تفسير سورة الممتحنة

كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
تفسير سورة سورة الممتحنة من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل .
لمؤلفه أبو بكر الحداد اليمني . المتوفي سنة 800 هـ

﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ ﴾؛" نَزلت هذه الآية في حاطِب بن أبي بَلْتَعَةَ، وَذلِكَ أنَّ سَارَةَ مَوْلاَةَ أبي عَمْرٍو صَيْفِي بْنِ هِشَامٍ أتَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ بَعْد بَدْرٍ بسَنَتَيْنِ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَجَهَّزُ لِفَتْحِ مَكَّةَ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " أمُسْلِمَةً جِئْتِ " قَالَتْ: لاَ: قَالَ: " أمُهَاجِرَةً جِئْتِ؟ " قَالَتْ: لاَ، قَالَ: " فَمَا حَاجَتُكَ؟ " قَالَتْ: كُنْتُمُ الأَهْلَ وَالْعَشِيرَةَ وَالْمَوَالِي، وَقَدْ ذهَبَتْ أمْوَالِي وَاحْتَجْتُ حَاجَةً شَدِيدَةً، فَقَدِمْتُ عَلَيْكُمْ لِتُعْطُونِي وَتَكْسُونِي وَتَحْمِلُونِي، قَالَ: " وَأيْنَ أنْتِ مِنْ شَبَاب أهْلِ مَكَّةَ؟ " وَكَانَتْ مُغَنِّيَةً وَنَائِحَةً، قَالَتْ: مَا طُلِبَ مِنِّي شَيْءٌ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، فَأَمَرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِب فَكَسَوْهَا وَأعْطَوْهَا نَفَقَةً. فَأَتَاهَا حَاطِبُ بْنُ أبي بَلْتَعَةَ الأَزَدِيُّ حَلِيفُ بَنِي أسَدٍ، فَكَتََبَ إلَى أهْلِ مَكَّةََ وَأعْطَاهَا عَشْرَةَ دَنَانِيرَ عَلَى أنْ تُوصِلَ الْكِتَابَ إلَى أهْلِ مَكَّةَ، وَكَتَبَ فِي الْكِتَاب: مِنْ حَاطِب بْنِ أبي بَلْتَعَةَ إلَى أهْلِ مَكَّةَ: رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُريدُ أنْ يَغْزُوَكُمْ، فَخُذُوا حِذْرَكُمْ. مَعَ أشْيَاءَ كَتَبَ بهَا يَتَنَصَّحُ لَهُمْ فِيهَا، فَمَضَتْ سَارَةُ بالْكِتَاب. فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عليه السلام فَأَخْبَرَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بمَا فَعَلَ حَاطِبُ، فَبَعَثَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وَرَاءَهَا عَلِيَّ بْنَ أبي طَالِبٍ وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ وَالْمِقْدَادَ، فَخَرَجُوا يُعَادِي بهِمْ خيْلُهُمْ، فَطَلَبُوا مِنْهَا الْكِتَابَ، فَقَالَتْ: مَا عِنْدِي كِتَابٌ، وَحَلَفَتْ عَلَى ذلِكَ، فَفَتَّشُواْ مَتَاعَهَا فَلَمْ يَجِدُوهُ، وَقَالَتْ: إنَّكُمْ لاَ تُصَدِّقُونِي حَتَّى تُفَتِّشُوا ثِيَابي، وَاصْرِفُواْ وُجُوهَكُمْ عَنِّي فَصَرَفُوهَا، فَطَرَحَتْ ثِيَابَهَا فَفَتَّشُوهَا فَلَمْ يَجِدُوا شَيْئاً، فَتَرَكُوهَا وَهَمُّواْ بالرُّجُوعِ. فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أبي طَالِبٍ: إنِّي أشْهَدُ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكْذِبْنَا، وَإنَّهَا هِيَ الْكَاذِبَةُ فِيمَا تَقُولُ: فَسَلَّ سَيْفَهُ وَقَالَ: أخْرِجِي الْكِتَابَ وَإلاَّ وَاللهِ لأَضْرِبَنَّ عُنُقَكِ وَأقْسَمَ عَلَى ذلِكَ، فَلَمَّا رَأتِ الْحَدَّ أخْرَجَتْهُ مِنْ ظَفَائِرِ رَأسِهَا، فَأَخَذُوهُ وَخَلَّوا سَبيلَهَا وَرَجَعُواْ بالْكِتَاب إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فَأَرْسَلَ إلَى حَاطِبٍ فأَتَاهُ، فَقَالَ لَهُ: " يَا حَاطِبُ هَلْ تَعْرِفُ هَذا الْكِتَابَ؟ " قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: " مَا حَمَلَكَ عَلَى ذلِكَ؟ " قَالَ: وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ مَا كَفَرْتُ مُنْذُ أسْلَمْتُ، وَلاَ غَشَشْتُكَ مُنْذُ صَحِبْتُكَ، وَلاَ أحْبَبْتُهُمْ مُنْذُ فَارَقْتُهُمْ، فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيَّ يَا رَسُولَ للهِ، إنِّي كُنْتُ امْرِءاً مُلْصَقاً فِي قُرَيْشٍ، وَلَمْ أكُنْ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ أحَدٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ إلاَّ وَلَهُ بمَكَّةَ مَنْ يَمْنَعُ عَشِيرَتَهُ، وَأنَا غَرِيبٌ فِيْهِمْ، وَكَانَ أهْلِي بَيْنَ أظْهُرِهِمْ، فَخَشِيتُ عَلَى أهْلِي فَأَرَدْتُ أنْ أتَّخِذ عِنْدَهُمْ يَداً، فَوَاللهِ مَا فَعَلْتُ ذلِكَ شَكّاً فِي دِينِي وَلاَ رضًى بالْكُفْرِ بَعْدَ الإسْلاَمِ، وَلاَ ارْتَبْتُ فِي اللهِ مُنْذُ أسْلَمْتُ، وَقَدْ عَلِمْتُ أنَّ اللهَ تَعَالَى نَزَّلَ عَلَيْهِمْ بَأْسَهُ، وَإنَّ كِتَابي لاَ يُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئاً. فَصَدَّقَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَعَذرَهُ وَقَالَ: " إنَّهُ قَدْ صَدَقَ ". فَقَاَمَ عُمَرُ رضي لله عنه وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ دَعْنِي أضْرِبْ عُنُقَ هَذا الْمُنَافِقِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " إنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْراً، وَمَا يُدْريكَ أنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ لأَهْلِ بَدْرٍ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غُفِرَ لَكُمْ ". ورُوي:" أنَّ عَبْداً لِحَاطِبٍ جَاءَ يَشْتَكِي مِنْ حَاطِبٍ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ لَيَدْخُلَنَّ حَاطِبُ النَّارَ، فَقَالَ: " كَذبْتَ! لاَ يَدْخُلُهَا أبَداً لأنَّهُ شَهِدَ بَدْراً وَالْحُدَيْبيَةَ " ". ثُم أنزلَ اللهُ تعالى هذه الآيةَ يعرِّفُ بها النبيِّ صلى الله عليه وسلم أن حاطباً مؤمنٌ، فقال ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ ﴾ معناهُ: لا تتَّخِذُوا الكافرين أحبَّاءَ في العونِ والنُّصرةِ.
﴿ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ ﴾؛ أخبارَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وسرَّهُ.
﴿ بِٱلْمَوَدَّةِ ﴾؛ التي بينَكمَ وبينهم وتُخبرونَهم بما يخبرُ به الرجلُ أهلَ مودَّتهِ.
﴿ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مِّنَ ٱلْحَقِّ ﴾؛ جحَدُوا بما جاءَكم من الحقِّ يعني القرآنَ، ومع ذلك.
﴿ يُخْرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ رَبِّكُمْ ﴾؛ أي يُخرِجون الرسولَ من مكَّة ويخرجُونكم أيضاً من دياركم لأجلِ إيمانِكم بربكم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِي ﴾؛ هذا شرطٌ وجوابهُ متقدِّمٌ عليه وهو قولهُ ﴿ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ ﴾.
تقديرهُ: إنْ كُنتم خرَجتُم جِهَاداً مُجاهدِين في طاعتي وسُنَّتي ومتَّبعين مَرضَاتِي، فلا تتَّخذونَهم أولياءَ، وقولهُ تعالى: ﴿ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِي ﴾ منصُوبان لأنَّهما مفعولٌ لَهما. وقوله تعالى: ﴿ تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّةِ ﴾؛ أي تُخفون مَودَّتَهم.
﴿ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ ﴾؛ وأنا أعلمُ بما تُضمِرُون في صُدوركم، وما تُظهرِون بأَلسِنَتِكُم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ ﴾؛ يعني الإسرارَ وإلقاءَ المودَّة إليهم.
﴿ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ ﴾؛ أي فقد أخطأَ طريقَ الهدى، والمعنى: ومَن يفعل منكم يا معشرَ المؤمنين ما فعلَ حاطبُ، فقد أخطأَ طريقَ الحقِّ والهدى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَآءً ﴾؛ معناهُ: إنْ يُصادِفُوكم ويَظفَرُوكم في حالٍ لا يخافونَكم عليها يُظهِرُوا عداوتَكم.
﴿ وَيَبْسُطُوۤاْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ ﴾؛ بالقتلِ والضَّرب.
﴿ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِٱلسُّوۤءِ ﴾؛ بالشَّتمِ والطعنِ.
﴿ وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ ﴾؛ ويحبُّون أن تكفُروا باللهِ بعد إيمانِكم كما أنَّهم كافرون، والمعنى: لا ينفعُكم التقرُّب إليهم بنقلِ أخبار النبيِّ صلى الله عليه وسلم إليهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ ﴾؛ أي تُوادُّوهم بسبب الأرحامِ والأولاد، فإنَّ الأرحامَ والأولادَ لا ينفعُوكم، فلا تَعصُوا اللهَ ولا تخونُوا رسولَهُ لأجلِهم.
﴿ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ ﴾؛ فيُدخِلُ أهلَ طاعةِ الله الجنةَ، ويدخل أهلَ الكفرِ النارَ.
﴿ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾؛ من الخيرِ والشرِّ.
﴿ بَصِيرٌ ﴾.
قرأ عاصمُ ويعقوب (يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) بفتحِ الياء وكسر الصاد مخفَّفاً، وقرأ ابنُ عامر والأعرج (يُفَصَّلُ) بضمِّ الياء وفتحِ الصاد مشدَّداً، وقرأ طلحةُ والنخعي (نُفَصِّلُُ) بالنون وبضمَّة وكسرِ الصاد مشدَّداً، وقرأ الباقون (يُفْصَلُ) بضم الياء وفتح الصاد مخفَّفاً. ثُم ضربَ اللهُ لهم إبراهيمَ مَثلاً حين تبرَّأ من قومهِ فقال تعالى: ﴿ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِيۤ إِبْرَاهِيمَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ ﴾؛ أي قد كانت لكم قدوةٌ حسَنةٌ في إبراهيمَ خليلِ الله والذين معَهُ من المؤمنين.
﴿ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ ﴾؛ لأقاربهم من الكفَّار: ﴿ إِنَّا بُرَءآؤُاْ مِّنْكُمْ ﴾؛ ومن دِينكم.
﴿ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ ﴾؛ من الأصنامِ.
﴿ كَفَرْنَا بِكُمْ ﴾، تبرَّأنَا منكم.
﴿ وَبَدَا ﴾؛ وظهرَ.
﴿ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةُ ﴾؛ بالفعلِ.
﴿ وَٱلْبَغْضَآءُ ﴾؛ بالقولِ.
﴿ أَبَداً ﴾؛ إلى الأبدِ.
﴿ حَتَّىٰ تُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَحْدَهُ ﴾؛ تُقِرُّوا وتُصدِّقوا بوحدانيَّة اللهِ تعالى، فهلاَّ تأَسَّيتَ يا حاطبُ بإبراهيمَ في إظهارهِ مُعاداةَ الكفَّار، وقطعِ الموالاةِ بينكم وبينهم كما فعلهُ إبراهيم ومَن معهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ ﴾؛ أي قد كانت لكم أسوةٌ حسَنةٌ في إبراهيمَ وأمُورهِ، إلاَّ في قولهِ لأبيهِ لأستغفرن لك.
﴿ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ ﴾؛ إنْ عَصَيتَهُ، نُهُوا أن يتأَسَّوا بإبراهيمَ في هذا خاصَّة فيَستَغفِرُوا للمشركين. والمعنى: قد كانت لكم أسوةٌ حَسنةٌ في صُنعِ إبراهيمَ إلاَّ في استغفارهِ لأبيهِ وهو مشركٌ. ثم بيَّن اللهُ عُذرَهُ إبراهيمَ في سورةِ التَّوبة في استغفارهِ لأبيه فقالَ تعالى:﴿ وَمَا كَانَ ٱسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ ﴾[التوبة: ١١٤] وكان هذا قبلَ إخبار الله تعالى أنْ لا يغفرَ أنْ يُشرَكَ به. وقولُ إبراهيم: ﴿ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ ﴾ معناهُ: لا أقدرُ على دفعِ شيءٍ من عذاب الله عنكَ إنْ لم تُؤمِنْ. وكان من دعاءِ إبراهيمَ وأصحابهِ: ﴿ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا ﴾؛ أي وَثِقْنا.
﴿ وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا ﴾؛ أي فوَّضنَا أُمورَنا وإليك رجَعنا بالتَّوبةِ والطاعةِ.
﴿ وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ ﴾؛ في الآخرةِ.
﴿ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ وَٱغْفِرْ لَنَا رَبَّنَآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ ﴾؛ أي لا تُظهِرِ الكفَّارَ عَلينا فيظُنُّوا أنَّهم على الحقِّ وأنَّا على الباطلِ فيُفتَنوا بها، هكذا قال قتادةُ. وعن ابنِ عبَّاس أنَّهُ قالَ: (مَعْنَاهُ: لاَ تُسَلِّطْهُمْ فَيَفْتِنُونَا). وقال مجاهدُ: (مَعْنَاهُ: لاَ تُعَذِّبْنَا بأَيْدِيهِمْ وَلاَ بعَذابٍ مِنْ عِنْدِكَ فَيَقُولُوا: لَوْ كَانَ هَؤُلاَءِ عَلَى الْحَقِّ مَا أصَابَهُمْ هَذا).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ ﴾؛ معناهُ: لقد كان لكم في إبراهيمَ والَّذين معَهُ قدوةٌ صالحة فيما يرجعُ إلى رجاءِ ثواب الله وحُسنِ الْمُنْقَلَب في اليومِ الآخرِ. وهذا يقتضي وجوبَ الاقتداء بهم في أفعالِهم، وأما الأُولى فنُهوا الاقتداءَ بهم في باب العداوة للهِ في أمر الدين. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لِّمَن كَانَ يَرْجُو ٱللَّهَ ﴾ بدلٌ من قولهِ ﴿ لَكُمْ فِيهِمْ ﴾ وهذا كقولهِ تعالى﴿ وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ﴾[آل عمران: ٩٧].
ومعنى ﴿ يَرْجُو ٱللَّهَ ﴾ أي يخافُ اللهَ ويخافُ الآخرةَ.
﴿ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَنِيُّ ٱلْحَمِيدُ ﴾؛ أي مَن يُعرِضُ عن الإيمانِ ويُوالِي الكفارَ فإنَّ اللهَ هو الغنيُّ عن خلقهِ، الحميدُ إلى أوليائهِ وأهلِ طاعته. قال مقاتلُ: (فَلَمَّا أمَرَ اللهُ الْمُسْلِمِينَ بعَدَاوَةِ الْكُفَّار أظْهَرُواْ لَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَرَاءَةَ امْتِثَالاً لأَمْرِ اللهِ تَعَالَى) فأنزلَ اللهُ: ﴿ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم ﴾؛ أي كونوا على رجاءٍ وطمعٍ في أن يجعلَ اللهُ بينكم وبين الذين عادَيتم من المشركين.
﴿ مَّوَدَّةً ﴾؛ يعني من كفار مكَّة. ففعلَ اللهُ ذلكَ بأن أسلمَ كثيرٌ منهم بعدَ الفتحِ، منهم أبو سُفيان بن حربٍ؛ وأبو سُفيان بن الحارث؛ والحارثُ بنُ هشام؛ وسُهيل بن عمرٍو؛ وحَكمُ بن حِزام، وكانوا مِن رُؤساء الكفَّار والمعادِين لأهلِ الإسلامِ، فصارُوا لهم أولياءً وإخوَاناً، فخَالَطُوهم وناكَحُوهم، وتزوَّجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أُمَّ حبيبةَ بنتِ أبي سُفيان بن حرب، فَلانَ لهم أبو سفيان، فهذه المودَّةُ التي جعلَها اللهُ تعالى بينَهم.
﴿ وَٱللَّهُ قَدِيرٌ ﴾؛ على أن يجعلَ بينكم المودَّة.
﴿ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾؛ بهم بعد ما تَابُوا وأسلَمُوا.
قولهُ تعالى: ﴿ لاَّ يَنْهَاكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ ﴾ يعني أهلَ العهدِ الذين عاهَدُوا المؤمنين على تركِ القتالِ والْمُظَاهَرَةِ، وهم خُزاعة.
﴿ أَن تَبَرُّوهُمْ ﴾، والمعنى: لاَ ينهاكُم اللهُ عن برِّ الذين لم يُقاتِلُوكم، وهذا يدلُّ على جواز البرِّ بأهلِ الذمَّة وإنْ كانت الموالاةُ منقطعةً. ولذلك جوَّزَ أبو حَنيفة ومحمَّد صرفَ صدقةِ الفطرِ والكفَّارات والنُّذور الْمُطْلَقَةِ إليهم، وأجْمَعُوا على جواز صرفِ صدقةِ التطوُّع إليهم، وأجْمَعُوا على أنه لا يجوزُ صرفُ الزَّكَوَاتِ إليهم لقوله عليه السلام:" أُمِرْتُ أنْ آخُذ الصَّدَقَةَ مِنْ أغْنِيَائِكُمْ وَأرُدَّهَا عَلَى فُقَرَائِكُمْ ". وقولهُ تعالى: ﴿ أَن تَبَرُّوهُمْ ﴾ في موضعِ خفضٍ بدلَ من ﴿ ٱلَّذِينَ ﴾ كأنَّهُ قالَ عن أنْ تبَرُّوا الذين لم يُقاتِلُوكم، وقوله تعالى: ﴿ وَتُقْسِطُوۤاْ إِلَيْهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ ﴾؛ القِسْطُ إليهم أن نُعطِيَهم قِسْطاً من أموالِنا على جهة البرِّ، ويقالُ: أقسطتُ إلى الرجُلِ اذا عامَلتهُ بالعدلِ، قال الزجَّاج: (مَعْنَاهُ: وَتَعْدِلُوا فِيْمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِنَ الْوَفَاءِ بالْعَهْدِ).
قَوْلُهُ تعَالَى: ﴿ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُواْ عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ ﴾؛ يعني الْمُحَاربينَ من الكفَّار، نَهى اللهُ أن يُتَصَدَّقَ عليهم، ونَهى عن مُوالاتِهم ومُكاتَباتِهم. والْمُظَاهَرَةُ: الْمُعَاوَنَةُ للظُّهور بها على العدوِّ بالغَلبةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَٱمْتَحِنُوهُنَّ ﴾ وذلك أنَّ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم لَمَّا صَالَحَ قُرَيْشاً يَوْمَ الْحُدَيْبيَةِ عَلَى أنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ مَنْ جَاءَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا هَاجَرَ إلَيْهِ النِّسَاءُ أبَى اللهُ أنْ يَرْجِعْنَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَأمَرَ بامْتِحَانِهِنَّ، وقوله تعالى: ﴿ فَٱمْتَحِنُوهُنَّ ﴾ وذلك أنْ تُستَحلَفَ المهاجِرةُ ما هاجَرتْ لِحَدَثٍ أحدثَتْهُ، ولا خَرَجَتْ عِشْقاً لرجُلٍ من المسلمين ولا خرجَتْ إلاَّ رغبةً في الإسلامِ. قال ابنُ عبَّاس:" صَالَحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كُفَّارَ مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبيَةِ عَلَى أنَّ مَنْ أتَاهُ مِنْ مَكَّةَ رَدَّهُ عَلَيْهِمْ، وَمَنْ أتَى مَكَّةَ مِنْ أصْحَابهِ فَهُوَ لَهُمْ، وَلَمْ يَرُدُّوهُ عَلَيْهِ، وَكَتَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بذلِكَ كِتَاباً لَهُمْ وَخَتَمَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا خَتَمَ عَلَيْهِ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم جَاءَتْهُ سَبيعَةُ بنْتُ الْحَارثِ الأَسْلَمِيَّةُ مُسْلِمَةً. فَجَاءَ زَوْجُهَا إلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ كَافِرٌ وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ رُدَّهَا عَلَيَّ، فَإنَّكَ شَرَطْتَ لَنَا ذلِكَ عَلَيْكَ، وَهَذِهِ طِينَةُ كِتَابنَا لَمْ تَجِفَّ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَٱمْتَحِنُوهُنَّ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى ٱلْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ﴾؛ فَاسْتَحْلَفَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم " باللهِ مَا أخْرَجَكِ إلَيْنَا إلاَّ الْحِرْصُ عَلَى الإيْمَانِ وَالرَّغْبَةُ فِيْهِ وَالْمَحَبَّةُ للهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلإسْلاَمِ " فَحَلَفَتْ باللهِ الْعَظِيمِ الَّذِي لاَ إلَهَ إلاَّ هُوَ مَا خَرَجْتُ إلاَّ لِذلِكَ، فَأَمَرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنْ يُعْطَى زَوْجُهَا مَهْرَهَا الَّذِي أُنْفِقَ عَلَيْهَا، فَأَعْطَوْهُ مَهْرَهَا وذلك معنى قولهِ: ﴿ وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ ﴾ ". قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ ﴾ أي هذا الامتحانُ لكم، واللهُ عالِمٌ بهنَّ، وليس عليكم إلاَّ علمُ الظاهرِ، واللهُ أعلَمُ بإيمانِهنَّ قبلَ الامتحانِ وبعدَهُ، فإن علمتُموهنَّ في الظاهرِ بالامتحان أنَّهن مؤمناتٍ فلا تردُّوهن إلى أزواجهنَّ الكفَّار بمكة، لا المؤمناتُ حِلٌّ للكفار ولا الكفارُ يحلُّون للمؤمناتِ. وقوله تعالى: ﴿ وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ ﴾ أي أعطُوا أزواجَ المهاجراتِ من الكفَّار ما أنفَقُوا عليهنَّ من المهرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ﴾؛ أي لا جُناحَ عليكم أنْ تتزوَّجُوهن إذا أعطيتُموهنَّ مُهورَهن ولو كان لَهنَّ أزواجٌ كفَّار في دار الكفر؛ لأن الإسلامَ قد فرَّقَ بينها وبين الكافرِ، وهذا كلُّه دليلٌ أنَّ الْحُرَّةَ إذا هاجَرت إلينا مُسلمةً أو ذميَّة وقعتِ الفرقةُ بينهما بنفسِ الْمُهَاجَرَةِ، كما هو مذهبُ أصحابنا. ولهذا قال أبو حنيفةَ: (إنَّ الْمُهَاجِرَةَ لاَ عِدَّةَ عَلَيْهَا لأنَّ اللهَ تَعَالَى أبَاحَ لِلْمُسْلِمِينَ التَّزَوُّجَ بالْمُهَاجِرَاتِ مِنْ غَيْرِ أنْ يَشْرُطَ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ، وَلَوْ كَانَتْ الزَّوْجِيَّةُ بَاقِيَةً بَعْدَ الْمُهَاجَرَةِ لَمَا أمَرَ اللهُ برَدِّ مُهُورهِنَّ عَلَى أزْوَاجِهِنَّ. وَعَلَى هَذا إذا خَرَجَ الزَّوْجُ إلَيْنَا مُسْلِماً أوْ ذِمِّيّاً وَقَعَتِ الْفِرْقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأتِهِ، وَأمَّا إذا دَخَلَ الْحَرْبيُّ إلَيْنَا بأَمَانٍ، أوْ دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْب بأَمَانٍ، أوْ أسْلَمَ الزَّوْجَانِ فِي دَار الْحَرْب ثُمَّ خَرَجَ أحَدُهُمَا إلَيْنَا لَمْ يَبْطُلْ نِكَاحُهُمَا). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ ٱلْكَوَافِرِ ﴾؛ معناهُ: أنَّ المرأةَ الْمُسلِمَةَ إذا كَفرت والعياذُ باللهِ زالت العصمةُ بينها وبين زوجِها وانقطعَ النكاحُ بينهما. والكَوَافِرُ: جمعُ كَافِرَةٍ، نَهى اللهُ المؤمنين عن المقامِ على نكاحِ المشركات. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ ﴾؛ معناهُ: واطلبُوا من أهلِ مكَّة مهورَ النِّساء اللاتِي يخرُجنَ منكم إليهم مرتدَّاتٍِ، وليسأَلِ الكفَّارُ منكم ما أنفَقُوا على نسائِهم اللواتِي خرَجنَ إليكم مُهاجراتٍ.
﴿ ذَلِكُمْ حُكْمُ ٱللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ ﴾؛ بمصالِحكم.
﴿ حَكِيمٌ ﴾؛ فيما حكمَ بينكم وبينهم. قال الزهريُّ: (فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ أقَرَّ الْمُسْلِمُونَ بحُكْمِ اللهِ فَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَأَبَواْ أنْ يُقِرُّوا) فأنزلَ اللهُ تعالى: ﴿ وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى ٱلْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُواْ ٱلَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِّثْلَ مَآ أَنفَقُواْ ﴾؛ معناهُ: إنْ ذهبَتِ امرأةٌ من نسائِكم إلى الكفَّار فعاقَبتم أي فَضَحْتُمْ. قال الزجَّاجُ: (مَعْنَاهُ: فَكَانَتِ الْعُقْبَى لَكُمْ، أي كانت الغَلبةُ لكم حتى غَنِمتُم)، فأعطُوا أزواجَ الذين ذهبت نساؤُهم مثلَ ما أنفَقُوا من المهور، قبلَ أن تُقسَمَ الغنائمُ، ثم اقسموا الغنائمَ كما أمرَ اللهُ. وقولهُ تعالى: ﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيۤ أَنتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ﴾؛ أي اتقوهُ في مخالفةِ ما أمَرَكم بهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا جَآءَكَ ٱلْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَىٰ أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِٱللَّهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ ﴾؛" وذلك أنَّ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا فَتَحَ مَكَّةَ، جَلَسَ عِنْدَ الصَّفَا وَإلى جَنْبهِ عُمَرُ رضي الله عنه وَالنِّسَاءُ يَأْتِينَ يُبَايعْنَهُ صلى الله عليه وسلم وَفِيهِنَّ هِنْدٌ بنْتُ عُتْبَةَ مُتَنَكِّرَةٌ مَعَ النِّسَاءِ خَوْفاً أنْ يَعْرِفَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أُنْزِلَ هَذِهِ الآيَةَ، فَقَالَ: صلى الله عليه وسلم: " أبَايعْكُنَّ عَلَى أنْ لاَ تُشْرِكْنَ باللهِ شَيْئاً " فَقَالَتْ هِنْدٌ: أشْرَكْنَا وَعَبَدْنَا الآلِهَةَ فَمَا أغْنَتْ عَنَّا شَيْئاً. فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " وَلاَ تَسْرِقْنَ " فَقَالَتْ هِنْدٌ: إنَّ أبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ مُمْسِكٌ، وَإنِّي أُصِيبُ مِنْ مَالِهِ لِغِنَاهُ، وَلاَ أدْري أيَحِلُّ لِي أمْ لاَ؟ فَقَالَ أبُو سُفْيَان: مَا أصَبْتِ مِنْ شَيْءٍ فِيمَا مَضَى أوْ قَدْ بَقِيَ فَهُوَ لَكِ حَلاَلٌ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَعَرَفَهَا وَقَالَ: " إنَّكِ لَهِنْدُ بنْتُ عُتْبَةَ؟ " قَالَتْ: فَاعْفُ عَمَّا سَلَفَ يَا نَبيَّ اللهِ عَفَا اللهُ عَنْكَ. فَقَالَ: " وَلاَ تَزْنِينَ " قَالَتْ: وَهَلْ تَزْنِي الْحُرَّةُ؟ فَضَحِكَ عُمَرُ رضي الله عنه وَقَالَ: لاَ لَعَمْرِي مَا تَزْنِي الْحُرَّةُ، فَقَالَ: " وَلاَ تَقْتُلْنَ أوْلاَدَكُنَّ " فَقَالَتْ هِنْدُ: زَيَّنَّاهُمْ صِغَاراً وَقَتَلْتُمُوهُمْ كِبَاراً، وَكَانَ ابْنُهَا حَنْظَلَةُ بْنُ أبي سُفْيَانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَضَحِكَ عُمَرُ رضي الله عنه حَتَّى اسْتَلْقَى عَلَى ظَهْرِهِ، وَتَبَسَّمَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ". ومعنى الآية: ﴿ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ ﴾ أي لا يدفِنَّ بناتِهنَّ أحياءً كما كان العربُ يفعلونَهُ، فقال تعالى: ﴿ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَٰنٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ ﴾؛ أي لا تُلحِقُ بزوجِها وَلداً ليس منه، وذلك أنَّ المرأةَ كانت تلتقطُ لَقيطاً فتضعهُ بين يدَيها ورجلَيها وتقولُ لزوجِها: ولدتُ هذا الولدَ، فذاكَ البهتانُ والافتراءُ. ويقالُ: أرادَ بين الأيدِي أن يوضَعَ بين يدَيها ولدُ غيرها وبين أيدِيهنَّ أن يأتِين بولدٍ حرام، وهذا كنايةٌ عن الفرجِ، فلما قالَ عليه السلام، قَالَتْ هِنْدٌ: وَاللهِ إنَّ الْبُهْتَانَ لَقَبيحٌ وَمَا تَأْمُرُنَا إلاَّ بالرُّشْدِ وَمَكَارمِ الأَخْلاَقِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ﴾؛ أي وجميعُ ما تأمرُهنَّ وتنهاهُنَّ من النَّوحِ وشقِّ الجيوب وخَمْشِ الوُجوهِ ورنَّةِ الشيطانِ وغيرِ ذلك من أصواتِ المعصية ومن صوتِ اللَّعب واللهوِ والمزاميرِ وغير ذلك. والمعروفُ: كلُّ ما كان طاعةً، والمنكَرُ: كلُّ ما كان معصيةً، فلما قالَ صلى الله عليه وسلم: " وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ " قَالَتْ هِنْدُ: وَمَا جَلَسْنَا مَجْلِسَنَا هَذا وَفِي أنْفُسِنَا أنْ نَعْصِيَكَ فِي شَيْءٍ، فَأَقَرَّتِ النِّسْوَةُ بمَا أخَذ عَلَيْهِنَّ. وقولهُ تعالى: ﴿ فَبَايِعْهُنَّ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُنَّ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾؛ معناهُ: إذا بايعنَكَ على هذهِ الشُّروط فبايعهُن، فقال صلى الله عليه وسلم: " قَدْ بَايَعْتُكُنَّ " كلاماً كلَّمَهن به من غيرِ أن مسَّتْ يدهُ يدَ امرأةٍ، وكان على يدِ عُمر رضي الله عنه ثوبٌ يصافحُ به النساءَ. قال القَرَظيُّ: (وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ﴾ قَالَ: الْمَعْرُوفُ الَّذِي لاَ مَعْصِيَةَ فِيْهِ). وقال الربيعُ: (كُلُّ مَا يُوَافِقُ طَاعَةَ اللهِ فَهُوَ مَعْرُوفٌ). قال مجاهدُ: (غَيْرُ الْمَعْرُوفِ هُوَ خُلُوُّ الْمَرْأةِ بالرَّجُلِ). وعن سعيدِ بن المسيَّب: (أنَّ مَعْنَاهُ: وَلاَ يَحْلِقْنَ وَلاَ يَخْرِقْنَ ثَوْباً وَلاَ يَنْتِفْنَ شَعْراً وَلاَ يَخْمِشْنَ وَجْهاً وَلاَ يُحَدِّثْنَ الرَّجُلَ إلاَّ ذا رَحِمٍ مَحْرَمٍ، وَلاَ تَخْلُو الْمَرْأةُ برَجُلٍ غَيْرِ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ وَلاَ تُسَافِرُ مَعَ غَيْرِ ذِي رَحِمٍ). وقال ابنُ عبَّاس: (وَلاَ يَخُنَّ). وعن مصعب بن نوحٍ قال: (أدْرَكْتُ عَجُوزاً مِمَّنْ بَايَعْنَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فَحَدَّثَتْنِي عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ﴾ فَقَالَتْ: النَّوْحُ). وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" النَّوَائِحُ يُجْعَلْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَفَّيْنِ وَتَنْبَحُ كَمَا تَنْبَحُ الْكِلاَبُ ". وعن أنسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" تَخْرُجُ النَّائِحَةُ مِنْ قَبْرِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُعْثاً غُبْراً، عَلَيْهَا جِلْبَابٌ مِنْ لَعْنَةٍ وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ، وَاضِعَةً يَدَها عَلَى رَأسِهَا تَقُولُ: وَاوَيْلاَهُ، وَمَلَكٌ يَقُولُ: آمِينَ، ثُمَّ يَكُونُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ حَظُّهَا النَّارُ "وقال صلى الله عليه وسلم:" أرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنَ الْجَاهِليَّةِ لاَ يَتْرُكُونَهُنَّ: الْفَخْرُ فِي الأَحْسَاب، وَالطَّعْنُ فِي الأَنْسَاب، وَالاسْتِسْقَاءُ بالنُّجُومِ، وَالنَّيَاحَةُ "وقال:" النَّائِحَةُ إذا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا بعَامٍ جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطْرَانٍ ". وعن ابنِ عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال: [لَعَنَ اللهُ النَّائِحَةَ وَالْمُسْتَمِعَةَ وَالْحَالِقَةَ وَالسَّالِقَةَ وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُوْشُومَةَ].
وعن عمرَ رضي الله عنه: (أنَّهُ سَمِعَ نَائِحَةً فَضَرَبَهَا حَتَّى وَقَعَ خِمَارُهَا عَنْ رَأسِهَا، فَقِيلَ: يَا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ إنَّهَا قَدْ وَقعَ خِمَارُهَا، قَالَ: إنَّهَا لاَ حُرْمَةَ لَهَا).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً غَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ ﴾؛ ختمَ اللهُ هذه السُّورةَ بمثلِ كما افتتحَها به، حيث نَهَى المؤمنين عن تولِّي أعداءِ الله، وأرادَ بالقومِ الذين غَضِبَ اللهُ عليهم اليهودَ، والمعنى: يا أيُّها الذين آمَنَُوا لا تتوَلُّوا اليهودَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَدْ يَئِسُواْ مِنَ ٱلآخِرَةِ ﴾؛ لأنَّهم كانوا يعرِفُون النبيَّ صلى الله عليه وسلم كما يعرِفون أبنائَهم، وكانوا لا يُؤمنون به، فآيَسُوا من أن يكون لَهم في الآخرةِ خيرٌ. وَقِيْلَ: إنَّهم كانوا يزعُمون أنه لا يكون في الآخرةِ أكلٌ ولا شربٌ ولا نعمة، والمرادُ بذلك اليهودُ. وقولهُ تعالى: ﴿ كَمَا يَئِسَ ٱلْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ ٱلْقُبُورِ ﴾؛ معناهُ: كما يَئِسَ المشركون الذين لا يُؤمنون بالبعثِ من رُجوعِ أصحاب القبور ومِن أن يُبعَثوا. وَقِيْلَ: معناهُ: كما يَئِسَ الكفارُ إذا ماتوا وصارُوا في القبور من أنْ يكون لَهم في الآخرةِ حظٌّ، ويَئِسُوا من أنْ يكون لهم في الآخرةِ نصيبٌ.
Icon