تفسير سورة الشورى

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
تفسير سورة سورة الشورى من كتاب البحر المديد في تفسير القرآن المجيد .
لمؤلفه ابن عجيبة . المتوفي سنة 1224 هـ

سورة الشّورى «١»
مكية. وهى خمس وثلاثون آية، ومناسبتها لما قبلها قوله: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ إلى قوله:
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ «٢» أي: إن القرآن حق، أي: وحي من الله، مع قوله: كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ، فهى كالتتمة لما قبلها. قال تعالى:
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ١ الى ٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١) عسق (٢) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٤)
تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥)
يقول الحق جلّ جلاله: حم. عسق يُشير- والله أعلم- بكل حرف إلى وصف يدلّ على تعظيم قدر حبيبه صلّى الله عليه وسلم، فالحاء: أحبَبْنَاك، أو: حبيْناك، أي: أَعطيناك الملك والملكوت، والميم: ملَّكناك، والعين: عَلَّمناك ما لم تكن تعلم، أو: عيّناك للرسالة، والسين: سيّدناك، والقاف: قرّبناك. كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ أي: كما خصصناك بهذه الخصائص العظام أوحينا إليك وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ، فقد خصصناهم ببعض ذلك، وأوحينا إليهم، وفي ابن عطية: عن ابن عباس: أن هذه الحروف بأعيانها نزلت في كل كتب الله، المنزلة على كل نبيّ أُنزل عليه كتاب، ولذلك قال تعالى: كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ «٣». وقال القشيري: الحاء: مفتاح اسمه حكيم وحفيظ، والميم: مفتاح اسمه مالك وماجد ومؤمن ومهيمن، والعين: مفتاح اسمه عليم وعليّ، والسين: مفتاح اسمه سيد وسميع وسريع الحساب، والقاف: مفتاح اسمه قادر وقاهر وقريب وقدوس، أقسم الله تعالى بهذه الحروف أنه كذلك يُوحي إليك يا محمد. هـ.
(١) أول المجلد الرّابع فى النّسخة الأم.
(٢) من الآية ٥٣ من سورة فصلت.
(٣) ذكره ابن عطية (٥/ ٢٥) وعزاه للثعلبى، وانظر: تفسير البغوي (٧/ ١٨٤).
193
وقال ابن عطية: وإنما فصلت «حم عسق»، ولم يفعل ذلك ب «كهيعص» لتجري هذه مجرى الحواميم أخواتها.
هـ. زاد النسفي: وأيضاً: هذه آيتان، و «كهيعص» آية واحدة. هـ. فانظره.
اللَّهُ أي: يوحي الله الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ: فاعل «يُوحي»، وقرأ ابن كثير بالبناء للمفعول «١». و «الله» : فاعل بمحذوف، كأن قائلاً قال: مَن المُوحِي؟ فقال: اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي: الغالب بقهره، الحكيم في صنعه وتدبيره.
لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مُلكاً وملِكاً، وَهُوَ الْعَلِيُّ شأنه الْعَظِيمُ سلطانه وبرهانه.
ثم بيّن عظمته، فقال: تَكادُ «٢» السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ تتشققن من عظمة الله تعالى وعلو شأنه، يدلّ عليه مجيئه بعد قوله: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ. وقيلَ: من دعائهم له ولداً، كقوله: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ «٣» إلخ، ويؤيده: مجيء قوله: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ «٤». وقرأ البصرىّ وشعبة:
«ينفطرن»، والأول أبلغ. ومعنى: مِنْ فَوْقِهِنَّ أي: يبتدين بالانفطار من جهتهنّ الفوقانية. وتخصيصها على التفسير الأول لأن أعظم الآيات وأدلها على العظمة والجلال من تلك الجهة، وأيضاً: استقرار الملائكة إنما هو من فوق، فكادت تنشق من كثرة الثِقل، كما في الحديث: «أطَّت السماء، وحُقّ لها أن تَئطَّ، ما فيها موضع قدم إلا وفيها ملك راكع أو ساجد» «٥».
وعلى الثاني للدلالة على التفطُّر من تحتهن بالطريق الأولى لأن تلك الكلمة الشنعاء، الواقعة في الأرض حين أثرت في جهة الفوق فلأن تؤثر في جهة التحت أولى. وقيل: «من فوقهن» : من فوق الأرض، فالكناية راجعة إلى الأرض، من قوله: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لأنه بمعنى الأرضين.
وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ خضوعاً لِمَا يرون من عظمته، وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أي:
للمؤمنين منهم، خوفاً عليهم من سطواته، ويُوحدون اللهَ وينزهونه عما لا يليق به من الصفات، حامدين له على ما أولاهم من ألطافه، متعجبين لما رأوا من تعرُّض الكفرة لسخط الله تعالى، ويستغفرون لمؤمنى أهل الأرض،
(١) قرأ ابن كثير- وحده: «يوحى» بفتح الحاء. والنّائب إما «إليك» وإما ضمير يعود إلى «ذلك» أي: مثل ذلك الإيحاء يوحى إليك.
انظر الإتحاف (٢/ ٤٤٨).
(٢) أثبت المفسر- رحمه الله- قراءة «يكاد» بالياء، وهى قراءة نافع والكسائي، وقرأ الباقون «تكاد» بتاء التأنيث. انظر: الإتحاف ٢/ ٤٤٨.
(٣) من الآية ٩٠ من سورة مريم. [.....]
(٤) من الآية ٦ من السورة نفسها.
(٥) أخرجه بنحوه أحمد فى المسند (٥/ ١٧٣) والترمذي فى (الزهد، باب فى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ٤/ ٤٨١، ح ٢٣١٢) وابن ماجة فى (الزهد، باب الحزن والبكاء ٢/ ١٤٠٢ ح ٤١٩٠)، وصحّحه الحاكم (٢/ ٥١٠) وأقره الذهبي، من حديث أبى ذر، رضي الله عنه. وقوله (أطت) : الأطيط: صوت الأقتاب، وأطيط الإبل: أصواتها وحنينها، أي: إن كثرة ما فيها من الملائكة قد أثقلها حتى أطت، وهذا مثل وإيذان بكثرة الملائكة، وإن لم يكن ثَمَّ أطيط، وإنما هو كلام تقريب، أريد به تقرير عظمة الله تعالى.
انظر النّهاية (أطط، ١/ ٥٤).
194
الذين تبرءوا من تلك الكلمات، أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ حيث لا يعاجلهم بالعقوبة على ما وصفوه به مما لا يجوز عليه.
الإشارة: حم عسق، الحاء تُشير إلى حمده لأوليائه، وتنويهه بقدرهم، والميم إلى تمليكهم التصرُّف في حس المُلك، وأسرار الملكوت، والعين إلى علو رتبتهم، أو إلى علومهم اللدنية، والسين إلى سيادتهم وسَنَا نورهم وسرهم، والقاف إلى قُربهم وتقريبهم حتى يمتحق وجودهم في وجود محبوبهم، فيمتحي القرب من شدة القرب، وبذلك صاروا مقربين. والوحي ينقسم إلى أربعة أقسام وحي أحكام، ووحي منام، ووحي إلهام، ووحي إعلام، فاختصت الأنبياء بالأول، وشاركتهم الأولياء في الثلاثة. ووحي إعلام هو إطّلاعهم على بعض المغيبات.
وقوله تعالى: تَكادُ «١» السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ أي: يتشققن من هيبته تعالى وكبريائه. وذلك لما لطُف حسها أدركت هيبة معاني أسرار الذات، وكذلك الأرواح إذا لطفت ورقّ حس بشريتها أدركت عظمة الحق وجلاله وجماله، وإذا كثفت بشريتها، بمباشرة الحس واتباع الهوى، غلظ حجابها، فبعدت عن حضرة الحق في حال قربها.
وقوله تعالى: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ، انظر جلالة قدر هذا الآدمي، حتى سخَّر الله له الملائكة الكرام يستغفرون له، ويسعون في مصالحه، فاستحِي من الله أيها العبد، إن كان لك عقل وتمييز.
ثم ردَّ على أهل الشرك، فقال:
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٦ الى ٩]
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٦) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٧) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٨) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٩)
قلت: وَكَذلِكَ: الكاف في محل النصب على المصدر، وقُرْآناً: مفعول «أوحينا».
(١) راجع الهامش رقم ٢ فى الصفحة السابقة.
195
يقول الحق جلّ جلاله: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ شركاء، يُوالونهم بالعبادة والمحبة اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ: رقيب على أحوالهم وأعمالهم، فيجازيهم بها، وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ بموكّل عليهم، تجبرهم على الإيمان، ثم نسخ بالجهاد. أو: ما أنت بموكول إليك أمرهم، وإنما وظيفتك الإنذار بما أوحينا إليك.
وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا أي: ومثل ذلك الإيحاء البديع الواضح أوحينا إليك قرآناً عربيّاً، لا لبس فيه عليك ولا على قومك، لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى أي: أهلها، وهي مكة لأن الأرض دُحِيت من تحتها، أو: لأنها أشرف البقع، وَتنذر مَنْ حَوْلَها من العرب أو من سائر البلاد. قال القشيري: وجميعُ العالَم مُحْدِقٌ بالكعبة لأنها سُرَّةُ الأرضِ. هـ.
وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ يوم القيامة لأنه تجمع فيه الخلائق، وفيه تجمع الأرواح والأشباح. وحذف المفعول الثاني من «تُنذر» الأول للتهويل، أي: لتنذر الناس أمراً فظيعاً تضيق عنه العبارة، لا رَيْبَ فِيهِ لا شك في وقوع ذلك اليوم، فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ أي: بعد جمعهم في الموقف يفترقون، فريق يُصرف إلى الجنة، وفريق إلى السعير بعد الحساب، والتقدير: فريق منهم في الجنة. والجملة: حال، أي: وتنذر يوم الجمع متفرقين.
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ في الدنيا أُمَّةً واحِدَةً إما مهتدين كلّهم، أو ضالين، وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ أي: ويُدخل مَن يشاء في عذابه، يدلّ عليه ما بعده، ومن ضرورة اختلاف الرحمة والعذاب:
اختلاف الداخلين فيهما، فلم يشأ جعل الكل أمة واحدة، بل جعلهم فريقين، فيسَّر كلاًّ لمَن خُلق له. وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ والكافرون ما لهم من شافع ولا دافع.
قال أبو السعود: والذي يقتضيه سياق النظم أن يُراد بقوله: أُمَّةً واحِدَةً الاتحاد في الكفر، كما في قوله تعالى:
كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً... الآية «١»، على أحد الوجهين، بأن يُراد بهم الذين هم في فترة إدريس، أو فترة نوح. ولو شاء لجعلهم أمة واحدة متفقة على الكفر، بأن لا يُرسل إليهم رسولاً ليُنذرهم ما ذكر من يوم الجمع، وما فيه من ألوان الأهوال، فيبقوا على ما هم عليه من الكفر، ولكن يُدخل من يشاء في رحمته إن شاء ذلك، فيُرسل إلى الكل مَن ينذرهم، فيتأثر بعضهم بالإنذار فيعرفون الحق فيوفقهم الله تعالى للإيمان والطاعة،
(١) الآية ٢١٣ من سورة البقرة.
196
ويُدخلهم في رحمته، ولا يتأثر به الآخرون، ويتمادون في غيهم، وهم الظالمون، فيبقون في الدنيا على ما هم عليه، ويصيرون في الآخرة إلى السعير، من غير وليٍّ يلي أمرهم، ولا نصيرٍ يُخلصهم من العذاب. هـ.
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ، هذه جملة مقررة لِما قبلها، من انتفاء أن يكون للظالمين وَليّ ولا نصير.
و «أم» : منقطعة، وما فيها من الإضراب للانتقال من بيان ما قبلها إلى بيان ما بعدها. والهمزة لإنكار الوقوع ونفيه على أبلغ وجه، أي: ليس المتخَذون أولياء، ولا ينبغي اتخاذ وليّ سواه. وقوله: فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ: جواب عن شرط مقدّر، كأنه قيل بعد إبطال ما اتخذوه أولياء من الأصنام: إن إرادوا ولياً في الحقيقة فالله هو الوليّ، لا وليّ سواه. وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى أي: ومن شأنه إحياء الأموات، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فهو الحقيق بأن يُتخذ ولياً، فليخصُّوه بالاتخاذ، دون مَن لا يقدر على شيء. وبالله التوفيق.
الإشارة: قال القشيري: كلُّ مَن تبع هواه، وترك لله حدّاً، أو نقض له عهداً فهو ممن اتخذ الشيطانَ وليّاً، فالله يَعلمه، لا يخفى عليه أمره، وعلى الله حسابه، ثم إن شاء عَذَّبه، وإن شاء غَفَرَ له. هـ. فيقال للواعظ أو الداعي إلى الله: لا تأسَ عليهم إن أدبروا، الله حفيظ عليهم، وما أنت عليهم بوكيل. وكان الرّسول صلّى الله عليه وسلم داعياً إلى الله، يُنذر الناس بالقرآن، فمَن تبعه كان من أهل الجنة، ومَن خالفه كان من أهل السعير، وبقي خلفاؤه من بعده، العلماء بالله، الذين يُذكِّرون الناس، ويدلونهم على الله، فمَن صَحِبَهم وتبعهم كان من أهل الجنة جنة المعارف، أو الزخارف، أو هما، ومَن انحرف عنهم كان من أهل السعير، نار القطيعة أو الهاوية.
قال القشيري: كما أنهم اليومَ فريقان فريق في [درجات] «١» الطاعات وحلاوة العبادات [أو المشاهدات] «٢»، وفريق في ظلمات الشِّركِ وعقوبات الجحد، فكذلك غداً، فريقٌ هم أهل اللقاء، وفريق هم أهل الشقاء. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ أي: أراد أن يجمعهم كلهم على الرشاد لم يكن مانع. هـ.
وقوله تعالى: فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ تحويش إلى التوجُّه إلى الله، ورفض كل ما سواه، كما قال بعضهم: اتخذ الله صاحباً، ودع الناس جانبا، ف كل مَن والى غيرَ الله تعالى خذله، ومن حُبه أبعده.
(١) فى القشيري [راحة].
(٢) ما بين المعقوفتين من تدخل المفسر فى النّقل عن القشيري.
197
ثم أمر بالرجوع إليه عند الاختلاف، فقال:
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ١٠ الى ١٢]
وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (١٠) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٢)
يقول الحق جلّ جلاله: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ، حكاية لقول رسول الله ﷺ للمؤمنين، بدليل قوله: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي أي: ما خالفكم الكفار فيه من أهل الكتاب والمشركين، من أمور الدين، واختلفتم أنتم وهم، فحُكم ذلك المختلف [فيه] «١» راجع إلى الله، ومُفوض إليه، وهو إثابةُ المحقّين فيه، ومعاقبة المبطلين. والمختار العموم، أي: وما اختلفتم فيه أيها الناس من أمور الدين، سواء رجع ذلك الاختلاف إلى الأصول أو الفروع، فحُكم ذلك إلى الله، وقد قال في آية أخرى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ «٢».
ف كل ما اختلف فيه يُردّ إلى كتاب الله، ثم إلى سنّة رسول الله، ثم إلى الإجماع، ثم القياس، فهذه هي قواعد الشريعة، وعليها بُنيت الأحكام، فمَن خرج عنها فهو مبطل، ففي كتاب الله، وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلم من علم الأصول والفروع ما فيه غُنية، فإن لم يوجد نص فالإجماع أو القياس.
وقيل: وما اختلفتم فيه من العلوم، التي لا تتصل بتكليفكم، ولا طريق لكم إلى علمه، فقولوا: الله أعلم.
ثم قال: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي أي: ذلكم العظيم الشأن الله مالكي ومدبر أمري، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ في جميع أموري، لا على غيره، وَإِلَيْهِ أُنِيبُ أرجع في كل ما يعرض لي، لا إلى أحد سواه. وحيث كان التوكُّل أمراً واحداً مستمراً، والإنابة متعددة، متجددة بحسب تجدُّد مؤداها، أُوثر في الأول صيغة الماضي، والثاني صيغة المضارع.
(١) زيادة ليست فى الأصول.
(٢) من الآية ٥٩ من سورة النّساء.
198
فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ خالقهما ومظهرهما، وهو خبر ثان لذلكم، أو عن مضمر، جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ من جنسكم أَزْواجاً نساء وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً أي: وجعل للأنعام من جنسها أزواجاً، أو:
خلق لكم من الأنعام أصنافاً ذكوراً وإناثاً، يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ أي: يكثّركم فيما ذكر من التدبير البديع، من: الذرء، وهو البث، فجعل الناس والأنعام أزواجاً، حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل، واختير لفظ «فيه» على «به» لأنه جَعَل هذا التدبير كالمنبع والمعدن للبث والتكثير. والضمير في «يذرؤكم» يرجع إلى المخاطَبين والأنعام، مغلباً فيه المخاطبون العقلاء على غيرهم.
وقال الهروي: يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ أي: يكثّركم بالتزويج، كأنه قال: يذرؤكم به. هـ. وقال ابن عطية: لفظة «ذرأ» تزيد على لفظة «خلق» معنى آخر، ليس في خلق، وهو توالي طبقاته على مرّ الزمان، وقوله: «فيه» الضمير عائد على الجعل. وقال القتبي: الضمير للتزويج. هـ.
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ أي: ليس مثله شيء [في شأن] «١» من الشئون، التي من جملتها هذا التدبير البديع. قيل:
إن كلمة التشبيه كررت لتأكيد نفي التماثل لأن زيادة الحرف بمنزلة إعادة الجملة. قال ابن عطية: الكاف مؤكدة للتشبيه، فنفي التشبيه أوكد ما يكون، وذلك أنك تقول: زيد كعمرو، وزيد مثل عمر، فإذا أردت المبالغة التامة قلت:
زيد كمثل عمرو، وجرت الآية في هذا الموضع على عرف كلام العرب، وعل هذا المعنى شواهد كثيرة. هـ.
قال النسفي: وقيل: المثل زائد، والتقدير: ليس كهو شيء، كقوله تعالى: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ «٢»، وهذا لأن المراد نفي المثليّة، وإذا لم نجعل الكاف أو المثل زيادة كان إثبات المثل. هـ. والجواب ما تقدّم لابن عطية.
وقيل: الآية جرت على طريق الكناية، كقولهم: مثلك لا يبخل، وغيرك لا يجود، أي: أنت لا تبخل لأنه إذا نفي البخل عمن هو مثله كان نفيه عنه أولى.
ثم قال تعالى: وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ سميع لجميع المسموعات بلا آذان، بصير بجميع المبصرات بلا أجفان. وذكرهما لئلا يتوهم أنه لا صفة له، كما لا مثل له، وقدّم تنزيهه عن المماثلة على وصفه بالسمع والبصر ليعلمنا أن سمعه وبصره ليس كسمعنا وبصرنا.
(١) ما بين المعقوفتين ليس فى الأصول الخطية، وأثبته من تفسير أبى السعود- رحمه الله.
(٢) الآية ١٣٧ من سورة البقرة.
199
لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مفاتيح خزائنها، يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ أي: يوسعه وَيَقْدِرُ أي:
يضيق على ما تقتضيه المناسبة المبنية على الحِكَم البالغة. إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ لا يخفى عليه شيء، فيفعل كل ما يفعل على ما ينبغي أن يفعل، على ما تقتضيه مشيئته وحكمته البالغة.
قال ابن عرفة: تضمنت هذه الآية وصفه تعالى بجميع صفات الكمال، فالقدرة في قوله: فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ والوحدانية في قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ والإرادة في قوله: يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ لأن تخصيص البعض بالبسط إنما هو بالإرادة. والعلم في قوله: إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، والكلام في قوله: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ لأن المراد به الحكم الشرعي، وهو خطاب الله تعالى المعلّق بأفعال المكلفين، وخطابه كلامه. هـ. زاد في الحاشية الفاسية:
يعني وكل وصف من هذه الأوصاف يستلزم الحياة، مع أنه قال: يُحْيِ الْمَوْتى والإحياء إنما يكون من الحي. هـ.
الإشارة: قوله تعالى: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ قال القشيري: ويُقال إذا لم تهتدوا إلى شيء وتعرضت منهم الخواطر فَدَعُوا تدبيركم والتجئوا إلى ظلِّ شهود تقديره، [وانتظروا] «١» ما الذي ينبغي لكم أن تفعلوا بحُكم تيسيره. ويقال: إذا اشتغلت قلوبكم بحديث أنفسكم، فلا تدرون أبالسعادة جَرَى حُكْمُكم، أو بالشقاوة جرى اسمُكم، فَكِلوا الأمرَ فيه إلى الله، واشتغلوا في الوقت بأمر الله، دون التفكُّر فيما ليس له سبيل إلى عِلْمِه من عواقبكم. هـ.
وقوله: فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي: شققهما من أسرار الغيب، ومتجلٍّ بهما وسائر الكائنات. جعل لكم في عالم الحكمة من أنفسكم أزواجاً ليقع التناسل، بعضكم من بعض، ومن الأنعام أزواجاً ليقع التناسل فيها وأما بحر الجبروت فليس كمثله شيء. وقال بعض العارفين: ليت شعري هل معه شيء حتى يشبهه أو لا يشبهه، كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان. فقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ أي: ليس معه شيء حتى يشبهه.
وقال الورتجبي عن الواسطي: [أمور] «٢» التوحيد كلها خرجت من هذه الآية لأنه ما عبّر عن الحقيقة بشيء إلا والعلة مصحوبة، والعبارة منقوضة لأن الحق لا يُنعت على أقداره لأن كل ناعت مُشرف على المنعوت، وجلّ أن يشرف عليه مخلوق. وقال الشبلي: كل ما ميزتموه بأوهامكم، وأدركتموه بعقولكم في أتم معانيكم، فهو مصروف إليكم، ومردود عليكم، محدث مصنوع مثلكم لأن حقيقته عالية عن أن تلحقها عبارة، أو يدركها وهم،
(١) ما بين المعقوفتين أثبته من القشيري.
(٢) فى عرائس البيان: (رموز).
200
أو يحيط بها علم، كلا، كيف يحيط به علم، وقد اتفق فيه الأضداد، بقوله: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ «١» ؟، أيّ عبارة تخبر عن حقيقة هذه الألفاظ؟ كلاّ، قصرت عنه العبارة، وخرست الألسن لقوله:
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ. هـ.
ولما عرّف بذاته وصفاته، ذكر شرائعه لعباده، فقال:
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ١٣ الى ١٤]
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١٤)
يقول الحق جلّ جلاله: شَرَعَ أي: بيَّن وأظهر لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً ومَن بعده مِن أرباب الشرائع، وأولي العزم من مشاهير الأنبياء- عليهم السلام- وأمَرَهم به أمراً مؤكداً. وفي بيان نسبته إلى المذكورين تنبيه على كونه ديناً قديماً، أجمع عليه الرسل، على أن تخصيصهم بالذكر لِمَا ذكر من علو شأنهم، ولاستمالة قلوب الكفرة إليه لاتفاق الكل على نبوة جُلهم. قيل: خصّ نوحاً وإبراهيم بالوصية، ونبينا محمدا صلّى الله عليه وسلم بالوحي لأن متعلق الوصية غير الموصي، بل الموصى [إليه] «٢» به، ومتعلق الوحي: الموحى إليه بذاته، ولمَّا كان- صلّى الله عليه وسلم- آخر الأنبياء جعل المُلقى إليه وحياً، ولمَّا كان ما قبله من الأنبياء متبعين له، ومنذِرين بشريعته، أنه سيظهر آخر الزمان نبي اسمه «محمد»، كان ذلك وصية منهم لقومهم على الإيمان به. انظر ابن عرفة.
(١) من الآية ٣ من سورة الحديد.
(٢) ما بين المعقوفتين غير موجود فى النّسخة الأم. [.....]
201
قلت: والظاهر أنه تفنُّن «١»، وفرار من تكرار لفظ الوحي إذ الموحى به هو قوله: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وهو الذي أوحي إلى نبينا- عليه الصلاة والسّلام. وقال أبو السعود: والتعبير عن ذلك عند نسبته صلّى الله عليه وسلم ب «الذي» لتفخيم شأنه من تلك الحيثية، وإيثار الإيحاء على ما قبله وما بعده من التوصية لمراعاة ما وقع [في] «٢» الآيات المذكورة- يعني في صدر السورة، من قوله: كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ... وفي آخرها من قوله: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا، ولِما في الإيحاء من التصريح برسالته- صلّى الله عليه وسلم- القامع لإنكار الكفرة. والالتفات إلى نون العظمة إظهاراً لكمال الاعتناء بإيحائه، وهو السر في تقديمه [على ما قبله] «٣» مع تقدمه عليه زماناً. وتقديم وصية نوح- عليه السلام- للمسارعة إلى بيان كون المشروع لهم ديناً قديماً- أي: فلا ينبغي إنكاره- وتوجيه الخطاب إليه- عليه الصلاة والسّلام- بطريق التلوين للتشريف، والتنبيه على أنه تعالى شرع لهم على لسانه عليه الصلاة والسّلام. هـ.
ثم فسَّر ما وصاهم به فقال: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ أي: دين الإسلام، الذي هو توحيد الله تعالى، وطاعته، والإيمان بكتبه ورسله، وبيوم الجزاء، وسائر أركان الإيمان. والمراد بإقامته: تعديل أركانه، وحفظه من أن يقع فيه زيغ، والمواظبة عليه، والتشمير في القيام به. وموضع «أن أقيموا» إما: نصب، بدل من مفعول «شرع»، أو: رفع، خبر جواب عن سؤال مقدَّر، كأن قائلاً قال: وما ذاك؟ فقال: هو إقامة الدين. وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ولا تختلفوا في الدين، فالجماعة رحمة، والفرقة عذاب، والمراد: الاختلاف في الأصول، دون الفروع المختلفة حسب اختلاف الأمم باختلاف الأعصار، كما ينطق به قوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً «٤».
كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ أي: عظم وشقّ عليهم ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ من التوحيد، ورفض عبادة الأصنام، الذي هو إقامة الدين، اللَّهُ يَجْتَبِي أي: يجلب ويجمع إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ بالتوفيق والتسديد، وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ يُقبل على طاعته. فالاجتباء يرجع إلى تصديق القلب، والإنابة إلى توفيق الطاعة فى الظاهر.
(١) كتب على هامش النّسخة الأم مايلى: لا يا أستاذ ما هو بتفنن، بل هو مقصود لحكمة، ولو كان للتفنن لما كرر الوصية مرتين، وخص لفظ الوحى بسيد البشر صلّى الله عليه وسلم، ولا بدل «وصينا» الثانية بلفظ الأمر، كأمرنا وأوجبنا وفرضنا ونحو ذلك. فالحق أنه عبّر فى حق الأنبياء بالوصية دون الوحى للإشارة إلى أنهم مجرد نواب عنه صلّى الله عليه وسلم. هـ.
(٢) فى الأصول [من].
(٣) فى تفسير أبى السعود [على ما بعده].
(٤) فى الآية ٤٨ من سورة المائدة.
202
وَما تَفَرَّقُوا أي: أهل الكتاب من بعد أنبيائهم إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ إلا بعد أن علموا أن الفُرقة ضلال، وأمر متوعّد عليه على ألسنة الرسل، بَغْياً بَيْنَهُمْ حسداً، وطلباً للرئاسة، والاستطالة بغير حق، أو: ما تفرّقوا في الدين الذي دُعوا إليه، وهو الإسلام، ولم يؤمنوا كما آمن بعضهم إلا مِن بعد ما جاءهم العلم بحقيقته لما يشهدونه في رسول الله ﷺ والقرآن من دلائل الحقيّة، حسبما وجدوه فى كتتبهم، أو: العلم بمبعثه صلّى الله عليه وسلم.
وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ، وهي العِدَة بتأخير العقوبة إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو يوم القيامة لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي: لوقع القضاء بينهم، وأهلكوا حين افترقوا لعظم ما اقترفوا. وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ وهم المشركون لَفِي شَكٍّ مِنْهُ أي: القرآن مُرِيبٍ مُوقع في الريبة. وهو بيان لكيفية كفر المشركين، بعد بيان كيفية كفر أهل الكتاب، أي: وإن المشركين الذين أُوتوا القرآن من بعدهم، أي: من بعد ما أورث أهل الكتاب كتابهم، لفي شك من القرآن مريب. والظاهر: أن التفرُّق المذكور هنا إنما هو فى شأن الرّسول صلّى الله عليه وسلم لأن سياق النظم إنما هو لبيان أحوال هذه الأمة، وإنما ذكر مَن ذكر من الأنبياء- عليهم السلام- لتحقيق أن ما شرع لهؤلاء دين قديم، أجمع عليه أولئك الأعلام- عليهم الصلاة والسلام- تأكيداً لوجوب إقامته، وتشديداً للزجر عن التفرُّق والاختلاف. فالتعرُّض لبيان تفرُّق أممهم عنه ربما يُوهم الإخلال بذلك المرام. قاله أبو السعود.
الإشارة: الذي شرع الله من الدين لأقوياء عباده، ووصّى به خواص أنبيائه: أن يشاهدوه وحده في الباطن، ويقوموا برسم العبودية في الظاهر، وهذا هو إقامة الدين، الذي يجب الاتفاق عليه، لكن لا ينال هذا إلا بعد موت النفوس، وحط الرؤوس، وبذل الفلوس. ولذلك كَبُرَ على أهل الفَرْق، قال تعالى: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ، فإذا وفق العبد لفعل ما تقدم، وسلك طريقه اجتباه ربه لحضرته، بعد أن هداه لسلوك طريقته. قال تعالى:
اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ، وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ فالاجتباء جذب، والإنابة سلوك، الاجتباء للحقيقة، والإنابة للشريعة والطريقة. وقدّم الاجتباء على الاهتداء اهتماماً بأمره لأن الجذب عناية يختص به أهل الولاية، والإنابة هداية ينالها كل مَن تمسّك بالشريعة. وحقيقة الجذب: شهود الخلق بلا خلق، وحقيقة السلوك المحض: شهود الخلق بلا حق، وحقيقة الجذب في السلوك: شهود الحق في قوالب الخلق، أو: شهود الخلق في مظهر الحق.
فالناس ثلاثة: مجذوبون فقط، سالكون فقط، مجذبون سالكون، فالأولان لا يصلحان للتربية، والثالث هو الذي يصلح للتربية، وهو الذي يتقدمه السلوك، ثم يختطف إلى الحضرة في مقام الفناء، ثم يرجع إلى السلوك في مقام البقاء. وما وقع من التفرُّق والاختلاف في جانب النبوة، يقع في جانب الولاية، سُنَّة ماضية، فيجب على الداعي إلى الله أن يجهد نفسه في الدعاء إليه، ولا يبالى باختلافهم، كما قال تعالى:
203

[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ١٥ الى ١٦]

فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٥) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (١٦)
يقول الحق جلّ جلاله: فَلِذلِكَ فَادْعُ أي: فلأجل ذلك التفرُّق، ولما حدث بسببه من تشعُّب الكفر شعباً، فادع إلى الاتفاق والائتلاف على الملّة الحنيفيّة القيّمة، وَاسْتَقِمْ عليها، وعلى الدعوة إليها كَما أُمِرْتَ كما أمرك الله. أو: لأجل ما شرع لكم من الدين القويم القديم، الحقيق بأن يتنافس فيه المتنافسون، فادع الناس كافة إلى إقامته، والعمل بموجبه فإن كلاًّ من تفرقهم وشكِّهم، سبب للدعوة إليه والأمر بها، أو: فإلى ذلك الدين المشروع فادع، واستقم عليه، وعلى الدعوة إليه، كما أُمرت وأوحي إليك.
وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ الباطلة، وعقائدهم الزائغة، وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ أيّ كتاب كان من الكتب المنزلة، لا كالذين آمنوا ببعض وكفروا ببعض، وهم أهل الكتاب، أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا «١»، وفيه تحقيق للحق، وبيان لاتفاق الكتب في الأصول، وتأليف لقلوب أهل الكتابين، وتعريض بهم. وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ في الحكم إذا تخاصمتم فتحاكمتم إليّ، أو: في تبليغ الشرائع والأحكام، لا أخص بعضاً دون بعض، أو:
لأُسوِّي بيني وبينكم، ولا آمركم بما لا أعملُ به، ولا أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه. أو: لا أفرق بين أكابركم وأصاغركم. واللام: إما على حقيقتها، أي: أمرت بذلك لأعدل، أو: زائدة، أي: أمرت أن أعدل بينكم.
اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ خالقنا جميعاً، ومتولي أمورنا، كلنا عبيده، لَنا أَعْمالُنا لا يتخطانا ثوابها أو عقابها، وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا يجاوزكم وبالها إلى غيركم، أو: لنا ديننا التوحيد، ولكم دينكم الشرك. لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ أي: لا خصومة لأن الحق قد وضح، ولم يبق للمحاجّاة حاجة، ولا للفصاحة محل، سوى المكابرة.
(١) من الآية ١٥١ من سورة النّساء.
204
اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا يوم القيامة وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ المرجع، فيظهر هناك حالنا وحالكم. وهذه محاججة، لا متاركة، فلا نسخ فيها.
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ يُخاصمون في دينه مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ من بعد ما استجاب له الناس، ودخلوا فيه، ليردّوهم إلى دين الجاهلية، كقوله: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً... «١»، والتعبير عن ذلك بالاستجابة باعتبار دعوتهم إليه، أو: من بعد ما استجاب الله لرسوله صلّى الله عليه وسلم وأيّده بنصره، كيوم بدر، أو: من بعد ما استجاب له أهل الكتاب، بأن أقروا بنعوته صلّى الله عليه وسلم، واستفتحوا به قبل مبعثه. وذلك أن اليهود والنصارى كانوا يقولون للمؤمنين: كتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، فنحن خيرٌ منكم، فنزلت:
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ... الآية. «٢» حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ باطلة، عِنْدَ رَبِّهِمْ، وإذا كانت داحضة من حيث كونه ربّاً رءوفا فأحرى من حيث كونه قاهراً منتقماً. وسمّاها حُجة، وإن كانت شُبهة لزعمهم أنها حُجة.
وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ عظيم، لمكابرتهم الحق بعد ظهوره وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ لا يُقادر قدره.
الإشارة: إذا استولت الغفلة على الناس، وتفرّقت القلوب، يجب على أهل البصيرة النافذة أن يتحركوا لوعظ الناس وتذكيرهم، ولا يلتفتون إلى أهوائهم، وما هو مشغوفون به من حظوظهم. قال تعالى: فَلِذلِكَ فَادْعُ، وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ، وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ فتدعون الناس إلى التوحيد، وإقامة الشرائع، بامتثال الأوامر، واجتناب المناكر، ثم يدسونهم إلى حضرة الحق، إن رأوا منهم مَن هو أهله، فمَن فعل هذا كان قدره عند الله عظيماً، وجاهه كبيراً. وفي الحديث عن رسول الله ﷺ أنه قال: «والذي نفسُ محمد بيده إن شئتُم لأُقسِمَنَّ لكم: إنَّ أحبَّ عبادِ اللهِ إلى الله الذين يُحَبَّبُون اللهُ إلى عباده، ويحببون عباد اللهِ إلى اللهِ، ويمشُون في الأرض بالنصيحة».
ومن وظيفته أن يقول: آمنتُ بما أنزل الله من كتاب، وما بعث من نبي ووليّ، وأمُرتُ لأعدل بينكم في الوعظ، والنصيحة، وإمداد المدد، لكن يأخذ كل واحد على قدر صدقه وتعظيمه، ثم يقول: (الله ربنا وربكم)، يخص برحمته مَن يشاء، لنا أعمالنا: ما يليق بنا من عبادة القلوب، ولكم أعمالكم: ما تطيقونه من عبادة الجوارح، لا خصومة بيننا وبينكم لأن قلوبنا سالمة لكم. الله يجمعُ بيننا وبينكم في الدنيا بجمع متصل، وإليه مصير الكل بالموت والفناء. والذين يُحاجون في الله، أي: يخاصمون في طريق الله، ويقولون: انقطعت التربية، حُجتهم داحضة، وعليهم غضب البُعد، ولهم عذاب الكدّ والتعب.
(١) الآية ١٠٩ من سورة البقرة.
(٢) انظر: تفسير البغوي (٧/ ١٨٨).
205
ثم حضّ على التمسك بكتابه لأنه جامع لما أنزل الله من كتاب، فقال
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ١٧ الى ١٩]
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (١٨) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (١٩)
يقول الحق جلّ جلاله: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ القرآن، أو: جنس الكتاب، بِالْحَقِّ ملتبساً بالحق في أحكامه وأخباره، أو: بما يحق إنزاله من العقائد والأحكام، وَالْمِيزانَ وأنزل العدل والتسوية بين الناس، أي: أنزله في كتبه المنزلة، وأمر به، أو: الشرع الذي يُوزن به الحقوق، ويساوي بين الناس. وقيل: هو عين الميزان، أي: الآلة، أنزله في زمن نوح عليه السلام. وَما يُدْرِيكَ أيَّ شيء يجعلك عالماً لَعَلَّ السَّاعَةَ التي أخبر بها الكتاب الناطق بالحق قَرِيبٌ مجيئها. وضمّن الساعة معنى البعث فذكر الخبر، وقيل: وجه المناسبة في ذكر الساعة مع إنزال الكتاب: أن الساعة يقع فيها الحساب ووضع الموازين بالقسط، فكأنه قيل: أمركم الله بالعدل والتسوية، والعمل بالشرائع، فاعملوا بالكتاب والعدل قبل أن يفاجئكم يوم حسابكم، ووزن أعمالكم.
يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها استعجال إنكار واستهزاء، وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ خائفون مِنْها وجلون لهولها، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ الكائن لا محالة، أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ يجادلون فيها، من: المرية، أو: المماراة والملاحاة، أو: من: مريت الناقة: إذا مسحت ضرعها بشدة للحلب لأن كُلاًّ من المتجادلين يُخرج ما عند صاحبه بكلام فيه شدة. لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ عن الحق لأن قيام الساعة أظهر من كل ظاهر، وقد تواترت الشرائع على وقوعها، والعقول تشهد أنه لا بد من دار الجزاء، وإلا كان وجود هذا العالم عبثاً.
اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ أي: برّبهم في إيصال المنافع ودفع المضار، أوصل لهم من فنون الألطاف ما لا تكاد تناله أيدي الأفكار والظنون. وقيل: هو مَن لطُف بالغوامض علمه، وعظُم عن الجرائم حلمه، أو: مَن ينشر المناقب
206
ويستر المثالب «١»، أو: يعفو عمَّن يهفو، أو: مَن يعطي العبد فوق الكفاية، ويكلّفه من الطاعة دون الطاقة. وقال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن الفاسي رضي الله عنه: الظاهر حمل العباد على من اصطفاه، بدليل الإضافة المفيدة للتشريف، وأنه تعالى لطيف بهم رفيق، ومن ذلك: حمايتهم من الدنيا، ومما يطغى من الرزق، وعليه ينزل قوله: يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ. هـ. أي: يرزق على حسب مشيئته، المبنية على الحِكَم البالغة. وفي الحديث: «إِن من عبادي مَن لا يُصْلِحُ إيمانه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإِنَّ من عبادي المؤمنين مَن لا يُصْلِحُ إيمانه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسده ذلك» «٢».
وأما قوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها «٣» فهو وعد لجميع الخلق، وهو مبني على المشيئة المذكورة هنا، فلا منافاة بينهما، خلافاً لابن جزي «٤» لأن المشيئة قاضية على ظاهر الوعد، ولا يقضي ظاهر الوعد عليها «٥». انظر الحاشية.
وَهُوَ الْقَوِيُّ الباهر القدرة، الغالب على كل شيء، الْعَزِيزُ المنيع الذي لا يُغْلَب.
الإشارة: الميزان هو العقل إذ به تعرف الأشياء ومقاديرها، نافعها وضارها. فالعقول متفاوتة كالموازين، فبعض الموازين لرقته لا يُوزن فيها إلا الشيء الرفيع، كالذهب، والإكسير، والفضة، والطيب الرفيع، وبعضها يصلح لوزن الأشياء اللطيفة، دون الخشينة، كميزان العطار وشبهه، وبعضها يصلح للأشياء الخشينة المتوسطة، كميزان الغزالين والحاكة، وبعضها لا يصلح إلا للخشين، كالفحم وشبه، وبعضها لا يصلح إلا للخشين الكثير، كالذي يُوزن به القناطير من الشيء الخشين، فالأول عقول العارفين، لا يوزن فيها إلا أنوار التوحيد وأسرار التفريد، لا يصلح لغيرها، والثاني للعباد، والزهّاد، والعلماء الصالحين، والثالث للمتجمدين من العلماء، والرابع لعامة المؤمنين، والخامس للفجار والكفار، وفيهم نزل: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها... الآية، وما قبله هو قوله:
وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها.
(١) فى الأصول [المثاقب] والمثبت من تفسير النّسفى- رحمه الله تعالى-.
(٢) أخرجه الديلمي (الفردوس ٥/ ٢٥٠ ح ٨١٠٠) والبيهقي فى الأسماء والصفات (ص ١٢١)، وأخرجه مطولا البغوي فى التفسير (٧/ ١٩٤- ١٩٥). وعزاه السيوطي فى الدر (٥/ ٧٠٤- ٧٠٥) لابن أبى الدنيا فى كتاب الأولياء، والحكيم الترمذي فى نوادر الأصول، وابن مردويه، وأبى نعيم فى الحلية (٨/ ٣١٨)، وابن عساكر فى تاريخه، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه. وانظر كشف الخفاء (١٧٣٧).
(٣) من الآية ٦ من سورة هود.
(٤) قال ابن جزى- رحمه الله تعالى: يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ يعنى الرّزق الزائد على المضمون لكلّ حيوان فى قوله: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها أي: ما تقوم به الحياة، فإن هذا على العموم لكلّ حيوان طول عمره، ولزائد خاص بمن شاء الله.
(٥) وجدت على هامش النّسخة الأساسية مايلى: «الحق ما قاله ابن جزى، وأن المشيئة متعلقة بالتوسعة المسماة فى العرف رزقا أيضا، لا بأصل الرّزق، ويدل على ذلك قوله تعالى عقب هذا مباشرة: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ... الآية، ولا مجملة فهى بمعنى قوله تعالى: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ...... فهذا قوله تعالى: وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ فالجمع لا بد منه، والمشيئة متعلقة بوقت الجمع. انتهى.
207
وقوله تعالى: اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ، اعلم أن لطفه سبحانه بعباده لا ينحصر ولا ينفك عنه مخلوق، من ظن انفكاك لطف الله عن قدره فذلك لقصور نظره، فمِن لطفه سبحانه بخلقه: أنه أعطاهم فوق الكفاية، وكلَّفهم دون الطاقة. ومِن لطفه سبحانه: تسهيله الأرزاق، وتيسير الارتفاق، فلو تفكّر الإنسان في اللقمة التي توضع بين يديه، ماذا عمل فيها من العوالم العلوية والسفلية لتحقق بغاية عجزه، وتيقن بوجود لطفه، وكذا ما يحتاج إليه من مشروب، وملبوس، ومطعوم. ومن لطفه سبحانه: توفيق الطاعات، وتسهيل العبادات، وتيسير الموافقات. ومن لطفه سبحانه: حفظ التوحيد في القلوب، واطلاعها على مكاشفة الغيوب، وصيانة العقائد عن الارتياب، وسلامة القلوب عن الاضطراب. ومن لطفه سبحانه: إبهام العاقبة لئلا يتكلوا أو ييأسوا. ومن لطفه سبحانه بالعبد: إخفاء أجله عليه لئلا يستوحش إن كان قد دنا أجله. ومن لطفه سبحانه بخواصه: ستر عيوبهم، ومحو ذنوبهم، حتى وصلهم بما منه إليهم، لا بما منهم إليه، فكشف لهم عن أسرار ذاته، وأنوار صفاته، فشاهدوه جهراً، وعبدوه شكراً.
وقوله تعالى: يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ إما رزق الأرواح، أو رزق الأشباح، وإلى هذا القسمين أشار قوله:
[سورة الشورى (٤٢) : آية ٢٠]
مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠)
يقول الحق جلّ جلاله: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ، سُمِّي ما يعمله العامل مما يبتغي به الفائدة المستقبلة حرثاً، مجازاً لأن الحرث: إلقاء البذر في الأرض لننظر نتاجه، فأطلقه على العمل، لجامع حصول النتاج، أي: مَن كان يريد بأعماله ثواب الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ نضاعف له ثوابه، الواحدة بعشر إلى سبعمائة فما فوقها، أو: نَزِدْ له في توفيقه وإعانته، وتسهيل سبيل الخيرات والطاعات عليه. وَمَنْ كانَ يُرِيدُ بأعماله حَرْثَ الدُّنْيا وهو متاعها وطيباتها نُؤْتِهِ مِنْها أي: شيئاً منها، حسبما قسمناه له، لا ما يريده ويبتغيه، وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ إذا كانت همته مقصورة على الدنيا. ولم يذكر في عامل الآخرة أن رزقه المقسوم يصل إليه، للاستهانة بذلك إلى جنب ما هو بصدده، من زكاء أعماله، وفوزه في المآب لأن ما يُعطى في الآخرة يستحقر أن يُذكر معه غيره من الدنيا.
الإشارة: قد مرّ مرارا ذم الدنيا وصرف الهمة إليها، وفي الحديث عن أبي سعيد الخدري: أنه سمع رسول الله ﷺ يقول في بعض خطبه: «أيها الناس، أَقبِلوا على ما كلفتموه من صالح آخرتكم، وأَعْرِضوا عما ضُمِنَ لكم من أمر
دنياكم، ولا تشغلوا «١» جوارحكم جوارح غذيت بنعمته في التعرُّض لخطأ بمعصيته، واجعلوا شغلكم بالتماس معرفته، واصرفوا هممكم إلى التقرُّب بطاعته، إنه مَن بدأ بَنَصِيبه من الدنيا فَاتَه نصيبُه من الآخرة، ولم يُدرك منها ما يريد، ومَن بدأ بنصيبه من الآخرة وصل إليه نصيبه من الدنيا، وأدرك من الآخرة ما يريد» «٢».
قال الورتجبي: حرث الآخرة: مشاهدته ووصاله وقربه، وهذا للعارفين، وحرث الدنيا: كرامات الظاهر، ومَن شغلته الكرامات احتجب بها عن الحق. ثم قال: عن بعضهم: مَن عَمِل لله محبة له، لا طلباً للجزاء، صغر عنده كل شيء دون الله، فلا يطلب حرث الدنيا، ولا حرث الآخرة، بل يطلب الله من الدنيا والآخرة. ثم قال: حرث الدنيا: قضاء الوطر منها، والجمع منها، والافتخار بها، ومَن كان بهذه الصفة فما له في الآخرة من نصيب. هـ.
وقال بعض الشعراء في هذا المعنى:
يا موثر الدنيا على دينه ومشترٍ دنياه بالآخره
بعتَ الذي يبقى بما ينقضي تبّاً لها من صفقة خاسره.
ثم ذكر مقابل قوله: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ، كأنه تعالى لمّا ذكر أنه شرع ما وصى به، أخذ ينكر ما شرع غيره، فقال:
أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ...
[سورة الشورى (٤٢) : آية ٢١]
أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢١)
يقول الحق جلّ جلاله: أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ، «أم» : منقطعة، أي: بل ألهم شركاء، أو: معادلة لمحذوف، تقديره: أقبلوا ما شرعت لهم من الدين، أم لهم آلهة شرعوا من الدين ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ أي: لم يأمر به، وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ أي: القضاء السابق بتأخير الجزاء، أي: ولولا العِدة بأن الفصل يكون يوم
(١) هكذا فى جميع الأصول.
(٢) لم أقف عليه، رغم كثرة البحث. [.....]
القيامة لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بين الكفار والمؤمنين. أو: لعجلت لهم العقوبة. وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وإن المشركين لهم عذاب أليم في الآخرة، وإن أخّر عنهم في دار الدنيا.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ٢٢]
تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٢٢)
تَرَى الظَّالِمِينَ المشركين في الآخرة مُشْفِقِينَ خائفين مِمَّا كَسَبُوا من جزاء كفرهم، وَهُوَ واقِعٌ نازل بِهِمْ لا محالة، أشفقوا أم لم يُشفقوا. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ كأنّ روضة جنة المؤمن أطيب بقعة فيها وأنزهها، فالروضات: المواضع المونقة النضرة، فهم مستقرون في أطيب بقعها وأنزهها. لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي: ما يشتهون من فنون المستلذات حاصل لهم عند ربهم، ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ الذي لا يُقادر قدره، ولا يبلغ غايته على العمل القليل، فضلاً من الكبير الجليل.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ٢٣]
ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لآَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (٢٣)
ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ تعالى، عِبادَهُ فحذف عائد الموصول. ويقال: بشَّر وبشر، بالتشديد والتخفيف، وقرئ بهما «١». ثم وصف المبشرين بقوله: الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ دون غيرهم.
الإشارة: كل مَن ابتدع عملاً خارجاً عن الكتاب والسنّة فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله، فينسحب عليه الوعيد، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «مَن سنَّ سُنَّة سَيِّئةً فعليه وزرُهَا وَوِزرُ مَن عَمِلَ بها إلى يوم القيامة» «٢».
وقوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ قال القشيري: في الدنيا جنة الوصلة، ولذاذة الطاعة والعبادة، وطيب الأُنْسِ في أوقات الخلوة، وفي الآخرة في روضات الجنات، إن أرادوا دوامَ اللطفِ دامَ لهم، وإن أرادوا تمامَ الكشف كان لهم. هـ.
ولمَّا كان من شأن المبشر بالخير أن يلتمس الأجر، نزّه نبيه عن ذلك، فقال:
[سورة الشورى (٤٢) : آية ٢٣]
ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لآَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (٢٣)
(١) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي «يبشر» بفتح الياء، وسكون الموحدة، وضم الشين مخففة، من «بشر» الثلاثي. وقرأ الباقون بضم الياء وفتح الباء وكسر السين مشددة للتكثير. انظر الإتحاف (٢/ ٤٤٩).
(٢) أخرجه بتمامه مسلم، فى (الزكاة، باب الحث على الصدقة، ٢/ ٧٠٥، ح ١٠١٧) من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه.
210
يقول الحق جلّ جلاله: قُلْ يا محمد لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ على التبليغ أَجْراً. رُوي أنه اجتمع المشركون في مجمع لهم، فقال بعضهم لبعض: أترون أن محمداً يسأل على ما يتعاطاه أجراً؟ فنزلت. أي:
لا أسألكم على التبليغ والبشارة أجراً، أي: نفعاً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى إلا أن تودوا أهل قرابتي، ويجوز أن يكون الاستثناء منقطعاً، أي: لا أسألكم أجراً قط، ولكن أسألُكم أن تودُّوا قرابتي الذي هم قرابتكم، ولا تؤذوهم. ولم يقل: إلا مودّة القربى، أو: المودة للقربى لأنهم جُعلوا مكاناً للمودة، ومقرّاً لها، مبالغة، كقولك: لي في مال فلان مودة، ولي فيهم حبّ شديد، تريد: أحبهم، وهم مكان حبي ومحله. وليست «في» بصلة للمودة كاللام، إذا قلت:
إلا المودة للقربى، وإنما هي متعلقة بمحذوف، تعلُّق الظرف. به والتقدير: إلا المودة ثابتة في القربى، ومتمكنة فيها. والقربى: مصدر، كالزلفى والبشرى، بمعنى القرابة. والمراد: في أهل القربى.
رُوِي أنه لما نزلت قيل: يا رسول الله! مَن أهل قرابتك هؤلاء، الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال: «عليّ وفاطمة وابناهما» «١». وقيل: معناه: إلا أن تودّوني لقرابتي فيكم، ولا تؤذوني، إذ لم يكن بطن من بطون قريش إلا وبين رسول الله ﷺ وبينهم قرابة. وقيل: القربى: التقرُّب إلى الله تعالى، أي: إلا أن تحبُّوا الله ورسوله في تقرُّبكم إليه بالطاعة والعمل الصالح.
وَمَنْ يَقْتَرِفْ أي: يكتسب حَسَنَةً أيّ حسنة كانت، فيتناول مودة ذي القربى تناولاً أولياً. وعن السدي: أنها المرادة، قيل: نزلت فى الصدّيق رضي الله عنه ومودته فيهم، والظاهر: العموم، نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً أي:
نضاعفها له في الجنة. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لمَن أذنب [بِطَوْلِه] «٢» شَكُورٌ لمَن أطاع بفضله، بتوفية الثواب والزيادة، أو: غفور: قابل التوبة، شكور: حامل عليها.
الإشارة: محبة أهل البيت واجبة على البشر، حرمةً وتعظيماً لسيد البشر، وقد قال: «مَن أَحبهم فبحبي أُحبهم، ومَن أبغضهم فببغضي أبغضهم» «٣» فمحبة الرسول صلّى الله عليه وسلم ركن من أركان الإيمان، وعقد من عقوده، لا يتم الإيمان إلا بها، وكذلك محبة أهل بيته. وفى الحديث صلّى الله عليه وسلم: «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يحبني، ولا يحبني حتى يحب ذوي قرابتي، أنا حرْب لمَن حاربهم، وسلْم لمَن سالمهم، وعدوٌّ لمَن عاداهم، ألا مَن آذى قرابتي فقد آذاني، ومَن آذاني
(١) أخرجه الطبراني فى الكبير (١١/ ٤٤٤، ح ١٢٢٥٩) وعزاه السيوطي فى الدر (٥/ ٧٠١) لابن المنذر وابن أبى حاتم والطبراني وابن مردويه، بسند ضعيف، من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنه.
(٢) فى الأصول: [بعدله] والمناسب ما أثبته، وهو الذي فى تفسير النّسفى. والطّول: الفضل والغنى والسعة. انظر اللسان (طول ٤/ ٧٢٨).
(٣) ورد «من أحب هؤلاء، فقد أحبنى، ومن أبغضهم فقد أبغضنى»
يعنى الحسن والحسين وفاطمة وعليا- رضي الله عنهم أجمعين.
والحديث ذكره فى كنز العمال ح (١٠٣) وعزاه لابن عساكر عن زيد بن أرقم.
والأحاديث فى محبة أهل البيت كثيرة. اللهم صلّى على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
211
فقد آذى الله تعالى» «١». وقال أيضا- عليه الصلاة والسّلام: «إني تاركٌ فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلُّوا، كتابُ الله تعالى وعترتي» «٢»، فانظر كيف قرنهم بالقرآن في كون التمسُّك بهم يمنع الضلال.
وقال صلى الله عليه وسلم: «مَن مات على حب آل محمد مات شهيداً، ألا ومَن مات على حب آل محمد بدّل الله له زوار قبره ملائكة الرحمة، ألا ومَن مات على حب آل محمد مات على السنّة والجماعة، ألا ومَن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوب «٣» بين عينية: آيس من رحمة الله» «٤». انظر الثعلبي. زاد بعضهم: ولو عصوا وغيّروا في المذهب فنكره فعلَهم ونحب ذاتهم. قال الشيخ زروق في نصيحته: وما ينزل بنا من ناحيتهم نعدّه من القضاء النازل. هـ.
وفي همزية البوصيري- رحمه الله:
آلَ بيتِ النبيِّ إِنَّ فؤادِي ليسَ يُسْلِيهِ عَنكم التَّأسَاء «٥».
وقال آخر:
آلَ بيتِ رسولِ اللهِ حُبَّكُمُ فَرْضٌ من الله في القرآنِ أَنْزَلَهُ
يَكْفِيكُمُ من عظيمِ المجدِ أَنَّكُم مَنْ لَم يُصَلِّ عليكم لا صَلاَةَ لَهُ «٦».
وقوله تعالى: وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً، الزيادة في الدنيا بالهداية والتوفيق، وفي الآخرة بتضعيف الثواب وحسن الرفيق. قال القشيري: إذا أتانا بالمجاهدة زدناه بفضلنا تحقيق المشاهدة. ويقال: مَن يقترفْ حسنةَ الوظائف نَزِدْ له حُسْنَ اللطائف. ويقال: الزيادة ما لا يصل إليه العبد بوسيلة، مما لا يدخل تحت طوق البشر. هـ.
ثم ردّ على مَن طعن فى الوحى، الذي نفى الأجر على تبليغه، فقال:
(١) أخرج أحمد فى المسند (ح ٩٦٥٩) وابن حبان (موارد ح ٢٢٤٤) وابن أبى شيبة (٢/ ٩٦) والطبراني فى الكبير (٣/ ٣١) عن أبى هريرة، قال: نظر النبي ﷺ إلى على والحسن والحسين وفاطمة فقال: «أنا حرب لمن حاربكم وسلم لمن سالمكم». وأخرجه الترمذي فى المناقب، باب فضل فاطمة، ح ٣٨٧٥) عن زيد بن أرقم، بلفظ «أنا حرب لمن حاربتم، وسلم لمن سالمتم».
(٢) أخرجه الترمذي وحسّنه فى (المناقب، باب مناقب أهل بيت النبي ﷺ ٥/ ٦٢١، ح ٣٧٨٦) من حديث جابر بن عبد الله، و (ح ٣٧٨٨) من حديث أبى سعيد وزيد بن أرقم- رضي الله عنهما.
(٣) هكذا فى الأصول.
(٤) ذكره بنحوه القرطبي (٧/ ٦٠٢٢)، وذكره الزمخشري فى تفسيره (٤/ ٢٢٠) بأطول من هذا، وعزاه الحافظ ابن حجر فى الكافي للثعلبى، وقال: «وآثار الوضع عليه لائحة»..
(٥) انظر ديوان البوصيرى/ ٧٠.
(٦) الأبيات للإمام الشافعي. انظر ديوانه/ ٧٢، وفيه: [يكفيكم من عظيم الفخر أنكم].
212

[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٢٤ الى ٢٦]

أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٤) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٢٥) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (٢٦)
يقول الحق جلّ جلاله: أَمْ يَقُولُونَ أي: بل أيقولون افْتَرى محمد عَلَى اللَّهِ كَذِباً في دعوة النبوة، أو القرآن؟. والهمزة للإنكار التوبيخي، كأنه قيل: أيمكن أن ينسبوا مثله- عليه الصلاة والسّلام- للافتراء، لا سيما لعظم الافتراء، وهو الافتراء على الله، فإن الافتراء إنما يُسام به أبعد خلق الله، ومَن هو عرضة للختم والطبع، فالعجب ممن يفوه به في جانب أكرم الخلق على الله.
فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ، هذا استبعاد للافتراء على مثله لأنه إنما يجترئ على الله مَن كان مختوماً على قلبه، جاهلاً بربه، أمَّا مَن كان على بصيرة ومعرفة بربه، فلا، وكأنه قال: إن يشأ الله خذلانك يختم على قلبك لتجترئ بالافتراء عليه، لكنه لم يفعل فلم تفتر. أو: فإن يشأ الله عدم صدور القرآن عنك يختم على قلبك، فلم تقدر أن تنطق بحرف واحد منه، وحيث لم يكن كذلك، بل تواتر الوحي عليك حيناً فحيناً تبين أنه من عند الله تعالى. وهذا أظهر.
وقال مجاهد: إن يشأ يربط على قلبك بالصبر على أذاهم، وعلى قولهم: افترى على الله كذباً لئلا تدخله مشقة بتكذيبهم. هـ.
وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ، استئناف مقرر لنفي الافتراء، غير معطوف على «يختم» كما ينبئ عنه إظهار الاسم الجليل، وإنما سقطت الواو- كما فى بعض المصاحف- لا تباع اللفظ، كقوله تعالى: وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ... «١» مع أنها ثابتة في مصحف نافع. قاله النسفي. أي: ومن شأنه تعالى أنه يمحق الباطل، ويثبت الحق بوحيه، أو بقضائه، كقوله تعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ «٢»، فلو كان افتراء كما زعموا لمحقه ودمغه. أو: يكون عِدةً لرسول الله ﷺ بأنه تعالى يمحو الباطل الذي هم عليه، ويثبت الحق الذي هو عليه صلّى الله عليه وسلم بالقرآن، أو بقضائه الذي لا مرد له بنصره عليهم، وقد فعل ذلك، فمحا باطلهم، وأظهر
(١) من الآية ١١ من سورة الإسراء.
(٢) من الآية ١٨ من سورة الأنبياء.
213
الإسلام. إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي: عليم بما في صدرك وصدورهم، فيجري الأمر على حسب ذلك من المحو والإثبات.
وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ. يقال: قبلت الشيء منه: إذا أخذته منه، وجعلته مبدأ قبولك، وقبلتَه عنه، أي: عزلته وأبنته عنه. والتوبة: الرجوع عن القبيح بالندم، والعزم ألا يعود، ورد المظالم واجب غير شرط.
قال ابن عباس: لما نزل. قُلْ لآَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً.... الآية. قال قوم في نفوسهم: ما يريد إلا أن يحثنا على أقاربه من بعده، فأخبر جبريل النبي ﷺ أنهم قد اتهموه، وأنزل: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً.. الآية، فقال القوم يا رسول الله فإنا نشهد أنك صادق. فنزل: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ.... هـ.
قال أبو هريرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الله أفرح بتوبة عبده المؤمن من الضال الواجد، ومن العقيم الوالد، ومن الظمآن الوارد، فمَن تاب إلى الله توبة نصوحا أنسى الله حافظيه، ولو كانت بقاعُ الأرض خطاياه وذنوبه» «١».
واختلف العلماء في حقيقة التوبة وشرائطها، فقال جابر بن عبد الله: دخل أعرابي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: اللهم إني أستعيذك وأتوب إليك، سريعاً، وكبّر، فلما فرغ من صلاته، قال له عليّ: ما هذا؟ إن سرعة الاستغفار باللسان توبة الكذابين، وتوبتك تحتاج إلى توبة، فقال: يا أمير المؤمنين، وما التوبة؟ قال: أسم يقع على ستة معانٍ: على الماضي من الذنوب الندامة، ولتضييع الفرائض الإعادة، ورد المظالم، وإذابة النفس في الطاعة، كما أذبتها في المعصية، وإذاقة النفس مرارة الطاعة، كما أذقتها حلاوة المعصية، والبكاء بدل كل ضحك ضحكته.
وعن السدي: هي صدقُ العزيمة على ترك الذنوب، والإنابة بالقلب إلى علاّم الغيوب. وعن سهل: هي الانتقالُ من الأحوال المذمومة إلى الأحوال المحمودة. وعن الجنيد: هي الإعراض عما سوى الله.
قال الله تعالى: وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وهو ما دون الشرك، يعفو لمَن يشاء بلا توبة، وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ كائناً ما كان، من خير أو شر، حسبما تقتضيه مشيئته.
وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي: يستجيب لهم فحذف اللام كما في قوله: وَإِذا كالُوهُمْ»
أي: يجيب دعوتهم، ويثيبهم على طاعتهم، أو: يستجيبون له بالطاعة إذا دعاهم إليها. قيل لإبراهيم
(١) لم أقف عليه بهذا اللفظ، وفى الصحيح: «الله أفرح بتوبة العبد من رجل نزل منزلا وبه مهلكة، ومعه راحلته، عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام نومة، فاستيقظ وقد ذهبت راحلته، حتى اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله، قال: أرجع إلى مكانى، فرجع فنام نومة، ثم رفع رأسه، فإذا راحلته عنده، أخرجه البخاري فى (الدعوات، باب التوبة، ح ٦٣٠٨) ومسلم فى (التوبة، باب فى الحض على التوبة، ح ٢٧٤٤) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. [.....]
(٢) من الآية ٣ من سورة المطففين.
214
ابن أدهم: مالنا ندعو فلا نُجاب؟ قال: «لأنه دعاكم فلم تُجيبوا». وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ على ما سألوه، واستحقوه بموجب الوعد. وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بدل ما للمؤمنين من الفضل العظيم والمزيد.
الإشارة: قال الورتجبي: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فيه تقديس كلامه، وطهارة نبيه ﷺ عن الافتراء، وكيف يفتري وهو مصون من طريان الشك والريب والوساوس والهواجس على قلبه؟. وقال أيضاً: عن الواسطي: إن يشأ الله يختم على قلبك [لكن ما يشاء] «١»، ويمح الله الباطل بنفسه ونعته، حتى يعلم أنه لا حاجة له إلى أحد من خلقه، ثم يحقق الحق في قلوب أنشأها للحقيقة.
قلت: في الآية تهديد لأهل الدعوى لأنهم إن داموا على دعواهم الخصوصية بلا خصوصية ختم الله على قلوبهم بالنفاق، ثم يمحو الله الباطل بأهل الحق والتحقيق، فتُشرق حقائقهم على ما يقابلها من البال فتدمغه بإذن الله وقضائه وكلماته.
وقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ... الخ، لكل مقام توبة، ولكل رجال سيئات، فتَوبة العوام من الذنوب، وتوبة الخواص من العيوب، وتوبة خواص الخواص من الغيبة عن شهود علاّم الغيوب. وقوله تعالى:
وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ يشير إلى الحلم بعد العلم.
وقوله تعالى: وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي: في كل ما يتمنون، وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ النظر إلى وجهه، ويتفاوتون فيه على قدر توجههم، ومعرفتهم في الدنيا. وذكر في القوت حديثاً عن رسول الله ﷺ في تفسير قوله تعالى: وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ قال: «يُشفعهم في إخوانهم، فيدخلهم الجنة» «٢». هـ. قال القشيري: ويقال:
لمَّا ذكر أن التائبين يقبل توبتهم، ومَنْ لم يَتُبْ يعفو عن زلَّته، والمطيع يدخله الجنة، فلعله خطر ببال أحد: فهذه النار لمَن هي؟ فقال وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ، ولعله يخطر بالبال أن العصاة لا عذاب لهم، فقال: (شديد) بدليل الخطاب أنه ليس بشديد «٣» هـ.
ولمّا ذكر أن أهل الإيمان يستجيب لهم، ويزيدهم من فضله، يعنى فى الآخرة، وأما فى الدنيا فإنما يعطيهم الكفاف، ذكر حكمة ذلك، فقال:
(١) فى الورتجبي [بما يشاء].
(٢) أخرجه ابن جرير، من طريق قتادة عن أبى إبراهيم اللخمي، موقوفا.
(٣) اختصر المفسر عبارة القشيري، وهذا نصها حتى يتضح المراد: فالعصاة من المؤمنين لهم عذاب، أما الكافرون فلهم عذاب شديد، لأن دليل الخطاب يقتضى هذا، وذاك يقتضى أن المؤمنين لهم عذاب، ولكن ليس بشديد، وأما عذاب الكافرين فشديد. هـ.
215

[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٢٧ الى ٢٨]

وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (٢٧) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (٢٨)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ أي: لو أغناهم جميعاً لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ أي:
لتَكَبروا وأفسدوا فيها، بطراً، ولعلا بعضُهم على بعض بالاستعلاء والاستيلاء، لأن الغِنى مبطرة مفسدة، وكفى بحال قارون وفرعون عبرة. وأصل البغي: تجاوز الاقتصاد [عما يجزي] «١» من حيث الكمية أو الكيفية.
وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ أي: بتقدير ما يَشاءُ أن ينزله، مما تقضيه مشيئته. يقال: قدره وقدّره قدراً وتقديراً إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ محيط بخفايا أمورهم وجلاياها، فيقدر لكل واحد منهم ما يليق بشأنه، فيُفقر ويُغني، ويُعطى ويَمنع، ويقبض ويبسط، حسبما تقتضيه الحكمة الربانية، ولو أغناهم جميعاً لَبَغوا في الأرض، ولو أفقرهم لهلكوا، وما ترى من البسط على مَن يبغي، ومِن البغي بدون البسط، فهو قليل، ولكن البغي مع الفقر أقلّ، ومع البسط أكثر وأغلب، فالحكمة لا تنافي بغي البعض بدفعه بالبعض الآخر، بخلاف بغي الجميع. وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ... «٢» الآية.
وقال شقيق بن إبراهيم: لَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ أي: لو رزق الله العباد من غير كسب لَبَغَوْا طغوا وسَعَوا في الأرض بالفساد، ولكن شغلهم بالكسب والمعاش، رحمة منه. هـ. أي: لئلا يتفرّغوا للفساد، ومثله في التنوير.
وقال شيخ شيوخنا الفاسي العارف: والظاهر حمل العباد على الخصوص المصْطَفين من المؤمنين، فإنهم يحمون من الطغيان وبسط الرزق لئلا يبغوا. هـ.
وقال قتادة: كان يقال: خير الرزق: ما لا يطغيك، ولا يلهيك، فذكر لنا أن النبي ﷺ قال: «أخوَفُ ما أخافُ على أمتي زهرة الدنيا وكثرتها» «٣». هـ.
(١) هكذا فى الأصول، وفى تفسير أبى السعود [فيما يتحرى].
(٢) من الآية: ٤٠ من سورة الحج.
(٣) أخرجه الطبري (٢٥/ ١٩).
216
رُوي: أن أهل الصُّفة تمنوا الغنى، فنزلت «١». وقيل: نزلت في العرب، كانوا إذا أخصبوا تحاربوا، وإذا جدبوا انتجعوا. هـ.
وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ أي: المطر الذي يُغيثهم من الجدب، ولذا خصّ بالنافع منه، فلا يقال للمطر الكثير:
غيث، مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا: يئسوا منه. وتقييد تنزيله بذلك، مع نزوله بدونه أيضاً لمزيد تذكُّر كمال النعمة.
وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ أي: بركات الغيث ومنافعه، وما يحصل به من الخصب في كل مكان، من السهل، والجبل، والنبات، والحيوان. أو: رحمته الواسعة المنتظمة لما ذكر وغيره. وَهُوَ الْوَلِيُّ الذي يتولى عباده بالإحسان ونشر الرحمة، الْحَمِيدُ المستحق للحمد على ذلك، لا غيره.
الإشارة: عادته تعالى مع أوليائه أن يعطيهم ما يكفيهم بعد الاضطرار، ويمنعهم منه فوق الكفاية لئلا يشغلهم بذلك عن حضرته، وفي الحديث: «إن الله يحمي عبده المؤمن- أي: مما يضره الدنيا وغيرها- كما يحمي الراعي الشفيق غنمه من مراتع الهلكة» «٢» وفي حديث آخر: «إذا أحبّ الله عبداً حماه الدنيا كما يحمي أحدكم سقيمه الماء» «٣». ورَوى ابن المبارك، عن سعيد بن المسيب قال: جاء رجل رسول الله ﷺ فقال: أخبرني يا رسول الله بجلساء الله يوم القيامة؟ فقال: «هم الخائفون، الخاضعون، المتواضعون، الذاكرون كثيراُ» فقال: يا رسول الله فهم أول الناس يدخلون الجنة؟ قال: «لا» قال: فمَن أول الناس دخولاً الجنة؟ قال «الفقراء يسبقون الناس إلى الجنة، فيخرج إليهم ملائكة، فيقولون: ارجعوا إلى الحساب، فيقولون: علام نحاسب؟ والله ما أفيضت علينا الأموال فنفيض فيها، وما كنا أمراء نعدل ونجور، ولكنا جاءنا أمره فعبدنا حتى أتانا اليقين». هـ.
قوله: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ... الآية، كما ينزل غيث المطر على الأرض الميتة، ينزل أمطار الواردات الإلهية على القلوب الميتة، فتحيا بالذكر والمعرفة، بعد أن أيست من الخصوصية.
قال القشيري، بعد كلام: وكذلك العبد إذا ذَبُلَ غُصْنُ وقته، وتكَدَّرَ صَفْو ودّه وكسفت شمس أُنسِه، وبَعُدَ عن الحضرةِ وساحاتِ القرب عَهْدُه، فربما ينظر إليه الحقُّ نظر رحمة، فينزل على سِرِّه أمطارَ الرحمة، ويعود عودُه طريّاً، ويُنْبِتُ في مشاهد أُنْسِه ورداً جَنِياً، وأنشدوا فى المعنى:
(١) أخرجه الواحدي فى أسباب النّزول (ص ٣٩٠) عن عمرو بن حريث، وذكره الهيثمي فى المجمع (٧/ ١٠٤) وعزاه للطبرانى، ورجاله رجال الصحيح.
(٢) أخرجه البيهقي فى شعب الإيمان (ح ١٠٤٥١) من حديث حذيفة رضي الله عنه، والحديث ضعّفه السيوطي فى الجامع الصغير (ح ١٩٠١).
(٣) أخرجه الترمذي فى (الطب، باب ما جاء فى الحمية، ح ٣٠٣٦) والبيهقي فى الشعب (ح ١٤٥٠) من حديث قتادة بن النّعمان رضي الله عنه.
217
إنْ راعني منك الصُدود... فلعلَّ أيامي تعود
ولعل عهدك باللِّوى... يحيا فقد تحيا العهود
والغُصن ييبس تارةً... وتراه مُخْضرّاً يميد.
وقوله تعالى: وَهُوَ الْوَلِيُّ قال القشيري في شرح الأسماء: الولي هو المتولي لأحوال عباده، وقيل معناه:
المناصر، فأولياء الله أنصار دينه، وأشياع طاعته، والوليّ في صفة العبد: هو مَن يواظب على طاعة ربه. ومن علامات مَن يكون الحق سبحانه وليَّه: أن يصونه ويكفيه في جميع الأحوال، ويؤمنه، فيغار على قلبه أن يتعلق بمخلوق في دفع شر أو جلب نفع، بل يكون سبحانه هو القائم على قلبه في كل نَفَس، فيحقق آماله عند إشارته، ويجعل مآربه عند خطراته. ومن أمارات ولايته لعبده: أن يديم توفيقه، حتى لو أراد سوءاً، أو قصد محظوراً، عصمه من ارتكابه. ثم قال: ومن أمارات ولايته: أن يرزقه مودة في قلوب أوليائه. هـ. قلت: «جعل مآربه عند خطراته» ليس شرطاً لأن هذا من باب الكرامة، ولا يشترط ظهورها عند المحققين. ورَوى أنس عن النبي ﷺ عن جبريل، عن ربه- عز وجل- قال: «من أهان لي وليّاً فقد بارزني بالمحاربة، وإني لأسرع شيء إلى نصرة أوليائي، وإني لأغضب لهم، كما يغضب الليث الحَرِد» «١» انظر بقية الحديث في الثعلبي.
ثم ذكر شواهد قدرته، فقال:
[سورة الشورى (٤٢) : آية ٢٩]
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (٢٩)
يقول الحق جلّ جلاله: وَمِنْ آياتِهِ الدالة على باهر قدرته ووحدانيته خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ على ما هما عليه من تعاجيب الصنعة، فإنها بذاتها وصفاتها تدل على شؤونه العظيمة، وَما بَثَّ أي: فرّق فِيهِما مِنْ دابَّةٍ من حي على الإطلاق، فأطلق الدابة على مطلق الحيوان، ليدخل الملائكة. أو: ما يدب على الأرض،
(١) أخرجه مطولا، البغوي فى التفسير (٧/ ١٩٤- ١٩٥) وعزاه السيوطي فى الدر المنثور (٥/ ٧٠٤) لابن أبى الدنيا فى كتاب الأولياء، والحكيم الترمذي فى نوادر الأصول، وأبى نعيم فى الحلية (٨/ ٣١٥) وابن عساكر فى تاريخه.
وقوله: «الحرد» الحرد: الغيظ والغضب. وحرد الرّجل فهو حرد. انظر اللسان (مادة حرد ٢/ ٨٢٤- ٨٢٥).
فإن ما يختص أحد الشيئين المجاورين يصح نسبته إليهما، كقوله تعالى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ «١» وإنما يخرج المرجان من الملح، ولا يبعدُ أن يخلق الله في السموات حيواناً يمشون مشي الأناسيّ على الأرض، أو:
يكون للملائكة مشي مع الطيران، فوصفوا بالدَّبيب لذلك. وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ أي: حشرهم بعد البعث للحساب إِذا يَشاءُ أي: في الوقت الذي يشاء قَدِيرٌ لا يعجزه شيء الإشارة: مِن تعرفاته: إظهار السموات والأرض، وهذه رسوم المعاني، وما بثّ فيهما من دابة، وهذه أشكال توضح أسرار المعاني، فإذا قبضت المعاني محيت الرسوم والأشكال. وقوله تعالى: وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ، قال القشيري: الإشارة في هذا: أنَّ الحقَّ تعالى يغار على أوليائه أن يَسْكنَ بعضُهم بقلبه إلى بعض، فأبداً يُبَدّدُ شملهم، ولا يكاد تتفق الجماعة من أهل القلوب إلا نادراً، وذلك أيضاً مدة يسيرة، كما أنشدوا:
رمى الدهرُ بالفتيان حتى كأنَّهم بأكنافِ أطرافِ السماء نجومُ «٢»
وقد يتفضَّل تعالى باجتماعهم في الظاهر، وذلك وقت نظر الحقّ بفضله إلى العالَم، وفي بركات اجتماعهم حياةُ العالَم، وإذ كان قادراً فهو على جمعهم إذا يشاء قدير. «٣» هـ.
قلت: مما جرت به عادة الله تعالى في أوليائه: أنه لا يجتمع في موضع واحد منهم اثنان فأكثر إلا قام أحدهما بالآخر، ويفقد نظامهما، فلا تكاد تحد أهل النور القوي إلا متباعدي الأوطان، لئلا يطفي نور إحداهما نورَ الآخر، وقد يجتمعون نادراً في وقت مخصوص، وذلك وقت النفحات. كما تقدّم للقشيري.
ثم ذكر سبب نزول المصائب بعباده، فقال:
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٣٠ الى ٣١]
وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (٣٠) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٣١)
(١) الآية ٢٢ من سورة الرّحمن.
(٢) البيت منسوب للقشيرى كما فى تبيين كذب المفترى للدمشقى/ ٣٥٦.
(٣) بتصرف. [.....]
219
يقول الحق جلّ جلاله: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ غمّ، أو ألم، أو مكروه فَبِما «١» كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ أي: بجنايةٍ كسبتموها، عقوبةً لكم. ومَن قرأ بالفاء ف «ما» شرطية. ومَن قرأ بغيرها فموصلة. وتَعَلقَ بهذه الآية من يقول بالتناسخ، ومعناه عندهم: أن أرواح المتقدمين حين تموت أشباحها تنتقل إلى أشباح أُخر، فإن كانت صالحة انتقلت إلى جسم صالح وإن كانت خبيثة انتقلت إلى جسم خبيث، وهو باطل وكفر. ووجه التعلُّق: أنه لو لم يكن للأطفال حالة كانوا عليها قبل هذه الحالة لما تألّموا. ويجاب: بأن تألم الأطفال إما زيارة في درجات آبائهم إن عاشوا، أو في درجاتهم إن ماتوا لأنهم يلحقون بآبائهم في الدرجة، ولا عمل لهم إلا هذا التألُّم. والله أعلم.
والآية مخصوصة بالمكلّفين بدليل السياق، وهو قوله: وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ أي: من الذنوب فلا يُعاقب عليها، أو: عن كثير من الناس، فلا يعاجلُهم بالعقوبة. وفى الحديث عنه صلّى الله عليه وسلم: «واللهُ أكرم من أن يُثَنّي عليكم العقوبة في الآخرة، وما عفا عنه فالله أحلم من أن يعود فيه بعد عفوه» «٢» وقال ابن عطاء: مَن لم يعلم أنَّ ما وصل إليه من الفتن والمصائب باكتسابه، وأن ما عفا عنه مولاه أكثر، كان قليل النظر في إحسان ربه إليه. وقال محمد بن حامد: العبدُ ملازِمٌ للجنايات في كلّ أوان، وجناياته في طاعته أكثر من جناياته في معاصيه لأن جناية المعصية من وجه، وجناية الطاعة من وجوه، والله يُطهِّر العبد من جناياته بأنواع من المصائب ليخفّف عنه أثقاله في القيامة، ولولا عفوه ورحمته لهلك في أول خطوة.
وعن عليّ- كرّم الله وجهه-: هذه أرجى آيةٍ للمؤمنين في القرآن لأنّ الكريمَ إذا عاقب مرةً لا يُعاقِب ثانياً، وإذا عفا لا يعود. هـ. وقد تقدّم حديثاً. قال في الحاشية الفاسية: قلت: وإنما يعفو في الدنيا عما يشاء، ويؤخر عقوبة مَن شاء إلى الآخرة، فلا يلزم إبطال وعيد الآخرة. ثم الآية إما خاصة بالحدود، أو بالمجرم المذنب، وأما مَن لا ذنب له فما يُصيبه من البلاء اجتباء وتخصيص، لا تمحيص. هـ.
قلت: لكل مقام ذنب، حسنات الأبرار سيئات المقربين، فالتمحيص جار في كل مقام، وراجع ما تقدم عند قوله: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ... «٣» وسيأتي عند قوله: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ.. «٤» ما يبين هذا. والله أعلم
(١) قرأ نافع، وابن عامر، وأبو جعفر (بما) بغير فاء، على جعل (ما) فى ما أَصابَكُمْ موصولة، مبتدأ، و (بما كسبت) خبر، وعلى جعلها شرطية، تكون الفاء محذوفة، نحو قوله تعالى: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ... - الآية ١٢١ من سورة الأنعام. وقرأ الباقون (فبما كسبت). ف (ما) شرطية، أي: فهى بما كسبت، أو موصولة، والفاء تدخل فى حيز الموصول إذا أجرى مجرى الشرط. انظر:
الحجة للفارسى، (٦/ ١٢٩) والإتحاف (٢/ ٤٥٠).
(٢) أخرجه الإمام أحمد فى المسند (١/ ٨٥) والحاكم (٤/ ٣٨٨) وزاد السيوطي عزوه فى الدر المنثور (٥/ ٧٠٥) لابن راهويه، وابن منيع، وعبد بن حميد، والحكيم الترمذي، وأبى يعلى، وابن المنذر، وابن أبى حاتم، وابن مردويه، عن سيدنا علي- كرّم الله وجهه-.
(٣) من الآية ١١٧ من سورة التوبة.
(٤) من الآية ١٩ من سورة سيدنا محمد.
220
وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ أي: ما أنتم بفائتين ما قُضيَ عليكم من المصائب، وإن هجرتم في أقطارها كل مهرب، وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ متولِّ يحميكم منها وَلا نَصِيرٍ يدفعها عنكم، أو يدفع عذابه إن حلّ.
الإشارة: إذا كان العبد عند الله في عين العناية أدّبه في الدنيا، ويبقى في حال قربه، وإذا كان عنده في عين الإهمال أمهل عقوبته إلى دار البقاء، وربما استدرجه بالنعم في حال إساءته، والعياذ بالله من مكره. وإذا علم العبد أن ما يصيبه في هذه الدار من الأكدار كلها تخليص وتمحيص لم يستوحش منها، بل يفرح بها إذ هي علامة العناية، وإذا كانت على أيدي الناس، لم يقابلهم بالانتصار، بل يعفو ويصفح لعِلمه أن ذلك زيارة وترقية. وقوله تعالى: وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ. هذا- والله أعلم- في حق العامة، وأما الخاصة فيشدد عليهم المحاسبة والتأديب ليرفع مقامهم، ويكرم مثواهم.
ثم ذكر برهانا آخر على قدرته تعالى، فقال:
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٣٢ الى ٣٥]
وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٣٢) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣٣) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٥)
يقول الحق جلّ جلاله: وَمِنْ آياتِهِ للدلالة على قدرته ووحدانيته الْجَوارِ «١» السفن الجارية فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ كالجبال إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ «٢» التي تجريها. وقرئ بالإفراد. فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ فيبقين ثوابت على ظهر البحر، أي: غير جاريات لا غير متحركات أصلاً، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ عظيمة في أنفسها، كثيرة في العدد، دلالة على باهر قدرته لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ لكل مَن حبس نفسه عن الهوى، وصرف همته إلى النظر في آلائه، أو: لكل صبّار على بلائه، شكور لنعمائه، أي: لكل مؤمن كامل فإن الإيمان نصفان: نصف شكر، ونصف صبر لأن الإنسان لا يخلو من ضر يمسه، أو نفع يناله، فآداب
(١) هكذا فى الأصول، وقد أثبت الياء فى (الجوار) وصلا نافع، وأبو عمرو، وأبو جعفر، وفى الحالين ابن كثير ويعقوب. وقرأ الباقون بغير ياء. انظر الإتحاف (٢/ ٤٥٠)
(٢) قرأ نافع وأبو جعفر «الرياح» بالجمع. وقرأ الجمهور (الريح) إفرادا.
الضر: الصبر، وآداب النفع: الشكر، وأيضاً: راكب السفن ملزوم، إما للمشقة أو السلامة، فالصبر والشكر لا زمان له.
ولم يعطف إحدى الصفتين على الأخرى لأنهما لموصوف واحد.
أَوْ يُوبِقْهُنَّ أي: يهلكهن، عطف على قوله: يُسْكِنِ أي: إن يشأ يُسكن الريح فيركدن، أو يعصفها فيغرقن [بعصفها] «١» بِما كَسَبُوا من الذنوب. وإيقاع الإيباق عليهن مع أنه حال [أهلهن] «٢» للمبالغة والتهويل، وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ منها، فلا يُجازي عليها، وإنما أدخل العفو في حكم الإيباق، حيث جُزم جزمَه لأن المعنى: أو إن يشأ يُهلك ناسا ويُنج ناساً، على طريق العفو عنهم. وقرئ: «ويعفو» «٣» على الاستئناف. وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا أي: في إبطالها وردها ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ من مهرب من العذاب. والجملة معلقة بالنفي، ومن نصب «يعلم» عطفه على عِلة محذوفة، أي: لينتقم منهم وليعلم، كما في قوله: وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ «٤». وقيل غير ذلك. ومَن رفعه «٥» فعلى الاستئناف. وقرئ بالجزم، عطفاً على: «يعف»، فيكون المعنى:
أو إن يشأ يجمع بين إهلاك قوم وإنجاء آخرين وتحذير قوم.
الإشارة: ومن آياته الأفكار الجارية في بحر التوحيد، كالأعلام، أي: أصحابها كالجبال الرواسي، لا يهزهم شيء من الواردات ولا غيرها، إن يشأ يُسكن رياح الواردات عن أسرارهم، فيبقين رواكد على ظهر بحر الأحدية، مستغرقين في شهود الذات العلية، أو يُوبقهن بما كسبوا من سوء الأدب، فيغرقن في الزندقة أو الحلول والاتحاد، ويعفُ عن كثير، ويعلم الذين يطعنون في آياتنا الدالة علينا ما لهم من مهرب.
ثم زهّد فى الدنيا لأنها العائقة للأفكار، عن الجري فى بحار الأسرار، فقال:
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٣٦ الى ٤٣]
فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠)
وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٢) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣)
(١) فى الأصول [بعضها] والمناسب ما أثبته، وهو الذي فى تفسير النّسفى وأبى السعود.
(٢) فى الأصول [أهلها].
(٣) قرأ بها الأعمش، انظر البحر المحيط ٧/ ٤٩٧.
(٤) من الآية ٢١ من سورة مريم.
(٥) وهى قراءة نافع وابن عامر، وأبى جعفر. وقرأ الجمهور (ويعلم) بالنصب. انظر الإتحاف (٢/ ٤٥٠).
222
يقول الحق جلّ جلاله: فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ مما ترجون وتتنافسون فيه فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي: فهو متاعها، تتمتعون به مدة حياتكم، ثم يفنى، وَما عِنْدَ اللَّهِ من ثواب الآخرة خَيْرٌ ذاتاً لخلوص نفعه، وَأَبْقى زماناً لدوام بقائه. لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، و «ما» الأولى ضُمّنت معنى الشرط، فدخلت في جوابها الفاء، بخلاف الثانية. وعن علىّ رضي الله عنه: أن أبا بكر- رضي الله عنه- تصدَّق بماله كله، فلامه الناس، فنزلت الآية.
ثم قال تعالى: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ أي: الكبائر من هذا الجنس. وقرأ الأخوان: (كبير الإثم).
قال ابن عباس: هو الشرك، وَيجتنبون الْفَواحِشَ وهي ما عظم قُبحها، كالزنى ونحوه، وَإِذا ما غَضِبُوا من أمر دنياهم هُمْ يَغْفِرُونَ أي: هم الإخِصَّاء بالغفران في حال الغضب، فيحلمون، ويتجاوزون.
وفي الحديث: «مَن كظم غيظه في الدنيا ردّ اللهُ عنه غضبَه يوم القيامة» «١».
وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ أتقنوا الصلوات الخمس، وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ أي: ذو شورى، يعني: لا ينفردون برأيهم حتى يجتمعون عليه. وعن الحسن: ما تشاور قوم إلا هُدوا لأرشد أمورهم.
والشورى: مصدر، كالفتيا، بمعنى التشاور. وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ يتصدقون.
وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ الظلم هُمْ يَنْتَصِرُونَ ينتقمون ممن ظلمهم، أي: يقتصرون في الانتصار على ما حُدّ لهم، ولا يعتدون، وكانوا يكرهون أن يذلّوا أنفسهم فيجترئ عليهم الفسّاق، فإذا قدروا عفوا، وإنما حُمدوا على الانتصار لأن من انتصر، وأخذ حقه، ولم يجاوز في ذلك حدّ الله، فلم يسرف في القتل، إن كان وليّ دم، فهو مطيع لله. وقال ابن العربي: قوله:
وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ الآية، ذكر الانتصار في معرض
(١) أخرج الطبراني فى الأوسط (ح ١٣٢٠) عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من دفع غضبه دفع الله عنه عذابه» قال الهيثمي فى مجمع الزوائد (٨/ ٧٠) : فيه عبد السّلام بن هلال، وهو ضعيف».
وأخرج أبو داود فى (الأدب، باب فى كظم الغيظ ح ٤٧٧٧) والترمذي وحسّنه فى (البر والصلة، باب فى كظم الغيظ، ح ٢٠٢١) وابن ماجه فى (الزهد، باب الحلم، ح ٤١٨٦) عن معاذ بن أنس الجهني رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «مَنْ كَظَمَ غَيْظاً هو قادر على أن ينفذه، دعاهُ الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة، حتى يخيره فى أىّ الحور شاء».
223
المدح، ثم ذكر العفو في معرض المدح، فاحتمل أن يكونَ أحدهُما رافعاً للآخر، واحتمل أن يكون ذلك راجعاً إلى حالين، أحَدُهُما: أن يكون الباغي مُعلناً بالفجور وقحاً في الجمهور، ومؤذياً للصغير والكبير، فيكون الانتقامُ منه أفضل، وفي مثله قال إبراهيم النخعي: يُكره للمؤمنين أن يذلّوا أنفسهم، فيجترئ عليهم الفُسّاق. وإما أن تكون الفَلتة، أو يقع ذلك ممن يعترف بالزلة، ويسأل المغفرة، فالعفو هاهنا أفضل، وفي مثله نزل: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى «١»، وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا الآية «٢». هـ.
ثم بيّن حدّ الانتصار، فقال: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها، فالأولى سيئة حقيقة، والثانية مجازاً للمشاكلة، وفي تسميتها سيئة نكتة، وهي الإشارة إلى أن العفو أولى، والأخذ بالقصاص سيئة بالنسبة إلى العفو، ولذلك عقبه بقوله:
فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ بينه وبين خصمه بالتجاوز والإغضاء فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وهي عِدَةٌ مبهمة لا يقادر قدرها، إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ الذين يبدؤون بالظلم، أو: يتجاوزون حدّ الانتصار. وفي الحديث: «ينادي منادٍ يوم القيامة: مَن كان له أجر على الله فليقم، فلا يقوم إلا مَن عفا» «٣».
وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ أي: أخذ حقه بعد ما ظُلم- على إضافة المصدر إلى المفعول- فَأُولئِكَ جمع الإشارة مراعاة لمعنى «مَن» مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ للمعاقب ولا للمعاتب إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ يبتدئونهم بالظلم، وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ يتكبّرون فيها، ويعْلون، ويفسدون بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بسبب بغيهم وظلمهم. وفسّر السبيل بالتبعة والحجة.
وَلَمَنْ صَبَرَ على الظلم والأذى، وَغَفَرَ ولم ينتصر، أو: وَلَمَن صبر على البلاء من غير شكوى، وغفر بالتجاوز عن الخصم، ولا يُبقي لنفسه عليه دعوى، بل يُبري خصمه من جهته من كل دعوى في الدنيا والعقبى، إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أي: إن ذلك الصبر والغفران منه لَمِنْ عزم الأمور، أي: من الأمور التي ندب إليها، وعزم على فعلها، أو: مما ينبغي للعاقل أن يوجبه على نفسه، ولا يترخّص في تركه. وحذف الراجع- أي: منه- كما حذف في قولهم: السمن مَنْوَانِ بدرهم. وقال أبو سعيد القرشي: الصبر على المكاره من علامات الانتباه، فمَن صبر على مكروه أصابه، ولم يجزع، أورثه الله تعالى حال الرضا، وهو أصل الأحوال ومَن جزع من المصيبات، وشَكى، وكَلَه إلى نفسه، ثم لم تنفعه شكواه. هـ. وانظر تحصيل الآية في الإشارة، إن شاء الله.
قال ابن جزي: ويظهر لي أن هذه الآية إشارة إلى ذكر الخلفاء الراشدين- رضي الله عنهم- لأنه بدأ أولاً بصفات أبي بكر الصدّيق، ثم صفات عُمَر، ثم صفات عثمان، ثم صفات عليّ بن أبي طالب، فأما صفات
(١) من الآية ٢٧٧ من سورة البقرة.
(٢) من الآية ٢٢ من سورة النّور. [.....]
(٣) عزاه فى اتحاف السادة المتقين ٧/ ٥٦١ لابن عساكر فى التاريخ، من حديث علىّ رضي الله عنه.
224
أبي بكر، فقوله: الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وإنما جعلنا هذه صفات أبي بكر، وإن كان جميعهم متصفاً بها، لأن أبا بكر كانت له مزية فيها لم تكن لغيره، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو وُزن إيمان أبي بكر بإيمان الأمة لرجح» «١» وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا مدينة الإيمان، وأبو بكر بابها». وقال أبو بكر: «لو كُشف الغطاء ما ازددت يقيناً». والتوكل إنما يقوى بقوة الإيمان.
وأما صفات عمر: فقوله وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ لأن ذلك هو التقوى، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«أنا مدينة التقوى وعُمَر بابها» وقوله: وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ، وقوله: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ نزلت في عمر. وأما صفات عثمان فقوله: وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ لأن عثمان لمّا دعاه رسول الله ﷺ إلى الإسلام بادر إليه، وقوله: وَأَقامُوا الصَّلاةَ لأن عثمان كان كثير الصلاة بالليل، وفيه نزلت:
أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ... الآية. «٢» ورُوي أنه كان يُحيي الليلَ بركعة، يقرأ فيها القرآن كله. وقوله: وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ لأن عثمان وَلِيَ الخلافة بالشورى، وقوله: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ لأن عثمان كان كثير النفقة في سبيل الله، ويكفيك أنه جهّز جيش العسرة.
وأما صفات عليّ فقوله: وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ لأنه لمَّا قاتلته الفئة الباغية قاتلها، انتصاراً للحق، وانظر كيف سمى رسولُ الله ﷺ المقاتلين لعليّ الفئةَ الباغية، حسبما ورد في الحديث الصحيح، أنه قال لعمّار: «ويْحَ عمّارٍ، تقتلُه الفئةُ الباغيةُ» «٣» وذلك هو البغي الذي أصابه. وقوله: فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ
إشارة إلى فعل الحسن بن عليّ، حين بايع معاوية، وأسقط حق نفسه، ليصلح أحوال المسلمين، ويحقن دماءهم. قال رسول الله ﷺ في الحسن: «إنَّ ابني هذا سَيِّدٌ، وسَيُصْلِحُ اللهُ به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» «٤». وقوله: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إشارة إلى انتصار الحسين بعد موت
(١) أخرجه البيهقي فى الشعب (ح ٣٦) وابن أبى شيبة فى الإيمان (١٠٨) عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه موقوفا.
وقال فى كشف الخفاء (٢/ ٢٣٤) :(أخرجه ابن عدى والديلمي، كلاهما عن ابن عمر، مرفوعا، بلفظ: «لو وضع إيمان أبى بكر على إيمان هذه الأمة لرجح بها». وفى سنده «عيسى بن عبد الله» ضعيف، لكن يقويه ما أخرجه ابن عدى أيضا من طريق أخرى بلفظ: «لوزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجحهم» وله شاهد أيضا فى السنن عن أبى بكرة، مرفوعا: أن رجلا قال: رأيت يا رسول الله! كأنّ ميزانا نزل من السماء فوزنت أنت وأبو بكر، فرجحت أنت، ثم وزن أبو بكر بمن بقي فرجح..» الحديث.
قلت: حديث أبى بكرة، أخرجه أبو داود فى (السنة، باب فى الخلفاء، ح ٤٦٣٤) والترمذي فى (الرؤيا، باب ما جاء فى رؤيا النبي ﷺ الميزان والدلو، ح ٢٢٨٧) وقال: «حسن صحيح» وعندهما: «ووزن عمر وأبو بكر، فرجح أبو بكر... ».
(٢) الآية ٩ من سورة الزمر.
(٣) أخرج البخاري فى (الصلاة، باب التعاون فى بناء المسجد، ح ٤٤٧) عن أبى سعيد، قال- وهو يحدث عن بناء المسجد-: كنا نحمل لبنة لبنة، وعمار لبنتين لبنتين، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم، فينفض التراب عنه، ويقول: «ويْحَ عمّارٍ، تقتلُه الفئةُ الباغية، يدعوهم إلى الجنة، ويدعونه إلى النّار» قال: يقول عمار: أعوذ بالله من الفتن.
(٤) أخرجه البخاري فى (الصلح، باب قول النبي ﷺ للحسن بن علىّ رضي الله عنهما: إن هذا سيد، ح ٢٧٠٤) من حديث أبى بكرة رضي الله عنه.
225
أخيه، وطلبه للخلافة، وانتصاره من بني أمية. وقوله: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ إشارة إلى بني أمية، فإنهم استطالوا على الناس، كما في الحديث: «إنهم جعلوا عباد الله خُوَلاً، ومال الله دُولاً، فيكفيك من ظلمهم أنهم كانوا يلعنون عليّ بن أبي طالب على منابرهم. وقوله: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إشارة إلى صبر أهل بيت النبي ﷺ على ما نالهم من الضر والذل، طول مدة بني أمية. «١» هـ.
الإشارة: قوله تعالى: فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي: وينقصُ من درجاتكم في الآخرة بقدر ما تمتعتم به، كما في الخبر، ولذلك زهَّد فيه بقوله: وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى.. الآية، أي: وما عند الله من الثواب الموعود خير من هذا القليل الموجود. وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ هي أمراض القلوب، كالحسد والكبر والرياء وغيرها، وَالْفَواحِشَ هي معاصي الجوارح كالزنا وغيره. وقوله تعالى: وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ لم يقل الحق تعالى: والذين لم يغضبوا لأن الغضب وصف بشري، لا ينفك عنه مخلوق، فالمطلوب المجاهدة في دفعه، وردّ ما ينشأ عنه، لا زواله من أصله، فعدم وجوده في البشر أصلاً نقص، ولذلك قال الشافعي رضي الله عنه: «مَن اسْتُغضِب ولم يغضب فهو حمار» فالشرف هو كظمه بعد ظهوره، لا زواله بالكلية.
وقوله تعالى: وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ قال القشيري: المستجيبُ لربه هو الذي لا يبقى له نَفَسٌ إلا على موافقة رضاه، ولا يبقى لهم منه بقية، وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ أي: لا يستبدُّ [أحدهم] «٢» برأي، ويتَّهِمُ رأيَه وأمرَه، ثم إذا أراد القطعَ توكل على الله. هـ.
وحاصل ما اشتملت عليه الآية في رد الغضب: أربع مقامات الأول: قوم من شأنهم الغفران مطلقاً، قدروا أو عجزوا، لا يتحركون في الانتصار قط، وهو قوله تعالى: وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ والثاني: قوم قادرون على إنفاذ الغضب، فتحركوا في الانتصار، ثم عفوا بعد الاقتدار، وهذا قوله: وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ، ثم قال: فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ. والثالث: قوم قدروا وانتصروا، وأخذوا حقهم، لكن وقفوا عند ما حدّ لهم، وهو قوله: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ.. الآية. والرابع: قوم ظُلِموا، فعفوا، وزادوا الإحسان إلى مَن أساء إليهم، والدعاء له بالمغفرة، حتى يصير مرحوماً بهم، وهي رتبة الصدّيقية، أن ينتفع بهم أعداؤهم، وهو قوله تعالى:
وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ، ولذلك جعل الله هذا القسم من عزم الأمور.
(١) على هامش النّسخة الأم مايلى: قلت: هذا التفسير الذي نقله عن ابن جزى باطل، يجل كلام الله تعالى عنه، والأحاديث التي ذكرها كلها موضوعة، ما عدا: «لو وُزن إيمان أبي بكر..» وما عدا حديث: أنا مدينة العلم، وعلىّ بابها.
(٢) ما بين المعقوفتين مستدرك من لطائف الإشارات.
226
وعند الصوفية: ثلاث طبقات: العامة ينتصرون، والخاصة لا ينتصرون، لكن يرفعون أمرهم إلى الله في أخذ حقهم من ظالمهم، وخاصة الخاصة يُحسنون لمَن أساء إليهم، كما تقدّم. وقال القشيري: وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ وهو الظلم، ينتصرون لعِلمهم أن الظلمَ أصابهم من قِبَلِ أنفسهم، فينتصرون من الظالم، وهو النفس، ويكبحون عنانها من الركض في ميدان المخالفة. ثم قال: قوله: وَلَمَنِ انْتَصَرَ.. الآية، عَلِمَ اللهُ أنَّ من عباده مَن لا يجد الحرية من أحكام النَّفْس، ولا يستمكن من محاسن الخُلق، فرخَّص لهم في المكافأة على سبيل العدل والقسط، وإن كان الأوْلى بهم الصفح والعفو. هـ.
ثم ذكر وبال الظلم وعقوبته، فقال:
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٤٤ الى ٤٨]
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (٤٥) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (٤٨)
يقول الحق جلّ جلاله: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ أي: فما له من أحد يلي هدايته من بعد إضلال الله إياه، ويمنعه من عذابه. وَتَرَى الظَّالِمِينَ يوم القيامة، وهم الذين أضلّهم الله، لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ حين يرون العذاب، وأتى بصيغة الماضي للدلالة على تحقيق الوقوع، يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ رجعة إلى الدنيا مِنْ سَبِيلٍ حتى نُؤمن ونعمل صالحاً.
227
وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها على النار، يدلّ عليها ذكر العذاب. والخطاب لكل مَن يتأتى منه الرؤية خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ متذللين متضائلين مما دهاهم، فالخشوع: خفض البصر وإظهار الذل، يَنْظُرُونَ إلى النار مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ ضعيف بمسارقة، كما ترى المصْبُور ينظر إلى السيف عند إرادة قتله. وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ بالتعرُّض للعذاب الخالد يَوْمَ الْقِيامَةِ، و «يوم» : متعلق بخسروا. وقول المؤمنين واقع في الدنيا. ويقال، أي: يقولونه يوم القيامة، إذا رأوهم على تلك الصفة: أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ دائم، وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ برفع العذاب عنهم مِنْ دُونِ اللَّهِ حسبما كانوا يرجون ذلك في الدنيا، وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ إلى النجاة.
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ إلى ما دعاكم إليه على لسان نبيه، مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ أي: يوم القيامة لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ أي: لا يرده الله بعد ما حكم بمجيئه، ف «من» متعلق ب «لا مرد»، أو: ب «يأتي» أي: من قبل ان يأتي من الله يوم لا يقدر أحد على رده، ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ أي: مفر تلتجئون إليه، وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ أي: وليس لكم إنكار لما اقترفتموه لأنه مدوَّن في صحائف أعمالكم، وتشهد عليكم جوارحكم.
فَإِنْ أَعْرَضُوا عن الإيمان فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً رقيباً، تحفظ أعمالهم، وتحاسبهم، إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ ما عليك إلا تبليغ الرسالة، وقد بلغت، وليس المانع لهم من الإيمان عدم التبليغ، وإنما المانع:
الطغيان وبطر النعمة، كما قال تعالى: وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً أي: نعمة من الصحة، والغنى، والأمن، فَرِحَ بِها وقابلها بالبطر، وتوصّل بها إلى المخالفة والعصيان. وأريد بالإنسان الجنس، لقوله تعالى:
وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ، بلاء، من مرض، وفقر، وخوف، بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ بليغ الكفر، ينسى النعمة رأساً، ويذكر البلية، ويستعظمها، بل يزعم أنها أصابته من غير استحقاق.
وأفرد الضمير في (فرح) مراعاة للفظ، وجمعه في «تُصبهم» مراعاة للمعنى. وإسناد هذه الخصلة إلى الجنس مع كونها من خواص الجنس، لغلبتها فيهم. وتصدير الشرطية الأُولى بإذا، مع إسناد الإذاقة إلى نون العظمة للتنبيه على أن إيصال الرحمة محقق الوجود، كثير الوقوع، وأنه مراد بالذات، كما أن تصدير الثانية بأن، وإسناد الإصابة إلى السيئة، وتعليلها بأعمالهم للإيذان بندرة وقوعها، وأنها غير مرادة بالذات، «أنَّ رَحمَتِي سبقَت غَضَبي». ووضع الظاهر موضع الضمير للتسجيل على أن هذا الجنس موسوم بكفران النعم. قاله أبو السعود.
الإشارة: من تنكبتْه العناية السابقة، وأدركته الغواية اللاحقة، لم ينفع فيه وعظ ولا تذكير، وليس له من عذاب الله وليّ ولا نصير، فإذا تحققت الحقائق، وطلب الرجوع، لم يجد له سبيلاً، وبَقِيَ في الهوان خاشعاً ذليلاً، فيُعيرهم
228
مَن سبقتْ لهم العناية، من أهل الجد والتشمير، ويقولون: هؤلاء الذين خسروا أنفسهم، حيث لم يُتعبوها في مرضاة الله، وأهليهم، حيث لم يذكِّروهم الله.
قال القشيري: قوله تعالى: اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ بالوفاء بعهده، والقيام بحقِّه، والرجوع من مخالفته إلى موافقته، والاستسلام في كل وقت لحُكمِه والطريق اليوم إلى الاستجابة مفتوحٌ، وعن قريبٍ سيُغْلَقُ البابُ على القلب بغتة، ويُؤخذ فلتةً. هـ. ويقال لكل واعظ وداع: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً... الآية.
ثم بيّن وجه ما تقدم، من أن الأمور كلها بيده، هداية وإضلالا، وإنعاما وابتلاء، فقال:
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٤٩ الى ٥٠]
لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠)
يقول الحق جلّ جلاله: لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي: يملك التصرُّف فيهما، وفي كل ما فيهما، كيف يشاء، ومن جملته: أن يقسم النعمة والبلية، حسبما يريده. يَخْلُقُ ما يَشاءُ مما يعلمه الخلقُ ومما لا يعلمونه، يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً من الأولاد وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ منهم، من غير أن يكون لأحد في ذلك مدخل، أَوْ يُزَوِّجُهُمْ أي: يقرن بين الصنفين، ويهبهما جميعاً ذُكْراناً وَإِناثاً، بأن تلد غلاماً ثم جارية، أو تلدهما معاً. وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً لا نسل له. والعقيم: الذي لا يُولد له، رجل أو امرأة.
وقدّم الإناث أولاً على الذكور لأن سياقَ الكلام أنه فاعل ما يشاء، لا ما يشاؤه الإنسان، فكان ذِكر الإناث اللاتي من جملة ما لا يشاؤه الإنسان أهمّ، أو: لأن الكلام في البلاء، والعرب تعدهن عظيم البلايا، أو: تطييب قلوب آبائهم، ولمَّا أخَّر الذكور- وهم أحقاء بالتقديم- تدارك ذلك بتعريفهم لأن التعريف تنويه وتشريف، ثم أعطى بعد ذلك كلا الجنسين ما يستحقه من التقديم والتأخير، فقال: ذُكْراناً وَإِناثاً. وقيل المراد: أحوال الأنبياء- عليهم السلام- حيث وهب لشعيب ولوط إناثاً، ولإبراهيم ذكورا، وللنبى صلّى الله عليه وسلم ذكوراً وإناثاً، وجعل يحيى وعيسى عقيمين.
إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ مبالغ في العلم والقدرة، فيفعل ما فيه حكمة ومصلحة.
الإشارة: يهب لمَن يشاء إناثاً، علوماً وحسنات، ويهب لمَن يشاء الذكور، أذواقاً وواردات، ويجعل من يشاء عقيما، لا علم ولا ذوق، وانظر لطائف المنن «١». أو تقول: يهب لمن يشاء إناثا مَن ورّث علم الرسوم الظاهر،
(١) للشيخ أحمد بن عطاء السكندرى. باب تبيان معنى آيات كتاب الله تعالى ص ١٦٦.
وأقيمت بعده، ويهب لمَن يشاء الذكور مَن ورّث علم الأذواق والوجدان، وعمّر رجالاً، أو يزوجهم مَن ورثهما، ويجعل مَن يشاءُ عقيماً لم يترك وارثاً، لا من الظاهر، ولا من الباطن، وقد يكون كاملاً وهو عقيم، وقد يكون غير كامل وله أولاد كثيرة، لكن الغالب على مَن له أولاد أن يتسع بهم، بخلاف العقيم. والله تعالى أعلم.
ثم قرر عظمة ملكه، فقال:
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٥١ الى ٥٣]
وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (٥٣)
يقول الحق جلّ جلاله: وَما كانَ لِبَشَرٍ أي: ما صحّ لأحد من البشر أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ بوجه من الوجوه إِلَّا وَحْياً إلهاماً، كقوله عليه الصلاة والسّلام: «ألقي في رُوعي» «١» أو: رؤيا في المنام لقوله صلّى الله عليه وسلم:
«رؤيا الأنبياء وحي» «٢» كأمر إبراهيم عليه السلام بذبح الولد، وكما أوحي إلى أم موسى، رُوي عن مجاهد: «أَوحى اللهُ الزبورَ إلى داود عليه السلام- في صدره». أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ بأن يسمع كلاماً من الله، من غير رؤية السامع مَن يكلمه، كما سمع موسى عليه السلام من الشجرة، ومن الفضاء في جبل الطور، وليس المراد به حجاب الله تعالى على عبده حساً إذ لا حجاب بينه وبين خلقه حساً، وإنما المراد: المنع من رؤية الذات بلا واسطة.
أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا أو: بأن يرسل مَلَكاً فَيُوحِيَ الملَكُ بِإِذْنِهِ بإذن الله تعالى وتيسيره ما يَشاءُ من الوحي. وهذا هو الذي يجري بينه تعالى وبين أنبيائه في عامة الأوقات. روي: أن اليهود قالت للنبى صلّى الله عليه وسلم: ألا تلكم الله، وتنظر إليه إن كنت نبياً، كما كلمة موسى، ونظر إليه؟ فقال صلّى الله عليه وسلم: «لم ينظر موسى إلى الله تعالى» فنزلت «٣».
(١) ورد: «إن روح القدس نفث فى روعى أنّ نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها، وتستوعب رزقها... » الحديث. أخرجه أبو نعيم فى الحلية (١٠/ ٢٧) من حديث أبى أمامة رضي الله عنه. وجاءت كلمة «ألقى فى روعى» بنصها عن أبي سعيد الخدري فى حديث الرّقية بالفاتحة، ذلك عند ما قال الرّسول صلّى الله عليه وسلم: «وما يدريك أنها رقية» ؟ فقال أبو سعيد: ألقى فى روعى». الحديث أخرجه أحمد (٣/ ٥٠).
(٢) أخرجه البخاري فى (الوضوء، باب التخفيف فى الوضوء، ١٣٨) عن عبيد بن عمير (تابعي) موقوفا، وقال الحافظ ابن حجر فى فتح الباري (١/ ٢٨٩) :«رواه مسلم مرفوعا».
(٣) قال الحافظ ابن حجر فى الكافي الشاف (ص ١٤٦) :«لم أجده».
230
والذي عليه جمهور المحققين أن نبينا عليه الصلاة والسّلام رأى ربه ليلة المعراج، وكلّمه مشافهة، وعليه حمل البيضاوي قوله تعالى: إِلَّا وَحْياً لأن الوحي هو: الكلام الخفي، المدرك بسرعة، أعم من أن يكون مشافهة أو غيرها.
قال الطيبي: وإذا حمل الوحي على ما قاله البيضاوي، وأنه المشافهة، المعنى بقوله: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَآ أَوْحى
«١» اتجه ترتيب الآية، وأنه ذكر أولاً الكلام بلا واسطة، بل مشافهة، وهو حال نبينا صلّى الله عليه وسلم، ثم ذكر ما كان بغير واسطة، ولكن لا بمشافهة، بل من وراء الغيب، ثم ذكر الكلام بواسطة الإرسال «٢». هـ. بالمعنى.
إِنَّهُ عَلِيٌّ متعال عن صفات المخلوقين، لا يتأتى جريان المفاوضة بينه تعالى وبينهم إلا بأحد الوجوه المذكورة، ولا تكون المكافحة إلا بالغيبة عن حس البشرية، حَكِيمٌ يُجري أفعاله على سنن الحكمة، فيكلم تارة بواسطة، وأخرى بدونها، مكافحة، أو غيرها.
وَكَذلِكَ أي: ومثل ذلك الإيحاء البديع- كما وصفنا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا وهو القرآن، الذي هو للقلوب بمنزلة الروح للأبدان، فحييت الحياة الأبدية. ما كُنْتَ تَدْرِي قبل الوحي مَا الْكِتابُ أيّ شيء هو، وَلَا الْإِيمانُ بما في تضاعيف الكتاب من الأمور التي لا تهتدي إليها العقول، لا الإيمان بما يستقل به العقل والنظر، فإنَّ درايته صلّى الله عليه وسلم مما لا ريب فيه قطعاً. قال القشيري: ما كنت تدري قبل هذا ما القرآن ولا الإيمان بتفصيل هذه الشرائع. وقال الشيخ البكري: أي الإيمان على الوجه الأخص، المرتب على تنزلات الآيات، وتلاوة البينات، واستكشاف وجه الحق بأنوار العلم المنزل على قلبه من حضرة ربه. هـ.
وقال ابن المنير: الإيمان برسالة نفسه، وهو المنفي عنه قبل الوحي لأن حقيقة الإيمان التصديق بالله وبرسوله. هـ.
وَلكِنْ جَعَلْناهُ أي: الروح الذي أوحيناه إليك نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ هدايته مِنْ عِبادِنا، وهو الذي يصرف اختياره نحو الاهتداء به. وَإِنَّكَ لَتَهْدِي بذلك النور مَن نشاء هدايته، أو: وإنك لتدعو إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ
(١) الآية: ١٠ من سورة النّجم.
(٢) على هامش النّسخة الأساسية مايلى:
وعلى كلام البيضاوى يختل نظام القرآن المعجز ببلاغته، إذ معناه: وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا كلاما مواجهة أو من وراءِ حجابٍ.. إلخ، وهذا غير معقول صدوره من بلغاء البشر، فضلا عن كلام الله، فأعجب للطيبى وللمؤلف، ولكلّ من أمره على هذا المعنى المختل. هـ.
231
هو الإسلام وسائر الشرائع والأحكام، صِراطِ اللَّهِ بدل من الأول، وإضافته إلى الاسم الجليل، ثم وصفه بقوله تعالى: الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لتفخيم شأنه، وتقرير استقامته، وتأكيد وجوب سلوكه فإن كون جميع ما فيهما من الموجودات له تعالى، خلقاً، وملكاً، وتصرفاً، مما يُوجب ذلك أتم الإيجاب. أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ أي: الأمور قاطبة راجعة إليه، لا إلى غيره، فيتصرّف فيها على وِفق حكمته ومشيئته.
الإشارة: قد تحصل للأولياء المكالمة مع الحق تعالى بواسطة تجلياته، فيسمعون خطابه تعالى من البشر والحجر، أو بلا واسطة، بحيث يسمعون الكلام من الفضاء، وإليه أشار الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه بقوله: «وهب لنا مشاهدةً تصحبها مكالمة»، ولا تكون هذه الحالة إلا للأكابر من أهل الفناء والبقاء. وأما مكالمة الحق من النور الأقدس، بلا واسطة، فهو خاص نبينا صلّى الله عليه وسلم ليلة الإسراء. قال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن الفاسى رضي الله عنه:
والذي عندي أن التكلم على المكافحة والمشافهة إنما يكون بالانخلاع عن البشرية، ومحوها، والبقاء بصفات الربوبية، وذلك إشارة إلى أنه- عليه السلام- إنما شُوفَه وكلّم بعد العروج عن أرض الطبيعة إلى سماء الحقيقة، وكان بالأرض يُكلم بالواسطة، وموسى كُلّم بغير واسطة، ولكن بغير مشافهة، ولذلك كان كلامه بالأرض، ولم يعط الرؤية لأنها لا تكون في الأرض، أي: في أرض البشرية بل لا بد من الغيبة عنها. وذهب الورتجبي إلى أن الحصْر فيما ذكر في الآية إنما هو لمَن كان في حجاب البشرية، فأما مَن خرج عنها إلى الغيب، وألبس نور القرب وكحّل عينه بنوره تعالى، ومدّ سمعه بقوة الربوبية، فإنه يُخاطب كفاحاً وعياناً. ونقل مثل ذلك عن الواسطي، فراجع بسطه فيه. والفرق بينه وبين ما ذكرنا: أن خطاب المكافحة عنده خارجة من الثلاثة المذكورة في الآية، وعندنا داخلة في قوله: إِلَّا وَحْياً لأنه أعم من المشافهة، والله أعلم.
وقوله تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي: طريق الوصول والترقي أبداً، فيؤخذ منه: أن وساطته صلّى الله عليه وسلم لا تنقطع عن المريد أبداً لأن الترقي يكون باستعمال أدب العبودية، وهي مأخوذه عنه صلّى الله عليه وسلم، وكما أن الترقي لا ينقطع فالأدب- الذي هو سلوك طريقته صلّى الله عليه وسلم لا ينقطع. والله تعالى أعلم، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
232
Icon