ﰡ
فَغَضِبَ النَّبيُّ ﷺ عَلَى حَفْصَةَ فَطَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً وَاعْتَزَلَ نِسَاءَهُ كُلَّهُنَّ، فَمَكَثَ سَبْعاً وَعِشْرِينَ لَيْلَةً يَنْتَظِرُ مَا يَنْزِلُ فِيْهنَّ، فَأَنْزَلَ اللهُ هذهِ الآياتِ. ومعناها : يا أيُّها النبيُّ لِمَ تحرِّمُ ما أحَلَّ اللهُ لكَ، ﴿ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ﴾ ؛ طالباً رضَى أزواجِكَ، ﴿ وَاللَّهُ غَفُورٌ ﴾ ؛ لِمَا كان منكَ من التحريمِ، ﴿ رَّحِيمٌ ﴾ ؛ بكَ حيث رخَّصَ لك الخروجَ منه بالكفَّارة، فأعتقَ رسولُ الله ﷺ رقبةً وعادَ إلى ماريَّة ".
ورُوي :" أنَّ حَفْصَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا اسْتَأْذنَتْ رَسُولَ اللهِ ﷺ فِي زيَارَةِ أبيهَا فِي يَوْمِهَا، فَأَذِنَ لَهَا وَهُوَ جَالِسٌ فِي بَيْتِهَا، فَمَضَتْ، فَأَرْسَلَ النَّبيُّ ﷺ إلَى جَارِيَتِهِ مَاريَّةَ الْقِبْطِيَّةَ فَأَدْخَلَهَا فِي حِضْنِهِ، وَكَانَ ذلِكَ فِي يَوْمِ حَفْصَةَ، فَلَمَّا رَجَعَتْ حَفْصَةُ وَجَدَتْ بَابَ بَيْتِهَا مُغْلَقاً، فَجَلَسَتْ عَلَى الْبَاب حَتَّى خَرَجَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَوَجْهُهُ يَقْطُرُ عَرَقاً وحَفْصَةُ تَبْكِي، فَقَالَ لَهَا :" مَا يُبْكِيكِ ؟ " قَالَتْ : إنَّمَا أذِنْتَ لِي بالزِّيَارَةِ مِنْ أجْلِ هَذا ؛ أدْخَلْتَ أمَتَكَ بَيْتِي وَوََقَعْتَ عَلَيْهَا فِي يَوْمِي وَعَلَى فِرَاشِي ؟ مَا رَأيْتَ لِي حُرْمَةً وَحَقّاً، مَا قَطُّ صَنَعْتَ هَذا بامْرَأةٍ مِنْ نِسَائِكَ ؟ فَقَالَ ﷺ :" هِيَ جَارِيَتِي فَلاَ أحَلَّهَا اللهُ، اسْكُتِي هِيَ عَلَيَّ حَرَامٌ، ألْتَمِسُ بذلِكَ رضَاكِ، وَلاَ تُخْبرِي بذلِكَ امْرَأةً مِنْهُنَّ، وَهَذِهِ أمَانَةٌ عِنْدَكِ ".
ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَقَامَتْ حَفْصَةُ عَلَى الْجِدَار الَّذِي كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ عَائِشَةَ، فَقَالَتْ لَهَا : ألاَ أبَشِّرُكِ يَا عَائِشَةُ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَدْ حَرَّمَ جَاريَتَهُ مَاريَّةَ، وَقَدْ أرَاحَنَا اللهُ مِنْهَا. وَكَانَتْ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ مُتَصَافِيَتَيْنِ مُتَظَاهِرَِتَيْنِ عَلَى سَائِرِ أزْوَاجِ النَّبيِّ ﷺ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عليه السلام فَأَخْبَرَهُ بذلِكَ، فَغَضِبَ عَلَى حَفْصَةَ وَقَالَ :" مَا حَمَلَكِ عَلَى ذلِكَ "، ثُمَّ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً ".
وقرأ الحسنُ البصري والكسائي وقتادة (عَرَفَ بَعْضَهُ) بالتخفيفِ أي غَضِبَ على حفصةَ مِن ذلك وجَارَاها فطلَّقَها، من قولِ القائل لِمَن أساءَ إليه : لأَعْرِفَنَّ لكَ ما فعلتَ ؛ أي لأُجازينَّكَ عليه، فجَازَاها رسولُ اللهَ ﷺ بأنْ طلَّقَها، فلما عَلِمَ عمرَُ رضي الله عنه بذلك قالَ : لَوْ كَانَ فِي آلِ الْخَطَّاب خَيْرٌ لَمَا طَلَّقَكِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
وَنَزَلَ جِبْرِيلُ إلَى النَّبيِّ ﷺ يَقُولُ لَهُ : رَاجِعْهَا فَإنَّهَا صَوَّامَةٌ قَوَّامَةٌ، وَهِيَ إحْدَى نِسَائِكَ فِي الْجَنَّةِ، فَرَاجَعَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. قال مقاتلُ :(لَمْ يُطَلِّقْ رَسُولُ اللهِ ﷺ حَفْصَةَ، وَإنَّمَا هَمَّ بهِ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ وَقَالَ لَهُ : لاَ تُطَلِّقْهَا فَإنَّهَا صَوَّامَةٌ قَوَّامَةٌ وَهِيَ مِنْ نِسَائِكَ فِي الْجَنَةِ، فَلَمْ يُطَلِّقْهَا)، وكان سفيانُ الثوريُّ يقول :(مَا اسْتَقْصَى كَرِيمٌ قَطٌّ، وَمَا زَالَ التَّغَافُلُ مَنْ فِعْلِ الْكِرَامِ، عَرَّفَ رَسُولُ اللهِ ﷺ حَفْصَةَ بَعْضَ مَا فَعَلَتْ، وَأعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ ﴾ ؛ أي لَمَّا أخبرَ حفصةَ بما أظهرَهُ اللهُ عليه، ﴿ قَالَتْ ﴾ ؛ لَهُ :﴿ مَنْ أَنبَأَكَ هَـاذَا ﴾ ؛ أي من أخبَركَ أنِّي أفشيتُ سِرَّكَ ؟ ﴿ قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ﴾.
وعن ابنِ عبِّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال :(حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخطَّاب رضي الله عنه قَالَ : لَمَّا اعْتَزَلَ النَّبيُّ ﷺ نِسَاءَهُ، دَخَلْتُ عَلَيْهِ وَأنَا أرَى فِي وَجْهِهِ الْغَضَبَ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ مَا شَقَّ عَلَيْكَ مِنْ أمْرِ النِّسَاءِ ؟ فَإنْ كُنْتَ طَلَّقْتَهُنَّ فَإنَّ اللهَ مَعَكَ وَمَلاَئِكَتَهُ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ، وَأنَا وَأبُو بَكْرٍ وَالْمَؤْمِنُونَ مَعَكَ، وَقَلَّمَا تَكَلَّمْتُ وَأحْمَدُ اللهَ بكَلاَمٍ، إلاَّ رَجَوْتُ أن يَكُونَ اللهُ يُصَدِّقُ قَوْلِي الَّذِي أقُولُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ﴿ وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ﴾ ).
وعن ابنِ عبَّاس قالَ :(سَأَلْتُ عُمَرَ رضي الله عنه فَقُلْتُ : يَا أمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنِ الْمَرْأتَانِ اللَّتَانِ تَظَاهَرَا عَلَى النَّبيِّ ﷺ ؟ قَالَ : عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ).
ثُمَّ أخَذ عُمَرُ رضي الله عنه يَسُوقُ الْحَدِيثَ قَالَ :(كُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ قُوْماً نَغْلِبُ نِسَاءََنَا، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَجَدْنَا قَوْماً تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَتَعَلَّمْنَ مِنْ نِسَائِهِمْ، قَالَ : فَغَضِبْتُ عَلَى امْرَأتِي فَإذا هِيَ تُرَاجِعُنِي، فأَنْكَرْتُ أنْ تُرَاجِعَنِي، فَقَالَتْ : وَمَا يُنْكَرُ أنْ أُرَاجِعَكَ ؟ فَوَاللهِ إنَّ أزْوَاجَ رَسُولِ اللهِ ﷺ لَيُرَاجِعْنَهُ وَتَهْجُرُهُ إحْدَاهُنَّ الْيَوْمَ إلَى اللَّيْلِ. قَالَ : فَانْطَلَقْتُ فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَقُلْتُ : أتُرَاجِعِينَ رَسُولَ اللهِ ﷺ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ، قُلْتُ : وَتَهْجُرُهُ إحْدَاكُنَّ الْيَوْمَ إلَى اللِّيْلِ ؟ قَالَتْ نَعَمْ، قُلْتُ : أفَتَأْمَنُ إحْدَاكُنَّ أنْ يَغْضَبَ اللهُ لِغَضَب رَسُولِهِ فإذَا هِيَ هَلَكَتْ؟! لاَ تُرَاجِعِي رَسُولَ اللهِ ﷺ وَسَلِينِي مَا بَدَا لَكِ، وَلاَ يَغُرَّكِ إنْ كَانَتْ جَارَتَكِ هِيَ أوْسَمُ وَأحَبُّ إلَى رَسُولِ اللهِ مِنْكِ) يَعْنِي عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا.
قرأ أهلُ الكوفة (تَظَاهَرَا عَلَيْهِ) بالتخفيفِ، وقرأ الباقون بالتشديدِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ ﴾ ؛ أي على النار ملائكةٌ غِلاَظُ الأخلاقِ شِدَادٌ أقوياءُ الأخذِ والعقوبةِ، يدفعُ الواحدُ منهم في الدفعةِ الواحدة سبعين ألْفاً في جهنَّمَ، لم يخلُقِ الله فيهم شيئاً مِن الرحمةِ، ﴿ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ ﴾ ؛ من تعذيبٍ أهلِها، ﴿ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ ؛ من ذلك، جعلَ اللهُ سُرورَهم في تعذيب المعذبين كما جعلَ سُرورَ المؤمنين في الجنَّة. وجاء في الخبرِ :" أنَّ الْمَلَكَ مِنْهُمْ يَكْسِرُ عِظَامَ الْمُعَذب، فيَقُولُ لَهُ : ألاَ تَرْحَمُنِي ؟ فَيَقُولُ لَهُ : كَيْفَ أرْحَمُكَ وَأرْحَمُ الرَّاحِمِينَ لَمْ يَرْحَمْكَ ".
قَالَ ابنُ مسعودٍ :(التَّوْبَةُ النَّصُوحُ أنْ تُكَفِّرَ كُلَّ سَيِّئَةٍ)، وقال أبو ذرٍّ :(النَّصُوحُ : الصَّادِقَةُ) أي يتُوبوا توبةً صادقةً، يقالُ : نَصحتُه أي صدَّقتُه. وَقِيْلَ : النَّصُوحُ المستقيمةُ الُمُتْقَنَةُ التي لا يلحقُها النقصُ والإبطالُ. وقال الفُضيل :(التَّوْبَةُ النَّصُوحُ : أنْ يَكُونَ الذنْبُ نُصْبَ عَيْنَيْهِ، وَلاَ يَزَالُ كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إلَيْهِ)، وقال أبُو بكرٍ الورَّاقُ :(هُوَ أنْ تَضِيقَ الأَرْضُ عَلَيْكَ بَما رَحُبَتْ، وَتَضِيقَ عَلَيْكَ نَفْسُكَ كَتَوْبَةِ الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا). وقال الدقَّاقُ :(هِيَ رَدُّ الْمَظَالِمِ، وَاسْتِحْلاَلُ الْخُصُومِ، وَإدْمَانُ الطَّاعَاتِ).
وقال ذو النُّون :(عَلاَمَتُهَا ثَلاَثَةُ أشْيَاءٍ : قِلَّةُ الْكَلاَمِ، وَقِلَّةُ الطَّعَامِ، وَقِلَّةُ الْمَنَامِ). وقال بعضُهم : هي أن يكون لصاحبها دمعٌ مسفوح وقلبٌ من المعاصِي جموحٌ، فإذا كان كذلك فيه توبةٌ نصوحٌ.
وقال فتحُ الْمَوْصِليُّ :(عَلاَمَتُهَا ثَلاَثَةٌ : مُخَالَفَةُ الْهَوَى، وَكَثْرَةُ الْبُكَاءِ، وَمُكَابَدَةُ الْجُوعِ وَالظَّمَأ). وقال شقيقُ الْبَلْخِيُّ :(هِيَ أنْ يُكْثِرَ صَاحِبُهَا لِنَفْسِهِ الْمَلاَمَةَ، وَلاَ يُقْلِعُ مِنَ النَّدَامَةِ). وقال الجنيدُ :(هِيَ أنْ يَنْسَى مَا سِوَى اللهِ، وَلاَ يَذْكُرُ إلاَّ اللهَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ﴾ ؛ هذا وعدٌ من اللهِ لأنَّ ﴿ عَسَى ﴾ من الله واجبَةٌ، والصَّلواتُ الخمسُ كفَّاراتٌ لما بينهنَّ ما اجتُنِبَتِ الكبائرُ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِى اللَّهُ النَّبِيَّ ﴾ ؛ أي يُكرِمُ اللهُ تعالى المؤمنين بهذه الكرامةِ في يومٍ لا يسوءُ اللهُ النبيَّ ولا يُخجِلُهُ وَلا يسوء ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ ﴾ ؛ والمعنى : لا يُدخِلُهم اللهُ النارَ.
وقوله :﴿ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ﴾ ؛ ليدلهم في الجنَّة، ﴿ وَبِأَيْمَانِهِمْ ﴾ ؛ يعني نورَ كتابهم الذي يُعطونَهُ بها، ﴿ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا ﴾ ؛ أي يقولون ذلك بعدَ ما ذهبَ نورُ المنافقِين، والمعنى : أتْمِمْ لنا نُورَنا على الصِّراطِ إلى أن ندخلَ الجنة، ﴿ وَاغْفِرْ لَنَآ ﴾ ؛ ما سَلَفَ من ذُنوبنا، ﴿ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ ؛ من إتْمَامِ النور والمغفرة، فيجيبُ الله دعاءَهم ويفعلُ ذلك لَهم، فيكون الصِّراطُ على المؤمنين كما بين صنعاءَ والمدينة، يمشِي عليه بعضُهم مثلَ البرقِ، وبعضُهم مثلَ الريحِ، وبعضهم كعَدْو الفرسِ، وبعضهم يمشِي وبعضهم يزحفُ، ويكون على الكافرين كحدِّ السيف مذهبه.
وقال الحسنُ :(كَانُوا أكْثَرَ مَنْ كَانَ يُصِيبُ الْحُدُودَ فِي ذلِكَ الزَّمَانِ الْمُنَافِقُونَ، فَأَمَرَ اللهُ أنْ يُغْلِظَ عَلَيْهِمْ فِي إقَامَةِ الْحَدِّ). وعن ابنِ مسعود قال :(إذا لَمْ تَقْدِرُوا أنْ تُنْكِرُوا عَلَى الْفَاجِرِ - فـ - بوُجُوهٍ مَكْفَهِرَّةٍ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً ﴾ ؛ أي لم يَدفَعَا عنهما عذابَ اللهِ، أعلَمَ اللهُ تعالى أنَّ أحداً لا يُجزِي عن أحدٍ شيئاً، وأنَّ الإنسان لا ينجُو إلاّ بعملهِ، وقطعَ الله بهذه الآيةِ طمعَ مَن رَكِبَ المعصيةَ، ورجَا أن ينفعَهُ صلاحُ غيرهِ، وأخبرَ الله تعالى أن معصيةَ غيرهِ لا تضرُّه إذا كان مُطيعاً وهو قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ﴾.
فكانت الملائكةُ تُظِلُّها بأجنحتِها وأبصَرتِ الجنَّة وهي كذلكَ فقالَتْ :﴿ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ ﴾، فاستجابَ اللهُ دعاءَها وألحقَها بالشُّهداء، ولم تجدْ ألَماً من عذاب فرعون لأنَّها قالت :﴿ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ ؛ أي الكافرين أهلِ دين فرعون. وليس في هذه الآيةِ أنَّ فرعون قتلَها، وقد اختُلِفَ في ذلك، والأقربُ أنه أجابَ اللهُ دعاءَها فنجَّاها من فرعون وقومهِ.
وفي قولهِ تعَالَى في الآيةِ الأُولى ﴿ وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ﴾ تخويفٌ لحفصةَ وعائشة، كأنه قالَ لعائشةَ وحفصة لا تَكُونا بمنْزِلة امرأةِ نوحٍ ولوط في المعصيةِ، وكُونا بمنْزِلة امرأةِ فرعون ومريمَ.
وقولهُ تعالى :﴿ وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا ﴾ ؛ والشرائعِ التي شرَعَها اللهُ في كُتبه المنَزَّلة، وقرأ عيسى الجحدري والحسن (بكَلِمَةِ رَبهَا) على التوحيدِ يعنُونَ عيسَى عليه السلام. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَكُتُبِهِ ﴾ ؛ أي وصدَّقت بكُتب الله تعالى وهو التوراةُ والإنجيل والفرقانُ وصُحف ابراهيم وموسى وداودَ، وقرأ أبو عمرٍو ويعقوب (وَكُتُبهِ) بالجمعِ، وتفسيرهُ ما ذكرناه، وقرأ الباقون (وَكِتَابهِ) على الواحدِ، والمرادُ به الإنجيل.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ﴾ ؛ أي من الْمُطِيعِينَ للهِ، وقال عطاءُ :(مِنَ الْمُصَلِّينَ، كَانَتْ تُصَلِّي بَيْنَ الْمَغْرِب وَالْعِشَاءِ) تقديرهُ : وكانت من القَوْمِ القَانتِين، ولم يقُل منَ القانتاتِ ؛ لأنَّ متعبَّدَها كان في المسجدِ مع العُبَّادِ.
وعن رسول الله ﷺ أنه قال :" كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمَلْ مِنْ النِّسَاءِ إلاَّ مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ، وَآسْيَةُ أمْرَأةُ فِرْعَوْنَ، وَإنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى سَائِرِ النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ " وقال ﷺ :" سَيِّدَاتُ نِسَاءِ أهْلِ الْجَنَّةِ أرْبَعٌ : مَرْيَمُ وَآسْيَةُ وَخَدِيجَةُ وَفَاطِمَةُ ".
وعن معاذِ بن جبلٍ قال :" دَخَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَى خَدِيجَةَ وَهِيَ تَجُودُ بنَفْسِهَا فَقَالَ :" أتَكْرَهِينَ مَا نَزَلَ بكِ يَا خَدِيجَةُ وَقَدْ جَعَلَ اللهُ فِي الْكَرْهِ خَيْراً كَثِيراً، فَإذا قَدِمْتِ عَلَى ضَرَّاتِكِ فَأَقْرِئيهِنَّ مِنِّي السَّلاَمَ " قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللهِ وَمَنْ هُنَّ ؟ قَالَ :" مَرْيَمُ بْنتُ عِمْرَانَ، وَآسْيَةُ بنْتُ مُزَاحِمٍ، وَكَلِيمَةُ بنْتُ عِمْرَانَ أُخْتِ مُوسَى "، فقَالَتْ : بالرَّفَاهِ وَالْبَنِينِ ".