكون قدر ما قدره من ذلك وغيره لحكمة بالغة، وغاية محمودة يستحق الحمد عليها، وأن ذلك إنما صدر عن مشيئة مجردة عن حكمة وغاية مطلوبة هي أحب إليه من فوتها، وأن تلك الأسباب المكروهة المفضية إليها لا يخرج تقديرها عن الحكمة لإفضائها إلى ما يحب، وإن كانت مكروهة له، فما قدرها سدى، ولا أنشأها عبثا، ولا خلقها باطلا: ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص: ٢٧]. وأكثر الناس يظنون بالله غير الحق، ظن السوء، فيما يختص بهم وفيما يفعله بغيرهم. ولا يسلم عن ذلك إلا من عرف الله وعرف أسماءه وصفاته، وعرف موجب حمده وحكمته. فمن قنط من
435
رحمته، وأيس من روحه، فقد ظن به ظن السوء. ومن جوّز عليه أن يعذب أولياءه مع إحسانهم وإخلاصهم، ويسوي بينهم وبين أعدائه، فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن به أن يترك خلقه سدى معطلين من الأمر والنهي، ولا يرسل إليهم رسله، ولا ينزل عليهم كتبه، بل يتركهم هملا كالأنعام، فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن أنه لن يجمع عبيده بعد موتهم للثواب والعقاب في دار يجازي فيها المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، ويبين لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه، ويظهر للعالمين كلهم صدقه وصدق رسله، وأن أعداءه كانوا هم الكاذبين، فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن أنه يضيع عليه عمله الصالح الذي عمله خالصا لوجهه الكريم على امتثال أمره ويبطله عليه بلا سبب من العبد، وأنه يعاقبه بما لا صنيع له فيه، ولا اختيار له، ولا قدرة ولا إرادة في حصوله، بل يعاقبه على فعله هو سبحانه به، أو ظن أنه يجوز عليه أن يؤيد أعداءه الكاذبين عليه بالمعجزات التي يؤيد بها أنبياءه ورسله ويجريها على أيديهم، يضلون بها عباده، وأنه يحسن منه كل شيء حتى تعذيب من أفنى عمره في طاعته، فيخلده في الجحيم أسفل السافلين، وينعم من استنفد عمره في عداوته وعداوة رسله ودينه فيرفعه إلى أعلى عليين، وكلا الأمرين في الحسن سواء عنده، ولا يعرف امتناع أحدهما ووقوع الآخر إلا بخبر صادق، وإلا فالعقل لا يقتضي بقبح أحدهما وحسن الآخر- فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن به أنه أخبر عن نفسه وصفاته وأفعاله بما ظاهره باطل وتشبيه وتمثيل، وترك الحق لم يخبر به، وإنما رمز إليه رموزا بعيدة، وأشار إليه إشارات ملغزة، لم يصرح به، وصرح دائما بالتشبيه والتمثيل والباطل، وأراد من خلقه أن يتعبوا أذهانهم وقواهم وأفكارهم في تحريف كلامه عن مواضعه، وتأويله على غير تأويله، ويتطلبوا له وجوه الاحتمالات المستكرهة، والتأويلات التي هي بالألغاز والأحاجي، أشبه منها بالكشف والبيان، وأحالهم في معرفة أسمائه، وصفاته على عقولهم وآرائهم
، لا على كتابه، بل أراد منهم أن لا يحملوا كلامه على ما يعرفون من خطابهم ولغتهم، مع قدرته أن يصرح لهم بالحق الذي ينبغي التصريح به، ويريحهم من الألفاظ التي توقعهم في اعتقاد الباطل، فلم يفعل، بل سلك بهم خلاف طريق الهدى والبيان- فقد ظن به ظن السوء. فإنه إن قال إنه غير قادر على التعبير عن الحق باللفظ الصريح الذي عبر به هو وسلفه، فقد ظن بقدرته العجز. وإن قال إنه قادر ولم يبين، وعدل عن البيان، وعن التصريح بالحق، إلى ما يوهم، بل يوقع في الباطل المحال، والاعتقاد الفاسد- فقد ظن بحكمته ورحمته ظن السوء. وظن أنه هو وسلفه عبروا عن الحق بصريحه دون
436
الله ورسوله. وإن الهدى والحق في كلامهم وعباراتهم. وأما كلام الله فإنما يؤخذ من ظاهره التشبيه والتمثيل والضلال، وظاهر كلام المتهوكين الحيارى هو الهدى والحق، وهذا من أسوأ الظن بالله. فكل هؤلاء من الظانين بالله ظن السوء. ومن الظانين به غير الحق، ظن الجاهلية. ومن ظن به يكون في ملكه ما يشاء ولا يقدر على إيجاده وتكوينه- فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن به أنه كان معطلا من الأزل إلى الأبد، عن أن يفعل ولا يوصف حينئذ بالقدرة على الفعل، ثم صار قادرا عليه بعد أن لم يكن قادرا- فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن به أنه ليس فوق سماواته على عرشه، بائنا من خلقه، وأن نسبة ذاته تعالى إلى عرشه كنسبتها إلى أسفل السافلين، وإلى الأمكنة التي يرغب عن ذكرها، وأنه أسفل كما أنه أعلى، ومن قال سبحان ربي الأسفل، كمن قال سبحان ربي الأعلى- فقد ظن به أقبح الظن.
ثم قال: وبالجملة فيمن ظن به خلاف ما وصف به نفسه، ووصفه به ورسله، أو عطل حقائق ما وصف به نفسه، ووصفته به رسله- فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن أن أحدا يشفع عنده بدون إذنه، أو أن بينه وبين خلقه وسائط يرفعون حوائجهم إليه، أو أنه نصب لعباده أولياء من دونه يتقربون بهم إليه، ويتوسلون بهم إليه، ويجعلونهم وسائط بينهم وبينه، فيدعونهم ويخافونهم، ويرجونهم- فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه.
ثم قال: ومن ظن به أنه إذا صدقه في الرغبة والرهبة وتضرع إليه وسأله واستعان به وتوكل عليه، أنه يخيبه ولا يعطيه ما سأله- فقد ظن به ظن السوء. وظن به خلاف ما هو أهله.
ثم قال: ومن ظن به أنه إن عصاه أو أسخطه وأوضع في معاصيه، ثم اتخذ من دونه وليّا، ودعا من دونه ملكا أو بشرا، حيّا أو ميتا، يرجو بذلك أن ينفعه عند ربه، ويخلصه من عذابه- فقد ظن به ظن السوء. وذلك زيادة في بعده من الله، وفي عذابه. ومن ظن به أنه يسلط على رسوله محمد أعداءه تسليطا مستقرّا دائما في حياته وفي مماته، وابتلاه بهم لا يفارقونه، فلما مات استبدوا بالأمر دون وصيته، وظلموا أهل بيته، وسلبوهم حقهم، وأذلوهم، وكان العزة والغلبة والقهر لأعدائه وأعدائهم دائما من غير جرم ولا ذنب لأوليائه وأهل الحق، وهو يرى قهرهم لهم، وغصبهم إياهم حقهم، وتبديلهم دين نبيهم، وهو يقدر على نصر أوليائه، وحزبه وجنده، ولا ينصرهم ولا يديلهم، بل يديل أعداءهم عليهم أبدا، أو أنه لا يقدر على
437
ذلك، بل حصل هذا بغير قدرته ولا مشيئته، ثم جعل أعداءه الذين بدلوا دينه مضاجعيه في حضرته، تسلم أمته عليه وعليهم كل وقت (كما تظنه الرافضة) - فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه، سواء قالوا إنه قادر على أن ينصرهم ويجعل لهم الدولة والظفر، أو أنه غير قادر على ذلك. فهم قادحون في قدرته أو في حكمته وحمده، وذلك من ظن السوء به. ولا ريب أن الرب الذي فعل هذا بغيض إلى من ظن به ذلك، غير محمود عندهم، وكان الواجب أن يفعل خلاف ذلك، لكن رفوا هذا الظن الفاسد بخرق أعظم منه، واستجاروا من الرمضاء بالنار، فقالوا: لم يكن هذا بمشيئة الله، ولا قدرة على دفعه ونصر أوليائه، فإنه لا يقدر على أفعال عباده، ولا يدخل تحت قدرته، فظنوا به ظن إخوانهم المجوس والثنوية بربهم. وكل مبطل وكافر ومبتدع ومقهور مستذل، فهو يظن بربه هذا الظن، وإنه أولى بالنصر والظفر والعلوّ من خصومه. فأكثر الخلق، بل كلهم، إلا من شاء الله، يظنون بالله غير الحق وظن السوء. فإن غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوس الحق، ناقص الحظ، وأنه يستحق فوق ما أعطاه الله، ولسان حاله يقول: ظلمني ربي ومنعني ما أستحقه، ونفسه تشهد عليه بذلك، وهو بلسانه ينكره، ولا يتجاسر على التصريح به. ومن فتش نفسه، وتغلغل في معرفة دفائنها وطواياها، رأى ذلك فيها كامنا كمون النار في الزناد، فاقدح زناد من شئت ينبئك شراره عما في زناده، ولو فتشت من فتشته، لرأيت عنده تعتبا على القدر، وملامة له، واقتراحا عليه خلاف ما جرى به، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقل ومستكثر، وفتش نفسك هل أنت سالم من ذلك:
فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة وإلا فإني لا أخالك ناجيا
فليعتن اللبيب الناصح نفسه بهذا الموضع، وليتب إلى الله ويستغفره كل وقت، من ظنه بربه ظن السوء. وليظن السوء بنفسه التي هي مادة كل سوء، ومنبع كل شر، المركبة على الجهل والظلم، فهي أولى بظن السوء من أحكم الحاكمين وأعدل العادلين وأرحم الراحمين، الغني الحميد، الذي له الغنى التام، والحمد التام، والحكمة التامة، المنزّه عن كل سوء، في ذاته وصفاته وأفعاله وأسمائه. فذاته لها الكمال المطلق من كل وجه، وصفاته كذلك. وأفعاله كذلك، كلها حكمة ومصلحة ورحمة وعدل. وأسماؤه كلها حسنى. والمقصود ما ساقنا إلى هذا الكلام من قوله تعالى: وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ.
ثم أخبر عن الكلام الذي صدر عن ظنهم الباطل بقوله: يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ أي هل لنا من أمر التدبير والرأي من شيء، استفهام على سبيل
438
الإنكار. أي ما لنا أمر يطاع. ونظيره ما حكاه الله عنهم أنهم قالوا: لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا [آل عمران: ١٦٨]. وذلك أن عبد الله بن أبيّ لما شاوره النبيّ ﷺ في هذه الواقعة، أشار عليه بأن لا يخرج من المدينة، ثم إن الصحابة ألحوا على النبيّ ﷺ في أن يخرج إليهم، كما تقدم: ولما رجع عبد الله بن أبيّ بمن معه، وأخبر بكثرة القتلى من بني الخزرج، قال: هل لنا من الأمر شيء؟ يعني أن محمدا ﷺ لم يقبل قولي حين أمرته بأنه يبقى في المدينة ولا يخرج منها قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ أي التدبير كله لله، فإنه تعالى قد دبر الأمر كما جرى في سابق قضائه فلا مردّ له.
قال الإمام ابن القيّم قدس الله روحه: ليس مقصودهم بقولهم: هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ وقولهم: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا. إثبات القدر، ورد الأمر كله إلى الله. ولو كان ذلك مقصودهم بالكلمة الأولى لما ذموا عليه، لما حسن الرد عليهم بقوله: إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ. ولا كان مصدر هذا الكلام ظن الجاهلية.
ولهذا قال غير واحد من المفسرين: إن ظنهم الباطل هاهنا هو التكذيب بالقدر، وظنهم أن الأمر لو كان إليهم، وكان رسول الله ﷺ وأصحابه تبعا لهم، ويسمعون منهم، لما أصابهم القتل، ويكون النصر والظفر لهم. فأكذبهم الله عز وجل في هذا الظن الباطل، الذي هو ظن الجاهلية، وهو الظن المنسوب إلى أهل الجهل، الذين يزعمون، بعد نفاذ القضاء والقدر الذي لم يكن بد من نفاذه، أنهم كانوا قادرين على دفعه، وأن الأمر لو كان إليهم لما نفذ القضاء، فأكذبهم الله بقوله: قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ. فلا يكون إلا ما سبق قضاؤه وقدره، وجرى به علمه وكتابه السابق، وما شاء الله كان ولا بد، شاء الناس أم أبوا. وما لم يشأ لم يكن، شاء الناس أو لم يشاءوه. وما جرى عليكم من الهزيمة والقتل، فبأمره الكونيّ الذي لا سبيل إلى دفعه، سواء كان لكم من الأمر شيء أو لم يكن، وأنكم لو كنتم في بيوتكم، وقد كتب القتل على بعضكم، لخرج الذين كتب عليهم القتل من بيوتهم إلى مضاجعهم ولا بد. سواء أن يكون لهم من الأمر شيء أو لم يكن. وهذا من أظهر الأشياء إبطالا لقول القدرية النفاة، الذين يجوّزون أن يقع ما لا يشاؤه الله، وأن يشاء ما لا يقع- انتهى- يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ أي يضمرون فيها، أو يقولون فيما بينهم بطريق الخفية ما لا يُبْدُونَ لَكَ لكونه لا يرضاه الله تعالى. ثم بين ذلك بعد إجماله فقال يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ أي المسموع شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا أي ما غلبنا، أو ما قتل من قتل منا، لأنا كنا نمكث في المدينة ولا نخرج إلى العدوّ. ولما أخبر تعالى بما أخفوه جهلا منهم، ظنّا أن الحذر يغني من القدر، أمره تعالى بالرد عليهم بقوله
439
قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ أي أجمع رأيكم على أن لا تبرحوا من منازلكم أنتم والمقتولون لَبَرَزَ أي خرج الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ في اللوح المحفوظ إِلى مَضاجِعِهِمْ أي التي قدر الله قتلهم فيها، ولم يثبتوا في ديارهم، لأنه يوقع في قلوبهم الخروج إمضاء لقدره وحكمه المحتوم الذي لا يقع خلافه ولا يردّ، لقوله: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها، إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد: ٢٢]. وفيه مبالغة في رد مقالتهم الباطلة، حيث لم يقتصر على تحقيق نفس القتل، بل عين مكانه أيضا. وفي التعبير ب (مضاجعهم) من إجلالهم وتكريمهم ما لا يخفى على صاحب الذوق السليم. وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ أي ليعاملكم معاملة الممتحن، ليستخرج ما في صدوركم من الإخلاص والنفاق، ليجعله حجة عليكم، فالمؤمن لا يزداد بذلك إلا إيمانا وتسليما، والمنافق ومن في قلبه مرض لا بد أن يظهر ما في قلبه على جوارحه ولسانه وهو علة لفعل مقدر قبلها معطوفة على علل لها أخرى مطوية، للإيذان بكثرتها. كأنه قيل: فعل ما فعل لمصالح جمة وليبتلي... إلخ، أو لفعل مقدر بعدها، أي: وللابتلاء المذكور فعل ما فعل، لا لعدم العناية بأمر المؤمنين. وجعلها عللا ل (برز) يأباه الذوق السليم. فإن مقتضى المقام بيان حكمة ما وقع يومئذ من الشدة والهول، لا بيان حكمة البروز المفروض- أفاده أبو السعود- ثم ذكر تعالى حكمة أخرى بقوله وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ أي يخلصه وينقيه ويهذبه، فإن القلوب يخالطها بغلبة الطبائع، وميل النفوس، وحكم العادة، وتزيين الشيطان، واستيلاء الغفلة- ما يضاد ما أودع فيها من الإيمان والإسلام والبرّ والتقوى. فلو تركت في عافية دائمة مستمرة لم تتخلص من هذه المخالطة، ولم تتمحص منه. فاقتضت حكمة العزيز الرحيم أن يقضي لها من المحن والبلاء، ما يكون كالدواء الكريه لمن عرض له داء. إن لم يتداركه طبيبه بإزالته وتنقيته من جسده، وإلا خيف عليه منه الفساد والهلاك.
فكانت نعمته سبحانه عليهم بهذه الكسرة والهزيمة، وقتل من قتل منهم، تعادل نعمته عليهم بنصرهم وتأييدهم وظفرهم بعدوهم. فله عليهم النعمة التامة في هذا وهذا- أفاده ابن القيّم.
وقال القاشانيّ: البلاء سوط من سياط الله، يسوق به عباده إليهم بتصفيتهم عن صفات نفوسهم، وإظهار ما فيهم من الكمالات، وانقطاعهم من الخلق إلى الحق.
ولهذا كان متوكّلا بالأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل.
وقال رسول الله ﷺ بيانا لفضله: ما أوذي نبيّ مثل ما أوذيت
. كأنه قال: ما صفى نبيّ مثل ما صفيت. ولقد أحسن من قال:
440
لله در النائبات فإنها صدأ اللئام وصيقل الأحرار
إذ لا يظهر على كل منهم إلا ما في مكمن استعداده.
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي الضمائر الملازمة لها، وعد ووعيد. ثم أخبر تعالى عن تولي من تولى من المؤمنين الصادقين في ذلك اليوم، وأنه بسبب كسبهم بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٥٥]
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ أي عن القتال ومقارعة الأبطال يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ أي جمع المسلمين وجمع المشركين إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ أي حمله على الزلل بمكر منه. مع وعد الله بالنصر بِبَعْضِ ما كَسَبُوا أي بشؤم بعض ما اكتسبوه بهم من الذنوب، كترك المركز، والميل إلى الغنيمة، مع النهي عنه، فمنعوا التأييد وقوة القلب. قال ابن القيّم: كانت أعمالهم جندا عليهم ازداد بها عدوهم قوة. فإن الأعمال جند للعبد، وجند عليه ولا بد للعبد في كل وقت من سرية من نفسه تهزمه أو تنصره. فهو يمد عدوه بأعماله من حيث يظن أنه يقاتل بها، ويبعث إليه سرية تغزوه مع عدوه من حيث يظن أنه يغزو عدوه. فأعمال العبد تسوقه قسرا إلى مقتضاه من الخير والشر. والعبد لا يشعر، أو يشعر ويتعامى. ففرار الإنسان من عدوه، وهو يطيقه، إنما هو بجند من عمله، بعثه له الشيطان واستزله به. ثم أخبر سبحانه أنه عفا عنهم بقوله: وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ أي بالاعتذار والندم لأن هذا الفرار لم يكن عن نفاق، ولا شك أنه كان عارضا عفا الله عنه، فعادت شجاعة الإيمان وثباته إلى مركزها ونصابها إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ أي يغفر الذنب ويحلم عن خلقه، ويتجاوز عنهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٥٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وهم المنافقون القائلون: لَوْ
441
كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا
. وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أي سافروا فيها للتجارة فأصيبوا بغرق أو قتل أَوْ كانُوا أي إخوانهم غُزًّى جمع غاز فأصيبوا باصطدام أو قتل لَوْ كانُوا عِنْدَنا أي مقيمين ما ماتُوا وَما قُتِلُوا قال أبو السعود: ليس المقصود بالنهي عدم مماثلتهم في النطق بهذا القول، بل في الاعتقاد بمضمونه والحكم بموجبه.
أقول: بل الآية تفيد الأمرين. أعني حفظ الاعتقاد المقصود أولا وبالذات، وحفظ المنطق مما يوقع في إضلال الناس، ويخل بالمقام الإلهي، كما بينته السنة، وسنذكره في التنبيه الآتي.
وقوله لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ أي القول حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ متعلق ب (قالوا) على أن اللام لام العاقبة، مثلها في لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص: ٨] أي قالوا ذلك واعتقدوه ليكون حسرة في قلوبهم. والمراد بالتعليل المذكور بيان عدم ترتب فائدة ما، على ذلك أصلا وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ رد لقولهم الباطل، إثر بيان غائلته.
أي هو المؤثر في الحياة والممات وحده، من غير أن يكون للإقامة أو للسفر مدخل في ذلك، فإنه تعالى قد يحيي المسافر والغازي مع اقتحامهما لموارد الحتوف، ويميت المقيم مع حيازته لأسباب السلامة. وعن خالد بن الوليد رضي الله عنه أنه قال عند موته: ما فيّ موضع شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة، وها أنا ذا أموت كما يموت العير. فلا نامت أعين الجبناء! وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ تهديد للمؤمنين في مماثلة من ذكر.
قال بعض المفسرين: ثمرة الآية أنه لا يجوز التشبه بالكفار. قال الحاكم: وقد يكون منه ما يكون كفرا. وفيها أيضا دلالة على أنه لا يسقط وجوب الجهاد بخشية القتل.
تنبيه:
أشعرت الآية بوجوب حفظ المنطق مما يشاكل ألفاظ المشركين من الكلمات المنافية للعقيدة الإسلامية كما ذكرنا. وقد عقد الإمام ابن القيّم في (زاد المعاد) فصلا في هديه ﷺ في حفظ النطق واختيار الألفاظ قال:
كان ﷺ يتخير في خطابه، ويختار لأمته أحسن ألفاظ وأجملها وألطفها، وأبعدها من ألفاظ أهل الجفاء والغلظة والفحش. إلى أن قال: ومن ذلك نهيه ﷺ «١»
(١)
أخرجه مسلم في: القدر، حديث ٣٤ ونصه: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ «المؤمن القويّ خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف. وفي كلّ خير. احرص على ما ينفعك واستعن
442
عن قول القائل بعد فوات الأمر: لو أني فعلت كذا وكذا. وقال: إنها تفتح عمل الشيطان. وأرشده إلى ما هو أنفع له من هذه الكلمة، وهو أن يقول: قدر الله، وما شاء فعل. وذلك لأن قوله: لو كنت فعلت كذا وكذا لم يفتني ما فاتني أو لم أقع فيما وقعت فيه، كلام لا يجدي عليه فائدة البتة. فإنه غير مستقبل لما استدبر من أمره، وغير مستقيل عثرته ب (لو). وفي ضمن (لو) ادعاء أن الأمر لو كان كما قدره في نفسه، لكان غير ما قضاه الله وقدره وشاءه، فإنّ ما وقع مما يتمنى خلافه، إنما وقع بقضاء الله وقدره ومشيئته. فإذا قال: لو أني فعلت كذا لكان خلاف ما وقع، فهو محال، إذ خلاف المقدّر المقضيّ محال. فقد تضمن كلامه كذبا وجهلا ومحالا. وإن سلم من التكذيب بالقدر لم يسلم من معارضته بقوله: لو أني فعلت لدفعت ما قدر عليّ. فإن قيل: ليس في هذا رد للقدر ولا جحد له، إذ تلك الأسباب التي تمناها أيضا من القدر، فهو يقول: لو وفقت لهذا القدر لاندفع به عني ذلك القدر، فإن القدر يدفع بعضه ببعض، كما يدفع قدر المرض بالدواء، وقدر الذنوب بالتوبة، وقدر العدو بالجهاد، فكلاهما من القدر. قيل: هذا حق، ولكن هذا ينفع قبل وقوع القدر المكروه. وأما إذا وقع فلا سبيل إلى دفعه، وإن كان له سبيل إلى دفعه أو تخفيفه بقدر آخر فهو أولى به من قوله: لو كنت فعلته، بل وظيفته في هذه الحالة أن يستقبل فعله الذي يدفع به أو يخفف، ولا يتمنى ما لا مطمع في وقوعه، فإنه عجز محض، والله يلوم على العجز، ويحب الكيس ويأمر به. والكيس هو مباشرة الأسباب التي ربط الله بها مسبباتها النافعة للعبد في معاشه ومعاده، فهذه تفتح عمل الخير والأمر، وأما العجز فإنه يفتح عمل الشيطان. فإنه إذا عجز عما ينفعه وصار إلى الأمانيّ الباطلة بقوله: لو كان كذا وكذا، ولو فعلت كذا، يفتح عمل الشيطان، فإن بابه العجز والكسل. ولهذا استعاذ النبيّ ﷺ منهما. وهو مفتاح كل شر، ويصدر عنهما الهم والحزن والبخل وضلع الدين وغلبة الرجال. فمصدرها كلها عن العجز والكسل، وعنوانها (لو)، فلذلك
قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: فإن (لو) تفتح عمل الشيطان، فالمتمني من أعجز الناس وأفلسهم، فإن المنى رأس أموال المفاليس، والعجز مفتاح كل شر، وأصل المعاصي كلها العجز، فإن العبد يعجز عن أسباب أعمال الطاعات، وعن الأسباب التي تعرضه عن المعاصي، ويحول بينها وبينه، فيقع في المعاصي.
بالله. ولا تعجز. وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا. ولكن قل: قدّر الله وما شاء فعل. فإن (لو) تفتح عمل الشيطان»
.
443
فجمع في هذا الحديث الشريف، في استعاذته ﷺ أصول الشر وفروعه ومباديه وغاياته وموارده ومصادره. وهو مشتمل على ثمان خصال، كل خصلتين منها قرينتان
فقال: أعوذ بك من الهم والحزن
، وهما قرينان. فإن المكروه الوارد على القلب ينقسم باعتبار سببه إلى قسمين: فإنه إما أن يكون سببه أمرا ماضيا، فهو يحدث الحزن، وإما أن يكون توقع أمر مستقبل، فهو يحدث الهم، وكلاهما من العجز. فإن ما مضى لا يدفع بالحزن، بل بالرضاء والحمد والصبر والإيمان بالقدر، وقول العبد: قدر الله وما شاء فعل. وما يستقبل لا يدفع أيضا بالهم. بل إما أن يكون له حيلة في دفعه فلا يعجز عنه، وإما أن لا تكون له حيلة في دفعه، فلا يجزع منه، ويلبس له لباسه، ويأخذ له عدته، ويتأهب له أهبته اللائقة، ويستجن بجنة حصينة من التوحيد والتوكل والانطراح بين يدي الرب تعالى، والاستسلام له، والرضا به ربّا في كل شيء، ولا يرضى به ربّا فيما يحبّ دون ما يكره. فإذا كان هكذا لم يرض به ربّا على الإطلاق، فلا يرضاه الرب له عبدا على الإطلاق.. فالهم والحزن لا ينفعان العبد البتة، بلا مضرتهما أكثر من منفعتهما، فإنهما يضعفان العزم، ويوهنان القلب، ويحولان بين العبد وبين الاجتهاد فيما ينفعه، ويقطعان عليه طريق السير، أو ينكسانه إلى وراء أو يعوقانه ويقفانه أو يحجبانه عن العلم الذي كلما رآه شمر إليه، وجدّ في سيره، فهما حمل ثقيل على ظهر السائر، بل إن عاقة الهم والحزن عن شهواته وإرادته التي تضره في معاشه ومعاده، انتفع به من هذا الوجه، وهذا من حكمة العزيز الحكيم، أن سلط هذين الجندين على القلوب المعرضة عنه، الفارغة من محبته وخوفه ورجائه والإنابة إليه، والتوكل عليه، والأنس به، والفرار إليه، والانقطاع إليه، ليردها بما يبتليها به من الهموم والغموم والأحزان، والآلام القلبية، عن كثير من معاصيها وشهواتها المردية. وهذه القلوب في سجن من الجحيم في هذه الدار. وإن أريد بها الخير، كان حظها من سجن الجحيم في معادها، ولا تزال في هذا السجن، حتى تتخلص إلى فضاء التوحيد والإقبال على الله، والأنس به، وجعل محبته في محل دبيب خواطر القلب ووساوسه، بحيث يكون ذكره تعالى وحبه وخوفه ورجاؤه والفرح به والابتهاج بذكره، هو المستولي على القلب الغالب عليه، الذي متى فقده، فقد قوته، الذي لا قوام له إلا به، ولا بقاء له بدونه، ولا سبيل إلى خلاص القلب من هذه الآلام التي هي أعظم أمراضه، وأفسدها له، إلا بذلك، ولا بلاغ إلا بالله وحده، فإنه لا يوصل إليه إلا هو، ولا يأتي بالحسنات إلّا هو، ولا يصرف السيئات إلا هو، ولا يدل عليه إلا هو، وإذا أراد عبده لأمر هيأه له، فمنه الإيجاد ومنه
444
الإعداد ومنه الإمداد. وإذا أقامه في مقام، أيّ مقام كان، فبحمده أقامه فيه، وحكمته أقامته فيه، ولا يليق به غيره، ولا يصلح له سواه، ولا مانع لما أعطى الله، ولا معطي لما منع، ولا يمنع عبده حقّا هو للعبد، فيكون بمنعه ظالما، بل منعه ليتوسل إليه بمحابه ليعطيه، وليتضرع إليه ويتذلل بين يديه ويتملقه ويعطي فقره إليه حقه.
بحيث يشهد في كل ذرة من ذراته الباطنة والظاهرة فاقة تامة إليه، على تعاقب الأنفاس. وهذا هو الواقع في نفس الأمر وإن لم يشهده. فلم يمنع عبده ما العبد محتاج إليه، بخلا منه ولا نقصان من خزائنه ولا استئثارا عليه بما هو حق للعبد. بل منعه ليردّه إليه وليعزه بالتذلل له، وليغنيه بالافتقار إليه، وليجبره بالانكسار بين يديه، وليذيقه بمرارة المنع، حلاوة الخضوع ولذة الفقر. وليلبسه خلعة العبودية، ويوليه بعزله أشرف الولايات، وليشهده حكمته في قدرته، ورحمته في عزته، وبره ولطفه في قهره. وأنّ منعه عطاء وعزله تولية وعقوبته تأديب وامتحانه محبة وعطية وتسليط أعدائه عليه سائق يسوقه إليه. وبالجملة فلا يليق بالعبد غير ما أقيم فيه. وحكمته وحمده أقاماه في مقامه الذي لا يليق به سواه ولا يحسن أن يتخطاه، انتهى.
ثم أشار تعالى إلى أن الموت في سبيل الله ليس مما يوجب الحسرة حتى يحذر منه. بل هو مما يوجب الفرح والسرور، فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٥٧]
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧)
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ أي فيه من غير قتال لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ أي لذنوبكم تنالكم وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ أي الكفرة من منافع الدنيا وطيباتها الفانية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٥٨]
وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨)
وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ على أي وجه كان حسب القضاء السابق لَإِلَى اللَّهِ أي الذي هو متوفيكم لا غيره تُحْشَرُونَ فيجزيكم بأعمالكم.
لطائف:
الأولى: أطال نحاة المفسرين في قوله تعالى وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا
إلخ. من الوجوه النحوية في (إذا) هنا، وإنه ربما يتبادر أن الموقع ل (إذ) لا لها حيث إن متعلقها وهو (قالوا) ماض. و (إذا) ظرف لما يستقبل. فمن قائل بأن (إذا) لحكاية الحال الماضية، ومن قائل بأنها للاستمرار. وقيل: إن (كفروا) و (قالوا) مراد بهما المستقبل. وفي كلّ مناقشات وتعسفات. والحق أنها تكون للمضيّ أيضا. قال المجد الفيروز آباديّ: وتجيء (إذا) للماضي كقوله تعالى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها. فلا إشكال.
ونقل الرازيّ عن قطرب: أن كلمة (إذ) و (إذا) يجوز إقامة كل واحدة منهما مقام الأخرى. قال الرازيّ: وهذا الذي قاله قطرب كلام حسن، وذلك لأنا إذا جوزنا إثبات اللغة بشعر مجهول منقول عن قائل مجهول، فلأن يجوز إثباتها بالقرآن العظيم أولى. ثم قال: وكثيرا أرى النحويين يتحيرون في تقرير الألفاظ الواردة في القرآن، فإذا استشهدوا في تقريره ببيت مجهول فرحوا به. وأنا شديد التعجب منهم. فإنهم إذا جعلوا ورود ذلك البيت المجهول على وفقه دليلا على صحته، فلأن يجعلوا ورود القرآن به دليلا على صحته كان أولى، انتهى.
الثانية: الجمهور على ضم الميم في قوله تعالى: أَوْ مُتُّمْ وهو الأصل لأن الفعل منه يموت. ويقرأ بالكسر وهو لغة طائية. يقال مات يمات مثل خاف يخاف فكما تقول خفت تقول مت.
الثالثة: قدم القتل على الموت في الأولى لأنه أكثر ثوابا وأعظم عند الله.
فترتيب المغفرة والرحمة عليه أقوى. وقدم الموت في الثانية لأنه أكثر. وهما مستويان في الحشر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٥٩]
فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩)
فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ أي للذين تولوا عنك حين عادوا إليك بعد الانهزام، وللمؤمنين عموما كما قال تعالى: بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [التوبة:
١٢٨]. و (ما) مزيدة للتوكيد أو نكرة. و (رحمة) بدل منها مبيّن لإبهامها.
والنون للتفخيم، أي ما لنت هذا اللين الخارق للعادة، مع ما سبّب فعلهم من
446
الغضب الموجب للعنف والسطوة لا سيما مع اعتراض من اعترض على ما أشار به، إلا بسبب رحمة عظيمة وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا أي سيّئ الخلق خشن الكلام غَلِيظَ الْقَلْبِ أي قاسيه وشديدة. تعاملهم بالعنف والجفا لَانْفَضُّوا أي تفرقوا مِنْ حَوْلِكَ فلم يسكنوا إليك فلا تتم دعوتك. ولكن الله جعلك سهلا سمحا طلقا لينا لطيفا بارّا رؤوفا رحيما. فَاعْفُ عَنْهُمْ أي فيما فرطوا في حقك كما عفا الله عنهم وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ إتماما للشفقة عليهم وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ أي أمر الحرب وغيره توددا إليهم وتطيبا لنفوسهم واستظهارا بآرائهم وتمهيدا لسنة المشاورة في الأمة. وقد ساق العلامة الرازيّ وجوها أخرى في فائدة أمره تعالى له عليه الصلاة والسلام بمشاورتهم.
منها: أنه صلى الله عليه وسلم، وإن كان أكمل الناس عقلا، إلا أن علوم الخلق متناهية. فلا يبعد أن يخطر ببال إنسان من وجوه المصالح ما لا يخطر بباله. لا سيما فيما يفعل من أمور الدنيا. ،
فإنه ﷺ قال «١» : أنتم أعرف بأمور دنياكم.
ومنها: أن الأمر بمشاورتهم لا لأجل أنه ﷺ محتاج إليهم، ولكن لأجل أنه إذا شاورهم في الأمر اجتهد كل واحد منهم في استخراج الوجه الأصلح في تلك الواقعة فتصير الأرواح متطابقة متوافقة على تحصيل أصلح الوجوه فيها، وتطابق الأرواح الطاهرة على الشيء الواحد مما يعين على حصوله. وهذا هو السر عند الاجتماع في الصلوات، وهو السر في أن صلاة الجماعة أفضل من صلاة المنفرد. انتهى.
وقد ثبت مشاورته ﷺ لأصحابه في عدة أمور: منها أنه شاورهم في يوم بدر «٢» في الذهاب إلى العير. فقالوا: يا رسول الله لو استعرضت بنا عرض البحر
(١)
أخرجه ابن ماجة في: الرهون، ١٥- باب تلقيح النخل، حديث ٢٤٧٠ ونصه: عن طلحة بن عبيد الله قال: مررت مع رسول الله ﷺ في نخل. فرأى قوما يلقحون النخل. فقال «ما يصنع هؤلاء؟» قالوا: يأخذون من الذكر فيجعلونه في الأنثى. قال «ما أظن ذلك يغني شيئا» فبلغهم فتركوه.
فنزلوا عنها. فبلغ النبيّ ﷺ فقال «إنما هو الظن إن كان يغني شيئا فاصنعوه. فإنما أنا بشر. وإن الظن يخطئ ويصيب. ولكن ما قلت لكم: قال الله- فلن أكذب على الله».
وحديث ٢٤٧١ ونصه: عن عائشة أن النبيّ ﷺ سمع أصواتا، فقال «ما هذا الصوت؟» قالوا: النخل يؤبرونها.
فقال «لو لم يفعلوا لصلح» فلم يؤبّروا عامئذ، فصار شيصا. فذكروا للنبيّ ﷺ فقال «إن كان شيئا من أمر دنياكم فشأنكم به. وإن كان من أمور دينكم، فإليّ»
. (٢)
أخرجه مسلم في: الجهاد، حديث ٨٣ ونصه: عن أنس أن رسول الله ﷺ شاور، حين بلغه إقبال أبي سفيان. قال فتكلم أبو بكر فأعرض عنه. ثم تكلم عمر فأعرض عنه. فقام سعد بن عبادة فقال:
إيانا تريد يا رسول الله؟ والذي نفسي بيده! لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها. ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا. فندب رسول الله ﷺ الناس فانطلقوا حتى نزلوا بدرا ووردت عليهم روايا قريش...
إلخ.
447
لقطعناه معك، ولو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك، ولا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى «١» : فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ. ولكن نقول:
اذهب فنحن معك وبين يديك، وعن يمينك وشمالك مقاتلون. وشاورهم أيضا أين يكون المنزل حتى أشار المنذر بن عمرو بالتقدم أمام القوم، وشاورهم في أحد في أن يقعد في المدينة أو يخرج إلى العدو. فأشار جمهورهم بالخروج إليهم فخرج إليهم.
وشاورهم يوم الخندق في مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة عامئذ. فأبى ذلك عليه السعدان: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فترك ذلك. وشاورهم يوم الحديبية في أن يميل على ذراريّ المشركين فقال له الصديق: إنا لم نجئ لقتال أحد، وإنما جئنا معتمرين فأجابه إلى ما قاله.
وقال ﷺ في قصة الإفك «٢» : أشيروا عليّ، معشر المسلمين، في قوم أبنوا أهلي ورموهم. وأيم الله ما علمت على أهلي من سوء. وأبنوهم بمن، والله، ما علمت عليه إلا خيرا.
واستشار عليا وأسامة في فراق عائشة رضي الله عنها. فكان ﷺ يشاورهم في الحروب ونحوها. أفاده الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى.
قال الخفاجيّ: في الآية إرشاد إلى الاجتهاد وجوازه بحضرته صلى الله عليه وسلم. وقال الرازيّ: دلت على أنه ﷺ كان مأمورا بالاجتهاد إذا لم ينزل عليه الوحي. والاجتهاد يتقوى بالمناظرة والمباحثة، فلهذا كان مأمورا بالمشاورة، انتهى.
وقال بعض المفسرين: ثمرة الآية وجوب التمسك بمكارم الأخلاق وخصوصا لمن يدعو إلى الله تعالى ويأمر بالمعروف. فَإِذا عَزَمْتَ أي بعد المشاورة على أمر واطمأنت به نفسك فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ في الإعانة على إمضاء ما عزمت، لا على المشورة وأصحابها. قال الرازيّ: دلت الآية على أنه ليس التوكل أن يهمل الإنسان نفسه، كما يقول بعض الجهال. وإلا لكان الأمر بالمشاورة منافيا للأمر بالتوكل، بل
(١) أخرجه البخاريّ في: المغاري، ٤- باب قول الله تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ.. الآية ونصه: عن ابن مسعود قال: شهدت من المقداد بن الأسود مشهدا، لأن أكون صاحبه أحبّ إليّ مما عدل به. أتى النبيّ ﷺ وهو يدعو على المشركين. فقال: لا نقول كما قال قوم موسى. اذهب أنت وربك فقاتلا. ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك.
فرأيت النبيّ ﷺ أشرق وجهه وسرّه. يعني قوله.
(٢) أخرجه البخاريّ في: المغازي، ٣٤- باب حديث الإفك. وهو حديث جليل القدر. وفيه نزلت براءة سيدتنا أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها من السماء.
448
التوكل هو أن يراعي الإنسان الأسباب الظاهرة، ولكن لا يعول بقلبه عليها بل يعول على عصمة الحق إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٦٠]
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠)
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ كما نصركم يوم بدر فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ كما فعل يوم أحد فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ استفهام إنكاريّ مفيد لانتفاء الناصر ذاتا وصفة وبطريق المبالغة. وهذا تنبيه على أن الأمر كله لله، وترغيب في الطاعة، وفيما يستحقون به النصر من الله تعالى والتأييد. وتحذير من المعصية، ومما يستوجبون به العقوبة بالخذلان. كذا في الكشاف. وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أي وليخص المؤمنون ربهم بالتوكل والتفويض إليه، لعلمهم أنه لا ناصر سواه، ولأن إيمانهم يوجب ذلك ويقتضيه- كذا في الكشاف-.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٦١]
وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦١)
وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ قرئ بالبناء للمعلوم، أي ما صح وما تأتّى لنبيّ من الأنبياء أن يخون في المغنم، بعد مقام النبوة وعصمة الأنبياء عن جميع الرذائل، وعن تأثير دواعي النفس والشيطان فيهم وبالبناء للمجهول، أي ما صح أن ينسب إلى الغلول ويخوّن.
روى أبو داود والترمذيّ «١» عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ، في قطيفة حمراء افتقدت يوم بدر، فقال بعض الناس: لعل رسول الله أخذها، فأنزل الله وَما كانَ لِنَبِيٍّ... الآية. قال الترمذيّ: حسن غريب. ورواه ابن مردويه عن ابن عباس أيضا، ولفظه:
اتهم المنافقون رسول الله ﷺ بشيء فقد، فأنزل الله تعالى وَما كانَ لِنَبِيٍّ الآية- وهذا تنزيه لمقامه ﷺ الرفيع وتنبيه على
(١) أخرجه الترمذيّ في: التفسير، ٣- سورة آل عمران، ١٧- حدثنا قتيبة.
449
عصمته. ثم أشار إلى وعيد الغلول بقوله وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي بعينه، حاملا له على ظهره، ليفتضح في المحشر، كما
روى الشيخان «١» عن أبي هريرة قال: قام فينا رسول الله ﷺ ذات يوم، فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره، ثم قال: لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك- لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة فيقول: يا رسول الله أغثني فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك- لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء يقول: يا رسول الله أغثني فأفول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك- لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح فيقول: يا رسول الله أغثني فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك- لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقاع تخفق فيقول: يا رسول الله أغثني فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت فيقول: يا رسول الله أغثني فأقول: لا أملك لك شيئا قد بلغت- لفظ مسلم.
وروى البخاريّ «٢» عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: كان على ثقل رسول الله ﷺ رجل يقال له (كركرة) فمات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو في النار، فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة قد غلّها
وعن زيد بن خالد الجهنيّ أن رجلا من أصحاب النبيّ ﷺ توفي يوم خيبر، فذكروا ذلك لرسول الله ﷺ فقال: صلوا على صاحبكم، فتغيرت وجوه الناس لذلك، فقال: إن صاحبكم غلّ في سبيل الله، ففتشنا متاعه، فوجدنا خرزا من خرز يهود لا يساوي درهمين- أخرجه أبو داود «٣» والنسائيّ-
وروى عبد الله ابن الإمام أحمد «٤» عن عبادة بن الصامت أن رسول الله ﷺ كان يأخذ الوبرة من جنب البعير من المغنم فيقول: ما لي فيه إلا مثل ما لأحدكم منه. إياكم والغلول، فإن الغلول خزي على صاحبه يوم القيامة، أدوا الخيط والمخيط وما فوق ذلك. وجاهدوا في سبيل الله القريب والبعيد في الحضر والسفر.
فإن الجهاد باب من أبواب الجنة. إنه لينجي الله تبارك وتعالى به من الهم والغم، وأقيموا حدود الله في القريب والبعيد، ولا تأخذكم في الله لومة لائم
. وروى ابن
(١) أخرجه مسلم في: الإمارة، حديث ٢٤.
(٢) أخرجه البخاريّ في: الجهاد، ١٩- باب القليل من الغلول.
(٣) أخرجه أبو داود في: الجهاد، ١٣٣- باب في تعظيم الغلول، حديث ٢٧١٠. [.....]
(٤) أخرجه في المسند ٥/ ٣٣٠.
450
ماجة بعضه.
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عباس قال: حدثني عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم خيبر، أقبل نفر من صحابة النبيّ ﷺ فقالوا: فلان شهيد. فلان شهيد. حتى أتوا على رجل فقالوا: فلان شهيد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلا إني رأيته في النهار في بردة غلها أو عباءة. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ابن الخطاب! اذهب فناد في الناس إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون قال فخرجت فناديت: ألا إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون. وكذا رواه مسلم «١» والترمذيّ.
وروى أبو داود «٢» عن سمرة بن جندب قال: كان رسول الله ﷺ إذا غنم غنيمة أمر بلالا فينادي في الناس فيجوزوا بغنائمهم فيخمسه ويقسمه، فجاء رجل بعد ذلك بزمام من شعر فقال: يا رسول الله هذا فيما كنا أصبناه من الغنيمة. فقال: أسمعت بلالا ينادي ثلاثا؟ قال: نعم. قال:
فما منعك أن تجيء؟ فاعتذر. فقال: كن أنت تجيء به يوم القيامة. فلن أقبله منك.
تنبيه:
من المفسرين من جعل الإتيان بالغلول يوم القيامة مجازا عن الإتيان بإثمه تعبيرا بما غلّ عما لزمه من الإثم مجازا. قال أبو مسلم: المراد أن الله تعالى يحفظ عليه هذا الغلول ويعزره عليه يوم القيامة ويجازيه لأنه لا يخفى عليه خافية. وقال أبو القاسم الكعبي: المراد أنه يشتهر بذلك، مثل اشتهار من يحمل ذلك الشيء.
وناقشهما الرازيّ بأن هذا التأويل يحتمل، إلا أن الأصل المعتبر في علم القرآن أنه يجب إجراء اللفظ على الحقيقة، إلا إذا قام دليل يمنعه منه، وهاهنا لا مانع من الظاهر، فوجب إثباته- انتهى. ومما يؤيده
قوله ﷺ «له رغاء، له حمحمة... »
إلخ الظاهر في الحقيقة زيادة في النكال.
ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ تعطى جزاء ما كسبت وافيا، وإنما عمم الحكم ولم يقل: ثم يوفى ما كسب، ليكون كالبرهان على المقصود، والمبالغة فيه، فإنه إذا كان كل كاسب مجزيا بعمله، فالغالّ، مع عظم جرمه بذلك أولى وَهُمْ أي الناس المدلول عليهم بكل نفس لا يُظْلَمُونَ فلا ينقص ثواب مطيعهم، ولا يزاد في عقاب عاصيهم.
(١) أخرجه مسلم في: الإيمان، حديث ١٨٢.
(٢) أخرجه أبو داود عن عبد الله بن عمرو في: الجهاد، ١٣٤- باب في الغلول إذا كان يسيرا يتركه الإمام ولا يحرق رحله، حديث ٢٧١٢، بهذا النص.
وأخرجه في المسند أيضا عن عبد الله بن عمرو، حديث ٦٩٩٦.
451
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٦٢]
أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢)
أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ بالطاعة كَمَنْ باءَ رجع بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ بسبب المعاصي كالغالّ ومن شاكله وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٦٣]
هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٦٣)
هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ أي طبقات متفاوتة، تشبيه بليغ، ووجه ما بينهم من تباين الأحوال في الثواب والعقاب، كالدرجات في تفاوتها علوّا وسفلا.
قال القاشانيّ: أي كل من أهل الرضا وأهل السخط ذوو درجات متفاوتات، أو هم مختلفون اختلاف الدرجات.
وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ أي بأعمالهم، فيجازيهم على حسبها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٦٤]
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١٦٤)
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ أي أنعم عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ أي من جنسهم، عربيّا مثلهم، ليتمكنوا من مخاطبته وسؤاله ومجالسته، والانتفاع به.
ولما لم ينتفع بهذا الإنعام إلا أهل الإسلام خصوا بالذكر، وإلا فبعثته ﷺ إحسان إلى العالمين، كما قال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: ١٠٧].
يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ يعني القرآن بعد ما كانوا أهل جاهلية، لم يطرق أسماعهم شيء من الوحي وَيُزَكِّيهِمْ أي يطهرهم من الذنوب والشرك بدعوته وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ أي القرآن وَالْحِكْمَةَ أي السنة وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ أي من قبل بعثته ﷺ وتزكيته لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي ظاهر من عبادة الأوثان، وأكل الخبائث، وعدوان بعضهم على بعض، وسواها، فنقلوا ببعثته ﷺ من الظلمات إلى النور، وصاروا أفضل الأمم في العلم والزهد والعبادة، فعظمت المنة لله تعالى عليهم بذلك. قال الرازي:
وفي قوله تعالى مِنْ أَنْفُسِهِمْ وجه آخر من المنة، وذلك أنه صار شرفا للعرب، وفخرا لهم، كما قال سبحانه: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ [الزخرف: ٤٤]. وذلك لأن الافتخار بإبراهيم عليه السلام كان مشتركا فيه بين اليهود والنصارى والعرب، ثم إن الأولين كانوا يفتخرون بموسى وعيسى والتوراة والإنجيل.
فما كان للعرب ما يقابل ذلك. فلما بعث الله محمدا، وأنزل عليه القرآن، صار شرف العرب ذلك زائدا على شرف جميع الأمم.
ثم كرر عليهم سبحانه أن هذا القول أصابهم إنما أتوا فيه من قبل أنفسهم وبسبب أعمالهم فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٦٥]
أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥)
أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا الهمزة للتقريع والتقرير، والواو عاطفة للجملة على ما سبق من قصة أحد، أو على محذوف مثل: أفعلتم كذا وقلتم. و (لما) ظرفه المضاف إلى أصابتكم، أي حين أصابتكم مصيبة، وهي قتل سبعين منكم يوم أحد، والحال أنكم نلتم ضعفيها يوم بدر من قتل سبعين منهم وأسر سبعين: من أين هذا أصابنا وقد وعدنا الله النصر قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ أي مما اقترفته أنفسكم من مخالفة الأمر بترك المركز، فإن الوعد كان مشروطا بالثبات والمطاوعة. قال ابن القيم: وذكر سبحانه هذا بعينه فيما هو أعم من ذلك في السورة المكية فقال: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: ٣٠]. وقال: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء: ٧٩] فالحسنة والسيئة هاهنا النعمة والمصيبة، فالنعمة من الله منّ بها عليك، والمصيبة إنما نشأت من قبل نفسك وعملك، فالأول فضله، والثاني عدله، والعبد يتقلب بين فضله وعدله، جار عليه فضله، ماض فيه حكمه، عدل فيه قضاؤه. وختم الآية الأولى بقوله إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ بعد قوله: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ. إعلاما لهم بعموم قدرته مع عدله، وأنه عادل قادر، وفي ذلك إثبات القدر والسبب. فذكر السبب وأضافه إلى نفوسهم، وذكر عموم القدرة وأضافها إلى نفسه، فالأول ينفي الجبر، والثاني ينفي القول بإبطال القدر، فهو شاكل قوله: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ [التكوير: ٢٨- ٢٩]. وفي
ذكر قدرته هاهنا نكتة لطيفة، وهي أن هذا الأمر بيده وتحت قدرته، وأنه هو الذي لو شاء لصرفه عنكم، فلا تطلبوا كشف أمثاله من غيره، ولا تتكلوا على سواه. كشف هذا المعنى وأوضحه كل الإيضاح بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٦٦]
وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦)
وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ جمع المسلمين وجمع المشركين يوم أحد فَبِإِذْنِ اللَّهِ أي فهو كائن بقضائه وتخليته الكفار، فالإذن هنا هو الإذن الكونيّ القدريّ، لا الشرعيّ الدينيّ، كقوله في السحر: وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة: ١٠٢]. ثم أخبر عن حكمة هذا التقدير بقوله: وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٦٧]
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (١٦٧)
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا أي ليعلم المؤمنين من المنافقين علم عيان ورؤية يتميز فيه أحد الفريقين من الآخر تميزا ظاهرا وَقِيلَ لَهُمْ عطف على (نافقوا) داخل معه في حيز الصلة. أو كلام مبتدأ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا يعني إن لم تقاتلوا لوجه الله تعالى فقاتلوا دفعا عن أنفسكم وأموالكم قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ أي لكنه ليس إلا إلقاء النفس في التهلكة هُمْ أي بهذا القول لِلْكُفْرِ في الظاهر يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ في الظاهر مع أنه لا إيمان لهم في الباطن أصلا.
فائدتان:
الأولى- قال ابن كثير: استدلوا به على أن الشخص قد تتقلب به الأحوال، فيكون في حال أقرب إلى الكفر، وفي حال أقرب إلى الإيمان.
الثانية- قال الواحديّ: هذه الآية دليل على أن من أتى بكلمة التوحيد لم يكفر، ولم يطلق القول بتكفيره. لأنه تعالى لم يطلق القول بكفرهم، مع أنهم كانوا
كافرين، لإظهارهم القول بلا إله إلا الله محمد رسول الله- انتهى.
يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ أي يظهرون خلاف ما يضمرون، لا تواطئ قلوبهم ألسنتهم بالإيمان، وقوله بِأَفْواهِهِمْ تأكيد على حدّ: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الأنعام: ٣٨]. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٦٨]
الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٦٨)
الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ أي من أجل أقاربهم من قتلى أحد وَقَعَدُوا أي والحال قد قعدوا عنهم خذلانا لهم لَوْ أَطاعُونا أي في الرجوع ما قُتِلُوا كما لم نقتل قُلْ كأنكم تزعمون ادعاء القدرة على دفع الموت فَادْرَؤُا أي ادفعوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ أي فإنها أقرب إليكم من أنفسهم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أن الموت يغني منه حذر، والمعنى أن عدم قتلكم كان بسبب أنه لم يكن مكتوبا عليكم، لا بسبب أنكم دفعتموه بالقعود، مع كتابته عليكم، فإن ذلك مما لا سبيل إليه.
قال ابن القيّم: وكان من الحكمة تقديره تعالى في هذه الواقعة تكلم المنافقين بما في نفوسهم، فسمعه المؤمنون، وسمعوا رد الله عليهم، وجوابه لهم، وعرفوا موادّ النفاق، وما يؤول إليه، وكيف يحرم صاحبه سعادة الدنيا والآخرة، فيعود عليه بفساد الدنيا والآخرة. فلله كم من حكمة في ضمن هذه القصة بالغة، ونعمة على المؤمنين سابغة، وكم فيها من تحذير وتخويف، وإرشاد وتنبيه، وتعريف بأسباب الخير والشر ومآلهما وعاقبتهما.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٦٩]
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩)
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً كلام مستأنف مسوق لبيان أن القتل الذي يحذرونه ويحذّرون الناس منه، ليس مما يحذر، بل هو من أجلّ المطالب التي يتنافس فيها المتنافسون، إثر بيان أن الحذر لا يجدي ولا يغني، أي لا تحسبنهم أمواتا تعطلت أرواحهم بَلْ هم أَحْياءٌ فوق الدنيا لأنهم مقربون عِنْدَ رَبِّهِمْ إذ بذلوا له أرواحهم، لا بمعنى بقاء أرواحهم ورجوعها إليه، لمشاركة
455
أرواح غيرهم في ذلك، بل بمعنى أنهم يُرْزَقُونَ رزق الأحياء، لا رزقا معنويّا، بل حقيقيا. كما
روى ابن عباس عن رسول الله ﷺ أنه قال «١» : لما أصيب إخوانكم بأحد، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش. فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم، حسن منقلبهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عن الحرب. فقال الله عزّ وجل: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله هؤلاء الآيات: وَلا تَحْسَبَنَّ... إلخ. هكذا رواه الإمام أحمد ورواه أبو داود والحاكم في مستدركه
. وأخرج مسلم «٢» عن مسروق قال: سألنا عبد الله عن هذه الآية وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا... إلخ. فقال: أما إنا قد سألنا عن ذلك فقال: أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوى إلى تلك القناديل، فاطلع إليهم ربهم اطّلاعة فقال: هل تشتهون شيئا؟ قالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا؟! ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا: يا رب! نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى. فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا.
وروى الإمام أحمد «٣» عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشهداء على بارق- نهر بباب الجنة- فيه قبة خضراء، يخرج إليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشية- تفرد به أحمد- ورواه ابن جريح بإسناد جيد.
قال ابن كثير: وكأنّ الشهداء أقسام: منهم من تسرح أرواحهم في الجنة، ومنهم من يكون على هذا النهر بباب الجنة. وقد يحتمل أن يكون منتهى سيرهم إلى هذا النهر، فيجتمعون هنالك، ويغدى عليهم برزقهم هناك ويراح- والله أعلم- ثم قال: وقد روينا في مسند الإمام أحمد «٤» حديثا فيه البشارة لكل مؤمن بأن روحه تكون في الجنة تسرح أيضا فيها، وتأكل من ثمارها، وترى ما فيها من النضرة والسرور، وتشاهد ما أعدّ الله لها من الكرامة، وهو بإسناد صحيح عزيز عظيم، اجتمع فيه ثلاثة من الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبعة، فإن
الإمام أحمد
(١) أخرجه في المسند ١/ ٢٦٦.
(٢) أخرجه مسلم في: الإمارة، حديث ١٢١.
(٣) أخرجه في المسند ١/ ٢٦٦.
(٤) أخرجه في المسند ٣/ ٤٥٥.
456
رحمه الله رواه عن محمد بن إدريس الشافعيّ رحمه الله عن مالك بن أنس الأصبحيّ رحمه الله عن الزهريّ عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجرة الجنة حتى يرجعه الله تبارك وتعالى إلى جسده يوم يبعثه.
قوله: يعلق أي يأكل. وفي هذا الحديث أن روح المؤمن تكون على شكل طائر في الجنة، وأما أرواح الشهداء، فكما تقدم، في حواصل طير خضر، فهي كالكواكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين، فإنها تطير بأنفسها، فنسأل الله الكريم المنان، أن يميتنا على الإيمان- انتهى-.
تنبيه:
قال الواحديّ: الأصح في حياة الشهداء، ما روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أن أرواحهم في أجواف طير خضر، وأنهم يرزقون ويأكلون ويتنعمون.
وقال البيضاويّ: الآية تدل على أن الإنسان غير الهيكل المحسوس، بل هو جوهر مدرك بذاته، لا يفنى بخراب البدن، ولا يتوقف عليه إدراكه وتألمه والتذاذه، ويؤيد ذلك قوله سبحانه وتعالى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها... [غافر: ٤٦] الآية-.
وحديث: أرواح الشهداء في أجواف طير.. إلخ.
قال الشهاب: يعني ليس الإنسان مجرد البدن بدون النفس المجردة، بل هو في الحقيقة النفس المجردة، وإطلاقه على البدن لشدة التعلق بها، وهو جوهر مدرك لذاته، أي من غير احتياج إلى هذا البدن، لوصفه بعد مفارقته بالتنعم ونحوه- انتهى.
وقال أبو السعود: في الآية دلالة على أن روح الإنسان جسم لطيف، لا يفنى بخراب البدن، ولا يتوقف عليه إدراكه وتألمه والتذاذه. ومن قال بتجريد النفوس البشرية يقول: المراد أن نفوس الشهداء تتمثل طيورا خضرا أو تتعلق بها فتلتذ بما ذكر- انتهى.
وقد أسلفنا في سورة البقرة، في مثل هذه الآية، زيادة على ذلك. فتذكر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٧٠]
فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠)
فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ يعني بما أعطاهم من الثواب والكرامة
والإحسان الذين لا يغتم فيه بسلبه وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ أي بإخوانهم المجاهدين الذين لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ لم يقتلوا فيلحقوا بهم مِنْ خَلْفِهِمْ متعلق ب (يلحقوا) والمعنى: أنهم بقوا من بعدهم وهم قد تقدموهم. أو لم يلحقوا بهم: لم يدركوا فضلهم ومنزلتهم أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ بدل من (الذين)، بدل اشتمال مبين أن استبشارهم بحال إخوانهم لا بذواتهم، والمعنى: ويستبشرون بما تبين لهم من حال من تركوا خلفهم من المؤمنين. وهو أنهم يبعثون آمنين يوم القيامة، بشّرهم الله بذلك، فهم مستبشرون به. وفي ذلك حال الشهداء واستبشارهم بمن خلفهم بعث للباقين بعدهم على الجد في الجهاد، والرغبة في نيل منازل الشهداء.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٧١]
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١)
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ أي يسرون بما أنعم الله عليهم، وما تفضل عليهم من زيادة الكرامة، وتوفير أجرهم عليهم.
قال أبو السعود: كرّر لبيان أن الاستبشار المذكور ليس بمجرد عدم الخوف والحزن، بل به وبما يقارنه من نعمة عظيمة، لا يقادر قدرها، وهي ثواب أعمالهم.
ثم قال: والمراد بالمؤمنين: إما الشهداء، والتعبير عنهم بالمؤمنين للإيذان بسمو رتبة الإيمان، وكونه مناطا لما نالوه من السعادة. وإما كافة أهل الإيمان من الشهداء وغيرهم، ذكرت توفية أجورهم على إيمانهم، وعدّت من جملة ما يستبشر به الشهداء بحكم الأخوة في الدين- انتهى-.
وقال ابن القيّم: إن الله تعالى عزّى نبيه وأولياءه عمن قتل منهم في سبيله أحسن تعزية وألطفها وأدعاها إلى الرضا بما قضاه لهم بقوله: وَلا تَحْسَبَنَّ...
الآيات- فجمع لهم إلى الحياة الدائمة، منزلة القرب منه، وأنهم عنده، وجريان الرزق المستمر عليهم، وفرحهم بما آتاهم من فضله، وهو فوق الرضا، بل هو كمال الرضا، واستباشرهم بإخوانهم الذين باجتماعهم بهم يتم سرورهم ونعيمهم، واستبشارهم بما يجدد لهم كل وقت من نعمته وكرامته، وذكرهم سبحانه في أثناء هذه المحنة بما هو أعظم مننه، ونعمه عليهم، التي قابلوا بها كل محنة تنالهم وبلية تلاشت في جنب هذه المنة والنعمة، ولم يبق لها أثر البتة، وهي منّته عليهم بإرسال رسول من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وينقذهم من
458
الضلال، الذي كانوا فيه قبل إرساله، إلى الهدى، ومن الشقاء إلى الفلاح، ومن الظلمة إلى النور، ومن الجهل إلى العلم. فكل بلية ومحنة تنال العبد بعد حصول هذا الخبر العظيم له، أمر يسير جدا في جنب الخير الكثير. كما ينال الناس بأذى المطر، في جنب ما يحصل لهم به من الخير. وأعلمهم أن سبب المصيبة من عند أنفسهم، ليحذروا، وأنها بقضائه وقدره ليوحدوه ويتكلوا عليه، ولا يخافوا غيره.
وأخبرهم بما له فيها من الحكم، لئلا يتهموا في قضائه وقدره، وليتعرف إليهم بأنواع صفاته وأسمائه. وسلّاهم بما أعطاهم مما هو أجل قدرا وأعظم خطرا مما فاتهم من النصر والغنيمة، وعزّاهم عن قتلاهم بما نالوه من ثوابه وكرامته، لينافسوا فيه، ولا يحزنوا عليهم، فله الحمد كما هو أهله، وكما ينبغي لكرم وجهه، وعز جلاله.
ثم قال ابن القيّم: ولما انقضت الحرب، انكفأ المشركون، فظن المسلمون أنهم قصدوا المدينة لإحراز الذراريّ والأموال، فشق ذلك عليهم،
فقال النبيّ ﷺ لعليّ بن أبي طالب: اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون، وماذا يريدون، فإن هم جنبوا الخيل، وامتطوا الإبل، فإنهم يريدون مكة، وإن كانوا ركبوا الخيل، وساقوا الإبل، فإنهم يريدون المدينة، فوالذي نفسي بيده! لئن أرادوها لأسيرن إليهم، ثم لأناجزهم فيها. قال عليّ: فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون، فجنبوا الخيل، وامتطوا الإبل، ووجهوا مكة. ولما عزموا على الرجوع إلى مكة، أشرف على المسلمين أبو سفيان، ثم ناداهم: موعدكم الموسم ببدر. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: قولوا نعم قد فعلنا. قال أبو سفيان: فذلكم الموعد. ثم انصرف هو وأصحابه. فلما كان في بعض الطريق، تلاوموا فيما بينهم، وقال بعضهم لبعض: لم تصنعوا شيئا! أصبتم شوكتهم وحدهم، ثم تركتموهم، وقد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم، فارجعوا حتى نستأصل شأفتهم. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنادى في الناس، وندبهم إلى المسير إلى لقاء عدوهم، وقال: لا يخرج معنا إلا من شهد القتال، فقال له عبد الله ابن أبيّ: أركب معك، قال: لا. فاستجاب له المسلمون على ما بهم من الجرح الشديد والخوف، وقالوا: سمعا وطاعة. واستأذنه جابر بن عبد الله وقال: يا رسول الله! إني أحب أن لا تشهد مشهدا إلا كنت معك، وإنما خلفني أبي على بناته فأذن لي أسير معك، فأذن له، فسار رسول الله ﷺ والمسلمون معه حتى بلغوا حمراء الأسد، وأقبل معبد بن أبي معبد الخزاعيّ إلى رسول الله ﷺ فأسلم. فأمره أن يلحق بأبي سفيان فيخذله، فلحقه بالروحاء- ولم يعلم بإسلامه- فقال: ما وراءك يا معبد؟
فقال: محمد وأصحابه قد تحرقوا عليكم، وخرجوا في جمع لم يخرجوا مثله، وقد ندم من كان تخلف عنهم من أصحابهم. فقال: ما تقول؟ فقال: ما أرى أن ترتحل
459
حتى يطلع أول الجيش من وراء هذه الأكمة، فقال أبو سفيان: والله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصلهم، قال: فلا تفعل، فإني لك ناصح. فرجعوا على أعقابهم إلى مكة
- انتهى- وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٧٢]
الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢)
الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ أي دعوة الله ورسوله إلى الخروج في طلب أبي سفيان إرهابا له مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ بأحد لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ بطاعته وَاتَّقَوْا مخالفته أَجْرٌ عَظِيمٌ روى البخاريّ «١» عن عائشة رضي الله عنها في هذه الآية قالت لعروة: يا ابن أختي! كان أبواك منهم: الزبير وأبو بكر رضي الله عنهما. لما أصاب نبيّ الله ﷺ ما أصابه يوم أحد، وانصرف عنه المشركون، خاف أن يرجعوا فقال: من يذهب في أثرهم؟ فانتدب منهم سبعون رجلا فيهم أبو بكر والزبير، قال أبو هشام: ولما ثنى معبد أبا سفيان ومن معه، كما تقدم، مرّ بأبي سفيان ركب من عبد القيس، فقال: أين تريدون؟ قالوا: نريد المدينة قال: ولم؟ قالوا:
نريد الميرة، قال: فهل أنتم مبلغون عني محمدا رسالة أرسلكم بها إليه، وأحمل لكم هذه غدا زبيبا بعكاظ إذا وافيتمونا؟ قالوا: نعم، قال: فإذا وافيتموه فأخبروه أنا قد جمعنا المسير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم، فمرّ الركب برسول الله ﷺ وهو بحمراء الأسد، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان وأصحابه، فقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، فأنزل الله تعالى في ذلك:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٧٣]
الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣)
الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ أي الركب المستقبل لهم إِنَّ النَّاسَ أي أبا سفيان وأصحابه قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ أي الجموع ليستأصلوكم فَاخْشَوْهُمْ ولا تأتوهم فَزادَهُمْ أي ذلك القول إِيماناً أي تصديقا بالله ويقينا. والمعنى: أنهم لم
(١) أخرجه البخاريّ في: المغازي، ٢٥- باب الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ.
يلتفتوا إليه ولم يضعفوا، بل ثبت به عزمهم على طاعة الرسول ﷺ في كل ما يأمر به وينهى عنه. وفي الآية دليل على أن الإيمان يتفاوت زيادة ونقصانا، فإن ازدياد اليقين بتناصر الحجج، وكثرة التأمل، مما لا ريب فيه وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ أي كافينا أمرهم من غير عدة لنا ولا عدد وَنِعْمَ الْوَكِيلُ أي الموكول إليه والمفوض إليه الأمر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٧٤]
فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤)
فَانْقَلَبُوا أي رجعوا من حمراء الأسد بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ يعني: العافية وكمال الشجاعة وزيادة الإيمان والتصلب في الدين لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ أي لم يصبهم قتل ولا جراح وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ أي في طاعة رسوله بخروجهم وجراءتهم وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ حيث تفضل عليهم بالعافية وما ذكر معها، وبالحفظ عن كل ما يسوؤهم. وفيه تحسير للمتخلف وتخطئة رأيه حيث حرم نفسه ما فازوا به.
فائدة:
قال السيوطيّ في (الإكليل) : في قوله تعالى: وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ استحباب هذه الكلمة عند الغم والأمور العظيمة.
تنبيه:
حمل الآية على غزوة حمراء الأسد، هو ما قاله الحسن وقتادة وعكرمة وغير واحد. وروي أنها نزلت في غزوة بدر الصغرى.
قال ابن أبي نجيح عن مجاهد: في قوله تعالى الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ... الآية- أن أبا سفيان قال، لما انصرف من أحد: موعدكم بدر حيث قتلتم أصحابنا! فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: عسى! فانطلق رسول الله ﷺ لموعده حتى نزل بدرا، فوافقوا السوق فيها، فابتاعوا، فذلك قوله تعالى فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ... الآية- قال: وهي غزوة بدر الصغرى
رواه ابن جرير- وأخرج أيضا عن ابن جريج قال: لما عمد رسول الله ﷺ لموعد أبي سفيان، فجعلوا يلقون المشركين فيسألونهم عن قريش، فيقولون: قد جمعوا لكم (يكيدونهم بذلك، يريدون أن يرعبوهم) فيقول المؤمنون حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ حتى قدموا بدرا، فوجدوا أسواقها عافية، لم ينازعهم فيها أحد
وروى البيهقيّ عن عكرمة عن ابن عباس في قوله فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ قال: النعمة أنهم سلموا، والفضل أن عيرا مرت في أيام الموسم، فاشتراها رسول الله ﷺ فربح فيها مالا، فقسمه بين أصحابه.
قال ابن القيّم في (الهدى) : إن أبا سفيان قال عند انصرافه من أحد: موعدكم وإيانا العام القابل ببدر، فلما كان شعبان، وقيل ذو القعدة من العام القابل، خرج رسول الله ﷺ لموعده في ألف وخمسمائة، وكانت الخيل عشرة أفراس، وحمل لواءه عليّ بن أبي طالب، واستخلف على المدينة عبد الله بن رواحة، فانتهى إلى بدر، فأقام بها ثمانية أيام ينتظر المشركين، وخرج أبو سفيان بالمشركين من مكة، وهم ألفان، ومعهم خمسون فرسا، فلما انتهوا إلى مرّ الظهران، مرحلة من مكة، قال لهم أبو سفيان: إن العام عام جدب، وقد رأيت أن أرجع بكم. فانصرفوا راجعين، وأخلفوا الموعد، فسميت هذه بدر الموعد، وتسمى بدر الثانية- انتهى-.
قال ابن كثير: والصحيح أن الآية نزلت في شأن غزوة حمراء الأسد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٧٥]
إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥)
إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ أي قول الشيطان يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ أي يخوفكم بقوله أولياءه الكفار، وحينئذ فأولياءه ثاني مفعولي يخوف، والأول محذوف، أي يخوفكم أولياءه، كما قرئ كذلك، وقيل: لا حذف فيه، والمعنى يخوف من يتبعه، فأما من توكل على الله فلا يخافه فَلا تَخافُوهُمْ أي أولياءه وَخافُونِ في مخالفة أمري ورسولي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فإن الإيمان يقتضي إيثار خوف الله تعالى على خوف غيره.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٧٦]
وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٧٦)
وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ أي لا تهتم ولا تبال بما يلوح منهم من آثار الكيد للإسلام ومضرة أهله. وقرئ في السبع يَحْزُنْكَ بضم الياء وكسر الزاي إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً قال عطاء: يريد أولياء الله. نقله الرازيّ. قال أبو السعود:
تعليل للنهي، وتكميل للتسلية بتحقيق نفي ضررهم أبدا، أي لن يضروا بذلك أولياء الله البتة. وتعليق نفي الضرر به تعالى لتشريفهم والإيذان بأن مضارتهم بمنزلة مضارته سبحانه، وفيه مزيد مبالغة في التسلية.
وقال المهايميّ: أي لن يضروا أولياء الله، لأنهم يحميهم الله، فلو أضروهم لأضروا الله بتعجيزهم إياه عن حمايتهم، ولا يمكنهم أن يعجزوه شيئا بل يُرِيدُ اللَّهُ أن يضرهم الضرر الكليّ وهو أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ أي نصيبا من الثواب في الآخرة وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ قال المفسرين: ثمرة هذه الآية أنه لا يجب الاغتمام من معصية العاصين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٧٧]
إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٧)
إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا أي استبدلوا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً فيه تعريض ظاهر باقتصار الضرر عليهم، كأنه قيل: وإنما يضرون أنفسهم. فإن جعل الموصول عبارة عن المسارعين المعهودين بأن يراد باشتراء الكفر بالإيمان إيثاره عليه، إما بأخذه بدلا من الإيمان الحاصل بالفعل، كما هو حال المرتدين، أو بالقوة القريبة منه الحاصلة بمشاهدة دلائله في التوراة، كما هو شأن اليهود ومنافقيهم فالتكرير لتقرير الحكم وتأكيده، ببيان علته، بتغيير عنوان الموضوع، فإن ما ذكر في حيز الصلة من الاشتراء المذكور صريح في لحوق ضرره بأنفسهم، وعدم تعديه إلى غيرهم أصلا كيف وهو علم في الخسران الكليّ، والحرمان الأبديّ، دال على كمال سخافة عقولهم، وركاكة آرائهم، فكيف يتأتى منهم ما يتوقف على قوة الحزم، ورزانة الرأي، ورصانة التدبير، من مضارة حزب الله تعالى، وهي أعز من الأبلق الفرد، وأمنع من عقاب الجو. وإن أجرى الموصول على عمومه بأن يراد بالاشتراء المذكور القدر المشترك الشامل للمعنيين المذكورين ولأخذ الكفر بدلا مما نزل منزلة نفس الإيمان من الاستعداد القريب له، الحاصل بمشاهدة الوحي الناطق، وملاحظة الدلائل المنصوبة في الآفاق والأنفس، كما هو دأب جميع الكفرة، فالجملة مقررة لمضمون ما قبلها تقريرا للقواعد الكلية، لما اندرج تحتها من جزئيات الأحكام- أفاده أبو السعود- ثم قال: وقوله تعالى وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ جملة مبتدأة مبينة لكمال فظاعة عذابهم، بذكر غاية إيلامه، بعد ذكر نهاية عظمه، قيل: لما جرت العادة باغتباط المشتري بما اشتراه، وسروره بتحصيله عند كون الصفقة رابحة، وبتألمه عند كونها
خاسرة، وصف عذابهم بالإيلام مراعاة لذلك- انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٧٨]
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٧٨)
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ أي بتطويل أعمارهم وإمهالهم وتخليتهم وشأنهم دهرا طويلا خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ بل هو سبب مزيد عذابهم، لأنه إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً بكثرة المعاصي فيزدادوا عذابا وَلَهُمْ أي في الآخرة عَذابٌ مُهِينٌ ذو إهانة في أسفل دركات النار.
لطائف
الأولى: في (ما) - من قوله تعالى أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ الأولى- وجهان: أن تكون مصدرية أو موصولة، حذف عائدها. أي إملاؤنا لهم أو الذي نمليه لهم.
الثانية: كان حق (ما) في قياس علم الخط أن تكتب مفصولة، ولكنها وقعت في الإمام متصلة، فلا يخالف، وتتبع سنة الإمام في خط المصاحف.
الثالثة:
(ما) الثانية في أَنَّما نُمْلِي إلخ متصلة لأنها كافّة.
الرابعة: في قوله تعالى مُهِينٌ سر لطيف، وهو أنه لما تضمن الإملاء التمتيع بطيبات الدنيا وزينتها، وذلك مما يستدعي التعزز والتجبر، وصف عذابهم بالإهانة، ليكون جزاؤهم جزاء وفاقا.
ثم أشار سبحانه وتعالى إلى بعض الحكم والغايات المحمودة التي كانت في وقعة أحد، وهو أن يتميز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب. فإن المسلمين لما أظهرهم الله على أعدائهم يوم بدر، وطار لهم الصيت، دخل معهم في الإسلام ظاهرا من ليس معهم فيه باطنا، فاقتضت حكمة الله عز وجل أن سبّب لعباده محنة ميزت بين المؤمن والمنافق، فأطلع المنافقون رؤوسهم في هذه الغزوة، وتكلموا بما كانوا يكتمونه، وظهر مخبآتهم، وعاد تلويحهم صريحا، وانقسم الناس إلى كافر ومؤمن ومنافق، انقساما ظاهرا، وعرف المؤمنون أن لهم عدوا في نفس دورهم، وهم معهم لا يفارقونهم، فاستعدوا لهم، وتحرزوا منهم فقال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٧٩]
ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩)
ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ أي يترك الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ من الالتباس بالمنافقين، وبل لا يزال يبتليكم حَتَّى يَمِيزَ المنافق الْخَبِيثَ مِنَ المؤمن الطَّيِّبِ وَلا يميز إلا بهذا الابتلاء لأنه ما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ أي الذي يميز به ما في قلوب الخلق من الإيمان والكفر وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ باطلاعه على الغيب، كما أوحى إلى النبيّ ﷺ بما ظهر منهم من الأقوال والأفعال، حسبما حكى عنهم بعضه فيما سلف، فيفضحهم على رؤوس الأشهاد، ويخلصكم من سوء جوارهم.
قال ابن القيّم: هذا استدراك لما نفاه من اطلاع خلقه على الغيب، كما قال عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ [الجن:
٢٦- ٢٧] فحظكم أنتم وسعادتكم في الإيمان بالغيب الذي يطلع عليه رسله، فإن آمنتم به واتقيتم كان لكم أعظم الأجر والكرامة، في الإيمان بالغيب الذي يطلع عليه رسله، فإن آمنتم به واتقيتم كان لكم أعظم الأجر والكرامة، كما قال تعالى فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ الذين اجتباهم للاقتداء بهم في الاعتقادات والأعمال وَإِنْ تُؤْمِنُوا فتصححوا الاعتقادات وَتَتَّقُوا فتصلحوا الأعمال فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ وهاهنا:
لطائف
الأولى: في التعبير عن المؤمن والمنافق بالطيب والخبيث تسجيل على كل منهما، بما يليق به، وإشعار بعلة الحكم.
الثانية: إفراد الخبيث والطيب مع تعدد ما أريد بكل منهما وتكثره لا سيما بعد ذكر ما أريد بأحدهما أعني المؤمنين بصيغة الجمع، للإيذان بأن مدار إفراز أحد الفريقين من الآخر هو اتصافهما بوصفهما لا خصوصية ذاتهما وتعدد آحادهما، كما في مثل قوله تعالى ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا [النساء: ٣]، ونظيره قوله تعالى تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ
[الحج: ٢]، حيث قصد الدلالة على الاتصاف بالوصف من غير تعرض لكون الموصوف من العقلاء أو غيرهم.
465
الثالثة: تعليق الميز بالخبيث المعبر به عن المنافق، مع أن المتبادر مما سبق من عدم ترك المؤمنين على الاختلاط تعليقه بهم وإفرازهم عن المنافقين، لما أن الميز الواقع بين الفريقين إنما هو بالتصرف في المنافقين وتغييرهم من حال إلى حال مغايرة للأولى، مع بقاء المؤمنين على ما كانوا عليه من أصل الإيمان، وإن ظهر مزيد إخلاصهم، لا بالتصرف فيهم، وتغييرهم من حال إلى حال أخرى، مع بقاء المنافقين على ما هم عليه من الاستتار، ولأن فيه مزيد تأكيد للوعيد كما أشير إليه في قوله تعالى وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [البقرة: ٢٢٠].
الرابعة: إنما لم ينسب عدم الترك إليهم، لما أنه مشعر بالاعتناء بشأن من نسب إليه، فإن المتبادر منه عدم الترك على حالة غير ملائمة، كما يشهد به الذوق السليم.
الخامسة: التعرض للاجتباء في قوله يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ... إلخ للإيذان بأن الوقوف على أمثال تلك الأسرار الغيبية، لا يتأتى إلا ممن رشحه الله تعالى لمنصب جليل، تقاصرت عنه همم الأمم، واصطفاه على الجماهير لإرشادهم، وتعميم الاجتباء لسائر الرسل عليهم السلام للدلالة على أن شأنه عليه الصلاة والسلام في هذا الباب أمر متين، له أصل أصيل، جار على سنة الله تعالى المسلوكة فيما بين الرسل عليهم السلام.
السادسة: تعميم الأمر في قوله تعالى فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ مع أن سوق النظم الكريم للإيمان بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، لإيجاب الإيمان به بالطريق البرهانيّ، والإشعار بأن ذلك مستلزم للإيمان بالكل، لأنه مصدق لما بين يديه من الرسل، وهم شهداء بصحة نبوته صلى الله عليه وسلم، والمأمور به الإيمان بكل ما جاء به عليه الصلاة والسلام، فيدخل فيه تصديقه فيما أخبر به من أحوال المنافقين دخولا أوليّا.
هذا ما اقتبسناه من تفسير العلامة أبي السعود رحمه الله. وقد استقرب حمل هذه الآية الكريمة على أن تكون مسوقة لبيان الحكمة في إملائه تعالى للكفرة إثر بيان شريته لهم. فالمعنى: ما كان الله ليذر المخلصين على الاختلاط أبدا كما تركهم كذلك إلى الآن، لسر يقتضيه، بل يفرز عنهم المنافقين، ولذلك فعله يومئذ، حيث خلى الكفرة وشأنهم، فأبرز لهم صورة الغلبة، فأظهر من في قلوبهم مرض، ما فيها من الخبائث وافتضحوا على رؤوس الأشهاد.
466
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٨٠]
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠)
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ اعلم أنه تعالى لما بالغ في التحريض على بذل النفس في الجهاد في الآيات المتقدمة، شرع هاهنا في التحريض على بذل المال في سبيل الله، وبيّن الوعيد الشديد لمن يبخل ببذله فيه، وإيراد ما بخلوا به بعنوان (إيتاء الله تعالى إياه من فضله) للمبالغة في بيان سوء صنيعهم، فإن ذلك من موجبات بذله في سبيله كما في قوله تعالى: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد: ٧]. بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ لاستجلاب العقاب عليهم، والتنصيص على شريته لهم، مع انفهامها من نفي خيريته، للمبالغة في ذلك.
والتنوين للتفخيم سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ بيان لكيفية شرية مآل ما بخلوا به. وقد ذهب كثير من المفسرين إلى أن هذا الوعيد على طريق التمثيل أي سيلزمون وبال ما بخلوا به لزوم الطوق. وذهب آخرون إلى أنه على ظاهره، وأنه نوع من العذاب الأخرويّ المحسوس. وأيدوه
بما روى البخاري «١» عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته، مثّل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه- يعني شدقيه- ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك، ثم تلا هذه الآية وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ... إلى آخرها.
وروى الإمام أحمد «٢» والنسائيّ عن ابن عمر عن النبيّ ﷺ قال: إن الذي لا يؤدي زكاة ماله يمثّل الله عز وجل له ماله يوم القيامة شجاعا أقرع، له زبيبتان، ثم يلزمه يطوّقه يقول: أنا كنزك، أنا كنزك.
وروى الإمام أحمد «٣» والترمذيّ والنسائيّ وابن ماجة عن عبد الله بن مسعود عن النبيّ ﷺ قال: لا يمنع عبد زكاة ماله إلا جعل له شجاع أقرع يتبعه، يفرّ منه وهو يتبعه، فيقول: أنا كنزك. ثم قرأ عبد الله مصداقه في كتاب الله: سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ.
قال الترمذيّ: حسن صحيح.
(١) أخرجه البخاريّ في: الزكاة، ٣- باب إثم مانع الزكاة، حديث ٧٤٦.
(٢) أخرجه في المسند ٢/ ٩٨.
(٣) أخرجه في المسند ١/ ٣٧٧.
وروى الحافظ أبو يعلى عن ثوبان عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: من ترك بعده كنزا مثل له شجاعا أقرع، له زبيبتان، يتبعه. فيقول: من أنت ويلك؟ فيقول: أنا كنزك الذي خلفت بعدك، فلا يزال يتبعه حتى يلقمه يده فيقضمها، ثم يتبع سائر جسده
. قال الحافظ ابن كثير: إسناده جيد قويّ، ولم يخرجوه، وقد رواه الطبرانيّ عن جرير بن عبد الله البجليّ.
ورواه ابن جرير والحافظ ابن مردويه عن حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: لا يأتي رجل مولاه فيسأله من فضل مال عنده، فيمنعه إياه، إلا دعي له يوم القيامة شجاع يتلمظ فضله الذي منع.
وروى ابن جرير مرفوعا: ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه فيسأله من فضل جعله الله عنده، فيبخل به عليه، إلا أخرج له من جهنم شجاع يتلمظ حتى يطوقه. ورواه أيضا موقوفا ومرسلا.
والشجاع (كغراب وكتاب) : الحية مطلقا، أو الذكر منها، أو ضرب منها دقيق، وهو أجرؤها- كذا في القاموس وشرحه-.
ثم أشار تعالى إلي أنهم، وإن لم ينفقوا أموالهم في سبيله، فهي راجعة إليه بقوله وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي ما يتوارثه أهلهما من مال وغيره، فما لهم يبخلون عليه بملكه، ولا ينفقونه في سبيله. ونظيره قوله تعالى: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد: ٧]، فالميراث على هذا على حقيقته، أو المعنى: أنه يفني أهل السموات والأرض ويصير أملاك أهلهما بعد فنائهم إلى خالص ملكه، كما يصير مال المورث ملك الوارث، فجرى ما هنا مجرى الوراثة، إذ كان الخلق يدعون الأملاك ظاهرا، وإلّا فالكل له، وعلى هذا فهو مجاز.
قال الزجاج رحمه الله: أي أن الله تعالى يفني أهلهما، فيفنيان بما فيهما، فليس لأحد فيهما ملك، فخوطبوا بما يعلمون، لأنهم يجعلون، ما يرجع إلى الإنسان ميراثا، ملكا له وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أي فيجازيكم على المنع والبخل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٨١]
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (١٨١)
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ روى الحافظان ابن
مردويه وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: لما نزل قوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً [البقرة: ٢٤٥]. قالت اليهود: يا محمد! افتقر ربك فسأل عباده القرض، فأنزل الله هذه الآية.
وروى محمد بن إسحاق عن عكرمة عن ابن عباس قال: دخل أبو بكر الصديق بيت المدراس، فوجد من يهود ناسا كثيرة قد اجتمعوا على رجل منهم يقال له (فنحاص) وكان من علمائهم وأحبارهم، ومعه حبر يقال له (أشيع) فقال له أبو بكر: ويحك يا فنحاص! اتق الله وأسلم، فو الله إنك لتعلم أن محمدا رسول من عند الله، قد جاءكم بالحق من عنده، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل. فقال فنحاص: والله يا أبا بكر، ما بنا إلى الله من حاجة من فقر، وإنه إلينا لفقير، ما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء. ولو كان عنا غنيّا ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم. ينهاكم عن الربا، ويعطينا، ولو كان غنيّا ما أعطانا الربا. فغضب أبو بكر رضي الله عنه، فضرب وجه فنحاص ضربا شديدا، وقال: والذي نفسي بيده! لولا الذي بيننا وبينك من العهد لضربت عنقك يا عدو الله، فأكذبونا ما استطعتم إن كنتم صادقين. فذهب فنحاص إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! أبصر ما صنع بي صاحبك. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ما حملك على ما صنعت يا أبا بكر؟ فقال: يا رسول الله إن عدو الله قال قولا عظيما. يزعم أن الله فقير وأنهم عنه أغنياء، فلما قال ذلك غضبت لله مما قال، ضربت وجهه، فجحد فنحاص ذلك وقال: ما قلت ذلك. فأنزل الله فيما قال فنحاص لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ...
الآية- ولما كان مثل هذا القول، سواء كان عن اعتقاد، أو استهزاء بالقرآن والرسول- وهو الظاهر- لا يصدر إلا عن تمرد عظيم لكونه في غاية العظم والهول، أشار إلى وعيده الشديد بقوله سَنَكْتُبُ ما قالُوا أي ما قالوه من هذه العظيمة الشنعاء في صحائف الحفظة وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ إنما نظم مع ما قبله إيذانا بسوابقهم القبيحة، وأنه ليس أول جريمة ارتكبوها، وأن من اجترأ على قتل الأنبياء لم يستبعد منه هذا الكلام وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٨٢]
ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢)
ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أي يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا وتحقيرا وتصغيرا، بسبب هتكهم حرمة الله، وحرمة كلامه وأنبيائه المبلغين له.
469
لطائف
الأولى: إيراد صيغة الجمع في الآية مع كون القائل واحدا، كما روي، لرضا الباقين بذلك، ونظائره في التنزيل كثيرة.
الثانية: إضافة عذاب الحريق بيانية. أي العذاب الذي هو الحريق.
الثالثة: الذوق إدراك الطعوم، ثم اتسع فيه لإدراك سائر المحسوسات والحالات، وذكره هاهنا لأن العذاب مرتب على قولهم الناشئ عن البخل، والتهالك على المال، وغالب حاجة الإنسان إليه لتحصيل المطاعم، ومعظم بخله به للخوف من فقدانه، ولذلك كثر ذكر الأكل مع المال- أفاده البيضاويّ-.
الرابعة: تقديم الأيدي عملها، لأن من يعمل شيئا يقدمه، والتعبير بالأيدي عن الأنفس من حيث أن عامة أفاعيلها إنما تزاول بهنّ، فهو من قبيل التعبير عن الكل بالجزء الذي مدار جلّ العمل عليه.
الخامسة: إن قيل (ظلّام) صيغة مبالغة من الظلم، تفيد الكثير، ولا يلزم من نفى الظلم الكثير نفي الظلم القليل، فلو قيل: بظالم، لكان أدل على نفي الظلم قليله وكثيره. فالجواب عنه من أوجه:
أحدها- أن الصيغة للنسب من قبيل (بزّاز) و (عطّار) لا للمبالغة، والمعنى لا ينسب إلى الظلم.
الثاني- أن (فعّالا) قد جاء. لا يراد به الكثرة، كقول طرفة:
ولست بحلّال التّلاع مخافة ولكن متى يسترفد القوم أرفد
لا يريد هاهنا أنه قد يحلّ التلاع قليلا، لأن ذلك يدفعه قوله: متى يسترفد القوم أرفد. وهذا يدل على نفي البخل في كل حال، ولأن تمام المدح لا يحصل بإرادة الكثرة.
والثالث- أن المبالغة لرعاية جمعية العبيد من قولهم فلان ظالم لعبده، وظلّام لعبيده، فالصيغة للمبالغة كمّا لا كيفا.
الرابع- أنه إذا نفي الظلم الكثير انتفى الظلم القليل ضرورة. لأن الذي يظلم إنما يظلم لانتفاعه بالظلم، فإذا ترك الظلم الكثير مع زيادة نفعه في حق من يجوز عليه النفع والضر، كان للظلم القليل المنفعة أترك.
470
الخامس: إن المبالغة لتأكيد معنى بديع، وذلك لأن جملة: وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ- اعتراض تذييليّ مقرر لمضمون ما قبلها، أي والأمر أنه تعالى ليس بمعذب لعبيده بغير ذنب من قبلهم. والتعبير عن ذلك بنفي الظلم لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه سبحانه من الظلم، كما يعبر عن ترك الإثابة على الأعمال بإضاعتها. وصيغة المبالغة لتأكيد هذا المعنى بإبراز ما ذكر من التعذيب بغير ذنب في صورة المبالغة في الظلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٨٣]
الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٨٣)
الَّذِينَ قالُوا نصب بتقدير (أعني) أو رفع على الذم بتقدير (هم الذين قالوا) : إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أي أمرنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ أي تبكيتا لهم، وإظهارا لكذبهم قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ أي المعجزات الواضحة وَبِالَّذِي قُلْتُمْ بعينه من تشريع القربان الذي تأكله النار فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ أي فلم قابلتموهم بالتكذيب والمخالفة والمعاندة وقتلتموهم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أنكم تتبعون الحق وتنقادون للرسل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٨٤]
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (١٨٤)
فَإِنْ كَذَّبُوكَ أي بعد بطلان عذرهم المذكور فَقَدْ كُذِّبَ أي فلا تحزن وتسلّ فقد كذب رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ جمع زبور أي الكتب الموحاة منه تعالى وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ أي الواضح الجليّ. والزبور والكتاب: واحد في الأصل، وإنما ذكرا لاختلاف الوصفين. فالزبور فيه حكم زاجرة، والكتاب المنير هو المشتمل على جميع الشريعة.
فائدة
في قربان أهل الكتاب وتشريعه عندهم
471
اعلم أن القربان (بضم القاف) معناه، لغة، ما يتقرب به إلى الله تعالى وسيلة لمرضاته. قال في مرشد الطالبين: كانت ذبائح العبرانيين عديدة جدا، وكان المستعمل هذه الذبيحة، بتعيين الله، الثيران والنعاج والمعز والحمام واليمام. وكانت الذبائح نوعين عامين: إحداهما كانت تقرب لتكفير الخطايا، والأخرى شكرا لله على مراحمه وبركاته.
ثم قال: فالذبيحة اليومية كانت مشهورة جدا، وهي خروف بلا عيب، يقدم وقودا لله كفارة للخطايا، وذلك مرتان صباحا ومساء، طول مدة السنة، فالتي في الصباح تقدم عن خطايا الشعب ليلا، والتي في المساء عن خطاياهم نهارا. وقبل فعل الذبيحة تعترف كل الشعوب بخطاياها فوق الحيوان المراد ذبحه على يد الكاهن الخادم، وبهذا كان ينقل الإثم إليه بواسطة وضع وكلاء الشعب أيديهم على رأسه، ثم يذبح ويقرب وقودا. وفي غضون ذلك تسجد الجماعة في الدار، وتبخر الكهنة على المذابح الذهبية، ويقدمون الطلبات لله عن الشعب، وأما في يوم السبت، فكانت تتضاعف الذبيحة، ويقرب في كل دفعة خروفان.
ثم قال: يوم الكفارة كان ممتازا بالذبيحة السنوية، وهي أنه بعد أن يقرب الكاهن ثورا كفارة لخطايا عائلته يقرب ماعزان كفارة لخطايا الشعب- انتهى-.
وقد أشير لكيفية ذبح القربان وحرقه في مواضع من التوراة. منها سفر الخروج في الفصل التاسع والعشرين، ومنها في الفصل الأول من سفر الأحبار المسمين باللاويين ونصه: ودعا الرب موسى وخاطبه من خباء المحضر قائلا: خاطب بني إسرائيل وقل لهم: أي إنسان منكم قرب قربانا للرب من البهائم فمن البقر والغنم يقربون قرابينهم إن كان قربانه محرقة من البقر، فذكرا صحيحا يقربه عند باب خباء المحضر يقربه للرضوان عنه، ويضع يده على رأس المحرقة ويترضى به ليغفر له، ثم يذبح الثور ويقرب الكهنة بنو هارون الدم وينضحون الدم على المذبح، وما أحاط به في باب قبة الشهادة- يعني التابوت الذي كان فيه لوحا التوراة المسماة شهادة- ثم يسلخون المحرقة، ويقطعونها قطعا، ثم يوقدون نارا على المذبح، وينضدون الحطب على النار، ثم يجعلون الأعضاء المقطعة الرأس والشحم على الحطب الذي على النار على المذبح، ويغسلون أكارعه وجوفه بالماء، ثم يصعده الكاهن ويجعله على المذبح وقودا وقربانا لرضا الرب... إلخ.
وفي الفصل السادس من سفر الأحبار: وكلم الرب موسى قائلا: مر هارون
472
وبنيه، وقل لهم: هذه شريعة المحرقة، تكون المحرقة على وقيدة المذبح طول الليل إلى الغداة، ونار المذبح متقدة عليه، ويلبس الكاهن قميصه من الكتان، وسراويلات من الكتان على بدنه، ويرفع الرماد الذي آلت إليه نار المحرقة على المذبح، ويجعله إلى جانب المذبح، ثم يخلع ثيابه ويلبس ثيابا أخر، ويخرج الرماد إلى خارج المحلة إلى موضع طاهر، وتبقى النار على المذبح متقدة لا تطفأ، ويضع عليها الكاهن حطبا في كل غداة... إلخ.
قال بعضهم: زعم الربانيون أن النار التي كانت في هيكل سليمان، والتي أمر اليهود بحفظها دون أن تطفأ البتة، كان أصلها من النار التي نزلت من السماء بعد تقدمة هارون وأبنائه المحرقات، وأنها بقيت إلى أيام خراب الهيكل على يد بختنصر، إلا أنه ليس في التوراة ما يصرح بذلك- انتهى-.
وهذه النار التي نزلت من السماء جاء ذكرها في الفصل التاسع من سفر الأحبار وملخصه: أن موسى أمر هارون عليهما السلام أن يذبح قربانا، فذبح عجلا وأحرق لحمه وجلده خارج المحلة، وأما شحمه وكليتاه وزيادة كبده فقترها على المذبح، ثم قرب تيسا وثورا وكبشا بكيفية خاصة، ثم دخل موسى وهارون خباء المحضر، فخرجت نار من عند الرب، فأكلت المحرقة والشحوم التي على المذبح، فنظر جميع الشعب وهتفوا مسبحين وسجدوا- انتهى- إذا علمت ذلك، فقوله تعالى تَأْكُلُهُ النَّارُ بمعنى أنه يذبح على الكيفية المعروفة، ثم تنزل نار من السماء فتأكله، وتكون معجزة وآية كما حصل في عهد موسى وهارون من نزول النار وأكلها المحرقة، كما ذكرنا. وفي عهد سليمان أيضا، فقد جاء في الفصل التاسع من سفر أخبار الأيام الثاني: أن سليمان لما أتم الدعاء هبطت النار من السماء وأكلت المحرقة والذبائح، وكان جميع بني إسرائيل يعاينون هبوط النار- انتهى.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٨٥]
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (١٨٥)
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ كقوله: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو
473
الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرحمن: ٢٦- ٢٧]. وفي هذه الآية تعزية لجميع الناس، ووعد ووعيد للمصدق والمكذب وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي تعطون جزاء أعمالكم وافيا يوم القيامة، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. قال الزمخشريّ: فإن قلت.
فهذا يوهم نفي ما يروى أن القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار! «١» قلت: كلمة التوفية تزيل هذا الوهم، لأن المعنى أن توفية الأجور وتكميلها يكون ذلك اليوم، وما يكون قبل ذلك فبعض الأجور.
وقال الرازيّ: بيّن تعالى أن تمام الأجر والثواب لا يصل إلى المكلف إلا يوم القيامة، لأن كل منفعة تصل إلى المكلف في الدنيا فهي مكدرة بالغموم والهموم، وبخوف الانقطاع والزوال، والأجر التام والثواب الكامل إنما يصل إلى المكلف يوم القيامة، لأن هناك يحصل السرور بلا غم، والأمن بلا خوف، واللذة بلا ألم، والسعادة بلا خوف الانقطاع. وكذا القول في العقاب، فإنه لا يحصل في الدنيا ألم خالص عن شوائب اللذة، بل يمتزج به راحات وتخفيفات، وإنما الألم التام الخالص الباقي هو الذي يكون يوم القيامة، نعوذ بالله منه. فَمَنْ زُحْزِحَ أي أبعد عَنِ النَّارِ التي هي مجمع الآفات والشرور وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ الجامعة للّذات والسرور فَقَدْ فازَ أي حصل الفوز العظيم، وهو الظفر بالبغية، أعني النجاة من سخط الله والعذاب السرمد، ونيل رضوان الله والنعيم المخلد.
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن
(١)
أخرجه الترمذيّ في: القيامة، ٢٦- باب حدثنا محمد بن أحمد بن مردويه ونصه: عن أبي سعيد قال: دخل رسول الله ﷺ مصلاه فرأى ناسا كأنهم يكشرون، قال «أما إنكم لو أكثرتم ذكر هادم اللذات لشغلكم عما أرى الموت. فأكثروا ذكر هادم اللذات، الموت. فإنه لم يأت على القبر يوم إلا تكلم فيه. فيقول: أنا بيت الغربة وأنا بيت الوحدة وأنا بيت التراب وأنا بيت الدود.
فإذا دفن العبد المؤمن قال له القبر: مرحبا وأهلا. أما إن كنت لأحبّ من يمشي على ظهري إليّ.
فإذا وليتك اليوم وصرت إليّ، فسترى صنيعي بك.
قال: فيتسع له مد بصره ويفتح له باب إلى الجنة.
وإذا دفن العبد الفاجر أو الكافر فقال له القبر: لا مرحبا ولا أهلا. أما إن كنت لأبغض من يمشي على ظهري إليّ. فإذا وليتك اليوم وصرت إليّ، فسترى صنيعي بك.
قال: فيلتئم عليه حتى تلتقي عليه وتختلف أضلاعه»
.
قال: قال رسول الله ﷺ بأصابعه. فأدخل بعضها في جوف بعض.
قال: ويقيض الله له سبعين تنينا، لو أن واحدا منها نفخ في الأرض ما أنبتت شيئا ما بقيت الدنيا.
فينهشه ويخدشه حتى يفضي به إلى الحساب.
قال: قال رسول الله ﷺ «إنما القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار».
474
العاص قال «١» : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة، فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه.
وأخرجه مسلم أيضا
وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا أي لذاتها إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ المتاع: ما يتمتع وينتفع به، والغرور (بضم الغين) مصدر غره أي خدعه وأطمعه بالباطل، وإنما وصف عيش الدنيا بذلك لما تمنّيه لذاتها من طول البقاء، وأمل الدوام، فتخدعه ثم تصرعه. قال بعض السلف: الدنيا متاع متروك يوشك أن يضمحل ويزول. فخذوا من هذا المتاع واعملوا فيه بطاعة الله ما استطعتم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٨٦]
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦)
لَتُبْلَوُنَّ أي لتختبرن فِي أَمْوالِكُمْ بما يصيبها من الآفات وَأَنْفُسِكُمْ بالقتل والأسر والجراح وما يرد عليها من أصناف المتاعب والمخاوف والشدائد.
وهذا كقوله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ... [البقرة: ١٥٥- ١٥٦]، إلى آخر الآيتين- أي لا بد أن يبتلي المؤمن في شيء من ماله أو نفسه أو ولده. أو أهله.
وفي الحديث «٢» : يبتلى
(١)
أخرجه الإمام أحمد في المسند ٢/ ١٦١. ونصه: عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة قال: انتهيت إلى عبد الله بن عمرو بن العاص وهو جالس في ظل الكعبة. فسمعته يقول: بينا نحن مع رسول الله ﷺ في سفر، إذ نزل منزلا. فمنا من يضرب خباءه ومنا من هو في جشره ومنا من ينتصل، إذ نادى مناديه: الصلاة جامعة. قال فاجتمعنا. قال فقال رسول الله ﷺ فخطبنا فقال:
«إنه لم يكن نبيّ قبلي إلا دل أمته على ما يعلمه خيرا لهم، ويحذرهم ما يعلمه شرّا لهم. وإن أمتكم هذه جعلت عافيتها في أولها. وإن آخرها سيصيبهم بلاء شديد وأمور تنكرونها. تجيء فتن يرقق بعضها لبعض. تجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي. ثم تنكشف. ثم تجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه، ثم تنكشف. فمن سره منكم أن يزحزح عن النار وأن يدخل الجنة فلتدركه موتته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر. وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه. ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعمه ما استطاع. فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر»
. (٢)
أخرجه الترمذيّ في: الزهد، ٥٧- باب ما جاء في الصبر على البلاء ونصه: عن مصعب بن سعد عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله! أي الناس أشد بلاء؟ قال «الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل. فيبتلى الرجل على حسب دينه. فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه. فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض، ما عليه خطيئة.
[.....]
المرء على قدر دينه. فإن كان في دينه صلابة، زيد في البلاء،
وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً بالقول والفعل وَإِنْ تَصْبِرُوا على ذلك وَتَتَّقُوا أي مخالفة أمره تعالى فَإِنَّ ذلِكَ أي الصبر والتقوى مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أي من معزومات الأمور التي يتنافس فيها المتنافسون. أي مما يجب أن يعزم عليه كل أحد، لما فيه من كمال المزية والشرف. أو مما عزم الله تعالى عليه وأمر به وبالغ فيه. يعني: أن ذلك عزمة من عزمات الله تعالى، لا بد أن تصبروا وتتقوا. وفي إبراز الأمر بالصبر والتقوى في صورة الشرطية، من إظهار كمال اللطف بالعبادة، ما لا يخفى- أفاده أبو السعود.
قال بعض المفسرين: ثمرة الآية وجوب الصبر. وأن الجهاد لا يسقط مع سماع ما يؤذي.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٨٧]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (١٨٧)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وهم علماء اليهود والنصارى لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ أي لتظهرن جميع ما فيه من الأحكام والأخبار التي من جملتها أمر نبوته صلّى الله عليه وسلم. وفي قوله تعالى وَلا تَكْتُمُونَهُ من النهي عن الكتمان، بعد الأمر بالبيان، مبالغة في إيجاب المأمور به فَنَبَذُوهُ أي الميثاق وَراءَ ظُهُورِهِمْ أي طرحوه ولم يراعوه. ونبذ الشيء وراء الظهر مثل في الاستهانة به، والإعراض عنه بالكلية. كما أن جعله نصب العين علم في كمال العناية به وَاشْتَرَوْا بِهِ أي استبدلوا به ثَمَناً قَلِيلًا أي شيئا حقيرا من حطام الدنيا فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ بتغيير كلام الله ونبذ ميثاقه.
قال بعض المفسرين: ثمرة الآية وجوب إظهار الحق، وتحريم كتمانه، فيدخل فيه بيان الدين والأحكام والفتاوى والشهادات وغير ذلك مما يجب إظهاره. وقد تقدم هذا، وإن المراد بذلك إذا لم يؤد إلى مفسدة. ويدخل في الكتم منع الكتب المنطوية على علم الدين حيث تعذر الأخذ إلا منها.
وقال العلامة الزمخشريّ عليه الرحمة: كفى بهذه الآية دليلا على أنه مأخوذ على العلماء أن يبينوا الحق للناس وما علموه وأن لا يكتموا منه شيئا لغرض فاسد من
تسهيل على الظلمة، وتطييب لنفوسهم، واستجلاب لمسارهم، أو لجر منفعة وحطام الدنيا، أو لتقية مما لا دليل عليه ولا أمارة، أو لبخل بالعلم، وعيرة أن ينسب إليه غيرهم- انتهى-.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: من سئل عن علم ثم كتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار- أخرجه الترمذيّ «١»
ولأبي داود «٢» : من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة.
وقال أبو هريرة: لولا ما أخذ الله عز وجل على أهل الكتاب ما حدثتكم بشيء. ثم تلا: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ... الآية.
لطيفة:
قال العلامة أبو السعود: في تصوير هذه المعاملة بعقد المعاوضة، لا سيما بالاشتراء المؤذن بالرغبة في المأخوذ، والإعراض عن المعطي، والتعبير عن المشتري الذي هو العمدة في العقد والمقصود بالمعاملة بالثمن الذي شأنه أن يكون وسيلة إليه، وجعل الكتاب الذي حقه أن يتنافس فيه المتنافسون، مصحوبا ب (الباء) الداخلة على الآلات والوسائل- من نهاية الجزالة والدلالة على كمال فظاعة حالهم وغاية قبحها بإيثارهم الدنيء الحقير، على الشريف الخطير، وتعكيسهم بجعلهم المقصد الأصلي وسيلة، والوسيلة مقصدا- ما لا يخفي جلالة شأنه ورفعة مكانه- انتهى-.
ثم أشار تعالى أنهم لا يرون قبح ذلك بل يفرحون به فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٨٨]
لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨٨)
لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا أي بما فعلوا من اشتراء الثمن القليل بتغيير كلام الله تعالى وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا من وفاء الميثاق من غير تغيير ولا كتمان فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ أي بمنجاة مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بكفرهم وتدليسهم.
(١) أخرجه الترمذيّ في: العلم، باب ما جاء في كتمان العلم.
(٢) أخرجه أبو داود في: العلم، ٩- باب كراهية منع العلم، حديث ٣٦٥٨.
477
روى الإمام أحمد «١» عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، أن مروان قال:
اذهب يا رافع (لبوابه) إلى ابن عباس فقل: لئن كان كل امرئ منا فرح بما أوتي، وأحب أن يحمد بما لم يفعل، لنعذبن أجمعون. فقال ابن عباس ما لكم وهذه، إنما نزلت هذه في أهل الكتاب، ثم تلا ابن عباس: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ- إلى قوله: وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ، وقال ابن عباس: سألهم النبيّ صلّى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره، فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك إليه وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه. وهكذا رواه البخاريّ في التفسير، ومسلم والترمذيّ والنسائيّ في تفسيريهما، وابن أبي حاتم وابن خزيمة والحاكم في مستدركه، وابن مردويه بنحوه. ورواه البخاريّ «٢» أيضا عن علقمة بن وقاص، أن مروان قال لبوابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس- فذكره- وروى البخاريّ «٣» عن أبي سعيد الخدريّ أن رجالا من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى الغزو وتخلفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فإذا قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الغزو اعتذروا إليه وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فنزلت لا تَحْسَبَنَّ... الآية- وكذا رواه مسلم بنحوه.
ولا منافاة بين الروايتين لأن الآية عامة في جميع ما ذكر، ومعنى نزول الآية في ذلك وقوعها بعد ذلك، لا أن أحد الأمرين كان سببا لنزولها. كما حققناه غير مرة.
تنبيه:
هذه الآية، وإن كانت محمولة على الكفار لما تقدم، ففيها ترهيب للمؤمنين عما ذم عليه أهلها من الإصرار على القبائح والفرح بها ومحبة المدح بما عرا عنه من الفضائل. ويدخل في ذلك المراؤون المتكثرون بما لم يعطوا، كما جاء
في الصحيحين «٤» عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم: من ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها لم يزده الله إلا قلة.
(١) أخرجه في المسند بالصفحة ٢٩٨ من ج ١.
(٢) أخرجه البخاريّ في: التفسير، ٣- سورة آل عمران، ١٦- باب لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا، حديث ١٩٨٨.
(٣) أخرجه البخاريّ في: التفسير، ٣- سورة آل عمران، ١٦- باب لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا، حديث ١٩٨٧.
(٤)
أخرجه مسلم في: الإيمان، حديث ١٧٦ ونصه: عن ثابت بن الضحاك عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال «ليس على رجل نذر فيما لا يملك. ولعن المؤمن كقتله. ومن قتل نفسه بشيء في الدنيا عذب يوم القيامة. ومن ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها لم يزده الله إلا قلة. ومن حلف على يمين صبر فاجرة»
.
478
وفي الصحيحين «١» أيضا: المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور. فليحذر من يأتي بما لا ينبغي ويفرح به ثم يتوقع من الناس أن يصفوه بسداد السيرة واستقامة الطريقة والزهد والإقبال على الله تعالى.
فائدة:
قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء وفتح الباء في الأول وضمها في الثاني، وفاعل الأول (الذين يفرحون). وأما مفعولاه فمحذوفان اكتفاء بمفعولي تَحْسَبَنَّهُمْ لأن الفاعل فيهما واحد. فالفاعل الثاني تأكيد للأول، وحسن لما طال الكلام المتصل بالأول. والفاء زائدة، إذ ليست للعطف ولا للجواب، وثمة وجوه أخرى.
لطيفة:
تصدير الوعيد بنهيهم عن الحسبان المذكور، للتنبيه على بطلان آرائهم الركيكة، وقطع أطماعهم الفارغة، حيث كانوا يزعمون أنهم ينجون بما صنعوا من عذاب الآخرة، كما نجوا به من المؤاخذة الدنيوية، وعليه كان مبنى فرحهم. وأما نهيه صلّى الله عليه وسلم فللتعريض بحسبانهم المذكور، لا لاحتمال وقوع الحسبان من جهته عليه الصلاة والسلام- أفاده أبو السعود.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٨٩]
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩)
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فهو قادر على عقابهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٩٠]
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠)
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي في إيجادها على ما هما عليه من الأمور المدهشة، تلك في ارتفاعها واتساعها، وهذه في انخفاضها وكثافتها واتضاعها، وما فيهما من الآيات المشاهدة العظيمة من كواكب سيارات، وثوابت وبحار، وجبال
(١) أخرجه البخاريّ في: النكاح، ١٠٦- باب المتشبع بما لم ينل.
ومسلم في: اللباس، حديث ١٢٦ و ١٢٧.
وقفار وأشجار، ونبات وزروع، وثمار وحيوان، ومعادن ومنافع، مختلفة الألوان والطعوم والروائح والخواص وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي في تعاقبهما، وكون كل منهما خلفة للآخر، بحسب طلوع الشمس وغروبها، أو في تفاوتهما بازدياد كل منهما انتقاص الآخر، وانتقاصه بازدياده لَآياتٍ أي: لأدلة واضحة على الصانع وعظيم قدرته، وباهر حكمته. والتنكير للتفخيم كمّا وكيفا، أي كثرة عظيمة لِأُولِي الْأَلْبابِ أي لذوي العقول المجلوّة بالتزكية والتصفية بملازمة الذكر دائما كما قال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٩١]
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١)
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ أي فلا يخلو حال من أحوالهم عن ذكر الله المفيد صفاء الظاهر المؤثر في تصفية الباطن. فالمراد تعميم الذكر للأوقات، وعدم الغفلة عنه تعالى. وتخصيص الأحوال المذكورة بالذكر، ليس لتخصيص الذكر بها، بل لأنها الأحوال المعهودة التي لا يخلو عنها الإنسان غالبا وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي في إنشائهما بهذه الأجرام العظام، وما فيهما من عجائب المصنوعات، وغرائب المبتدعات، ليدلّهم ذلك على كمال قدرة الصانع سبحانه وتعالى، فيعلموا أن لهما خالقا قادرا مدبرا حكيما، لأن عظم آثاره وأفعاله تدل على عظم خالقها تعالى. كما قيل:
وفي كل شيء له آية... تدل على أنه واحد
روى ابن أبي الدنيا في (كتاب التوكل والاعتبار) عن الصوفيّ الجليل الشيخ أبي سليمان الدارانيّ قدس الله سره أنه قال: إني لأخرج من منزلي، فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله عليّ فيه نعمة، ولي فيه عبرة. وإنما خصص التفكر بالخلق، للنهي عن التفكر في الخالق لعدم الوصول إلى كنه ذاته وصفاته.
خرّج ابن أبي حاتم من حديث عبد الله بن سلام: لا تفكروا في الله، ولكن تفكروا فيما خلق، وله شواهد كثيرة.
قال الرازيّ: دلائل التوحيد محصورة في قسمين: دلائل الآفاق، ودلائل الأنفس، ولا شك أن دلائل الآفاق أجل وأعظم، كما قال تعالى: لَخَلْقُ السَّماواتِ
480
وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ
[غافر: ٥٧]. ولما كان الأمر كذلك، لا جرم أمر في هذه الآية بالفكر في خلق السموات والأرض، لأن دلالتها أعجب، وشواهدها أعظم، وكيف لا نقول ذلك، ولو أن الإنسان نظر إلى ورقة صغيرة من أوراق شجرة رأى في تلك الورقة عرقا واحدا ممتدّا في وسطها، ثم يتشعب من ذلك العرق عروق كثيرة إلى الجانبين، ثم يتشعب منها عروق دقيقة، ولا يزال يتشعب من كل عرق عروق أخر، حتى تصير في الدقة بحيث لا يراها البصر، وعند هذا يعلم أن للخالق في تدبير تلك الورقة على هذه الخلقة حكما بالغة، وأسرارا عجيبة، وأن الله تعالى أودع فيها قوى جاذبة لغذائها من قعر الأرض، ثم إن ذلك الغذاء يجري في تلك العروق، حتى يتوزع على كل جزء من أجزاء تلك الورقة، جزء من أجزاء ذلك الغذاء بتقدير العزيز العليم. ولو أراد الإنسان أن يعرف كيفية خلقة تلك الورقة، وكيفية التدبير في إيجادها، وإيداع القوى الغاذية والنامية فيها، لعجز عنه. فإذا عرف أن عقله قاصر عن الوقوف على كيفية خلقة تلك الورقة الصغيرة، فحينئذ يقيس تلك الورقة إلى السموات، مع ما فيها من الشمس والقمر والنجوم. وإلى الأرض مع ما فيها من البحار والجبال والمعادن والنبات والحيوان. عرف أن تلك الورقة بالنسبة إلى هذه الأشياء، كالعدم. فإذا عرف قصور عقله عن معرفة ذلك الشيء الحقير، عرف أنه لا سبيل له البتة إلى الاطلاع على عجائب حكمة الله في خلق السموات والأرض، وإذا عرف بهذا البرهان النيّر قصور عقله وفهمه عن الإحاطة بهذا المقام، لم يبق معه إلا الاعتراف بأن الخالق أجل وأعظم من أن يحيط به وصف الواصفين ومعارف العارفين.
بل يسلم أن كل ما خلقه ففيه حكم بلاغة، وأسرار عظيمة، وإن كان لا سبيل إلى معرفتها، وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا على إرادة القول، بمعنى يتفكرون قائلين ذلك. وكلمة هذا متضمنة لضرب من التعظيم، أي ما خلقت هذا المخلوق البديع العظيم الشأن عبثا، عاريا عن الحكمة، خاليا عن المصلحة، بل منتظما لحكم جليلة، ومصالح عظيمة. من جملتها أن يكون دلالة على معرفتك، ووجوب طاعتك، واجتناب معصيتك، وأن يكون مدارا لمعايش العباد، ومنارا يرشدهم إلى معرفة أحوال المبدأ والمعاد.
لطيفة:
قال أبو البقاء: (باطلا) مفعول من أجله. والباطل، هنا، فاعل بمعنى المصدر، مثل العاقبة والعافية. والمعنى: ما خلقتهما عبثا. ويجوز أن يكون حالا. تقديره: ما خلقت هذا خاليا عن حكمة. ويجوز أن يكون نعتا لمصدر محذوف، أي خلقا باطلا- انتهى-.
481
وقوله سُبْحانَكَ أي تنزيها لك من العبث، وأن تخلق شيئا بغير حكمة فَقِنا عَذابَ النَّارِ قال السيوطيّ: فيه استحباب هذا الذكر عند النظر إلى السماء.
ذكره النوويّ في (الأذكار). وفيه تعليم العباد كيفية الدعاء، وهو تقديم الثناء على الله تعالى أولا، كما دل عليه قوله سُبْحانَكَ ثم بعد الثناء يأتي الدعاء، كما دل عليه فَقِنا عَذابَ النَّارِ.
وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم رجلا يدعو في صلاته، لم يمجد الله تعالى، ولم يصل على النبيّ صلّى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: عجل هذا، ثم دعاه فقال له أو لغيره: إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه سبحانه، والثناء عليه، ثم يصلي على النبيّ صلّى الله عليه وسلم، ثم يدعو بعد بما شاء- رواه أبو داود «١» والترمذيّ
وقال: حديث صحيح.
واعلم أنه لما حكى تعالى عن هؤلاء العباد المخلصين أنّ ألسنتهم مستغرقة بذكر الله تعالى، وأبدانهم في طاعة الله، وقلوبهم في التفكر في دلائل عظمة الله، ذكر أنهم مع هذه الطاعات يطلبون من الله أن يقيهم عذاب النار، ثم أتبعوا ذلك بما يدل على عظم ذلك العقاب وشدته وهو الخزي، بقولهم:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٩٢]
رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢)
رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ أي أهنته وأظهرت فضيحته لأهل الموقف. وسر هذا الإتباع عظم موقع السؤال، لأن من سأل ربه حاجة، إذا شرح عظمها وقوتها، كانت داعيته في ذلك الدعاء- أكمل، وإخلاصه في طلبه أشد، والدعاء لا يتصل بالإجابة، إلا إذا كان مقرونا بالإخلاص، وهذا أيضا تعليم من الله تعالى فنّا آخر من آداب الدعاء وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ تذييل لإظهار نهاية فظاعة حالهم، ببيان خلود عذابهم، بفقدان من ينصرهم، ويقوم بتخليصهم. وغرضهم تأكيد الاستدعاء. ووضع (الظالمين) موضع ضمير المدخلين، لذمهم، والإشعار بتعليل دخولهم النار بظلمهم، ووضعهم الأشياء في غير مواضعها. وجمع (الأنصار) بالنظر إلى جمع الظالمين، أي ما لظالم من الظالمين نصير من الأنصار. والمراد به من
(١) أخرجه أبو داود في: الوتر، ٢٣- باب الدعاء، حديث ١٤٨١.
ينصر بالمدافعة والقهر. فليس في الآية دلالة على نفي الشفاعة، على أن المراد بالظالمين هم الكفار- أفاده أبو السعود-.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٩٣]
رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣)
رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً حكاية لدعاء آخر لهم، وتصدير مقدمة الدعاء بالنداء لإظهار كمال الضراعة، والابتهال. والتأكيد للإيذان بصدور المقال عنهم بوفور الرغبة، وكمال النشاط. والمراد بالمنادي الرسول صلّى الله عليه وسلم، والتنوين للتفخيم، وهذا كقوله تعالى: وَداعِياً إِلَى اللَّهِ [الأحزاب: ٤٦]. وفي وصفه صلّى الله عليه وسلم ب (المنادي) دلالة على كمال اعتنائه بشأن الدعوى وتبليغها إلى الداني والقاصي، لما فيه من الإيذان برفع الصوت يُنادِي لِلْإِيمانِ أي لأجل الإيمان بالله. فإن قلت: فأي فائدة في الجمع بين (المنادي) و (ينادي) ؟ قلت: ذكر النداء مطلقا، ثم مقيدا بالإيمان، تفخيما لشأن المنادي، لأنه لا منادي أعظم من مناد ينادي للإيمان. ونحوه قولك:
مررت بهاد يهدي للإسلام، وذلك أن المنادي إذا أطلق، ذهب الوهم إلى مناد للحرب أو لإطفاء النائرة، أو لإغاثة المكروب، أو لكفاية بعض النوازل، أو لبعض المنافع.
وكذلك الهادي قد يطلق على من يهدي للطريق، ويهدي لسداد الرأي، وغير ذلك.
فإذا قلت: ينادي للإيمان، ويهدي للإسلام فقد رفعت من شأن المنادي والهادي، وفخمته. ويقال: دعاه لكذا وإلى كذا، وندبه له وإليه، وناداه له وإليه، ونحوه: هداه للطريق وإليه. وذلك أن معنى انتهاء الغاية، ومعنى الاختصاص واقعان جميعا- أفاده الزمخشريّ-.
أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا أي فامتثلنا أمره، وأجبنا نداءه، وأَنْ إما تفسيرية، أي آمنوا، أو مصدرية، أي: بأن آمنوا رَبَّنا تكرير للتضرع، وإظهار لكمال الخضوع فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا أي استر لنا ذنوبنا ولا تفضحنا بها، وأذهب عنا سيئاتنا بتبديلها حسنات وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ أي معدودين في جملتهم حتى نكون في درجتهم يوم القيامة. والأبرار جمع بارّ أو برّ وهو كثير البرّ (بالكسر) أي الطاعة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٩٤]
رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (١٩٤)
رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ أي على تصديق رسلك والإيمان بهم. أو على ألسنة رسلك. وهو الثواب، وهذا حكاية لدعاء آخر لهم، معطوف على ما قبله.
وتكرير النداء لما مرّ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ قصدوا بذلك تذكير وعده تعالى بقوله: يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ [التحريم: ٨]. بإظهار أنهم ممن آمن معه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٩٥]
فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (١٩٥)
فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي أي بأني لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بيان ل (عامل) وتأكيد لعمومه بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ أي الذكر من الأنثى والأنثى من الذكر، كلكم بنو آدم. وهذه جملة معترضة مبينة سبب شركة النساء مع الرجال، فيما وعد الله عباده العاملين. وروى الحافظ سعيد بن منصور في سننه عن أم سلمة أنها قالت: يا رسول الله لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء، فأنزل الله تعالى فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ... الآية- وقالت الأنصار: هي أول ظعينة قدمت علينا- ورواه الترمذي «١»، والحاكم في (مستدركه) وقال: صحيح على شرط البخاريّ، ولم يخرجاه. وروى ابن مردويه عن مجاهد عن أم سلمة قالت: آخر آية نزلت فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ... إلى آخرها. وعن جعفر الصادق رضي الله عنه: من حزبه أمر فقال:
خمس مرات (ربّنا) أنجاه الله مما يخاف، وأعطاه ما أراد. وقرأ الآيات.
فَالَّذِينَ هاجَرُوا مبتدأ، وهو تفصيل لعمل العامل منهم على سبيل التعظيم
(١)
أخرجه الترمذيّ في: التفسير، ٤- سورة النساء، ٩- حدثنا ابن أبي عمر. ونصه: عن أم سلمة قالت: يا رسول الله! لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة، فأنزل الله تعالى: أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ
.
له والتفخيم، كأنه قال: فالذين عملوا هذه الأعمال السنية وهي المهاجرة عن أوطانهم فارّين إلى الله بدينهم من دار الفتنة وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ أي التي ولدوا فيها ونشأوا وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي أي من أجله وبسببه، يريد سبيل الإيمان بالله وحده، وهو متناول لكل أذى نالهم من المشركين وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا أي غزوا المشركين واستشهدوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ جملة قسمية، خبر المبتدأ الذي هو الموصول، وهذا تصريح بوعد ما سأله الداعون بخصوصه، بعد ما وعد ذلك عموما وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي من تحت قصورها الأنهار، من أنواع المشارب من لبن وعسل وخمر وماء غير آسن وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ في موضع المصدر المؤكد لما قبله، فإن تكفير السيئات وإدخال الجنة، في معنى الإثابة. وأضافه إليه تعالى ليدل على أنه عظيم، لأن العظيم الكريم لا يعطي إلا جزيلا كثيرا. كما قيل «١» :
إن يعاقب يكن غراما وإن يع ط جزيلا فإنه لا يبالي
وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ أي حسن الجزاء لمن عمل صالحا. ثم بين تعالى قبح ما أوتي الكفرة من حظوظ الدنيا، وكشف عن حقارة شأنها وسوء مغبتها، إثر بيان حسن ما أوتي المؤمنون من الثواب، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٩٦]
لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦)
لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ أي تصرفهم فيها بالمتاجر والمكاسب، أي لا تنظر إلى ما هم عليه من سعة الرزق ودرك العاجل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٩٧]
مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٩٧)
مَتاعٌ قَلِيلٌ أي هو متاع قليل، لقصر مدته، وكونه بلغة فانية، ونعمة زائلة، فلا قدر له في جنب ما أعد الله للمؤمنين.
وفي صحيح مسلم «٢» عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم: والله! ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما
(١- ٢) أخرجه مسلم في صحيحه في: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، حديث ٥٥.
يجعل أحدكم إصبعه في اليمّ، فلينظر بم يرجع؟
ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ أي مصيرهم الذي إليه يأوون وَبِئْسَ الْمِهادُ أي الفراش هي.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٩٨]
لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (١٩٨)
لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بيان لكمال حسن حال المؤمنين، غبّ بيان وتكرير له، إثر تقرير، مع زيادة خلودهم في الجنات ليتم بذلك سرورهم، ويزداد تبجحهم، ويتكامل به سوء حال الكفرة. والنزل (بضمتين، وضم فسكون) المنزل، وما هيّئ للنزيل أن ينزل عليه وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ أي مما يتقلب فيه الفجار من المتاع القليل الزائل.
والتعبير عنهم ب (الأبرار) للإشعار بأن الصفات المعدودة من أعمال البرّ، كما أنها من قبيل التقوى.
روى الشيخان «١» - واللفظ للبخاريّ- عن عمر بن الخطاب قال: جئت رسول
(١)
أخرجه البخاريّ في: التفسير، ٦٦- سورة التحريم، باب: تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ، حديث ٧٦. وهاكموه بنصه: عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: مكثت سنة أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية فما أستطيع أن أسأله، هيبة له. حتى خرج حاجا فخرجت معه. فلما رجعت وكنا ببعض الطريق، عدل إلى الأراك لحاجة له. فوقفت له حتى فرغ. ثم سرت معه. فقلت: يا أمير المؤمنين! من اللتان تظاهرتا على النبيّ صلّى الله عليه وسلم من أزواجه؟ فقال: تلك حفصة وعائشة. قال فقلت:
والله! إن كنت لأريد أن أسالك عن هذا منذ سنة فما أستطيع هيبة لك. قال: فلا تفعل. ما ظننت أنّ عندي من علم فاسألني. فإن كان لي علم خبرتك به.
قال ثم قال عمر: إنا كنا في الجاهلية ما نعدّ للنساء أمرا حتى أنزل الله فيهن ما أنزل، وقسم لهن ما قسم. قال: فبينا أنا في أمر أتأمّره إذ قالت امرأتي: لو صنعت كذا وكذا. قال فقلت لها: ما لك ولما هاهنا، فيما تكلفك في أمر أريده؟ فقالت لي: عجبا لك يا ابن الخطاب! ما تريد أن تراجع أنت وإن ابنتك لتراجع رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى يظل يومه غضبان.
فقام عمر فأخذ رداءه مكانه حتى دخل على حفصة فقال لها: يا بنية! إنك لتراجعين رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى يظل يومه غضبان؟ فقالت حفصة: والله! إنا لنراجعه. فقلت: تعلمين أني أحذرك عقوبة الله وغضب رسوله صلّى الله عليه وسلم. يا بنية! لا تغرنك هذه التي أعجبها حسنها حبّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم إياها (يريد عائشة).
486
الله صلّى الله عليه وسلم، فإذا هو في مشربة، وإنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء، وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف، وعند رجليه قرظ مصبور، وعند رأسه أهب معلقة، فرأيت أثر الحصير في جنبه، فبكيت! فقال: ما يبكيك؟ قلت: يا رسول الله! إن كسرى وقيصر فيما هم فيه، وأنت رسول الله! فقال: أما ترضى أن تكون لهم الدنيا، ولنا الآخرة؟
وروى ابن أبي حاتم وعبد الرزاق عن عبد الله بن مسعود أنه قال: ما من نفس برة ولا فاجرة، إلا الموت خير لها. لئن كان برّا، لقد قال الله تعالى وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ وقرأ: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ، إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً، وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ [آل عمران: ١٧٨].
وروى ابن جرير عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه كان يقول: ما من مؤمن إلا والموت خير له، وما من كافر إلا والموت خير له، ومن يصدقني فإن الله يقول وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ ويقول وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ... الآية.
وأخرج نحوه رزين عن ابن عباس.
قال: ثم خرجت حتى دخلت على أم سلمة، لقرابتي منها. فكلمتها. فقالت أم سلمة: عجبا لك يا ابن الخطاب! دخلت في كل شيء حتى تبتغي أن تدخل بين رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأزواجه؟
فأخذتني، والله! أخذا كسرتني عن بعض ما كنت أجد. فخرجت من عندها.
وكان لي صاحب من الأنصار، إذا غبت أتاني بالخبر، وإذا غاب كنت أنا آتيه بالخبر. ونحن نتخوّف ملكا من ملوك غسّان ذكر لنا أنه يريد أن يسير إلينا. فقد امتلأت صدورنا منه. فإذا صاحبي الأنصاريّ يدق الباب. فقال: افتح، افتح. فقلت: جاء الغسّاني؟ فقال: بل أشد من ذلك.
اعتزل رسول الله صلّى الله عليه وسلم أزواجه. فقلت: رغم أنف حفصة وعائشة. فأخذت ثوبي، فأخرج حتى جئت فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلم في مشربة له يرقى عليها بعجلة. وغلام لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، أسود، على رأس الدرجة. فقلت له: قل هذا عمر بن الخطاب. فأذن لي.
قال عمر: فقصصت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم هذا الحديث. فلما بلغت حديث أم سلمة تبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وإنه لعلى حصير، ما بينه وبينه شيء. وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف. وإن عند رجليه قرظا مصبوبا. وعند رأسه أهب معلّقة. فرأيت أثر الحصير في جنبه فبكيت. فقال: ما يبكيك؟ فقلت: يا رسول الله! إن كسرى وقيصر فيما هما فيه، وأنت رسول الله؟ فقال «أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟» وأخرجه مسلم في: الطلاق، حديث ٣٠ و ٣١
.
487
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٩٩]
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩٩)
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ.
جملة مستأنفة سيقت لبيان أن أهل الكتاب ليس كلهم كمن حكيت هناتهم من نبذ الميثاق، وتحريف الكتاب وغير ذلك. بل منهم طائفة يؤمنون بالله حق الإيمان، ويؤمنون بما أنزل على النبيّ صلّى الله عليه وسلم مع ما هم مؤمنون به من الكتب المتقدمة، وأنهم خاشعون لله، أي مطيعون له، خاضعون متذللون بين يديه، لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا، أي لا يكتمون ما بأيديهم من البشارة بمحمد صلّى الله عليه وسلم. وهؤلاء هم خيرة أهل الكتاب وصفوتهم، سواء كانوا هودا أو نصارى، وقد قال تعالى في سورة القصص: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا [القصص: ٥٢- ٥٤] الآية، وقال تعالى وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الأعراف: ١٥٩]، وقال تعالى: لَيْسُوا سَواءً، مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ [آل عمران: ١١٣]. وهذه الصفات توجد في اليهود، ولكن قليلا، كما وجد في عبد الله بن سلام وأمثاله ممن آمن من أحبار اليهود، ولم يبلغوا عشرة أنفس. وأما النصارى فكثير منهم يهتدون وينقادون للحق، كما قال تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا، وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى، ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ، يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها، وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ [المائدة: ٨٢- ٨٥].
وهكذا قال هنا أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ.
488
وقد ثبت في الحديث «١» أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه لما قرأ سورة (كهيعص) بحضرة النجاشي ملك الحبشة، وعنده البطاركة والقساقسة، بكى وبكوا معه، حتى أخضبوا لحاهم.
وثبت في الصحيحين «٢» أن النجاشي لما مات نعاه النبيّ صلّى الله عليه وسلم إلى أصحابه، وقال: إن أخا لكم بالحبشة قد مات فصلوا عليه، فخرج إلى الصحراء فصفهم وصلى عليه.
وروى ابن أبي حاتم والحافظ أبو بكر بن مردويه عن أنس بن مالك قال: لما توفي النجاشي، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: استغفروا لأخيكم. فقال بعض الناس: يأمرنا أن نستغفر لعلج مات بأرض الحبشة؟! فنزلت:
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ الآية- ورواه عبد بن حميد أيضا مرسلا.
ورواه ابن جرير عن جابر، وفيه: فقال المنافقون:
يصلي على علج مات بأرض الحبشة؟! فنزلت.
وروى الحاكم في (مستدركه) عن عبد الله بن الزبير قال: نزل بالنجاشي عدوّ من أرضهم، فجاءه المهاجرون فقالوا: إنا نحب أن نخرج إليهم حتى نقاتل معك وترى جرأتنا ونجزيك بما صنعت بنا، فقال: لداء بنصر الله عز وجل، خير من دواء بنصرة الناس. قال وفيه نزلت: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ... الآية- ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: وإن من أهل الكتاب، يعني مسلمة أهل الكتاب.
وقال عباد بن منصور: سألت الحسن البصريّ عن قول الله: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ الآية- قال: هم أهل الكتاب الذين كانوا قبل محمد صلّى الله عليه وسلم، فاتبعوه وعرفوا الإسلام، فأعطاهم الله أجر اثنين: للذي كانوا عليه من الإيمان قبل محمد صلّى الله عليه وسلم، واتباعهم محمدا صلّى الله عليه وسلم- رواه ابن أبي حاتم-.
(١) أخرجه الإمام أحمد في مسنده رقم ١٧٤٠.
(٢) أخرجه البخاريّ في: الجنائز، ٤- باب الرجل ينعى إلى أهل الميت بنفسه، حديث ٦٦٨، عن أبي هريرة.
وأخرجه مسلم في: الجنائز، حديث ٦٢ و ٦٣، وحديث ٦٤ و ٦٥ و ٦٦، وحديث ٦٧ عن عمران بن حصين. [.....]
489
وقد ثبت في الصحيحين «١» عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ثلاثة يؤتون أجورهم مرتين، فذكر منهم رجلا من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي
- أفاده ابن كثير-.
ثم إن الإخبار، في آخر الآية، بكونه تعالى: سَرِيعُ الْحِسابِ. كناية عن كمال علمه بمقادير الأجور ومراتب الاستحقاق، وأنه يوفّيها كل عامل على ما ينبغي، وقدر ما ينبغي. ويجوز أن يكون كناية عن قرب إنجاز ما وعد من الأجر لكونه من لوازمها. ولكونه من لوازمها أشبه التأكيد، فلذا لم يعطف عليه- والله أعلم-.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ٢٠٠]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا أي على مشاق الطاعات وما يمسكم من المكاره والشدائد وَصابِرُوا أي غالبوا أعداء الله في الصبر على شدائد الجهاد. لا تكونوا أقل صبرا منهم وثباتا. ولمصابرة باب من الصبر. ذكر بعد الصبر على ما يجب الصبر عليه، تخصيصا، لشدته وصعوبته- كذا في الكشاف- وَرابِطُوا أي أقيموا على مرابطة الغزو في نحر العدوّ بالترصد والاستعداد لحربهم، وارتباط الخيل. قال الله تعالى: وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال: ٦٠]، والرباط في الأصل أن يربط كل من الفريقين خيولهم في ثغره، وكل معدّ لصاحبه، ثم صار لزوم الثغر رباطا. وربما سميت الخيل أنفسها رباطا، وقد يتجوّز بالرباط عن الملازمة والمواظبة على الأمر، فتسمى رباطا ومرابطة.
قال الفارسيّ: هو ثان من لزوم الثغر، ولزوم الثغر ثان من رباط الخيل. وقد
(١)
أخرجه البخاريّ في: العلم، ٣١- باب تعليم الرجل أمته وأهله، حديث ٨٢ ونصه: عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثلاثة لهم أجران: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد صلّى الله عليه وسلم. والعبد المملوك إذا أدى حق الله وحق مواليه. ورجل كانت عنده أمة فأدبها فأحسن تأديبها، وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها فتزوجها، فله أجران».
وأخرجه مسلم في: الإيمان، حديث ٢٤١.
490
وردت الأخبار بالترغيب في الرباط، وكثرة أجره. فمنها ما
رواه البخاريّ «١» في صحيحه عن سهل بن سعد الساعديّ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: رباط يوم في سبيل الله، خير من الدنيا وما عليها.
وروى مسلم «٢» عن سلمان الفارسيّ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: رباط يوم وليلة، خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتّان.
وروى الإمام أحمد «٣» عن فضالة بن عبيد قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: كل ميت يختم على عمله إلا الذي مات مرابطا في سبيل الله، فإنه ينمو عمله إلى يوم القيامة، ويأمن فتنة القبر. وهكذا رواه أبو داود والترمذيّ وقال: حسن صحيح.
وأخرجه ابن حبان في صحيحه أيضا
. وبقيت أحاديث أخر ساقها الحافظ ابن كثير في تفسيره.
هذا ومن الوجوه في قوله تعالى رابِطُوا أن يكون معناه انتظار الصلاة بعد الصلاة.
فقد روى مسلم «٤» والنسائيّ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: ألا أخبركم بما يمحوا الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة. فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط.
فشبه صلّى الله عليه وسلم ما ذكر من الأفعال الصالحة بالرباط.
وروى الحاكم في (مستدركه) والحافظ ابن مردويه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: أقبل عليّ أبو هريرة يوما فقال: أتدري، يا ابن أخي! فيم نزلت هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا؟ قلت: لا! قال: أما إنه لم يكن في زمان النبيّ صلّى الله عليه وسلم غزو يرابطون فيه، ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجد ويصلون الصلاة في مواقيتها، ثم يذكرون الله فيها. فعليهم أنزلت اصْبِرُوا أي على الصلوات الخمس، وَصابِرُوا أنفسكم وهواكم ورابطوا في مساجدكم.
(١) أخرجه البخاريّ في: الجهاد، ٧٣- باب فضل رباط يوم في سبيل الله.
(٢) أخرجه مسلم في: الإمارة، حديث ١٦٣.
(٣) أخرجه في المسند ٦/ ٢٠.
ورواه أبو داود في: الجهاد، ١٥- باب في فضل الرباط، حديث ٢٥٠٠.
والترمذيّ في: فضائل الجهاد، ٢- باب ما جاء في فضل من مات مرابطا.
(٤) أخرجه مسلم في: الطهارة، حديث ٤١.
491
وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما عليكم لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي تفوزون بما يغتبط به. و (لعل) لتغييب المآل. لئلا يتكلوا على الآمال.
خاتمة
فيما ورد في الآيات الأواخر من هذه السورة، وفي فضل هذه السورة بتمامها
قال الحافظ ابن كثير: قد ثبت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يقرأ هذه الآيات العشر من آخر آل عمران إذا قام من الليل لتهجده.
روى البخاريّ «١» عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بت عند خالتي ميمونة فتحدث رسول الله صلّى الله عليه وسلم مع أهله ساعة، ثم رقد، فلما كان ثلث الليل الآخر، قعد فنظر إلى السماء، فقال إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ ثم قال فتوضأ، واستن، ثم صلى إحدى عشرة ركعة، ثم أذن بلال، فصلى ركعتين، ثم خرج فصلى بالناس الصبح- وهكذا رواه مسلم
ورواه البخاريّ «٢» من طريق أخرى بلفظ: حتى إذا انتصف الليل، أو قبله بقليل، أو بعده بقليل، استيقظ رسول الله صلّى الله عليه وسلم من منامه، فجعل يمسح النوم عن وجهه بيده، ثم قرأ العشر الآيات الخواتيم من سورة آل عمران... الحديث
- وهكذا أخرجه الجماعة من طرق.
وروى ابن مردويه بسنده عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: أمرني العباس أن أبيت بآل رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وأحفظ صلاته. قال: فصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالناس صلاة العشاء الأخيرة، حتى إذا لم يبق في المسجد أحد غيري، قام فمرّ بي فقال: من هذا؟ عبد الله؟ قلت: نعم! قال: فمه؟ قلت: أمرني العباس أن أبيت بكم الليلة، قال: فالحق، الحق. فلما دخل قال: افرش. عبد الله! فأتى بوسادة من مسوح، قال: فنام رسول الله صلّى الله عليه وسلم عليها حتى سمعت غطيطه، ثم استوى على فراشه قاعدا، قال: فرفع رأسه إلى السماء فقال: سبحان الملك القدوس (ثلاث مرات) ثم تلا هذه الآيات من آخر سورة آل عمران حتى ختمها.
(١) أخرجه البخاريّ في: التفسير، ٣- سورة آل عمران، ١٧- باب إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.
(٢) في: التفسير، ٣- سورة آل عمران، ٢٠- باب: رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ.
492
وقد روى مسلم وأبو داود والنسائيّ من حديث عليّ بن عبد الله بن عباس عن أبيه حديثا في ذلك أيضا.
وروى ابن مردويه عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم خرج ذات ليلة بعد ما مضى ليل، فنظر إلى السماء وتلا هذه الآية إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إلى آخر السورة، ثم قال: اللهم اجعل في قلبي نورا، وفي سمعي نورا، وفي بصري نورا، وعن يميني نورا، وعن شمالي نورا، ومن بين يديّ نورا، ومن خلفي نورا، ومن فوقي نورا، ومن تحتي نورا، وأعظم لي نورا يوم القيامة «١».
وهذا الدعاء ثابت في بعض طرق الصحيح من رواية كريب عن ابن عباس رضي الله عنه.
وروى ابن مردويه وعبد بن حميد حديثا عن عائشة، وفيه أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: وما يمنعني أن أبكي وقد أنزل الله عليّ في هذه الليلة: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إلى قوله فَقِنا عَذابَ النَّارِ ثم قال: ويل لمن قرأ هذه الآيات ثم لم يتفكر فيها.
ومما ورد في فضل هذه السورة ما أخرجه مسلم «٢» والترمذيّ من حديث النواس بن سمعان: يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به، تقدمه سورة البقرة وآل عمران. وضرب لهما رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال، ما نسيتهن بعد، قال: كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان، بينهما شرق (أي ضياء ونور)، أو كأنهما حزقان من طير صوافّ تحاجّان عن صاحبهما.
والله سبحانه الموفق.
ثمّ تفسير هذه السورة صباح الجمعة في ١١ ذي القعدة الحرام سنة (١٣١٨) وذلك في حرم جامع السنانية في الشباك القبليّ من السدة اليمنى العليا بيد جامعه الفقير محمد جمال الدين القاسميّ الدمشقيّ غفر له ولوالديه وللمؤمنين آمين (ويليه الجزء الثالث وفيه تفسير سورة النساء)
(١) أخرجه مسلم في: صلاة المسافرين وقصرها، حديث ١٨١ و ١٨٧ و ١٨٩ و ١٩١.
(٢) أخرجه مسلم في: صلاة المسافرين وقصرها، حديث ٢٥٣.
493
فهرس الجزء الثاني
من كتاب تفسير القاسمي المسمى محاسن التأويل
495
فهرس الجزء الثاني سورة البقرة الآية ١٧٨ ٣ الآية ١٧٩ ٨ الآية ١٨٠ ١١ الآية ١٨١ ١٣ الآية ١٨٢ ١٤ الآية ١٨٣ ١٦ الآية ١٨٤ ١٩ الآية ١٨٥ ٢٤ الآية ١٨٦ ٢٨ الآية ١٨٧ ٤١ الآية ١٨٨ ٥١ الآية ١٨٩ ٥٣ الآيتان ١٩٠ و ١٩١ ٥٧ الآية ١٩٢ ٥٨ الآية ١٩٣ ٥٩ الآية ١٩٤ ٦٠ الآية ١٩٥ ٦١ الآية ١٩٦ ٦٣ الآية ١٩٧ ٧٠ الآية ١٩٨ ٧٣ الآية ١٩٩ ٧٥ الآية ٢٠٠ ٧٧ الآية ٢٠١ ٧٨ الآية ٢٠٢ ٧٩ الآية ٢٠٣ ٨٠ الآيتان ٢٠٤ و ٢٠٥ ٨٢ الآية ٢٠٦ ٨٣ الآية ٢٠٧ ٨٤ الآية ٢٠٨ ٨٥ الآية ٢٠٩ ٨٦ الآية ٢١٠ ٨٧ الآيتان ٢١١ و ٢١٢ ٩٢ الآية ٢١٣ ٩٥ الآية ٢١٤ ٩٦
497
الآية ٢١٥ ٩٧ الآية ٢١٦ ٩٩ الآية ٢١٧ ١٠٢ الآيتان ٢١٨ و ٢١٩ ١٠٩ الآية ٢٢٠ ١١٤ الآية ٢٢١ ١١٥ الآية ٢٢٢ ١١٧ الآية ٢٢٣ ١٢٠ الآية ٢٢٤ ١٢٨ الآية ٢٢٥ ١٣٠ الآيتان ٢٢٦ و ٢٢٧ ١٣١ الآية ٢٢٨ ١٣٣ الآية ٢٢٩ ١٣٦ الآية ٢٣٠ ١٣٨ الآية ٢٣١ ١٥٢ الآية ٢٣٢ ١٥٣ الآية ٢٣٣ ١٥٤ الآية ٢٣٤ ١٥٥ الآية ٢٣٥ ١٥٨ الآية ٢٣٦ ١٦٠ الآية ٢٣٧ ١٦١ الآية ٢٣٨ ١٦٣ الآية ٢٣٩ ١٦٧ الآية ٢٤٠ ١٧٠ الآيتان ٢٤١ و ٢٤٢ ١٧٢ الآية ٢٤٣ ١٧٣ الآية ٢٤٤ ١٧٥ الآية ٢٤٥ ١٧٦ الآية ٢٤٦ ١٧٧ الآية ٢٤٧ ١٧٩ الآية ٢٤٨ ١٨٠ الآية ٢٤٩ ١٨٢ الآيتان ٢٥٠ و ٢٥١ ١٨٣ الآية ٢٥٢ ١٨٤ الآية ٢٥٣ ١٨٧ الآيتان ٢٥٤ و ٢٥٥ ١٨٩ الآية ٢٥٦ ١٩٣ الآيتان ٢٥٧ و ٢٥٨ ١٩٥ الآية ٢٥٩ ١٩٦ الآية ٢٦٠ ١٩٨ الآية ٢٦١ ٢٠١ الآية ٢٦٢ ٢٠٢ الآية ٢٦٣ و ٢٦٤ ٢٠٤ الآية ٢٦٥ ٢٠٥
498
الآية ٢٦٦ ٢٠٦ الآية ٢٦٧ ٢٠٧ الآيتان ٢٦٨ و ٢٦٩ ٢٠٨ الآيتان ٢٧٠ و ٢٧١ ٢٠٩ الآية ٢٧٢ ٢١١ الآية ٢٧٣ ٢١٢ الآية ٢٧٤ ٢١٥ الآية ٢٧٥ ٢١٩ الآية ٢٧٦ ٢٢٧ الآية ٢٧٧ ٢٢٩ الآيات ٢٧٨- ٢٨٠ ٢٣٠ الآية ٢٨١ ٢٣١ الآية ٢٨٢ ٢٣٣ الآية ٢٨٣ ٢٣٦ الآية ٢٨٤ ٢٣٧ الآية ٢٨٥ ٢٤٠ الآية ٢٨٦ ٢٤١ سورة آل عمران الآيات ١- ٣ ٢٥٤ الآيتان ٤ و ٥ ٢٥٥ الآيتان ٦ و ٧ ٢٥٦ الآيتان ٨ و ٩ ٢٨٦ الآيتان ١٠ و ١١ ٢٨٨ الآية ١٢ ٢٨٩ الآيتان ١٣ و ١٤ ٢٩٠ الآية ١٥ ٢٩٢ الآيتان ١٦ و ١٧ ٢٩٣ الآية ١٨ ٢٩٥ الآية ١٩ ٢٩٦ الآية ٢٠ ٢٩٧ الآية ٢١ ٢٩٩ الآيتان ٢٢ و ٢٣ ٣٠٠ الآية ٢٤ ٣٠١ الآيات ٢٥- ٢٧ ٣٠٢ الآية ٢٨ ٣٠٣ الآية ٢٩ ٣٠٦ الآيتان ٣٠ و ٣١ ٣٠٧ الآيات ٣٢- ٣٤ ٣٠٨ الآية ٣٥ ٣٠٩ الآية ٣٦ ٣١٠ الآية ٣٧ ٣١٢ الآية ٣٨ ٣١٣ الآية ٣٩ ٣١٤ الآيتان ٤٠ و ٤١ ٣١٥
499
الآيتان ٤٢ و ٤٣ ٣١٦ الآية ٤٤ ٣١٧ الآية ٤٥ ٣١٨ الآيتان ٤٦ و ٤٧ ٣١٩ الآيتان ٤٨ و ٤٩ ٣٢٠ الآية ٥٠ ٣٢١ الآيات ٥١- ٥٣ ٣٢٢ الآية ٥٤ ٣٢٣ الآية ٥٥ ٣٢٤ الآيات ٥٦- ٥٨ ٣٢٥ الآية ٥٩ ٣٢٦ الآيتان ٦٠ و ٦١ ٣٢٧ الآيات ٦٢- ٦٤ ٣٣١ الآية ٦٥ ٣٣٢ الآيات ٦٦- ٦٨ ٣٣٣ الآيات ٦٩- ٧٢ ٣٣٤ الآية ٧٣ ٣٣٥ الآيات ٧٤- ٧٦ ٣٣٦ الآية ٧٧ ٣٣٧ الآية ٧٨ ٣٣٩ الآيتان ٧٩ و ٨٠ ٣٤٠ الآيتان ٨١ و ٨٢ ٣٤٢ الآيتان ٨٣ و ٨٤ ٣٤٤ الآية ٨٥ ٣٤٥ الآيات ٨٦- ٨٨ ٣٤٦ الآية ٨٩ ٣٤٧ الآية ٩٠ ٣٤٨ الآية ٩١ ٣٤٩ الآية ٩٢ ٣٥٢ الآية ٩٣ ٣٥٣ الآيات ٩٤- ٩٦ ٣٥٥ الآية ٩٧ ٣٥٦ الآيتان ٩٨ و ٩٩ ٣٦٧ الآيتان ١٠٠ و ١٠١ ٣٦٨ الآية ١٠٢ ٣٦٩ الآية ١٠٣ ٣٧٠ الآية ١٠٤ ٣٧٣ الآية ١٠٥ ٣٧٥ الآية ١٠٦ ٣٨٢ الآيات ١٠٧- ١٠٩ ٣٨٤ الآية ١١٠ ٣٨٥ الآية ١١١ ٣٨٦ الآية ١١٢ ٣٨٧ الآية ١١٣ ٣٨٨
500
الآيتان ١١٤ و ١١٥ ٣٩٠ الآيتان ١١٦ و ١١٧ ٣٩١ الآية ١١٨ ٣٩٢ الآية ١١٩ ٣٩٤ الآية ١٢٠ ٣٩٥ الآية ١٢١ ٣٩٧ الآية ١٢٢ ٤٠١ الآية ١٢٣ ٤٠٢ الآية ١٢٤ ٤٠٤ الآية ١٢٥ ٤٠٥ الآيات ١٢٦- ١٢٨ ٤٠٨ الآيتان ١٢٩ و ١٣٠ ٤١٠ الآيتان ١٣١ و ١٣٢ ٤١١ الآيتان ١٣٣ و ١٣٤ ٤١٢ الآية ١٣٥ ٤١٤ الآية ١٣٦ ٤١٥ الآيات ١٣٧- ١٣٩ ٤١٦ الآية ١٤٠ ٤١٧ الآية ١٤١ ٤١٩ الآيتان ١٤٢ و ١٤٣ ٤٢٠ الآية ١٤٤ ٤٢١ الآية ١٤٥ ٤٢٣ الآية ١٤٦ ٤٢٤ الآيتان ١٤٧ و ١٤٨ ٤٢٥ الآيتان ١٤٩ و ١٥٠ ٤٢٦ الآية ١٥١ ٤٢٧ الآية ١٥٢ ٤٢٨ الآية ١٥٣ ٤٣١ الآية ١٥٤ ٤٣٣ الآيتان ١٥٥ و ١٥٦ ٤٤١ الآيتان ١٥٧ و ١٥٨ ٤٤٥ الآية ١٥٩ ٤٤٦ الآيتان ١٦٠ و ١٦١ ٤٤٩ الآيات ١٦٢- ١٦٤ ٤٥٢ الآية ١٦٥ ٤٥٣ الآيتان ١٦٦ و ١٦٧ ٤٥٤ الآيتان ١٦٨ و ١٦٩ ٤٥٥ الآية ١٧٠ ٤٥٧ الآية ١٧١ ٤٥٨ الآيتان ١٧٢ و ١٧٣ ٤٦٠ الآية ١٧٤ ٤٦١ الآيتان ١٧٥ و ١٧٦ ٤٦٢ الآية ١٧٧ ٤٦٣ الآية ١٧٨ ٤٦٤
501
الآية ١٧٩ ٤٦٥ الآية ١٨٠ ٤٦٧ الآية ١٨١ ٤٦٨ الآية ١٨٢ ٤٦٩ الآيتان ١٨٣ و ١٨٤ ٤٧١ الآية ١٨٥ ٤٧٣ الآية ١٨٦ ٤٧٥ الآية ١٨٧ ٤٧٦ الآية ١٨٨ ٤٧٧ الآيتان ١٨٩ و ١٩٠ ٤٧٩ الآية ١٩١ ٤٨٠ الآية ١٩٢ ٤٨٢ الآية ١٩٣ ٤٨٣ الآيتان ١٩٤ و ١٩٥ ٤٨٤ الآيتان ١٩٦ و ١٩٧ ٤٨٥ الآية ١٩٨ ٤٨٦ الآية ١٩٩ ٤٨٧ الآية ٢٠٠ ٤٩٠ خاتمة ٤٩٢
502

[المجلد الثالث]

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة النساء
روى العوفي عن ابن عباس: نزلت سورة النساء بالمدينة. وكذا روى ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير وزيد بن ثابت. وقد زعم النحاس أنها مكية. مستندا إلى أن قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ [النساء: ٥٨] الآية، نزلت بمكة اتفاقا في شأن مفتاح الكعبة. وذلك مستند واه. لأنه لا يلزم من نزول آية أو آيات من سور طويلة، نزل معظمها بالمدينة، أن تكون مكية. خصوصا أن الأرجح أن ما نزل بعد الهجرة مدنيّ. ومن راجع أسباب نزول آياتها عرف الرد عليه. ومما يرد عليه أيضا ما أخرجه البخاريّ عن عائشة قالت: ما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده.
ودخولها عليه كان بعد الهجرة اتفاقا. وقيل: نزلت عند الهجرة. وآياتها مائة وسبعون وخمس وقيل ست وقيل سبع. كذا في الإتقان. وروى الحاكم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: إن في سورة النساء لخمس آيات ما يسرني أنّ لي بها الدنيا وما فيها: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ [النساء: ٤٠] الآية، وإِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ [النساء: ٣١] الآية، وإِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: ٤٨]، وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ [النساء: ٦٤].
الآية. وروى عبد الرزاق عنه أيضا قال: خمس آيات من النساء لهن أحبّ إليّ من الدنيا جميعا: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ. وقوله:
وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها. وقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: ٦٤]. وقوله: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً
[النساء: ١١٠]. وروى ابن جرير عن ابن عباس قال: ثماني آيات نزلت في سورة النساء، خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس
3
وغربت. أوّلهن: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [النساء: ٢٦]، والثانية: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً [النساء: ٢٧]، والثالثة:
يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ، وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً [النساء: ٢٨] ثم ذكر قول ابن مسعود سواء. يعني في الخمسة الباقية.
لطيفة: إنما سميت سورة النساء، لأن ما نزل منها في أحكامهن أكثر مما نزل في غيرها.
4
Icon