تفسير سورة الطلاق

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة الطلاق من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

خوطب النبي صلى الله عليه سلم أولاً تشريفاً وتكريماً، ثم خاطب الأمة تبعاً فقال تعالى :﴿ ياأيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ﴾ وعن أنَس قال :« طلّق رسول الله حفصة فأتت أهلها فأنزل الله تعالى :﴿ ياأيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ﴾ فقيل له : راجعها، فإنها صوّامة قوامة، وهي من أزواجك ونسائك في الجنة » وروى البخاري « أن عبد الله بن عمر طلق امرأة له وهي حائض، فذكر عمر لرسول الله ﷺ، فتغيظ رسول الله ﷺ ثم قال :» ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهراً قبل أن يمسها، فتلك العدة التي أمر بها الله عزَّ وجلَّ « » وفي رواية لهم :« فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء » وقال عبد الله في قوله تعالى :﴿ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ﴾ قال : الطهر من غير جماع، وقال ابن عباس : لا يطلقها وهي حائض، ولا في طهر قد جامعها فيه، ولكن يتركها حتى إذا حاضت وطهرت طلقها تطليقة، وقال عكرمة :﴿ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ﴾ العدة الطهر، والقرء الحيضة أن يطلقها حبلى مستبيناً حملها ولا يطلقها وقد طاف عليها ولا يدري حبلى هي أم لا؟ ومن هاهنا أخذ الفقهاء أحكام الطلاق، وقسموه إلى طلاق سُنّة، وطلاق بدعة، فطلاق السنة أن يطلقها طاهرة من غير جماع، أو حاملاً قد استبان حملها، والبدعي هو أن يطلقها في حال الحيض، أو في طهر قد جامعها فيه، ولا يدري أحملت أم لا، وطلاق ثالث لا سنة فيه ولا بدعة وهو طَلاق الصغيرة والآيسة وغير المدخول بها، وتحرير الكلام مستقصى في كتب الفروع.
وقوله تعالى :﴿ وَأَحْصُواْ العدة ﴾ أي احفظوها واعرفوا ابتداءها وانتهاءها لئلا تطول العدة على المرأة فتمتنع من الأزواج، ﴿ واتقوا الله رَبَّكُمْ ﴾ أي في ذلك، وقوله تعالى :﴿ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ ﴾ أي في مدة العدة لها حق السكنى على الزوج ما دامت معتدة منه، فليس للرجل أن يخرجها ولا يجوز لها أيضاً الخروج لأنها متعلقة لحق الزوج أيضاً، وقوله تعالى :﴿ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ﴾ أي لا يخرجن من بيوتهن إلا أن ترتكب المرأة فاحشة مبينة، والفاحشة المبينة تشمل الزنا، وتشمل ما إذا نشزت المرأة أو بذت على أهل الرجل وآذتهم في الكلام والفعال، وقوله تعالى :﴿ وَتِلْكَ حُدُودُ الله ﴾ أي شرائعه ومحارمه ﴿ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله ﴾ أي يخرج عنها ويتجاوزها إلى غيرها ولا يأتمر بها ﴿ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ﴾ أي بفعل ذلك، وقوله تعالى :﴿ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً ﴾ أي لعل الزوج يندم على طلاقها ويخلق الله تعالى في قلبه رجعتها، قال الزهري عن فاطمة بنت قيس في قوله تعالى :﴿ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً ﴾ قالت : هي الرجعة، ومن هاهنا ذهب من ذهب من السلف إلى أنه لا تجب السكنى للمبتوتة أي المقطوعة، وكذا المتوفى عنها زوجها، واعتمدوا أيضاً على حديث ( فاطمة بنت قيس )
2568
« حين طلقها زوجها ( أبو عمرو بن حفص ) آخر ثلاث تطليقات، وكان غائباً عنها باليمن، فأرسل إليها بذلك، فأرسل إليها وكيله بشعير يعني نفقة فتسخطته، فقال : والله ليس لك علينا نفقة، فأتت رسول الله ﷺ فقال :» ليس لكِ عليه نفقة « »، ولمسلم :« ولا سكنى »، وأمرها أن تعتد في بيت أُم شريك، ثم قال :« تلك امرأة يغشاها أصحابي، اعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك » الحديث.
2569
يقول تعالى : فإذا بلغت المعتدات أجلهن، أي شارفن على انقضاء العدة وقاربن ذلك، ولكن لم تفرغ العدة بالكلية، فحينئذٍ إما أن يعزم الزوج على إمساكها، وهو رجعتها إلى عصمة نكاحه والاستمرار بها على ما كانت عليه عنده ﴿ بِمَعْرُوفٍ ﴾ أي محسناً إليها في صحبتها، وإما أن يعزم على مفارقتها ﴿ بِمَعْرُوفٍ ﴾ أي من غير مقابحة ولا مشاتمة ولا تعنيف، بل يطلقها على وجه جميل وسبيل حسن، وقوله :﴿ وَأَشْهِدُواْ ذَوَىْ عَدْلٍ مِّنكُمْ ﴾ أي على الرجعة إذا عزمتم عليها، كما روي عن عمران بن حصين أنه سئل عن الرجل يطلق المرأة، ثم يقع بها ولم يشهد على طلاقها ولا على رجعتها، فقال : طلّقت لغير سنة، ورجعت لغير سنة، أشهد على طلاقها وعلى رجعتها ولا تعد، وقال ابن جريج : كان عطاء يقول :﴿ وَأَشْهِدُواْ ذَوَىْ عَدْلٍ مِّنكُمْ ﴾ قال : لا يجوز في نكاح ولا طلاق ولا رجاع إلا شاهدا عدل، كما قال الله عزّ وجلّ إلا أن يكون من عذر، وقوله تعالى :﴿ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر ﴾ أي هذا الذي أمرناكم به من الإشهاد وإقامة الشهادة، إنما يأتمر به من يؤمن بالله واليوم الآخر، ومن يخاف عقاب الله في الدار الآخرة، وقوله تعالى :﴿ وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ ﴾ أي ومن يتق الله فيما أمره به، وترك ما نهاه عنه، يجعل له من أمره مخرجاً ﴿ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ ﴾ أي من جهة لا تخطر بباله.
عن عبد الله بن مسعود قال : إن أجمع آية في القرآن :﴿ إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان ﴾ [ النحل : ٩٠ ]، وإن أكبر آية في القرآن فرجاً :﴿ وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً ﴾. وفي المسند، عن عبد الله بن عباس قال، قال رسول الله ﷺ :« من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً ورزقه من حيث لا يحتسب » وقال ابن عباس :﴿ وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً ﴾ يقول : ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة، ﴿ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ ﴾، وقال الربيع من خيثم :﴿ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً ﴾ أي من كل شيء ضاق على الناس، ﴿ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ ﴾ أي من حيث لا يدري، وقال قتادة ﴿ وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً ﴾ أي من شبهات الأمور والكرب عند الموت، ﴿ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ ﴾ من حيث يرجو ولا يأمل، وقال السدي :﴿ وَمَن يَتَّقِ الله ﴾ يطلق للسنة، ويراجع للسنة، وزعم « أن رجلاً من أصحاب رسول الله ﷺ يقال له عوف بن مالك الأشجعي، كان له ابن وأن المشركين أسروه فكان فيهم، وكان أبوه يأتي رسول الله ﷺ فيشكو إليه مكان ابنه وحاله التي هو بها وحاجته، فكان رسول الله ﷺ يأمره بالصبر، ويقول له :» إن الله سيجعل لك فرجاً «، فلم يلبث بعد ذلك إلا يسيراً أن انفلت ابنه من أيدي العدوّ، فمر بغنم من أغنام العدو فاستاقها، فجاء بها إلى أبيه وجاء معه بغنم قد أصابه من المغنم »
2570
، فنزلت فيه هذه الآية :﴿ وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ ﴾. وروى الإمام أحمد، عن ثوبان قال، قال رسول الله ﷺ :« إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه، ولا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر » وعن عمران بن حصين قال، قال رسول الله ﷺ :« من انقطع إلى الله كفاه الله كل مؤنة، ورزقه من حيث لا يحتسب، ومن انقطع إلى الدنيا وكله إليها ».
وقوله تعالى :﴿ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ روى الإمام أحمد، عن ابن عباس :« أنه ركب خلف رسول الله ﷺ يوماً، فقال له رسول الله ﷺ :» يا غلام إني معلمك كلمات : احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف « » وقال الإمام أحمد، عن ابن مسعود، قال، قال رسول الله ﷺ :« من نزل به حاجة فأنزلها بالناس كان قمناً أن لا تسهل حاجته، ومن أنزلها بالله تعالى أتاه الله برزق عاجل أو بموت آجل » وقوله تعالى :﴿ إِنَّ الله بَالِغُ أَمْرِهِ ﴾ أي منفذ قضاياه وأحكامه في خلقه بما يريده ويشاؤه ﴿ قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً ﴾ كقوله تعالى :﴿ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ ﴾ [ الرعد : ٨ ].
2571
يقول تعالى مبيناً لعدة الآيسة، وهي التي قد انقطع عنها المحيض لكبرها، أنها ﴿ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ ﴾ عوضاً عن الثلاثة قروء في حق من تحيض، وكذا الصغار اللائي لم يبلغن سن الحيضن أن عدتهن كعدة الآيسة ثلاثة أشهر، ولهذا قال تعالى :﴿ واللائي لَمْ يَحِضْنَ ﴾. وقوله تعالى :﴿ إِنِ ارتبتم ﴾ فيه قولان : أحدهما : وهو قول طائفة من السلف أي إن رأين دماً وشككتم في كونه حيضاً أو استحاضه وارتبتم فيه، والقول الثاني : إن ارتبتم في حكم عدتهن ولم تعرفوه فهو ثلاثة أشهر، وهذا مروي عن سعيد بن جبير، وهو اختيار ابن جرير وهو أظهر في لمعنى لما روي عن أبي بن كعب قال : قلت : لرسول الله ﷺ : إن ناساً من أهل المدينة لما أنزلت هذه الآية في البقرة في عدة النساء قالوا : لقد بقي من عدة النساء عدد لم يذكرن في البقرة : الصغار والكبار اللائي قد انقطع منهم الحيض، وذوات الحمل، قال : فأنزلت التي في النساء القصرى :﴿ واللائي يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارتبتم فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ واللائي لَمْ يَحِضْنَ ﴾. وقوله تعالى :﴿ وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ﴾ يقول تعالى ومن كانت حاملاً فعدتها بوضعه ولو كان بعد الطلاق أو الموت بفواق ناقة، في قول جمهور العلماء كما هو نص هذه الآية الكريمة، وكما وردت به السنّة النبوية، وقد روي عن ( علي ) و ( ابن عباس ) رضي الله عنهم أنها تعتد بأبعد الأجلين من الوضع والأشهر، عملاً بهذه الآية والتي في سورة البقرة روى البخاري، عن أبي سلمة قال :« جاء رجُل إلى ابن عباس - وأبو هريرة جالس - فقال : أفتني في امرأة ولدت بعد زوجها بأربعين ليلة، فقال ابن عباس : آخر الأجلين، قلت : أنا ﴿ وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ﴾، قال أبو هريرة : أنا مع ابن أخي عين أبا سلمة فأرسل ابن عنباس غلامه كريباً إلى أُم سلمة يسألها، فقالت : قُتِل زوج ( سبيعة الأسلمية ) وهي حبلى، فوضعت بعد موته بأربعين ليلة، فخِطِبتْ فأنكحها رسول الله ﷺ، وكان أبو السنابل فيمن خطبها ».
وروى البخاري ومسلم :« أن سبيعة كانت تحت ( سعد بن خولة ) وكان ممن شهدا بدراً، فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته، فلما تعلّت من نفاسها تجملت للخطّاب، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك فقال لها : ما لي أراك متجملة؟ لعلك ترجين النكاح! إنك والله ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر، قالت سبيعة : فلما قال لي ذلك، جمعت عليَّ ثيابي حين أمسيت فأتيت رسول الله ﷺ فسألته عن ذلك، فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي وأمرني بالتزويج إن بدا لي »
2572
هذا لفظ مسلم، ورواه البخاري مختصراً، ثم قال البخاري بعد روايته الحديث الأول عند هذه الآية، وقال أبو سليمان بن حرب وأبو النعمان، حدَّثنا حماد بن زيد عن أيوب، عن محمد هو ابن سيرين قال : كنت في حلقة فيها عبد الرحمن بن أبي ليلى، وكان أصحابه يعظمونه فذكر آخر الأجلين، فحدثت بحديث سبيعة بنت الحارث عن عبد الله بن عتبة قال : فضمز لي بعض أصحابه، قال محمد : ففطنت له، فقلت له : إني لجريء أن أكذب على عبد الله، وهو في ناحية الكوفة قال : فاستحيا وقال : لكن عمه لم يقل ذلك، فلقيت أبا عطية منالك بن عامر، فسألته فذهب يحدثني بحديث سبيعة، فقلت : هل سمعت عن عبد الله فيها شيئاً؟ فقال : كمنا عند عبد الله فقال : أتجعلون عليها التغليظ ولا تجعلون عليها الرخصة؟ فنزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى :﴿ وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ﴾. وروى ابن جرير عن علقمة بن قيس أن عبد الله بن مسعود قال : من شاء لاعنته، ما نزلت ﴿ وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ﴾ إلا بعد آية المتوفى عنها زوجها، قال : وإذا وضعت المتوفى عنها زوجها فقد حلت يريد بآية المتوفى عنها ﴿ والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ﴾ [ البقرة : ٢٣٤ ] وقال : أبن أبي حاتم، عن مسروق قال : بلغ ابن مسعود أن علياً رضي الله عنه يقول آخر الأجلين، فقال : من شاء لاعنته إن التي في النساء القصرى نزلت بعد البقرة ﴿ وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً ﴾ أي يسهل له أمره وييسره عليه، ويجعل له فرجاً قريباً ومخرجاً عاجلاً، ثم قال تعالى :﴿ ذَلِكَ أَمْرُ الله أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ ﴾ أي حكمه وشرعه أنزله إليكم بواسطة رسول الله ﷺ ﴿ وَمَن يَتَّقِ الله يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً ﴾ أي يذهب عنه المحذور، ويجزل له الثواب على العمل اليسير.
2573
يقول تعالى آمراً عباده، إذا طلق أحدهم المرأة أن يسكنها في منزل، حتى تنقضي عدتها فقال :﴿ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم ﴾ أي عندكم ﴿ مِّن وُجْدِكُمْ ﴾ قال ابن عباس : يعني سعتكم، وقال قتادة : إن لم تجد إلا جنب بيتك فأسكنها فيه، وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيْهِنَّ ﴾ قال مقاتل بن حيان : يعني يضاجرها لتفتدي منه بمالها أو تخرج من مسكنه، وقال الثوري : يطلقها فإذا بقي يومان راجعها. وقوله تعالى :﴿ وَإِن كُنَّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ﴾ قال كثير من العلماء : هذه في البائن إن كانت حاملاً أنفق عليها حتى تضع حملها، قالوا : بدليل أن الرجعية تجب نفقتها سواء كانت حاملاً أو حائلاً، وقال آخرون : بل السياق كله في الرجعيات، وإنما نص على الإنفاق على الحامل وإن كانت رجعية، لأن الحمل تطول مدته غالباً، فاحتيج إلى النص على وجوب الإنفاق إلى الوضع، لئلا يتوهم أنه إنما تجب النفقة بمقدار مدة العدة، وقوله تعالى :﴿ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ ﴾ أي إذا وضعن حملهن وهو طوالق فقد بنَّ بانقضاء عدتهن، فإن أرضعت استحقت أجر مثلها، ولهذا قال تعالى :﴿ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ ﴾ أي ولتكن أُموركم فيما بينكم بالمعروف، من غير إضرار ولا مضارة، كما قال تعالى :﴿ لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ ﴾ [ البقرة : ٢٣٣ ]، وقوله تعالى :﴿ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أخرى ﴾ أي وإن اختلف الرجل والمرأة، فطلبت المرأة في أجرة الرضاع كثيراً ولم يجبها لرجع إلى ذلك، أو بذل الرجل قليلاً ولم توافقه عليه، فليسترضع له غيرها، فلو رضيت الأم بما استؤجرت به الأجنبية فهي أحق بولدها، وقوله تعالى :﴿ لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ ﴾ أي لينفق على المولود والده أو وليه بحسب قدرته، ﴿ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ الله لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ مَآ آتَاهَا ﴾، كقوله تعالى :﴿ لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾ [ البقرة : ٢٨٦ ]، روى ابن جرير، عن أبي سنان قال :« سأل عمر بن الخطاب عن أبي عبيدة، فقيل : إنه يلبس الغليظ من الثياب، ويأكل أخشن الطعام، فبعث إليه بألف دينار، وقال للرسول : انظر ما يصنع بهذا إذا هو أخذها؟ فما لبث أن لبس اللين من الثياب، وأكل أطيب الطعام فجاءه الرسول فأخبره، فقال رحمه الله تعالى : تأول هذه الآية ﴿ لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ الله ﴾ »، وقوله تعالى :﴿ سَيَجْعَلُ الله بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً ﴾ وعد منه تعالى، ووعده حق لا يخلفه، وهذه كقوله تعالى :﴿ فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً * إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً ﴾ [ الشرح : ٥-٦ ]، وقد روى الإمام أحمد، عن أبي هريرة قال :« دخل رجل على أهله، فلما رأى ما بهم من الحاجة خرج إلى البرية، فلما رأت امرأته قامت إلى الحى فوضعتها وإلى التنور فسجرته، ثم قالت : اللهم ازرقنا، فنظرت، فإذا الجفنة قد امتلأت، قال : وذهبت إلى التنور فوجدته ممتلئاً، قال : فرجع الزوج فقال : أصبتم بعدي شيئاً؟ قالت امرأته : نعم من ربنا، فأمّ إلى الرحى فذكر ذلك للنبي ﷺ فقال النبي ﷺ :» أما إنه لو لم ترفعها لم تزل تدور إلى يوم القيامة « ».
يقول تعالى متوعداً لمن خالف أمره، وكذَّب رسله وسلك غير ما شرعه، ومخبراً عما حل بالأمم السالفة بسبب ذلك فقال تعالى :﴿ وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ ﴾ أي تمردت وطغت واستكبرت عن اتباع أمر الله ومتابعة رسله، ﴿ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً ﴾ أي منكراً فظيعاً، ﴿ فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا ﴾ أي غب مخالفتها وندموا حيث لا ينفعهم الندم، ﴿ وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً * أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً ﴾ أي في الدار الآخرة مع ما عجَّل لهم من العذاب في الدنيا، ثم قال تعالى بعد ما قص من خبر هؤلاء :﴿ فاتقوا الله ياأولي الألباب ﴾ أي الأفهام المستقيمة لا تكونوا مثلهم فيصيبكم ما أصابهم يا أولي الألباب، ﴿ الذين آمَنُواْ ﴾ أي صدقوا بالله ورسله ﴿ قَدْ أَنزَلَ الله إِلَيْكُمْ ذِكْراً ﴾ يعني القرآن، كقوله تعالى :﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [ الحجر : ٩ ]، وقوله تعالى :﴿ رَّسُولاً يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِ الله مُبَيِّنَاتٍ ﴾، وقال بعضههم :﴿ رَّسُولاً ﴾ بدل اشتمال؛ لأن الرسول هو الذي بلغ الذكر، وقال ابن جرير : الصواب أن الرسول ترجمة عن الذكر يعني تفسيراً له، ولهذا قال تعالى :﴿ رَّسُولاً يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِ الله مُبَيِّنَاتٍ ﴾ أي في حال كونها بينة واضحة جلية، ﴿ لِّيُخْرِجَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنَ الظلمات إِلَى النور ﴾، كقوله تعالى :﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور ﴾ [ إبراهيم : ١ ]، وقوال تعالى :﴿ الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور ﴾ [ البقرة : ٢٥٧ ]، أي من ظلمات الكفر والجهل، إلى نور الإيمان والعلم، وقد سمى الله تعالى الوحي الذي أنزله ﴿ نُوراً ﴾ لما يحصل به من الهدى، كما سماه ﴿ رُوحاً ﴾ لما يحصل به حياة القلوب فقال تعالى :﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا ﴾ [ الشورى : ٥٢ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ الله لَهُ رِزْقاً ﴾ قد تقدم تفسير مثل هذا ولله الحمد والمنة.
يقول تعالى مخبراً عن قدرته التامة وسلطانه العظيم، ليكون ذلك باعثاً على تعظيم ما شرع من الدين القويم :﴿ الله الذي خَلَقَ سَبْعَ سماوات ﴾، كقوله تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ الله سَبْعَ سماوات طِبَاقاً ﴾ [ نوح : ١٥ ]، وقوله تعالى :﴿ وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ ﴾ أي سبعاً أيضاً، كما ثبت في الصحيحين :« من ظلم قيد شبر من الأرض طوّقه من سبع أرضين » وفي « صحيح البخاري » :« خسف به إلى سبع أرضين » وقد تقدم في سورة الحديد ذكر الأرضين السبع وبعد ما بينهن وكثافة كل واحدة منهن خمسمائة عام، وهكذا قال ابن مسعود وغيره، وكذا في الحديث الآخر :« ما السماوات السبع وما فيهن وما بينهن والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة »، وقال ابن جرير، عن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ سَبْعَ سماوات وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ ﴾ قال : لو حدثتكم بتفسيرها لكفرتم، وكفركم تكذيبكم بها «.
Icon