أَي: خَالق السَّمَوَات وَالْأَرْض.
أَي: النِّسَاء، وَقيل: " من أَنفسكُم أَزْوَاجًا " أَي: أصنافا، ذُكُورا، وإناثا.
أى: أصنافاً ذُكُورا وإناثاً.
قَالَ الْفراء: أَي: يكثركم بِهِ، وَقَالَ مُجَاهِد: نَسْلًا من بعد نسل من النَّاس والبهائم إِلَى قيام السَّاعَة. وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَن معنى قَوْله:
أَي: يخلقكم فِي هَذَا الْوَجْه الَّذِي ذكره.
قَالَ ثَعْلَب: لَيْسَ كَهُوَ شَيْء، وَزعم كثير من النَّحْوِيين أَن الْكَاف هَاهُنَا زَائِدَة، وَمَعْنَاهُ: لَيْسَ مثله شَيْء، وَزعم بَعضهم: أَن لُغَة تهَامَة أَنهم يَقُولُونَ: أَنا كمثلك أَو أَنْت كمثلي أَي: أَنْت مثلي وَأَنا مثلك. وَقَالَ أهل الْمعَانِي: وَلَا يَسْتَقِيم قَول من يَقُول: لَيْسَ كمثله شَيْء أى: لَيْسَ كمثله مثل؛ لِأَن فِي هَذَا (إِثْبَات) الْمثل، وَالله تَعَالَى لَا يُوصف بِالْمثلِ، جلّ وَتَعَالَى عَن ذَلِك.
(سعد بن زيد إِذا أَبْصرت فَضلهمْ مَا إِن كمثلهم فِي النَّاس من أحد)
قَوْله تَعَالَى:
﴿لَهُ مقاليد السَّمَوَات وَالْأَرْض﴾ فِي المقاليد قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنَّهَا فارسية، وَهِي الأكاليد وَاحِدهَا إكليد. وَالْقَوْل الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَح أَنَّهَا عَرَبِيَّة، قَالَ الشَّاعِر فِي المقاليد:
66
﴿السَّمَوَات وَالْأَرْض يبسط الرزق لمن يَشَاء وَيقدر إِنَّه بِكُل شَيْء عليم (١٢) شرع لكم من الدّين مَا وصّى بِهِ نوحًا وَالَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك وَمَا وصينا بِهِ إِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى﴾ (فَتى لَو تنادى الشَّمْس أَلْقَت قناعها أَو الْقَمَر الساري لألقي المقالد)
وَاخْتلف القَوْل فِي معنى المقاليد، قَالَ بَعضهم: مقاليد السَّمَوَات هِيَ الأمطار، ومقاليد الأَرْض هِيَ أَنْوَاع النَّبَات. وَقيل: مقاليد السَّمَوَات وَالْأَرْض هِيَ الْعُيُون فِيهَا. وَقيل: مَا يحدثه بمشيئته. وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن ابْن عمر أَن النَّبِي قَالَ فِي مقاليد السَّمَوَات وَالْأَرْض: " لَا إِلَه إِلَّا الله، وَالله أكبر، وَسُبْحَان الله وَبِحَمْدِهِ، واستغفر الله، وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه، هُوَ الأول وَالْآخر، وَالظَّاهِر وَالْبَاطِن، بِيَدِهِ الْخَيْر يحيي وَيُمِيت، وَهُوَ على كل شَيْء قدير، فَمن قَالَهَا عصم من إِبْلِيس وَجُنُوده ".
وَقَوله:
﴿يبسط الرزق لمن يَشَاء وَيقدر﴾ أَي: يُوسع الرزق على من يَشَاء، ويضيق على من يَشَاء.
وَقَوله:
﴿إِنَّه بِكُل شَيْء عليم﴾ أَي: عَالم.
67
قَوْله تَعَالَى:
﴿شرع لكم من الدّين﴾ أَي: بَين لكم من الدّين، وَالشَّرْع هُوَ الْبَيَان، وَيُقَال: أظهر لكم وأمركم.
وَقَوله:
﴿مَا وصّى بِهِ نوحًا﴾ أَي: أَمر بِهِ نوحًا، وَيُقَال: إِن نوحًا عَلَيْهِ السَّلَام أول من جَاءَ بِتَحْرِيم الْأُمَّهَات وَالْأَخَوَات وَالْبَنَات.
وَقَوله:
﴿وَالَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك﴾ أَي: وَشرع الَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك.
وَقَوله:
﴿وَمَا وصينا بِهِ إِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى﴾ أَي: وَمَا أمرنَا بِهِ إِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى.
وَقَوله:
﴿أَن أقِيمُوا الدّين﴾ أَي: اثبتوا على التَّوْحِيد، وَقيل: أقِيمُوا الدّين أَي: اسْتَقِيمُوا على الدّين. وَيُقَال: أقِيمُوا الدّين هُوَ فعل الطَّاعَات وامتثال الْأَوَامِر.
67
﴿أَن أقِيمُوا الدّين وَلَا تتفرقوا فِيهِ كبر على الْمُشْركين مَا تدعوهم إِلَيْهِ الله يجتبي إِلَيْهِ من يَشَاء وَيهْدِي إِلَيْهِ من ينيب (١٣) وَمَا تفَرقُوا إِلَّا من بعد مَا جَاءَهُم الْعلم بغيا بَينهم وَلَوْلَا كلمة سبقت من رَبك إِلَى أجل مُسَمّى لقضي بَينهم وَإِن الَّذين أورثوا الْكتاب من بعدهمْ لفي شكّ مِنْهُ مريب (١٤) فَلذَلِك فَادع﴾
وَقَوله:
﴿وَلَا تتفرقوا فِيهِ﴾ أَي: كَمَا تَفَرَّقت الْيَهُود وَالنَّصَارَى أَي: آمنُوا بِالْبَعْضِ وَكَفرُوا بِالْبَعْضِ.
وَقَوله:
﴿كبر على الْمُشْركين مَا تدعوهم إِلَيْهِ﴾ أَي: عظم عِنْد الْمُشْركين مَا تدعوهم إِلَيْهِ من التَّوْحِيد، وَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى:
﴿أجعَل الْآلهَة إِلَهًا وَاحِدًا إِن هَذَا لشَيْء عُجاب﴾ .
وَقَوله:
﴿الله يجتبي إِلَيْهِ من يَشَاء﴾ أَي: يستخلص لدينِهِ من يَشَاء.
وَقَوله:
﴿وَيهْدِي إِلَيْهِ من ينيب﴾ أَي: يرشد إِلَى الرُّجُوع إِلَيْهِ من اخْتَار الرشد والإنابة.
68
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا تفَرقُوا إِلَّا من بعد مَا جَاءَهُم الْعلم بغيا بَينهم﴾ يَعْنِي: الْيَهُود وَالنَّصَارَى، وَقَوله: ﴿بغيا بَينهم﴾ أَي: حسدا بَينهم.
وَقَوله: ﴿وَلَوْلَا كلمة سبقت من رَبك﴾ قَالَ أهل التَّفْسِير: الْكَلِمَة الَّتِي سبقت من الله قَوْله تَعَالَى: ﴿بل السَّاعَة موعدهم﴾ .
وَقَوله: ﴿إِلَى أجل مُسَمّى لقضى بَينهم﴾ أَي: لفصل بَينهم الْأَمر فِي الْحَال ﴿وَإِن الَّذين أورثوا الْكتاب من بعدهمْ﴾ أَي: من الَّذين تقدمُوا، وَقَوله: ﴿أورثوا﴾ أَي: أعْطوا.
وَقَوله: ﴿لفي شكّ مِنْهُ مريب﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى:
﴿فَلذَلِك فَادع﴾ أَي: فَإلَى هَذَا فَادع، وَهُوَ التَّوْحِيد، وَذكر النّحاس: أَن فِي الْآيَة تَقْدِيمًا وتأخيرا، وَمَعْنَاهُ: كبر على الْمُشْركين مَا تدعوهم إِلَيْهِ فَلذَلِك فَادع [أَي] : إِلَى ذَلِك فَادع، وَقد تذكر اللَّام بِمَعْنى إِلَى، قَالَ الشَّاعِر:
68
﴿واستقم كَمَا أمرت وَلَا تتبع أهواءهم وَقل آمَنت بِمَا أنزل الله من كتاب وَأمرت لأعدل بَيْنكُم الله رَبنَا وربكم لنا أَعمالنَا وَلكم أَعمالكُم لَا حجَّة بَيْننَا وَبَيْنكُم الله يجمع بَيْننَا وَإِلَيْهِ الْمصير (١٥) وَالَّذين يحاجون فِي الله﴾
أوحى لَهَا الْقَرار فاستقرت
أَي أوحى إِلَيْهَا.
وَقَوله:
﴿واستقم كَمَا أمرت﴾ قد بَينا.
وَقَوله:
﴿وَلَا تتبع أهواءهم﴾ أَي: أهواء الْكفَّار.
وَقَوله:
﴿وَقل آمَنت بِمَا أنزل الله من كتاب﴾ أَي: التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالْقُرْآن وَسَائِر الْكتب.
وَقَوله:
﴿وَأمرت لأعدل بَيْنكُم﴾ أَي: لأقضي بَيْنكُم بِالْعَدْلِ.
وَقَوله:
﴿الله رَبنَا وربكم﴾ أَي: خالقنا وخالقكم.
وَقَوله:
﴿لنا أَعمالنَا وَلكم أَعمالكُم﴾ أَي: لنا جَزَاء أَعمالنَا، وَلكم جَزَاء أَعمالكُم.
وَقَوله:
﴿لَا حجَّة بَيْننَا وَبَيْنكُم﴾ أَي: لَا مُحَاجَّة بَيْننَا وَبَيْنكُم، وَقد كَانَ من حجتهم أَنهم قَالُوا: نَبينَا قبل نَبِيكُم، وَكِتَابنَا قبل كتابكُمْ، وَمعنى قَوْله:
﴿لَا حجَّة بَيْننَا وَبَيْنكُم﴾ أَي: لَا (حجَّة) لكم؛ لِأَن الله تَعَالَى قد أدحض حجتكم، وَإِذا أدحض حجتهم لَا تبقى بَينهم وَبَين الْمُؤمنِينَ مُحَاجَّة.
وَقَوله:
﴿الله يجمع بَيْننَا﴾ يَعْنِي: يَوْم الْقِيَامَة.
وَقَوله:
﴿وَإِلَيْهِ الْمصير﴾ أَي: وَإِلَيْهِ الْمرجع.
69
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَالَّذين يحاجون فِي الله﴾ أَي: يُخَاصِمُونَ فِي الله، وَقد بَيْننَا حجتهم الَّتِي تعلقوا بهَا، والمخاصمة فِي الله أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ: نَحن أولى بِاللَّه مِنْكُم، وَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى:
﴿هَذَانِ خصمان اخْتَصَمُوا فِي رَبهم﴾ .
69
﴿من بعد مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حجتهم داحضة عِنْد رَبهم وَعَلَيْهِم غضب وَلَهُم عَذَاب شَدِيد (١٦) الله الَّذِي أنزل الْكتاب بِالْحَقِّ وَالْمِيزَان وَمَا يدْريك لَعَلَّ السَّاعَة قريب (١٧)
وَقَوله: {من بعد مَا اسْتُجِيبَ لَهُ﴾ أَي: من بعد مَا اسْتَجَابَ الْمُؤْمِنُونَ للرسول.
وَقَوله:
﴿حجتهم داحضة﴾ أَي: بَاطِلَة.
وَقَوله:
﴿عِنْد رَبهم وَعَلَيْهِم غضب وَلَهُم عَذَاب شَدِيد﴾ قد بَينا من قبل. فَإِن قيل: قد قَالَ: من بعد مَا اسْتُجِيبَ لَهُ، فَأَي معنى لاستجابة النَّاس لَهُ فِي هَذَا الْمحل، وحجتهم داحضة سَوَاء اسْتَجَابَ لَهُ النَّاس أَو لم يَسْتَجِيبُوا لَهُ؟ وَالْجَوَاب: أَن الْكفَّار ظنُّوا أَن أَمر مُحَمَّد سيزول عَن قريب، وَيعود الْأَمر إِلَى مَا هم عَلَيْهِ، وَأَن النَّاس لَا يستجيبون لَهُ وَلَا يدْخلُونَ فِي دينه، فَذكر من بعد مَا اسْتُجِيبَ لَهُ أَي: قد استجابه النَّاس، وَبَطل ظنكم أَن أمره يَزُول عَن قريب، وَهَذَا أحسن فَائِدَة. وَفِيه قَول آخر: أَن قَوْله:
﴿من بعد مَا اسْتُجِيبَ لَهُ﴾ أَي: من بعد مَا اسْتَجَابَ الله بِمَا طلب من إِظْهَار المعجزات علبه. وَعَن بَعضهم: أَن المحاجة بِالْبَاطِلِ هِيَ نصْرَة الِاعْتِقَاد الْفَاسِد، ثمَّ نصْرَة الِاعْتِقَاد الْفَاسِد تكون على وَجْهَيْن: بإيراد شُبْهَة، وبمدافعة حجَّة من غير حجَّة.
70
قَوْله تَعَالَى:
﴿الله الَّذِي أنزل الْكتاب بِالْحَقِّ﴾ أَي: أنزل الْقُرْآن بِالْأَمر وَالنَّهْي وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب.
وَقَوله:
﴿وَالْمِيزَان﴾ أَي: الْعدْل، وَسمي الْعدْل ميزانا؛ لِأَن الْمِيزَان يكون (مناصف) النَّاس فِيمَا بَينهم، وَقيل: هُوَ الْمِيزَان نَفسه، وَمعنى الْإِنْزَال: أَن الله تَعَالَى أنزل الْحَدِيد من السَّمَاء، وَمن الْحَدِيد لِسَان الْمِيزَان وصنجاته.
وَقَوله:
﴿وَمَا يدْريك لَعَلَّ السَّاعَة قريب﴾ فَإِن قيل: يتم لم يقل قريبَة، والساعة مُؤَنّثَة؟ وَالْجَوَاب: أَن تَأْنِيث السَّاعَة لَيْسَ بحقيقي؛ لِأَنَّهَا بِمَعْنى الزَّمَان وَالْوَقْت، وَيجوز أَن تكون السَّاعَة بِمَعْنى الْبَعْث والنشور، فَتكون الْكِتَابَة رَاجِعَة إِلَى الْمَعْنى.
70
﴿يستعجل بهَا الَّذين لَا يُؤمنُونَ بهَا وَالَّذين آمنُوا مشفقين مِنْهَا ويعلمون أَنَّهَا الْحق أَلا إِن الَّذين يمارون فِي السَّاعَة لفي ضلال بعيد (١٨) الله لطيف بعباده يرْزق من يَشَاء وَهُوَ الْقوي الْعَزِيز (١٩) من كَانَ يُرِيد حرث الْآخِرَة﴾
71
وَقَوله: ﴿يستعجل بهَا الَّذين لَا يُؤمنُونَ بهَا﴾ فِي التَّفْسِير: أَن الْكفَّار كَانُوا يأْتونَ النَّبِي ويسألونه عَن السَّاعَة مَتى تكون؟ وَيَقُولُونَ: هلا سَأَلت رَبك أَن يقيمها الْآن؟ وَكَانَ بَعضهم يَقُول: اللَّهُمَّ من كَانَ منا على الْبَاطِل فأقم عَلَيْهِ الْقِيَامَة السَّاعَة؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
وَقَوله: ﴿يستعجل بهَا الَّذين لَا يُؤمنُونَ بهَا﴾ وَكَانَ استعجالهم بهَا على طَرِيق الاستبعاد لقيامها تَكْذِيبًا بهَا.
قَوْله: ﴿وَالَّذين آمنُوا مشفقون مِنْهَا﴾ أَي: خائفون وجلون مِنْهَا، وخوفهم من المحاسبة الموعودة وَالْجَزَاء الْوَاقِع على الْأَعْمَال.
وَقَوله: ﴿ويعلمون أَنَّهَا الْحق﴾ أَي: أَنَّهَا قَائِمَة لَا محَالة.
وَقَوله: ﴿أَلا إِن الَّذين يمارون فِي السَّاعَة﴾ أَي: يَشكونَ فِيهَا، وَقيل: يَخْتَلِفُونَ فِيهَا اخْتِلَاف الشاكين.
وَقَوله: ﴿لفي ضلال بعيد﴾ أَي: فِي خطأ طَوِيل.
قَوْله تَعَالَى: ﴿الله لطيف بعباده﴾ أَي: بار حفي رَحِيم بهم، وَيُقَال: معنى اللَّطِيف هَاهُنَا الرَّزَّاق أَي: لَا يُهْلِكهُمْ جوعا بل يرزقهم. وَقد قَالَ بعض أهل الْعلم: إِن المعني بعباده فِي كل مَوضِع ذكره هُوَ الْمُؤْمِنُونَ خَاصَّة، وَالْهَاء للإضافة، وباء التَّخْصِيص توجب هَذَا وتقتضيه.
وَقَوله: ﴿ويرزق من يَشَاء وَهُوَ الْقوي الْعَزِيز﴾ أَي: الْقوي فِي نصْرَة الْمُؤمنِينَ، وَقيل: فِي الْقُدْرَة على إِيصَال الرزق إِلَيْهِم، وَقَوله: ﴿الْعَزِيز﴾ أَي: الْغَالِب الَّذِي لَا يغالب.
قَوْله تَعَالَى:
﴿من كَانَ يُرِيد حرث الْآخِرَة﴾ أَي: الْعَمَل للآخرة، وَمِنْه قَول
71
﴿نزد لَهُ فِي حرثه وَمن كَانَ يُرِيد حرث الدُّنْيَا نؤته مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَة من نصيب (٢٠) أم لَهُم شُرَكَاء شرعوا لَهُم من الدّين مَا لم يَأْذَن بِهِ الله وَلَوْلَا كلمة الْفَصْل لقضي بَينهم وَإِن الظَّالِمين لَهُم عَذَاب أَلِيم (٢١) ترى الظَّالِمين مشفقين مِمَّا كسبوا وَهُوَ وَاقع﴾ عبد الله بن عَمْرو وَقيل: ابْن مَسْعُود: احرث لدنياك كَأَنَّك تعيش [أبدا]، واحرث لآخرتك كَأَنَّك تَمُوت غَدا.
وَقَوله:
﴿نزد لَهُ فِي حرثه﴾ أَي: نضاعف لَهُ فِي الْحَسَنَات، وَعَن قَتَادَة قَالَ: إِن الله تَعَالَى يُعْطي الدُّنْيَا بِعَمَل الْآخِرَة، وَلَا يُعْطي الْآخِرَة بِعَمَل الدُّنْيَا. فَهَذَا قَول ثَان فِي معنى الْآيَة، وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن معنى الْآيَة:
﴿نزد لَهُ فِي حرثه﴾ أَي: نعنه [ونوفقه] على زِيَادَة الطَّاعَات والاستكثار مِنْهَا.
وَقَوله:
﴿وَمن كَانَ يُرِيد حرث الدُّنْيَا﴾ أَي: عمل الدُّنْيَا
﴿نؤته مِنْهَا﴾ أَي: على مَا نشَاء ونريد، على مَا قَالَ فِي آيَة أُخْرَى:
﴿من كَانَ يُرِيد العاجلة عجلنا لَهُ فِيهَا مَا نشَاء لمن نُرِيد﴾ وَقيل: نؤته مِنْهَا بِقدر مَا قسم لَهُ.
وَقَوله:
﴿وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَة من نصيب﴾ هَذَا فِيمَن لم يعْمل إِلَّا للدنيا، فَأَما من عمل للدنيا وَالْآخِرَة فَيجوز أَن يؤتيه الله الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.
72
قَوْله تَعَالَى: ﴿أم لَهُم شُرَكَاء﴾ أَي: بل لَهُم شُرَكَاء.
وَقَوله: ﴿شرعوا لَهُم من الدّين﴾ أَي: وضعُوا.
وَقَوله: ﴿مَا لم يَأْذَن بِهِ الله﴾ أَي: لم يَأْمر بِهِ الله.
وَقَوله: ﴿وَلَوْلَا كلمة الْفَصْل﴾ أَي: مَا أخر لَهُم من الْعَذَاب (لقضي بَينهم) أَي: لفصل الْأَمر بَينهم فِي الْحَال.
وَقَوله: ﴿وَإِن الظَّالِمين لَهُم عَذَاب أَلِيم﴾ أَي: شَدِيد.
قَوْله تَعَالَى:
﴿ترى الظَّالِمين مشفقين مِمَّا كسبوا﴾ أَي: خَائِفين وجلين.
72
﴿بهم وَالَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات فِي روضات الجنات لَهُم مَا يشاءون عِنْد رَبهم ذَلِك هُوَ الْفضل الْكَبِير (٢٢) ذَلِك الَّذِي يبشر الله عباده الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات قل لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ أجرا إِلَّا الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى﴾
وَقَوله:
﴿وَهُوَ وَاقع بهم﴾ وَمَعْنَاهُ: أَن الْعَذَاب الَّذِي يخافونه نَازل بهم، وَهَذَا يَوْم الْقِيَامَة.
وَقَوله:
﴿وَالَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات فِي روضات الجنات﴾ أَي: الْبَسَاتِين.
وَقَوله:
﴿لَهُم مَا يشاءون عِنْد رَبهم ذَلِك هُوَ الْفضل الْكَبِير﴾ أَي: الْعَظِيم.
73
قَوْله تَعَالَى:
﴿ذَلِك الَّذِي يبشر الله عباده الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات﴾ أَي: هَذَا الَّذِي يبشر الله عباده.
وَقَوله:
﴿قل لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ أجرا إِلَّا الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى﴾ فِيهِ أَرْبَعَة أقاويل: أظهرها وأشهرها أَن مَعْنَاهُ: لَا أَسأَلكُم إِلَّا أَن تودوني لقرابتي مِنْكُم. وَقيل: تصلوا الْقَرَابَة الَّتِي بيني وَبَيْنكُم بالاستجابة لي إِلَى مَا أَدْعُو إِلَيْهِ، وتكفوا عني أذاكم، وَهَذَا قَول ابْن عَبَّاس أوردهُ البُخَارِيّ عَنهُ فِي الصَّحِيح على لفظ مَعْلُوم مَقْبُول، وَهُوَ قَول طَاوس وَمُجاهد وَقَتَادَة، وَعَامة الْمُفَسّرين. قَالَ قَتَادَة: كَانَت قُرَيْش تصل الْأَرْحَام، فَطلب مِنْهُم النَّبِي أَن يصلوا الْقَرَابَة الَّتِي بَينه وَبينهمْ، وَألا يقطعوها.
وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ: مَا من بطن من بطُون قُرَيْش إِلَّا ولرسول الله فيهم قرَابَة، فَسَأَلَهُمْ أَن يصلوها.
وَالْقَوْل الثَّانِي: مَا حكى عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ:
﴿قل لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ أجرا إِلَّا الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى﴾ مَعْنَاهُ: أَن يتوددوا إِلَى الله بِمَا يقربكم إِلَيْهِ من الْعَمَل الصَّالح.
وَالْقَوْل الثَّالِث: مَا حكى عَن الضَّحَّاك أَن الْآيَة مَنْسُوخَة بقوله:
﴿قل مَا سألتكم من أجر فَهُوَ لكم إِن أجري إِلَّا على الله﴾ وَهَذَا القَوْل غير مرضِي عِنْد أهل
73
﴿وَمن يقترف حَسَنَة نزد لَهُ فِيهَا حسنا إِن الله غَفُور شكور (٢٣) ﴾ الْمعَانِي؛ لِأَن قَوْله:
﴿إِلَّا الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى﴾ لَيْسَ باستثناء صَحِيح حَتَّى يكون مُخَالفا لقَوْله:
﴿إِن أجري إِلَّا على الله﴾ بل هُوَ اسْتثِْنَاء مُنْقَطع، وَمَعْنَاهُ: قل لَا أسالكم عَلَيْهِ أجرا أَي: مَالا، وَتمّ الْكَلَام. وَمعنى قَوْله:
﴿إِلَّا الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى﴾ لَكِن صلوا قَرَابَتي بالاستجابة لي أَو تكفوا أذاكم عني.
وَفِي بعض التفاسير: أَن أهل الْجَاهِلِيَّة لما علمُوا جد النَّبِي ظنُّوا انه يطْلب مَالا، فَجمعُوا لَهُ شَيْئا حسنا من أَمْوَالهم، وَقَالُوا: نعطيك هَذَا المَال، وكف عَمَّا أَنْت عَلَيْهِ، فَأنْزل الله الْآيَة على الْمَعْنى الَّذِي قدمنَا.
وَالْقَوْل الرَّابِع: مَا روى فِي بعض الغرائب من الرِّوَايَات بِرِوَايَة سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس أَن معنى قَوْله:
﴿إِلَّا الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى﴾ أَن تودوا أقربائي وتحبوهم.
وَحكى بَعضهم: أَن النَّبِي سُئِلَ عَن هَذِه، وَعَن معنى الْقُرْبَى فَقَالَ: " عَليّ وَفَاطِمَة وولدهما "، وَهَذَا أغرب الْأَقَاوِيل وأضعفها.
وَقَوله:
﴿وَمن يقترف حَسَنَة﴾ أَي: يكْتَسب حَسَنَة أَي: طَاعَة
﴿نزد لَهُ فِيهَا حسنا﴾ أَي: نضاعف لَهُ الْحَسَنَة.
وَقَوله:
﴿إِن الله غَفُور شكور﴾ أَي: غَفُور للكثير من الذُّنُوب، شكور لليسير فِي الطَّاعَات.
74
﴿أم يَقُولُونَ افترى على الله كذبا فَإِن يَشَأْ الله يخْتم على قَلْبك ويمح الله الْبَاطِل ويحق الْحق بكلماته إِنَّه عليم بِذَات الصُّدُور (٢٤) وَهُوَ الَّذِي يقبل التَّوْبَة عَن عباده وَيَعْفُو﴾
75
قَوْله تَعَالَى: ﴿أم يَقُولُونَ افترى على الله كذبا﴾ أَي: يَقُول على الله مَا لم يقلهُ وَلم ينزله.
وَقَوله: ﴿فَإِن يَشَأْ الله يخْتم على قَلْبك﴾ أَي: ينْسك الْقُرْآن حَتَّى لَا تذكر مِنْهُ حرفا، قَالَه قَتَادَة، وَالْقَوْل الثَّانِي: يخْتم على قَلْبك أَي: يرْبط بِالصبرِ على أذاهم، وَهَذَا قَول مَعْرُوف أوردهُ الْفراء والزجاج وَغَيرهمَا.
وَقَول: ﴿ويمح الله الْبَاطِل﴾ قيل: هَذَا ابْتِدَاء كَلَام، وَمَعْنَاهُ: ويمحو الله الْكفْر ويزيله.
وَقَوله: ﴿ويحق الْحق بكلماته﴾ أَي: ينصر دينه بالمعجزات الَّتِي يظهرها، وَقيل: بتحقيق وعده، وَقيل: بنصرة رَسُوله بِإِظْهَار دينه على الدّين كُله.
وَقَوله: ﴿إِنَّه عليم بِذَات الصُّدُور﴾ أَي: بِمَا فِي الصُّدُور.
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَهُوَ الَّذِي يقبل التَّوْبَة عَن عباده وَيَعْفُو عَن السَّيِّئَات﴾ أَي: الذُّنُوب
﴿وَيعلم مَا تَفْعَلُونَ﴾ أَي: تَعْمَلُونَ، وَقد ثَبت عَن النَّبِي بِرِوَايَة الزُّهْرِيّ، عَن [أبي] سَلمَة، عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: قَالَ: " لله أفرح بتوبة عَبده من أحدكُم يضل بعيره بفلاة وَعَلِيهِ مَتَاعه وَطَعَامه فيطلبه وَلَا يجده، ثمَّ ينَام نومَة فينتبه فَإِذا هُوَ عِنْد رَأسه ". قَالَ الشَّيْخ الإِمَام أخبرنَا أَبُو مُحَمَّد عبد الله ابْن أَحْمد أخبرنَا أَبُو سهل عبد الصَّمد بن عبد الرَّحْمَن الرَّازِيّ، أخبرنَا أَبُو بكر مُحَمَّد ابْن زَكَرِيَّا العذافري، أخبرنَا إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الدبرِي، عَن عبد الرَّزَّاق، عَن معمر، عَن الزُّهْرِيّ الْخَبَر.
75
﴿عَن السَّيِّئَات وَيعلم مَا تَفْعَلُونَ (٢٥) ويستجيب الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات ويزيدهم من فَضله والكافرون لَهُم عَذَاب شَدِيد (٢٦) وَلَو بسط الله الرزق لِعِبَادِهِ لبغوا فِي الأَرْض وَلَكِن ينزل بِقدر مَا يَشَاء إِنَّه بعباده خَبِير بَصِير (٢٧) وَهُوَ الَّذِي ينزل﴾
وَعَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ أَنه سُئِلَ عَن رجل زنى بِامْرَأَة ثمَّ تزَوجهَا، هَل يجوز؟ قَالَ: نعم، وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى:
﴿وَهُوَ الَّذِي يقبل التَّوْبَة عَن عباده﴾ إِلَى آخر الْآيَة.
76
قَوْله تَعَالَى: ﴿ويستجيب الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات﴾ أَي: يُجيب دعاءهم.
وَقَوله: ﴿ويزيدهم من فَضله﴾ أَي: الثَّنَاء الْحسن فِي الدُّنْيَا، وَقيل: الشَّفَاعَة فِي الْآخِرَة، وَالْمَعْرُوف مضاعفة الْحَسَنَات.
وَقَوله: ﴿والكافرون لَهُم عَذَاب شَدِيد﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَو بسط الله الرزق لِعِبَادِهِ﴾ أَي: وسع عَلَيْهِم الرزق، وَقيل: أَعْطَاهُم كل مَا يتمنونه.
وَقَوله: ﴿لبغوا فِي الأَرْض﴾ أَي: عصوا وطغوا فِي الأَرْض، وَالْبَغي فِي الأَرْض هُوَ الْعَمَل فِيهَا بِغَيْر حق (وَقيل: هُوَ) البطر والأشر.
وَقَوله: ﴿وَلَكِن ينزل بِقدر مَا يَشَاء أى بِقدر كَمَا تشَاء.
وَقَوله: {إِنَّه بعباده خَبِير بَصِير﴾ أَي: خَبِير بِمَا يصلحهم، بَصِير بِمَا يَفْعَلُونَهُ ويطلبونه.
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَهُوَ الَّذِي ينزل الْغَيْث من بعد مَا قَنطُوا﴾ أَي: أيسوا، وَفِي بعض الْأَخْبَار، أَن رجلا اتى النَّبِي وَقَالَ: يَا رَسُول الله، قد اجدبت الأَرْض، وَقَنطَ النَّاس، فَادع الله ينزل الْغَيْث لنا فَقَالَ [لَهُ] :" ارْجع إِلَى قَوْمك فقد مطرتم ". فَكَانَ
76
﴿الْغَيْث من بعد مَا قَنطُوا وينشر رَحمته وَهُوَ الْوَلِيّ الحميد (٢٨) وَمن آيَاته خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَث فيهمَا من دَابَّة وَهُوَ على جمعهم إِذا يَشَاء قدير (٢٩) وَمَا أَصَابَكُم من مُصِيبَة فبمَا كسبت أَيْدِيكُم وَيَعْفُو عَن كثير (٣٠) ﴾ كَمَا قَالَ.
﴿وينشر رَحمته﴾ أَي: بإنزال الْغَيْث.
وَقَوله:
﴿وَهُوَ الْوَلِيّ الحميد﴾ أَي: الْمَالِك لما يَفْعَله، الْمُسْتَحق للحمد فِيمَا ينزله من الْغَيْث.
77
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمن آيَاته خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَث فيهمَا من دَابَّة﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن المُرَاد بِهِ وَمَا بَث فِي الأَرْض من دَابَّة، فَذكر السَّمَاء وَالْأَرْض، وَالْمرَاد أَحدهمَا، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: ﴿يخرج مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤ والمرجان﴾ وَإِنَّمَا يسْتَخْرج من أَحدهمَا، وَهُوَ المالح دون العذب.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن قَوْله: ﴿وَمَا بَث فيهمَا من دَابَّة﴾ وَهُوَ على حَقِيقَته، وَالدَّابَّة كل مَا يدب، وَالْمَلَائِكَة مِمَّا يدب، قَالَه مُجَاهِد وَغَيره.
﴿وَهُوَ على جمعهم إِذا يَشَاء قدير﴾ أَي: قَادر.
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَمَا أَصَابَكُم من مُصِيبَة فبمَا كسبت أَيْدِيكُم وَيَعْفُو عَن كثير﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: قد نرى من تصيبه الْمُصِيبَة بِغَيْر ذَنْب سبق مِنْهُ، فَكيف وَجه الْآيَة؟ وَالْجَوَاب من وُجُوه: أَحدهَا: أَن قَوْله:
﴿وَمَا أَصَابَكُم من مُصِيبَة﴾ هِيَ الْحُدُود تُقَام إِلَّا على العَاصِي وَلَا تُقَام على العاصين، وَهَذَا قَول حسن.
77
﴿وَمَا انتم بمعجزين فِي الأَرْض وَمَا لكم من دون الله من ولي وَلَا نصير (٣١) وَمن آيَاته﴾
وَالثَّانِي: أَن قَوْله:
﴿وَمَا أَصَابَكُم من مُصِيبَة﴾ يُرَاد بهَا المعاقبة فِيمَا كسبت أَيْدِيكُم، فعلى هَذَا يجوز أَن يُصِيب الْإِنْسَان مُصِيبَة من غير ذَنْب وَلَا كسب إِذا لم يرد بهَا المعاقبة.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن الْآيَة على الْعُمُوم، وَلَا يُصِيب أحدا بلَاء وَشدَّة إِلَّا بذنب سبق مِنْهُ، أَو تَنْبِيه لِئَلَّا يعْمل ذَنبا، أَو ليعتبر بِهِ ذُو ذَنْب.
وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي [أَنه] أَنه قَالَ: " مَا من خدش أَو عَثْرَة قدم أَو اخْتِلَاج عرق إِلَّا بذنب، وَمَا يغْفر الله أَكثر ". وَعَن الْعَلَاء بن بدر: مَا يُصِيب أحدا مُصِيبَة إِلَّا بذنب مِنْهُ، فَقيل لَهُ: كَيفَ هَذَا، وَقد عميت صَغِيرا، وَمَا كنت أعمى؟ فَقَالَ: بذنب وَالِدي.
تعلق بِهَذِهِ الْآيَة بعض من يَقُول بالتناسخ، وَقَالَ: إِنَّا نرى الْبلَاء يُصِيب الْأَطْفَال وَلم يكن مِنْهُم ذَنْب، فَدلَّ انه سبق مِنْهُم ذنُوب من قبل وعوقبوا بهَا.
وَتعلق بِهَذِهِ الْآيَة أَيْضا من يَقُول إِن الْأَطْفَال لَا يألمون أصلا فَكَذَلِك الْبَهَائِم، وَإِنَّمَا صِيَاحهمْ لأَذى قُلُوب الْوَالِدين.
وكلا الْقَوْلَيْنِ بَاطِل، وَيجوز عِنْد أهل السّنة أَن يُوجد الله الْأَلَم إِلَى مَا يَشَاء من عباده بِغَيْر ذَنْب سبق مِنْهُ، وَكَذَلِكَ على جَمِيع الْحَيَوَانَات، وَأما وَجه الْآيَة قد بَينا، وَكَذَلِكَ قَول من يَقُول: إِن الْأَطْفَال لَا يألمون بَاطِل؛ لِأَنَّهُ دفع الْحس والعيان.
78
وَقَوله:
﴿وَمَا انتم بمعجزين فِي الأَرْض﴾ أَي: بمعجزين الله فِي الأَرْض، وَقد بَينا مَعْنَاهُ فِيمَا سبق.
78
﴿الْجوَار فِي الْبَحْر كالأعلام (٣٢) إِن يَشَأْ يسكن الرّيح فيظللن رواكد على ظَهره إِن فِي ذَلِك لآيَات لكل صبار شكور (٣٣) أَو يوبقهن بِمَا كسبوا ويعف عَن كثير (٣٤) ﴾
وَقَوله:
﴿وَمَا لكم من دون الله من ولي وَلَا نصير﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
79
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَمن آيَاته الْجوَار فِي الْبَحْر كالأعلام﴾ أَي: السفن، وَقَوله:
﴿كالأعلام﴾ أَي: كالجبال، قَالَت الخنساء تمدح أخاها صخرا:
(وَإِن صخرا لتأتم الهداة بِهِ كَأَنَّهُ علم فِي رَأسه نَار)
أَي: جبل.
وَقَوله: ﴿إِن يَشَأْ يسكن الرّيح﴾ مَعْنَاهُ: إِن يَشَأْ تسكين الرّيح يسكن الرّيح، قَالَ قَتَادَة: إِن السفن تجْرِي بالرياح؛ فَإِذا هبت سَارَتْ، وَإِذا سكنت وقفت.
وَقَوله: ﴿فيظللن رواكد على ظَهره﴾ أَي: ثوابت على ظهر الْبَحْر، وَمَعْنَاهُ: الرّيح إِذا سكنت بقيت السفن ثوابت على ظهر الْبَحْر، لَا تجرى.
قَوْله: ﴿إِن فِي ذَلِك لآيَات لكل صبار شكور﴾ أَي: صبار على البلايا، شكور للنعم، وَعَن بَعضهم: إِن فِي ذَلِك لآيَات لكل صبار شكور أَي: الْمُؤمن؛ لِأَن الْمُؤمن هُوَ الصبار الشكُور، قَالَ مطرف: نعم العَبْد الْمُؤمن إِذا ابْتُلِيَ صَبر، وَإِذا أعطي شكر. وَعَن عون بن عبد الله قَالَ: رب منعم عَلَيْهِ غير شكور، ومبتلى غير صبور.
قَوْله تَعَالَى:
﴿أَو يوبقهن بِمَا كسبوا﴾ أَي: يهْلك السفن بِمن فِيهَا، وَقيل: أهل السفن. وَقَوله:
﴿بِمَا كسبوا﴾ أَي: بِمَا كسبوا من الذُّنُوب، وَقَوله:
﴿أَو﴾ مَعْنَاهُ: أَو إِن يَشَأْ يوبقهن.
وَقَوله:
﴿ويعف عَن كثير﴾ أَي: يتَجَاوَز عَن كثير من الذُّنُوب، وَحكى أَن شريحا رُؤِيَ وَفِي يَده (قرحَة) فَقيل لَهُ: مَا هَذَا يَا أَبَا أُميَّة؟ فَقَالَ: وَمَا أَصَابَكُم من مُصِيبَة فبمَا كسبت أَيْدِيكُم وَيَعْفُو عَن كثير.
79
﴿وَيعلم الَّذين يجادلون فِي آيَاتنَا مَا لَهُم من محيص (٣٥) فَمَا أُوتِيتُمْ من شَيْء فمتاع الْحَيَاة الدُّنْيَا وَمَا عِنْد الله خير وَأبقى للَّذين آمنُوا وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ (٣٦) وَالَّذين يجتنبون كَبَائِر الْإِثْم وَالْفَوَاحِش وَإِذا مَا غضبوا وهم يغفرون (٣٧) وَالَّذين اسْتَجَابُوا﴾
80
وَقَوله: ﴿وَيعلم الَّذين يجادلون فِي آيَاتنَا﴾ وَقُرِئَ: " وَيعلم " بِضَم الْمِيم، فَأَما الْقِرَاءَة بِنصب الْمِيم فبتقدير أَن، وَأما بِالرَّفْع فَمَعْنَاه وَسَيعْلَمُ الَّذين يجادلون فِي آيَاتنَا.
﴿مَا لَهُم من محيص﴾ أَي: ملْجأ ومهرب، قَالَه السدى وَغَيره.
وَقَوله: ﴿فَمَا أُوتِيتُمْ من شَيْء فمتاع الْحَيَاة الدُّنْيَا﴾ أَي: مَنْفَعَة الْحَيَاة الدُّنْيَا.
وَقَوله: ﴿وَمَا عِنْد الله خير وَأبقى﴾ أَي: الْجنَّة خير وأدوم.
وَقَوله: ﴿للَّذين آمنُوا وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَالَّذين يجتنبون كَبَائِر الْإِثْم﴾ وَقُرِئَ: " كَبِير الْإِثْم "، وَقد بَينا تَفْسِير الْكَبَائِر من قبل.
وَفِي التَّفْسِير: أَن قتل النَّفس، وَقذف الْمُحْصنَات، والإشراك بِاللَّه، وعقوق الْوَالِدين والفرار من الزَّحْف، وَأكل مَال الْيَتِيم، والتأفيف، وَالسحر، وَشرب الْخمر؛ من الْكَبَائِر، وَيُقَال: كل مَا أوعد الله عَلَيْهِ فِي النَّار فَهُوَ من الْكَبَائِر. وَأما إِضَافَة الْكَبَائِر إِلَى الْإِثْم فَيُقَال: إِنَّمَا أضافها إِلَيْهِ؛ لِأَن فِي الْإِثْم كَبِيرا وصغيرا. وَيُقَال: إِضَافَة الْكَبَائِر إِلَى الْإِثْم كإضافة الصّفة إِلَى الْمَوْصُوف.
وَقَوله:
﴿وَالْفَوَاحِش﴾ الْفَوَاحِش: هِيَ القبائح من الزِّنَا وَغَيره.
وَقَوله:
﴿وَإِذا مَا غضبوا هم يغفرون﴾ أَي: يتجاوزون، وَفِي الْخَبَر الْمَعْرُوف أَن النَّبِي قَالَ: " أَلا أنبئكم بالشديد؟ قَالُوا: نعم. قَالَ: من ملك نَفسه عِنْد الْغَضَب ".
80
﴿لرَبهم وَأَقَامُوا الصَّلَاة وَأمرهمْ شُورَى بَينهم وَمِمَّا رزقتاهم يُنْفقُونَ (٣٨) وَالَّذين إِذا﴾
81
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالَّذين اسْتَجَابُوا لرَبهم﴾ يُقَال: إِن الْآيَة نزلت فِي الْأَنْصَار، وَيُقَال: إِنَّهَا عَامَّة.
وَقَوله: ﴿وَأَقَامُوا الصَّلَاة﴾ إِقَامَة الصَّلَاة إتيانها بشرائطها وحفظها بحدودها.
وَقَوله: ﴿وَأمرهمْ شُورَى بَينهم﴾ ذكر النقاش: أَن هَذَا فِي الْأَنْصَار وَكَانُوا يتشاورون فِي الْأَمر بَينهم؛ فمدحهم الله على ذَلِك، وَذَلِكَ دَلِيل على اتِّفَاق الْكَلِمَة، وَترك الاستبداد بِالرَّأْيِ، وَالرُّجُوع إِلَى الرَّأْي عِنْد نزُول الْحَادِثَة. وَقيل: إِن الْأَنْصَار تشاوروا فِيمَا بَينهم حِين دعاهم النَّبِي إِلَى الْإِيمَان، ثمَّ أجابوا إِلَى الْإِيمَان.
وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ: مَا تشَاور قوم إِلَّا هُدُوا إِلَى ارشد أُمُورهم. والشورى مَأْخُوذَة من قَوْلهم: شرت الدَّابَّة أشورها إِذا سيرتها مقبلة، ومدبرة لاستخراج السّير مِنْهَا. وَيُقَال: لذَلِك الْموضع المشوار. وَالْعرب تَقول: إياك والخطب فَإِنَّهَا مشوار كثير العناد. وَفِي الْخَبَر بِرِوَايَة [أبي] عُثْمَان النَّهْدِيّ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي قَالَ: " إِذا كَانَت أمراؤكم خياركم، وأغنياؤكم أسخياؤكم وأمركم شُورَى بَيْنكُم، فَظهر الأَرْض خير لكم، من بَطنهَا، وَإِذا كَانَت أمراؤكم شِرَاركُمْ، وأغنياؤكم (بخلاؤكم)، وأمركم إِلَى نِسَائِكُم؛ فبطن الأَرْض خير لكم من ظهرهَا ".
وَاعْلَم أَن هَذِه السُّورَة تسمى سُورَة الشورى.
وَقَوله: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفقُونَ﴾ أَي: يتصدقون.
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَالَّذين إِذا أَصَابَهُم الْبَغي هم ينتصرون﴾ أَي: الظُّلم، وَقَوله:
81
﴿أَصَابَهُم الْبَغي هم ينتصرون (٣٩) وَجَزَاء سَيِّئَة سَيِّئَة مثلهَا فَمن عَفا وَأصْلح فَأَجره على﴾ ﴿ينتصرون﴾ أَي: يتناصرون، فينتصر بَعضهم بَعْضًا لرفع الْبَغي، وَهُوَ من بَاب الْحِسْبَة، ينتصرون بِالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ. وَقيل: ينتصرون أَي: ينتصرون من الظَّالِم، والانتصار من الظَّالِم هُوَ أَخذ الْحق مِنْهُ. وَفِي التَّفْسِير عَن الْحسن الْبَصْرِيّ وَغَيره قَالَ: كَانُوا يكْرهُونَ أَن يذلوا أنفسهم حَتَّى لَا يجترئ عَلَيْهِم الْفُسَّاق.
وَذكر الْكَلْبِيّ: أَن الْآيَة نزلت فِي شَأْن ابي بكر الصّديق، فروى أَن رجلا من الْأَنْصَار سبّ أَبَا بكر عِنْد النَّبِي، فَسكت أَبُو بكر وَسكت التبي، ثمَّ إِن أَبَا بكر أَجَابَهُ، فَقَامَ النَّبِي مغضبا، وَذهب فَتَبِعَهُ أَبُو بكر، وَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِن الَّذِي فعلت بِي أَشد مِمَّا فعله الْأنْصَارِيّ، سبني فَسكت، وَلم تنكر عَلَيْهِ، ثمَّ لما أجبْت قُمْت مغضبا، فَقَالَ: كَانَ الْملك يرد عَلَيْهِ حِين سكت؛ فَلَمَّا أجبْت ذهب الْملك؛ فَذَهَبت، وَأنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة:
﴿وَالَّذين إِذا أَصَابَهُم الْبَغي هم ينتصرون﴾ فَيجوز للمظلوم الِانْتِصَار من ظالمه.
82
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَجَزَاء سَيِّئَة سَيِّئَة مثلهَا﴾ سمى الثَّانِي [سَيِّئَة] على ازدواج الْكَلَام، وَعند الْفُقَهَاء أَن الْآيَة فِي الْقَتْل والجراحات؛ فَإِذا قَتله يقْتله وليه، وَإِذا حرجه. يجرحه، وَذهب جمَاعَة من السّلف إِلَى أَن هَذَا فِي غير الْقَتْل والجراحات أَيْضا فَإِذا قَالَ: أخزاك الله، يَقُول: أخزاك الله، وَإِذا قَالَ: لعنك الله، يَقُول: لعنك الله، وَلَا يزِيد عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ قَالُوا: إِذا سبّ سبه، وَهَذَا فِيمَا لَا يدْخلهُ الْكَذِب، فَأَما مَا يدْخلهُ الْكَذِب فَلَا يَنْبَغِي أَن يكذب عَلَيْهِ، وَمَا ذكرنَا مَرْوِيّ عَن مُجَاهِد وَغَيره.
82
﴿الله إِنَّه لَا يحب الظَّالِمين (٤٠) وَلمن انتصر بعد ظلمه فَأُولَئِك مَا عَلَيْهِم من سَبِيل (٤١) إِنَّمَا السَّبِيل على الَّذين يظْلمُونَ النَّاس ويبغون فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق أُولَئِكَ لَهُم عَذَاب أَلِيم (٤٢) وَلمن صَبر وَغفر إِن ذَلِك لمن عزم الْأُمُور (٤٣) وَمن يضلل الله﴾
قَوْله:
﴿فَمن عَفا وَأصْلح فَأَجره على الله﴾ يَعْنِي: عَفا عَن الظَّالِم وَأصْلح الْأَمر بَينه وَبَينه
﴿فَأَجره على الله﴾ أَي: ثَوَابه على الله، وَفِي بعض الْأَخْبَار: " أَن الله تَعَالَى يَقُول يَوْم الْقِيَامَة:: أَلا ليقمْ من أجره على الله فَلَا يقوم إِلَّا من عَفا ".
وَقَوله:
﴿إِنَّه لَا يحب الظَّالِمين﴾ أَي: من يتَجَاوَز عَن الْحق إِلَى غير الْحق.
83
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلمن انتصر بعد ظلمه فَأُولَئِك مَا عَلَيْهِم من سَبِيل﴾ أَي: من سَبِيل فِي الْقِيَامَة.
وَقَوله: ﴿إِنَّمَا السَّبِيل على الَّذين يظْلمُونَ النَّاس ويبغون فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق﴾ أَي: يطْلبُونَ زِيَادَة لَيست لَهُم، وَقيل: يسعون فِي الأَرْض بِالْمَعَاصِي.
وَقَوله: ﴿أولائك لَهُم عَذَاب أَلِيم﴾ أَي: مؤلم موجع.
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَلمن صَبر وَغفر﴾ أَي: صَبر على الْأَذَى، وَغفر للمؤذي، وَيُقَال: صَبر عَن الْمعاصِي وَغفر لمن يَظْلمه. وَيُقَال: صَبر عَن ظلم النَّاس، وَمن ظلمه عَفا عَنهُ.
وَقَوله:
﴿إِن ذَلِك من عزم الْأُمُور﴾ أَي: من حق (الْأُمُور)، وَقيل: من عزائم الله الَّتِي ندب إِلَيْهَا عباده. وَيُقَال: من ثَابت الْأُمُور الَّتِي لَا تنسخ. قَالَ الزّجاج: ندب الله تَعَالَى الْمَظْلُوم أَن (يعْفُو) عَن الظَّالِم، ويصبر عَن الظُّلم؛ لينال الثَّوَاب فِي
83
﴿فَمَا لَهُ من ولي من بعده وَترى الظَّالِمين لما رَأَوْا الْعَذَاب يَقُولُونَ هَل إِلَى مرد من سَبِيل (٤٤) وتراهم يعرضون عَلَيْهَا خاشعين من الذل ينظرُونَ من طرف خَفِي وَقَالَ الَّذين آمنُوا إِن الخاسرين الَّذين خسروا أنفسهم وأهليهم يَوْم الْقِيَامَة أَلا إِن الظَّالِمين فِي﴾ الْآخِرَة، فَمن كَانَ أَرغب فِي ثَوَاب الْآخِرَة فَهُوَ أتم عزما على الصَّبْر.
84
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَمن يضلل الله فَمَا لَهُ من ولي من بعده﴾ أَي: يضلله الله.
وَقَوله: ﴿فَمَا لَهُ من ولي من بعده﴾ أَي: لَا يجد من بعد الله من يهديه.
وَقَوله: ﴿وَترى الظَّالِمين لما رَأَوْا الْعَذَاب يَقُولُونَ هَل إِلَى مرد من سَبِيل﴾ أَي: من رُجُوع إِلَى الدُّنْيَا ليتوب.
قَوْله تَعَالَى:
﴿وتراهم يعرضون عَلَيْهَا﴾ أَي: على النَّار، وَيُقَال: إِن الْآيَة فِي آل فِرْعَوْن، وَيُقَال: فِي آل فِرْعَوْن وَغَيرهم. وَالأَصَح أَن هَذَا فِي الْقِيَامَة، ويعرضون على النَّار ليدخلوا فِيهَا.
وَقَوله:
﴿خاشعين من الذل﴾ أَي: خاضعين من الذل، وَمَعْنَاهُ: [الانكسار] وذلة النَّفس حِين يرَوْنَ الْعَذَاب وتنزل بهم الندامة.
قَوْله:
﴿ينظرُونَ من طرف خَفِي﴾ أَي: يسارقون النّظر إِلَى النَّار، وَيُقَال: ينظرُونَ بأنصاف عيونهم، وَلَا يفتحون أَعينهم عَلَيْهَا خوفًا مِنْهَا. وَعَن بَعضهم قَالَ: ينظرُونَ بقلوبهم؛ لأَنهم يحشرون عميا، فالطرف الْخَفي هُوَ رُؤْيَة الْقلب.
وَقَوله:
﴿وَقَالَ الَّذين آمنُوا إِن الخاسرين الَّذين خسروا أنفسهم وأهليهم يَوْم الْقِيَامَة﴾ أما خسرانهم أنفسهم فبدخولهم النَّار، وَأما خسرانهم أَهْليهمْ فلأنهم لَو آمنُوا أَصَابُوا أَهلا فِي الْجنَّة، فَلَمَّا كفرُوا ودخلوا النَّار فاتهم أهلوهم فِي الْجنَّة، فَهُوَ خسران الْأَهْل. وَيُقَال: لكل وَاحِد من الْكفَّار أهل مُسَمّى فِي الْجنَّة لَو آمن.
وَقَوله:
﴿أَلا إِن الظَّالِمين فِي عَذَاب مُقيم﴾ أَي: دَائِم.
84
﴿عَذَاب مُقيم (٤٥) مَا كَانَ لَهُم من أَوْلِيَاء ينصرونهم من دون الله وَمن يضلل الله فَمَا لَهُ من سَبِيل (٤٦) اسْتجِيبُوا لربكم من قبل أَن يَأْتِي يَوْم لَا مرد لَهُ من الله مَا لكم من ملْجأ يَوْمئِذٍ وَمَا لكم من نَكِير (٤٧) فَإِن أَعرضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاك عَلَيْهِم حفيظا إِن عَلَيْك إِلَّا الْبَلَاغ وَإِنَّا إِذا أذقنا الْإِنْسَان منا رَحْمَة فَرح بهَا وَإِن تصبهم سَيِّئَة بِمَا قدمت أَيْديهم﴾
85
قَوْله: ﴿وَمَا كَانَ لَهُم من أَوْلِيَاء ينصروهم من دون الله﴾ أَي: يمْنَعُونَ عَنْهُم عَذَاب الله.
وَقَوله: ﴿وَمن يضلل الله فَمَا لَهُ من سَبِيل﴾ أَي: من طَرِيق إِلَى الْجنَّة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿اسْتجِيبُوا لربكم﴾ أَي: اسْتجِيبُوا لربكم بقول: لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله.
وَقَوله: ﴿من قبل أَن ياتي يَوْم لَا مرد لَهُ من الله﴾ أَي: لَا رد لَهُ.
وَقَوله: ﴿مَا لكم من ملْجأ يَوْمئِذٍ﴾ أَي: مهرب وملاذ.
وَقَوله: ﴿وَمَا لكم من نَكِير﴾ أَي: إِنْكَار، وَيُقَال: لَيْسَ لكم من أَن تنكروا الْعقُوبَة الَّتِي تنالكم. وَقيل: مَا لكم من نَكِير أَي: تَغْيِير.
وَقَوله تَعَالَى:
﴿فَإِن أَعرضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاك عَلَيْهِم حفيظا﴾ أَي: حَافِظًا.
وَقَوله:
﴿إِن عَلَيْك إِلَّا الْبَلَاغ﴾ أَي: التَّبْلِيغ.
وَقَوله:
﴿وَإِنَّا إِذا أذقنا الْإِنْسَان منا رَحْمَة﴾ أَي: النِّعْمَة والعافية.
وَقَوله:
﴿فَرح بهَا﴾ أَي: سر بهَا.
وَقَوله:
﴿وَإِن تصبهم سَيِّئَة﴾ أَي: شدَّة وبلاء، وَقيل: الجدب الَّذِي هُوَ ضد الخصب.
وَقَوله:
﴿بِمَا قدمت أَيْديهم﴾ أَي: من الذُّنُوب.
وَقَوله:
﴿فَإِن الْإِنْسَان كفور﴾ مَعْنَاهُ: كَافِر لنعم الله لَا يشكرها.
85
﴿فَإِن الْإِنْسَان كفور (٤٨) لله ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض يخلق مَا يَشَاء يهب لمن يَشَاء إِنَاثًا ويهب لمن يَشَاء الذُّكُور (٤٩) أَو يزوجهم ذكرانا وإناثا وَيجْعَل من يَشَاء عقيما إِنَّه عليم قدير (٥٠) وَمَا كَانَ لبشر أَن يكلمهُ الله إِلَّا وَحيا أَو من وَرَاء حجاب أَو يُرْسل﴾
86
قَوْله تَعَالَى: ﴿لله ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض يخلق مَا يَشَاء يهب لمن يَشَاء إِنَاثًا ويهب لمن يَشَاء الذُّكُور﴾ أَي: يُعْطي الْإِنَاث دون الذُّكُور، والذكور دون الْإِنَاث.
وَقَوله: ﴿أَو يزوجهم ذكرانا وإناثا﴾ أَي: يجمع الذُّكُور وَالْإِنَاث فِي الْعَطاء، وَمعنى قَوْله: ﴿يزوجهم﴾ أَي: يصنفهم كَأَنَّهُ يَجْعَل الْأَوْلَاد صنفين: صنفا إِنَاثًا، وَصِنْفًا ذُكُورا.
وَقَوله: ﴿وَيجْعَل من يَشَاء عقيما﴾ أَي: لَا يُولد لَهُ أصلا، وَفِي التَّفْسِير: أَن الْآيَة فِي الْأَنْبِيَاء، فَقَوله: ﴿يهب لمن يَشَاء إِنَاثًا﴾ هُوَ لوط النَّبِي كَانَ لَهُ بَنَات، وَلم يكن لَهُ ولد ذكر، وَقَوله: ﴿ويهب لمن يَشَاء الذُّكُور﴾ هُوَ إِبْرَاهِيم صلوَات الله عَلَيْهِ كَانَ لَهُ بنُون، وَلم تكن لَهُ أُنْثَى، وَقَوله: ﴿أَو نزوجهم ذكرانا وإناثا﴾ هُوَ الرَّسُول صلوَات الله عَلَيْهِ ولد لَهُ أَرْبَعَة بَنِينَ، وَأَرْبع بَنَات، فالبنون: الْقَاسِم وَبِه كني رَسُول الله، وَعبد الله، والطاهر، وَكَانَ يُسمى الطّيب أَيْضا وَإِبْرَاهِيم، فالثلاثة الْأَولونَ من خَدِيجَة رَضِي الله عَنْهَا وَإِبْرَاهِيم بن مَارِيَة الْقبْطِيَّة، وَأما الْبَنَات: فزينب، ورقية، وَأم كُلْثُوم، وَفَاطِمَة، كُلهنَّ من خَدِيجَة رَضِي الله عَنْهَا وعنهن، وَقَوله: ﴿وَيجْعَل من يَشَاء عقيما﴾ وَهُوَ يحيى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام لم يكن لَهما ولد وَلَا زَوْجَة.
وَقَوله: ﴿إِنَّه عليم قدير﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَمَا كَانَ لبشر أَن يكلمهُ الله إِلَّا وَحيا﴾ ذكر النقاش فِي تَفْسِيره: أَن سَبَب نزُول الْآيَة هُوَ ان الْمُشْركين قَالُوا للنَّبِي: هلا كلمك الله وَنظرت إِلَيْهِ كَمَا كَانَ مُوسَى؟ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
وَقَوله:
﴿إِلَّا وَحيا﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا أَنه الإلهام من الله تَعَالَى بالنفث فِي
86
﴿رَسُولا فَيُوحِي بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّه عَليّ حَكِيم (٥١) وَكَذَلِكَ أَوْحَينَا إِلَيْك روحا من أمرنَا﴾ صَدره، وَالْآخر: أَنه الرُّؤْيَا فِي الْمَنَام. وَفِي بعض الرِّوَايَات عَن ابْن عَبَّاس: لم ير جِبْرِيل من الْأَنْبِيَاء غير أَرْبَعَة هم: مُوسَى، وَعِيسَى، وزَكَرِيا، وَمُحَمّد عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام وَأما الْبَاقُونَ فَكَانَ لَهُم وَحي وإلهام، وَهَذِه رِوَايَة غَرِيبَة.
وَقَوله:
﴿أَو من وَرَاء حجاب﴾ أَي: كَمَا كلم مُوسَى من وَرَاء حجاب، وَقيل: بالحجاب على مَوضِع الْكَلَام لَا على الله. [وَقيل] : إِن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لما سمع كَلَام الله وَلم يره كَانَ بِمَنْزِلَة من يسمع من وَرَاء الْحجاب.
وَقَوله:
﴿أَو يُرْسل رَسُولا فَيُوحِي بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء﴾ يَعْنِي: يُرْسل جِبْرِيل بِالْوَحْي إِلَى من يَشَاء من الْأَنْبِيَاء، [وَجُمْلَة] الَّذِي وصل إِلَى الْأَنْبِيَاء من الْوَحْي على ثَلَاثَة وُجُوه: وَحي إلهام، ورؤيا فِي الْمَنَام، ووحي بِتَكْلِيم الله تَعَالَى، ووحي بِلِسَان جِبْرِيل عَلَيْهِ لسلام. وَعَن مُجَاهِد أَنه قَالَ: أوحى الله تَعَالَى الزبُور إِلَى دَاوُد فقرأه من قلبه، وَلم يكن على لِسَان جِبْرِيل. وَفِي بعض الْآثَار: أَن الله تَعَالَى وكل بِحِفْظ الْوَحْي جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام، وَكَذَلِكَ بإيصاله إِلَى الْأَنْبِيَاء، وَكَذَلِكَ وَكله بنصرة الْأَنْبِيَاء وَعَذَاب الْكفَّار، ووكل مِيكَائِيل بالقطر والنبات، ووكل إسْرَافيل بالصور، وَهُوَ أَيْضا من حَملَة الْعَرْش، ووكل ملك الْمَوْت بِقَبض الْأَرْوَاح؛ فهم موكلون على هَذِه الْأَشْيَاء بِإِذن الله تَعَالَى.
وَفِي بعض الْأَخْبَار أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يلقى النَّبِي فِي ثِيَاب بَيَاض ملفوفة بالدر والياقوت وَرجلَاهُ مغموستان فِي خضرَة. وَقد ذكرنَا فِي رِوَايَة عَن النَّبِي " أَن الْمُرْسلين من الْأَنْبِيَاء مائَة [وَخَمْسَة] عشر [جما غفيرا] أَوَّلهمْ آدم
87
﴿مَا كنت تَدْرِي مَا الْكتاب وَلَا الْإِيمَان وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نورا نهدي بِهِ من نشَاء من عبادنَا﴾ وَآخرهمْ مُحَمَّد عَلَيْهِمَا السَّلَام ".
وَقَوله:
﴿إِنَّه عَليّ حَكِيم﴾ أَي: متعال مِمَّا يصفونه (الْمُشْركُونَ)، حَكِيم فِي جَمِيع مَا يَفْعَله.
88
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَينَا إِلَيْك روحا من أمرنَا﴾ الرّوح هَاهُنَا هُوَ الْقُرْآن سَمَّاهُ روحا؛ لِأَنَّهُ تحيا بِهِ الْقُلُوب كالروح تحيا بِهِ النُّفُوس، وَقيل: إِنَّه النُّبُوَّة، وَالْأول أشهر.
وَقَوله:
﴿من أمرنَا﴾ أَي: بأمرنا.
وَقَوله:
﴿وَمَا كنت تَدْرِي مَا الْكتاب وَلَا الْإِيمَان﴾ الْكتاب هُوَ الْقُرْآن، وَقيل: مَا كنت تَدْرِي مَا الْكتاب لَوْلَا أنزلنَا إِيَّاه عَلَيْك. وَقَوله:
﴿وَلَا الْإِيمَان﴾ الْمَعْرُوف أَن المُرَاد بِهِ شرائع الْإِيمَان، وَهَذَا قد حكى عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن خُزَيْمَة وَغَيره من أَئِمَّة السّنة.
وَعَن بَعضهم أَن مَعْنَاهُ: مَا كنت تَدْرِي مَا الْكتاب وَلَا الْإِيمَان أَي: قبل الْبلُوغ. وَالْقَوْل الثَّالِث: مَا كنت تَدْرِي مَا الْكتاب وَلَا الْإِيمَان أَي: أهل الْإِيمَان، وَهَذَا حكى عَن الْحُسَيْن بن الْفضل البَجلِيّ.
وَفِي بعض المسانيد بِرِوَايَة النزال بن سُبْرَة عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: " قيل لرَسُول الله: هَل عبدت وثنا قطّ؟ قَالَ: لَا. وَقيل لَهُ: هَل شربت خمرًا قطّ؟ قَالَ: لَا. وَمَا زلت أعرف أَن مَا هم عَلَيْهِ بَاطِل، وَلم يُوح إِلَى كتاب وَلَا إِيمَان " وَالْخَبَر غَرِيب.
وَقَوله:
﴿وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نورا نهدي بِهِ من نشَاء من عبادنَا وَإنَّك لتهدي إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم﴾ أَي: تَدْعُو، وَفِي قِرَاءَة أبي بن كَعْب: " وَإنَّك لتدعو إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم "
88
{وَإنَّك لتهدي إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم (٥٢) صِرَاط الله الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض أَلا إِلَى الله تصير الْأُمُور (٥٣) هِيَ تبين معنى الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة، وَقَرَأَ عَاصِم الجحدري: " وَإنَّك لتهدي إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم " على مَا لم يسم فَاعله، وَمَعْنَاهُ بَين.
89
قَوْله تَعَالَى:
﴿صِرَاط الله الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض أَلا إِلَى الله تصير الْأُمُور﴾ أَي: ترجع الْأُمُور، وَالله أعلم.
89
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
﴿حم (١) وَالْكتاب الْمُبين (٢) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبيا لَعَلَّكُمْ تعقلون (٣) وَإنَّهُ فِي أم الْكتاب لدينا لعَلي حَكِيم (٤) أفنضرب عَنْكُم الذّكر صفحا أَن كُنْتُم قوما مسرفين (٥) ﴾
تَفْسِير سُورَة الزخرف
وَهِي مَكِّيَّة
90
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net
-
© 2024