تفسير سورة التحريم

أحكام القرآن
تفسير سورة سورة التحريم من كتاب أحكام القرآن .
لمؤلفه الجصاص . المتوفي سنة 370 هـ

قال الله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ ﴾ رُوي في سبب نزول الآية وجوه، أحدها : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشرب ويأكل عند زينب، فتواطأت عائشة وحفصة على أن تقولا له نجد منك ريح المغافير، قال :" بَلْ شَرِبْتُ عِنْدَها عَسَلاً ولَنْ أَعُودَ لَهُ "، فنزلت :﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّم مَا أَحَلَّ الله لَكَ ﴾. وقيل : إنه شرب عند حفصة، وقيل عند سودة، وأنه حرم العسل ؛ وفي بعض الروايات :" والله لا أَذُوقُهُ ". وقيل : إنه أصاب مارية القبطية في بيت حفصة، فعلمت به فجزعت منه، فقال لها :" أَلاَ تَرْضِين أَنْ أُحَرِّمها فلا أقْرَبها " ؟ قالت : بلى ؛ فحرّمها وقال :" لا تَذْكُري ذَلِكَ لأَحَدٍ "، فذكرته لعائشة، فأظهره الله عليه وأنزل عليه :﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ ﴾ الآية ؛ رواه محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبيدالله بن عبدالله عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب بذلك.
قال أبو بكر : وجائز أن يكون الأمْرَانِ جميعاً قد كانا من تحريم مارية وتحريم العسل، إلا أن الأَظْهَرَ أنه حَرَّمَ مارية وأن الآية فيها نزلت ؛ لأنه قال :﴿ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ ﴾، وليس في ترك شُرْبِ العَسَل رِضَا أزواجه، وفي ترك قُرْبِ مارية رضاهنّ. فرُوي في العسل أنه حرّمه، ورُوي أنه حلف أن لا يشربه. وأما مارية فكان الحسن يقول : حرّمها ؛ ورَوَى الشعبي عن مسروق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آلَى وحَرَّمَ، فقيل له : الحرام حلال وأما اليمين فقد فرض الله لكن تِحَلَّةَ أيمانكم. وقال مجاهد وعطاء :" حرَّم جاريته "، وكذلك رُوي عن ابن عباس وغيره من الصحابة. وأما قول من قال إنه حرم وحلف أيضاً، فإن ظاهر الآية لا يدل عليه وإنما فيها التحريم فقط، فغير جائز أن يُلْحَقَ بالآية ما ليس فيها، فوجب أن يكون التحريم يميناً لإيجاب الله تعالى فيها كفارة يمين بإطلاق لفظ التحريم.
ومن الناس من يقول : لا فرق بين التحريم واليمين، لأن اليمين تحريم للمحلوف عليه والتحريم أيضاً يمين ؛ وهذا عند أصحابنا يختلف في وجه ويتفق في وجه آخر، فالوجه الذي يوافق اليمين فيه التحريم أن الحنث فيهما يوجب كفارة اليمين، والوجه الذي يختلفان فيه أنه لو حلف أنه لا يأكل هذا الرغيف فأكل بعضه لم يحنث، ولو قال :" قد حرّمت هذا الرغيف على نفسي " فأكل منه اليسير حنث ولزمته الكفارة ؛ لأنهم شبَّهوا تحريمه الرغيف على نفسه بمنزلة قوله والله لا أكلتُ من هذا الرغيف شيئاً، تشبيهاً له بسائر ما حرَّمه الله من الميتة والدم أنه اقتضى تحريم القليل منه والكثير.
واختلف السلف في الرجل يحرّم امرأته، فرُوي عن أبي بكر وعمر وابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عمر :" أن الحرام يمين "، وهو قول الحسن وابن المسيب وجابر بن زيد وعطاء وطاوس. ورُوي عن ابن عباس روايةً مِثْلُه، ورُوي عنه غير ذلك. وعن عليّ بن أبي طالب وزيد بن ثابت روايةً وابن عمر روايةً وأبي هريرة وجماعة من التابعين قالوا :" هي ثلاث ". ورَوَى خَصيف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه كان يقول في الحرام بمنزلة الظهار. ورَوَى منصور عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال :" النذر والحرام إذا لم يسمَّ مغلظة، فتكون عليه رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكيناً ". وروى ابن جبير عن ابن عباس أيضاً :" إذا حرم الرجل امرأته فهي يمين يكفّرها، أما لكم في رسول الله أسوة حسنة ! " وهذا محمول على أنه إذا لم تكن له نيّة فهو بمنزلة يمين، وأنه إن أراد الظهار كان ظهاراً.
وقال مسروق :" ما أُبالي إيّاها حرمتُ أو قصعة من ثريد ". وعن أبي سلمة بن عبدالرّحمن :" ما أبالي حرمتُ امرأتي أو ماءً فُراتاً ". قال أبو بكر : وليس فيه دلالة على أنهم لم يَرَوْهُ يميناً ؛ لأنه لا جائز أن يكون قولهما في تحريم الثريد والماء أنه يمين، فكأنهما لم يريا ذلك طلاقاً ؛ وكذلك نقول إنه ليس بطلاق إلا أن ينويه، فلم تظهر مخالفة هذين لمن ذكرنا قولهم من الصحابة واتفاقهم على أن هذا القول ليس بلَغْوٍ وأنه إما أن يكون يميناً أو طلاقاً أو ظهاراً.
واختلف فقهاء الأمصار في الحرام، فقال أصحابنا :" إن نَوَى الطلاق فواحدة بائنة إلا أن ينوي ثلاثاً، وإن لم يَنْوِ طلاقاً فهو يمين وهو مُولٍ ". وذكر ابن سماعة عن محمد :" أنه إن نوى ظهاراً لم يكن ظهاراً ؛ لأن الظهار أصله بحرف التشبيه ". وروى ابن شجاع عن أبي يوسف في اختلاف زفر وأبي يوسف :" أنه إن نوى ظهاراً كان ظهاراً ". وقال ابن أبي ليلى :" هي ثلاث ولا أسأله عن نيته ". وقال مالك فيما ذَكَرَ عنه ابن القاسم :" الحرامُ لا يكون يميناً في شيء إلا أن يحرّم امرأته فيلزمه الطلاق، وهو ثلاثٌ، إلا أن ينوي واحدة أو ثنتين فيكون على ما نَوَى ". وقال الثوري :" إن نوى ثلاثاً فثلاثٌ، وإن نوى واحدة فواحدةٌ بائنةٌ، وإن نوى يميناً فهي يمين يكفّرها، وإن لم يَنْوِ فرقة ولا يميناً فليس بشيء هي كذبةٌ ". وقال الأوزاعي :" هو على ما نَوَى، وإن لم يَنْوِ شيئاً فهو يمين ". وقال عثمان البتي :" هو بمنزلة الظهار ". وقال الشافعي :" ليس بطلاق حتى ينوي فإذا نَوَى فهو طلاق على ما أراد من عدده، وإن أراد تحريمها بلا طلاق فعليه كفّارة يمين وليس بمُولٍ ".
قال أبو بكر : قد جعل أصحابُنا التحريم يميناً إذا لم تقارنه نيةُ الطلاق إذا حرّم امرأته، فيكون بمنزلة قوله لها :" والله لا أقربك " فيكون مُولِياً، وأما إذا حرّم غير امرأته من المأكول والمشروب وغيرهما فإنه بمنزلة قوله :" والله لا آكل منه ووالله لا أشرب منه " ونحو ذلك، لقوله تعالى :﴿ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ ﴾ ثم قال :﴿ قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ﴾، فجعل التحريم يميناً، فصارت اليمين في مضمون لفظ التحريم ومقتضاه في حكم الشرع، فإذا أطلق كان محمولاً على اليمين إلا أن ينوي غيرها فيكون ما نَوَى، فإذا حرم امرأته وأراد الطلاق كان طلاقاً لاحتمال اللفظ له ؛ وكل لفظ يحتمل الطلاق ويحتمل غيره فإنه متى أراد به الطلاق كان طلاقاً، والأصل فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم لركانة حين طلّق امرأته البتّة :" بالله ما أَرَدْتَ إِلاّ وَاحِدَةً " فتضمن ذلك معنيين، أحدهما : أن كل لفظ يحتمل الثلاث ويحتمل غيرها فإنه متى أراد الثلاث كان ثلاثاً، لولا ذلك لم يستحلفه عليها. والثاني : أنه لم يلزمه الثلاث بوجود اللفظ وجعل القول قوله للاحتمال فيه، فصار ذلك أصلاً في أن كل لفظ يحتمل الطلاق وغيره أنّا لا نجعله طلاقاً إلا بمقارنة الدلالة لإرادة الطلاق. ومما يدلّ على أن اللفظ المحتمل للطلاق يجوز إيقاع الطلاق به وإن لم يكن طلاقاً في نفسه، أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لسودة :" اعْتَدِّي " ثم راجعها فأوقع الطلاق بقوله :" اعتدّي " لاحتمال له، ولا نعلم أحداً من السلف منه إيقاع الطلاق بلفظ التحريم، ومن قال منهم هو يمين فإنما أراد به عندنا إذا لم تكن له نية الطلاق ولم تقارنه دلالة الحال. وزعم مالك أنّ من حرم على نفسه شيئاً غير امرأته أنه لا يلزمه بذلك شيء وأن ذلك ليس بيمين، وقد ذكرنا ما اقتضى قوله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ ﴾ من كونه يميناً، لقوله تعالى :﴿ قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ﴾، وأنه لا يجوز إسقاط موجب هذا اللفظ من الكون الحرام يميناً برواية من رَوَى أن النبي صلى الله عليه وسلم حلف أن لا يشرب العسل، إذْ غير جائز الاعتراض على حكم القرآن بخبر الواحد ؛ ولأن من رَوَى اليمين يجوز أن يكون إنما عَنَى به التحريمَ وحده إذ كان التحريم يميناً. ويدلّ من جهة النظر على أن التحريمَ يمينٌ أن المحرّم للشيء على نفسه قد اقتضى لفظه إيجاب الامتناع منه كالأشياء المحرمة، وذل في معنى النذر وقول الله :" لله عليَّ أن لا أفعل ذلك "، فلما كان النذر يميناً بالسنّة واتفاق الفقهاء وجب أن يكون تحريم الشيء بمنزلة النذر فتجب فيه كفارة يمين إذا حنث كما تجب في النذر.
مطلب : يجب علينا تعليم أولادنا وأهلينا
وقوله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً ﴾ ؛ رُوي عن عليّ في قوله :﴿ قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ﴾ قال :" علموا أنفسكم وأهليكم الخير ". وقال الحسن :" تعلمهم وتأمرهم وتنهاهم ". قال أبو بكر : وهذا يدل على أن علينا تعليم أولادنا وأهلينا الدين والخير وما لا يُسْتَغْنَى عنه من الآداب، وهو مثل قوله تعالى :﴿ وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها ﴾ [ طه : ١٣٢ ]، ونحو قوله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم :﴿ وأنذر عشيرتك الأقربين ﴾ [ الشعراء : ٢١٤ ]. ويدل على أن للأقرب فالأقرب منا مَزِيّة به في لزومنا تعليمهم وأمرهم بطاعة الله تعالى، ويشهد له قول النبي صلى الله عليه وسلم :" كُلّكُمْ رَاعٍ وكُلُّكُمْ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ "، ومعلوم أن الراعي كما عليه حِفْظُ من اسْتُرْعِيَ وحمايته والتماس مصالحه فكذلك عليه تأديبه وتعليمه ؛ وقال عليه السلام :" فالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْهُمْ والأَمِيرُ رَاعٍ عَلَى رَعِيَّتِهِ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْهُمْ ". وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا إسماعيل بن الفضل بن موسى قال : حدثنا محمد بن عبدالله بن حفص قال : حدثنا محمد بن موسى السعدي عن عمرو بن دينار قهرمان آل الزبير عن سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" ما نَحَلَ وَالِدٌ وَلَداً خَيْراً مِنْ أَدَبٍ حَسَنٍ ". وحدثنا عبدالباقي قال : حدثنا الحضرمي قال : حدثنا جبارة قال : حدثنا محمد بن الفضل عن أبيه عن عطاء عن ابن عباس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم :" حَقُّ الوَلَدِ عَلَى وَالِدِهِ أَنْ يُحْسِنَ اسْمَهُ ويُحْسِنَ أَدَبَهُ ". وحدثنا عبدالباقي قال : حدثنا عبدالله بن موسى بن أبي عثمان قال : حدثنا يحيى بن معين قال : حدثنا محمد بن ربيعة قال : حدثنا محمد بن الحسن بن عطية قال : حدثنا محمد بن عبدالرحمن عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إِذَا بَلَغَ أَوْلادُكُمْ سَبْعَ سِنِينَ فَعَلِّمُوهُمُ الصَّلاةَ، وإِذَا بَلَغُوا عَشْرَ سِنِينَ فَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا، وفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ في المَضَاجِعِ ".
قوله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ﴾. قال الحسن :" أكثر من كان يصيب الحدود في ذلك الزمان المنافقون، فأمر أن يغلظ عليهم في إقامة الحد ". وقيل :" جهاد المنافقين بالقول وجهاد الكفار بالحرب ". وقال أبو بكر : فيه الدلالة على وجوب الغِلْظَةِ على الفريقين من الكفار والمنافقين ونَهْيٌ عن مقارنتهم ومعاشرتهم، ورُوي عن ابن مسعود قال :" إذا لم تقدروا أن تنكروا على الفاجر فالْقَوْهُ بوجه مُكْفَهِرّ ".
قوله تعالى :﴿ فَخَانَتَاهُمَا ﴾، قال ابن عباس :" كانتا منافقتين ما زنت امرأة نبيّ قَطّ " ؛ وكانت خيانتهما أن امرأة نوح عليه السلام كانت تقول للناس إنه مجنون، وكانت امرأة لوط عليه السلام تدل على الضيف.
Icon