ﰡ
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية (١): ما أخرجه ابن المنذر عن عكرمة، قال: لما نزلت: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾ قال المشركون بمكة، لمن بين أظهرهم من المؤمنين: قد دخل الناس في دين الله أفواجًا، فأخرجوا من بين أظهرنا، فعلام تقيمون بين أظهرنا، فنزلت: ﴿وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ...﴾ الآية.
وأخرج عبد الرزاق عن قتادة في قوله: ﴿وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ...﴾ الآية، قال: هم اليهود والنصارى، قالوا: كتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، ونحن خير منكم.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿حم (١) عسق (٢)﴾ اسمان (٢) للسورة، ولذلك فصل بينهما في الكتابة، وعدّا آيتين، بخلاف كهيعص والمص والمر، فإنها آية واحدة. وقيل: هما اسم واحد للسورة وآية واحدة، وفصلت لتطابق سائر الحواميم، فعلى الأول: يكونان خبرين لمبتدأ محذوف. وعلى الثاني: يكون خبرًا لذلك المبتدأ المحذوف، وقرأ ابن مسعود وابن عباس ﴿حم (١) عسق (٢)﴾ وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الحاء حكم الله، والميم ملك الله،
٢ - والعين علوّ الله، والسين سناء الله، والقاف قدرة الله، أقسم الله بها، فكأنه يقول: فبحكمي وملكي وعلوي وسنائي وقدرتي،
(٢) روح البيان.
واختلفوا (١) في حم، فأخرجها بعضهم من حيّز الحروف، وجعلها فعلًا فقال: معناها حم الأمر؛ أي: قضي، وبقي عسق على أصله، وفي "المراغي": وقد تقدم قولنا: إن الحروف المقطعة التي جاءت في أوائل السور، حروف تنبيه، نحو: ألا ويا، ونحوها، يؤتى بها لإيقاظ السامع، وتنبيهه إلى ما سيلقى إليه من الأمور العظام، المشتملة عليها هذه السورة، وينطق بأسمائها هكذا ﴿حاميم عين سين قاف﴾.
وقيل غير ذلك، مما هو متكلف متعسف، لم يدل عليه دليل، ولا جاء به حجة، ولا شبهة حجة، والأسلم تفويض علمه إلى الله تعالى، فيقال: الله أعلم بمراده بذلك.
٣ - ﴿كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ﴾ في ملكه: ﴿الْحَكِيمُ﴾ في صنعه، والكاف في حيز النصب على أنه مفعول ليوحي، والجلالة فاعله؛ أي: مثل ما في هذه السورة من المعاني، يوحي الله العزيز الحكيم إليك، في سائر السور، وإلى من قبلك من الرسل في كتبهم، على أن مناط المماثلة هو الدعوة إلى التوحيد والإرشاد إلى الحق، وما فيه صلاح العباد في المعاش والمعاد، ويجوز أن يكون الكاف في حيز النصب، على أنه نعت لمصدر مؤكد ليوحي؛ أي: مثل إيحاء هذه السورة؛ يوحي الله العزيز الحكيم إليك، عند إيحاء سائر السور، وإلى سائر الرسل عند إيحاء كتبهم إليهم لا إيحاء مغايرًا على أن مدار
وإنما ذكر (١) بلفظ المضارع، مع أن مقتضى المقام، أن يذكر بلفظ الماضي، ضرورة أن الوحي إلى الذين من قبله قد مضى، دلالة على استمرار الوحي، تجدده وقتًا فوقتًا، وأن إيحاء مثله عادته تعالى، ويجوز أن يكون إيذانًا أن الماضي والمستقبل بالنسبة إليه تعالى واحد، كما في "الكواشي". وقيل (٢): إن المضارع استعمل في حقيقته، ومجازه مستعمل في المستقبل، بالنظر إلى ما لم ينزل عليه من القرآن إذ ذاك وفي الماضي بالنظر لما أنزل بالفعل، وبالنظر إلى ما أنزل على الرسل السابقين، ووجه الشبه أن الموحى به في الكل، يرجع لأمور ثلاثة: التوحيد والنبوة والبعث. فهذا القدر موجود في القرآن وغيره من الكتب، اهـ شيخنا. وفي "زاده": ووجه المشابهة الاشتراك في الدعوة إلى التوحيد، والنبوة والمعاد وتقبيح أحوال الدنيا والترغيب في أمور الآخرة اهـ.
وقال الشوكاني: والمعنى: أي (٣) مثل ذاك الإيحاء الذي أوحي إلى سائر الأنبياء من كتب الله، المنزلة عليهم، المشتملة على الدعوة إلى التوحيد، والبعث يوحي الله إليك يا محمد في هذه السورة، وقيل: إن حم عسق أوحيت إلى من قبله من الأنبياء، فتكون الإشارة بقوله: كذلك إليها اهـ.
وقرأ الجمهور (٤): ﴿يُوحِي﴾ بكسر الحاء مبنيًا للفاعل، والفاعل الله، وهي واضحة اللفظ والمعنى: وقرأ أبو حيوة والأعمش وأبان ﴿نوحي﴾ بنون العظمة مع كسر الحاء، وقرأ مجاهد، وابن كثير وابن محيصن وعباس ومحبوب كلاهما عن أبي عمرو ﴿يوحى﴾ بفتح الحاء مبنيًا للمفعول، والقائم مقام الفاعل ضمير مستتر يعود على ذلك، والتقدير: مثل ذلك الإيحاء يوحى هو إليك، أو القائم مقام الفاعل إليك، أو الجملة المذكورة؛ أي: يوحى إليك هذا اللفظ أو القرآن، أو مصدر يوحي وارتفاع اسم الجلالة، على أنه فاعل لفعل محذوف، كأنه قيل:
(٢) الفتوحات.
(٣) الشوكاني.
(٤) البحر المحيط.
والمعنى (١): أي بمثل ما في هذه السورة من الدعوة إلى التوحيد، والنبوة والإيمان باليوم الآخر، وتجميل النفس بفاضل الأخلاق، وتبعيدها عن رذائل الأخلاق، والعمل على سعادة المرء والمجتمع، يوحي إليك الله العزيز في ملكه الغالب بقهره، الحكيم بصنعه المصيب في قوله وفعله، كما أوحي إلى الأنبياء بمثله من قبلك.
وسيأتي تفصيل هذا في سورة ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١)﴾، فقد ذكر في أولها التوحيد، وفي وسطها النبوة، وفي آخرها المعاد، ثم قال: ﴿إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (١٨) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (١٩)﴾. أي: إن المقصود من إنزال جميع الكتب الإلهية، ليس إلا هذه المطالب الثلاثة العالية، التي لا تتم السعادة إلا بها، ولا الفوز بالنعيم في الدارين إلا بسلوكها.
٤ - ثم بيّن سبحانه عظمته وكبرياءه وحكمته فقال: ﴿لَهُ﴾ سبحانه لا لغيره ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: إن الله سبحانه وتعالى يختص به جميع ما في العوالم العلوية والسفلية، خلقًا وملكًا وعلمًا، ذكر سبحانه هذا الوصف لنفسه، وهو ملك جميع ما في السموات والأرض لدلالته على كمال قدرته، ونفوذ تصرفه في جميع مخلوقاته ﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿الْعَلِيُّ﴾؛ أي: الرفيع الشأن ﴿الْعَظِيمُ﴾ الملك والقدرة والحكمة، أو هو العلي؛ أي: المرتفع عن مدارك العقول، إذ ليس كذاته ذات، ولا كصفاته صفات، ولا كاسمه اسم، ولا كفعله فعل، وهو العظيم الذي يصغر عند ذكره وصف كل شيء سواه، والعظيم من العباد، الأنبياء والعلماء الوارثون لهم، فالنبي عظيم في حق أمته، والأستاذ عظيم في حق تلميذه، وإنما العظيم المطلق، هو الله سبحانه وتعالى.
٥ - ﴿تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ﴾؛ أي: تقرب السموات يتشققن من عظمة وخشية وهيبة الإله الذي ﴿مِنْ فَوْقِهِنَّ﴾؛ أي: فوق السموات بالألوهية والقهر والعظمة والقدرة، والتفطر التشقق، قال (٢) الضحاك والسدي: يتشققن من عظمة الله وجلاله من فوقهن. وقيل: المعنى: تكاد كل واحدة تتفطر فوق التي تليها من قول المشركين: اتخذ الله ولدًا، وقيل: من فوقهن من فوق الأرضين، والأول أولى، ومن في قوله: من فوقهن لابتداء الغاية؛ أي: يبتدىء التفطر من جهتهن الفوقانية إلى جهتهن التحتانية.
ووجه تخصيص (٣) جهة الفوق، أنها أقرب إلى أعظم الآيات، وأدلها على القدرة الباهرة من العرش والكرسي وصفوف الملائكة المرتجة بالتسبيح والتحميد والتكبير والتهليل حول العرش، وما لا يعلم كنهه إلا الله من آثار الملكوت العظمى، فكان المناسب أن يكون تفطر السموات مبتدأ من تلك الجهة، بأن يتفطر أولًا أعلى السموات ثم إلى أن ينتهي إلى أسفلها، بأن لا تبقى سماء إلا سقطت على الأخرى.
وقيل: تتشققن من ادعاء الولد له، كما قال تعالى في سورة مريم: ﴿تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا﴾، فتخصيصها حينئذٍ للدلالة على التفطر من تحتهن بالطريق الأولى؛ لأن تلك الكلمة الشنعاء الواقعة في الأرض، إذا أثرت في جهة الفوق فلأن تؤثر في جهة التحت أولى، وقيل: لنزول العذاب منهن.
وقرأ الجمهور: ﴿تَكَادُ﴾ بالفوقية، وكذلك ﴿تتفطرن﴾ قرؤوه بالفوقية مع
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
وبعد أن بيّن كمال عظمته، باستيلاء هيبته على الجسمانيات، انتقل إلى ذكر الروحانيات فقال: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ﴾ هذا كلام مستأنف، لا تعلق له بما قبله؛ أي: ينزهونه تعالى عما لا يليق به، من الشريك والولد، وسائر صفات الأجسام، حال كونهم متلبسين ﴿بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ سبحانه وتعالى، فقدم التسبيح على الحمد؛ لأنّ التخلية مقدمة على التحلية، وقيل: إن التسبيح موضوع موضع التعجب؛ أي: يتعجبون من جراءة المشركين على الله. وقيل: معنى ﴿بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ بأمر ربهم ﴿وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: للمؤمنين بالشفاعة، لقوله تعالى: ﴿وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾، فالمطلق محمول على المقيد، أو يستغفرون للمؤمن والكافر والفاسق، بالسعي فيما يستدعي مغفرتهم، من الشفاعة والإلهام، وترتيب الأسباب، المقوبة إلى الطاعة، واستدعاء تأخير العقوبة، جمعًا في إيمان الكافر، وتوبة الفاسق، وتكون الآية عامة، وهذا لا ينافي كون الملائكة لاعنين للكفار من وجه آخر، كما قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾، وفي الحديث: "ما فيها موضع أربع أصابع، وفي رواية موضع راحة، إلا وملك واضع جبهته ساجدًا لله، يسبّحون بحمد ربهم، ويستغفرون لمن في الأرض". وهذا يدل على أن المراد بالملائكة في الآية: ملائكة السموات كلها، وقال مقاتل: حملة العرش، وإليه ذهب الكاشفى في تفسيره، ويدل عليه قوله تعالى، في أوائل سورة المؤمن: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾.
يقول الفقير: تخصيص ملائكة العرش، لا ينافي من عداهم، فلعله من باب الترقي؛ لأنّ آية سورة المؤمن - غافر - مقيّدة بحملة العرش، وباستغفار المؤمنين، وهذه الآية مطلقة في حق كل من الملائكة والاستغفار.
ثم بيّن سبحانه أن من شأنه المغفرة والرحمة لعباده، فقال: ﴿أَلَا﴾ للتنبيه؛
يقول الفقير: إن الملائكة وإن كانوا يستغفرون للمؤمنين، فالمؤمنون يسلّمون عليهم كما يقولون في التشهد: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، إذ لا يعصون ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فالمنة لله تعالى على كل حال.
وفي الآية: إشارة إلى أن قومًا من الجهلة يقولون على الله ما لا يعلمون، ومن عظم افترائهم تكاد السموات تنشق من فوقهم؛ لأنّ الله تعالى ألبسها أنوار قدرته، وأدخلها روح فعله، حتى عقلت عبودية صانعها؛ وعرفت قدسه وطهارته عن قول الزائغين، وإشارة الملحدين، والملائكة يقدسون الله، عما يقولون فيه من الزور والبهتان، والدعاوى الباطلة، ويستغفرون للمؤمنين، الذين لم يبلغوا حقيقة عبوديته، فإنهم هم القابلون للإصلاح، لاعترافهم بعجزهم، وقصورهم، دون المصرين المبتدعين.
وفي الآية: إيماء أيضًا إلى قبول استغفار الملائكة، وهو يزيد على ما طلبوه من المغفرة، الرحمة بهم، وتأخير عقوبة الكافرين والعصاة نوع من المغفرة والرحمة، لعلهم يرعوون عن غوايتهم، ويثوبون إلى رشدهم، وينيبون إلى ربهم،
٦ - ثم أبان وظيفة الرسل، فقال: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ﴾؛ أي: أصنامًا وأندادًا وشركاء، أشركوهم معه تعالى، في العبادة ﴿اللَّهُ﴾ سبحانه ﴿حَفِيظٌ﴾؛ أي: رقيب ﴿عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: على أحوالهم، ومطلع على أعمالهم، ليس بغافل عنهم، فيجازيهم، لا رقيب عليهم إلا هو وحده ﴿وَمَا أَنْتَ﴾ يا محمد - ﷺ - ﴿بِوَكِيلٍ﴾؛ أي: بموكول إليه أمورهم، ولا بموكل بهم، حتى تسأل عنهم وتؤخذ بهم، وإنما وظيفتك الإنذار وتبليغ الأحكام، قيل: وهذه الآية منسوخة بآية السيف.
حكاية: وقال الأستاذ أبو علي الدقاق - رحمه الله تعالى -: ظهرت علة بالملك يعقوب بن الليث، أعيت الأطباء، فقالوا له: في ولايتك رجل صالح، يسمى سهل بن عبد الله، لو دعا لك، لعل الله يستجيب له، فاستحضره فقال: ادع الله لي، فقال: كيف يستجاب دعائي فيك، وفي حبسك مظلومون، فأطلق كل من حبسه، فقال سهل: اللهم كما أريته ذل المعصية، فأره عز الطاعة، وفرج عنه، فعوفي، فعرض مالًا على سهل، فأبى أن يقبله، فقيل له: لو قبلته ودفعته إلى الفقراء، فنظر إلى الحصباء في الصحراء، فهذا هي جواهر فقال: من يُعطى مثل هذا، يحتاج إلى مال يعقوب بن الليث؟ فالمعطي والمانع والضار والنافع هو الله، الولي، الوكيل، الذي لا إله غيره.
والمعنى: أي والمشركون الذين اتخذوا آلهة من الأصنام، والأوثان، يعبدونها، الله هو المراقب لأعمالهم، المحصي لأفعالهم، وأقوالهم، المجازي لهم يوم القيامة على ما كانوا يفعلون، ولست أنت أيها الرسول، بالحفيظ عليهم، إنما أنت نذير تبلغهم ما أرسلت به إليهم، إن عليك إلا البلاغ، وعلينا الحساب، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، فإنك لست بمدرك ما تريد من هدايتهم، إلا إذا شاء ربك.
٧ - والإشارة في قوله: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ إلى مصدر أوحينا، ومحل الكاف النصب على المصدرية. وقرآنًا عربيًا مفعول به لأوحينا؛ أي: ومثل ذلك الإيحاء البديع، الواضح المفهم، أوحينا إليك إيحاء لا لبس به، عليك وعلى قومك.
والمعنى (٣): أي ومثل ذلك الإيحاء البديع البيّن، أوحينا إليك قرآنًا عربيًا بلسان قومك، لاخفاء فيه عليك، ولا عليهم، ليفهموا ما فيه من حجج الله وذكره، ولتنذر به أهل مكة، وما حولها من البلاد، إلى منقطع الأرض كما أرسلنا كل رسول بلسان قومه.
وقصارى ذلك: أنا كما أوحينا إليك أنك لست بالحفيظ عليهم، ولا بالوكيل، أوحينا إليك قرآنًا عربيًا، لتنذر أهل مكة وما حولها، وخص هؤلاء بالذكر؛ لأنهم أول من أنذروا، ولأنهم أقرب الناس إليه، فلا دليل فيها على أنه أرسل إليهم خاصة، كيف وقد جاء في آية أخرى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ﴾.
وهذا الإنذار يعم شؤون الدنيا وشؤون الآخرة، ثم خصَّ من بينها أمور الآخرة، بيانًا لعظيم أهوالها، وشديد نكالها فقال: ﴿وَتُنْذِرَ﴾ أهل مكة ومن حولها ﴿يَوْمَ الْجَمْعِ﴾؛ أي (٤): بيوم القيامة وما فيه من العذاب، سمي يوم الجمع:
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
(٤) روح البيان.
وجملة قوله: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾؛ أي: لا شك في يوم الجمع، جملة معترضة، مقررة لما قبلها، لا محل لها من الإعراب، أو صفة ليوم الجمع، أو حال منه، أي: لا بدّ من مجيء ذلك اليوم، وليس بمرتاب فيه في نفسه وذاته، لأنه لا بدّ من جزاء العاملين من المنذرين وأهل الجنة والنار، وارتياب الكفار فيه لا يعتد به. أو لا شك في الجمع أنه كائن، ولا بد من تحققه.
والمعنى (١): أي ولتنذر الخلائق كافة، عقاب الله، يوم جمعهم للعرض والحساب، وهو يوم لا شك فيه، لتظاهر الأدلة على تحققه، عقلًا ونقلًا، فالحكمة قاضية بجزاء المحسن على إحسانه، ومعاقبة المسيء على إساءته، ولما فيه من نصوص قاطعة، على وجوده، لا تحتمل تأويلًا، ولا تفسيرًا.
ثم ذكر عاقبة العرض والحساب، فقال: ﴿فَرِيقٌ﴾ منهم، وهم المؤمنون ﴿فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ﴾ منهم وهم الكافرون ﴿فِي السَّعِيرِ﴾؛ أي: في النار سميت بها لالتهابها، وذلك بعد جمعهم في الموقف؛ لأنهم يجمعون فيه أولًا، ثم يفرّقون بعد الحساب، وقرأ الجمهور (٢): برفع ﴿فَرِيقٌ﴾: في الموضعين، إما على أنه مبتدأ، وخبره الجار والمجرور، وسوّغ الابتداء بالنكرة، كونه في معرض تفصيل، أو كونه موصوفًا بصفة محذوفة؛ أي: فريق منهم، كما قدّرناه أولًا في حلنا، أو على أن الخبر مقدّر قبله، أي: منهم فريق في الجنة ومنهم فريق في السعير. وجاز حينئذٍ الابتداء بالنكرة لأمرين تقديم خبرها، وهو الجار والمجرور المحذوف، ووصفها بقوله في الجنة، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف، وهو ضمير
(٢) الشوكاني.
وفي "التأويلات النجمية" (١): وتنذر يوم الجمع بين الأرواح والأجساد، لا شك في كونه، وكما أنهم اليوم فريقان: فريق في جنة القلوب، وراحات الطاعات، وحلاوات العبادات، وتنعّمات القربات، وفريق في سعير النفوس، وظلمات المعاصي، وعقوبات الشرك، والجحود، فكذلك غدًا، فريق هم أهل اللقاء، وفريق هم أهل الشقاء والبلاء.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: خرج علينا رسول الله - ﷺ - ذات يوم، قابضًا على كفّه، ومعه كتابان، فقال: "أتدرون ما هذان الكتابان" قلنا: لا يا رسول الله، فقال: للذي في يده اليمنى "هذا كتاب من ربّ العالمين، بأسماء أهل الجنة، وأسماء آبائهم وعشائرهم، وعدّتهم، قبل أن يستقرّوا نطفًا في الأصلاب، وقبل أن يستقروا نطفًا في الأرحام، إذ هم في الطينة منجدلون، فليس بزائد فيهم ولا ناقص منهم، إجمال من الله عليهم، إلى يوم القيامة"، ثم قال: للذي في يساره: "هذا كتاب من رب العالمين، بأسماء أهل النار، وأسماء آبائهم، وعشائرهم، وعدّتهم، قبل أن يستقروا نطفًا في الأصلاب، وقبل أن يستقروا في الأرحام، إذ هم في الطينة منجدلون، فليس بزائد فيهم، ولا ناقص منهم إجمال من الله تعالى عليهم إلى يوم القيامة. فقال عبد الله بن عمرو: ففيم العمل إذًا؟ قال: اعملوا وسددوا وقاربوا، فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة، وإن عمل أيّ عمل، ثمّ قال: فريق في الجنة وفريق في السعير، عدل
٨ - ثم سلى رسوله على ما كان يناله من الغم والهم، بتولي قومه عنه وعدم استجابة دعوته، وأعلمه أن أمور عباده بيده، وأنه الهادي إلى الحق من يشاء، والمضل من أراد، فقال: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى، جمع الناس على الهداية، أو على الضلالة ﴿لَجَعَلَهُمْ﴾ في الدنيا، والضمير لجميع الناس المشار إليهم بالفريقين ﴿أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ مهتدين أو ضالين، وهو تفصيل لما أجمله ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: على دين واحد. قال الضحاك: أهل دين واحد، إما على هدى وإما على ضلالة، ولكنهم افترقوا على أديان مختلفة بالمشيئة الأزلية، وهو معنى قوله: ﴿وَلَكِنْ يُدْخِلُ﴾ في الدين الحق ﴿مَنْ يَشَاءُ﴾ أن يدخله ﴿فِي رَحْمَتِهِ﴾ وجنته ويدخل في الضلال من يشاء أن يدخله في عذابه ونقمته، ولا ريب في أن مشيئة الله تعالى، لكل من الإدخالين، تابعة لاستحقاق كل من الفريقين لدخول مدخله، ومن ضرورة اختلاف الرحمة اختلاف حال الداخلين فيهما قطعًا، فلم يشأ جعل الكل أمةً واحدة، بل جعلهم فريقين ﴿وَالظَّالِمُونَ﴾؛ أي: المشركون ﴿مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ﴾ ما يلي أمرهم ويغنيهم وينفعهم، فـ ﴿مِنْ﴾: مزيدة لاستغراق النفي ﴿وَلَا﴾ من ﴿نَصِيرٍ﴾ ما يدفع العذاب الواقع عنهم ويخلصهم منه، وفيه إيذان، بأن الإدخال في العذاب من جهة الداخلين بموجب سوء اختيارهم، لا من جهته تعالى، كما في الإدخال في الرحمة.
قال سعدي المفتي في "حواشيه" (١): لعل تغيير المقابل حيث لم يأت المقابل، ويدخل من يشاء في نقمته، بل عدل إلى ما في النظم، للمبالغة في الوعيد، فإن في نفي من يتولاهم وينصرهم في دفع العذاب عنهم، دلالة على أن كونهم في العذاب أمر معلوم مفروغ عنه، وأيضًا فيه سلوك طريق ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠)﴾ وأيضًا ذكر السبب الأصلي في جانب الرحمة ليجتهدوا في الشكر، والسبب الظاهري في جانب النقمة ليرتدعوا عن الكفر.
وحاصل المعنى (١): أي ولو شاء الله لجعل الجميع مؤمنين، كما تريد وتحرص عليه، ولكن حكمته اقتضت أن يكون بعضهم مؤمنين وبعضهم كفارًا، وهم الذين اتخذوا من دون الله أولياء؛ لأنه سبحانه شاء أن يكون الإيمان مبنيًا على التكليف والاختيار، يدخل المرء فيه بمحض الرضا. والتأمل في الأدلة الموصلة إلى الهدى، وبذلك يتم الفوز والسعادة في الدارين، وينفر منه من دنس نفسه بأدران الشرك، وركب رأسه وأطاع هواه، فكان من الخاسرين، ولو شاء لجعل الإيمان بالقسر والإلجاء، فكان الناس جميعًا أمة واحدة، ولكن له الحجة البالغة والمثل الأعلى، ولم يشأ ذلك، فلا تأس على عدم إيمان قومك، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات، كما قال: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (٦)﴾، وقد جاء هذا المعنى في غير آية سلف كثير منها، كقوله: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى﴾، وقوله: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا﴾.
٩ - وجملة قوله: ﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ﴾ مستأنفة مقررة لما قبلها من انتفاء كون الولي والنصير للظالمين. و ﴿أَمِ﴾ (٢) هذه هي المنقطعة المقدرة ببل المفيدة للانتقال من بيان ما قبلها إلى بيان ما بعدها، وبالهمزة المفيدة لإنكار الوقوع
(٢) روح البيان.
قلت: ويحتمل أن تكون الفاء تعليلية، لكون ما بعدها علة لإنكار اتخاذ الأولياء من دون الله، كقولك: أتضرب زيدًا فهو أخوك، على معنى: لا ينبغي أن تضربه، لكونه أخاك، والمعنى هنا: لا ينبغي لهم أن يتخذوا أولياء من دون الله، لأنّ الله هو الولي الحقيقي.
﴿وَهُوَ﴾ سبحانه؛ أي: ومن شأنه أنه ﴿يُحْيِ الْمَوْتَى﴾ ليس في السماء والأرض معبود يحيي الموتى غيره ﴿وَهُوَ﴾ سبحانه على كل شيء من الإحياء والإماتة ﴿قَدِيرٌ﴾ فهو الحقيق بأن يتخذ وليًا، فليَخصُّوه بالاتخاذ دون من لا يقدر على شيء.
ومعنى الآية (٢): أي إن هؤلاء المشركين من قومك، قد اتخذوا أولياء ينصرونهم من دون الله، وقد ضلوا ضلالًا بعيدًا، فهؤلاء لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا، فإن أرادوا وليًا بحق يدفع عنهم الملمات ويجلب لهم الخيرات، فالله هو القادر على ذلك وهو محيي الموتى، ويحشرهم يوم القيامة، فجدير بمثله أن يتخذ وليًا، لا من لا يستطيع دفع الشر عن نفسه، ولا جلب الخير لها، ونحو الآية قوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ
(٢) المراغي.
١٠ - وبعد أن منع رسوله أن يحمل الكفار على الإيمان قسرًا، منع الكافرين أن يتنازعوا معهم، في شأن من شؤون الدين فقال: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ﴾ هذا (١) حكاية قول النبي - ﷺ - للمؤمنين؛ أي: ما خالفكم فيه الكفار من أهل الكتاب والمشركين، فاختلفتم أنتم وهم فيه ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾؛ أي: في أمر من أمور الدين ﴿فَحُكْمُهُ﴾؛ أي: حكم ذلك المختلف فيه مفوض ﴿إِلَى اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى، وهو إثابة المحقين فيه من المؤمنين، ومعاقبة المبطلين، وهذا عام في كل ما اختلف فيه العباد من أمر الدين، فإن حكمه ومرجعه إلى الله، يحكم فيه يوم القيامة بحكمه، ويفصل خصومة المختصمين فيه، وعند ذلك يظهر المحق من المبطل، ويتميز فريق الجنة وفريق النار، وقال مقاتل: إن أهل مكة كفر بعضهم بالقرآن، وآمن به بعضهم فنزلت، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ويمكن (٢) أن يكون معنى قوله: ﴿فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ أنه مردود إلى كتابه، فإنه قد اشتمل على الحكم بين عباده فيما يختلفون فيه، فتكون الآية عامة في كل اختلاف يتعلق بأمر الدين، أنه يرد إلى كتاب الله تعالى، ومثله قوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾. وقد حكم سبحانه وتعالى بأن الدين هو الإِسلام، وأن القرآن حق، وأن المؤمنين في الجنة والكافرين في النار، ولكن لما كان الكفار لا يذعنون لكون ذلك حقًا إلا في الدار الآخرة، وعدهم الله بذلك يوم القيامة.
ثم أمر رسوله - ﷺ - أن يقول لهم: ﴿ذَلِكُمْ﴾ الحاكم بهذا الحكم العظيم الشأن، وهو مبتدأ ﴿اللَّهُ﴾ خبر ﴿رَبِّي﴾ ومالكي لقب لله سبحانه، ﴿عَلَيْهِ﴾ خاصة لا على غيره ﴿تَوَكَّلْتُ﴾ في كل أموري، التي من جملتها رد كيد أعداء الدين ﴿وَإِلَيْهِ﴾ لا إلى أحد سواه ﴿أُنِيبُ﴾؛ أي: أرجع في كل ما يعنّ لي، من معضلات الأمور، التي منها كفاية شرهم والنصر عليهم.
(٢) الشوكاني.
والمعنى: أي ذلكم الموصوف بهذه الصفات، من الإحياء والإماتة والحكم بين المختلفين، هو ربي وحده، لا آلهتكم التي تدعون من دونه، عليه توكلت في دفع كيد الأعداء. وفي جميع شؤوني، وإليه أرجع في كل المهمات، وإليه أتوب من الذنوب.
وفي هذا تعريض لهم، بأن ما هم عليه من اتخاذ غير الله وليًا لا يجديهم نفعًا، ولا يدفع عنهم ضرًا، فالأجدر بهم أن يقلعوا عنه، إذ من شأن العاقل أن لا يفعل إلا ما يفيده في دينه أو دنياه.
١١ - ثم بين الأسباب، التي تحمله على أن يلتجىء إليه، وتجعله الحقيق بذلك فقال: ﴿فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ والفاطر: هو الخالق المبدع، وقرأ الجمهور: ﴿فَاطِرُ﴾ بالرفع، على أنه خبر آخر لذلكم، أو خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ وخبره ما بعده، أو نعت لربي؛ لأن الإضافة فيه محضة، ويكون ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ معترضًا بين الصفة والموصوف، وقرأ زيد بن علي ﴿فَاطِرُ﴾ بالجر على أنه نعت للاسم الشريف، في قوله: ﴿إِلَى اللَّهِ﴾، وما بينهما اعتراض أو بدل من الهاء، في عليه أو إليه، وأجاز الكسائي النصب على النداء، وأجازه غيره على المدح.
والمعنى: أي أنه الجدير بأن يعتمد عليه ويستعان به؛ لأنه خالق العوالم جميعها علويها وسفليها، على عظمتها التي ترونها، لاآلهتكم التي لا تستطيع أن تخلق شيئًا.
ثم بين بعض ما خلقه وأنعم به، فقال: ﴿جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾؛ أي:
(٢) النسفي.
(٣) العكبري.
وقال الإمام الراغب في "المفردات": المثل عبارة عن المشابه لغيره في معنى من المعاني أي معنى كان، وهو أعم الألفاظ الموضوعة للمشابهة، وذلك أن الند يقال لما يشارك في الجوهر فقط، والشبه يقال فيما يشاركه في القدر والمساحة فقط، والمثل عام في جميع ذلك، ولهذا لما أراد الله سبحانه وتعالى نفي التشبيه، من كل وجه، خصه بالذكر فقال تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ انتهى.
والشيء عبارة عن الموجود، وهو اسم لجميع المكونات، عرضًا كان أو جوهرًا. وعند سيبويه الشيء ما يصح أن يعلم ويخبر عنه موجودًا أو معدومًا، ومن (١) فهم هذه الآية الكريمة حق فهمها، وتدبرها حق تدبرها.. مشى بها عند اختلاف المختلفين في الصفات، على طريقة بيضاء واضحة، ويزداد بصيرة إذا تأمل، معنى قوله: ﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى: ﴿السَّمِيعُ﴾ لجميع المسموعات بلا أذن ﴿الْبَصِيرُ﴾ لجميع المرئيات بلا حدقة، وكأنه ذكرهما لئلا يتوهم أنه لا صفة له، كما لا مثل له.
وحاصل معنى الآية: أي ومن حكمته تعالى لبقاء العمران في هذه الحياة، إلى الأجل الذي حدده في علمه، أن خلق لكم من جنسكم زوجات، لتتوالدوا ويكثر النسل، ويستمر بقاء هذا النوع، وجعل للأنعام مثل هذا، وبهذا تنتظم شؤون الحياة لهذا الخليفة، الذي جعله الله في الأرض وتقضى مآربه الدنيوية، من مأكول ومشروب، وتستمر تغذيته على أتم النظم وأكمل الوجوه، فيشكر ربه على ما أولى، ويعبده على ما أنعم، فيفوز بالسعادة في الحياة الآخرة، كما فاز في الدنيا.
وبعد أن ذكر بعض صنعه، الدال على عظمته، أرشد إلى بعض صفاته العظيمة، فقال:
١ - ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾؛ أي: ليس كخالق الأزواج شيء؛ لأنه الفرد
٢ - ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ أي: وهو السميع لما ينطق به خلقه من قول البصير بأعمالهم لا يخفي عليه شيء مما كسبت أيديهم من خير وشر.
٣ - ١٢ ﴿لَهُ﴾ سبحانه وتعالى لا لغيره ﴿مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾؛ أي: جميع خزائن السموات والأرض، من الأرزاق والرحمة.
قال الجواليقي في كتابه "المعرب": المقليد: المفتاح، فارسي، معرب لغة في الأقليد، والجمع مقاليد، فالمقاليد: المفاتيح، وهي كناية عن الخزائن، وقدرته عليها، وحفظه لها، قال النحاس: والذي يملك المفاتيح، يملك الخزائن، انتهى. وفيه مزيد دلالة على الاختصاص؛ لأن الخزائن لا يدخلها، ولا يتصرف فيها إلا من بيده مفاتيحها؛ أي: له تعالى مفاتيح خزائن السموات والأرض، فبيده مقاليد الخير والشر، فما يفتح من رحمة، فلا ممسك لها، وما يمسك منها، فلا مرسل له من بعده، وقد بين هذا بقوله: ﴿يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾؛ أي: يوسع رزقه وفضله على من يشاء من خلقه ﴿وَيَقْدِرُ﴾؛ أي: يضيق ويقتر على من يريد، بحسب السنن والنواميس، التي وضعها بين عباده في هذه الحياة.
ثم ذكر سبب هذا البسط والتقتير فقال: ﴿إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾؛ أي: إنه تعالى عليم بكل ما يفعله من توسعة على من يوسع عليه، وتقتير على من يقتر عليه، ومن الذي يصلحه البسط في الرزق، ومن الذي يفسده، ومن الذي يصلحه التقتير، ومن الذي يفسده لا يخفى عليه شيء من ذلك، فيفعل كل ذلك على مقتضى حكمته الكاملة، وقدرته الواسعة وعلمه المحيط، فلا يوسع الرزق، إلا إذا علم سعته خير للعبد، وكذا التضييق.
ثم إن الرزق قسمان: رزق صوري: وهي المأكولات والمشروبات الحسية، ورزق معنوي: وهي العلوم الحقيقية والمعارف الإلهية، فالأول داخل في الآية
١٣ - ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ﴾ شروع في تفصيل ما أجمله، أولًا بقوله: ﴿كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ اهـ "خطيب". والخطاب في ﴿لَكُمْ﴾ لأمة محمد - ﷺ -؛ أي: بين وأوضح وسن لكم من التوحيد، ودين الإسلام، وأصول الشرائع والأحكام، سنةً وطريقًا واضحًا؛ أي: سن الله سبحانه لكم، يا أمة محمد - ﷺ -، ﴿مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا﴾ عليه السلام؛ أي (١): أمر به نوحًا من التوحيد الذي لم يختلف فيه الرسل، وتوافقت عليه الكتب، أمرًا مؤكدًا، فإن التوصية معربة عن تأكيد الأمر، والاعتناء بشأن المأمور به؛ لأن الوصية التقديم إلى الغير بما يعمل به، مقترنًا بوعظه، وقدم نوحًا لأنه أول أنبياء الشريعة، فإنه أول من أُوحي إليه الحلال والحرام، وأول من أوحي إليه تحريم الأمهات والأخوات والبنات وسائر ذوات المحارم، فبقيت تلك الحرمة إلى الآن ﴿وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ يا محمد - ﷺ -؛ أي: وشرع لكم يا أمة محمد - ﷺ - الذي أوحينا إلى نبيكم - ﷺ - من القرآن، وشرائع الإسلام، والبراءة من الشرك، والتعبير عنه بالموصول، لتفخيم شأنه.
وتغيير التوصية إلى الإيحاء في جانب النبي - ﷺ -، للتصريح برسالته قطعًا لإنكار الكفرة، والالتفات إلى نون العظمة لإظهار كمال الاعتناء بإيحائه، وهو السر في تقديمه على ما بعده، مع تقدمه عليه زمانًا، وتقديم توصية نوح، للمسارعة إلى بيان كون المشروع لهم دينًا قديمًا، والتعبير بالأصل في الموصولات، وهو الذي في جانب نبينا محمد - ﷺ - للتعظيم، وتوجيه الخطاب إليه - ﷺ - بطريق التلوين للتشريف، والتنبيه على أنه تعالى، شرعه لهم على لسانه ﴿وَ﴾ شرع الله لكم أيضًا ﴿مَا وَصَّيْنَا﴾؛ أي: أمرنا ﴿بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى﴾ ابن مريم - على نبينا، وعليهم الصلاة والسلام - أمرًا أكيدًا.
وحكمة تخصيص هؤلاء الخمسة بالذكر هنا، أنهم أكابر الأنبياء، ومشاهيرهم، من أولى العزم، وأصحاب الشرائع العظيمة، والأتباع الكثيرة.
وفي الآية: إيماء إلى أن ما شرعه لهم، صادر عن كامل العلم والحكمة، وأنه دين قويم أجمع عليه الرسل، وما أوحاه إليه، هو إما ما ذكر في صدر السورة، وفي قوله: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا﴾ الآية، وإما ما يعمهما وغيرهما مما وقع في سائر المواضع، التي من جملتها قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾، وقوله: ﴿إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾.
ثم فصل ما شرعه بقوله: ﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ﴾ المراد (٢) بإقامته تعديل أركانه، وحفظه من أن يقع فيه زيغ، أو المواظبة والتشمر له و ﴿أَنْ﴾ تفسيرية بمعنى أي؛ أي: أقيموا الدين لأنه قد تقدمها ما في معنى القول. ويجوز أن تكون مصدرية في محل رفع خبر مبتدأ مقدر، تقديره: هو أن أقيموا إلخ، أو في محل نصب، بدلًا من الموصول، أو في محل جر، بدلًا من الدين، اهـ "سمين".
وعبارة "أبي السعود": ومحل ﴿أَنْ أَقِيمُوا﴾ إما النصب على أنه بدل من مفعول ﴿شَرَعَ﴾ والمعطوفين، أو الرفع على أنه جواب سؤال، نشأ من إبهام المشروع، كأنه قيل: وما ذاك، فقيل، هو إقامة الدين؛ أي: أقيموا دين الإسلام الذي هو توحيد الله وطاعته، والإيمان بكتبه ورسله وباليوم الآخر، وسائر ما يكون الرجل به مؤمنًا، ﴿وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾؛ أي: في الدين، الذي هو عبارة عن
(٢) أبو السعود.
واعلم (٢): أن الأنبياء عليهم السلام مشتركون، ومتفقون في أصل الدين، وجميعهم أقاموا الدين، وقاموا بخدمته، وداموا بالدعوة إليه، ولم يختلفوا في ذلك، وباعتبار هذا الاتفاق، والاتحاد في الأصول، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ من غير تفرقة بين نبي ونبي، ومختلفون في الفروع والأحكام، قال تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ وهذا الاختلاف الناشىء من اختلاف الأمم، وتفاوت طبائعهم لا يقدح في ذلك الاتفاق، ثم أمر عباده بإقامة الدين والاجتماع عليه، ونهاهم عن التفرق فيه، فإن يد الله ونصرته مع الجماعة، وإنما يأكل الذئب الشاة البعيدة، النافرة، والمنفردة عن الجماعة.
أوصى حكيم أولاده عند موته، وكانوا جماعة، فقال: ائتوني بعصي، فجمعها، فقال لهم: اكسروها وهي مجموعة، فلم يقدروا على ذلك، ثم فرقها فقال: خذوا واحدة واحدة فاكسروها فكسروها، فقال لهم: هكذا أنتم بعدي بن تغلبوا ما اجتمعتم، فإذا تفرقتم تمكن منكم عدوكم فأهلككم، وكذا القائمون بالدين، إذا اجتمعوا على إقامته، ولم يتفرقوا فيه لم يقهرهم عدوهم، وكذا الإنسان في نفسه، إذا اجتمع في نفسه على إقامة الدين، لم يغلبه شيطان من الإنس والجن بما يوسوس به إليه، مع مساعدة الإيمان، والملك بإقامته له. وقال علي رضي الله عنه: لا تتفرقوا فإن الجماعة رحمة، والفرقة عذاب، وكونوا عباد الله إخوانًا.
(٢) روح البيان.
والخلاصة (٢): أننا شرعنا لكم، ما شرعنا للأنبياء قبلكم، دينًا واحدًا في الأصول، وهي التوحيد والصلاة والزكاة والصيام والحج والتقرب بصالح الأعمال، كالصدق والوفاء بالعهد وأداء الأمانة وصلة الرحم، وحرمنا عليكم الزنا، وإيذاء الخلق، والاعتداء على الحيوان، فكل هذا قد اتحد فيه الرسل، وإن اختلفوا في تفاصيله.
ثم ذكر سبحانه وتعالى، أن ما شرعه لعباده شق على المشركين، فقال: ﴿كَبُرَ﴾؛ أي: عظم وشق ﴿عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ﴾ يا محمد من التوحيد، ورفض عبادة الأصنام، واستبعدوه حيث قالوا: ﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (٥)﴾ وقال قتادة: شهادة أن لا إله إلا الله وحده، ضاق بها إبليس وجنوده، فأبى الله إلا أن يظهرها على من ناوأها؛ أي: عاداها.
والمعنى: أي شق على المشركين دعوتهم إلى التوحيد، وترك عبادة الأصنام والأوثان، وتقريعهم على ذلك، لأنهم توارثوا ذلك كابرًا عن كابر، ونقلوه عن الآباء والأجداد، كما حكى سبحانه عنهم بقوله: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾.
وبعد أن أرشد المؤمنين إلى التمسك بالدين، ذكر أنه إنما هداهم إلى ذلك لأنه اصطفاهم من بين خلقه فقال: ﴿اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يَجْتَبِي إِلَيْهِ﴾؛ أي: إلى دينه الحق؛ أي: يختار لتوحيده والدخول في دينه ﴿مَنْ يَشَاءُ﴾ اجتباءه من عباده، والاجتباء (٣): الجمع على طريق الاصطفاء، وهو هنا مأخوذ من الجباية، وهي جلب الخراج، وجمعه لمناسبة النهي عن التفرق في الدين، ولأن الاجتباء
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
والمعنى: الله سبحانه يجتلب إلى ما تدعوهم إليه من يشاء أن يجتلبه إليه، وهو من صرف اختياره إلى ما دعي إليه ﴿وَيَهْدِي إِلَيْهِ﴾؛ أي: إلى الدين بالإرشاد والتوفيق، وإمداد الألطاف ﴿مَنْ يُنِيبُ﴾ ويقبل إليه؛ أي: يوفق لدينه ويستخلص لعبادته من يرجع إلى طاعته، ويقبل إلى عبادته. ويجوز (١) أن يكون الضمير في ﴿إِلَيْهِ﴾ لله في كلا الموضعين، فالمعنى: الله يجمع إلى جنابه على طريق الاصطفاء من يشاء من عباده، بحسب استعداده، ويهدي إليه بالعناية من ينيب، واجتباء الله تعالى العبد، تخصيصه إياه بفيض إلهي يتحصل منه أنواع من النعم بلا سعي من العبد، وذلك للأنبياء عليهم السلام، ولبعض من يقاربهم من الصديقين والشهداء.
فعليك أيها المؤمن الإتيان بجميع القرب بقدر الاستطاعة في كل زمان وحال، فإن المؤمن بن تخلص له معصية أبدًا، من غير أن تخالطها طاعة، لأنه مؤمن بها أنها معصية، فإن أضات إلى هذا الخليط استغفارًا وتوبة، فطاعة على طاعة، وقربة على قربة، فيقوى جزاء الطاعة التي خالطها العمل السيء، وهو الإيمان بأنها معصية، والإيمان من أقوى القرب وأعظمها عند الله تعالى، فإنه الأساس الذي ابتنى عليه جميع القرب، وفي الخبر الصحيح: "وإن تقرب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا وإن تقرب إلى ذراعًا تقربت منه باعا وإن أتاني يمشي أتيته هرولة" وكان قربه تعالى من العبد، ضعف قرب العبد منه، وعلى كل حال، لا يخلو المؤمن من الطاعة والقرب، والعمل الصالح يمحو الخطايا، فإن العبد إذا رجع عن السيئة وأناب إلى الله وأصلح عمله، أصلح الله شأنه وأعاد عليه نعمه الفائتة.
وعن إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى: بلغني أن رجلًا من بني إسرائيل، ذبح عجلًا بين يدي أمه، فيبست يده، فبينما هو جالس إذ سقط فرخ من وكره،
والمعنى (١): أي الله يصطفي من يشاء من عباده، ويقربهم إليه تقريب الكرامة، ويوفق للعمل بطاعته، واتباع ما بعث به نبيه - ﷺ - من الحق، من راجع التوبة من معاصيه.
١٤ - ثم أجاب عن سؤال قد يخطر بالبال، لماذا صار الناس متفرقين في الدين، مع أنهم أمروا بالأخذ به، وعدم التفرق فيه، فقال: ﴿وَمَا تَفَرَّقُوا﴾؛ أي (٢): وما تفرقت اليهود والنصارى في الدين الذي دعوا إليه، ولم يؤمنوا كما آمن بعضهم في حال من الأحوال، أو في وقت من الأوقات ﴿إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ﴾ بحقيقته؛ أي: إلا حال مجيء العلم. أو إلا وقت مجيء العلم بحقية ما شاهدوا في رسول الله - صلي الله عليه وسلم -، والقرآن من دلائل الحقية، حسبما وجدوه في كتابهم، أو العلم بمبعثه ﴿بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾؛ أي: ما تفرقوا إلا لأجل البغي والعدوان، على محمد - ﷺ - والحسد له، فيما بينهم لابتغاء طلب الدنيا، وطلب ملكها وسياستها وجاهها وشهرتها، وللحمية الجاهلية؛ لأن لهم في ذلك شبهة، كما يدل عليه قوله: ﴿وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤)﴾ وقيل: المراد بهم: كفار قريش، تفرقوا بعدما جاءهم العلم، وهو محمد - ﷺ - بغيًا منهم عليه، وحسدًا له فيما بينهم، وكانوا يقولون فيما حكاه الله عنهم، بقوله: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ﴾ الآية، وقيل: المراد بهم: كفار الأمم الماضية، وأنهم فيما ﴿بَيْنَهُمْ﴾ اختلفوا لما طال بهم المدى، فآمن قوم وكفر قوم.
والمعنى (٣): أي وما تفرقت الأمم إلا من بعدما علموا، أن الفرقة ضلالة، وقد فعلوا ذلك بغيًا وطلبًا للرياسة، وللحمية حمية الجاهلية، التي جعلت كل طائفة تذهب مذهبًا وتدعو إليه، وتقبح ما سواه طلبًا للأحدوثة بين الناس،
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
والخلاصة: أن الأمم قديمها وحديثها، أمروا باتفاق الكلمة، وإقامة الدين، وبلغهم أنبياؤهم ذلك، وما اختلفوا إلا من بعدما جاءهم العلم بذلك، بغيًا وحسدًا وعنادًا وحبًا للرياسة، فدعت كل طائفة إلى مذهب، وأنكرت ما عداه.
ثم ذكر أن هؤلاء كانوا يستحقون العذاب المعجل على سوء أفعالهم، ولكن حكمته تعالى اقتضت تأخيره عنهم إلى وقت معلوم، فقال: ﴿وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ﴾ ووجبت ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾ وهي العِدَة بتأخير العقوبة عن هذه الأمة، وتلك الكلمة، كقوله تعالى: ﴿بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (٤٦)﴾. ﴿إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾؛ أي: إلى وقت معين، معلوم عند الله تعالى، وهو يوم القيامة، أو آخر أعمارهم المقدرة ﴿لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾ لأوقع القضاء بينهم، باستئصالهم لاستيجاب جنايتهم لذلك قطعًا، وقيل: لقضي بين من آمن منهم، ومن كفر، بنزول العذاب بالكافرين، ونجاة المؤمنين.
والمعنى: أي ولولا الكلمة السابقة من ربك، بإنظار حسابهم، وتأخيره إلى يوم المعاد، لعجل لهم العقوبة في الدنيا سريعًا، بما دسَّوا به أنفسهم، من كبير الآثام وقبيح المعاصي.
ثم ذكر أن تفرقهم في الدين باق في أعقابم، مضافًا إليه الشك في كتابهم، مع انتسابهم إليه فقال: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا﴾ وأعطوا ﴿الْكِتَابَ﴾؛ أي: التوراة والإنجيل، من اليهود والنصارى المعاصرين لمحمد - ﷺ -: ﴿مِنْ بَعْدِهِمْ﴾؛ أي: من بعد (١) من قبلهم: من سلف اليهود والنصارى ﴿لَفِي شَكٍّ مِنْهُ﴾؛ أي: من القرآن، أو من محمد - ﷺ - ﴿مُرِيبٍ﴾؛ أي: مقلق مدخل في الريبة؛ أي: موقع في الريب، ولذلك لم يؤمنوا. وقال مجاهد: معنى من بعدهم: من قبلهم، يعني: من قبل مشركي مكة، وهم اليهود والنصارى، والمعنى عليه؛ أي: وإن المشركين الذين أورثوا الكتاب؛ أي: القرآن من بعدما أوتي أهل الكتاب كتابهم، لفي
والمعنى (٢): أي وإن أهل الكتاب الذين كانوا في عهده - ﷺ - وورثوا التوراة، والإنجيل عن السابقين لهم، لفي شك من كتابهم، إذ لم يؤمنوا به حق الإيمان، فهم مقلدون أسلافهم بلا حجة ولا برهان، وهم في حيرة من أمرهم، وشك أقض مضاجعهم، وأوقعهم في اضطراب وقلق.
وقصارى ذلك: أنهم تفرقوا بعد العلم الذي حصل من النبي المبعوث إليهم المصدق لكتابهم؛ لأنهم شكوا في كتابهم فلم يؤمنوا به ولم يعملوا بما فيه من أمر ونهي.
١٥ - ﴿فَلِذَلِكَ﴾؛ أي: فلأجل ما ذكر من التفرق والشك المريب، أو فلأجل أنه شرع لهم الدين القويم، القديم الحقيق، بأن يتنافس فيه المتنافسون ﴿فَادْعُ﴾ يا محمد الناس كافة إلى إقامة ذلك الدين، والعمل بموجبه، فإن كلا من تفرقهم وكونهم في شك مريب، ومن شرع ذلك الدين لهم على لسان رسوله - ﷺ -، سبب للدعوة إليه، والأمر بها، وليس المشار إليه ما ذكر من التوصية، والأمر بالاتفاق، والنهي عن التفرق حتى يتوهم شائبة التكرار؛ أي: فلأجل ذلك التفرق، ولما حدث بسببه من تشعب الكفر في الأمم السالفة شعبًا، ادع إلى الاتفاق والائتلاف على الملة الحنيفية ملة إبراهيم ﴿وَاسْتَقِمْ﴾ عليه وعلى الدعوة
(٢) المراغي.
﴿وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ﴾ أي كتاب كان من الكتب المنزلة، لا كالذين آمنوا ببعض منها وكفروا ببعض، وذلك لأن كلمة ﴿ما﴾ من ألفاظ العموم؛ أي: وقل لهم يا محمد: صدقت بجميع الكتب المنزلة على الأنبياء، من التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وموسى، لا أكذب بشيء منها، وفي هذا (٢) تعريض بأهل الكتاب، إذ صدقوا ببعض وكفروا ببعض، وتأليف لقلوبهم إذ آمن بما آمنوا به.
والمعنى: وقيل لهم يا محمد: آمنت بما أنزل الله على الأنبياء، من كتاب صح أن الله أنزله، وهو الإيمان بجميع الكتب المنزلة؛ لأنّ المتفرقين آمنوا ببعض منها، وكفروا ببعض ﴿وَأُمِرْتُ﴾ بذلك الذي أمرت به ﴿لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ﴾؛ أي: لكي أعدل وأسوي بينكم؛ أي: بين شريفكم ووضيعكم في تبليغ الشرائع، وفي الحكم، وفصل القضايا بينكم، عند المحاكمة والمرافعة إليّ، فاللام لام كي، والمأمور به محذوف، كما قدرناه. وقيل: اللام بمعنى الباء؛ أي: وأمرت بأن أعدل بينكم في الحكم، إذا تخاصمتم فتحاكمتم إليّ، وأسوي بين أكابركم وأصاغركم، فيما يتعلق بحكم الله تعالى، فلا أخصّ البعض بأمر أو نهي، وقيل: اللام زائدة.
(٢) المراغي.
وهذه الأوامر والنواهي (٢)، وإن وجهت في الظاهر إلى الرسول - ﷺ -، فهي له ولأمته، كما هي القاعدة من أن أمر النبي - ﷺ - أمر لأمته، إلا إذا ورد دليل على التخصيص، قيل: هذه الآية منسوخة بآية السيف، وقيل (٣): ليس في الآية إلا ما يدل على المتاركة في المقاولة، لا مطلقًا، حتى لا تكون منسوخة بآية القتال، يعني: هذه الآية إنما تدل على المتاركة القولية، لحصول الاستغناء عن المحاجة القولية معهم؛ لأنهم قد عرفوا صدقه من الحجج، وإنما كفروا عنادًا، وبعدما ظهر الحق وصاروا محجوجين كيف يحتاج إلى المحاجة القولية، فلا يبقى بعد
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
فعلى العبد قبول الحق بعد ظهوره، والمشي خلف النصح بعد إضاءة نوره، فإن المصير إلى الله تعالى، والدنيا دار عبور، وإن الحضور في الآخرة، والدنيا دار التفرق والفتور، فلا بد من التهيُّؤ للموت، قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى لرجل في الطواف: اعلم أنك لا تنال درجة الصالحين، حتى تجوز ست عقبات:
أولاها: تغلق باب النعمة، وتفتح باب الشدة.
والثانية: تغلق باب العز، وتفتح باب الذل.
والثالثة: تغلق باب الراحة، وتفتح باب الجهد.
والرابعة: تغلق باب النوم، وتفتح باب السهر.
والخامسة: تغلق باب الغنى، وتفتح باب الفقر.
والسادسة: تغلق باب الأمل، وتفتح باب الاستعداد للموت، وأنشدوا:
إِنَّ للهِ عِبَادًا فُطُنَا | طَلَّقُوْا الدُّنْيَا وَخَافُوْا الْفِتَنَا |
نَظَرُوْا فِيْهَا فَلَمَّا عَلِمُوْا | أَنَّهَا لَيْسَتْ لِحَيٍّ وَطَنَا |
جَعَلُوْهَا لُجَّةً وَاتَّخَذُوْا | صَالِحَ الأَعْمَالِ فِيْهَا سُفُنَا |
وفيه إشارة إلى أنهم استجابوا له تعالى يوم الميثاق بقولهم: بلى حين قال
والموصول مبتدأ أول ﴿حُجَّتُهُمْ﴾ مبتدأ ثان ﴿دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ خبر الثاني، والجملة خبر الأول؛ أي: زائلة باطلة بل لا حجة لهم أصلًا، وإنما عبّر عن أباطيلهم بالحجة، مجاراة على زعمهم الباطل ﴿وَعَلَيْهِمْ﴾؛ أي: وعلى أولئك المحاجين ﴿غَضَبٌ﴾ عظيم من الله تعالى، لمكابرتهم الحق بعد ظهوره، ومجادلتهم بالباطل ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ في الآخرة على كفرهم الشديد، وضلالهم البعيد، لا يعرف كنهه، وهو عذاب النار.
والمعنى (١): أي والذين يجادلون المؤمنين، المستجيبين لله ورسوله، ليصدوهم عما سلكوه من طريق الهدى، حجتهم زائفة لا تقبل عند ربهم وعليهم غضب منه؛ لأنهم ماروا في الحق بعدما تبين، ولهم عذاب شديد يوم القيامة، لتركهم الحق، بعد أن وضحت محجته عنادًا واستكبارًا
١٧ - ﴿اللَّهُ﴾ الذي يستحق منكم العبادة، أيها الناس هو ﴿الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ﴾؛ أي: جنس الكتاب حال كونه متلبسًا ﴿بِالْحَقِّ﴾ في أحكامه وأخباره، بعيدًا من الباطل، أو بما يحق إنزاله من العقائد والأحكام ﴿وَالْمِيزَانَ﴾؛ أي: وأنزل الشرع الذي (٢) يوزن به الحقوق، ويسوى به بين الناس على أن يكون لفظ الميزان، مستعارًا للشرع، تشبيهًا له بالميزان العرفي، من حيث إنه يوزن به الحقوق الواجبة الأداء، سواء كان من حقوق الله، أو من حقوق العباد، أو نفس العدل والتسوية، بأن أنزل الأمر به في الكتب الإلهية، فيكون تسمية العدل بالميزان، تسمية المسمى باسم آلته، فإن
(٢) روح البيان.
والمعنى (١): الله أنزل كتبه على أنبيائه حاوية للحق، الذي لا شبهة فيه، بعيدة من الباطل، الذي لا خير فيه، وأنزل العدل ليقضي بين الناس بالإنصاف، ويحكم بينهم بحكمه، الذي أمر به في كتابه، ونحو الآية قوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾.
ثم رغب سبحانه وتعالى في الآخرة، وزهد في الدنيا، فقال: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ﴾ ويعلمك يا محمد، بحال القيامة من (٢) الإدراك بمعنى الإعلام؛ أي شيء يجعلك داريًا؛ أي: عالمًا بحال الساعة، التي هي من العظم والشدة والخفاء، بحيث لا تبلغها دراية أحد، وإنما يُدرى ذلك بوحي منا. قال الراغب: كل موضع ذكر في القرآن، وما أدراك فقد عقب ببيانه نحو: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (١٠) نَارٌ حَامِيَةٌ (١١)﴾، وكل موضِع ذكر فيه وما يدريك لم يعقبه بذلك، نحو: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ﴾ ﴿لَعَلَّ السَّاعَةَ﴾ التي يخبر بمجيئها الكتاب الناطق بالحق ﴿قَرِيبٌ﴾؛ أي: شيء قريب، أو قريب مجيئها، وإلا فالفعيل بمعنى الفاعل، لا يستوي فيه المذكر والمؤنث عند سيبويه، فكان الظاهر أن يقال: قريبة، لكونه مسندًا إلى ضمير الساعة، إلا أنه قد ذكر لكونه صفة جارية على غير من هي له، وقيل: القريب بمعنى ذات قرب، على معنى النسب، وإن كان على صورة اسم الفاعل، كلابنٍ وتامرَ بمعنى ذي لبن، وذي تمر؛ أي: لبني وتمريّ لا على معنى الحدث كالفعل، فلما لم يكن في معنى الفعل حقيقة لم يلحقه تاء التأنيث، أو الساعة بمعنى البعث، تسمية باسم ما حل فيه، وقال الزمخشري: لعل مجيء الساعة، قريب بتقدير المضاف.
(٢) روح البيان.
والمراد بذلك (١): حث المؤمنين على اتباع نهج الشرع وترك مخالفته.
١٨ - روي أن النبي - ﷺ - ذكر الساعة، وعنده قوم من المشركين، فقالوا: متى الساعة: استهزاء بها، وتكذيبًا لمجيئها، فأنزل الله الآية. ويدل على ذلك قوله ﴿يَسْتَعْجِلُ بِهَا﴾؛ أي: بمجيئها ﴿الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا﴾ استعجال إنكار، واستهزاء، وتكذيب بمجيئها، ولا يشفقون منها، ويقولون متى هي، ليتها قامت حتى يظهر لنا الحق، أهو الذي نحن عليه، فنفوز بالنجاة، أم الذي عليه محمد - ﷺ - وأصحابه. فنكون من الخاسرين، فإنهم لما لم يؤمنوا بها، لم يخافوا ما فيها، فهم يطلبون وقوعها استبعادًا لقيامها، والعجلة (٢): طلب الشيء وتحريه قبل أوانه.
وبعد أن بين حال المشركين في شأنها، ذكر حال المؤمنين بها، فقال: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ وصدقوا بمجيئها ﴿مُشْفِقُونَ مِنْهَا﴾؛ أي: خائفون منها، وجلون من مجيئها؛ لأنهم لا يدرون ما الله فاعل بهم، وهم موقنون أنهم محاسبون، ومجزيون على أعمالهم، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر ﴿وَيَعْلَمُونَ﴾ علم اليقين ﴿أَنَّهَا﴾؛ أي: أن مجيئها ﴿الْحَقُّ﴾ لا ريب فيه، فهم يستعدون له ويعملون من أجله، ونحو الآية قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (٦٠)﴾.
رُوي أن رجلًا، سأل رسول الله - ﷺ - بصوت جهوري، وهو في بعض أسفاره، فقال: يا محمد، فقال رسول الله - ﷺ -، بنحو من صوته: "هاؤم" فقال له: متى الساعة؟ فقال له: "إنها كائنة، فما أعددت لها"؟ فقال: حب الله، ورسوله، فقال - ﷺ -: "أنت مع من أحببت".
ثم بين ضلال الممارين فيها فقال: ﴿أَلَا﴾ انتبهوا واعلموا ﴿إِنَّ الَّذِينَ﴾
(٢) روح البيان.
ووصف (٢) الضلال بالبعد، من المجاز العقلي؛ لأن البعد في الحقيقة للضال، لأنه هو الذي يتباعد عن الطريق، فوصف به فعله، ويحتمل أن يكون المعنى: في ضلال ذي بعد، أو فيه بعد، لأن الضال قد يضل عن الطريق مكانًا قريبًا وبعيدًا.
والمعنى (٣): أي ألا إن الذين يجادلون في وجودها، ويدفعون وقوعها، لفي جور عن طريق الهدى، وزيغ عن سبيل الرشاد، وبعد من الصواب؛ لأن الذي خلق السموات والأرض، قادر على إحياء الموتى، كما قال: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾.
وفي الآية أمور (٤):
الأول: ذم الاستعجال، ولذا قيل: العجلة من الشيطان، إلا في ستة مواضع: أداء الصلاة إذا دخل الوقت، ودفن الميت إذا حضر، وتزويج البكر إذا أدركت. وقضاء الدين إذا وجب، وإطعام الضيف إذا نزل، وتعجيل التوبة إذا أذنب.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
(٤) روح البيان.
والثالث: مدح العلم، لكن إذا قرن بالخوف والخشية والعمل الصالح، كان أمدح، فإن العلم ليس جالبًا للسؤدد إلا من حيث طرده الجهل فلا تعجب بعلمك، فإن فرعون علم بنبوة موسى وإبليس علم بحال آدم، واليهود علموا بنبوة محمد - ﷺ -، وحرموا التوفيق للإيمان.
والرابع: ذم الشك والتردد، فلا بد من اليقين الصريح، بل من العيان الصحيح.
والخامس: أن الشقاوة والسعادة أزليتان، وإنما يشقى السعيد لكون سعادته عارضة، وإنما يسعد الشقي لكون شقاوته عارضة، فكل يرجع إلى أصله، فنسأل الله سبحانه الهدى، نعوذ به تعالى من الهوى.
الإعراب
﴿حم (١) عسق (٢) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٤)﴾.
﴿حم (١) عسق (٢)﴾: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هذه سورة حم عسق، إن قلنا إنه اسم للسورة، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الأخير، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة الحكاية، والجملة مستأنفة، ﴿كَذَلِكَ﴾: صفة لمصدر محذوف ﴿يُوحِي﴾ فعل مضارع مرفوع ﴿إِلَيْكَ﴾: متعلق بـ ﴿يُوحِي﴾، ﴿وَإِلَى الَّذِينَ﴾: معطوف على إليك، ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾: صلة الذين، ﴿اللَّهُ﴾ فاعل، ﴿الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ نعتان للجلالة، والجملة الفعلية مستأنفة، والتقدير: يوحي الله العزيز الحكيم إليك، وإلى الذين من قبلك من الرسل: إيحاء مثل إيحاء هذه السورة، وقرىء ﴿يُوحِي﴾ بالبناء للمجهول، فنائب الفاعل هو الجار والمجرور، ولفظ الجلالة فاعل لفعل محذوف دل عليه ﴿يُوحِي﴾، كأنّ سائلًا سأل، فقال: من الموحي، فأجاب يوحي الله العزيز الحكيم، والجملة المحذوفة، مستأنفة استئنافًا
﴿تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٦)﴾.
﴿تَكَادُ﴾: فعل مضارع من أفعال المقاربة ﴿السَّمَاوَاتُ﴾: اسمها ﴿يَتَفَطَّرْنَ﴾ فعل وفاعل، ﴿مِنْ فَوْقِهِنَّ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب خبر ﴿تَكَادُ﴾ وجملة ﴿تَكَادُ﴾ مستأنفة، ومعنى ﴿مِنْ﴾ في قوله ﴿مِنْ فَوْقِهِنَّ﴾ الابتداء؛ أي: يبتدىء انفطارهن من جهتهن الفوقانية، ﴿وَالْمَلَائِكَةُ﴾ مبتدأ. وجملة ﴿يُسَبِّحُونَ﴾: خبره، ﴿بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾: حال من فاعل ﴿يُسَبِّحُونَ﴾، والجملة الاسمية مستأنفة ﴿وَيَسْتَغْفِرُونَ﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿يُسَبِّحُونَ﴾، ﴿لِمَنْ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَسْتَغْفِرُونَ﴾، ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ صلة ﴿لِمَنْ﴾ الموصولة ﴿أَلَا﴾ حرف استفتاح وتنبيه، ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه ﴿هُوَ﴾ ضمير فصل، ﴿الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾: خبران؛ لـ ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة، ﴿وَالَّذِينَ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿الَّذِينَ﴾ مبتدأ ﴿اتَّخَذُوا﴾: فعل وفاعل من أخوات ظنّ ﴿مِنْ دُونِهِ﴾ جار ومجرور في محل المفعول الثاني: ﴿أَوْلِيَاءَ﴾: مفعول أول لـ ﴿اتَّخَذُوا﴾، والجملة الفعلية صلة الموصول، ﴿اللَّهُ﴾ مبتدأ ثان، ﴿حَفِيظٌ﴾ خبره ﴿عَلَيْهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿حَفِيظٌ﴾، وجملة المبتدأ الثاني خبر الأول، وجملة الأول مستأنفة ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿مَا﴾: نافية حجازبة ﴿أَنْتَ﴾: اسمها، ﴿عَلَيْهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿وَكِيلٍ﴾: و ﴿بِوَكِيلٍ﴾ خبرها، والباء زائدة، وجملة ﴿مَا﴾ الحجازية معطوفة على جملة قوله: الله حفيظ عليهم، على كونها خبرًا لقوله: والذين اتخذوا من دونه.
﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٧)﴾.
﴿كَذَلِكَ﴾: ﴿الواو﴾ استئنافية ﴿كَذَلِكَ﴾: صفة لمصدر محذوف تقديره:
﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (٨) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٩)﴾.
﴿وَلَوْ﴾: ﴿الواو﴾ استئنافية ﴿لَوْ﴾: حرف شرط ﴿شَاءَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ ﴿لَوْ﴾، لا محل لها من الإعراب ﴿لَجَعَلَهُمْ﴾: اللام: رابطة لجواب ﴿لَوْ﴾ الشرطية ﴿جَعَلَهُمْ أُمَّةً﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعولان ﴿وَاحِدَةً﴾: صفة أمة، والجملة جواب ﴿لَوْ﴾ الشرطية لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لَوْ﴾ الشرطية مستأنفة، ﴿وَلَكِنْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿لَكِنْ﴾: حرف استدراك ﴿يُدْخِلُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل النصب، مفعول به، ﴿فِي رَحْمَتِهِ﴾: متعلق بـ ﴿يُدْخِلُ﴾ والجملة الاستدراكية
﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (١٠)﴾.
﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿مَا﴾ اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما على الخلاف المذكور في محله ﴿اخْتَلَفْتُمْ﴾ فعل وفاعل، في محل الجزم بـ ﴿مَا﴾ الشرطية، على كونه فعل شرط لها، ﴿فِيهِ﴾ متعلق بـ ﴿اخْتَلَفْتُمْ﴾، ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾: حال من ﴿مَا﴾ الشرطية، أو من الضمير في فيه ﴿فَحُكْمُهُ﴾: الفاء: رابطة لجواب ﴿مَا﴾ الشرطية وجوبًا ﴿حُكْمُهُ﴾: مبتدأ ﴿إِلَى اللَّهِ﴾: خبره؛ أي: راجع إلى الله، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ ﴿مَا﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿مَا﴾ الشرطية مستأنفة ﴿ذَلِكُمُ﴾ مبتدأ ﴿اللَّهُ﴾: خبره ﴿رَبِّي﴾ خبر ثان ﴿عَلَيْهِ﴾ متعلق بـ ﴿تَوَكَّلْتُ﴾، وجملة ﴿تَوَكَّلْتُ﴾: في محل الرفع خبر ثالث ﴿وَإِلَيْهِ﴾: متعلق بـ ﴿أُنِيبُ﴾،
﴿فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٢)﴾.
﴿فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾: بالرفع خبر خامس لـ ﴿ذَلِكُمُ﴾، وقرىء بالجر، قال أبو البقاء: هو بدل من الهاء في ﴿عَلَيْهِ﴾ وقال الزمحشري: نعت لقوله: ﴿فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾، فتكون جملة ﴿لَكُمْ﴾: معترضة بين الموصوف وصفته، ﴿جَعَلَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير مستتر يعود على ﴿اللَّهِ﴾، ﴿لَكُمْ﴾: متعلق به على أنه مفعول ثان له، إن كان بمعنى التصيير، ومتعلق به إن كان بمعنى الخلق ﴿مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾ حال من أزواجًا؛ لأنه كان صفة لأزواجًا، و ﴿أَزْوَاجًا﴾: مفعول أول لـ ﴿جَعَلَ﴾ إن كان بمعنى التصيير، ومفعول به إن كان بمعنى الخلق، والجملة الفعلية خبر سادس لـ ﴿ذَلِكُمُ﴾. ﴿وَمِنَ الْأَنْعَامِ﴾: حال من أزواجًا المذكور بعده، و ﴿أَزْوَاجًا﴾ معطوف على أزواجًا الأول، ﴿يَذْرَؤُكُمْ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به ﴿فِيهِ﴾: متعلق بـ ﴿يَذْرَؤُكُمْ﴾، والجملة الفعلية في محل النصب حال من فاعل جعل، أو في محل الرفع خبر سابع ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ﴾: فعل ماض ناقص، والكاف زائدة، ﴿مِثْلِهِ﴾ خبر ليس مقدم على اسمها، ﴿شَيْءٌ﴾: اسمها مؤخر، والجملة مستأنفة، أو حال من فاعل جعل، أو خبر ثامن، ﴿وَهُو﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿هُو﴾: مبتدأ، ﴿السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ خبران له، والجملة مستأنفة، أو حال، ﴿لَهُ﴾ خبر مقدم، ﴿مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ﴾: مبتدأ مؤخر ﴿وَالْأَرْضِ﴾ معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾، والجملة خبر تاسع، ﴿يَبْسُطُ الرِّزْقَ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة خبر عاشر ﴿لِمَنْ﴾: متعلق بـ ﴿يَبْسُطُ﴾، وجملة ﴿يَشَاءُ﴾: صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة ﴿وَيَقْدِرُ﴾: معطوف على ﴿يَبْسُطُ﴾، ﴿إِنَّهُ﴾: ناصب واسمه ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ﴾ متعلق بـ ﴿عَلِيمٌ﴾، و ﴿عَلِيمٌ﴾: خبر ﴿إنَّ﴾، وجملة ﴿إنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ
﴿شَرَعَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على ﴿اللَّهُ﴾، ﴿لَكُمْ﴾ متعلق به، ﴿مِنَ الدِّينِ﴾: حال من المفعول الآتي، ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول شرع، وجملة شرع مستأنفة، مسوقة لتفصيل ما أجمله أولًا، ولك أن تجعله الخبر الحادي عشر، ﴿وَصَّى﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على ﴿اللَّهُ﴾، ﴿بِهِ﴾ متعلق بـ ﴿وَصَّى﴾، ﴿نُوحًا﴾: مفعول به، وجملة ﴿وَصَّى﴾: صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة ﴿وَالَّذِي﴾: معطوف على ﴿مَا﴾ وجملة ﴿أَوْحَيْنَا﴾ صلة له، والعائد محذوف تقديره: والذي أوحيناه، ﴿إِلَيْكَ﴾ متعلق بـ ﴿أَوْحَيْنَا﴾، ﴿وَمَا﴾: معطوف على ﴿مَا﴾ الأولى أيضًا، ﴿وَصَّيْنَا﴾: فعل وفاعل ﴿بِهِ﴾: متعلق به ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾ مفعول به، ﴿وَمُوسَى وَعِيسَى﴾: معطوفان على إبراهيم، والجملة الفعلية صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة، ﴿أَنْ﴾ تفسيرية بمعنى أي، لأنها سبقت بما فيه معنى القول دون حروفه، وهو ﴿وَصَّى﴾، ويجوز أن تكون مصدرية مؤولة، مع ما بعدها بمصدر، في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هو أن أقيموا أو في محل نصب بدلًا من الموصول، وهو ما، و ﴿أَقِيمُوا الدِّينَ﴾: فعل أمر وفاعل ومفعول به، ﴿وَلَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿لا﴾: ناهية ﴿تَتَفَرَّقُوا﴾: فعل مضارع مجزوم بلا الناهية، و ﴿فِيهِ﴾: متعلق به، والجملة معطوفة على ﴿أَقِيمُوا﴾، ﴿كَبُرَ﴾: فعل ماض، ﴿عَلَى الْمُشْرِكِينَ﴾: متعلق به، ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل الرفع فاعل، والجملة الفعلية مستأنفة، وجملة ﴿تَدْعُوهُمْ﴾: صلة لـ ﴿مَا﴾ ﴿إِلَيْهِ﴾: متعلق بـ ﴿تَدْعُوهُمْ﴾، و ﴿اللَّهُ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يَجْتَبِي﴾: خبره، والجملة الاسمية مستأنفة، ﴿إِلَيْهِ﴾ متعلق بـ ﴿يَجْتَبِي﴾، ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل النصب، مفعول به، وجملة ﴿يَشَاءُ﴾: صلة له، ﴿وَيَهْدِي﴾: معطوف على ﴿يَجْتَبِي﴾، ﴿إِلَيْهِ﴾: متعلق بـ ﴿يَهْدِي﴾، ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول به، وجملة ﴿يُنِيبُ﴾: صلته.
﴿وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾.
﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية ﴿ما﴾ نافية، ﴿تَفَرَّقُوا﴾ فعل وفاعل والجملة
﴿وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ﴾.
﴿وَلَوْلَا﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿لولا﴾: حرف امتناع لوجود ﴿كَلِمَةٌ﴾ مبتدأ، محذوف الخبر وجوبًا، وجملة ﴿سَبَقَتْ﴾ صفة للكلمة، ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾ متعلق بـ ﴿سَبَقَتْ﴾، ﴿إِلَى أَجَلٍ﴾ متعلق بـ ﴿سَبَقَتْ﴾ أيضًا، ﴿مُسَمًّى﴾ صفة لـ ﴿أَجَلٍ﴾، ﴿لَقُضِيَ﴾ اللام: رابطة لجواب ﴿لولا﴾، ﴿قضي﴾: فعل ماض مغير الصيغة ﴿بَيْنَهُمْ﴾: ظرف اعتباري في محل الرفع، نائب فاعل، والجملة الفعلية جواب ﴿لولا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لولا﴾ مستأنفة، ﴿وَإِنَّ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿إِنَّ الَّذِينَ﴾: ناصب واسمه، ﴿أُورِثُوا﴾: فعل ماض ونائب فاعل، ﴿الْكِتَابَ﴾: مفعول ثان، والجملة الفعلية صلة الموصول ﴿مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿أُورِثُوا﴾، ﴿لَفِى﴾: اللام: حرف ابتداء، ﴿في شك﴾: جار ومجرور خبر ﴿إنَّ﴾. ﴿مِنْهُ﴾: صفة أولى لـ ﴿شَكٍّ﴾، ﴿مُرِيبٍ﴾: صفة ثانية له، وجملة ﴿إِنَّ﴾ معطوفة على جملة ﴿لولا﴾. ﴿فَلِذَلِكَ﴾: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت ما شرعنا لكم، وأردت بيان ما هو اللازم لك.. فأقول لك: لذلك فادع ﴿لذلك﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿ادع﴾، واللام: فيه بمعنى إلى ﴿فَادْعُ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد - ﷺ -، والفاء: الثانية تأكيد للأولى، والجملة الفعلية في محل النصب، مقول لجواب إذا
﴿وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾.
﴿وَقُلْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿قُلْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر معطوف على قوله ﴿فَادْعُ﴾، ﴿آمَنْتُ﴾: فعل وفاعل ﴿بِمَا﴾: متعلق بـ ﴿آمَنْتُ﴾، والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾، وجملة ﴿أَنْزَلَ اللَّهُ﴾: صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: أنزله الله، ﴿مِنْ كِتَابٍ﴾: حال من العائد المحذوف ﴿وَأُمِرْتُ﴾: فعل ماض ونائب فاعل معطوف على ﴿آمَنْتُ﴾، ﴿لِأَعْدِلَ﴾ اللام: لام الصيرورة ﴿أَعْدِلَ﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام الصيرورة، وفاعله ضمير مستتر تقديره: أنا ﴿بَيْنَكُمُ﴾: متعلق به، والتقدير: وأمرت للعدل بينكم؛ أي: بالعدل بينكم ﴿اللَّهُ رَبُّنَا﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾، ﴿وَرَبُّكُمْ﴾: معطوف على ربنا ﴿رَبُّنَا﴾: خبر مقدم ﴿أَعْمَالُنَا﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾، ﴿وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾: مبتدأ وخبر معطوف على ما قبله ﴿لَا﴾: نافية للجنس ﴿حُجَّةَ﴾: اسمها، ﴿بَيْنَنَا﴾: ظرف متعلق بمحذوف، هو خبر ﴿لَا﴾ والجملة في محل النصب، مقول ﴿قل﴾ ﴿وَبَيْنَكُمُ﴾ معطوف على ﴿بَيْنَنَا﴾. ﴿اللَّهُ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يَجْمَعُ﴾: خبره، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قل﴾، ﴿بَيْنَنَا﴾ ظرف متعلق بـ ﴿يَجْمَعُ﴾ ﴿وَإِلَيْهِ﴾: خبر مقدم، ﴿الْمَصِيرُ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة في محل للنصب مقول ﴿قل﴾.
{وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ
﴿وَالَّذِينَ﴾: ﴿الواو﴾ استئنافية، ﴿الَّذِينَ﴾: مبتدأ أول، وجملة ﴿يُحَاجُّونَ﴾ صلة ﴿الَّذِينَ﴾، ﴿فِي اللَّهِ﴾ متعلق بـ ﴿يُحَاجُّونَ﴾، وهو على حذف مضاف؛ أي: في دين الله ﴿مِنْ بَعْدِ﴾: متعلق بـ ﴿يُحَاجُّونَ﴾، أو حال من الجلالة، و ﴿مَا﴾ مصدرية ﴿اسْتُجِيبَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة. ﴿لَهُ﴾: جار ومجرور في محل الرفع، نائب فاعل لـ ﴿اسْتُجِيبَ﴾، والجملة الفعلية صلة لـ ﴿مَا﴾ مع صلتها في تأويل مصدر، ومجرور بإضافة الظرف إليه، تقديره: من بعد الاستجابة له. ﴿حُجَّتُهُمْ﴾: مبتدأ ثان ﴿دَاحِضَةٌ﴾: خبره ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾: ظرف متعلق بداحضة. والجملة من المبتدأ الثاني، وخبره في محل الرفع خبر للأول، وجملة الأول مستأنفة ﴿وَعَلَيْهِمْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿عَلَيْهِمْ﴾: خبر مقدم. ﴿غَضَبٌ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة معطوفة على جملة قوله: حجتهم داحضة على كونها خبرا للمبتدأ الأول، ﴿وَلَهُمْ﴾: خبر مقدم ﴿عَذَابٌ﴾: مبتدأ مؤخر ﴿شَدِيدٌ﴾: صفة لـ ﴿عَذَابٌ﴾ والجملة معطوفة على ما قبلها، ﴿اللَّهُ﴾: مبتدأ ﴿الَّذِي﴾: خبره، والجملة مستأنفة، ﴿أَنْزَلَ الْكِتَابَ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به. والجملة صلة الموصول، ﴿بِالْحَقِّ﴾: متعلق بـ ﴿أَنْزَلَ﴾، أو حال من فاعله، أو من الكتاب، ﴿وَالْمِيزَانَ﴾: معطوف على الكتاب ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. أو استئنافية ﴿مَا﴾: اسم استفهام في محل الرفع، مبتدأ ﴿يُدْرِيكَ﴾: فعل مضارع ومفعول أول. وفاعله ضمير يعود على ما. والجملة خبر المبتدأ، والجملة معطوفة أو مستأنفة، ﴿لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ﴾: ناصب واسمه وخبره. وجملة ﴿لَعَلَّ﴾ في محل النصب، مفعول ثان لـ (يُدري)؛ لأنها عاقت عن العمل في لفظه بالترجي، ولا بد من تقدير مضاف؛ أي: لعل مجيء الساعة قريب.
﴿يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (١٨)﴾.
﴿يَسْتَعْجِلُ﴾: فعل مضارع ﴿بِهَا﴾: متعلق به، ﴿الَّذِينَ﴾: فاعل، والجملة
التصريف ومفردات اللغة
﴿كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ﴾ قرأ ابن كثير: ﴿يُوحِي﴾ بالبناء للمجهول. وفيه إعلال بالقلب، أصله: يوحي، قلبت الياء ألفا، لتحركها بعد فتح، وحذفت منه همزة أفعل في صورة ابتداء المضارع بهمزة المتكلم، فرارا من توالي الأمثال، وفي غيرها، حملا عليها، كما هو مقرر في محله.
﴿تَكَادُ السَّمَاوَاتُ﴾: مضارع كاد من باب خاف، بمعنى قرب، فيه إعلال بالنقل والتسكين، والقلب أصله: تكود بوزن تفعل مضارع كود بكسر العين، يكود بفتحها، نقلت حركة ﴿الواو﴾ إلى الكاف فسكنت، لكنها أبدلت ألفا لتحركها في الأصل، وفتح ما قبلها في الحال. ﴿يَتَفَطَّرْنَ﴾؛ أي يتشققن، وأصل الفطر: الشق طولا؛ أي يتشققن من عظمة الله تعالى، وخشيته وإجلاله، كقوله: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾. ﴿يُسَبِّحُونَ﴾؛ أي ينزهون الله تعالى عما لا يليق به. ﴿مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ﴾ والأولياء الشركاء والأنداد. ﴿حَفِيظٌ﴾؛ أي: رقيب على أحوالهم وأعمالهم. ﴿بِوَكِيلٍ﴾؛ أي: بموكول إليك أمورهم حتى تؤاخذهم بها، ولا وكل إليك هدايتهم، وإنما عليك البلاغ فحسب.
﴿لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى﴾؛ أي: لتخوف أهل مكة بعذاب الله، إن أصروا على الكفر: والعرب تسمي أصل كل شيء بالأم. كأم النحل، وهو يعسوبها، سميت مكة بأم القرى، تشريفا لها. وإجلالا لاشتمالها على الكعبة المشرفة، شرفنا الله
﴿يَذْرَؤُكُمْ﴾؛ أي: يكثركم أيها الناس، والأنعام، من الذرء وهو البث، قال في "القاموس": ذرأ كجعل خلق، والشيءَ كَثَّره، ومنه الذرية، مثلثة لنسل الثقلين، وقال شارحه في "التاج": وقد يطلق على الآباء والأصول أيضًا، قال تعالى: ﴿أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾، والجمع ذراري كسراري. ﴿لَهُ﴾ جمع مقلاد، وفيه إعلال بالقلب حيث قلبت ألفه ياء، لوقوعها بعد كسرة، عند بناء اللفظ على صيغة منتهى الجموع، وتقدم البسط فيه في سورة الزمر، فجدد به عهدًا، قال الجواليقي في كتابه "المعرب": المقليد: المفتاح، فارسي معرب لغة في الأقليد، والجمع مقاليد، فالمقاليد المفاتيح، وهي كناية عن الخزائن، وقدرته عليها وحفظه لها، وفيه مزيد دلالة على الاختصاص؛ لأن الخزائن لا يدخلها، ولا يتصرف فيها إلا من بيده مفاتيحها. ﴿شَرَعَ لَكُمْ﴾؛ أي: سن لكم ﴿مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا﴾ التوصية وكذا الوصية التقديم إلى الغير بما يعمل به مقترنًا بوعظه. ﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ﴾؛ أي: حافظوا عليه، ولا تخلوا بشيء من مقوماته، والمراد بالدين: دين الإسلام، وهو توحيد الله وطاعته، والإيمان برسله واليوم الآخر، وسائر ما يكون به العبد مؤمنًا، كما مرّ ﴿وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾؛ أي: ولا تختلفوا فيه، فتأتوا ببعض وتتركوا بعضًا. ﴿كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ﴾؛ أي: عظم عليهم وشق. ﴿يَجْتَبِي إِلَيْهِ﴾؛ أي: يصطفي ويجتلب إليه، والاجتباء افتعال من الجباية وهي الجمع، قال الراغب: يقال: جبيت الماء في الحوض؛ أي: جمعته فيه، ومنه قوله تعالى: ﴿يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ والاجتباء الجمع على طريق الاصطفاء، قال تعالى: ﴿لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا﴾، واجتباء الله العبد تخصيصه إياه بفيض إلهي لتحصل له أنواع النعم بلا سعي منه. ﴿لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ﴾ الشك اعتدال النقيضين عند الإنسان
﴿وَاسْتَقِمْ﴾ أصله: استقوم بوزن استفعل نقلت حركة الواو إلى القاف، فسكنت ثم حذفت لالتقاء الساكنين. ﴿وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ﴾ فيه إعلال بالإبدال، أصله: أهوايهم من الهوى، أبدلت الياء همزة لتطرفها إثر ألف زائدة. ﴿وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ﴾ أصله: يحاججون بوزن يفاعلون، أدغمت الجيم الأولى في الثانية. ﴿اسْتُجِيبَ لَهُ﴾ فيه إعلال بالنقل والتسكين والقلب، أصله: استجوب بوزن استفعل، نقلت حركة الواو إلى الجيم، فسكنت إثر كسرة، فقلبت ياء حرف مدّ. ﴿دَاحِضَةٌ﴾ باطلة، وفي "المختار": دحضت حجته بطلت، وبابه خضع، وأدحضها الله، ودحضت رجله زلقت، وبابه قطع، والإدحاض الإزلاق، والدحض بتشديد الدال وسكون الحاء المهملتين، وبفتح الحاء أيضًا، وآخره ضاد معجمة هو الزلق. ﴿وَالْمِيزَانَ﴾ أصله: الموزان مفعال من الوزن، قلبت الواو ياء لسكونها إثر كسرة، والوزن معرفة قدر الشيء بآلة. ﴿وَمَا يُدْرِيكَ﴾ من الإدراء بمعنى الإعلام؛ أي: أيّ شيء يجعلك داريًا؛ أي: عالمًا بحال الساعة. ﴿قَرِيبٌ﴾؛ أي: شيء قريب، أو قريب مجيئها، وإلا فالفعيل بمعنى الفاعل لا يستوي فيه المذكر والمؤنث عند سيبويه. فكان الظاهر فيه أن يقال: قريبة لكونه مسندًا إلى ضمير الساعة، إلا أنه قد ذكر لكونه صفة جارية على غير من هي له.
فائدة: فإن قلت: متى يستوي المذكر والمؤنث؟
قلت: يستوي المذكر والمؤنث في خمسة أوزان:
الأول: فعول بفتح الفاء، بمعنى، فاعل كرجل صبور بمعنى صابر، وامرأة صبور بمعنى صابرة، ولو كان فعول بمعنى مفعول، لحقته التاء الفاصلة جوازًا نحو: جمل ركوب وناقة ركوبة.
والثاني: فعيل بمعنى مفعول، نحو: رجل جريح، وامرأة جريح، بمعنى مجروحة، فإن كان فعيل بمعنى فاعل، لحقته التاء الفاصلة، نحو: امرأة رحيمة وظريفة.
والرابع: مفعيل بكسر الميم، كمعطير من العطر، وشذ امرأة مسكينة، لخروجه عن القاعدة، ومع ذلك فإنه محمول على فقيرة، وسمع امرأة مسكين على القياس، حكاه سيبويه.
والخامس: مفعل بكسر الميم وفتح العين كمغشم، وهو الذي لا ينتهي عما يريده ويهواه من شجاعته، ومدعس من الدعس، وهو الطعن.
﴿يُمَارُونَ﴾ أصله: يماريون استثقلت الضمة على الياء، فحذفت فالتقى ساكنان، فحذفت الياء وضمت الراء، لمناسبة الواو، قال الراغب: المرية التردد في الأمر، وهو أخص من الشك، والمماراة: المحاجة فيما فيه مرية، انتهى. ويحتمل أن يكون من مريت الناقة، إذا مسحت ضرعها بشدة الحلب، فيكون تفسيره بيجادلون حملًا له على الاستعارة التبعية، كما سيأتي في مبحث البلاغة.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه في قوله: ﴿كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ﴾ حيث استعمل المضارع في حقيقته ومجازه، فهو مستعمل في المستقبل بالنظر لما ينزل عليه من القرآن، إذ ذاك، وفي الماضي بالنظر لما أنزل بالفعل، وبالنظر لما أنزل على الرسل السابقين.
ومنها: جمع المؤكدات مع صيغة المبالغة في قوله: ﴿أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ وهي ﴿لَا﴾ و ﴿إِنَّ﴾ وضمير الفصل.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى﴾؛ أي: لتنذر أهل مكة؛ لأنّ الإنذار لأهل القرية لا لها.
ومنها: الطباق بين ﴿الْجَنَّةِ﴾ و ﴿السَّعِيرِ﴾ وبين ﴿يَبْسُطُ﴾ ﴿وَيَقْدِرُ﴾.
ومنها: مخالفة مقتضى الظاهر في قوله: ﴿وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾ لأن مقتضى الظاهر أن يقال: ولكن يدخل من يشاء في رحمته، ويدخل من يشاء في غضبه، ولكنه عدل عن ذلك إلى ذكر الظالمين، تسجيلًا عليهم باسم الظلم، ومبالغة في الوعيد.
ومنها: الإتيان بجملة معرّفة الطرفين في قوله: ﴿فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ﴾ لغرض إفادة حصر الولاية في الله سبحانه وتعالى.
ومنها: إيثار صيغة الماضي في قوله: ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ﴾، وصيغة المضارع في قوله: ﴿وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ لكون التوكل أمرًا واحدًا مستمرًا، فيناسبه الماضي، وكون الإنابة متعددة، متجددة، بحسب تجدد موادها، فيناسبها المضارع، وفيهما أيضًا تقديم المعمول على عامله، لإفادة الحصر.
ومنها: زيادة الكاف في قوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ لتأكيد نفي المثلية.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ لأن المقاليد المفاتيح. وهو كناية عن الخزائن؛ لأن فيه مزيد دلالة على الاختصاص، لأن الخزائن لا يدخلها ولا يتصرف فيها، إلا من بيده مفاتيحها.
ومنها: الالتفات من الغيبة إلى نون العظمة في قوله: ﴿وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ لإظهار كمال الاعتناء بإيحائه إليه، وهو السر في تقديمه على ما بعده، مع تقدمه عليه زمانًا.
ومنها: التعبير بالأصل في الموصولات، وهو الذي للتعظيم.
ومنها: توجيه الخطاب إليه - ﷺ - بطريق التلوين، للتشريف والتنبيه على أنه تعالى شرعه لهم على لسانه.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿وَاسْتَقِمْ﴾؛ لأنه كناية عن الثبات والدوام على الدعوة.
ومنها: التنوين في قوله: ﴿وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ﴾ دلالة على عظم الغضب عليهم لمكابرتهم الحق بعد ظهوره.
ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: ﴿وَالْمِيزَانَ﴾ حيث استعار الميزان العرفي للشرع، الذي يوزن به الحقوق الواجبة الأداء، سواء كان من حقوق الله، أو من حقوق العباد، بجامع العدل والتسوية في كل، ويحتمل أن يكون المراد بالميزان: العدل والتسوية؛ أي: أنزل العدل في الكتب الإلهية، فيكون تسمية العدل بالميزان، تسمية المسمى باسم آلته، فإن الميزان آلة للعدل.
ومنها: الاحتباك في قوله: ﴿يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا﴾ حيث ذكر الاستعجال أولًا، وحذف الإشفاق، وذكر الإشفاق ثانيًا وحذف الاستعجال؛ لأن التقدير: يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها. فلا يشفقون منها، والذين آمنوا مشفقون فلا يستعجلون بها.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ﴾ إذا قلنا إنه مأخوذ من مريت الناقة، وفسرناه بيجادلون، حيث شبه المجادلة بمماراة الحالب للضرع، لاستخراج ما فيه من اللبن، من حيث إن كلا من المتجادلين يستخرج ما عند صاحبه، بكلام فيه شدة اهـ "روح البيان".
ومنها: المجاز العقلي في قوله: ﴿لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ﴾ ففيه وصف الشيء بوصف صاحبه؛ لأن البعد في الحقيقة للضال؛ لأنه هو الذي يتباعد عن الطريق فوصف به فعله.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (١٩) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٢١) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٢٢) ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (٢٣) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٢٤) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (٢٥) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (٢٦) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (٢٧) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (٢٨) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (٢٩) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (٣٠) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (٣١) وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (٣٢) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣٣) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٥) فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما
قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر في الآيات السالفة، أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يتمتعون بالنعيم في روضات الجنات، وأنه يعطيهم من فضله ما فيه قرة أعينهم، رحمة من لدنه.. ذكر هنا أن ذلك كائن لهم لا محالة، ببشارة منه لهم، ثم أعقب هذا، بأن أمر رسوله بأن يقول لهم: إنه لا يسألهم على هذا البلاغ والنصح أجرًا، وإنما يطلب منهم التقرب إلى الله وحسن طاعته، ثم رد عليهم قولهم: أن القرآن مفترى، بأنه لا يفتري الكذب على الله إلا من كان مختومًا على قلبه، ومن سنن الله تعالى إبطال الباطل ونصرة الحق، فلو كان محمد - ﷺ - كذابًا مفتريًا، لفضحه وكشف باطله، ولكن أيده بالنصر والقوة، ثم ندبهم إلى التوبة مما نسبوه إلى رسوله من افترائه القرآن، ثم وعد المؤمنين بأنه يجيب دعاءهم إذا هم دعوه ويزيدهم من نعمه، وأوعد الكافرين بشديد العقاب، كفاء ما اجترحوا من الشرور والآثام.
قال خباب بن الأرت: فينا نزلت هذه الآية، نظرنا إلى أموال بني قريظة وبني النضير وبني قينقاع، فتمنيناها، ثم أعقب هذا بأنهم إذا احتاجوا إلى الرزق، لا يمنعه منهم، وهو المتولي أمورهم بإحسانه، المحمود على ما يوصل للخلق من صنوف الرحمة، ثم أقام الأدلة على ألوهيته بخلقه للسموات والأرض وما فيهما من الحيوان، ثم جمعهم للحساب يوم القيامة، ثم ذكر أن ما يصيب الإنسان من نكبات الدنيا، من الأمراض والأسقام والفقر والغنى، فبكسب الإنسان واختياره، كما دلت على صدق ذلك التجارب، ثم أعقب ذلك، بآية أخرى على ألوهيته، وهي جريان السفن في البحار، فتارة بجعل الريح ساكنة، فتظل السفن على سطحها، وأخرى تعصف الرياح فتفرقها، أو تنجو بحسب تقديره تعالى.
قوله تعالى: ﴿فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر (١) دلائل توحيده، وعظيم قدرته وسلطانه، بخلق السموات والأرض وجري السفن ماخرات في البحار.. أردف ذلك بالتنفير من الدنيا وزخرفها؛ لأن المانع من النظر في الأدلة، إنما هو الرغبة فيها، طلبًا للرياسة والجاه، فإذا صغرت الدنيا في عين المرء، لم يلتفت إليها، وانتفع بالأدلة ووجه النظر إلى ملكوت السموات والأرض، ثم أبان أن ما عند الله خير لمن آمن به، وتوكل عليه واجتنب كبائر الذنوب والفواحش، وكان منقادًا له، مطيعًا لأوامره، تاركًا لنواهيه وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يبرم أمرًا إلا بعد
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية (١): ما أخرجه الطبراني بسند ضعيف عن ابن عباس قال: قالت الأنصار: لو جمعنا لرسول الله - صلي الله عليه وسلم - مالًا، فأنزل الله سبحانه ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ فقال بعضهم: إنما قال هذا، ليقاتل عن أهل بيته وينصرهم، فأنزل الله ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ إلى قوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ﴾ فعرض لهم التوبة إلى قوله: ﴿وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾.
وأخرج أحمد بسنده عن طاووس قال: سأل رجل ابن عباس، عن معنى قول الله عز وجل: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ فقال سعيد بن جبير: قربى محمد - ﷺ -، قال ابن عباس: عجلت، إن رسول الله - صلي الله عليه وسلم - لم يكن بطن من قريش إلا لرسول الله - ﷺ - فيهم قرابة، فنزلت: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾؛ أي: إلا أن تصلوا قرابة ما بيني وبينكم.
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه الحاكم وصححه عن علي، قال: نزلت هذه الآية في أصحاب الصفة، وذلك أنهم قالوا: لو أن لنا، فتمنوا الدنيا، وأخرج الطبراني عن عمرو بن حريث مثله، وعمرو بن حريث، مختلف في صحبنه كما في "الإصابة".
التفسير وأوجه القراءة
١٩ - ﴿اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى: ﴿لَطِيفٌ﴾؛ أي: بر بليغ البر ﴿بِعِبَادِهِ﴾ يفيض عليهم (٢) من فنون ألطافه، ما لا يكاد يناله أيدي الأفكار والظنون، وقولنا: من فنون ألطافه يؤخذ ذلك من صيغة لطيف، فإنها للمبالغة، وتنكيره أيضًا، وقولنا: ما لا يكاد، إلخ، مأخذه مادة الكلمة، فإن اللطف إيصال النفع إلى العبد على
(٢) روح البيان.
والمعنى (٢): أنه يجري لطفه على عباده في كل أمورهم، ومن جملة ذلك، الرزق الذي يعيشون به في الدنيا، وهو معنى قوله: ﴿يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ﴾ منهم أن يرزقه كيفما يشاء، فيوسع على هذا، ويضيق على هذا، فيخص كلا من عباده، الذين عمهم جنس لطفه، بنوع من البر على ما تقتضيه مشيئته، المبنية على الحكم البالغة، فلا مخالفة بين عموم الجنس وخصوص النوع، يعني: أن المخصوص بمن يشاء هو نوع البر وصنفه، وذلك لا ينافي عموم جنس بره بجميع عباده، على ما أفادته إضافة العباد إلى ضميره تعالى، حتى يلزم التناقض بين الكلامين، فالله تعالى يبرهم جميعًا، لا بمعنى أن جميع أنواع البر، وأصنافه يصل إلى كل أحد فإنه مخالف الحكمة الإلهية، إذ لا يبقى الفرق حينئذٍ بين الأعلى والأدنى، بل يصل بره إليهم على سبيل التوزيع، بأن يخص أحدًا بنعمة وآخر بأخرى، فيرجع بذلك كل واحد منهم إلى الآخر، فيما عنده من النعمة، فينتظم به أحوالهم، ويتم أسباب معاشهم، وصلاح دنياهم وعمارتها، فيؤدي ذلك إلى فراغهم لاكساب سعادة الآخرة، وقال بعضهم: معناه: يرزق من يشاء بغير حساب، إذ الآيات القرآنية يفسر بعضها بعضًا.
﴿وَهُوَ﴾ سبحانه ﴿الْقَوِيُّ﴾؛ أي: العظيم القوة الباهرة، والقدرة البالغة وهو يناسب عموم لطفه للعباد، قيل: والقوة في الأصل: صلابة البنية وشدتها المضادة للضعف، ولما كانت محالًا في حق الله تعالى، حملت على القدرة، لكونها مسببة من القوة.
قلت: ولا حاجة إلى هذا التأويل؛ لأن القوة صفة ثابتة لله تعالى، أثرها
(٢) روح البيان.
والمعنى (١): أنه تعالى بر بعباده، يرسل إليهم أعظم المنافع، ويدفع عنهم أكبر البلاء، فيرزق البر والفاجر، لا ينسى أحدًا منهم، ويوسع الرزق على من يشاء منهم، ويقتره على من يشاء، ليمتحن الغني بالفقير، والفقير بالغني، وليحتاج بعض إلى بعض، كما قال: ﴿لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا﴾، ونحو الآية قوله: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا﴾، ثم ذكر ما هو كالعلة لذلك، فقال: ﴿وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ﴾؛ أي: وهو القادر على ما يشاء، العزيز الذي لا يقدر أحد أن يمنعه عن شيء مما يريده.
٢٠ - وبعد أن أبان أن الرزق ليس إلا في يده، أتبعه بما يزهد في التكالب على طلب رزق البدن، ويرغب في الجد في طلب رزق الروح، والسعي في رفع منزلتها عند ربها ليرضى عنها، فقال: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ﴾ ويقصد بعمله الصالح ﴿حَرْثَ الْآخِرَةِ﴾ وثوابها، والحرث في الأصل (٢): إلقاء البذر في الأرض، ويطلق على الزرع الحاصل منه، ويطلق على ثمرات الأعمال، ونتائجها بطريق الاستعارة، المبنية على تشبيهها بالغلال، الحاصلة من البذور، المتضمن لتشبيه الأعمال بالبذور، من حيث إنها فائدة تحصل بعمل الدنيا، ولذلك قيل: الدنيا مزرعة الآخرة.
والمعنى: من كان يريد بأعماله ثواب الآخرة ﴿نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ﴾ وثوابه؛ أي: نضاعف له ثوابه، ونعط له بالعمل الواحد عشر حسنات إلى سبع مئة فما فوقها، وقيل: نزد له في توفيقه، وإعانته وتسهيل سبيل الخيرات والطاعات له. وقيل: نزد له في قوته ونشاطه، أو نزد له على ما قصده من حرث الآخرة، بالبسط له في الدنيا.
(٢) روح البيان.
فإن قيل: ظاهر اللفظ يدل على أن من صلى لأجل طلب الثواب، أو لأجل دفع العقاب، فإنه تصح صلاته، وأجمعوا على أنها لا تصح؛ لأن الرغبة في الإيمان والطاعة لا تنفع، إلا إذا كانت تلك الرغبة فيه، رغبة فيه لكونه إيمانًا وطاعة، وأما الرغبة فيه لطلب الثواب، وللخوف من العقاب فغير مفيد، لأنه يكون عليلًا مريضًا.
والجواب: أن الحرث لا يتأتى إلا بإلقاء البذر الصحيح في الأرض، والبذر الصحيح الجامع للخيرات، والسعادات، ليس إلا عبودية الله تعالى، فلا يكون العمل أخرويًا إلا بأن يطلب فيه رضي الله تعالى.
﴿وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ﴾ ويقصد بأعماله الصالحة ﴿حَرْثَ الدُّنْيَا﴾؛ أي: ثوابها ومتاعها وزخارفها وطيباتها، والمراد: الكافر أو المنافق، حيث كانوا مع المؤمنين في المغازي وغرضهم الغنيمة، ودخل فيه أصحاب الأغراض الفاسدة جميعًا. ﴿نُؤْتِهِ﴾؛ أي: نعطه شيئًا كائنًا ﴿مِنْهَا﴾؛ أي: من الدنيا حسبما قسمنا له أزلًا، لا ما يريده ويبتغيه، وقوله: منها متعلق بكائنًا المحذوف، الواقع صفة للمفعول الثاني، ويجوز أن تكون كلمة من للتبعيض؛ أي: بعضها، ومآل المعنى واحد، دلت الآية على أن طالب الدنيا لا ينال مراده من الدنيا.
وفي الحديث: "من كانت نيته الآخرة، جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت نيته الدنيا، فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب الله له".
﴿وَمَا لَهُ﴾؛ أي: لمريد الدنيا ﴿فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ﴾؛ لأنه لم يعمل للآخرة، فلا نصيب له فيها. و ﴿مَنْ﴾: مزيدة للاستغراق؛ أي: ما له نصيب وحظ في الآخرة،
حكي: أن رجلًا ببلخ، أمر عبده أن يزرع حنطة، فزرع شعيرًا، فرآه وقت الحصاد وسأله، فقال العبد: زرعت شعيرًا على ظن أن ينبت حنطة، فقال مولاه: يا أحمق، هل رأيت أحدًا زرع شعيرًا فحصد حنطة، فقال العبد: فكيف تعصي أنت، وترجو رحمته، وتغتر بالأماني، ولا تعمل العمل الصالح.
وكما أن في البيدر مكيالًا، وموازين وأمناء وحفاظًا وشهودًا، كذلك في الآخرة مثل ذلك، وكما أن للبيدر تذرية وتمييزًا بين النقاوة والحطام، كذلك في الآخرة تمييزٌ بين الحسنى والآثام، فمن عمل لآخرته بورك له في كيله ووزنه، وجعل له منه زادًا لا بد، ومن عمل لدنياه خاب سعيه وبطل عمله، فأعمال الدنيا كشجرة الخلاف، بل كالدقلي والحنظل في الربيع، يرى غض الأوراق، حتى إذا جاء حين الحصاد لم ينل طائلًا، وإذا حضر مجتناه في البيدر، لم يفد نائلًا. ومثل أعمال الآخرة كشجرة الكرم والنخل المستقبح المنظر في الشتاء، فإذا حان وقت القطاف والاجتناء أفادتك زادًا، وادخرت عدةً وعتادًا.
ولما كانت زهرات الدنيا رائقة الظاهر، خبيثة الباطن، نهى الله تعالى عن الاغترار بها، فقال: ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (١٣١)﴾ فالقذر قذر، وإن كان في ظرف من الذهب، فالعاقل لا يتناوله.
وحاصل معنى الآية (٢): من كان يريد بأعماله، وكسبه ثواب الآخرة، نوفقه
(٢) المراغي.
وأخرج أحمد والحاكم وصححه، وابن مردويه ابن حبان عن أبي بن كعب: أن رسول الله - ﷺ - قال: "بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة والنصر والتمكين في الأرض، ما لم يطلبوا الدنيا بعمل الآخرة، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا.. لم يكن له في الآخرة من نصيب".
وأخرج الحاكم وصححه، والبيهقي عن أبي هريرة قال: تلا رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ﴾ الآية، ثم قال: "يقول الله لابن آدم: تفرغ لعبادتي، أملأ صدرك غنى، وأسد فقرك، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلًا، ولم أسد فقرك".
وعن علي كرم الله وجهه قال: الحرث: حرثان، فحرث الدنيا المال والبنون، وحرث الآخرة الباقيات الصالحات. ونحو الآية قوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (١٨) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (١٩)﴾.
٢١ - ولما بين القسطاس الأقوم في أعمال الآخرة وأعمال الدنيا.. أردفه بالتنبيه إلى ما هو الأصل في باب الضلالة والشقاوة، فقال: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ﴾ أم (١) منقطعة، مقدرة ببل التي للإضراب الانتقالي من قوله: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ﴾، والهمزة التي للتقرير والتوبيخ، وشركاؤهم شياطينهم من الإنس والجن، والضمير في ﴿لَهُمْ﴾ للمشركين من قريش، وإضافة الشركاء إلى ضميرهم في قولنا:
والمعنى: بل ألهم شركاء من الشياطين؛ أي: نظراء يشاركونهم في الكفر والعصيان، ويعاونونهم عليه بالتزيين والإغراء ﴿شَرَعُوا﴾ وسنوا ﴿لَهُمْ﴾ بالتسويل والتزيين ﴿مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ﴾ ويأمر ﴿بِهِ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى، كالشرك وإنكار البعث، والعمل للدنيا، وسائر مخالفات الشريعة، وموافقات الطبيعة؛ لأنهم لا يعلمون غيرها، وتعالى الله عن الإذن في مثل هذا والأمر به، والتعبير عنه بالدين للمشاكلة؛ لأنه ذكر في مقابلة دين الله، أو للتهكم، وقيل: شركاءهم أوثانهم، فالهمزة للإنكار، فإن الجماد الذي لا يعقل شيئًا، كيف يصح أن يشرع دينًا، والحال أن الله تعالى، لم يشرع لهم ذلك الدين الباطل، وإضافتها إليهم حينئذٍ؛ لأنهم الذين جعلوها شركاء لله، وإسناد الشرع إليها، مع كونها بمعزل عن الفاعلية، إسناد مجازي، من إسناد الفعل إلى السبب؛ لأنها سبب ضلالتهم وافتتانهم، كقوله تعالى: ﴿إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ﴾.
والمعنى (١): أي هم ما اتبعوا، ما شرع الله من الدين القويم، بل اتبعوا ما شرع لهم شياطينهم من الجن والإنس، فحرموا عليهم ما حرموا من البحيرة، والسائبة والوصيلة، وحللوا لهم أكل الميتة والدم والقمار، إلى نحو أولئك، من الضلالات والجهالات، التي كانوا قد اخترعوها في الجاهلية.
وقد ثبت في "الصحيح"، أن رسول الله - صلي الله عليه وسلم - قال:" رأيت عمرو بن لُحَيّ بن قمعة يجر قصبة أمعائه في النار؛ لأنه أول من سيّب السوائب، وحمل قريشًا على عبادة الأصنام، وكان أحد ملوك خزاعة"، وقصارى ذلك: أن الشيطان زين لهم الشرك والمعاصي والشرائع المضلة وإنكار البعث والعمل للدنيا.
ثم بين أنه رحمة بعباده، أخر عذاب المشركين ليوم معلوم، ولم يعجله لهم، فقال: ﴿وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ﴾؛ أي: القضاء السابق بتأخير العذاب عنهم، أو العدة لهم، بأن الفصل يكون يوم القيامة، حيث قال: {بَلِ السَّاعَةُ
والمعنى: أي ولولا القضاء السابق منه تعالى، بتأخير العذاب إلى يوم القيامة، لعوجلوا بالعذاب في الدنيا.
﴿وَإِنَّ الظَّالِمِينَ﴾ أنفسهم، وهم المشركون والمكذبون ﴿لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ في الدنيا والآخرة؛ أي: نوع من العذاب متفاقم ألمه، وأقام المظهر مقام المضمر، تسجيلًا عليهم بالظلم، ودلالة على أن العذاب الأليم، الذي لا يكتنه كنهه، إنما يلحقهم بسبب ظلمهم، وانهماكهم فيه.
والمعنى: أي وإن الظالمين أنفسهم، بشرع ما لم يأذن به الله، مما ابتدعوه من التحليل، والتحريم، لهم عذاب شديد الإيلام في جهنم، وبئس المصير، وقرأ الجمهور (١): وإن الظالمين بكسر الهمزة على الاستئناف، والإخبار بما ينالهم في الدنيا، من القتل والأسر والنهب، وفي الآخرة من النار، وقرأ الأعرج ومسلم بن جندب: ﴿وأنّ﴾ بفتح الهمزة، عطفًا على كلمة الفصل، فهو في موضع رفع؛ أي: ولولا كلمة الفصل وكون الظالمين لهم عذاب أليم في الآخرة، لقضي بينهم في الدنيا، وفصل بين المتعاطفين بجواب ﴿لولا﴾، كما فصل في قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩)﴾.
٢٢ - ثم ذكر أحوال أهل العقاب، وأهل الثواب يوم القيامة، مبتدئًا بالأولين، فقال: ﴿تَرَى﴾ وتبصر يا محمد، أو يا من يصلح للرؤية ﴿الظَّالِمِينَ﴾؛ أي: المشركين يوم القيامة ﴿مُشْفِقِينَ﴾؛ أي: خائفين ﴿مِمَّا كَسَبُوا﴾؛ أي: لأجل ما كسبوا واقترفوا في الدنيا من الشرك والمعاصي؛ أي (٢): مشفقين إشفاقًا ناشئًا من
(٢) روح البيان.
قال في "حواشي الكشاف": الروضة اسم لكل موضع فيه ماء وعشب، وفي "كشف الأسرار": هي الأماكن المتسعة، المونقة ذات الرياحين. والزهر، انتهى. وفي الحديث: ثلاث يجلون البصر، النظر إلى الخضرة، وإلى الماء الجاري، وإلى الوجه الحسن. قال ابن عباس: رضي الله عنه: والإثمد عند النوم، قال الراغب: قوله: ﴿فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ﴾ إشارة إلى ما أعد لهم في العقبى من حيث الظاهر، وقيل: إشارة إلى ما أهلهم له من العلوم والأخلاق التي من تخصص بها طاب قلبه؛ أي: والذين آمنوا بالله، وأطاعوه فيما أمر به ونهى عنه، لهم في الآخرة روضات الجنات، متمتعين بمحاسنها ولذاتها.
ثم بين ما يكون لهم من النعيم، في تلك الروضات، فقال: ﴿لَهُمْ﴾ خبر مقدم ﴿مَا يَشَاءُونَ﴾ مبتدأ مؤخر؛ أي: ما يشتهونه من فنون المستلذات من مآكل ومشارب، ومناظر مما لاعين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، حاصل لهم ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ على أن عند ربهم ظرف للاستقرار العامل في ﴿لَهُمْ﴾، وقيل: ظرف ليشاؤون على أن يكون عبارة عن كونهم عند الله.
والإشارة في قوله: ﴿ذَلِكَ﴾ إلى ما ذكر للمؤمنين، وهو مبتدأ، خبره جملة قوله: ﴿هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِير﴾؛ أي: ذاك المذكور من أجر المؤمنين، هو الفضل العظيم، والمن الجسيم، الذي يصغر دونه ما لغيرهم من الدنيا، أو تحقر عنده الدنيا بحذافيرها من أولها إلى آخرها. وهذا في حق الأمة، وأما النبي - ﷺ - فمخصوص بالفضل العظيم، كما قال تعالى: ﴿وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾.
٢٣ - ﴿ذَلِكَ﴾؛ أي: الفضل الكبير، وهو مبتدأ، خبره قوله: ﴿الَّذِي﴾؛ أي: ذلك الفضل المذكور هو الثواب الذي ﴿يُبَشِّرُ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى به ﴿عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾؛ أي: يبشرهم به على لسان النبي - ﷺ -، فحذف الجار ثم العائد إلى الموصول؛ لأنهم لا يجوزون حذف المفعول الجار والمجرور، إلا على التدريج، بخلاف مثل: السمن منوان بدرهم؛ أي: منه؛ أي (٢): ذلك الذي أخبرتكم بأني أعددته في الآخرة من النعيم، والكرامة، لمن آمن بالله ورسوله وعمل صالح الأعمال. هي البشرى التي أبشركم بها في الدنيا، ليتبين لكم أنها حق، وأنها كائنة لا محالة.
والخلاصة: أن هؤلاء الجامعين بين الإيمان والعمل، بما أمر الله به، وترك ما نهى عنه، هم المبشرون بتلك البشارة.
يقول الفقير: حكمة تخصيص الروضة، وتعميم المشيئة، أن أكثر بلاد العرب خالية عن الأنهار الجارية والروضات، وأنهم لا يجدون كل المشتهيات، فيشوقهم بذلك ليكونوا على أهبة وتدارك، ولا يقيسوا الآخرة على الدنيا، فإن الدنيا محل البلاء والآفات، والآخرة دار النعيم والضيافات، وتدارك كل ما فات، فمن أحب مولاه اجتهد في طريق رضاه.
(٢) المراغي.
قرأ الجمهور (١): ﴿يُبَشِّرُ﴾: بتشديد الشين من بشر المضاعف، وعبد الله بن يعمر، وابن أبي إسحاق والجحدري والأعمش وطلحة، في رواية: والكسائي وحمزة ﴿يبشر﴾ ثلاثيًا، وقرأ حميد بن قيس ومجاهد: ﴿يبشر﴾ بضم الياء وتخفيف الشين من أبشر الرباعي، وهو معدى بالهمزة، من بشر، اللازم المكسور الشين، وأما بشر بفتحها فمتعد، وبشر بالتشديد للتكثير لا للتعدية؛ لأن المتعدي إلى واحد، وهو مخفف لا يعلى بالتضعيف إليه، فالتضعيف فيه للتكثير لا للتعدية.
وبعد أن ذكر سبحانه، ما أخبر به نبيه - ﷺ - من هذه الأحكام، التي اشتمل عليها كتابه، أمره أن يخبرهم: بأنه لا يطلب منهم بسبب هذا التبليغ أجرًا، فقال: ﴿قُلْ﴾ يا محمد لقريش قومك ﴿لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ﴾؛ أي: لا أطلب منكم على تبليغ الرسالة ﴿أَجْرًا﴾؛ أي: جعلا ولا نفعًا، كما لا يطلب الأنبياء من قبلي أجرًا على تبليغهم الرسالة ﴿إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ المودة (٢) مودة الرسول - ﷺ -، والقربى مصدر، كالزلفى بمعنى القرابة، التي هي بمعنى الرحم. و ﴿فِي﴾ للسببية، أو بمعنى اللام، متعلقة بالمودة، ومودته كناية عن ترك أذيته، والجري على موجب قربته سمى عليه السلام المودة أجرًا، واستثناها منه تشبيهًا لها به، والاستثناء من قبيل قول من قال:
(٢) روح البيان.
وَلاَ عَيْبَ فِيْهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوْفَهُمْ | بِهِنَّ فُلُوْلٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائبِ |
فمعنى الآية (١): قل لا أسألكم على التبليغ أجرًا أصلًا، إلا أن تودوني لأجل قرابتي منكم وبسببها، وتكفوا عني الأذى، ولا تعادوني إن كان ذلك أجرًا يختص بي، لكنه ليس بأجر؛ لأنه لم يكن بطن من بطونكم يا قريش، إلا وبيني وبينها قرابة فإذا كانت قرابتي قرابتكم، فصلتي، ودفع الأذى عني لازم لكم في الشرع والعادة والمروءة، سواء كان مني التبليغ أو لا، وقد كنتم تتفاخرون بصلة الرحم، ودفع الأذى عن الأقارب، فما لكم تؤذونني والحال ما ذكر.
ويجوز أن يراد بالقربى: أهل قرابته - ﷺ - على تقدير المضاف وبالمودة مودة أقربائه، وترك أذيتهم، فكلمة ﴿فِي﴾ على هذا للظرفية، والظرف حال من المودة، والمعنى: إلا أن تودوا أهل قرابتي، مودةً ثابتة، متمكنة فيهم. وقد اختلف في هذه الآية اختلافًا كثيرًا، يرجع إليه في المطولات، وأحسن ما قرأناه في صددها، ما ذكره مجاهد وقتادة.
وخلاصته: أنكم قومي، وأحق من أجابني وأطاعني، فإذا قد أبيتم ذلك، فاحفظوا حق القربى وصلوا رحمي، ولا تؤذوني.
وفي "الخازن": فإن قلت (٢): طلب الأجر على تبليغ الرسالة والوحي، لا
(٢) الخازن.
قلت: لا نزاع في أنه لا يجوز طلب الأجر على تبليغ الرسالة، بقي الجواب عن قوله: ﴿إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ فالجواب عنه من وجهين:
الأول: معناه لا أطلب منكم إلا هذا، وهذا في الحقيقة ليس بأجر، نظير قوله: (وَلَا عَيْبَ فِيْهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوْفَهُمْ)، البيت، معناه: إذا كان هذا عيبهم، فليس فيهم عيب بل هو مدح فيهم؛ ولأن المودة بين المسلمين أمر واجب، وإذا كان كذلك في حق جميع المسلمين، كان في أهل بيت النبي - ﷺ - أولى. فقوله: ﴿لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ فالمودة في القربى ليست أجرًا في الحقيقة؛ لأن قرابته قرابتهم، فكانت مودتهم وصلتهم لازمة لهم، فثبت أن لا أجر البتة.
والوجه الثاني: أن هذا الاستثناء منقطع، وتم الكلام عند قوله: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾، ثم ابتدأ فقال: ﴿إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾؛ أي: لكن أذكركم المودة في قرابتي، الذين هم قرابتكم، فلا تؤذوهم.
واختلف أهل العلم في قرابته - ﷺ -. فقيل: علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله تعالى عنهم، وقيل: أهل بيته من تحرم عليهم الصدقة من أقاربه، وهم بنو هاشم، وبنو المطلب، الذين لم يفترقوا في الجاهلية، ولا في الإِسلام.
روى مسلم عن زيد بن أرقم، أن رسول الله - ﷺ - قال: "إني تارك فيكم ثقلين، أولهما: كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله تعالى، واستمسكوا به"، فحث على كتاب الله ورغب فيه، ثم قال: "وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي"، فقال له حصين: من أهل بيته يا زيد، أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرمت عليه الصدقة بعده، قال: ومن هم قال: هم آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس، انتهى.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿نَزِدْ لَهُ﴾ بالنون، وقرأ زيد بن علي وعبد الوارث عن أبي عمرو وأحمد بن جبير عن الكسائي: ﴿يزد﴾ بالياء؛ أي: يزد الله. وقرأ الجمهور: ﴿حُسْنًا﴾: بالتنوين، وعبد الوارث عن أبي عمرو: ﴿حسنى﴾ بغير تنوين، على وزن رجعى وبشرى، وزيادة حسنها مضاعفة أجرها.
والمعنى (٣): أي ومن يعمل عملًا فيه طاعة الله ورسوله، نزد له فيه أجرًا وثوابًا، فنجعل له مكان الحسنة عشرة أمثالها، إلى سبع مئة ضعف إلى ما فوق ذلك، فضلًا منا ورحمة. ونحو الآية قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (٤٠)﴾.
﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿غَفُورٌ﴾؛ أي: كثير المغفرة للمذنبين ﴿شَكُورٌ﴾؛ أي: كثير الشكر للمطيعين بتوفيقه الثواب، والتفضل عليه بالزيادة، فالشكر (٤) من الله مَجَازٌ عن هذا المعنى؛ لأن معناه الحقيقي، وهو فعل ينبيء عن تعظيم المنعم، لكونه منعمًا لا يتصور من الله سبحانه، لامتناع أن ينعم عليه أحد، حتى يقابل بالشكر، شبهت الإثابة والتفضل بالشكر، من حيث إن كل واحد منهما يتضمن الاعتداد بفعل الغير، وإكرامًا لأجله؛ أي: إنه تعالى يغفر الكثير من
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
(٤) روح البيان.
٢٤ - ثم أنكر عليهم نسبة افتراء القرآن إلى محمد - ﷺ -، ووبخهم على مقالهم، فقال: ﴿أَمْ يَقُولُونَ﴾ أم منقطعة، بمعنى بل التي للإضراب الانتقالي من قوله: أم لهم شركاء إلخ، وبهمزة الاستفهام الإنكاري التوبيخي؛ أي: بل أيقول كفار مكة ﴿افْتَرَى﴾ محمد واختلق ﴿عَلَى اللَّهِ﴾ سبحانه ﴿كَذِبًا﴾ بدعوى النبوة وتلاوة القرآن؛ أي (١): أيقع في قلوبهم ويجري على ألسنتهم، أن ينسبوا مثله - ﷺ -. إلى الافتراء على الله، وهو أقبح أنواع الفرية وأفحشها، وهذا المقال منهم أفظع من الشرك الذي جعلوه شرعًا لهم، فإنهم قد جعلوا الحق الأبلج، الذي يعاضده الدليل، ويؤيده البرهان، افتراءً على الله، واختلاقًا للكذب عليه، وفي ذلك أتم دلالة على بعده - ﷺ - من الافتراء.
وخلاصة ذلك: أنهم قالوا: إن هذا الذي يتلوه علينا من القرآن، ما هو إلا اختلاق من قبل نفسه، وليس بوحي من عند ربه، كما يدعي.
ثم زاد في استبعاد الافتراء من مثله - ﷺ -، والإنكار له، على أتم وجه، فقال: ﴿فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى خذلانك ﴿يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ﴾ لتجترىء بالافتراء عليه، فإنه لا يفعل مثل هذا إلا من كان في مثل حالهم، قد ختم الله على قلبه، وأعمى بصيرته.
والخلاصة: أنه إن يشأ يجعلك منهم؛ لأنهم هم المفترون الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله.
وفي "التأويلات النجمية": يعني أنك إن افتريته ختم الله على قلبك، ولكنك لم تكذب على ربك، فلم يختم على قلبك، وما أجمل هذا التعريض بانهم مفترون، وأنهم في نسبة الافتراء إليه مفترون أيضًا، وشبيه بالآية قول أمين نسب
ثم أكد استبعاد إلافتراء منه وزاده إيضاحًا، فقال: ﴿وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ﴾ استئناف مقرر لنفي الافتراء غير معطوف على ﴿يَخْتِمْ﴾ كما ينبىء عنه إظهار الاسم الجليل، وصيغة المضارع.
فائدة (١): وكتب ﴿يمح﴾ في المصحف بحاء مرسلة، كما كتبوا، (ويدع الإنسان)، و (يدع الداع) و (سندع الزبانية)، مما ذهبوا فيه إلى الحذف، والاختصار نظرًا إلى اللفظ، وحملًا للموقف على الوصل. يعني: أن سقوط الواو لفظًا لالتقاء الساكنين، حال الوصل، وخطًا أيضًا، حملًا للخط على اللفظ؛ أي: على أنه خلاف القياس، وليس سقوطها منه، لكونه مجزومًا بالعطف على ما قبله، لاستحالة المعنى؛ لأنه تعالى يمحو الباطل مطلقًا لا معلقًا بالشرط.
والمعنى: كيف يكون منه الافتراء على الله، وقد جرت عادته تعالى، أن يمحو الباطل ويمحق الشرك، ويثبت الحق والإِسلام والتوحيد بكلماته؛ أي: بقضائه أو بوحيه. أو بما أنزله من القرآن. وينشره بين الناس، وها هو ذا يزداد ما أوتيه محمد - ﷺ - كل يوم قوة وانتشارًا، فلو كان مفتريًا كما تدعون، لكشف افتراءه ومحقه، وقذف بالحق على باطله فدمغه.
وقد يكون المعنى: أن هذه عدة من الله لرسوله بالنصر، ويكون المراد يمحو الله باطلهم وما بهتوك به. ويثبت الحق الذي أنت عليه بقضائه، الذي لا مرد له فيكون هذا كلامًا معترضًا بين ما قبله وما بعده، مؤكدًا لما سبق من الكلام، من كونهم مبطلين في نسبة الافتراء إلى من هو أصدق الناس حديثًا.
﴿إِنَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾؛ أي: عالم بما في قلب العباد؛ أي: بما تضمره القلوب، فيجري عليها أحكامها اللائقة بها، من المحو
والمعنى: أي فيعلم ما تكنه الضمائر، وتنطوي عليه السرائر، وتجري الأمور بحسب علمه الواسع، المحيط بكل شيء.
٢٥ - ثم امتن على عباده بقبول توبتهم، إذا هم تابوا ورجعوا إليه فقال: ﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى الإله ﴿الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ﴾ من الذنوب ﴿عَنْ عِبَادِهِ﴾ بالتجاوز عما فرط منهم في الزمن الماضي، من الذنوب، واقترفوا فيه من السيئات؛ لأنه إن لم يقبل كان إغراء بالمعاصي، وعدى القبول بعن؛ لتضمنه معنى التجاوز، قال ابن عباس رضي الله عنهما: هي عامة للمؤمن والكافر والولي والعدو، ومن تاب منهم، قبل الله توبته.
فصل في ذكر التوبة وحكمها
قال العلماء (٢): التوبة واجبة من كل ذنب، فإن كانت المعصية بين العبد وبين الله تعالى، لا تتعلق بحق آدمي.. فلها ثلاثة شروط:
أحدها: أن يقلع عن المعصية.
والثاني: أن يندم على فعلها.
والثالث: أن يعزم أن لا يعود إليها أبدًا، فإذا حصلت هذه الشروط صحت التوبة، كان فقد أحد الثلاثة لم تصح توبته، وإن كانت المعصية تتعلق بحق آدمي،
(٢) الخازن.
والشرط الرابع: أن يبرأ من حق صاحبها، فهذه شروط التوبة الصحيحة. وقيل: التوبة الانتقال عن المعاصي نيةً وفعلًا، والإقبال على الطاعات نيةً وفعلًا، وقال سهل بن عبد الله التستري: التوبة الانتقال من الأحوال المذمومة إلى الأحوال المحمودة.
وقد ورد في الحث على التوبة كثير من الأحاديث في "الصحيحين" وغيرهما.
فمن ذلك: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: "والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه، في اليوم أكثر من سبعين مرة" أخرجه البخاري.
ومنها: ما رُوي عن الأغر بن بشار المزني قال: قال رسول الله - ﷺ -: "يا أيها الناس، توبوا إلى الله، فإني أتوب إليه في اليوم مئة مرة"، أخرجه مسلم.
ومنها: ما رُوي عن عبد الله بن مسعود قال: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: "لله أفرح بتوبة عبده المؤمن، من رجل نزل في أرض دوية، مهلكة، معه راحلته عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه، فنام نومة فاسيقظ، وقد ذهبت راحلته فطلبها، حتى إذا اشتد الحر والعطش، أو ما شاء الله، قال: أرجع إلى مكان الذي كنت فيه، فانام حتى أموت، فوضع رأسه على ساعده ليموت، فاستيقظ فإذا راحلته عنده عليها طعامه وشرابه. فالله أشد فرحًا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده" متفق عليه، الدوية الفلاة والمفازة.
ومنها: ما رُوي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "للَّه أفرح بتوبة عبده المؤمن من أحدكم سقط على بعيره وقد أصله في أرض فلاة" متفق عليه.
ومنها: لمسلم عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "لله أشد فرحًا بتوبة عبده، حين يتوب إليه، من أحدكم، كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه. وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتي شجرة فاضطجع في ظلها، قد أيس من راحلته،
ومنها: ما رُوي عن صفوان بن عسال المرادي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "إن الله جعل بالمغرب بابًا، عرضه تفسيرة سبعين عامًا، للتوبة لا يغلق ما لم تطلع الشمس من قبله، وذلك قوله تعالى ﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا﴾ الآية، أخرجه الترمذي، وقال حديث حسن صحيح.
ومنها: ما رُوي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - ﷺ - قال: "إن الله عَزَّ وَجَلَّ، يقبل توبة العبد ما لم يغرغر"، أخرجه الترمذي، وقال حديث حسن غريب.
ومنها: ما رُوي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله - ﷺ - قال: "إن الله عَزَّ وَجَلَّ، يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار. ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها". أخرجه مسلم.
وروى جابر رضي الله عنه أن أعرابيًا دخل مسجد رسول الله - ﷺ - وقال: اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك وكبر، فلما فرغ من صلاته، قال له علي رضي الله عنه: إن سرعة اللسان بالاستغفار، توبة الكذابين، وتوبتك تحتاج إلى التوبة، فقال يا أمير المؤمنين: ما التوبة، قال: التوبة اسم يقع على ستة معان، على الماضي من الذنوب الندامة، ولتضييع الفرائض الإعادة ورد المظالم. وإذاقة النفس مرارة الطاعة، كما أذقتها حلاوة المعصية، وإذابتها في الطاعة، كما ربيتها في المعصية. والبكاء بدل كل ضحك ضحكته.
﴿وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ﴾ في المستقبل؛ أي: يعفو عن صغائرها في المستقبل، بمحض فضله، وإن لم يتوبوا؛ لأن الحسنات يذهبن السيئات. وقيل: يعفو عن السيئات صغائرها وكبائرها، غير الشرك لمن يشاء بمحض فضله ورحمته. وفي "التأويلات النجمية": ويعفو عن كثير من الذنوب، التي لا يطلع العبد عليها، فيتوب عنها، وأيضًا يعفو عن كثير من الذنوب، قبل التوبة، ليصير العبد به قابلًا للتوبة، وإلا لما تاب ﴿وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ كائنًا ما كان من خير أو شر، فيجازي
وقرأ الجمهور (١): ﴿مَا تَفْعَلُونَ﴾ بياء الغيبة، وقرأ عبد الله وعلقمة وحمزة والكسائي وخلف وحفص: ﴿مَا تَفْعَلُونَ﴾ بتاء الخطاب، واختار القراءة الأولى أبو عبيد وأبو حاتم؛ لأن هذا الفعل وقع بين خبرين.
٢٦ - والموصول في قوله: ﴿وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ في موضع نصب على المفعولية، والفاعل ضمير يعود على الله سبحانه؛ أي: يستجيب الله سبحانه، للذين آمنوا دعاءهم ويعطيهم ما طلبوه منه. يقال: استجاب وأجاب بمعنًى وقيل: المعنى: يقبل الله عبادة الذين آمنوا، وعملوا الصالحات؛ أي: يقبل عبادة المؤمنين المخلصين، ويثيبهم على طاعاتهم، يعني: يعطيهم الثواب في الآخرة. والإثابة (٢) معنى مجازي للإجابة؛ لأن الطاعة لما شبهت بالدعاء، باعتبار ما يترتب عليها من الثواب، كانت الإثابة عليها، بمنزلة إجابة الدعاء، فعبر بها عنها، وقيل: إن الموصول في محل رفع على الفاعلية؛ أي: يجيب الذين آمنوا ربهم إذا دعاهم إلى طاعته، كقوله: ﴿اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ﴾، والأول أولى باعتبار السياق ﴿وَيَزِيدُهُمْ﴾ الله سبحانه على ما طلبوه، أو على ما يستحقونه من الثواب ﴿مِنْ فَضْلِهِ﴾ وكرمه وجوده ما يشاء تفضلًا وكرمًا منه، وهو معطوف على ﴿يَسْتَجِيبُ﴾ على الوجه الأول أعني: نصب الموصول، وعلى الوجه الثاني، أعني: رفع الموصول يكون قوله. ﴿وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾ معطوفًا على مقدر تقديره: ويستجيبون لله تعالى بالطاعة، ويزيدهم على ما استحقوه من الثواب تفضلًا منه، وقيل: معنى ويزيدهم من فضله: يشفعهم في إخوانهم.
(٢) روح البيان.
وبعد أن ذكر ما أعده للمؤمنين من الثواب، أردف بما أعده للكافرين من العذاب فقال: ﴿وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ﴾ يوم القيامة ﴿عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾؛ أي: وجيع مؤلم بدل ما للمؤمنين من الثواب والفضل المزيد، فالمؤمنون استجاب لهم دعاءهم وزادهم من فضله، وهؤلاء الكفرة لا يستجيب لهم دعاءً ﴿وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ﴾.
٢٧ - ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ﴾؛ أي: لجمعيهم، ووسعه عليهم ﴿لَبَغَوْا﴾؛ أي: جميعهم ﴿فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: لطغوا وعصوا وأفسدوا فيها، لأن الغنى مبطرة مأشرة؛ أي: داع إلى البطر والأشر، أو لظلم بعضهم بعضًا، وقيل: المعنى: لو جعلهم سواءً في الرزق لما انقاد بعضهم لبعض، ولتعطلت الصنائع، قال ابن عباس رضي الله عنهما: بغيهم في الأرض، طلبهم منزلة بعد منزلة ومركبًا بعد مركب. وملبسًا بعد ملبس، وقال بعضهم: لو أن الله تعالى رزق العباد من غير كسب، لتفرغوا للفساد في الأرض، ولكن شغلهم بالكسب حتى لا يتفرغوا للفساد، ونعم ما قيل:
إِنَّ الشَّبَابَ وَالْفَرَاغَ وَالْجِدَهْ | مَفْسَدَةٌ لِلْمَرْءِ أَيُّ مَفْسَدَهْ |
وذكروا في كون بسط الرزق موجبًا للطغيان وجوهًا (٢):
الأول: أن الله لو سوى في الرزق بين الكل. امتنع كون البعض محتاجًا إلى البعض، وذلك يوجب خراب العالم وتعطيل المصالح.
(٢) الفتوحات.
ثالثها: أن الإنسان متكبر بالطبع، فإذا وجد الغنى والقدرة.. عاد إلى مقتضى خلقته الأصلية، وهو التكبر وإذا وقع في شدة وبلية ومكروه.. انكسر وعاد إلى التواضع والطاعة، وكفى بحال قارون عبرة.
قال علماؤنا (١): أفعال الرب سبحانه لا تخلو عن مصالح، وإن لم يجب على الله الاستصلاح، فقد يعلم من حال عبده، أنه لو بسط عليه الرزق.. قاده ذلك إلى الفساد، فيزوي عنه الدنيا مصلحة له، فليس ضيق الرزق هوانًا، ولا سعة الرزق فضيلة، وقد أعطى قومًا مع علمه بأنهم يستعملونه في الفساد، ولو فعل بهم خلاف ما فعل، لكانوا أقرب من الصلاح، وبالجملة فالأمر مفوض إلى مشيئته تعالى، ولا يمكن التزام مذهب الاستصلاح، في كل فعل من أفعاله تعالى.
وروى أنس عن النبي - ﷺ -، فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى، قال: "إن من عبادي المؤمنين، من يسألني الباب من العبادة، وإني عليم أني لو أعطيته إياه لدخله العجب فأفسده، وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلحه، إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسده الفقر، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسده الغنى، وإني لأدبر عبادي لعلمي بقلوبهم، فإني عليم خبير"، ثم قال أنس: اللهم إني من عبادك المؤمنين، الذين لا يصلحهم إلا الغنى فلا تفقرني برحمتك.
﴿وَلَكِنْ يُنَزِّلُ﴾ سبحانه وتعالى من الرزق لعباده ﴿بِقَدَرٍ﴾؛ أي: بتقدير أزلي ﴿مَا يَشَاءُ﴾ أن ينزله مما تقتضيه مشيئته، وهو مفعول ينزل ﴿إِنَّهُ﴾ سبحانه ﴿بِعِبَادِهِ﴾؛ أي: بأحوال عباده ﴿خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾؛ أي: محيط بخفايا أمورهم، وجلاياها، فيقدر لكل واحد منهم في كل وقت من أوقاتهم، ما يليق بشأنهم،
والمعنى (٢): أي ولو أعطى عباده من الرزق فوق حاجتهم، لحملهم ذلك على البغي والطغيان، وطلب ما ليس لهم طلبه؛ لأن الغنى مبطرة مأشرة، وكفى بحال قارون وفرعون، عبرة لمن اعتبر، ولكن يرزقهم ما فيه صلاحهم، وهو أعلم بحالهم، فيغني من يستحق الغنى، ويفقر من يستحق الفقر، بحسب ما يعلم من المصلحة في ذلك.
والخلاصة: أنه تعالى خبير بما يصلح عباده، من توسيع الرزق، وتضييقه، فيقدر لكل واحد منهم ما يصلحه. فيبسط ويقبض ويعطي ويمنع، ولو أغناهم جميعًا لبغوا. ولو أفقرهم جميعًا لهلكوا، فنظام العالم لا يستقر إلا على هذا الوضع القائم، الجامع بين الأمرين، فخوف الأغنياء يَزَعُهُم عن الظلم، وخوف الفقراء من الأغنياء، يدعوهم إلى التعاون معهم ليفوزوا بمبتغاهم، ويزعهم عن البغى، وقال قتادة: كان يقال: خير الرزق ما لا يطغيك ولا يلهيك.
٢٨ - وبعد أن بين أنه لا يعطي عباده ما زاد على حاجتهم؛ لأنه يعلم أن الزيادة تضرهم في دينهم، ذكر أنهم لو احتاجوا إلى الغيث، فهو لا يمنعه عنهم، فقال: ﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى الإله: ﴿الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ﴾ والمطر من السماء على الأرض، فيغيثهم به من الجدب، ولذلك خص بالنافع منه. فإن المطر قد يضر. وقد لا يكون في وقته. قال الراغب: الغيث يقال في المطر. والغوث في النصرة ﴿مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا﴾ أي: يئسوا منه. وتقييد تنزيله بذلك مع تحققه بدونه أيضًا، لتذكير كمال النعمة. فإن حصول النعمة بعد اليأس والبلية، أوجب لكمال الفرح. فيكون أدعى إلى الشكر. وقرأ الجمهور: ﴿قَنَطُوا﴾ بفتح النون، وقرأ الأعمش وابن وثاب بكسرها. ﴿وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ﴾؛ أي: يبسط بركات الغيث ومنافعه وما
(٢) المراغي.
وقال بعضهم: قوله: ﴿وَهُوَ الْوَلِيُّ﴾؛ أي: متولي المطر، ومتصرفه، يرسده مرة بعد مرة ﴿الْحَمِيدُ﴾؛ أي: الأهل لأن يحمد على صنعه. إذ لا قبح فيه؛ لأنه بالحكمة. ودل الغيث على الاحتياج، وعند الاحتياج تتقوى العزيمة، والله تعالى يجيب دعوة المضطر. وقال قتادة: ذكر لنا أن رجلًا قال لعمر رضي الله عنه: اشتد القحط وقنط الناس. فقال: مطروا إذن، ثم قرأ هذه الآية.
والمعنى: أي وهو الذي ينزل المطر من السماء، فيغيثهم به من بعد يأسهم من نزوله حين حاجتهم إليه، وينشر بركات الغيث، ومنافعه، وما يحصل به من الخصب، وهو الذي يتولى عباده بإحسانه، ويحمد على ما يوصله إليهم من رحمته.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: إن تحت العرش بحرًا، ينزل منه أرزاق الحيوانات، يوحي الله سبحانه إليه. فيمطر ما شاء من سماء إلى سماء، حتى ينتهي إلى سماء الدنيا ويوحي إلى السماء أن غربليه. فتغربله فليس من قطرة تقطر إلا ومعها ملك يضعها موضعها، ولا ينزل من السماء قطرة إلا بكيل معلوم، ووزن معلوم، إلا ما كان من يوم الطوفان من ماء، فإنه نزل بغير قيل ولا وزن.
وروي: أن الملائكة يعرفون عدد المطر، ومقداره في كل عام؛ لأنه لا يختلف فيه البلاد، وفي الحديث: كما من سنة بامطر من أخرى، ولكن إذا عمل قوم بالمعاصي، حول الله ذلك إلى غيرهم، فإذا عصوا جميعًا صرف الله ذلك إلى الفيافي والبحار".
٢٩ - ثم أقام الأدلة على ألوهيته فقال: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ﴾ سبحانه وتعالى؛ أي:
وفي "الخازن": فإن قلت: كيف (٢) يجوز إطلاق لفظ الدابة على الملائكة؟
قلت: الدبيب في اللغة: المشي الخفيف على الأرض، فيحتمل أن يكون للملائكة مشي مع الطيران، فيوصفون بالدبيب، كما يوسف به الإنسان. وقيل: يحتمل أن الله تعالى خلق في السموات أنواعًا من الحيوانات، يدبون دبيب الإنسان، وقيل: يحتمل أنه من إطلاق المثنى على المفرد، فيعود الضمير في ﴿فِيهِمَا﴾ إلى الأرض فقط، كما في قوله تعالى: ﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (٢٢)﴾ وإنما يخرجان من أحدهما وهو الملح.
يقول الفقير: إن للملائكة أحوالًا شى، وصورًا مختلفة، لا يقتضي موطنهم الحصر، في شيء من المشي والطيران، فطيرانهم إشارة إلى قوتهم في قطع المسافة، وإن كان ذلك لا ينافي أن يكون لهم أجنحة ظاهرة، فلهم أجنحة يطيرون بها. ولهم أرجل يمشون بها. والله أعلم.
﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَلَى جَمْعِهِمْ﴾؛ أي: على جمع الأجسام وحشرهم بعد البعث للمحاسبة ﴿إِذَا يَشَاءُ﴾؛ أي: في أي وقت شاء جمعهم ﴿قَدِيرٌ﴾؛ أي:
(٢) الخازن.
والمعنى (٢): أي ومن دلائل عظمته وقدرته وسلطانه القاهر، خلق السموات والأرض، وما نشر فيهما من دابة، تدب وتتحرك، وهذا يشمل الملائكة والإنس والجن وسائر الحيوان على اختلاف أشكالهم وألوانهم، وهو يجمعهم يوم القيامة، فيجمع الأولين والآخرين، وسائر الخلائق في صعيد واحد، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، ثم يحكم بينهم بحكمه العدل، وهو اللطيف الخبير.
وقصارى ذلك: أنه قدير على جمع ما بث فيهما من دابة، إذا شاء جمعه، كما لم يتعذر خلقه وتفريقه.
٣٠ - ثم ذكر سبحانه دستورًا للناس في أعمالهم، إذا تأملوه.. أقلعوا عما يرتكبونه من الآثام، فقال: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ﴾؛ أي (٣): والذي وصل إليكم أيها الناس ﴿مِنْ مُصِيبَةٍ﴾ أي مصيبة كانت، من الآلام والأسقام والقحط والخوف، حتى خدش العود وعثرة القدم واختلاج العرق وغير ذلك، في البدن، أو في المال، أو في الأهل والعيال، ويدخل فيه الحدود على المعاصي، كما أنه يدخل في قوله: ﴿وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ ما لم يجعل له حد ﴿فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾؛ أي: فهو واقع بكم بسبب معاصيكم التي اكتسبتموها، فإن ذكر الأيدي لكون أكثر الأعمال، مما يزاول بها، فكل نكد لاحق إنما هو بسبب ذنب سابق، أقله التقصير.
وفي الحديث: "لا يرد القدر إلا بالدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر، وإن
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
وقرأ نافع وابن عامر (١): ﴿بما كسبت﴾ بغير فاء، وقرأ الباقون بالفاء. و ﴿ما﴾ في قوله: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ﴾ هي الشرطية، ولهذا دخلت الفاء في جوابها، على قراءة الجمهور، ولا يجوز حذفها عند سيبويه والجمهور، وجوز الأخفش الحذف كما في قوله: ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾، وقول الشاعر:
مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللهُ يَشْكُرُهَا | وَالشَّرُّ بِالشَّرِّ عِنْدَ الله مِثْلَانِ |
والمعنى: والذي أصابكم، فواقع بما كسبت أيديكم، قال الحسن: المصيبة هنا: الحدود على المعاصي، والأولى العمل على العموم، كما يفيده وقوع النكرة في سياق النفي، ودخول من الاستغراقية عليها.
﴿وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ من الذنوب التي يفعلها العباد، فلا يعاقب عليها، ولولا عفوه وتجاوزه ما ترك على ظهرها من دابة، وهذا من تتمة قوله: ﴿فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾.
والمعنى (٢): أي وما يحل بكم أيها الناس، من المصائب في الدنيا، فإنما تصابون به عقوبة لكم، على ما اجترحتم من الآثام، واقترفتم من الشرور والمعاصي، ويعفو لكم عن كثير من جرائمكم، فلا يعاقبكم بها، وقد ثبتت الأدلة
(٢) المراغي.
فالله سبحانه (١) جعل للذنوب أسبابًا، لها نتائجها ومسبباتها، فشارب الخمر، يصاب بكثير من الأمراض الجسمية، والعقلية في الدنيا، وهي أثر من آثار ما اجترح من الذنوب، والتاجر غير الأمين، أو الكذاب، تصاب تجارته بالكساد، ويشهر بين الناس بالخيانة، فيحجمون عن معاملته، والحكام المرتشون، الظلمة، الذين يجمعون أموالهم بالسحت، يصابون بالفقر والعدم، ويصبحون مثلًا بين الناس، وإن لم يصبهم الفقر.. يصب أولادهم، فيصبحوا بحال يرثى لها، ويصيروا أحاديث الخاصة والعامة، والأمم الظالمة، التي لا تناصر بين أفرادها، بل بينها التقاطع، ويبتز بعض أفرادها أموال بعض آخر، تصاب بالمهانة بعد العظمة، والذلة بعد العزة، وما الأمثال في ذلك بعزيزة.
وقد تقدم أن قلنا في غير موضع: إن عقاب الأفراد في الدنيا ليس بالمطرد، إذ كثيرًا ما نرى سكيرًا عربيدًا، لا يصاب بأذى مما يفعل، ونرى تاجرًا يخون الأمانة، ولا يصاب بكساد في تجارته، وحينئذٍ يكون عقاب كل منهما مؤجلًا ليوم الحساب، إن شاء ربك عاقب، وإن شاء عفا بعد التوبة، عما فرط منهما من الذنوب، والآثام.
وأما عقاب الأمم على ما تجترح من السيئات، فهو محقق في الدنيا، ولدينا عظة التاريخ في القديم والحديث، فما من أمة تركت أوامر دينها، وخالفت نواميس العمران، إلا زالت وصارت كأمس الدابر، وأصبحت عبرة للباقين. ومثلًا
ولما نزلت هذه الآية، قال رسول الله - ﷺ -: "والذي نفس محمد بيده، ما من خدش عود، ولا اختلاج عرق، ولا عثرة قدم، إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر". وروى الترمذي، وجماعة عن علي - كرم الله وجهه - قال: ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله، حدثنا بها رسول الله - ﷺ -: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (٣٠)﴾ قال - ﷺ -: "وسأفسرها لك يا علي، ما أصابكم من مرض، أو عقوبة، أو بلاءً في الدنيا، فبما كسبت أيديكم، والله أكرم من أن يعود بعد عفوه"، والآثار في هذا الباب كثيرة.
وقال الواحدي: وهذه أرجى آية في كتاب الله؛ لأنه جعل ذنوب المؤمنين صنفين، صنف كفره عنهم بالمصائب، وصنف عما عنه في الدنيا، وهو كريم لا يرجع في عفوه، فهذه سنة الله مع المؤمنين، وأما الكافر فإنه لا يعجل له عقوبة ذنبه حتى يوافي به يوم القيامة انتهى.
والخلاصة: أنه يكفر عن العبد بما يصيبه من المصائب، ويعفو عن كثير من الذنوب.
٣١ - ولما كان من يعاقب بدون الموت، ربما ظن أنه عاجز فائت، قال: ﴿وَمَا أَنْتُمْ﴾ أيها الناس، أجمعون عربكم وعجمكم ﴿بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: بفائتين عليه تعالى. هربًا في الأرض. ولا في السماء، لو كنتم فيها، لو أراد محقكم بالكلية، يعني: لو أراد الله سبحانه، ابتلاءكم وعقوبتكم.. فلا تفوتونه حيثما كنتم، ولا تسبقونه، ولا تقدرون أن تمنعوه من تعذيبكم، بل ما قضاه عليكم من المصائب واقع عليكم، نازل بكم ﴿وَمَا لَكُمْ﴾ أيها الناس، عند الاجتماع. فكيف عند الانفراد ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى المحيط بكل شيء عظمة وكبرًا وعزة ﴿مِنْ وَلِيٍّ﴾ يوالي أموركم بالاستقلال، فيحميكم مما قضاه الله
والمعنى (١): أي وما لكم من دون الله ولي يليكم، بالدفاع عنكم، إذا أراد عقوبتكم على معصيتكم، ولا لكم نصير ينصركم، إذا هو عاقبكم فينتصر لكم، فاحذروا معاصيه، واتقوا مخالفة أوامره، فإنه لا دافع لعقوبته إذا أحلها بعبد من عباده.
٣٢ - ثم ذكر سبحانه، آية أخرى من آياته العظيمة، الدالة على توحيده، وصدق ما وعد به، فقال: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ﴾؛ أي: ومن دلائل قدرته وباهر حكمته وعظيم سلطانه ﴿الْجَوَارِ﴾؛ أي: السفن الجارية ﴿فِي الْبَحْرِ﴾؛ أي: في الماء الكثير العميق؛ أي: تسخيره البحر، لتجري فيه الفلك بأمره، حالة كون تلك الجواري ﴿كَالْأَعْلَامِ﴾ في عظمها وارتفاعها؛ أي: كالجبال الشاهقة، والمدن العالية.
أي (٢): ومن دلائل قدرته تعالى، السفن الجارية في البحر، لما فيها من عظيم دلائل القدرة، من جهة أن الماء جسم لطيف، شفاف، يغوص فيه الثقيل، والسفن تشخص بالأجسام الثقيلة الكثيفة. ومع ذلك جعل تعالى، للماء قوة يحملها بها، ويمنع من الغوص، ثم جعل الرياح سببًا لسيرها، فإذا أراد أن ترسو، أسكن الريح فلا تبرح عن مكانها، والجواري جمع جارية، وأصله: السفن الجواري، فحذف الموصوف وأقيمت صفته مقامه، وحسن ذلك قوله: ﴿فِي الْبَحْرِ﴾ فدل ذلك على أنها صفة للسفن. وإلا فهي صفة غير مختصة. فكان القياس أن لا يحذف الموصوف، ولا يقام مقامه. ويمكن أن يقال: إنها صفة غالبة، كالأبطح فجاز أن تلي العوامل، بغير ذكر الموصوف، وقرىء ﴿الجواري﴾ بالياء ودونها، وسمع من العرب الإعراب في الراء. و ﴿فِي الْبَحْرِ﴾ متعلق بالجواري، و ﴿كَالْأَعْلَامِ﴾ في موضع الحال، والأعلام: الجبال، ومنه قول الخنساء:
(٢) البحر المحيط.
وَإِنَّ صَخْرًا لَتَأْتَمُّ الْهُدَاةُ بِهِ | كَأَنَّهُ عَلَمٌ فِيْ رَأْسِهِ نَارُ |
٣٣ - ﴿إِنْ يَشَأْ﴾ الله سبحانه وتعالى. وهو شرط، جوابه قوله: ﴿يُسْكِنِ الرِّيحَ﴾ التي تجريها ﴿فَيَظْلَلْنَ﴾؛ أي: فيصرن (١) تلك السفن من ظل، بمعنى صار، أي: يصرن تلك السفن، بعدما كانت جواري بريح طيبة ﴿رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ﴾؛ أي: ثوابت على ظهر البحر. غير جاريات ولا متحركات أصلًا.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿يَشَأْ﴾ بالهمزة، وقرأ ورش عن نافع بلا همزة، وقرأ جمهور السبعة: ﴿الرِّيحَ﴾: بالإفراد، وقرأ نافع ﴿الرياح﴾ بالجمع، وقرأ الجمهور: ﴿فَيَظْلَلْنَ﴾: بفتح اللام الأولى، وقرأ قتادة بكسرها، وهي لغة قليلة، والقياس الفتح لأن الماضي بكسر العين، فالكسر في المضارع شاذ.
والمعنى: إن يشأ الله، الذي قد أجرى هذه السفن في البحر، أن لا تجري فيه، أسكن الريح التي تجري بها، فتثبت في موضع واحد، وتقف على ظهر الماء، لا تتقدم ولا تتأخر.
ثم أتى بجملة معترضة بين ما مضى وما سيأتي فقال: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ الذي ذكر من أمر السفن، اللاتي يجرين تارة، ويركدن تارة أخرى، على حسب مشيئة الله تعالى ﴿لَآيَاتٍ﴾ عظيمة في أنفسها، كثيرة في العدد، دالة على ما ذكر من شؤونه ﴿لِكُلِّ صَبَّارٍ﴾؛ أي: لكل من كان كثير الصبر على احتمال البلايا في طاعة الله تعالى ﴿شَكُورٍ﴾؛ أي: كثير الشكر على نعمائه، باستعمال كل عضو من الأعضاء، فيما خلق له، قال قطرب: نعم العبد الصبار الشكور، الذي إذا أعطي شكر، وإذا ابتُلي صبر، قال عون بن عبد الله:
فَكَمْ مِنْ مُنْعَمٍ عَلَيْهِ غَيْرُ شَاكِرِ | وَكَمْ مِنْ مُبتَلَىً غَيْرُ صَابِرِ |
(٢) الشوكاني والبحر المحيط.
والمعنى: أي إن في جري هذه الجواري في البحر، بقدرته تعالى، لحجة بينة على قدرته على ما يشاء، لكل ذي صبر على طاعته، شكور لنعمه وأياديه عنده، والمؤمن إذا كان في ضراء كان من الصابرين، وإذا كان في السراء كان من الشاكرين.
٣٤ - وقوله: ﴿أَوْ يُوبِقْهُنَّ﴾ معطوف على ﴿يُسْكِنِ﴾؛ أي: يُهلكهن الله تعالى بالغرق، والمراد: أهلهن بما كسبوا من الذنوب، وقيل: بما أشركوا. والأول أولى، فإنه يهلك في البحر المشرك وغير المشرك، يقال: أوبقه إذا أهلكه كما في "القاموس".
والمعنى: إن يشأ يسكن الريح، فيركدن على ظهره، أو يرسلها بشدة، فيغرقهن بعدله، وإيقاع الإيباق عليهن، مع أنه حال أهلهن للمبالغة والتهويل، يعني: أن المراد إهلاك أهلها بسبب ما كسبوا من الذنوب الموجبة للهلاك.
قال سعدي المفتي (٢): والظاهر أنه لا مانع من إبقاء الكلام على حقيقته فالآية مثل قوله: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ﴾ إلخ؛ أي: يوبق سفائنهم بشؤم ما كسبوا ﴿وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ فلا يوبق أموالهم، انتهى. وإجراء حكمه على العفو، في قوله تعالى: ﴿وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ لما أن المعنى: أو يرسلها فيوبق ناسًا، وينجي آخرين، بطريق العفو.
وقرأ الأعمش (٣): ﴿ويعفو﴾ بالواو، وعن أهل المدينة ﴿ويعفو﴾ بنصب
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
فَإِنْ يَهْلِكْ أَبْوْ قَابُوْسَ يَهْلِكْ | رَبِيْعُ النَّاسِ وَالشَّهْرُ الْحَرَامُ |
وَنَأْخُذُ بَعْدَهُ بِذِنَابِ عَيْشٍ | أَجَبّ الظَّهْرِ لَيْسَ لَهْ سَنَامُ |
والمعنى (١): أي وإن يشأ يجعل الرياح عواصف، فيغرق السفن بذنوب راكبيها، ولكنه يعفو عن كثير من ذنوبهم، ولو آخذهم بجميع ما يجترحون منها، لأهلك كل من ركب البحر.
والخلاصة: أنه لو شاء أسكن الريح. فوقفت السفن رواكد على ظهر البحر، ولو شاء لأرسلها عاتية قوية، فأخرتها عن سيرها، وصرفتها ذات اليمين، وذات الشمال، آبقة لا تسير على طريق، ولا تصل إلى مقصد حتى تغرق، ولكن من رحمته ولطفه يرسلها بقدر الحاجة، لينتفع بها الملاحون لقضاء أوطارهم.
٣٥ - وقوله: ﴿وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ﴾ بالرفع. مستأنف على أنه جملة فعلية، ويكون الموصول فاعلًا. أو على أنه جملة اسمية، فيكون خبرًا لمبتدأ محذوف، يعود على الله، ويكون الموصول مفعولًا؛ أي: وهو سبحانه يعلم الذين يجادلون إلخ. وهذه قراءة ظاهرة المعنى واضحة اللفظ، وبالنصب معطوف على تعليل مقدر
والمعنى (٢): أي وليعلم الذين ينازعون في آياتنا على جهة التكذيب، لها أنه لا مخلص لهم، ولا مهرب إذا وقفت السفن، أو إذا عصفت الريح، فيكون ذلك سببًا لاعترافهم، بأن الإله النافع الضار، ليس إلا الله سبحانه وتعالى.
والخلاصة: فكما لا مخلص لهم إذا وقفت، أو عصفت الرياح؛ كذا لا مهرب لهم من عذابه بعد البعث، فلا بد من الاعتراف بأن الضار والنافع ليس إلا الله، وأن كل أمر حدث فإنما هو بتأثيره.
٣٦ - ولما ذكر سبحانه دلائل التوحيد.. ذكر التنفير عن الدنيا، فقال: ﴿فَمَا أُوتِيتُمْ﴾؛ أي: أعطيتم أيها الناس ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾: مما ترغبون فيه، وتتنافسون به، من الغنى، والسعة في الرزق، والمال، والبنين ﴿فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾؛ أي: فهو متاعها ومنفعتها، تتمتعون وتنتفعون به مدة حياتكم القليلة، فيزول ويفنى؛ ولله در القائل:
إِنَّمَا الدُّنْيَا فَنَاءٌ | لَيْسَ للدُّنْيَا ثُبُوْتْ |
إِنَّمَا الدُّنْيَا كَبَيْتٍ | نَسَجَتْهُ الْعَنْكَبُوْتْ |
(٢) المراغي.
ثم رغبهم في ثواب الآخرة، وما عند الله من النعيم المقيم فقال: ﴿وَمَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ يسبحانه وتعالى، من ثواب الآخرة ﴿خَيْرٌ﴾ ذاتًا، لخلوص نفعه من المكدرات ﴿وَأَبْقَى﴾ زمانًا، حيث لا يزول ولا يفنى، بخلاف ما في الدنيا، أي: وما عند الله تعالى من ثواب الطاعات والجزاء عليها، والنعيم المقيم خير من زهرة الدنيا؛ لأنه باق سرمدي، وما في الدنيا زائل فانٍ، والعقل قاض بترجيح الباقي على الفاني، وفيه إشارة إلى أن الراحات في الدنيا لا تصفو، ومن الشوائب لا تخلو، وإن اتفق لبعضهم منها في الأحايين، فإنها سريعة الزوال وشيكة الارتحال، وما عند الله من الثواب الموعود، خير وأبقى من هذا القليل الموجود، بل ما عند الله من الألطاف الخفية والمقامات العلية، والمواهب السنية خير وأبقى مما في الدنيا والآخرة.
ثم بين سبحانه، أنه لا يكون خيرًا إلا لمن اتصف بصفات:
١ - ﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ تنازع فيه كل من خير، وأبقى؛ أي: ما عند الله تعالى خير، للذين صدقوا وحدانية الله، وآمنوا برسوله، وعملوا على ما يوجبه الإيمان.
٢ - ﴿وَ﴾ خير للدَّين ﴿عَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾؛ أي وخير للذين على من رباهم بإحسانه يعتمدون، وإليه يفوضون أمورهم. ولا يلتفتون إلى غيره في مهام أمورهم. رُوي: أن الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين تصدق
٣ - ٣٧ ﴿وَ﴾ خير لـ ﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ﴾ ويبتعدون ﴿كَبَائِرَ الْإِثْمِ﴾ وعظائم الذنب، كالقدف والشرب والسرقة والغيبة والنميمة ﴿وَ﴾ يبتعدون ﴿الْفَوَاحِشَ﴾ التي ينكرها الشرع والعقل والطبع السليم، من قول أو فعل، اختص بصيغة الفحش، وهي فوق الكبائر، كالزنا واللواط، والموصول في محل الجر، معطوف (١) على الذين آمنوا عطف الصفة على الصفة؛ لأن الذات واحدة، والعطف إنما هو بين الصفات، والكبائر: جمع كبيرة، وهي ما أوجب الله عليه الحد في الدنيا. والعذاب في الآخرة، كالقدف والشرب والسرقة. والفواحش: جمع فاحشة، بمعنى قبيحة مفرطة في القبح، وهي ما اختص من الكبائر بصفة الفحش، فكأنها فوقها كالشرك، والقتل والزنا واللواط وعقوق الوالدين، فيكون عطف الفواحش على الكبائر، من عطف البعض على الكل، إيذانًا بكمال شناعته، وقيل: هما واحد، والعطف لتغاير الوصفين، وقرأ الجمهور ﴿كَبَائِرَ﴾ بالجمع هنا وفي النجم، وقرأ حمزة والكسائي: ﴿كبير الإثم﴾ بالإفراد، وهو يفيد مفاد الكبائر، لأن الإضافة للجنس كاللام.
و ﴿وَإِذَا﴾ في قوله:
٤ - ﴿وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ﴾ ظرفية مجردة عن معنى الشرط، متعلقة بيغفرون، و ﴿ما﴾ زائدة، و ﴿هم﴾ مبتدأ، وجملة ﴿يَغْفِرُونَ﴾: خبره، والجملة الاسمية هي المعطوفة على الصلة، وهي ﴿يَجْتَنِبُونَ﴾ عطف اسمية على فعلية، والتقدير: والذين يجتنبون كبائر الإثم وهم يغفرون، لا أنها شرطية، والاسمية جوابها لخلوها عن الفاء الرابطة. والغضب: ثوران دم القلب إرادَة الانتقام، ولذلك قال عليه السلام: "اتقوا الغضب فإنه جمرة توقد في قلب ابن آدم. ألم تر إلى انتفاخ أوداجه وحمرة عينيه". والمغفرة هنا بمعنى العفو والتجاوز والحلم وكظم الغيظ، والمعنى والذين هم، يعفون ويتجاوزون ويحلمون ويكظمون الغيظ،
والخلاصة: أي (١) وإذا ما غضبوا كظموا غيظهم، إذ من سجاياهم الصفح والعفو، وليس من طباعهم الانتقام، وقد ثبت في "الصحيح": أن رسول الله - ﷺ -، ما انتقم لنفسه قط، إلا أن تنتهك حرمات الله.
وقوله:
٥ - ٣٨ ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ﴾، أي: أجابوا ربهم إلى ما دعاهم إليه من توحيده. والبراءة من عبادة كل ما يعبد من دونه، معطوف (٢) على الموصول الأول عطف خاص على عام، لمزيد التشريف، وذلك لأن الاستجابة داخلة في الإيمان، قيل: نزلت الآية في الأنصار، دعاهم رسول الله - ﷺ - إلى الإيمان، فاستجابوا له من صميم القلب، ولا يلزم منه أن تكون الآية مدنية، فإن كثيرًا منهم أسلموا بمكة قبل الهجرة، وفيه إشارة إلى أن الاستجابة للرسول استجابة للمرسل.
وقوله:
٦ - ﴿وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ﴾ المفروضة؛ أي: أدوها لموا قيتها بشروطها وأركانها وهيئاتها، معطوف على استجابوا، فهو من أوصاف الأنصار أيضًا، وخص الصلاة من بين أركان الدين، كالزكاة والصوم والحج لما لها من الخطر في صفاء النفوس، وتزكية القلوب، وترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولأنه (٣) ما بين العبد والإيمان إلا إقامة الصلاة كما أنه ما بينه وبين الكفر إلا ترك الصلاة، فإذا أقام الصلاة فقد آمن، وأقام الدين، كما أنه إذا تركها فقد كفر وهدم الدين، وفي
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
وقوله:
٧ - ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ معطوف على الصلة. أعني: استجابوا عطف اسمية على فعلية. وشورى مصدر. كالفتيا بمعنى التشاور؛ أي: وأمرهم ذو تشاور بينهم لا ينفردون برأي، حتى يتشاوروا ويجتمعوا عليه.
قال سعدي المفتي: فإن قلت: لا حاجة إلى إضمار المضاف لظهور صحة: وشأنهم تشاور بينهم.
قلت: المصدر المضاف من صيغ العموم، فيكون المعنى: جميع أمورهم تشاور، ولا صحة له إلا أن يقصد المبالغة في كثرة ملابستهم به، وعلى هذا فيجوز أن يكون قوله: ذو شورى لبيان حاصل المعنى انتهى.
وكانوا قبل الهجرة وبعدها إذا حزبهم أمر اجتمعوا وتشاوروا، وذلك من فرط تدبرهم وتفقههم في الأمور، وفي "عين المعاني": ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ حين (١) سمعوا بظهوره - ﷺ -، فاجتمع رأيهم في دار أبي أيوب، على الإيمان به والنصر له، وقيل: لها العموم؛ أي: لا يستبدون برأيهم فيما لا وحي فيه من أمر الدين، بل يشاورون الفقهاء، وقيل: في كل ما يعرض من الأمور، انتهى.
وقال علي رضي الله عنه: نعم الموازنة المشاورة، وبئس الاستعداد الاستبداد قال حكيم: اجعل سرك إلى واحد، ومشورتك إلى ألف، وقيل: من بدأ بالاستخارة وثني بالاستشارة لحقيق أن لا يضل رأيه، وقال الإسكندر: لا يستحقر الرأي الجزيل من الرجل الحقير، فإن الدرة لا يستهان بها لهوان غائصها، يقال: أعقل الرجال لا يستغني عن مشاورة أولي الألباب، وأفره الدواب لا يستغني عن السوط، وأورع النساء لا يستغني عن الزوج.
وعن الحسن (٢): ما تشاور قوم؛ إلا هدوا لأرشد أمرهم. وقال ابن
(٢) المراغي.
إِذَا بَلَغَ الرَّأيُ الْمَشُوْرَةَ فَاسْتَعِنْ | بِرَأيِ لَبِيْبٍ أَوْ مَشوْرَةِ حَازِمِ |
وَلاَ تَجْعَلِ الشُّوْرَى عَلَيْكَ غَضَاضَةً | فَرِيْشُ الْخَوَافِيْ قُوَّةٌ لِلْقَوَادِمِ |
وَمَا خَيْرُ كَفٍّ أَمْسَكَ الْغِلُّ أُخْتَهَا | وَمَا خَيْرُ كَفٍّ لَمْ تُؤَيَّدْ بِقَائِمِ |
وقوله:
٨ - ﴿وَ﴾ الذين ﴿مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ من الأموال ﴿يُنْفِقُونَ﴾ في سبيل الخير، ويتصدقون منه على المحاويج، معطوف على الصلة أيضًا، ولالتفات إلى إنفاق الكافر، فإنه لم يستجب لربه بالإيمان والطاعة، فخيره محبط بكفره.
ولعل (١) فصله عن قرينه بذكر المشاورة، لوقوعها عند اجتماعهم للصلوات، كما في "الإرشاد". قال سعدي المفتي: ثم إن إدخال هذه الجملة يعني: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ بين خصال الإيمان، لعله لمزيد الاهتمام بشأن المشاورة، للمبادرة إلى التبيه على أن استجابتهم للإيمان كانت عن بصيرة، ورأي سديد، انتهى.
٩ - ٣٩ ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ﴾؛ أي: وصل إليهم الظلم ﴿يَنْتَصِرُونَ﴾؛ أي: ينتقمون ممن ظلمهم معطوف على الموصول الأول.
والمعنى: إذا وصل إليهم الظلم، والتعدي من ظالم متعد، ينتقمون ويقتصون ممن بغى عليهم، على الوجه الذي جعله الله، ورخصه لهم، لا يتجاوزون ذلك الحد المعين، وهو رعاية المماثلة، وأما غيرهم فليسوا كذلك، فهذا هو معنى التخصيص هنا، وقد ذكر (١) سبحانه هؤلاء المنتصرين في معرض المدح، كما ذكر المغفرة عند الغضب في معرض المدح؛ لأن التذلل لمن بغى، ليس من صفات من جعل الله له العزة، حيث قال: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ فالانتصار عند البغي فضيلة، كما أن العفو عند الغضب فضيلة. وقال في "الروح": وهذا وصف لهم بالشجاعة بعد وصفهم، بسائر أمهات الفضائل، من الدين والتيقظ، والحلم والسخاء. وذلك لأن البغي إنما يصيبهم من أهل الشوكة والغلبة، فإذا انتقموا منهم على الحد المشروع، كراهة التذلل، باجتراء الفساق عليهم، وردعًا للجاني عن الجراءة على الضعفاء، فقد ثبت شجاعتهم وصلابتهم في دين الله، وكان النخعي رحمه الله تعالى، إذا قرأ هذه الآية يقول: كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم، فتجترىء عليهم السفهاء. قال الشاعر:
وَلَا يُقِيْمُ عَلَى ضَيْمٍ يُرَادُ بِهِ | إِلَّا الأَذَلَّانِ عِيْرُ الْحَيِّ وَالْوَتَدُ |
هَذَا عَلَى الْخَسفِ مَرْبُوْطٌ بِرُمَّتِهِ | وَذَا يشَجُّ فَلَا يَرْثِيْ لَهُ أَحَدُ |
واعلم (٢): أن المؤمنين فريقان:
(٢) المراغي.
ب - فريق ينتصر ممن ظلمه، وهو المذكور في هذه الآية.
والخلاصة: أن العفو ضربان:
١ - ضرب يكون فيه العفو سببًا لتسكين الفتنة، وتهدئة النفوس، ومنع استفحال الشر، وهذا محمود، وحثت عليه الآيات الكريمة، التي ذكرت آنفًا.
٢ - ضرب يكون فيه العفو سببًا لجراءة الظالم، وتماديه في غيه، وهذا مذموم، وعليه تحمل الآية، التي نحن بصدد تفسيرها، فالعفو عن العاجز المعترف بجرمه محمود، والانتصار من المخاصم العصر على جرمه، والمتمادي في غيه محمود، وإلى هذا أشار المتنبي:
إِذَا أنْتَ أَكْرَمْتَ الْكَرِيْمَ مَلَكْتَهُ | وَإِنْ أنْتَ أَكْرَمْتَ اللَّئِيْمَ تَمَرَّدَا |
فَوَضْعُ النَّدَى فِي مَوْضِعِ السِّيْفِ بِالعُلَا | مُضِرٌّ كَوَضْعِ السِّيْفِ فِي مَوْضِعِ النَّدَى |
﴿اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (١٩) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠)﴾.
﴿اللَّهُ﴾: مبتدأ، ﴿لَطِيفٌ﴾ خبر. ﴿بِعِبَادِهِ﴾ متعلق: بـ ﴿لَطِيفٌ﴾ والجملة مستأنفة، وجملة ﴿يَرْزُقُ﴾: خبر ثان. ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل النصب، مفعول به لـ ﴿يَرْزُقُ﴾، وجملة ﴿يَشَاءُ﴾: صلتها، ﴿وَهُوَ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿وَهُوَ الْقَوِيُّ﴾: مبتدأ وخبر ﴿الْعَزِيزُ﴾ خبر ثان، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها ﴿مَنْ﴾: اسم شرط جازم، في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب أو هما، ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص، في محل الجزم على كونه فعل شرط لها، واسمها ضمير مستتر يعود على ﴿مَنْ﴾، وجملة ﴿يُرِيدُ﴾: خبرها،
﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٢١)﴾.
﴿أَمْ﴾: منقطعة بمعنى بل الإضرابية، وهمزة الاستفهام التوبيخي. ﴿لَهُمْ﴾ خبر مقدم، ﴿شُرَكَاءُ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة، وجملة ﴿شَرَعُوا﴾ صفة لـ ﴿شُرَكَاءُ﴾، ﴿لَهُمْ﴾ متعلق بـ ﴿شَرَعُوا﴾، ﴿مِنَ الدِّينِ﴾: حال من ﴿مَا﴾ الموصولة، المذكورة بعده، ﴿مَا﴾ اسم موصول في محل النصب، مفعول ﴿شَرَعُوا﴾، وجملة ﴿مَا لَمْ يَأْذَنْ﴾ صلة لما الموصولة ﴿بِهِ﴾ متعلق بـ ﴿يَأْذَنْ﴾، ولفظ الجلالة ﴿اللَّهُ﴾ فاعل، ﴿وَلَوْلَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿لولا﴾: حرف امتناع لوجود، و ﴿كَلِمَةُ الْفَصْلِ﴾ مبتدأ، والخبر محذوف وجوبًا والجملة الاسمية شرط لـ ﴿لَوْلَا﴾، لا محل لها من الإعراب، ﴿لَقُضِيَ﴾ اللام: رابطة لجواب ﴿لَوْلَا﴾، ﴿قضي﴾ فعل ماض مغير الصيغة، ﴿بَيْنَهُمْ﴾ ظرف في محل الرفع، نائب فاعل لقضي، وجملة ﴿قضي﴾ جواب ﴿لَوْلَا﴾، لا محل لها من الإعراب؛ لأنها جواب شرط غير جازم، وجملة ﴿لَوْلَا﴾ معطوفة على جملة قوله: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ﴾، ﴿وَإِنَّ الظَّالِمِينَ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿إِنَّ الظَّالِمِينَ﴾: ناصب
﴿تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٢٢)﴾.
﴿تَرَى﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على أي مخاطب، ﴿الظَّالِمِينَ﴾: مفعول به؛ لأن رأى بصرية، والجملة مستأنفة. ﴿مُشْفِقِينَ﴾ حال من الظالمين، ﴿مِمَّا﴾: متعلق بـ ﴿مُشْفِقِينَ﴾، وجملة ﴿كَسَبُوا﴾: صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، والعائد محذوف تقديره: مما كسبوه، ﴿وَهُوَ وَاقِعٌ﴾: ﴿الواو﴾ حالية، ﴿هو واقع﴾: مبتدأ وخبر ﴿بِهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿وَاقِعٌ﴾، والجملة حال من العائد المحذوف، ﴿وَالَّذِينَ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿الذين﴾، مبتدأ، ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل، صلة الموصول، ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على ﴿آمَنُوا﴾، ﴿رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، ﴿لَهُمْ﴾ خبر مقدم، ﴿مَا﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة، أو حال من الضمير المستكن في الخبر الظرفي، وجملة ﴿يَشَاءُونَ﴾: صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة، ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ متعلق بالاستقرار العامل فأنهم، ﴿ذَلِكَ﴾: مبتدأ، ﴿هُوَ﴾: ضمير فصل، ﴿الْفَضْلُ﴾ خبر ﴿الْكَبِيرُ﴾ صفة لـ ﴿الْفَضْلُ﴾، والجملة مستأنفة.
﴿ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (٢٣)﴾.
﴿ذَلِكَ﴾: مبتدأ، ﴿الَّذِي﴾ خبره، والجملة مستأنفة، ﴿يُبَشِّرُ اللَّهُ﴾ فعل وفاعل، ﴿عِبَادَهُ﴾: مفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: يبشر الله به عباده، ﴿الَّذِينَ﴾: صفة للعباد، ﴿آمَنُوا﴾ صلة الموصول،
﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٢٤) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (٢٥)﴾.
﴿أَمْ﴾: منقطعة، بمعنى بل الإضرابية، وهمزة الاستفهام التقريري. ﴿يَقُولُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿افْتَرَى﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر، يعود على محمد - ﷺ -. ﴿عَلَى اللَّهِ﴾: متعلق به. ﴿كَذِبًا﴾: مفعول ﴿إِنْ﴾، والجملة الفعلية في محل النصب، مقول القول. ﴿فَإِنْ يَشَإِ﴾: الفاء: استئنافية. ﴿إِنْ﴾: حرف شرط جازم. ﴿يَشَإِ اللَّهُ﴾: فعل مضارع، وفاعل مجزوم بـ ﴿إنْ﴾ الشرطية، على كونه فعل شرط لها، ﴿يَخْتِمْ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر مجزوم بـ ﴿إن﴾
﴿وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (٢٦)﴾.
﴿وَيَسْتَجِيبُ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿يَسْتَجِيبُ﴾؛ فعل مضارع معطوف على ﴿يَقْبَلُ﴾، وفاعله ضمير مستتر يعود على الله. ﴿الَّذِينَ﴾: في محل النصب بنزع الخافض؛ أي: ويستجيب للذين آمنوا دعاءهم، فحذف الجار، كما حذف في قوله: ﴿وَإِذَا كَالُوهُمْ﴾؛ أي: كالوا لهم، وأجاز "السمين" أن يكون اسم الموصول فاعلًا، والجملة مستأنفة، والسين والتاء زائدتان؛ أي: يجيبون ربهم إذا دعاهم إلى طاعته، ويجوز أن يكون الموصول مفعولًا به، بعد أن تقررت زيادة السين والتاء؛ أي: يجيب الله الذين آمنوا، والأول أقوم، وجملة ﴿آمَنُوا﴾ صلة الموصول ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ معطوف على ﴿آمَنُوا﴾، ﴿وَيَزِيدُهُمْ﴾: فعل وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به، معطوف على ﴿يستجيب﴾، ﴿مِنْ فَضْلِهِ﴾: متعلق بـ ﴿يَزِيدُهُمْ﴾، ﴿وَالْكَافِرُونَ﴾: مبتدأ، ﴿لَهُمْ﴾: خبر مقدم. ﴿عَذَابٌ﴾: مبتدأ
﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (٢٧) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (٢٨)﴾.
﴿وَلَوْ﴾: ﴿الواو﴾ استئنافية، ﴿لو﴾: حرف شرط غير جازم. ﴿بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة فعل شرط لـ ﴿لو﴾، لا محل لها من الإعراب، ﴿لِعِبَادِهِ﴾: متعلق ببسط، ﴿لَبَغَوْا﴾ اللام: رابطة لجواب ﴿لو﴾ الشرطية. ﴿بَغَوْا﴾: فعل وفاعل. ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: متعلق به، والجملة جواب ﴿لو﴾، لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لو﴾: الشرطية مستأنفة. ﴿وَلَكِنْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿لَكِنْ﴾: حرف استدراك مهمل، ﴿يُنَزِّلُ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة ﴿لو﴾ الشرطية. ﴿بِقَدَرٍ﴾: حال من ﴿ما﴾ الموصولة، المذكورة بعده. ﴿ما﴾: اسم موصول في محل النصب، مفعول ﴿يُنَزِّلُ﴾، وجملة ﴿يَشَاءُ﴾ صلته. ﴿إِنَّهُ﴾: ناصب واسمه، ﴿بِعِبَادِهِ﴾: متعلق بـ ﴿خَبِيرٌ﴾، و ﴿خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾: خبران لـ ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها. ﴿وَهُوَ الَّذِي﴾: مبتدأ وخبر، والجملة معطوفة على جملة ﴿لو﴾ الشرطية. ﴿يُنَزِّلُ الْغَيْثَ﴾: فعل وفاعل مستتر. ومفعول به، والجملة صلة الموصول ﴿مِنْ بَعْدِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يُنَزِّلُ﴾. ﴿مَا﴾: مصدرية، ﴿قَنَطُوا﴾: فعل وفاعل، صلة ما المصدرية، وهي مع مدخولها في تأويل مصدر، مجرور بإضافة الظرف إليه؛ أي: من بعد قنوطهم، ﴿وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على ﴿يُنَزِّلُ الْغَيْثَ﴾، ﴿وَهُوَ﴾: ﴿الواو﴾ حالية، ﴿هُوَ الْوَلِيُّ﴾: مبتدأ وخبر، ﴿الْحَمِيدُ﴾: خبر ثان، والجملة الاسمية في محل النصب، حال من فاعل ﴿يَنْشُرُ﴾ و ﴿يُنَزِّلُ﴾.
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (٢٩)﴾.
﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (٣٠) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (٣١)﴾.
﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿مَا﴾: اسم شرط جازم، في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما، ﴿أَصَابَكُمْ﴾: فعل ومفعول به، في محل الجزم بـ ﴿مَا﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها. وفاعله ضمير مستتر فيه يعود على ﴿مَا﴾، ﴿مِنْ مُصِيبَةٍ﴾: حال من فاعل ﴿أَصَابَكُمْ﴾، ﴿فَبِمَا﴾: الفاء: رابطة لجواب ﴿ما﴾ الشرطية وجوبًا، ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور، متعلق بواجب الحذف، لوقوعه خبرًا لمبتدأ محذوف، تقديره: فذلك كائن بما كسبت أيديكم، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ ﴿ما﴾ الشرطية، على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿مَا﴾ الشرطية مستأنفة. ﴿كَسَبَتْ﴾: فعل ماض، ﴿أَيْدِيكُمْ﴾: فاعل، والجملة صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: فبما كسبته أيديكم، ويجوز أن تكون ﴿ما﴾ موصولة، والفاء: داخلة في الخبر، تشبيهًا للموصول بالشرط. ﴿وَيَعْفُو﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿يَعْفُو﴾: فعل مضارع،
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (٣٢) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣٣)﴾.
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة، ﴿مِنْ آيَاتِهِ﴾: خبر مقدم، ﴿الْجَوَارِ﴾: مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء المحذوفة لفظًا وخطًا. أو خطًا فقط، ﴿فِي الْبَحْرِ﴾: حال من الضمير المستكن في الخبر الظرفي، أو متعلق بالجوار، ﴿كَالْأَعْلَامِ﴾: حال ثانية على الوجه الأول، وعلى الوجه الثاني هي حال من الضمير في ﴿الْجَوَارِ﴾، والجملة الاسمية معطوفة على جملة قوله: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾. ﴿إِنْ﴾: حرف شرط، ﴿يَشَأْ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على ﴿الله﴾، مجزوم بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية، على كونه فعل شرط لها. ﴿يُسْكِنِ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على ﴿الله﴾، مجزوم بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية، على كونه جواب شرط لها، ﴿الرِّيحَ﴾: مفعول به، وجملة ﴿إِنْ﴾ الشرطية مستأنفة، ﴿فَيَظْلَلْنَ﴾: الفاء عاطفة، ﴿يَظْلَلْنَ﴾: فعل مضارع ناقص، في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية، لكونه معطوفًا على ﴿يُسْكِنِ﴾، مبني على السكون، لاتصاله بنون النسوة، ونون النسوة في محل الرفع اسمها؛ لأنه من ظل الناقصة. ﴿رَوَاكِدَ﴾: خبرها. ﴿عَلَى ظَهْرِهِ﴾: متعلق بـ ﴿رَوَاكِدَ﴾. ﴿إِنَّ﴾ حرف نصب، ﴿فِي ذَلِكَ﴾: خبرها مقدم، ﴿لَآيَاتٍ﴾: اللام: حرف ابتداء، ﴿آيَاتٍ﴾: اسمها مؤخر. ﴿لِكُلِّ صَبَّارٍ﴾: جار ومجرور، ومضاف إليه، صفة ﴿لَآيَاتٍ﴾، ﴿شَكُورٍ﴾: صفة
﴿أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٥)﴾.
﴿أَوْ﴾: حرف عطف، ﴿يُوبِقْهُنَّ﴾: فعل مضارع، معطوف على ﴿يُسْكِنِ الرِّيحَ﴾؛ أي: يفرقهن بعصف الريح عليهن، قال الزمخشري: فإن قلت: علام عطف يوبقهن، قلت: على ﴿يُسْكِنِ﴾؛ لأن المعنى: إن يشأ يسكن الريح، فيركدن على ظهره، أو يعصفها فيفرقن بعصفها، أو بطروء خلل على أجهزتها، ﴿بِمَا﴾: متعلق بـ ﴿يُوبِقْهُنَّ﴾، و ﴿ما﴾ إما موصولة أو مصدرية، والباء للسببية؛ أي: بسبب ما كسبوه من الذنوب، أو بسبب كسبهم، وجملة ﴿كَسَبُوا﴾ صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة، والعائد محذوف؛ أي: بما كسبوه، أو صلة لـ ﴿مَا﴾ المصدرية، ﴿وَيَعْفُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر، معطوف على ﴿يُسْكِنِ﴾ أيضًا، مجزوم، وعلامة جزمه حذف حرف العلة ﴿عَنْ كَثِيرٍ﴾: متعلق بـ ﴿يَعْفُ﴾، والمعنى: أو إن يشأ يهلك ناسًا، وينج ناسًا، على طريق العفو عنهم. ﴿وَيَعْلَمَ﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿يَعْلَمَ﴾: فعل مضارع، معطوف على تعليل مقدر تقديره: يفرقهم لينتقم منهم ﴿وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ﴾ وللمعطوف حكم المعطوف عليه، تبعه بالنصب، ﴿الَّذِينَ﴾: فاعل. ﴿يُجَادِلُونَ﴾: فعل وفاعل، صلة الموصول، ﴿فِي آيَاتِنَا﴾: متعلق بـ ﴿يُجَادِلُونَ﴾، وقرىء ﴿يَعْلَمَ﴾: بالرفع على الاستئناف، على أنه خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: وهو سبحانه يعلم الذين، ويكون الموصول مفعولًا به، والفاعل ضمير يعود على المبتدأ المحذوف، وتكون الجملة اسمية، أو على أن الفاعل هو الموصول، وتكون الجملة فعلية، وقرىء بالجزم عطفًا على الجواب السابق، كأنه قال: وإن يشأ يجمع بين ثلاثة أمور: هلاك قوم، ونجاة آخرين، وتحذير آخرين. ﴿مَا﴾: نافية أو حجازية. ﴿لَهُمْ﴾: خبر مقدم، ﴿مِنْ﴾: زائدة. ﴿مَحِيصٍ﴾: مبتدأ مؤخر، أو اسم ما مؤخر. وجملة النفي، سدت مسد مفعولي يعلم المعلقة بالنفي عن العمل.
{فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ
﴿فَمَا﴾: الفاء: استئنافية، ﴿مَا﴾: اسم شرط جازم، في محل النصب، مفعول ثان مقدم لـ ﴿أُوتِيتُمْ﴾. ﴿أُوتِيتُمْ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعل، في محل الجزم بـ ﴿مَا﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، والمفعول الأول، هو ضمير المخاطبين، ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾ بيان لـ ﴿مَا﴾، متعلق بمحذوف حال من ﴿مَا﴾، ﴿فَمَتَاعُ﴾ الفاء: رابطة لجواب الشرط ﴿مَتَاعُ﴾: خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: فهو متاع الحياة الدنيا. ﴿الْحَيَاةِ﴾: مضاف إليه. ﴿الدُّنْيَا﴾: صفة لـ ﴿الْحَيَاةِ﴾، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ ﴿مَا﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿مَا﴾ الشرطية مستأنفة، ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿مَا﴾ اسم موصول في محل الرفع مبتدأ. ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة ﴿خَيْرٌ﴾: خبر المبتدأ، ﴿وَأَبْقَى﴾: معطوف على ﴿خَيْرٌ﴾، والجملة الاسمية معطوفة على جملة ﴿مَا﴾ الشرطية، ﴿لِلَّذِينَ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَبْقَى﴾ أو بـ ﴿خَيْرٌ﴾ على الخلاف المذكور في محله، ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل، صلة الموصول، ﴿وَعَلَى﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿وَعَلَى رَبِّهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿يَتَوَكَّلُونَ﴾، و ﴿يَتَوَكَّلُونَ﴾: فعل وفاعل، معطوف على ﴿آمَنُوا﴾ على كونه صلة الموصول.
﴿وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩)﴾.
﴿وَالَّذِينَ﴾: في محل الجر معطوف على ﴿لِلَّذِينَ﴾، وجملة ﴿يَجْتَنِبُونَ﴾: صلة الموصول. و ﴿كَبَائِرَ الْإِثْمِ﴾: مفعول به، ﴿وَالْفَوَاحِشَ﴾: معطوف على ﴿كَبَائِرَ﴾. ﴿وَإِذَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، مجرد عن معنى الشرط، متعلق بـ ﴿يَغْفِرُونَ﴾، ﴿مَا﴾: زائدة، ﴿غَضِبُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذَا﴾، ﴿هُمْ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يَغْفِرُونَ﴾: خبره، والجملة الاسمية معطوفة على جملة ﴿يَجْتَنِبُونَ﴾ على كونها صلة الموصول، عطف اسمية على فعلية، والتقدير: والذين يجتنبون كبائر الإثم، وهم غافرون وقت
التصريف ومفردات اللغة
﴿اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ﴾ قال أبو علي رحمه الله: معنى اللطيف هو الذي ينشر من عباده المناقب، ويستر عليهم المثالب، وعلى هذا قول النبي - ﷺ -: "يا من أظهر الجميل وستر القبيح". وقيل: هو الذي يقبل القليل، ويبذل الجزيل، وقيل: هو الذي يجبر الكسير وييسر العسير، وقيل: هو الذي لا يخاف إلا عدله ولا يرجى إلا فضله، وقيل: هو الذي يعين على الخدمة، ويكثر المدحة، وقيل: هو الذي لا يعاجل من عصاه، ولا يخيب من رجاه، وقيل: هو الذي لا يرد سائله، ولا يؤيس آمله، وقيل: هو الذي يعفو عمن يهفو، وقيل: هو الذي يرحم من لا يرحم نفسه، وقد ذكرنا هذه المعاني في "الكتاب الأسنى، في شرح أسماء الله الحسنى"، عند اسمه اللطيف، ولله الحمد، اهـ. وقيل: هو العالم بخفيات الأمور، وقيل: هو معطي الإحسان في صورة الامتحان. كإعطاء يوسف الصديق، الملك في صورة الابتلاء برقه؛ لأنه من اللطف، وهو إيصال النفع على وجه فيه دقة، كما ذكرناه في كتابنا: "هدية الأذكياء في شرح طيبة الأسماء".
﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ﴾ والحرث في الأصل إلقاء البذر في الأرض، ويطلق على الزرع الحاصل منه، ويستعمل في ثمرات الأعمال ونتائجها، بطريق الاستعارة المبنية على تشبيهها بالغلال، الحاصلة من البذور، المتضمن لتشبيه الأعمال بالبذور، اهـ "أبو السعود". من حيث إنها فائدة تحصل بعمل الدنيا.
﴿نَزِدْ لَهُ﴾ فيه إعلال بالنقل والتسكين، أصله: نزيد فعل مضارع جزم لوقوعه جواب الشرط. فلما سكن آخره التقى ساكنان، فحذفت الياء بعد نقل حركتها إلى الزاي، فصار وزنه نفل. ﴿نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ وزنه نفعه لحذف لامه، لمناسبة جزم الفعل، الواقع جوابًا للشرط.
﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ﴾؛ أي: في الكفر، وهم الشياطين. ﴿شَرَعُوا لَهُمْ﴾؛ أي: زينوا لهم. ﴿مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾ كالشرك وإنكار البعث والعمل للدنيا فحسب. ﴿كَلِمَةُ الْفَصْلِ﴾ هي القضاء، والحكم السابق منه بالنظرة إلى يوه القيامة. ﴿فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ﴾ جمع روضة، والروضة: مستنقع الماء والخضرة، وروضات الجنات أطيب بقاعها وأنزهها. ﴿يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ﴾ والبشارة الإخبار بحصول ما يسر في المستقبل. ﴿إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ المودة: مودة الرسول - ﷺ -. والقربى: مصدر، كالزلفى بمعنى القرابة التي هي بمعنى الرحم.
﴿وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً﴾ قال الراغب: أصل القرف والاقتراف: قشر اللحاء عن الشجرة والجليدة عن الجذع، وما يؤخذ منه قرف، واستعير الاقتراف للاكتساب حسنيًا كان أو سوئيًا، وفي الإساءة أكثر استعمالًا، ولهذا يقال: الاعتراف يزيل الاقتراف. ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ والفرق بين الافتراء والكذب: أن الافتراء هو افتعال الكذب من قول نفسه، والكذب قد يكون على وجه التقليد للغير فيه.
قوله: ﴿لَبَغَوْا﴾ أصله: لبغيوا، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، فالتقى ساكنان، فحذفت الألف. ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ﴾ أصله: أصوبكم بوزن أفعل، نقلت حركة الواو إلى الصاد، ثم قلبت ألفًا لتحركها في الأصل، وفتح ما قبلها في الحال. ﴿مُصِيبَةٍ﴾ أصله: مصوبة بوزن مفعلة، نقلت حركة الواو إلى الصاد، فسكنت إثر كسرة، فقلبت ياءً حرف مدّ.
﴿وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ أصله: يعفو، بوزن يفعل، سكنت ﴿الواو﴾ لوقوعها متطرفة إثر ضمة. ﴿وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ﴾ قال أهل اللغة: أعجزته: أي: صيرته عاجزًا، وأعجزته فيه سبقته. ﴿الْجَوَارِ﴾ السفن، وهي بحذف الياء في الخط؛ لأنها من ياءات الزوائد، وبإثباتها وحذفها في اللفظ في كل من الوصل والوقف، وقد قرىء بها جميعها. قال أبو حيان: جمع جارية، وهي صفة جرت مجرى الأسماء، فوليت العوامل.
وقال الشهاب الحلبي: فإن قلت: الصفة متى لم تكن خاصة بموصوفها، امتنع حذف الموصوف، فلا تقول: مررت بماش؛ لأن المشي عام، وتقول: مررت بمهندس وكاتب، والجري ليس من الصفات الخاصة بالموصوف، وهو السفن، فلا يجوز حذفه.
والجواب: أن محل الامتناع إذا لم تجر الصفة مجرى الجوامد، بأن تغلب عليها الاسمية، كالأبطح والأبرق، وإلا جاز حذف الموصوف، وعلى هذا فقوله: ﴿فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ﴾ حالان، انتهى. وإلى هذا يشير صنيع الجلال، حيث فسر الجوار بالسفن فقط، ولم يفسرها بالسفن الجارية، ففيه إشارة إلى أن المراد
وَإِنَّ صَخْرًا لَتَأْتَمُّ الْهُدَاةُ بِهِ | كَأَنَّهُ عَلَمٌ فِيْ رَأْسِهِ نَارُ |
﴿كَبَائِرَ الْإِثْمِ﴾ والإثم الذنب، والكبائر جمع كبيرة، والهمزة فيه مبدلة من الياء الموجودة في المفرد، لوقوعها حرف مد ثالثًا، زائدًا في اسم مؤنث ﴿وَالْفَوَاحِشَ﴾ جمع فاحشة، وهي القبيحة، أو المفرطة في القبح، قال في "القاموس": الفاحشة الزنا، وما يشتد قبحه من الذنوب، فيكون عطف الفواحش على الكبائر من عطف البعض على الكل، إيذانًا بكمال شناعته، وقيل: هما واحد، والعطف لتغاير الوصفين، كأنه قيل: يجتنبون المعاصي، وهي عظيمة عند الله تعالى في الوزن، وقبيحة في العقل والشرع.
﴿وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ﴾ والغضب: ثوران دم القلب إرادة الانتقام، والمغفرة هنا بمعنى: العفو والتجاوز والحلم وكظم الغيظ.
﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ مصدر كالفتيا، بمعنى التشاور، وأصله: من الشور: وهو الإخراج، سميت المشاورة به؛ لأن كل واحد من المتشاورين في الأمر، يستخرج من صاحبه ما عنده.
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الاكتفاء في قوله: ﴿يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ﴾؛ أي: ويحرم من يشاء.
ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: ﴿حَرْثَ الْآخِرَةِ﴾ حيث شبه ما يعمله العامل من العمل الصالح بالحرث، الذي هو إلقاء البذر في الأرض، أو الزرع الحاصل منه، ثم حذف المشبه، وهو العمل الصالح، وأبقي المشبه به، وهو الحرث، للدلالة على نتائج الأعمال وثمراتها، وشبه بالزرع، من حيث إنه فائدة تحصل بعمل الدنيا، ولذلك قيل: الدنيا مزرعة الآخرة.
ومنها: الطباق بين ﴿حَرْثَ الْآخِرَةِ﴾ و ﴿حَرْثَ الدُّنْيَا﴾.
ومنها: المشاكلة أو التهكم في قوله: ﴿شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ﴾؛ لأن ذكر الدين للمشاكلة؛ لأنه في مقابلة دين الله تعالى، أو للتهكم بهم.
ومنها: الإسناد المجازي في قوله: ﴿شَرَعُوا﴾ حيث أسند التشريع إلى الشركاء التي هي الأصنام، مع كونها بمعزل عن الفاعلية، فهو من قبيل إسناد الفعل إلى السبب؛ لأنها سبب ضلالتهم وافتتانهم، كقوله تعالى: ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ﴾.
ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: ﴿وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ تسجيلًا عليهم بالظلم، ودلالة على أن العذاب الأليم، الذي لا يكتنه كنهه، إنما يلحقهم بسبب ظلمهم وإنهماكهم فيه.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾؛ أي: إلا المحبة لأهل قرابتي حيث أطلق الحال، وهو القرابة، وأراد المحل، وهو أهلها فقد جعلوا مكانًا ومقرًا لها.
ومنها: الطباق بين ﴿يَمْحُ﴾ و ﴿يُحِقُّ﴾ وبين ﴿الْحَقَّ﴾ و ﴿الْبَاطِلَ﴾ في قوله
ومنها: الجناس المغاير في قوله: ﴿وَيُحِقُّ الْحَقَّ﴾.
ومنها: الاحتباك في قوله: ﴿تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ﴾، وقوله: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ﴾ حيث أثبت الإشفاق في الظالمين، أولًا: دليلًا على حذف الأمن، ثانيًا: في الذين آمنوا، وأثبت الجنات ثانيًا في الذين آمنوا، دليلًا على حذف النيران أولًا في الظالمين.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية، في قوله: ﴿وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً﴾؛ لأن الاقتراف حقيقة في قشر اللحاء عن الشجرة، والجليدة عن الجذع، فاستعير للاكتساب مطلقًا، حسنًا كان أو سوءًا.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في شكور، من قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾ حيث شبهت الإثابة والتفضل بالشكر، الذي هو فعل ينبيء عن تعظيم المنعم لكونه منعمًا، لامتناع أن ينعم عليه تعالى أحد حتى يقابل بالشكر؛ أي: شبهت الإثابة بالشكر، من حيث إن كل واحد منهما يتضمن الاعتداد بفعل الغير، وإكرامًا لأجله، فاستعير اسم المشبه به الذي هو الشكر، للمشبه الذي هو الإثابة، ثم اشتق من الشكر، بمعنى الإثابة شكور، بمعنى: مثيب على طريق الاستعارة التصريحية التبعية.
ومنها: الإتيان بصيغة المضارع في قوله: ﴿وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ﴾ دلالة على الاستمرار.
ومنها: صحة التفسير، في قوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا﴾ وهو أن يأتي المتكلم في أول كلامه بمعنى، لا يستقل اللهم بمعرفة فحواه، لكونه مجملًا يحتاج إلى بيان المراد منه، وقد يكون بيانه بعد الجار والمجرور، كما في هذه الآية، وقد جاءت صحة التفسير فيها مؤذنة بمجيء الرجاء بعد اليأس، والفرج بعد الشدة، والمسرة بعد الحزن، ليكون ذلك أحلى موقعًا في القلوب.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية، في قوله: ﴿وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾؛ أي: يثيبهم على أعمالهم؛ لأن الإجابة مجاز عن الإثابة؛ لأن الطاعة لما شبهت بدعاء ما يترتب عليها من الثواب، كانت الإثابة عليها بمنزلة إجابة الدعاء، فعبر بها عنها.
ومنها: إطلاق اسم المسبب، وهو الدابة على السبب، في قوله تعالى: ﴿وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ﴾ فإن الدبيب مجاز أريد به سببه، وهو الحياة، فتكون الدابة بمعنى الحي، فتتناول الملائكة أيضًا كما مر. وقيل: إنه من نسبة الشيء إلى الكل مرادًا به البعض؛ لأن الدابة إنما تكون في الأرض، والمراد بضمير التثنية: الأرض فقط، كما في قوله تعالى: ﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (٢٢)﴾ وإنما يخرجان من البحر الملح لا العذب.
ومنها: التشبيه المرسل المجمل، في قوله: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (٣٢)﴾؛ أي: كالجب الذي الضخامة والعظم.
ومنها: صيغة المبالغة في قوله: ﴿لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾؛ أي: عظيم الصبر كبير الشكر.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٤٢) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣) وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (٤٥) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (٤٨) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠) وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (٥٣)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما (١) مدح فيما سلف الذين ينتصرون لأنفسهم، ممن بغى عليهم.. أردف ذلك بما يدل على أن ذلك الانتصار، مقيد بالمثل؛ لأن النقصان حيف، والزيادة ظلم، والتساوي هو العدل الذي قامت به السموات والأرض، ثم
قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله لما ذكر أن الذين يظلمون الناس، ويبغون في الأرض بغير الحق، لهم عذاب أليم على ما اجترحوا من البغي، والعدوان بغير الحق.. أردف ذلك ببيان أن من أصله فلا هادي له، وأن الكافرين حين يرون العذاب يوم القيامة، يطلبون الرجوع إلى الدنيا، وأنهم يعرضون على النار، وهم خاشعون أذلاء، ينظرون من طرف خفي، وأن الذين آمنوا يقولون: إن الكافرين لفي خسران مبين، فقد أضاعوا النفس والأهل، ولا يجدون لهم، ناصرًا يخلصهم مما هم فيه من العذاب.
قوله تعالى: ﴿اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه، لما ذكر ما سيكون يوم القيامة، من الأهوال وعظائم الأمور، حذر من هذا اليوم. فبين أن الكافرين لا يجدون حينئذٍ ملجأ يقيهم من عذاب الله تعالى، ولا ينكرون ما اقترفوه؛ لأنه مكتوب في صحائف أعمالهم. ثم أرشد رسوله إلى أنهم إن أعرضوا عن دعوتك، فلا تأبه بهم، ولا تهتم بشأنهم. ثم أعقب هذا بذكر طبيعة الإنسان، وأنه يفرح حين النعمة، ويجحد نعم ربه حين الشدة، ثم قسم هبته لعباده في النسل أربعة أقسام: فمنهم من وهب الإناث، ومنهم من وهب الذكران، ومنهم من أعطي الصنفين ومنهم العقيم الذي لا نسل له.
قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (١) ذكر تقسيم النعم الجسمانية التي يهبها لعباده.. أردفها تقسيم النعم الروحية، وأن الناس محجوبون عن
١ - أن يحس بمعان تلقى في قلبه، أو يرى رؤيًا منامية، كرؤيا الخليل إبراهيم عليه السلام ذبح ولده.
٢ - أن يسمع كلامًا من وراء حجاب، كما سمع موسى عليه السلام، من غير أن يبصر من يكلمه، فهو قد سمع كلامًا، ولم ير المتكلم.
٣ - أن يرسل إليه ملكًا، فيوحي ذلك الملك ما يشاء إلى النبي - ﷺ -، ثم ذكر أنه كما أوحى إلى الأنبياء قبله، أوحى إليه القرآن، وما كان قبله يعلم ما القرآن، وما الشرائع التي بها هداية البشر، وصلاحهم في الدارين.
التفسير وأوجه القراءة
٤٠ - وقوله: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ﴾؛ أي: جناية ﴿سَيِّئَةٌ﴾؛ أي: جناية ﴿مِثْلُهَا﴾؛ أي: مماثلة للأولى في الكم والكيف، بيان لوجه كون الانتصار من الخصال الحميدة، مع كونه في نفسه إساءة إلى الغير، بالإشارة إلى أن البادىء هو الذي فعله لنفسه، فإن الأفعال مستتبعة لأجزيتها حتمًا، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشرِّ، وفيه تنبيه على حرمة التعدي.
والمعنى: أي وجزاء سيئة المسيء، عقوبته بما شرعه الله من عقوبة مماثلة لجرمه. وإطلاق (١) السيئة على الثانية، مع أنها جزاء مشروع مأذون فيه، وكل مأذون حسن لا سيء، لأنها تسوء من نزلت به، كما في آية أخرى: ﴿وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ﴾، يريد ما يسؤهم من المصائب والبلايا، أو للمشاكلة، لتشابههما في الصورة. كما في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا﴾ وعلى هذا فالسيئة مقابل الحسنة، بخلافها في الوجه الأول.
وفي الآية حث على العفو؛ لأن الانتصار إنما يحمد إذا حصلت المماثلة في الجزاء، وتقديرها عسر سياق، وربما صار المظلوم حين استيفاء القصاص ظالمًا.
ونحو الآية: قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾، وقوله: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾، وقوله: ﴿وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا﴾.
وقد أمر - ﷺ - برد الشتم على الشاتم، أخرج النسائي وابن ماجه وابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت علي زينب وعندي رسول الله - ﷺ -، فأقبلت علي تسبني، فردعها النبي - ﷺ -، فلم تنته، فقال لي: "سبيها"، فسببتها حتى جف ريقها في فمها، ووجه رسول الله - ﷺ - يتهلل سرورًا. وكان هذا بمنزلة التعزيز منه لزينب، بلسان عائشة، لما أن لها حقًا في الرد، وقد رأى فيه المصلحة.
وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - ﷺ -: "المستبان ما قالا من شيء فعلى البادىء حتى يعتدي المظلوم"، ثم قرأ: " ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ ".
وقصارى ذلك (١): أن كل جناية على النفس، أو المال، تقابل بمثلها
وعن بعض الفقهاء في هذه الآية (١): وقد قيل: إنه الشافعي رحمه الله تعالى: أن للإنسان أن يأخذ من مال من خانه، مثل ما خانه من غير علمه، واستشهد على ذلك بقول النبي - ﷺ - لهند، زوجة أبي سفيان: "خذي من ماله ما يكفيك وولدك"، فأجاز لها أخذ ذلك بغير إذنه، كذا ذكره القرطبي في "تفسيره".
وجاء تتمة لهذه الآية، قوله: ﴿فَمَنْ عَفَا﴾ عن المسيء إليه جنايته؛ أي: ترك القصاص وسامح له ﴿وَأَصْلَحَ﴾ ما بينه وبين من يعاديه، بالعفو والإغضاء عما صدر منه، قال في "الحواشي السعدية": الفاء للإفصاح؛ أي: إذا كان الواجب في الجزاء رعاية المماثلة من غير زيادة، وهي عسرة جدًّا، وأردتم بيان ما هو الأولى، فأقول: الأولى العفو، والإصلاح، إذا كان قابلًا للإصلاح بأن لم يصر على البغي. وفي الحديث: "ما زاد الله العبد بالعفو إلا عزًا".
﴿فَأَجْرُهُ﴾؛ أي: فأجر عفوه وإصلاحه حق واجب ﴿عَلَى اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى، بطريق وعده المحتوم، فيجزيه أعظم الجزاء، وهذه عدة منبئة عن عظمة شأن الموعود، وخروجه عن الحد المعهود، وفي إبهام (٢) الأجر وجعله حقًا على العظيم الكريم جل شأنه، زيادة في الترغيب في العفو والحث عليه، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - ﷺ -: "إذا كان يوم القيامة، أمر الله مناديًا ينادي: ألا، ليقم من كان له على الله أجر، فلا يقوم إلا من عفا في الدنيا وذلك قوله: ﴿فَمَنْ عَفَا...﴾ " الآية.
ثم ذكر سبحانه خروج الظلمة عن محبته، التي هي سبب الفوز والنجاة،
(٢) المراغي.
وفي "الروح": قوله: ﴿إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾؛ أي: البادئين بالسيئة، والمتعدين في الانتقام، وهو استئناف تعليل، متعلق بقوله: ﴿وَجَزَاءُ﴾ إلخ. وقوله: ﴿فَمَنْ عَفَا﴾ إلخ، اعتراض يعني: إنما شرعت المجازاة وشرطت المساواة؛ لأنه لا يحب الظالمين.
٤١ - واللام في قوله: ﴿وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ﴾: لام (١) الابتداء، وجعلها الحوفي وابن عطية للقسم، وليس بجيد إذا جعلنا ﴿مَنِ﴾ شرطية، و ﴿مَنِ﴾ شرطية لدخول الفاء في جوابها، وهو قوله: (فأولئك)، أو موصولة، ودخلت الفاء لشبه الموصول بالشرط، وقوله: بعد ظلمه من إضافة المصدر إلى المفعول، أي: بعد ما ظلم. وقرىء به، وتذكير الضميرين باعتبار لفظ ﴿مَنْ﴾.
والمعنى: ولمن انتقم، واقتص بعد ظلم الظالم إياه، يعني: في الحقوق المالية ﴿فَأُولَئِكَ﴾ المنتصرون. فهو إشارة إلى ﴿مَنْ﴾ والجمع باعتبار المعنى. ﴿مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ﴾ للمعاقب ولا للمعاتب والمعايب. والسبيل: الطريق الذي فيه سهولة، والآية دفع لما تضمنه السياق، من إشعار المسند باب الانتصار.
والمعنى: ولمن انتصر ممن ظلمه بعد ظلمه إياه، فأولئك المنتصرون، لا سبيل للمنتصر منهم أن يوجهوا إليهم عقوبة ولا أذى، لأنهم انتصروا منهم بحق، ومن أخذ حقه ممن وجب له عليه، ولم يتعد ولم يظلم، فلا سبيل لأحد عليه بالمعاتبة، أو المعاقبة.
٤٢ - ولما نفى سبحانه وتعالى السبيل على من انتصر بعد ظلمه.. بين من عليه
والمعنى: أي إنما الحرج والإثم على الذين يبتدئون الناس بالظلم، أو يزيدون في الانتقام ويتجاوزون ما حد لهم، أو يتكبرون في الأرض تجبرًا وفسادًا ﴿أُولَئِكَ﴾ الموصوفون بما ذكر من الظلم، والبغي بغير الحق ﴿لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾؛ أي: مؤلم بسبب بغيهم وظلمهم.
٤٣ - ثم رغب سبحانه وتعالى في الصبر والعفو، فقال: ﴿وَلَمَنْ صَبَرَ﴾ على الأذى، معطوف على قوله: ﴿وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ﴾. وجملة قوله: ﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ﴾ إلخ. اعتراض، اهـ "سمين". واللام فيه للابتداء، و ﴿من﴾ موصولة مبتدأ ﴿وَغَفَرَ﴾؛ أي: عما لمن ظلمه ولم ينتصر، وفوض أمره إلى الله تعالى، وكرره اهتمامًا بالصبر، ترغيبًا فيه، والصبر هنا: هو الإصلاح المتقدم. فأعيد هنا، وعبر عنه بالصبر؛ لأنه من شأن أولي العزم، وأشار إلى أن العفو المحمود ما نشأ عن التحمل لا عن العجز، اهـ "شهاب".
﴿إِنَّ ذَلِكَ﴾ المذكور من الصبر والمغفرة ﴿لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾؛ أي: من معزومات الأمور ومهماتها وواجباتها؛ أي: من الأمور التي يجب عزم العبد عليها بإيجابها على نفسه، وتصميم قلبه عليها. لكونه من الأمور المحمودة عند
وحكي: أن رجلًا سب رجلًا في مجلس الحسن، رحمه الله تعالى، فكان المسبوب يكظم ويعرق فيمسح العرق، ثم قام، فتلا هذه الآية، فقال الحسن: عقلها والله وفهمها إذ ضيعها الجاهلون.
وقوله: ﴿إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ فإن قلت: قاله هنا بلام التأكيد، وقاله في ﴿لُقْمَانَ﴾ بدونها، فما الفرق بين الموضعين.
قلت: لأن الصبر على مكروه حدث بظلم، كقتل ولد أشد من الصبر على مكروه حدث بلا ظلم، كموت ولد، كما أن العزم على الأول أوكد منه على الثاني، وما هنا من القبيل الأول، فكان أنسب لتوكيد وما في ﴿لُقْمَانَ﴾ من القبيل الثاني، فكان أنسب بعدمه اهـ "كرخي".
والمعنى: أي ولمن صبر عن الانتصار بغير انتقام ولا شكوى، وستر السيئة، فقد فعل ما يشكر عليه ويستحق به الأجر وجزيل الثواب، ورُوي أنه - ﷺ - قال لأبي بكر رضي الله عنه: "يا أبا بكر، ثلاث كلهن حق: ما من عبد ظلم بمظلمة، فيفضي عنها إلا أعزه الله تعالى بها ونصره، وما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة، إلا زاده الله بها كثرة، وما فتح رجل باب مسألة، يريد بها كثرة إلا زاده الله عَزَّ وَجَلَّ بها قلة".
٤٤ - ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى؛ أي: يخلق فيه الضلالة من الهوى، أو بتركه على ما كان عليه من ظلم الناس ﴿فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ﴾ يلي أمره، وناصر ينصره ﴿مِنْ بَعْدِهِ﴾؛ أي: من بعد خذلانه تعالى إياه. وظاهر الآية: العموم، وقيل: هي خاصة بمن أعرض عن النبي - ﷺ -، ولم يعمل بما دعاه إليه، من الإيمان بالله والعمل بما شرعه، والأول أولى.
والمعنى: أي أنه ما شاء الله كان، ولا راد له، وما لم يشأ لم يكن، فمن
والخلاصة: أن من خذله الله لسوء استعداده، وتدسيته نفسه، باجتراح الآثام والمعاصي، فليس له من ولي يهديه إلى سبيل الرشاد، ويوصله إلى طريق الفوز والفلاح.
ثم ذكر تمني الكافرين الرجوع إلى الدنيا، فقال: ﴿وَتَرَى﴾ أيها المخاطب؛ لأن الخطاب (١) لكل من يتأتى منه الرؤبة البصرية ﴿الظَّالِمِينَ﴾؛ أي: المشركين المكذبين بالبعث ﴿لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ﴾؛ أي: حين يرون العذاب يوم القيامة، وينظرونه، وصيغة الماضي، للدلالة على التحقق، حال كونهم ﴿يَقُولُونَ﴾ فالجملة في موضع الحال من ﴿الظَّالِمِينَ﴾؛ لأن الرؤية هنا بصرية ﴿هَلْ إِلَى مَرَدٍّ﴾؛ أي: رجعة إلى الدنيا ﴿مِنْ سَبِيلٍ﴾؛ أي: طريق، فالمرد: مصدر ميمي بمعنى الرد، وهل للاستفهام المضمن معنى التمني
٤٥ - ﴿وَتَرَاهُمْ﴾؛ أي: تبصر الظالمين أيها الرائي حال كونهم ﴿يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا﴾؛ أي: على النار المدلول عليها بالعذاب، حال كونهم ﴿خَاشِعِينَ﴾ حال من فاعل ﴿يُعْرَضُونَ﴾. و ﴿مِنَ﴾ في قوله: ﴿مِنَ الذُّلِّ﴾ للتعليل متعلقة بـ ﴿خَاشِعِينَ﴾. وقرأ طلحة: ﴿من الذل﴾ بكسر الذال (٢). والجمهور: بالضم؛ أي: يعرضون عليها خاضعين حقيرين، بسبب ما لحقهم من الذل والهوان، ويصح تعلقها بينظرون، ويوقف على خاشعين، و ﴿مِنَ﴾ في قوله: ﴿يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ﴾؛ أي: ضعيف. لابتداء الغاية.
والمعنى: حال كونهم يبتدىء نظرهم إلى النار، من تحريك لأجفانهم ضعيف، يعني: يسارقون النظر إلى النار، خوفًا منها، وذلة في أنفسهم، كالمقتول ينظر إلى السيف، فلا يقدر أن يملأ عينيه منه، وهكذا الناظر إلى المكاره، لا يقدر أن يفتح أجفانه عليها، ويملأ عينيه منها، كما يفعل في نظره إلى المحابِّ، وقيل: هل المراد بالطرف: العين، أو المصدر، قلنا: كلاهما يناسب المقام، وقال الكلبي: ينظرون بأبصار قلوبهم، ولا ينظرون بأبصار ظواهرهم؛ لأنهم
(٢) البحر المحيط.
وفي الآية: إشارة إلى أن النفوس التي لم تقبل الصلاح بالعلاج في الدنيا، تتمنى الرجوع إلى الدنيا يوم القيامة، لتقبل الصلاح، بعلاج الرياضات الشرعية، وتخشع، إذ لم تخشع في الدنيا من القهّار، فلا تنفعها ندامة، ولا تسمع منها دعوة، ولها نظر من طرف خفي، من خجالة المؤمنين، إذ يعيرونها بما ذكروها، فلم تسمع وهي نفوس الظالمين.
وحاصل المعنى (٢): أي وترى الكافرين بالله، حين يعاينون العذاب يوم القيامة، يتمنون الرجعة إلى الدنيا، ويقولون: هل من رجعة لنا إليها، وتراهم أيضًا في ذلك اليوم، يعرضون على النار وهم خاشعون أذلاء؛ لأنهم عرفوا ذنوبهم وانكشف لهم عظمة من عصوه يسارقون النظر إليها خوفًا منها، وحذرًا من الوقوع فيها، كما ينظر من قدم للقتل إلى السيف، فلا يقدر أن يملأ عينيه منه، وإنما ينظر ببعضها.
ولما وصف حال الكفار، حكى ما يقوله المؤمنون فيهم، فقال: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وجاهدوا في الله تعالى حق جهاده، وربحوا على ربهم، وصيغة الماضي للدلالة على التحقق ﴿إِنَّ الْخَاسِرِينَ﴾؛ أي: المتصفين بحقيقة الخسران، وهو انتقاص رأس المال، وينسب إلى الإنسان فيقال: خسر فلان، وإلى الفعل فيقال: خسرت تجارته، ويستعمل ذلك في القنيات الخارجة، كالمال والجاه في الدنيا، وهو الأكثر. وفي القنيات النفيسة، كالصحة والسلامة والعقل والإيمان والثواب، وهو الذي جعله الله سبحانه الخسران، وكل خسران ذكره الله في القرآن
(٢) المراغي.
وفي "التأويلات النجمية": إن الخاسرين هم الذين خسروا أنفسهم، بإبطال استعدادهم، إذ صرفوه في طلب الدنيا وزخارفها والالتذاذ بها، وخسروا أهليهم، إذ لم يقوا أنفسهم وأهليهم نارًا، بقبول الإيمان، وأداء الشرائع ﴿أَلَا﴾ حرف تنبيه ﴿إِنَّ الظَّالِمِينَ﴾؛ أي: المشركين الذين كانوا في جهنم، شهوات النفس جثيًا في الدنيا ﴿فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ﴾ في الآخرة؛ أي: دائم لا ينقطع إلى الأبد، وهذا إما من تمام كلام المؤمنين، أو من كلام الله سبحانه تصديقًا لهم.
والمعنى: أي ويقول المؤمنون يوم القيامة: إن المغبونين غبنًا لا غبن بعده، هم الذين خسروا أنفسهم، فأدخلوا في النار، وحرموا نعيم الأبد، وفرق بينهم وبين أحبابهم وأصحابهم وذوي قراباتهم.
٤٦ - ثم صدقهم ربهم فيما قالوا، فقال: ألا إن الكافرين لفي عذاب سرمدي، لا مهرب لهم منه ولا خلاص، ثم أيأسهم من الفكاك منه بأي سبيل، فقال: ﴿وَمَا كَانَ لَهُمْ﴾؛ أي: للظالمين ﴿مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ﴾ بدفع العذاب عنهم ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى، حسبما كانوا يرجون ذلك في الدنيا؛ أي: لا يجدون لهم أعوانًا وأنصارًا ينقذونهم، مما حل بهم من العذاب، فأصنامهم التي كانوا يعبدونها لتشفع لهم، لا تستطيع أن تتقدم إليهم بشفاعة ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ﴾؛ أي: يرد الله إضلاله بان يشغله بغيره ﴿فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ﴾ يؤدي سلوكه إلى النجاة؛ أي:
حكي: أن شيخًا حج مع شاب، فلما أحرم قال: لبيك، فقيل له: لا لبيك، فقال الشاب للشيخ: ألا تسمع هذا الجواب، فقال: كنت أسمع هذا الجواب منذ سبعين سنة، قال: فلأي شيء تتعب، فبكى الشيخ، فقال: فإلى أي باب ألتجىء فقيل له: قد قبلناك. فهذا من هداية الله الخاصة، فافهم جيدًا.
٤٧ - ﴿اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ﴾ إذا دعاكم إلى الإيمان، على لسان نبيه - ﷺ -: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ﴾ وهو يوم القيامة، أو يوم الموت ﴿لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ﴾ و ﴿مِنْ﴾ إما متعلقة بـ ﴿يَأْتِيَ﴾؛ أي: من قبل أن يأتي من الله يوم، لا يقدر أحد على رده، ودفعه، أو متعلقة بـ ﴿مَرَدَّ﴾؛ أي: لا يرده الله، بعد أن حكم به على عباده، ووعدهم به.
والمعنى: أجيبوا داعي الله، وهو رسوله - ﷺ - وآمنوا به، واتبعوه فيما جاءكم به من عند الله تعالى، من قبل أن يأتي يوم لا يستطيع أحد أن يرده، إذا جاء به الله.
﴿اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ﴾ تلتجئون إليه، ولا مفر تفرون إليه؛ أي (١): ما لكم مخلص ما، من العذاب على ما دل عليه، تأكيد النفي بـ ﴿من﴾ الاستغراقية ﴿وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ﴾؛ أي: إنكار ما لما اقترفتموه؛ لأنه مدون في صحائف أعمالكم، وتشهد عليكم جوارحكم، ولعل المراد: الإنكار المنجي، وإلا فهم يقولون ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ وغير ذلك، ولذلك تشهد عليهم أعضاؤهم، أي: ما لكم من إنكار يومئذٍ، بل تعترفون بذنوبكم. والنكير: اسم مصدر بمعنى الإنكار، وقال مجاهد: ﴿مَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ﴾؛ أي: ناصر ينصركم، وقيل: النكير بمعنى المنكر، كالأليم بمعنى المؤلم؛ أي: لا تجدون يومئذٍ منكرًا لما ينزل بكم من العذاب، قاله الكلبي وغيره، والأول أولى.
٤٨ - وقوله: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ تحفظ أعمالهم حتى تحاسبهم عليها، ولا موكلًا بهم رقيبًا عليهم، تلوين للكلام، وصرف له عن خطاب الناس بعد أمرهم بالاستجابة، وتوجيه منه إلى الرسول - ﷺ - أي: فإن لم يستجيبوا وأعرضوا عما تدعوهم إليه، فما أرسلناك رقيبًا ومحاسبًا عليهم، وحافظًا لأعمالهم ﴿إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾؛ أي: ما يجب عليك إلا تبليغ الرسالة، وقد فعلت فلا يهمنك إعراضهم، وهذا منسوخ بآية السيف.
والمعنى: أي فإن أعرض هؤلاء المشركون عما أتيتهم به من الحق، ودعوتهم إليه من الرشد، ولم يستجيبوا لك، وأبوا قبوله منك، فدعهم وشأنهم، فإنا لم نرسلك رقيبًا عليهم، تحفظ أعمالهم وتحصيها، فما عليك إلا أن تبلغهم، ما أرسلناك به إليهم، فإذا أنت بلغته فقد أديت ما كلفت به، ونحو الآية ﴿لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢)﴾ وقوله: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾، وقوله: ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ﴾.
قال الغزالي رحمه الله تعالى في "شرح الأسماء": الحفيظ من العباد: من يحفظ جوارحه وقلبه، ويحفظ دينه من سطوة الغضب، وخلابة الشهوة وخداع النفس وغرور الشيطان، فإنه على شفا جرف هار، وقد اكتنفته هذه المهلكات المفضية إلى النار، وقد عرف كلها من لسان الشارع - ﷺ -، فليسارع العبد إلى دفع الموبقات، وجلب المنجيات بإصلاح النفس، والتخلق بالأخلاق الإلهية، فإن النفس طاغية مؤدية إلى الإفلاس والخسار.
وبعدئذٍ ذكر طبيعة الإنسان، وغريزته في هذه الحياة، فقال: ﴿وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ﴾؛ أي: إذا أعطينا الإنسان ﴿مِنَّا رَحْمَةً﴾؛ أي: نعمة صادرة من جهتنا، كالصحة والغنى ﴿فَرِحَ بِهَا﴾ بطرًا لأجلها والمراد بالإنسان: الجنس لا الواحد، ولهذا قال: ﴿وَإِنْ تُصِبْهُمْ﴾؛ أي: الإنسان ﴿سَيِّئَةٌ﴾؛ أي: بلاءً وشدة ومرض
والمعنى: أي وإنا إذا أغنينا ابن آدم، فأعطيناه من لدنا سعة في الرزق، أو في الصحة، أو في الأمن سر بما آتيناه، وإن أصابته فاقة، أو مرض بما أسلف من معصية ربه، جحد نعمتنا، وأيس من الخير، والإنسان من طبعه الجحد والكفران بالنعم حين الشدة.
والخلاصة: أن الإنسان إن أصابته نعمة أشر وبطر، وإن ابتلي بمحنة يئس وقنط.
واعلم: أن نعمة الله تعالى، وإن كانت في الدنيا عظيمة، إلا أنها بالنسبة إلى سعادات الآخرة، كالقطرة بالنسبة إلى البحر، فلذلك سمي الإنعام بها إذاقة فالإنسان إذا حصل له هذا القدر الحقير في الدنيا فرح به، ووقع في العجب والكبر، وظن أنه فاز بكل المنى، ودخل في قصر السعادات، ولذا ضعف اعتقاده في سعادات الآخرة، وإلا لاختار الباقي على الفاني؛ لأن الفاني كالخزف مع أنه قليل، والباقي كالذهب مع أنه كثير.
والمعنى: أي إنه تعالى خالق السموات والأرض، ومالكهما، والمتصرف فيهما، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وهو يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع ﴿يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ مما يعلمونه، ومما لا يعلمونه على أي صورة شاء ﴿يَهَبُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا﴾ لا ذكور معهن مثل ما وهب لشعيب ولوط عليهما السلام، والهبة: أن تجعل ملكك لغيرك بغير عوض، والوهاب هو الله سبحانه وتعالى؛ لأنه يعطي كلًّا على قدر استحقاقه ولا يريد عوضًا، والجملة بدل من يخلق بدل البعض، وإنما قدم الإناث على الذكور مع شرفهم؛ لأنها أكثر لتكثير النسل، أو لتطييب قلوب آبائهن، إذ في التقديم تشريف لهن، وإيناس بهن، ولذلك جعلن من مواهب الله تعالى مع ذكر اللام الانتفاعية أو لرعاية الترتيب الواقع أولًا في الهبة بنوع الإنسان، فإنه تعالى وهب لآدم أولًا زوجته حواء عليهما السلام، بأن ولَّدها منه، وخلقها من قصيراه، وهي أسفل الأضلاع، أو آخر ضلع في الجنب، كما في "القاموس".
قال في "الكواشي": ويجوز أنهن قدمن توبيخًا لمن كان يئدهن، ونكرن إيماء إلى ضعفهن ليرحمن، فيحسن إليهن. وقال في "الشرعة وشرحه": وليزداد فرحًا بالبنات، مخالفة لأهل الجاهلية، فإنهم يكرهونها، بحيث يدفنونها في التراب في حال حياتها، وفي الحديث: "من بركة المرأة تبكيرها بالبنات"؛ أي: يكون أول ولدها بنتًا، ألم تسمع قوله تعالى: ﴿يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا﴾ الآية، حيث بدأ بالإناث ﴿وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ﴾ لا إناث معهم، كما وهب إبراهيم عليه السلام، من غير أن يكون في ذلك مدخل لأحد، ومجال اعتراض.
٥٠ - ﴿أَوْ يُزَوِّجُهُمْ﴾؛ أي: يقرن بين الإناث والذكور، فيجعلهم ﴿ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا﴾ فيصير أولاده ذكرانًا وإناثًا، فيهبهما جميعًا لمن يشاء، بأن يولد له الذكور والإناث، مثل ما وهب لنبينا محمد - ﷺ -، إذ كان له من البنين ثلاثة على الصحيح، قاسم، وعبد الله، وإبراهيم. ومن البنات أربع: زينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة رضي الله عنهن. قال مجاهد: معنى يزوجهم: هو أن تلد المرأة غلامًا، ثم تلد جارية. ثم تلد غلامًا، ثم تلد جارية، وقال محمد بن الحنفية: هو أن تلد توأمًا، غلامًا وجارية ﴿وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا﴾ لا يولد له ذكر ولا أنثى، فـ ﴿مَنْ﴾ عبارة عن الرجل والمرأة. فلا يلد ولا تلد. والعقيم: الذي لا يولد له، يقال: رجل عقيم؛ أي: لا يولد له، وامرأة عقيم؛ أي: لا تلد، كما في عيسى ويحيى عليهما السلام، فإنهما ليس لهما أولاد، أما عيسى فلم يتزوج، وإن كان يتزوج حين نزوله في آخر الزمان، ويكون له البنات كما قيل: وأما يحيى فقد تزوج، ولكن لم يقرب لكونه عزيمةً في شريعته، وبعضهم لم يكن له أولاد، وإن حصل له قربان النساء.
ومعنى الآية: (١) أي يخلق ما يشاء، فيرزق من يشاء البنات فحسب، ويرزق من يشاء البنين فحسب، ويعطي من يشاء الزوجين الذكر والأنثى، ويجعل من يشاء لا نسل له، وفي هذا إيماء إلى أن الملك ملكه من غير منازع ولا مشارك، يتصرف فيه كيف يشاء، ويخلق ما يشاء، فليس لأحد أن يعترض عليه، أو يدبر بحسب هواه، وتصرفه لا يكون إلا على أكمل وجه وأتم نظام، وقد قيل: ليس في الإمكان أبدع مما كان ﴿إِنَّهُ﴾ تعالى ﴿عَلِيمٌ﴾ بمن يستحق كل نوع من هذه
وفي "فتح الرحمن": فإن قلت (١): لم قدم الإناث مع أن جهتهن التأخير، ولم عرف الذكور دونهن؟.
قلت: لأن الآية سيقت لبيان عظمة ملكه ومشيئته، وأنه فاعل ما يشاء، لا ما يشاء عبيده، كما قال: ﴿مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾ ولما كان الإناث مما لا يختاره العباد، قدمهن في الذكر، لبيان نفوذ إرادته ومشيئته وانفراده بالأمر، ونكرهن وعرف الذكور لانحطاط رتبتهن، لئلا يظن أن التقديم كان لأحقيتهن به ثم أعطى كل جنس حقه من التقديم والتاخير، ليعلم أن تقديمهن لم يكن لتقدمهن، بل لمقتضى آخر فقال: ﴿أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا﴾ كما قال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى﴾.
وقال أبو حيان: ولما (٢) ذكر الهبة في الإناث، والهبة في الذكور، اكتفى عن ذكرها في قوله: ﴿أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا﴾، ولما كان العقيم ليس بمحمود قال: ﴿وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا﴾، وهو قسيم لمن يولد له، وتغيير العاطف في الثالث؛ لأنه قسيم المشترك بين القسمين، ولم يحتج إليه في الرابع لإفصاحه، بأنه قسيم المشترك بين الأقسام الثلاثة، ذكره "البيضاوي"، ولما كان الخنثى مما يحزن بوجوده لم يذكره سبحانه وتعالى، قالوا: وكانت الخلقة مستمرة ذكرًا وأنثى إلى أن وقع في الجاهلية الأولى الخنثى، فسئل فارض العرب ومعمرها، عامر بن الظرب عن ميراثه، فلم يدر ما يقوله وأرجأهم، فلما جن عليه الليل، جعل يتقلب وتذهب به الأفكار، وأنكرت خادمته حاله، فسألته، فقال: بهرت لأمر لا أدري ما أقول فيه، فقالت له: ما هو، فقال شخص له ذكر وفرج، كيف يكون حاله في الميراث، قالت له الأمة: ورثه من حيث يبول، فعقلها وأصبح، فعرضها عليهم فرضوا بها، وجاء الإِسلام على ذلك، وقضى بذلك علي كرم الله وجهه.
٥١ - ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ﴾؛ أي: وما صح لفرد من أفراد البشر يا محمد {أَنْ
(٢) البحر المحيط.
١ - ﴿إِلَّا وَحْيًا﴾ استثناء من أعم الأحوال؛ أي: ما كان له أن يكلمه الله في حال من الأحوال، إلا حالة كونه وحيًّا وإلهامًا، وإلقاء من الله تعالى في روعه وقلبه، كما أوحى إلى أم موسى، وإلى إبراهيم في ذبح ولده، وكما روى ابن حبان في "صحيحه"، أن رسول الله - ﷺ - قال: "إن روح القدس نفث في روعي، إن نفسًا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله، وأجملوا في الطلب".
٢ - ﴿أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ﴾؛ أي: أو إلا حالة كونه من وراء حجاب، بأن يسمعه كلامه جهرة، من غير أن يبصر السامع من يكلمه، فهو تمثيل له بحال الملك المحتجب، الذي يكلم بعض خواصه من وراء الحجاب، يسمع صوته، ولا يرى شخصه، وإلا فالله تعالى منزه عن الاستتار بالحجاب، الذي هو من خواص الأجسام، فالحجاب يرجع إلى المستمع، لا إلى الله تعالى المتكلم، وذلك كما كلم الله تعالى موسى في طوى والطور، ولذا سمي كليم الله؛ لأنه سمع صوتًا دالًا على كلام الله تعالى، من غير أن يكون ذلك الصوت مكتسبًا لأحد من الخلق.
٣ - ﴿أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا﴾؛ أي: أو إلا حالة كونه بأن يرسل رسولًا؛ أي: ملكًا من الملائكة، إما جبرئيل أو غيره ﴿فَيُوحِيَ﴾ ذلك الرسول إلى المرسل إليه الذي هو الرسول البشري ﴿بِإِذْنِهِ﴾؛ أي: بأمره تعالى وتيسيره ﴿مَا يَشَاءُ﴾ الله سبحانه أن يوحيه إليه من أمر أو نهي، كما كان جبريل ينزل على النبي - ﷺ - وعلى غيره من الأنبياء، وهذا هو الذي بينه تعالى وبين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، في عامة الأوقات من الكلام، فيكون إشارة إلى التكلم بواسطة الملك.
رُوي: أن النبي - ﷺ - قال: "من الأنبياء من يسمع الصوت، فيكون بذلك نبيًا، ومنهم من ينفث في أذنه وقلبه، فيكون بذلك نبيًا، وإن جبرئيل يأتيني فيكلمني، كما يكلم أحدكم صاحبه".
وروى البخاري في "صحيحه" عن عائشة رضي الله عنها: أن الحارث بن
قال الزجاج: المعنى أن كلام الله للبشر، إما أن يكون بإلهام يلهمهم، أو يكلمهم من وراء حجاب، كما كلم موسى، أو برسالة ملك إليهم، وتقدير الكلام: ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا أن يوحي وحيًّا، أو يكلمه من وراء حجاب، كما كلم موسى، أو يرسل رسولًا. وقرأ الجمهور: ﴿حِجَابٍ﴾: مفردًا. وابن أبي عبلة ﴿حجبًا﴾: جمعًا. وقرأ الجمهور بنصب ﴿أَوْ يُرْسِلَ﴾، وبنصب ﴿فَيُوحِيَ﴾ على تقدير أن، وتكون أن وما دخلت عليه معطوفين على وحيًّا، ووحيًا في محل الحال والتقدير: إلا موحيًا، أو مرسلًا، ولا يصح عطف ﴿أَوْ يُرْسِلَ﴾ على ﴿أَنْ يُكَلِّمَهُ﴾؛ لأنه يصير التقدير: وما كان لبشر أن يرسل رسولًا، وهو فاسد لفظًا ومعنى. وقرأ نافع وأهل المدينة ﴿أو يرسل رسولًا فيوحي﴾. بالرفع فيهما، على أنه خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: أو هو يرسل. وجملة قوله: ﴿إِنَّهُ عَلِيٌّ﴾؛ أي: متعال عن صفات المخلوقين؛ لا يأتي جريان المفاوضة بينه تعالى وبينهم إلا بأحد الوجوه المذكورة ﴿حَكِيمٌ﴾ يفعل ما تقتضيه حكمته، فيكلمه تارة بواسطة، وتارة بغير واسطة، إما إلهامًا، وإما خطابًا من وراء حجاب تعليل لما قبلها.
٥٢ - قال المفسرون: فلما قالت اليهود للنبي - ﷺ -: ألا تكلم الله وتنظر إليه، إن كنت نبيًا كما كلمه موسى، نزل قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا﴾ والكاف صفة لمصدر محذوف. والروح (١): هو القرآن الذي هو للقلوب بمنزلة الروح للأبدان، حيث يحييها حياة طيبة؛ أي: يحصل لها به ما هو مثل الحياة،
وقيل: الروح هو جبرائيل عليه السلام، والمعنى: أوحينا إليك جبرائيل بأمرنا وإرادتنا، كما أوحيناه إلى سائر رسلنا، فإن قلت: كيف علم الرسول - ﷺ - في أول الأمر، أن الذي تجلى له جبرائيل، وأن الذي سمعه كلام الله تعالى؟
قلت: خلق الله تعالى له علمًا ضروريًا، علم به ذلك، والعلم الضروري يوجب الإيمان الحقيقي، ويتولد من ذلك اليقين، فإن الخشية على قدر المعرفة.
ثم ذكر سبحانه صفة رسوله، قبل أن يوحي إليه، فقال: ﴿مَا كُنْتَ﴾ يا محمد ﴿تَدْرِي﴾ وتعلم قبل النبوة في أربعين سنة. وجملة ﴿مَا كُنْتَ﴾ حال من كاف ﴿إِلَيْكَ﴾ كما في تفسير "الكواشي" ﴿مَا الْكِتَابُ﴾ والقرآن، أي: أي شيء هو.
والمعنى: ما تدري جواب هذا الاستفهام، والكلام على حذف مضاف؛ لأنه - ﷺ - كان أميًا لا يقرأ ولا يكتب، وذلك أدخل في الإعجاز، وأدل على صحة نبوته، والاستفهام معلق للفعل عن العمل، وما بعده ساد مسد المقعولين ﴿وَلَا﴾ تدري ما ﴿الْإِيمَانُ﴾ بتفاصيل ما في تضاعيف القرآن، من الأمور التي لا تهتدي إليها العقول، لا الإيمان بما يستقل به العقل والنظر، فإن درايته - ﷺ - له مما لا ريب فيه قطعًا، فإن أهل العلم اتفقوا على أن الرسل عليهم السلام، كانوا مؤمنين قبل الوحي، معصومين من الكبائر، ومن الصغائر الموجبة، لنفرة الناس عنهم، قبل البعثة وبعدها، فضلًا عن الكفر، وهو مراد من قال: لا يعرف القرآن قبل الوحي، ولا شرائع الإيمان ومعالمه، وقيل: المراد بالإيمان: الكلمة التي بها دعوة الإيمان والتوحيد، وهي لا إله إلا الله، محمد رسول الله - ﷺ -، والإيمان بهذا التفسير إنما علمه بالوحي لا بالعقل.
قال ابن قتيبة: لم تزل العرب على بقايا من دين إسماعيل، من الحج
والمعنى: أي (١) ما كنت قبل الأربعين، وأنت بين ظهراني قومك، تعرف ما القرآن، ولا تفاصيل الشرائع، ومعالمها على النهج الذي أوحينا به إليك، وقيل: معنى الآية: ما كنت تدري قبل الوحي كيف تقرأ القرآن، ولا كيف تدعو الخلق إلى الإيمان ﴿وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ﴾؛ أي: الروح الذي أوحينا إليك، والجعل بمعنى التصيير، لا بمعنى الخلق، وحقيقته أنزلناه؛ أي: ولكن جعلنا الروح والقرآن الذي أوحيناه إليك ﴿نُورًا﴾ وضياء، ودليلًا على التوحيد ﴿نَهْدِي﴾ ونرشد ﴿بِهِ مَنْ نَشَاءُ﴾ هدايته ﴿مِنْ عِبَادِنَا﴾ بالتوفيق، وهو الذي يصرف اختياره نحو الاهتداء به ﴿وَإِنَّكَ﴾ يا محمد ﴿لَتَهْدِي﴾ بهذا النور، وترشد من نشاء هدايته ﴿إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ وطريق قويم الذي هو الإِسلام، وسائر الشرائع والأحكام، وقوله (٢): ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي﴾ تقرير لهدايته تعالى، وبيان لكيفيتها ومفعول ﴿لَتَهْدِي﴾ محذوف ثقة بغاية الظهور، كما قدرناه.
والمعنى: أي ولكن جعلنا هذا القرآن نورًا عظيمًا، نهدي به من نشاء هدايته من عبادنا، ونرشده إلى الدين الحق، وإنك لتهدي بذلك النور، من نشاء هدايته إلى الحق القويم. ونحو الآية قوله: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى﴾ الآية.
وقرأ الجمهور (٣) ﴿لَتَهْدِي﴾ مبنيًا للفاعل مضارع هدى، وقرأ ابن حوشب: مبنيًا للمفعول، إجابة سؤاله - ﷺ - ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾. وقرأ ابن السميقع: بضم التاء وكسر الدال، من أهدى الرباعي، وعن الجحدري مثلها، ومثل قراءة
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
٥٣ - ثم بين الصراط المستقيم بقوله: ﴿صِرَاطِ اللَّهِ﴾ بدل من الصراط الأول، وفي إضافة الصراط إلى الاسم الشريف، من التعظيم له، والتفحيم لشأنه ما لا يخفى ووصف الجلالة بقوله: ﴿الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ خلقًا وملكًا وعبيدًا لتقرير استقامته، وتأكيد وجوب سلوكه، فإن كون جميع ما فيهما من الموجودات له تعالى، خلقًا وملكًا وتصرفًا، مما يوجب ذلك أتم إيجاب.
وقال بعضهم (١): معنى الآية: دعونا يا محمد أقوامًا في الأزل، فأجابوا، فأنت تهديهم إلينا وتدلهم علينا، وإنما كان عليه السلام هاديًا؛ لأنه نور كالقرآن، ولمناسبة نوره مع نور الإيمان والقرآن قيل: كان خلقه القرآن.
وحاصل المعنى: أي هذا الطريق، هو الطريق الذي شرعه الله، مالك السموات والأرض والمتصرف فيهما، والحاكم الذي لا معقب لحكمه.
﴿أَلَا﴾ كلمة تذكرة لتبصرة، أو تنبيه لحجة ﴿إِلَى اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى لا إلى غيره ﴿تَصِيرُ الْأُمُورُ﴾؛ أي: ترجع أمور ما فيهما قاطبةً بارتفاع الوسائط والتعلقات، يعني: يوم القيامة، فيحمل لفظ تصير على الاستقبال؛ أي: انتبهوا وتذكروا أن أمور الخلائق يوم القيامة تصير إلى الله، لا إلى غيره، فيضع كلًّا منهم في موضعه الذي يستحقه من نعيم أو جحيم، وفي هذا وعد للمهتدين إلى الصراط المستقيم ووعيد للظالمين، وفيه وعد بالبعث المستلزم للمجازاة. وقال في "بحر العلوم": إلى الله سبحانه، تصير أمور الخلائق كلها، في الدنيا والآخرة، فلا يدبرها إلا هو، حيث لا يخرج أمر من الأمور من قضائه وتقديره.
وعن سهل بن أبي الجعد: احترق مصحف، فلم يبق إلا قوله تعالى: ﴿أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ﴾ وغرق مصحف، فانمحى كل شيء إلا ذلك، كذا في "عين المعاني" للسجاوندي انتهى "قرطبي".
﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١)﴾.
﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿جزاء سيئة﴾: مبتدأ، ﴿سَيِّئَةٌ﴾ خبر، ﴿مِثْلُهَا﴾: صفة لـ ﴿سَيِّئَةٌ﴾، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿فَمَا أُوتِيتُمْ﴾، أو مستأنفة، ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ﴾: الفاء: فاء الإفصاح؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أن جزاء سيئة سيئة مثلها، وأردت بيان أجر من عما وأصلح.. فأقول لك: ﴿مَنْ﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما كما مر مرارًا، ﴿عَفَا﴾: فعل ماض في محل الجزم فعل شرط، ﴿وَأَصْلَحَ﴾: معطوف عليه، ﴿فَأَجْرُهُ﴾ الفاء: رابطة الجواب وجوبًا، ﴿أجره﴾: مبتدأ، ﴿عَلَى اللَّهِ﴾: خبر، والجملة الاسمية في محل الجزم جواب الشرط، وجملة ﴿من﴾ الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿إِنَّهُ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ خبره، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها، ﴿وَلَمَنِ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، و ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، ﴿من﴾ اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، ﴿انْتَصَرَ﴾ فعل ماض في محل الجزم فعل شرط، ﴿بَعْدَ﴾: ظرف متعلق بـ ﴿انْتَصَرَ﴾. ﴿ظُلْمِهِ﴾ مضاف إليه للظرف، وهو مضاف إلى الهاء، من إضافة المصدر إلى مفعوله، وتؤيده قراءة من قرأ: ﴿من بعد ما ظلم﴾ بالبناء للمفعول، ﴿فَأُولَئِكَ﴾ الفاء: رابطة، ﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ، ﴿ما﴾: نافية، ﴿عَلَيْهِمْ﴾: خبر مقدم، ﴿مِنْ سَبِيلٍ﴾: مبتدأ مؤخر. و ﴿من﴾: زائدة، والجملة خبر عن اسم الإشارة، وجملة الإشارة في محل جزم جواب الشرط، وجملة الشرط وجوابه خبر لـ ﴿من﴾ الشرطية، وجملة ﴿من﴾ الشرطية معطوفة على جملة قوله: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ﴾.
﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٤٢) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣)﴾.
﴿إِنَّمَا﴾: أداة حصر، ﴿السَّبِيلُ﴾: مبتدأ، ﴿عَلَى الَّذِينَ﴾: خبره، وجملة {يَظْلِمُونَ
أحدهما: هو اسم الإشارة إذا أريد به المبتدأ، ويكون حينئذٍ على حذف مضاف، تقديره: إن صبر ذلك لمن عزم الأمور.
الثاني: أنه ضمير محذوف، تقديره: لمن عزم الأمور منه أو له، وجملة قوله: ﴿وَلَمَنْ صَبَرَ﴾ معطوفة على قوله: ﴿وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ﴾، وجملة قوله: ﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ...﴾ إلخ، معترضة، وجوز الحوفي وغيره أن تكون ﴿من﴾: شرطية، و ﴿إِنَّ ذَلِكَ﴾: جوابها على حذف الفاء، على حد حذفها في البيت المشهور:
مَنْ يَفْعَلِ الحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرُهَا
وعلى جعل اللام للقسم، فإن ذلك جواب القسم المقدر، وحذف جواب الشرط للدلالة عليه، وتقدر الفاء الرابطة للجواب.
﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ﴾.
﴿وَمَنْ﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿مَنْ﴾: اسم شرط جازم، في محل النصب مفعول مقدم، ﴿يُضْلِلِ﴾: فعل شرط مجزوم بـ ﴿مَنْ﴾. ﴿اللَّهُ﴾: فاعل، ﴿فَمَا﴾ الفاء رابطة. ﴿ما﴾ نافية. ﴿لَهُ﴾ خبر مقدم. ﴿مِنْ وَلِيٍّ﴾: مبتدأ مؤخر، و ﴿من﴾ زائدة، ﴿مِنْ بَعْدِهِ﴾: صفة لـ ﴿وَلِيٍّ﴾، والجملة الاسمية جواب ﴿مَنْ﴾ الشرطية. وجملة ﴿مَنْ﴾ الشرطية معطوفة على الجمل التي قبلها، أو مستأنفة، ﴿وَتَرَى﴾
﴿وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ﴾.
﴿وَقَالَ الَّذِينَ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿قال الذين﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل، صلة الموصول، ﴿إِنَّ الْخَاسِرِينَ﴾: ناصب واسمه، ﴿الَّذِينَ﴾: خبره، وجملة ﴿إِنَّ﴾ في محل النصب مقول ﴿قال﴾، ﴿خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، صلة الموصول، ﴿وَأَهْلِيهِمْ﴾: معطوف على ﴿أَنْفُسَهُمْ﴾، منصوب بالياء؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾: ظرف، متعلق بـ ﴿خَسِرُوا﴾، ويصح أن يتعلق بـ ﴿قال﴾ كما مر. ﴿أَلَا﴾: حرف استفتاح وتنبيه، ﴿إِنَّ الظَّالِمِينَ﴾: ناصب واسمه، ﴿فِي عَذَابٍ﴾: خبره، ﴿مُقِيمٍ﴾ صفة ﴿عَذَابٍ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة، إن قلنا من كلام الله سبحانه، تصديقًا لكلامهم، أو مقول لـ ﴿قال﴾ إن قلنا من تمام كلامهم.
﴿وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦)﴾.
﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿ما﴾: نافية، ﴿كاَنَ﴾: فعل ماض ناقص.
﴿اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (٤٨)﴾.
﴿اسْتَجِيبُوا﴾: فعل وفاعل، بمعنى ﴿أجيبوا﴾. مبني على حذف النون، ﴿لِرَبِّكُمْ﴾ متعلق به، ﴿مِنْ قَبْلِ﴾ متعلق به أيضًا؛ أي: أجيبوه بالتوحيد والعبادة. ﴿أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ﴾: ناصب وفعل وفاعل، والجملة الفعلية مع ﴿أَنْ﴾ المصدرية في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه؛ أي: من قبل إتيان يوم. ﴿لَا﴾: نافية للجنس، ﴿مَرَدّ﴾: اسمها، ﴿لَهُ﴾: خبرها، ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ متعلق بـ ﴿مَرَدَّ﴾؛ لأنه مصدر ميمي، وأجاز بعضهم تعلقه بـ ﴿يَأْتِيَ﴾؛ أي: من قبل أن يأتي من الله يوم لا يتاح لأحد رده. وجملة ﴿لَا﴾: في محل الرفع صفة لـ ﴿يَوْمٌ﴾، ﴿مَا لَكُمْ﴾ ﴿ما﴾: نافية، ﴿لَكُمْ﴾ خبر مقدم، ﴿مِنْ مَلْجَإٍ﴾: مبتدأ مؤخر، و ﴿من﴾: زائدة. ﴿يَوْمَئِذٍ﴾: ظرف متعلق، بمحذوف حال من الضمير المستكن في الخبر الظرفي، أو من ضمير المخاطبين، والجملة مستأنفة، ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿ما﴾: نافية، ﴿لَكُمْ﴾: خبر مقدم، ﴿مِنْ نَكِيرٍ﴾: مبتدأ، و ﴿مِن﴾ زائدة، والجملة معطوفة على التي قبلها. ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا﴾: الفاء: استئنافية، ﴿إِنْ﴾: حرف شرط، ﴿أَعْرَضُوا﴾: فعل ماض وفاعل، في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، ﴿فَمَا﴾ الفاء: رابطة الجواب وجوبًا، ﴿ما﴾: نافية، ﴿أَرْسَلْنَاكَ﴾: فعل
﴿لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠)﴾.
﴿لِلَّهِ﴾: خبر مقدم ﴿مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة
﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١)﴾.
﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿ما﴾: نافية ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص، ﴿لِبَشَرٍ﴾: خبر ﴿كَانَ﴾ مقدم، ﴿أَنْ﴾: حرف نصب ومصدر، ﴿يُكَلِّمَهُ اللَّهُ﴾: فعل مضارع، ومفعول وفاعل منصوب بـ ﴿أن﴾ المصدرية، وجملة ﴿أَنْ﴾ المصدرية مع مدخولها، في تأويل مصدر، مرفوع على كونه اسما لـ ﴿كَانَ﴾، والتقدير: وما كان تكليم الله سبحانه، إنسانًا كائنًا له، في حال من الأحوال، إلا في حالة كونه وحيًّا، إلخ. وجملة ﴿كَانَ﴾ مستأنفة. مسوقة لبيان كيفية تكليم الله لعباده، ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء من أعم الأحوال، ﴿وَحْيًا﴾: مصدر واقع موقع الحال؛ أي: موحيًا، أو مفعول مطلق لفعل محذوف، والتقدير: إلا أن يوحي إليه وحيًّا ﴿أَوْ﴾ حرف عطف، ﴿مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ﴾: متعلق بمقدر، معطوف على المقدر العامل في وحيًّا؛ أي: أو إلا أن يكلمه الله من وراء حجاب، أو مسمعًا من وراء حجاب، ﴿أَوْ﴾: حرف عطف، ﴿يُرْسِلَ﴾: فعل مضارع، منصوب بأن
وَإِنْ عَلَى اسْمٍ خَالِصٍ فِعْلٌ عُطِفْ | تَنْصِبُهِ إِنْ ثَابِتًا أَوْ مُنْحَذِفْ |
﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (٥٣)﴾.
﴿وَكَذَلِكَ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، والكاف صفة لمصدر محذوف؛ أي: إيحاء مثل إيحائنا إلى غيرك، ﴿أَوْحَيْنَا﴾: فعل وفاعل، ﴿إِلَيْكَ﴾ متعلق بـ ﴿أَوْحَيْنَا﴾، ﴿رُوحًا﴾: مفعول به. ﴿مِنْ أَمْرِنَا﴾: نعت لـ ﴿رُوحًا﴾. وقيل: حال، و ﴿مِنْ﴾ تبعيضية؛ أي: حال كون هذا الروح، وهو القرآن بعض ما نوحيه إليك؛ لأن الموحى إليه لا ينحصر في القرآن، والجملة الفعلية مستأنفة. ﴿ما﴾: نافية. ﴿كُنْتَ﴾ فعل ناقص واسمه، والجملة حال من كاف إليك، ﴿ما﴾: استفهامية معلقة لـ ﴿تَدْرِي﴾ عن العمل، في محل رفع مبتدأ، و ﴿الْكِتَابُ﴾: خبر، والجملة الاسمية في محل نصب، سدت مسد مفعولي ﴿تَدْرِي﴾، ﴿وَلَا الْإِيمَانُ﴾: عطف على ﴿الْكِتَابُ﴾. ﴿وَلَكِنْ﴾ ﴿الواو﴾: حالية، أو عاطفة، ﴿لَكِنْ﴾ حرف استدراك مهمل، ﴿جَعَلْنَاهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول، ﴿نُورًا﴾: مفعول ثان، والجملة الفعلية في محل النصب، حال من ﴿الْكِتَابُ﴾، أو معطوفة على جملة ﴿كَانَ﴾،
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ﴾ والسيئة: فعيلة من السوء، وهو القبيح. ﴿وَلَمَنِ انْتَصَرَ﴾؛ أي: سعي في نصر نفسه بجهده. ﴿مِنْ سَبِيلٍ﴾؛ أي: من عقاب وعتاب، والسبيل في الأصل: الطريق الذي فيه سهولة. ﴿لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾؛ أي: لمن الأمور المشكورة عند الله تعالى، والأفعال التي ندب إليها عباده، ولم يرخص بالتهاون فيها من العزم، والعزم: عقد القلب على إمضاء الأمر. والعزيمة: الرأي الجد كما في "المفردات" ﴿اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ﴾؛ أي: أجيبوا، فالسين والتاء فيه زائدتان.
﴿لَا مَرَدَّ لَهُ﴾؛ أي: لا يرده بعدما حكم به. أصله: مردد بوزن مفعل بفتح العين، نقلت حركة الدال الأولى إلى الراء، فسكنت فأدغمت في الدال الثانية. ﴿مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ﴾ قيل المراد به: العضو، وهو العين، وقيل المراد به: المصدر، يقال: طرفت عينه تطرف طرفًا؛ أي: ينظرون نظرًا خفيًا. وفي "المصباح": طرف البصر طرفًا، من باب ضرب تحرك، وطرف العين نظرها، ويطلق على الواحد وغيره، لأنه مصدر اهـ، وفي "المختار": وطرف بصره من باب ضرب، إذا أطبق
﴿فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ﴾ قال الراغب: كفر النعمة وكفرانها: سترها بترك أداء شكرها. وأعظم الكفر: جحودهم الوحدانية والنبوة، فمعنى كفور: نسّاء للنعمة، ذكّار للبلية. ﴿يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ والهبة: أن تجعل ملكك لغيرك بغير عوض، وفي "المختار": وهب له شيئًا يهبه وهبًا، بوزن وضع يضع وضعًا، ووهَبًا أيضًا بفتح الهاء، وهبة بكسر الهاء، والاسم الموهب والموهبة بكسر الهاء فيهما، والاتهاب: قبول الهبة، والاستيهاب: سؤال الهبة اهـ. فأصل يهب: يوهب؛ لأنه حذفت فاؤه فوزنه يعل. ﴿إِنَاثًا﴾ جمع أنثى خلاف الذكر. ﴿الذُّكُورَ﴾ جمع ذكر، وهو ضد الأنثى، والخنثى: إنسان له ذكر وفرج، وأول ظهوره في الجاهلية الأولى، زمن عامر بن الظرب ملك العرب، كما سبق. ﴿ذُكْرَانًا﴾ جمع ذكر أيضًا. ﴿عَقِيمًا﴾ وفي "المصباح": العقيم الذي لا يولد له، يطلق على الذكر والأنثى، وفي "القاموس" العقم بالضم: هرمة تقع في الرحم، فلا تقبل الولد، يقال: عقمت كفرح ونصر وكرم عقمًا وعقمًا، ويضم، وعقمها الله تعقيمًا وأعقمها، ورحم عقيمة وامرأة معقومة، وامرأة عقيم، والجمع عقائم وعقم، ورجل عقيم كأمير لا يولد له، والجمع عقماء وعقام، اهـ. وفي "الروح": وأصل العقم:
﴿إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ والصراط من السبيل مالا التواء فيه؛ أي: لا اعوجاج بل يكون على سبيل القصد. ﴿تَصِيرُ الْأُمُورُ﴾ أصله: تصير بوزن تفعل نقلت حركة الياء إلى الصاد، فسكنت الياء إثر كسرة فصارت حرف مد.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: جناس المزاوجة اللفظي في قوله: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾؛ لأن إطلاق السيئة على الثانية، مع أنها جزاء وقصاص مشروع مأذون فيه، وكل مأذون حسن لا سيء لقصد المزاوجة، ويعبر عنها بعضهم بالمشاكلة، ومثله قوله تعالى في سورة البقرة: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ فسمى جزاء الاعتداء اعتداء، مع أنه مأذون فيه، ليكون في نظم الكلام مزاوجة؛ أي: مشاكلة.
ومنها: التعبير بصيغة الماضي في قوله: ﴿لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ﴾ للدلالة على تحقق وقوعه؛ لأن مقتضى الظاهر أن يقال: لما يرون العذاب لاستقباله.
ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: ﴿أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ﴾؛ لأن مقتضى الظاهر: أن يقال: ألا إنهم في عذاب مقيم، تسجيلًا عليهم باسم الظلم.
ومنها: تلوين للكلام، وصرف له عن خطاب الناس بعد أمرهم بالاستجابة، وتوجيه له إلى الرسول - ﷺ - قوله: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾؛ أي: فإن لم يستجيبوا وأعرضوا عما تدعوهم إليه، فما أرسلناك رقيبًا.
ومنها: تصدير الشرطية الأولى بإذا المفيدة للتحقيق، مع إسناد الإذاقة إلى نون العظمة في قوله: ﴿وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا﴾ للتنبيه على أن إيصال النعمة أمر محقق الوجود كثير الوقوع، وأنه مقتضى الذات، كما أن تصدير الشرطية الثانية في قوله: ﴿وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ بـ ﴿إن﴾ المفيدة للشك، مع إسناد الإصابة إلى السيئة وتعليلها بأعمالهم، للإيذان بندرة وقوعها، وأنها بمعزل عن الانتظام في سلك الإرادة بالذات.
ومنها: وضع الظاهر موضع المضمر في قوله: ﴿فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ﴾ للتسجيل على أن هذا الجنس موسوم بكفران النعم، وفيه أيضًا المجاز العقلي، حيث أسند هذه الخصلة إلى الجنس والكل، مع كونها من صفات المجرمين فقط، نظرًا لغلبتهم فيما بين الأفراد، يعني: أنه حكم على الجنس بحال أغلب أفراده، لعلاقة الملابسة.
ومنها: التقسيم في قوله: ﴿يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا﴾.
ومنها: الطباق بين الذكور والإناث.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا﴾؛ لأنه حقيقة فيما يحيي به الروح، فاستعير للقرآن بجامع حصول الحياة بكل منهما، وإن كانت مختلفة.
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿وَلَا الْإِيمَانُ﴾؛ لأنه كناية عن الأحكام المشروعية.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع (١).
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
١ - إنزال الوحي على رسوله - ﷺ -.
٢ - اختلاف الأديان ضروري للبشر.
٣ - أصول الشرائع واحدة لدى جميع الرسل.
٤ - اختلاف المختلفين في الأديان بغي وعدوان منهم.
٥ - إنكار نبوة محمد - ﷺ -، بعد أن قامت الأدلة على صدقه.
٦ - استعجال المشركين لمجيء الساعة، وإشفاق المؤمنين منها.
٧ - من يعمل للدنيا يؤت منها، وما له حظ في الآخرة، ومن يعمل للآخرة، يوفقه الله للخير.
٨ - ينزل الله الرزق بقدر، بحسب ما يرى من المصلحة.
٩ - من الأدلة على وجود الخالق خلق السموات والأرض، وجرى السفن في البحار.
١٠ - متاع الآخرة خير وأبقى من متاع الدنيا.
١١ - جزاء السيئة سيئة مثلها، فمن عفا وأصلح فأجره على الله سبحانه.
١٢ - تمني المشركين يوم القيامة العودة إلى الدنيا، حين يرون العذاب.
١٣ - نظر المشركين إلى النار بطرف خفي، إذا عرضوا عليها خاشعين من الذل.
١٤ - ليس على الرسول إلا البلاغ.
١٥ - يهب الله سبحانه لمن يشاء الإناث، ولمن يشاء الذكور، أو يزوجهم ذكرانًا وإناثًا، ويجعل من يشاء عقيمًا.
١٦ - أقسام الوحي إلى البشر.
١٨ - هدايته إلى صراط مستقيم.
والله أعلم
* * *
سورة الزخرف: قال القرطبي: هي مكية بالإجماع، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت سورة حم الزخرف بمكة، قال مقاتل: إلا قوله: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا﴾ يعني: فإنها نزلت بالمدينة.
وآياتها (١): تسع وثمانون آية، وكلماتها: ثمان مئة وثلاث وثلاثون كلمة. وحروفها: ثلاثة آلاف وأربع مئة حرف.
التسمية: سميت سورة الزخرف، لما فيها من التمثيل الرائع، لمتاع الدنيا الزائل، وبريقها الخادع، بالزخرف اللامع الذي ينخدع به الكثيرون، مع أنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة. ولهذا يعطيها الله تعالى للأبرار والفجار، وينالها الأخيار والأشرار، أما الآخرة فلا يمنحها الله تعالى إلا لعباده المتقين، فالدنيا دار الفناء، والآخرة دار البقاء.
ووجه مناسبتها لما قبلها (٢): أن مفتتح هذه يشاكل مختتم تلك.
والحاصل: أن مناسبة هذه السورة لما قبلها من آل حم من وجهين.
الأول: تشابه مطلع هذه السورة مع مطلع وخاتمة السورة المتقدمة، في وصف القرآن الكريم، وبيان مصدره، وهو الوحي الإلهي.
الثاني: التشابه في إيراد الأدلة، القاطعة على وجود الله عَزَّ وَجَلَّ ووحدانيته، ووصف أحوال الآخرة ومخاوفها، وأهوال النار التي تعرض لها الكفار، ومقارنته بنعيم الجنة، وإعداده للمؤمنين المتقين، انتهى من "التفسير المنير".
(٢) المراغي.
الناسخ والمنسوخ: قال أبو عبد الله محمد بن حزم (١): سورة الزخرف جميعها محكم غير آيتين:
أولاهما: قوله تعالى: ﴿فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا﴾ (الآية ٨٣) نسخت بآية السيف.
والثانية: قوله تعالى: ﴿فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ﴾ (الآية ٨٩) نسخت أيضًا بآية السيف.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿حم (١) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (٥) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (٧) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (٨) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (١١) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (١٤) وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (١٩) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (٢٠) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (٢٤) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٢٥)﴾.المناسبة
قد تقدم آنفًا بيان المناسبة بين السورتين، بأن هذه بدئت بذكر الكتاب المبين، الذي فيه بيان الصراط المستقيم، الذي ختمت به السورة السابقة.
قوله تعالى: ﴿وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥)...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر أنهم يعترفون بالألوهية، وأنه خالق السموات والأرض.. أردف هذا ببيان أنهم متناقضون مكابرون، فهم مع اعترافهم لله بخلق السموات والأرض، يصفونه بصفات المخلوقين، المنافية لكونه خالقًا لهما، إذ جعلوا الملائكة بنات له، ولا غرو، فالإنسان من طبعه الكفران، وجحود الحق، ومن عجيب أمرهم أنهم أعطوه أخس صنفي الأولاد، وما لو بشر به أحدهم اسودَّ وجهًا وامتلأ غيظًا، ومن يتربى في الزينة، وهو لا يكاد يبين حين الجدل، فلا يظهر حجة، ولا يؤيد رأيًا، واختاروا لأنفسهم الذكران، ثم أعقبه بالنعي عليهم في جعلهم الملائكة إناثًا، وزاد في الإنكار عليهم ببيان أن مثل هذا الحكم لا يكون إلا عن مشاهدة، فهل هم شهدوا ذلك، ثم توعدهم على هذه المقالة، وأنه يوم القيامة يجازيهم بها.
ثم حكي عنهم شبهة أخرى، قالوا لو شاء الله أن لا نعبد الملائكة ما عبدناها، لكنه شاء عبادتها، لأنها هي المتحققة فعلًا، فتكون حسنة، ويمتنع