تفسير سورة المجادلة

تفسير أبي السعود
تفسير سورة سورة المجادلة من كتاب إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم المعروف بـتفسير أبي السعود .
لمؤلفه أبو السعود . المتوفي سنة 982 هـ
سورة المجادلة مدنية، وقيل العشر الأول مكي والباقي مدني وآيها اثنتان وعشرون.

﴿قَدْ سَمِعَ الله﴾ بإظهارِ الدالِ وَقُرىءَ بإدغامِهَا في السِّينِ ﴿قَوْلَ التى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا﴾ أيْ تراجعكَ الكلامَ في شأنِهِ وفيمَا صدرَ عنْهُ في حَقِّهَا من الظهارِ وَقُرىءَ تُحاوركَ وَتُحاولكَ أَيْ تسائلكَ ﴿وَتَشْتَكِى إِلَى الله﴾ عطفٌ عَلَى تجادلكَ أيْ تتضرعُ إليهِ تعالى وقيل حال أى من فاعله تجادلكَ وَهيَ مُتضرعةٌ إليهِ تَعَالَى وَهِيَ خَوْلَة بنتُ ثَعْلبةَ بنِ مالكِ بنِ خرامة الخزرجيةُ ظاهرَ عنْهَا زوجُهَا أَوْسُ بْنُ الصامتِ أخُو عُبَادةَ ثُمَّ ندِمَ عَلَى مَا قالَ فقالَ لَها مَا أظنكَ إِلاَّ قَدْ حرمتِ عليَّ فشقَّ عَلَيْهَا ذلكَ فاستفتتْ رسولَ الله ﷺ فقالَ حرُمتِ عليهِ فقالتْ يا رسولَ الله ما ذكَرَ طَلاقاً فقالَ حرمتِ عليهِ وَفي روايةٍ مَا أُراكِ إلا قدْ حرمتِ عليه في المرارِ كُلِّها فقالت أشكوا إِلى الله فَاقتِي وَوَجْدِي وجعلتْ تراجعُ رسولَ الله ﷺ وَكُلَّما قالَ عليه الصلاةُ والسلامُ حرمتِ عليهِ هتفتْ وشكتْ إِلَى الله تَعَالَى فنزلتْ وَفي كلمةِ قَدْ إِشعارٌ بأنَّ الرسولَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ والمجادلةَ كانَا يتوقعانِ أنْ يُنزلَ الله تعالَى حكَم الحادثةِ ويفرجَ عَنْهَا كَرْبَهَا كَمَا يلوحُ بهِ مَا رُوي أنَّه عليه الصلاة والسلام قال لها عند استفتهائها مَا عندِي في أمركِ شيءٌ وَأَنَّها كانتْ ترفعُ رأْسَهَا إِلى السماءِ وتقولُ أشكُو إليكَ فأنزلْ عَلى لسانِ نبيكَ ومَعنْى سَمْعِهِ تَعَالَى لقولِهَا إجابةُ دُعائِها لاَ مجردَ علمِهِ تَعَالى بذلكَ كما هُوَ المَعْنِيُّ بقولِهِ تَعَالَى ﴿والله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُما﴾ أيْ يعلُم تراجعَكُمَا الكلامَ وَصيغةُ المضارعِ للدلالةِ على استمرار السمعِ حسَبُ استمرارِ التحاورِ وتجددِهِ وَفي نَظْمِها في سلك الخطابِ تغليباً تشريفٌ لَهَا منْ جهيتين والجملة استئناف مَجْرَى التعليلِ لِمَا قبلَهُ فإنَّ إلحافَهَا في المسألةِ ومبالغَتَها في التضرعِ إِلى الله تَعَالَى ومدافعتَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إيَّاها بجوابٍ منبىءٍ عنِ التوقفِ وترقبِ الوحى وعلمه تعالى بحالها منْ دَواعي الإجابةِ وَقيلَ
215
} ﴿
هيَ حالٌ وهُوَ بعيدٌ وَقَولُهُ عزَّ وَجَلَّ {إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾
تعليلٌ لِمَا قبلَهُ بطريقِ التحقيقِ أي مبالِغٌ في العلم بالمسموعات والمبصَراتِ وَمنْ قضيتِهِ أنْ يسمعَ تحاورَهُمَا ويَرَى ما يقارنُهُ منَ الهيئاتِ الي منْ جُملِتَها رفعُ رأسِهَا إلى السماءِ وسائرُ آثارِ التضرعِ وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في الموقعينِ لتربيةِ المهابةِ وتعليلِ الحُكم بوصفِ الألوهيةِ وتأكد استقلالِ الجملتينِ وَقَوْلُه تَعَالَى
216
﴿الذين يظاهرون مِنكُمْ مّن نّسَائِهِمْ﴾ شروعٌ في بيانِ شأنِ الظهارِ في نفسِهِ وحكمِه المترتبُ عليه شَرْعاً بطريقِ الاستئنافِ والظهارُ أنْ يقولَ الرجلُ لامرأتِهِ أنتِ عليَّ كظهرِ أمِّي مشتقٌ منَ الظهرِ وَقدْ مرَّ تفصيلُهُ في الأحزابِ وألحقَ بهِ الفقهاءُ تشبيهَهَا بجزءٍ مُحرمٍ وَفي منكُمْ مزيدُ توبيخٍ للعربِ وتهجينٌ لعادتهمْ فيه فإن كانَ منْ أيمانِ أهلِ جاهليتهِمْ خَاصَّة دونَ سائرِ الأمم وقرىء يظاهرون ويظْهرونَ وقولُه تَعَالَى ﴿مَّا هُنَّ أمهاتهم﴾ خبرٌ للموصولِ أَيْ ما نساؤُهُم أمهاتُهُم عَلَى الحقيقةِ فهُوَ كذبٌ بحتٌ وَقَرىءَ أمهاتُهم بالرفعِ عَلى لُغةِ تميمٍ وبأمهاتِهم ﴿إِنْ أمهاتهم﴾ أيْ مَا هُنَّ ﴿إِلاَّ اللائى وَلَدْنَهُمْ﴾ فَلاَ تشبَّهُ بهنَّ فِي الحُرمةِ إِلا منْ ألحقَهَا الشرعُ بهنَّ منَ المرضعاتِ وأزواجِ النبيَّ عليهِ الصلاةَ والسلامُ فدخلنَ بذلكَ في حُكمِ الأمهاتِ وَأمَّا الزوجاتُ فأبعدُ شيءٍ منَ الأُمومةِ ﴿وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ﴾ بقولِهم ذلكَ ﴿مُنكَراً مّنَ القول﴾ عَلى أنَّ مناطَ التأكيدِ ليسَ صدورَ القولِ عنْهمْ فإنَّه أمرٌ محققٌ بلْ كونَهُ منكراً أيْ عندَ الشرعِ وعند العقلِ والطبعِ أيضاً كما يشعرُ بهِ تنكيره ونظيرُهِ قَولُهُ تعالَى إنكُمْ لتقولونَ قولاً عظيماً ﴿وَزُوراً﴾ أيْ محرفاً عنِ الحَقِّ ﴿وَإِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ﴾ أيْ مبالغٌ في العفو والمغفرةِ فيغفرُ لمَا سلفَ منْهُ عَلَى الإطلاقِ أَوْ بالمتابِ عنْهُ وقولُه تَعَالَى
﴿والذين يظاهرون مِن نّسَائِهِمْ ثم يعودون لما قالوا﴾ تفصيلٌ لحكمِ الظهارِ بعدَ بيانِ كونِهِ أمراً منكراً بطريقِ التشريعِ الكليِّ المنتظمِ لحكمِ الحادثةِ انتظاماً أولياً أيْ والذينَ يقولونَ ذلكَ القولَ المنكرَ ثمَّ يعودونَ لما قالُوا أَيْ إِلى ما قالوا بالتدراك والتلافِي لاَ بالتقريرِ والتكريرِ كما في قوله تعالى أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً فإِنَّ اللامَ وإِلى تتعاقبان كَثيراً كَما في قولِهِ تَعَالى هَدَانَا لهذا وقولِهِ تعالى بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا وقوله تعالى وَأُوحِىَ إلى نُوحٍ ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ اى فتدراكه أو فعليهِ أوْ فالواجبُ إعتاقُ رقبةٍ أيَّ رقبةٍ كانتْ وعندَ الشافعيِّ رحمَهُ الله تَعَالَى يشترطُ الإيمانُ والفاء للسببية ومنه فوائدِها الدلالةُ على تكررِ وجوبِ التحريرِ بتكررِ الظهارِ وَقيلَ ما قالُوا عبارةٌ عَمَّا حرَّمُوهُ عَلى أنفسِهمْ بلفظِ الظهارِ تنزيلاً للقولِ منزلةَ المقُولِ فيهِ كَما ذُكر في قوله تعالى وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ أَي المقولُ فيهِ منَ المالِ والولدِ فالمَعْنَى ثُمَّ يريدونَ العودَ للاستمتاعِ فتحريرُ
216
٥ ٤
رقبةٍ ﴿مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا﴾ أيْ مِنْ قبلِ أنْ يستمتعَ كلٌ منَ المُظاهِرِ وَالمُظاهَرِ منْهَا بالآخرِ جماعاً وَلَمساً ونظراً إلى الفرج شهوة وإنْ وقعَ شيءٌ من ذلكَ قبلَ التكفيرِ يجبُ عليهِ أنْ يستغفرَ ولا يعودَ حتَّى يكفرَ وإنْ أعتقَ بعضَ الرقبةِ ثمَّ مسَّ عليهِ أنْ يستأنفَ عندَ أبي حنيفةَ رحمَهُ الله تَعَالَى ﴿ذلكم﴾ إشارةٌ إِلى الحكمِ المذكورِ وَهُوَ مبتدأٌ خبرُهُ ﴿تُوعَظُونَ بِهِ﴾ أى ترجرون بهِ عنِ ارتكابِ المنكرِ المذكورِ فإنَّ الغراماتِ مزاجرٌ عنْ تعاطِي الجناياتِ والمرادُ بذكرِهِ بيانُ أنَّ المقصودَ منْ شرعِ هَذَا الحكمِ ليس تعويضكم للثوابِ بمباشرتكُمْ لتحريرِ الرقبةِ الذي هو علم في استباع الثوابِ العظيمِ بلْ هُوَ ردعُكم وزجرُكم عنَ مباشرةِ ما يوجبُهُ ﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ من الأعمالِ الي من جملتها التكفير ومايوجبه من جنايةِ الظهارُ ﴿خَبِيرٌ﴾ أى عالم يظواهرها وبواطِنَها ومجازيكُم بهَا فحافظُوا على حدود ما شرعَ لكُمْ وَلاَ تُخِلّوا بشيءٍ منْهَا
217
﴿فَمَن لَّمْ يَجِدْ﴾ أيْ الرقبةَ ﴿فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ﴾ أيْ فعليهِ صيامُ شهرينِ ﴿مُتَتَابِعَيْنِ من قبل أن يتماسا﴾ ليلا أو نهارا عمادا أَوْ خطأً ﴿فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ﴾ أيْ الصيامَ لسببٍ منَ الأسبابِ ﴿فَإِطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِيناً﴾ لكُلِّ مسكينٍ نصفُ صاعٍ منْ بُرِّ أَوْ صاعٌ منْ غيرِهِ ويجبُ تقديمُهُ عَلَى المسيسِ لكن لا يستأنفُ إنْ مسَّ في خلالِ الإطعامِ ﴿ذلك﴾ إشارةٌ إلى ما مرَّ من البيان والتعليمِ للأحكامِ والتنبيُهُ عليهَا وما فيه من معنى البعد قد مرَّ سردُه مراراً وملحه إمَّا الرفعُ عَلَى الابتداءِ أو النصبُ بمضمرٍ معللٌ بَما بعدَهُ أيْ ذلكَ واقعٌ أو فعلُنَا ذلكَ ﴿لّتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ﴾ وتعملُوا بشرائعِهِ التي شرعَهَا لكُم وترفضُوا ما كنتُم عليه في جاهليتِكُم ﴿وَتِلْكَ﴾ إشارةٌ إِلى الأحكامُ المذكورةِ وما فيه من معنى البعد لتعظيمِها كما مَرَّ غيرَ مرةٍ ﴿حُدُودَ الله﴾ التِي لا يجوزُ تعدِّيهَا ﴿وللكافرين﴾ أي الذينَ لا يعملونَ بَها ﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ عبرَ عنْهُ بذلكَ للتغليظِ عَلَى طريقةِ قولِهِ تَعَالَى وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ العالمين
﴿إِنَّ الذين يُحَادُّونَ الله وَرَسُولَهُ﴾ أيْ يعادونَهُمَا ويشاقونهُمَا فإنَّ كلاًّ منَ المتعاديينِ كَما أنَّه يكونُ في عُدوةٍ وشقَ غيرِ عُدوةِ الآخرِ وشقِّهِ كذلكَ يكونُ في حدَ غيرِ حَدِّ الآخرِ غيرَ أنَّ لورودِ المحادّةِ في أثناءِ ذكرِ حدودِ الله دونَ المعاداةِ والمشاقةِ من حسنِ الموقعِ مالا غايةَ وراءَهُ ﴿كُبِتُواْ﴾ أيْ أخزُوا وَقيلَ خُذِلُوا وقيلَ أذلُّوا وقيل أهلكُوا وقيلَ لُعنُوا وقيلَ غِيظُوا وهُوَ ما وقعَ يومَ الخندقِ قالُوا معَنْى كُبتوا سيكبتونَ على طريقة قوله تعالى أتى أَمْرُ الله وقيلَ أصلُ الكبتِ الكبُّ ﴿كَمَا كُبِتَ الذين مِن قَبْلِهِم﴾ منْ كُفَّارِ الأممِ الماضيةِ المعادينَ للرسلِ عليهمْ
217
٧ ٧
الصلاةُ والسلامُ ﴿وَقَدْ أَنزَلْنَا آيات بينات﴾ حالٌ منْ واوِ كُبتوا أيْ كُبتوا لمحادّتِهم والحال أن قدْ أنزلنا آياتٍ واضحاتٍ فيمنَ حادَّ الله ورسولَهُ ممنْ قبلَهُم من الأَممِ وفيمَا فعلْنَا بهمْ وقيلَ آياتٌ تدلُّ عَلى صدقِ وصِحّةِ ما جَاء بهِ ﴿وللكافرين﴾ أيْ بتلكَ الآياتِ أو بكلِّ ما يجبُ الإيمانُ بهِ فيدخلُ فيهِ تلكَ الآياتُ دُخولاً أولياً ﴿عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ يذهبُ بعزِّهم وَكِبْرِهم
218
﴿يوم يبعثهم الله﴾ منصور بمَا تعلقَ بهِ اللامُ منَ الاستقرارِ أوْ بمهينٍ أو بإضمارِ أذكُرْ تعظيماً لليومِ وتهويلاً لَهُ ﴿جَمِيعاً﴾ أيْ كُلُّهم بحيثُ لاَ يَبْقَى منهُمْ أحدٌ غيرُ مبعوث أو مجتعين في حالةٍ واحدةٍ ﴿فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ﴾ منَ القبائحِ ببيانِ صُدورِها عنهُمْ أوْ بتصويرِهَا في تلكَ النشأةِ بما يليقُ بَها منَ الصورِ الهائلةِ عَلى رؤوسِ الإشهادِ تخجيلاً لهُم وتشهيراً بحالِهم وتشديداً لعذابهم وَقولُه تعالَى ﴿أحصاه الله﴾ استئنافٌ وقع جوابا عما نشأ مما قبيله منَ السؤالِ إمَّا عنْ كيفيةِ التنبئةِ أو عنْ سببِهَا كأنَّه قيلَ كيفَ ينبئُهمْ بأعمالِهم وهيَ أعراضٌ متقضيةٌ متلاشيةٌ فقيلَ أحصاهُ الله عدداً لمْ يفُتْهُ منْهُ شيءٌ فقولُه تعالَى ﴿وَنَسُوهُ﴾ حينئذٍ حالٌ من مفعولِ أَحْصَى بإضمار قد أو بدونه على الخلاف المشهور أو قيل لم ينبئهم بذلك فقيل أحصاه الله ونسوهُ فينبئهمْ بهِ ليعرفُوا أنَّ مَا عاينُوه من العذابِ إنما حاقَ بهم لأجله وفيه مزيدُ توبيخٍ وتنديمٍ لهُم غيرِ التخجيلِ والتشهير ﴿والله على كُلّ شَيْء شَهِيدٌ﴾ لا يغيبُ عنهُ أمرٌ منِ الأمورِ قطُّ والجملةُ اعتراضُ تذييليُّ مقررٌ لإحصائِهِ تعَالَى وَقولُه تَعَالَى
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يعلم ما في السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ استشهادٌ على شمولِ شهادتِهِ تَعَالَى كما في قوله تعالى أَلَمْ تَرَ إِلَى الذى حَاجَّ إبراهيم فِى رِبّهِ وَفِي قَوْلِهِ تَعَالى أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِى كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ أي ألمْ تعلم علماً يقينا متاخماً للمشاهدةِ بأنَّه تَعَالى يعلمُ مَا فِيهمَا مِنَ الموجوداتِ سواءٌ كانَ ذلكَ بالاستقرارِ فيهمَا أو بالجزئيةِ منهُمَا وَقَوْلُه تعالى ﴿مَا يَكُونُ مِن نجوى ثلاثة﴾ الخ استئنافٌ مقررٌ لِمَا قَبْلَهُ من سعةِ علمِهِ تَعَالى وَمُبينٌ لكيفيتهِ ويكونُ منْ كانَ التامةِ وقُرىءَ تكونُ بالتاءِ اعتباراً لتأنيثِ النَّجوى وإنْ كانَ غَيْرَ حقيقيَ أيْ ما يقعُ من تناجي ثلاثةِ نفرٍ أي منْ مسارتهم على أنَّ نَجْوى مضافةٌ إلى ثلاثةٍ أوْ عَلَى أَنَّها موصوفةٌ بِها إمَّا بتقديرِ مضافٍ أيْ منْ أهلِ نجوى ثلاثة أو بجلعهم نجوى في أنفسهم ﴿إِلاَّ هُوَ﴾ أي الله عزَّ وجلَّ ﴿رابعُهم﴾ أيْ جاعلُهم أربعةً منْ حيثُ إنَّه تعالَى يشاركهُمْ فِي الإطلاع عليها وهو استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم الأحوالِ ﴿وَلاَ خَمْسَةٍ﴾ ولا نجوَى خمسةٍ ﴿إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ﴾ وتخصيصُ العدَدينِ بالذكرِ إما الخصوص الواقعةِ فإنَّ الآيةَ نزلتْ في تناجي المنافقينَ وإمَّا لِبناءِ الكلامِ عَلى أغلبِ عاداتِ المتناجينَ وقدُ عممَ الحكمَ بعدَ
218
٨ ١٠
ذلكَ فقيلَ ﴿وَلاَ أدنى مِن ذَلِكَ﴾ أيْ ممَّا ذُكرَ كالواحدِ والاثنينِ ﴿وَلاَ أَكْثَرَ﴾ كالستةِ وما فوقَها ﴿إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ﴾ يعلمُ ما يجرى بينهم وقرئ ولاَ أكثرُ بالرَّفعِ عطفاً عَلى محلِّ منْ نَجْوى أو محلِ ولا أدْنَى بأنْ جُعِلَ لاَ لنفي الجنس ﴿أَيْنَ مَا كَانُواْ﴾ من الأماكنِ ولو كانُوا تحتَ الأرضِ فإنَّ علمَهُ تعالىَ بالأشياءِ ليسَ لقربٍ مكانيَ حتَّى يتفاوت باختلافِ الأمكنةِ قُرباً وبُعداً ﴿ثُمَّ ينبئهم﴾ وقرئ يُنْبِئَهُمْ بالتَّخفيفِ ﴿بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ القيامة﴾ تفضيحاً لَهُمْ وَإِظهاراً لما يوجبُ عذابَهُم ﴿أَنَّ الله بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ﴾ لأنَّ نسبةَ ذاتِهِ المقتضيةِ للعلمِ إلى الكُلِّ سواءٌ
219
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نُهُواْ عَنِ النجوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ﴾ نزلتْ في اليهودِ والمنافقين كانوا يتناجَونَ فيما بينهُمْ وبتغامزون بأعيانهم إذَا رأَوْا المؤمنينَ فنهاهُمْ رسول الله ﷺ ثمَّ عادُوا لمثلِ فعلِهمْ والخطاب للرسول عليه الصلاة والسَّلامُ والهمزةُ للتعجيبِ منْ حالهِمْ وصيغةُ المضارعِ للدلالةِ عَلَى تكررِ عَودِهمْ وتجددِهِ واستحضارِ صورتِهِ العجيبةِ وقولِهِ تَعَالى ﴿ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول﴾ عطفٌ عليهِ داخلٌ في حُكمهِ أيْ بِمَا هُوَ إثمٌ في نفسِهِ وعدوان للمؤمنين وتواصى بمعصيةِ الرسولِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ بعنوانِ الرسالةِ بينَ الخطابينِ المتوجهينِ إليهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ لزيادةِ تشنيعِهِم واستعظام معصيتهم وقرئ وينتجونَ بالإثمِ والعِدْوَانِ بكسر العَين ومعصياتِ الرسولِ ﴿وَإِذَا جاؤوك حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ الله﴾ فيقولونَ السامُ عليك أو أنعِمْ صَباحاً والله سبحانَهُ يقولُ وسلام على المرسلين ﴿وَيَقُولُونَ فِى أَنفُسِهِمْ﴾ أيْ فِيمَا بينهُمْ ﴿لَوْلاَ يُعَذّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ﴾ أيْ هلاَّ يعذبُنَا الله بذلكَ لوْ كانَ محمدٌ نبياً ﴿حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ﴾ عذاباً ﴿يَصْلَوْنَهَا﴾ يدخلونَها ﴿فَبِئْسَ المصير﴾ أى جهنم
﴿يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ﴾ فِي أنديتِكُمْ وَفِي خلواتِكم ﴿فَلاَ تتناجوا بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَةِ الرسول﴾ كما يفعله المنافقون وقرئ فلا تنتجُوا وَفلا تناجَوا بحذفِ إحدَى التاءين ﴿وتناجوا بالبر والتقوى﴾ أيْ بما يتضمنُ خيرَ المؤمنين والاتقاءَ عن معصيةِ الرسولِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ ﴿واتقوا الله الذى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ وحْدَهُ إلى غيره استقلال أوِ اشتراكاً فيجازيكُم بكُلِّ ما تأتونَ وما تذرونَ
﴿إِنَّمَا النجوى﴾
219
} ٢ ١ ﴿
المعهودةُ التِي هِيَ التناجِي بالإثم والعداون {مِنَ الشيطان﴾
لاَ مِنْ غَيْرِهِ فإنَّه المزينُ لَها واالحامل عَليهَا وقولِهِ تَعَالى ﴿لِيَحْزُنَ الذين آمنوا﴾ خبرٌ آخرُ أيْ إنَّما هِيَ ليحزنَ المؤمنينَ بتوهمهمْ أنَّها فِي نكبةٍ أصابتهُمْ ﴿وَلَيْسَ بِضَارّهِمْ﴾ أي الشيطانُ أو التناجِي بضارِّ المؤمنينَ ﴿شَيْئاً﴾ من الأشياءِ أو شيئاً منَ الضررِ ﴿إِلاَّ بِإِذْنِ الله﴾ أيْ بمشيئتِه ﴿وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون﴾ ولا يبالُوا بنجواهُم فإنَّه تعالى يعصمُهم منْ شرِّهِ
220
﴿يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ﴾ أيْ توسعُوا وليفسحْ بعضُكُمْ عنْ بعضِ ولا تتضامُّوا منْ قولِهم أفسحْ عَنِّي أى تنح وقرئ تفاسحُوا وقولِهِ تَعَالى ﴿فِى المجالس﴾ متعلقٌ بقيلَ وقُرِىءَ في المجلسِ عَلى أنَّ المرادَ بِهِ الجنسُ وقيلَ مجلسُ الرسولِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ وكانُوا يتضامُّون تنافساً في القُربِ منهُ عليهِ الصلاة والسلام وحرصا على استماعِ كلامِهِ وقيلَ هو المجلسُ منْ مجالسِ القتال وهي مراكز الغُزاةِ كقولِهِ تَعَالى مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ قيلَ كانَ الرجلُ يأتي الصفَّ ويقولُ تفسحُوا فيأبَونَ لِحرصِهم عَلى الشهادةِ وقُرِىءَ فِي المجلَسِ بفتح اللامِ فَهُو متعلقٌ بتفسحُوا قطعاً أيْ توسعُوا فِي جلوسِكم ولا تتضايقُوا فيه ﴿فافسحوا يَفْسَحِ الله لَكُمْ﴾ أي في كلِّ ما تريدونَ التفسحَ فيهِ منَ المكانِ والرزقِ والصدرِ والقَبرِ وغيرِهَا ﴿وَإِذَا قِيلَ انشزوا﴾ أي انهضُوا للتوسعةِ عَلى المقبلينَ أوْ لِمَا أمرتمْ بِهِ منْ صلاةٍ أو جهادٍ أو غَيرِهِمَا منْ أعمالِ الخيرِ ﴿فَانشُزُواْ﴾ فانهضُوا ولا تتثبطُوا ولا تفرطُوا وقرىءَ بكسرِ الشينِ ﴿يَرْفَعِ الله الذين آمنوا مِنكُمْ﴾ بالنصرِ وحسنِ الذكرِ في الدُّنيا والإيواءِ إلى غُرفِ الجنانِ في الآخرةِ ﴿والذين أُوتُواْ العلم﴾ منهُمْ خصوصاً ﴿درجات﴾ عالية بما جمعُوا منْ أثرتي العلمِ والعملِ فإنَّ العلمَ معَ علوِّ رتبتِه يقتضِي العملُ المقرونُ بهِ مزيدَ رفعةٍ لا يدركُ شأوَهُ العملُ العارِيُّ عَنْهُ وإنْ كانَ في غايةِ الصلاحِ ولذلكَ يقتدي بالعالمِ في أفعالِه ولا يقتدَى بغيرِهِ وفي الحديثِ فضلُ العالمِ عَلى العابِدِ كفضلِ القمرِ ليلة البدرِ على سائر الكواكب ﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ تهديد لمن لم يتمثل بالأمرِ وقُرِىءَ يعملونَ بالياءِ التحتانية
﴿يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ إِذَا ناجيتم الرسول﴾ في بعض شؤنكم المهمةِ الداعية إلى مناجاتِهِ عليهِ الصلاةُ والسَّلامُ ﴿فَقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نجواكم صَدَقَةً﴾ أيْ فتصدقُوا قبلَها مستعارٌ ممنْ لهُ يدانِ وفي هذا الأمرِ تعظيمُ الرسولِ ﷺ وإنفاعُ الفقراءِ والزجرُ عنِ الإفراطِ في السؤالِ والتمييزُ بينَ المخلصِ والمنافقِ
220
} ٣ ١٤
ومحبِّ الآخرةِ ومحبِّ الدُّنيا واختلفَ في أنَّه للندبِ أو للوجوبِ لكنهُ نُسِخَ بقوله تعالى أأشفقتم وهُوَ وإنْ كَان متصلاً بِهِ تلاوةً لكنَّه متراخٍ عَنْهُ نزولاً وعَنْ عليَ رضيَ الله عنه إن فِي كتابِ الله أيةً ما عَمِلَ بِهَا أحدٌ غَيْرِي كانَ لي دينارٌ فصرفتُه فكنتُ إذَا ناجيتُه عليهِ الصلاةُ والسلامُ تصدقتُ بدرهم وهُوَ على القولِ بالوجوبِ محمولٌ على أنَّه لم ينفق للأغنياء مناجاةٌ في مدةِ بقائِه إذْ رُوي أنَّه لمْ يَبقَ إلاَّ عشراً وقيل إلاَّ ساعةً ﴿ذلك﴾ أي التصدق ﴿خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ﴾ أيْ لأنفسكم منَ الريبةِ وحبِّ المَالِ وهذا يشعرُ بالندبِ لكنَّ قولِهُ تَعَالى ﴿فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ منبئ عنِ الوجوبِ لأنَّه ترخيصٌ إن لَمْ يجدْ فِي المناجَاةِ بلا تصدق
221
﴿أأشفقتم أَن تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نجواكم صدقات﴾ أيْ أخفتمْ الفقرَ منْ تقديمِ الصدقاتِ أو أخفتمْ التقديمَ لما يعدكُم الشيطانُ عليهِ منَ الفقر وجمع الصدقات لجمعِ المخاطبينَ ﴿فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ﴾ ما أمرتمْ بهِ وشَقَّ عَليكُمْ ذلكَ ﴿وَتَابَ الله عَلَيْكُمْ﴾ بأنْ رخصَ لكُم أنْ لا تفعلُوه وفيه إشعارٌ بأنَّ إشفاقَهُم ذنبٌ تجاوزَ الله عنْهُ لما رأى منهم من الانفعالِ مَا قامَ مقَام توبتهِم وإذْ عَلى بابِهَا مِنَ المُضيِّ وقيلَ بِمَعْنى إذا كما في قوله تَعَالى إِذِ الأغلال فِى أعناقهم وقيلَ بمعنى إنْ ﴿وَأَقِيمُواْ الصلاة وآتَوْا الزَّكَاةَ﴾ أيْ فإذْ فرطتُم فِيمَا أُمِرتُمْ بهِ منْ تقديمِ الصدقاتِ فتداركُوه بالمثابرةِ عَلى إقامةِ الصلاةِ وإيتاءِ الزكاةِ ﴿وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ﴾ في سائرِ الأوامرِ فإنَّ القيامَ بِها كالجابرِ لما وقعَ في ذلكَ من التفريطِ ﴿والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ ظاهراً وباطناً
﴿أَلَمْ تَرَ﴾ تعجيب منْ حالِ المنافقينَ الذين كانُوا يتخذونَ اليهودَ أولياءَ ويناصحونَهُم وينقلونَ إليهم أسرارَ المؤمنينَ أيْ ألمْ تنظرُ ﴿إِلَى الذين تَوَلَّوْاْ﴾ أيْ والوْا ﴿قوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِمْ﴾ وَهُمْ اليهودُ كَمَا أنبأ عَنْهُ قولِهِ تَعَالى مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ ﴿مَّا هُم مّنكُمْ وَلاَ منهم﴾ لأنهم منافقون مذبذين بينَ ذلكَ والجملةُ مستأنفةٌ أو حالٌ من فاعل تولُوا ﴿وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكذب﴾ أي يقولونَ والله إنَّا لمسلمونَ وهو عطفٌ عَلى تولَّوا داخلٌ في حُكمِ التعجيبِ وصيغةُ المضارعِ للدلالةِ على تكرر الحلفِ وتجددِّهِ حسبَ تكررِ ما يقتضيهِ وقولِهِ تَعَالى ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ حالٌ منْ فاعِلِ يحلفونَ مفيدةٌ لكمال شناعةِ ما فعلُوا فإنَّ الحلفَ عَلى ما لم يُعلمُ أنَّه كذبٌ في غايةِ القُبحِ وفيهِ دلالةٌ على أنَّ الكذبَ يعمُّ ما يعلمُ المخبرُ عدمَ مطابقتهِ للواقعِ وما لا يعلمُه رُوي أنَّه عليهِ الصلاةُ والسَّلامُ كانَ في حجرةٍ من حجراتِه فقال يدخلُ عليكُم الآن رجلٌ قلبُه قلبُ جبارٍ وينظرُ بعينِ شيطانٍ فدخلَ عبدُ اللَّهِ بن نَبْتَل المنافقُ وكان أزرقَ فَقَالَ له رسول الله ﷺ علامَ تشتمني أنتَ وأصحابُك فحلفَ بالله ما فعلَ فقال عليه الصلاة والسلام فعلتَ
221
} ٥ ١٨
فانطلق فجاءَ بأصحابُه فحلفُوا بالله ما سبُّوه فنزلتْ
222
﴿أَعَدَّ الله لَهُمْ﴾ بسببِ ذلكَ ﴿عَذَاباً شَدِيداً﴾ نوعاً من العذابِ متفاقماً ﴿إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ فيما مَضَى منَ الزمانِ المتطاولِ فتمرنُوا على سوءِ العمل وضرُوْا به وأصرُّوا عليه
﴿اتخذوا أيمانهم﴾ الفاجرةَ التي يحلفونَ بِهَا عندَ الحاجَةِ وقرئ بكسرِ الهمزةِ أيْ إيمانُهُم الذي أظهروه لأهل الإسلامِ ﴿جَنَّةُ﴾ وقايةً وسترةً دونَ دمائِهم وأموالِهم فالاتخاذُ على هذهِ القراءةِ عبارةٌ عن التسترِ بما أظهروه بالفعلِ وأمَّا عَلى القراءةِ الأُولى فهو عبارةٌ عن إعدادِهم لأيمانِهم الكاذبةِ وتهيئتِهم لَها إلى وقت الحاجة ليحلفوا بها ويتخلصُوا من المؤاخذةِ لا عن استعمالها بالفعل فإن ذلك متأخر عن المؤاخذة المسبوقةِ بوقوعِ الجنايةِ والخيانةِ واتخاذ الجنة لا بد أن يكون قبل المؤاخذة وعن سببها أيضا كما يعربُ عنْهُ الفاءُ في قولِهِ تَعَالى ﴿فَصَدُّواْ﴾ أي الناس ﴿عن سبيل الله﴾ في خلالِ أمنهِم بتثبيطِ من لقوْا عنِ الدخولِ في الإسلامِ وتضعيفِ أمرِ المسلمينَ عندهُمْ ﴿فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ وعيدٌ ثانٍ بوصفٍ آخرَ لعذابِهم وقيلَ الأولُ عذاب القبر أو عذابُ الآخرةِ
﴿لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أموالهم وَلاَ أولادهم مّنَ الله﴾ أي من عذابه تعالى ﴿شَيْئاً﴾ منَ الإغناءِ رُوي أنَّ رجلاً منهم قالَ لنُنصَرَنَّ يومَ القيامَةِ بأنفسنا وأموالِنا وأولادِنا ﴿أولئك﴾ الموصوفونَ بما ذكر من الصفات القبيحةِ ﴿أصحاب النار﴾ أيْ مُلازمُوهَا ومقارنُوهَا ﴿هُمْ فِيهَا خالدون﴾ لا يخرجُون منها أبداً
﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً﴾ قيلَ هو ظرفٌ لقولِهِ تَعَالى لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴿فَيَحْلِفُونَ لَهُ﴾ أيْ لله تعالى يومئذٍ على أنهُمْ مسلمونَ ﴿كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ﴾ فِي الدُّنيا ﴿وَيَحْسَبُونَ﴾ في الآخرةِ ﴿أَنَّهُمْ﴾ بتلكَ الأيمانِ الفاجرةِ ﴿على شَىْء﴾ من جلبِ منفعةٍ أو دفعِ مضرةٍ كما كانُوا عليهِ في الدُّنيا حيثُ كانوا يدفعونَ بِهَا عنْ أرواحِهم وأموالِهم ويستجرونَ بها فوائدَ دنيويةً ﴿أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون﴾ المبالغون في الكذبِ إلى غايةٍ لا مطمَحَ وراءَها حيثُ تجاسرُوا عَلى الكذبِ بينَ يَدي علاَّمِ الغيوبِ وزعمُوا أنَّ أيمانَهُم الفاجرةَ تروجُ الكذبَ لديهِ كَمَا تروجُهُ عن الغافلينَ
١٩ - ٢٢ ﴿استحوذ عَلَيْهِمُ الشيطان﴾ أي استولى عليهمْ منْ حُذتُ الإبلَ إذَا استوليتُ علَيها وجمعتها وهوَ مما جاء على الأصلِ كاستصوبَ واستنوقَ أي ملَكهُم ﴿فأنساهم ذِكْرَ الله﴾ بحيثُ لم يذكرُوه بقلوبِهم ولا بألسنتِهم ﴿أولئك﴾ الموصوفون بما ذكر من القبائح حزب الشيطان وجنوده وأتباعُهُ ﴿إِلا أَنْ حِزْبَ الشيطان هُمُ الخاسرون﴾ أي الموصوفونَ بالخُسرانِ الذي لا غايةَ وراءَه حيثُ فوتُوا على أنفسهِم النعيمَ المقيمَ وأخذوا بدله من العذابَ الأليمَ وفي تصدير الجملةُ بحرفي التنبيهِ والتحقيقِ وإظهارِ المضافينِ معاً في موقعِ الإضمارِ بأحدِ الوجهينِ وتوسيطِ ضميرِ الفصلِ منْ فنونِ التأكيد ما لا يَخْفَى
﴿إِنَّ الذين يُحَادُّونَ الله وَرَسُولَهُ﴾ استئنافٌ مَسوقٌ لتعليلِ ما قبلَهُ من خسرانِ حزب الشيطان عبد عنهُمْ بالموصولِ للتنبيهِ بما في حيز الصلةِ على أنَّ مُوادةَ مَنْ حَادَّ الله ورسولَهُ محادّةٌ لَهُمَا والإشعارِ بعلةِ الحُكمِ ﴿أولئك﴾ بما فعلُوا منَ التولِي والموادةِ ﴿فِى الأذلين﴾ أيْ في جُملةِ منْ هُو أذلُّ خلقِ الله منَ الأولينَ والآخرينَ لأنَّ ذلةَ أحدِ المتخاصمينَ على مقدارِ عزةِ الآخرِ وحيثُ كانتْ عزةُ الله عزَّ وجلَّ غير متناهيةٍ كانتُ ذلةُ من يحاده كذلك
﴿كتب الله﴾ استئنافٌ واردٌ لتعليلِ كونِهمْ في الأذلينَ أيْ قضى وثبت في اللوحِ وحيثُ جَرَى ذلكَ مَجرى القسمِ أجيبَ بما يجابُ به فقيلَ ﴿لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى﴾ أيْ بالحجةِ والسيفِ وما يجري مجراهُ أو بأحدِهِمَا ونظيرُهُ قولُه تعالَى وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لهم الغالبون وقرئ ورسليَ بفتح الياء ﴿إِنَّ الله قَوِىٌّ﴾ عَلَى نصرِ أنبيائِهِ ﴿عَزِيزٌ﴾ لا يُغلب عليهِ في مرادِهِ
﴿لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الأخر﴾ الخطابَ للنَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسلام أوْ لكُلِّ أحدٍ وتجدُ إمَّا متعدٍ إلى اثنينِ فقولِهِ تَعَالى ﴿يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ﴾ مفعولُه الثاني أوْ إلى واحدٍ فهو حالٌ من مفعولِه لتخصصهُ بالصفةِ وقيلَ صفةٌ أُخرى لَهُ أيْ قوماً جامعينَ بينَ الإيمانِ بالله واليومِ الآخرِ وبينَ موادةِ أعداءِ الله ورسولِه والمرادُ
223
سورة الحشر
﴿
ينفى الوجدان لنفى الموادةِ عَلى مَعْنَى أنَّه لا ينبغي أنْ يتحققَ ذلكَ وحقُّه أن يمتنعَ ولا يوجدَ بحالٍ وإنْ جدَّ في طلبهِ كلُّ أحدٍ {وَلَوْ كَانُواْ﴾
أيْ من حاد الله ورسوله والجمع باعتبار معنى من كما أن الإفراد فيما قبله باعتبار لفظها ﴿آباءهم﴾ آباءُ الموادِّينَ ﴿أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إخوانهم أَوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾ فإنَّ قضيةَ الإيمانِ بالله تعالى أَنْ يهجرَ الجميعَ بالمرةِ والكلامُ في لَوْ قَدْ مرَّ على التفصيل مراراً ﴿أولئك﴾ إشارةٌ إلى الذينَ لا يوادونهم وإنْ كانُوا أقربَ النَّاسِ إليهم وأمسَّ رحماً وما فيه من معَنى البعدِ لرفعةِ درجتهم في الفضلِ وهُوَ مبتدأ خبرُهُ ﴿كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمان﴾ أي أثبتَهُ فيها وفيه قطعا ولا شئ من أعمالِ الجوارحِ يثبتُ فيهِ ﴿وَأَيَّدَهُمْ﴾ أيْ قوَّاهُم ﴿بِرُوحٍ مّنْهُ﴾ أيْ مِنْ عندِ الله تعالىَ وهُوَ نورُ القلبِ أوِ القرآنُ أو النصرُ على العدوِّ وقيل الضمير للإيمان الحياة القلوبِ بهِ فمنْ تجريديةٌ وقولُهُ تعالَى ﴿وَيُدْخِلُهُمُ﴾ الخ بيانٌ لآثارِ رحمتهِ الأخرويةِ إثرَ بيانِ ألطافهِ الدنيويةِ أيْ ويدخلهُم في الآخرةِ ﴿جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا﴾ أبدَ الآبدينَ وقولُه تَعَالى ﴿رَّضِىَ الله عَنْهُمْ﴾ استئنافٌ جارٍ مَجْرَى التَّعليلِ لما أفاضَ عليهمْ مِنْ آثارِ رحمتِهِ العاجلةِ والآجلةِ وقولُه تَعَالى ﴿وَرَضُواْ عَنْهُ﴾ بيانٌ لابتهاجِهم بما أوتُوه عاجلاً وآجلاً وقولُه تَعَالَى ﴿أُوْلَئِكَ حِزْبُ الله﴾ تشريفٌ لهُمْ ببيانِ اختصاصِهم بهِ عزَّ وجلَّ وقوله تعالى ﴿إَّلا أَن حِزْبَ الله هُمُ المفلحون﴾ بيان لاختصاصهم بالفوزِ بسعادةِ الدارينِ والفوزِ بسعادةِ النشأتينِ والكلامُ في تحليةِ الجملةِ بفنونِ التأكيدِ كَمَا مَرَّ فِي مثلِها عن النبي عليه الصلاةَ والسلام من قرأ سورة المجادلةِ كتبَ منْ حزبِ الله يوم القيامة
سورة الحشر
﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾
224
Icon