تفسير سورة التحريم

تفسير الماتريدي
تفسير سورة سورة التحريم من كتاب تأويلات أهل السنة المعروف بـتفسير الماتريدي .
لمؤلفه أبو منصور المَاتُرِيدي . المتوفي سنة 333 هـ
سورة التحريم وهي مدنية١
١ ن م، في الأصل: مكية..

سُورَةُ التَّحْرِيمِ وهي مدنية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٢) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (٣) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (٤) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (٥).
قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ).
هذا في الظاهر فظيع بأن يحرم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ما أحل اللَّه له، ومن قال بأنه حرم ما أحل اللَّه، فقد قال قولا منكرًا، ولو اعتقد ذلك كان كفرا منه؛ إذ من حرم ما أحل الله تعالى كان كافرا، ومن كان اعتقاده في رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - هذا، فهو كافر.
وقال أبو بكر الأصم: دلت هذه الآية على أن ليس لأحد أن يحرم ما أحله اللَّه تعالى؛ لأن اللَّه تعالى منع رسوله عن ذلك.
لكن الأمر عندنا ليس على ما ظنه أبو بكر، ولا على ما سبق إليه ظن بعض الجهال: أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حرم شيئًا أحله اللَّه تعالى، ومن توهم هذا في رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فقد حكم على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالكفر.
وتأويله عندنا - واللَّه أعلم -: على وجهين:
أحدهما: أن تحريم ما أحل تعالى هو أن يعتقد تحريم المحلل، وتحليل المحرم فيما حرم اللَّه تعالى مطلقًا، فمن اعتقد تحريمه حكم عليه بالكفر، ورسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يعتقد تحريم ما أحل اللَّه تعالى؛ إذ لم ير جماعها عليه محرما، بل امتنع عن الانتفاع بها باليمين، والحرمة التي ثبتت بسبب اليمين، لم تكن من فعل الآدمي، وإن ثبتت بمباشرة السبب منه؛ كالتحريم بالطلاق وبغيره من الأسباب، وإنَّمَا تثبت من اللَّه تعالى عقيب مباشرة الأسباب من العباد، كسائر الأحكام، كيف وأنه باليمين لا تثبت حرمة نفس
75
الفعل، وإنما المحرم ترك تعظيم اللَّه تعالى الواجب بسبب اليمين، وهذا لا يعد تحريم الحلال وتحليل الحرام.
أو أريد بالتحريم منع النفس عن ذلك مع اعتقاده بكونه حلالا، لا أن يكون قصد به قصد تحريم عينه، وقد يمتنع المرء عن تناول الحلال؛ لغرض له في ذلك؛ وهو كقوله تعالى: (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ)، ولم يرد به تحريم عينه، ولا التحريم الشرعي؛ إذ الصبي ليس من أهله، وإنما أريد به امتناعه من الارتضاع إلا من ثدي أمه، فعلى ذلك هاهنا، واللَّه أعلم.
والثاني: أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان ندب إلى حسن العشرة مع أزواجه، وإلى الشفقة عليهن، والرحمة بهن، فبلغ في حسن العشرة والصحبة معهن مبلغا امتنع عن الانتفاع بما أحل اللَّه له، وأباح له التلذذ به؛ يبتغي به حسن عشرتهن، ويطلب به مرضاتهن، فقال: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ)، أي: لا يبلغنَّ بك الشفقة عليهن وحسن العشرة معهن مبلغا تمتنع عن الانتفاع بما أحل اللَّه لك؛ فيخرج هذا مخرج تخفيف المؤنة على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في حسن العشرة معهن، لا مخرج النهي والعتاب عن الزلة؛ وهو كقوله تعالى: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ)، تخفيفًا للأمر عليه، وكذلك قال: (وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ)، ليس في الحقيقة نهيًا عن السخاء على النهاية، لكن تخفيفًا للأمر عليه: أن ليس عليك الإسراف في السخاء والنهاية في ذلك؛ بحيث لم تُبق لنفسك وعيالك شيئًا وتؤثر غيرك؛ فعلى ذلك قوله: (لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) خارج مخرج تخفيف المؤنة عليه في حسن العشرة، لا مخرج النهي، واللَّه أعلم.
ثم اختلف أهل التأويل في سبب التحريم:
فمنهم من ذكر أن حفصة - رضي اللَّه عنها - زارت أهلها، والنبي - عليه السلام - في بيت حفصة، فجاءت أم إبراهيم مارية القبطية حتى دخلت على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فواقعها، فجاءت حفصة، وهما نائمان فرجعت إلى بيت أهلها، فمكثت عامة الليل... القصة، وقالت حفصة في آخر هذا الخبر: ما رأيت لي حرمة، وما عرفت لي حقًّا، فقال لها النبي - عليه السلام -: " اكتمي عليَّ، وهي علَيَّ حرام "، فنزلت هذه الآية.
76
ومنهم من يذكر: أن ذلك اليوم كان يوم عائشة - رضي اللَّه عنها - فاطلعت حفصة على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وجاريته مارية، فأمرها رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن تكتم عليه، فأخبرت حفصةُ بما رأت عائشةَ - رضي اللَّه عنها - فغضبت عائشة، فلم تزل بنبي اللَّه حتى حرمها، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية.
وقال عكرمة: نزلت الآية في امرأة يقال لها: أم شريك وهبت نفسها للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فلم يقبلها النبي - عليه السلام - طلبا مرضاة أزواجه؛ فنزلت الآية، واللَّه أعلم.
ومنهم من قال: إن الذي حرمه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان عسلا، كان رسول اللَّه - عليه السلام - شربه عند بعض نسائه، فقالت امرأة من نسائه لصاحبتها: إذا جاءك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقولي له: ما ريح المغافير فيك؟ فقالت للنبي؛ فحرمه النبي - عليه السلام - فنزلت هذه الآية.
وليس لنا إلى تعرف السبب الذي وقع التحريم به، ولا إلى تعيين الشيء الذي حرمه النبي - عليه السلام - حاجة، ولكنا نعلم أن الأمر الذي كان فهو جرى بينه وبين زوجاته.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
أي: غفور لما تقدم من ذنبك وما تأخر لو كان.
أو يكون رحيما؛ حيث لم يعاقبك بما اجترأت من الإقدام على اليمين؛ لا بإذن سبق من اللَّه تعالى لك فيه.
أو غفور رحيم عليك وعلى زوجتيك إن تابتا ولم تعودا إلى صنيعهما.
أو غفور رحيم بما خفف عليك من مؤنة العشرة، ولم يحمل عليك ما حملت على نفسك.
وقوله - تعالى -: (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٢).
فمنهم من يحمل هذا على ابتداء الخطاب، ويصرف المراد إلى غير رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لأن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قد كان غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ بحكم وعد اللَّه - تعالى - فلم يكن يحتاج إلى التكفير، لإزالة المأثم.
ولكن نحن نقول: إن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إن كان هذا محله، فهو وأمته في أحكام الشرائع مأخوذون، ويكون على هذا مغفرة زلاته: ما تقدم وما تأخر بمباشرة أسبابها من التوبة والكفارة، ونحو ذلك؛ فيكون قوله تعالى: (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ) منصرفا إلى
77
النبي - عليه السلام - وأمته.
ثم يجوز أن يكون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قصد إلى التحريم أعني: منع نفسه عن الانتفاع بها مع اعتقاد الحل لا إلى اليمين؛ فجعل اللَّه تعالى ذلك منه يمينا؛ فيكون فيه دلالة على أن التحريم يمين؛ ولهذا قال أصحابنا - رحمهم اللَّه -: إن من قال لامرأته: " أنت عليَّ حرام "، ولا نية له، فهو يمين.
وجائز أن يكون أفصح بالحلف؛ فكنى عنه باليمين.
ثم قوله: (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ) على قراءة العامة، وفي بعض القراءات: (قد فرض اللَّه لكم كفارة أيمانكم).
ووجه الفرض فيه: أن الأمم من قبل، لم تكن يؤذن لهم بالحنث في اليمين، ولا أن يحلوا منها بالكفارة، ألا ترى إلى قوله تعالى: (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ)، فلم يأذن له بالحنث وأباح له الضرب، ثم أباح لهذه الأمة حل اليمين بالحنث والكفارة، فنسب الحل إلى الكفارة، ومرة إلى انحلالها بنفسها من جهة الحنث.
ثم قوله: (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ) أي: وسع عليكم، وأحل لكم تحلة اليمين؛ ففي هذا أن كل ما ذكر فيه (كتب لكم)، أو: (فرض لكم)، فهو في موضع الإباحة والتوسيع، وما ذكر فيه (عَلَيْكُمُ) فهو على الإيجاب والإلزام؛ قال اللَّه تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ)، وقال: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ)، وذلك كله في موضع الوجوب، وقال اللَّه تعالى: (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ)، معناه: أباح لكم الدخول فيها.
وقوله تعالى: (وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ).
أي: أولى بكم فيما امتحنكم من الكفارة وغيرها.
أو (وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ)، أي: أولى بكم في نصركم والدفع عنكم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ).
أي: (الْعَلِيمُ) بمصالحكم أو مقاصدكم، أو بما تسرون وما تعلنون، أو بما كان ويكون، (الْحَكِيمُ): هو الذي لا يلحقه الخطأ في التدبير، أو حكيم بما حكم عليكم من تحلة الأيمان، واللَّه أعلم.
ثم في قوله: (الْعَلِيمُ) إلزام المراقبة والمحافظة، ودعاء إلى التبصر والتيقظ في
78
كل ما يتعاطاه المرء من الأفعال، ويأتي به من الأقوال.
وفي قوله: (الْحَكِيمُ) دعاء إلى التسليم بحكم اللَّه تعالى؛ إذ الحكيم لا يحكم على أحد إلا بما فيه حكمة وفائدة؛ فلزمه تسليم النفس لحكمه على وجه الحكمة فيه أو جهله.
ثم الأصل بعد هذا: أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أبيح له نكاح التسع، وأمر بأن يحسن صحبتهن ويبتغي مرضاتهن، والمرء يعسر عليه صحبة الأربع بحسن العشرة، ويتعذر عليه القسم والقيام بمرضاتهن جميعًا، فكيف إذا امتحن بصحبة التسع؟! فكانت المحنة على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في أمر النساء أعسر منه على غيره، وأمر مع هذا أيضًا بمعاملة الخلق مع اختلاف هممهم وأطوارهم بأحسن المعاملة، ولكن اللَّه تعالى لما امتحنه بما ذكرنا آتاه من الأخلاق الحميدة والشمائل المرضية ما خف بها عليه هذه المحنة، وسهل عليه المعاملة مع الجملة، وآتاه من القوة ما ملك بها حفظ حقوقهن وإرضاء جملتهن، حتى بلغ في حسن العشرة وابتغاء المرضاة ما عوتب عليه، وبلغ من جهده في الإسلام إلى أن قيل: (عَبَسَ وَتَوَلَّى)، وبلغ في الشفقة والرحمة على الأمة إلى أن قيل له: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ)، وقال: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)، وكان من عظيم خلقه ما جاوز خلقه قوة نفسه، فكادت نفسه تهلك فيه.
ثم في قيامه - عليه السلام - بما يوفي حقوق التسع ويرضيهن دلالةُ نبوته ورسالته؛ لأن الناس إنما يقوون على الجماع بما يصيبون من فضل الأطعمة والأغذية، ثم هم مع أصابتهم فضول الأطعمة والأشياء اللذيذة يفْتُرون عن إيفاء حقوق الأربع، وقد كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - آثر الزهدَ في الدنيا، وقلت رغبته في مطاعمها ومشاربها، وكان مع ذلك يفي بحقوقهن، فعلم بهذا أنه إنما وصل إلى ما ذكرنا بما قواه اللَّه - تعالى - عليه وأقدره، لا بالحيل والأسباب، ثم أزواج رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - امتُحِنَ بالقيام بوفاء حق رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وأن ينظرن إليه بعين التبجيل والتعظيم، فكانت المحنة عليهن أشد من المحنة على غيرهن من النساء مع أزواجهن؛ لأن المرأة قلما تسلم عن رفع [صوتها] على صوت زوجها، إذا لم يكن له امرأة سواها، فكيف إذا كانت معها أخرى، ثم هن لو رفعن أصواتهن على صوت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أوجب ذلك إحباط عملهن؛ على ما قال تعالى: (وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ
79
بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ)؛ فلا يجوز أن يمتحن بهذه الكلفة الشديدة والمحنة العظيمة إلا بما شرح اللَّه تعالى صدورهن ويفسح قلوبهن؛ لاحتمال ذلك.
ثم المحنة علينا بعد هذا أشد من المحنتين اللتين ذكرناهما؛ لأنا امتحنا بمعرفة ما ضمنته هذه الآية والاعتقاد بذلك وهي قوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) فالذي علينا من المحنة أن نصرف الأمر إلى وجه لا يلحق رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - به ثَمَّ بنقص؛ فيسلم من المؤاخذة؛ فجائز أن يصرف إلى ما ذكرنا من تخفيف الأمر على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فتكون الآية في موضع تخفيف الأمر عليه ليس في موضع النهي، وإن خرجت مخرج النهي في الظاهر.
وجائز أن يكون العتاب؛ لمكان مارية، إن كانت قصة التحريم من أجلها؛ لأن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما أذن له بإمساك مارية، ولم يندب إلى تزويجها لتصل إلى قضاء شهوتها من قبل الأزواج، فإنما تتوصل إلى قضاء شهوتها برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ثم هو بتحريمها على نفسه لم يمنع عنها الحق، إذ الأمة لا حظ لها في القسم؛ فيلحقه العتاب من هذه الجهة، ولكن لما كان لها فيه مطمع، وهو بالتحريم قطع طمعها، فقيل له: (لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) قضاء تلك الشهوة، أي: لم تمنع نفسك عن قضاء شهوة أباحها اللَّه تعالى لها، فيكون في العتاب دعاء له إلى أن يعمل بأحد الوجهين:
أحدهما: وهو أن يوصلها إلى ما طمعت منه لا أن يقطع طمعها عنه، وإن لم يكن لها فيما طمعت حق، واللَّه أعلم.
والمحنة الثانية علينا: ألا ننسب إلى أزواج رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ما تكره أنفسنا نسبة مثله إلى الأمهات؛ لأن لأزواجه علينا حق الأمهات، فإن أمكنا أن نخرج من أمرهن وجهًا يسلم عن تنقصهن فعلنا، وإلا أمسكنا عن ذكره؛ خشية التنقص، وترك التبجيل والتعظيم؛ ألا ترى إلى قول اللَّه تعالى: (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا)، وهكذا الواجب على كل مؤمن ألا يظن بأزواج رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ورضي عنهن إلا خيرًا، وألا ينظر إليهن إلا بعين التعظيم، وقال أيضًا: (سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ)، وإذا كان هذا حقهن علينا فلا يجب أن نذكر زلتهن كانت كيت وكيت؛ لما يتوهم أن يكون زلتهن دون الذي خطر على بالنا فنكون قد أعظمنا القول
80
فيهن؛ فيصيبنا من ذلك عذاب عظيم؛ كما قال: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ).
ولقائل أن يقول في قوله: (هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ): من أي وجه صار بهتانا عظيما، ونساء رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يكن معصومات، بل كان يتوهم منهن الصنع الذي رمين به؟!
فجوابه: أن أزواجه كن بالمحل الذي إذا ابتلين بزلة: سرًّا، أو جهرًا أطلع اللَّه تعالى ذلك نبيه - عليه السلام - ألا ترى أن إحداهن لما أفشت سر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى أخرى أطلع اللَّه - تعالى - نبيه على ذلك، فإذا كان لا يستر عليهن هذا القدر من الزلة، فكيف يستر عليهن فعل الزنى منهن؟! ولو وجد من التي رميت فعل الزنى، لكان يسبق الاطلاع من اللَّه تعالى لرسوله - عليه السلام - قبل أن يجري به التحدث على ألسن الخلق، فإذا لم يسبق أوجب ذلك المعنى براءة ساحتها عما رميت به، وصار الرامي لها به قائلا بالبهتان والزور.
وفي هذه الآية دلالة جواز العمل بالاجتهاد لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لا بإذن سبق من الله تعالى؛ إذ لو كان الإذن سابقًا، لما عوتب عليه؛ لما ذكرنا: أنه لم يعاتب لزلة ارتكبها حتى يكون فيه منع عن العمل بالاجتهاد، وإنما عوتب لمكان ما حمل على نفسه من فضل المؤنة في العشرة.
ثم الأصل: أن الإماء لا حظ لهن في القسم، ولسن لهن من الأيام ما يكون مثله للحرائر حتى كان يقسم لها فيؤدي فيه حقها، وقد أذن له في إمساكها وألا يزوجها؛ فلا يجوز ألا يؤمر بتزويجها، ثم هو لا يسكن شهوتها، ثم هو إنما يصل إلى قضاء وطرها وتسكين شهوتها في يوم ذلك اليومُ لزوجة من زوجاته، فجائز أن يكون اللَّه تعالى أكرمه أن يسكن شهوتها ويأتيها من حيث لا يعلم أزواجه بذلك، ثم أطلع بعض نسائه على فعله ليعلمن أن المحنة عليهن بعد العلم وقبل العلم واحدة، وأن عليهن أن يعظمن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وألا يحملهن الغيرة على الاستقبال له بالمكروه والنظر إليه بالتنقص؛ إذ لم يكن عليهن فيما يأتي تلك الأمة في أيامهن تقصير في حقهن؛ إذ كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أعطي من القوة في الجماع ما يطوف على جميع نسائه في ليلة واحدة.
81
وأما ما ذكر أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان كف نفسه عن شرب العسل، فذلك يحتمل أيضًا، ولكن ما ذكر من تحريم مارية أمكن؛ لأنه لا يحتمل أن يكون لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في شرب العسل من الرغبة ما يدخل على نسائه المكروه لأجله، وجائز أن يلحقهن في استمتاعه بأمته مكروه فيحملهن ذلك على ما ذكر.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (٣).
دل قوله: (فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ) أنه قد طلب منها إسرار ذلك الحديث الذي أسر إليها، وليس بنا حاجة إلى تعرف الحديث الذي أسر إليها.
وفيه دلالة: أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إنما علم بإفشائها سره إلى صاحبتها باللَّه تعالى، وهو قوله: (وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ).
فقوله: (عَرَّفَ) قرئ بالتخفيف والتشديد، فمن قرأه بالتشديد، فهو على أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عرفها بعض ما أنبأت من القصة التي أسر إليها، ولم يعرفها البعض؛ لأنه لم يكن القصد من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يخبرها بذلك النبأ الذي أسر به إليها، وإنما كان المقصود منه تنبيهها بما أظهرت من السر، وأفشت إلى صاحبتها؛ لتنزجر إلى المعاودة إلى مثله، والبعض من ذلك يعلمها ما يعلم الكل، فلم يكن إلى إظهار الكل حاجة.
وذكر في بعض الأخبار أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال لها: " ألم أقل لك "؟! وسكت عليه، وفي هذا آية لرسالته ومنعهن عن إسرار ما يحتشمن عن إبداء مثله لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فإنهن إن فعلن ذلك، أظهر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ذلك؛ فيعلم ما يسرون.
ومن قرأه (عَرَفَ) بالتخفيف، فهو يحمله على الجزاء فيقول: (عَرَفَ بَعْضهُ) أي:
جزى عن بعض ما استوجبته بإفشاء السر، وأعرض عن بعض الجزاء؛ يقول الرجل لآخر: عرف حقي فعرفت له حقه، أو عرفت حقي فسأعرف حقك، أي: أقوم بجزاء ذلك، وذكر في الأخبار أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - طلق حفصة تطليقة، ثم نزل جبريل - عليه السلام - فقال له: راجعها؛ فإنها صوامة قوامة، وإنها لزوجتك في الجنة؛ فجائز أن يكون، طلاقه إياها جزاء لبعض صنيعها.
ثم من الناس من يختار إحدى القراءتين على الأخرى، فيقرأ إحداهما ويرغب عن الأخرى، وذلك مما لا يحل؛ لأن الأمرين جميعًا قد وجدا، وهو الجزاء والتعريف، فجمع اللَّه تعالى الأمرين جميعًا في آية واحدة، وفصل بين الأمرين بالإعراب؛ فليس لأحد أن يؤثر إحدى القراءتين على الأخرى؛ وهذا كقوله تعالى في قصة موسى - عليه السلام - (لقد علمتُ)، و (عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، وقد علم موسى - عليه السلام - وعلم فرعون اللعين، فقد كان الأمران جميعًا، فجمع اللَّه تعالى بين الأمرين جميعًا في آية واحدة؛ فلا يحل لأحد أن يقرأ بأحد الوجهين ويمتنع عن الوجه الآخر؛ فكذلك هذا في قوله تعالى: (رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا)، و (بَاعَدَ بَيْنَ أَسْفَارِنَا)، فمن قرأه (بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا) حمله على الدعاء، ومن قرأه (باعَدَ) حمله على الإخبار، وقد كان الأمران جميعًا: الدعاء والإخبار؛ فليس لأحد أن يؤثر أحدهما على الآخر، فعلى ذلك الحكم في قوله: (عَرَفَ بعضه) و (عَرَّفَ بَعْضَهُ)، واللَّه أعلم.
وقد وصفنا تأويل قوله: (الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) فيهما ما يدعو الإنسان إلى المراقبة والتيقظ.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (٤).
في هذه الآية دلالة أن الحديث الذي أفشي كان بين زوجتين؛ لأن قوله: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) ويدل على ذلك، فإنه كان أسر النبي - عليه السلا - عند إحداهما، ومنعها أن تفشي إلى الأخرى فأفشت، لكنا لا نعلم أن ذلك الحديث كان ماذا؟ لكنه كان منهما ما يجوز أن تعاتبا به وتدعيا إلى التوبة؛ لقوله: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ)، وإن خفي ذلك علينا، ثم إذا عرفنا أن اللَّه - تعالى - جعل عقوبتهن وتأديبهن أشد من العقوبة على غيرهن بقوله: (مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ)، فيجوز أن يندبن إلى التوبة بأدنى زلة حقها التجاوز عن غيرهن.
ثم قوله: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) فجائز أن يكون قوله: (إِن) زيادة في الكلام، وحقه الحذف، فيكون معناه: توبا إلى اللَّه؛ فقد صغت قلوبكما، ويوقف عليه ثم يبدأ بقوله: (وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ).
وجائز أن يكون حقه الإثبات، فلا يكون حرف (إِن) زيادة، ويكون معناه: إن تتوبا
83
إلى اللَّه، وإلا فإن اللَّه هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين فيكون الجزاء فيه مضمرًا.
وجائز أن يكون جزاء صنيعهن أن يطلقهن، فكأنه قال: إن تتوبا إلى اللَّه وإلا طلقكن، فيكون في هذا أنه حبب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إليهن حتى اشتد عليهن الطلاق، وخرج الطلاق مخرج العقوبة لهن على صنيعهن، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا).
أي: مالت عن الحق الذي لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عليكما، وحق الرسول - عليه السلام - حق عظيم يرد فيه العتاب بأدنى تقصير.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ).
هذا في الظاهر معاتبة؛ فينبغي أن يذكر على المخاطبة، فيقال: وإن تظاهرتما عليه، كما قال تعالى: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ)، قيل: جائز أن يكون معنى قوله: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ) تامًّا ورجعت على إرادة المعاتبة، وإن كان اللفظ لفظ المخاطبة، ولكن الصحيح: أن قوله: (وَإِنْ تَظَاهَرَا) على المخاطبة، معناه: وإن تتظاهرا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ).
حق هذا أن يقف عليه ثم يقول: (وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ)؛ حتى لا يتوهم أن غير اللَّه تعالى مولاه، ثم ذكر هذا إبلاغ في التهويل، وإلا فالواحد من هَؤُلَاءِ المذكورين يكفي لأزواج رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وكذلك في ذكر عقوبتهن إذا وجد منهن الخلاف في قوله: (يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ).
والأصل: أن المبالغة في التأديب مما يعين المؤدب على حفظ الحدود، وكذلك المجاوزة في حد العقوبة معونة له في تأديب النفس؛ حتى يملك حفظ نفسه عما تدعو إليه نفسه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ).
قيل: (وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ): أبو بكر وعمر - رضي اللَّه عنهما - وذكر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما طلق حفصة دخل عليها عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال: " لو علم اللَّه - تعالى - في آل عمر خيرا ما طلقك رسول اللَّه "، فنزل جبريل - عليه السلام - على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -
84
يأمره بمراجعتها، وذكر أنها صوامة قوامة؛ فجائز أن تكون حفصة - رضي اللَّه عنها - تصوم النهار وتقوم الليل في غير نوبتها؛ فلا يعلم بذلك رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فأطلعه جبريل - عليه السلام - على ذلك.
وروي عن أبي أمامة الباهلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " (وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) أبو بكر وعمر "، رضي اللَّه عنهما.
وقيل: هم الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام.
وذكر عن الحسن أنه قال: (وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) من لم يسر نفاقا ولا أظهر فسقا، ثم خص من المؤمنين الصالحين منهم، ولم يعم جملة المؤمنين، فهذا - واللَّه أعلم - لأنه لو ذكر المؤمنين على الإجمال لدخل فيه الزوجان اللتان تظاهرتا؛ لأن إصغاء القلب لا يخرجهما عن أن تكونا من جملة المؤمنين؛ ولأنه ذكر هذا في موضع المعونة في أمر الدِّين، وصالح المؤمنين هم الذين يقومون بالمعونات في أمر الدِّين.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (٥).
وعلى قول المعتزلة: لا يملك أن يبدل خيرا منهن؛ إذ لا يقدر على أن يجعل في أحد خيرا على قولهم، ولا يملك أن يبدله أزواجا؛ لأنه لا يقدر -على زعمهم- على أن يجعل أحدا من النسوان زوجة لأحد من الرجال، وإنَّمَا المشيئة والاختيار إلى المتزوج والمتزوجة، والفعل منهما.
وعلى قولنا: يملك أن يجعل الخير لمن شاء فيما شاء، وله أن يجعل من النسوان زوجة لمن شاء من الرجال، فهذه الآية تشهد بالصدق؛ لمقالتنا، وترد على المعتزلة قولهم؛ لأنه جعل الإبدال إلى نفسه؛ بقوله: (يُبْدِلَهُ)، وعلى قولهم لا يملك أن يفي بما وعد، ثم في هذه الآية إباحة الإبدال وإباحة الطلاق لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وفي قوله: (لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ)، حظر الإبدال؛ فجائز أن يكون قوله: (لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ)، مقدما، وقوله: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ) متأخرًا؛ فيصير ما تقدم منسوخا بهذه الآية، والذي يدل على صحة هذا ما روي عن عائشة - رضي اللَّه عنها - أنها قالت: " ما خرج رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من الدنيا حتى أحلت له النساء "، فثبت أن الحظر كان متقدما ثم وردت الإباحة من بعد، فتحمل الآيتان على التناسخ؛ ليرتفع التناقض من بينهما.
85
وجائز أن يكون حظر عليه الإبدال إذا قصد بالطلاق قصد الإبدال بما أعجبه من الحسن؛ كما قال: (وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ...) الآية، فإذا كان قصده من الطلاق الإبدال، كان ذلك محظورا عليه، وإذا لم يقصد بالطلاق قصد الإبدال، ولكن يقصد به قصد المجازاة للخلاف الذي ظهر، أبيح له ذلك، ثم اللَّه تعالى يبدله خيرا من المطلقة وهو ليس يقصد بالطلاق في قوله: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ) قصد الإبدال، وإذا كان كذلك، سلمت الآيتان عن التناقض.
وذكر عن أُبي بن كعب - رضي اللَّه تعالى عنه - أنه سئل: أكان يحل لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إبدال امرأة بامرأة؟ فقال: بلى، فسئل عن قوله تعالى: (لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ)، فقال: هذا منصرف إلى من هن من وراء المسميات؛ وهو كقوله تعالى: (وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ...) إلى قوله: (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ)، فذكر بنات العم وبنات الخال والأجنبيات، وحظر عليه من سواهن من المحارم، فيكون فيه إبانة أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قد كان حظر عليه تزوج محارمه من ذوي الرحم كما حظر على غيره؛ إذ هو موضع الإشكال: أنه لما حل له زيادة على الأربع، يحل له ذوات الأرحام من المحارم، فزال الإشكال به.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خَيْرًا مِنْكُنَّ).
فجائز أن يكون خيرا منهن للرسول - عليه السلام - لا أن يكن خيرا في أنفسهن؛ لأنه قال: (مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ)، وقد كان أزواجه على هذا الوجه: (مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ)؛ ألا ترى إلى ما ذكر أن جبريل - عليه السلام - قال لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: راجع حفصة؛ فإنها صوامة قوامة، والذي يدل على هذا أيضًا في آخر هذه الآية: (ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا) وقد وجدت هاتان الصفتان في أزواجه؛ فثبت أن معناه ما ذكرنا.
وجائز أن يكن خيرا منهن أيضًا في أنفسهن من حيث الجمال والنسب، ونحو ذلك.
أو يصرف (خَيْرًا مِنْكُنَّ) لما يتركن الخلاف لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولا يتظاهرن عليه، ويكن هَؤُلَاءِ دونهن إذا التزمن الخلاف، ودُمْنَ على التظاهر، فأما إذا أمسكن عن الخلاف وتُبْنَ عما سبق من الخلاف فهن وغيرهن بمحل واحد.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ).
86
قد بينا أن كل مسلم مؤمن في التحصيل؛ لأن معنى الإسلام والإيمان واحد؛ إذ الإسلام: هو أن يجعل الأشياء كلها لله خالصة سالمة لا يشرك فيها غيره، والإيمان: التصديق، وهو أن يصدق أن اللَّه تعالى رب كل شيء، وإذا صدقته أنه رب كل شيء فقد جعلت الأشياء كلها سالمة له، أو تصدق كلًّا فيما يشهد لله تعالى في الربوبية بجوهره، فثبت أن كل واحد منهما يقتضي ما يقتضيه الآخر من المعنى، فإذا ذكر أحدهما بالإفراد، فقي ذكره ذكر الآخر، وإذا جمع في الذكر، صرف هذا إلى وجه، وهذا إلى وجه، وهذا كما ذكرنا في التقوى أنه يقتضي معنى الإحسان إذا ذكر مفردا؛ لأن التقوى هو أن يتقي من المهالك، والاتقاء عن المهالك يقع باكتساب المحاسن، وإذا ذكرا معا صرف التقوى إلى الاتقاء من الكفر والإحسان إلى فعل الخيرات، وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " لم يؤمن من لم يأمن جاره بوائقه "، وقال: " المسلم من سلم الناس من لسانه ويده "، فصرف هذا إلى وجه وهذا إلى وجه، وهما في التحصيل واحد؛ لأنهم إذا أمنوا بوائقه فقد سلموا من لسانه ويده.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَانِتَاتٍ).
قيل: مطيعات.
وقيل: القائمات بالليالي للصلاة، وهذا أشبه؛ لأنه ذكر السائحات بعد هذا، والسائحات
الصائمات، وذكر الصيام بالنهار، فيكون تأويل القانتات راجعا إلى قيام الليل؛ ليكون فيه إحياء الليل والنهار بالعبادة؛ ولذلك قال جبريل - عليه السلام - في وصف حفصة - رضي اللَّه عنها -: " إنها صوامة قوامة " أي صوامة بالنهار وقوامة بالليل، وذكر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه سئل عن أفضل الأعمال، فقال: " طول القنوت "، وهو القيام بالليل.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَائِبَاتٍ).
هن اللائي لا يصررن على الذنب، بل يفزعن إلى اللَّه تعالى بالتوبة والتضرع إذا ابتلين بالخطيئة.
وقوله: (عَابِدَاتٍ).
87
ذكر أبو بكر أن العابد لا يسمى: عابدا حتى يتطوع، فإن كان على هذا، ففيه أنهن يقمن بأداء الفرائض، ويتطوعن مع ذلك.
وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - أنه قال: " كل عبادة في القرآن فهي توحيد؛ فالعابدات: الموحدات "، والموحد هو الذي يصدق أن خالق الخلق كله واحد لا شريك له؛ فجائز أن يكون العابد موحدا؛ لأنه يعمل لله تعالى خالصا لا يشرك في عبادته أحدا؛ فيكون فيه معنى التوحيد ولكن من حيث الفعل؛ فيكون أحد التوحيدين بالقول والثاني بالمعاملة والفعل.
وقيل: العابد هو الذي يؤدي الفرائض.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَائِحَاتٍ).
هو الذي يسيح في الأرض بغير زاد، فسمي الصائم: سائحا؛ لما كف نفسه عن التناول من الزاد، فقوله: (سَائِحَاتٍ) أي: صائمات.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا) ولم يرد بهذا أنه ينشئ نسوة أبكارا وثيبات، ولكن معناه: أنه يبدله من كن بهذا الوصف، ثم جمع بين الثيبات والأبكار؛ لأن الثيبات مما يقل رغبة الخلق فيهن، وينفر عنه الطبع، فجمع بينهما في موضع الامتنان على الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لئلا تصرف كل الرغبة إلى الأبكار، بل يتزوجوا الثيبات كما يتزوجون الأبكار، والله أعلم.
* * *
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (٦) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٨) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٩).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا).
88
يحتمل أن يكون معناه: قوا أنفسكم مما تدعو إليه أنفسكم؛ لأن الأنفس تأمرهم بالسوء وتدعوهم إليه؛ كما قال اللَّه تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ).
وجائز أن يكون قوله تعالى: (قُوا أَنْفُسَكُمْ)، أي: قوها عن الطريق الذي إذا سلكتموه أفضى بكم إلى النار، وقوا أهليكم - أيضًا - عن ذلك الطريق، وذلك يكون بالعمل؛ لأن العمل على ضربين: عمل يفضي بصاحبه إلى الجنة، وعمل يفضي بصاحبه إلى النار، فيكون التقوى في هذا الوجه راجعا إلى الأعمال، وفي الوجه الأول إلى الأنفس.
ويحتمل قوا أنفسكم باكتساب الأسباب التي هي أسباب النجاة عن العطب والهلاك، وأهليكم في أن تعلموهم الأسباب التي هي أسباب الخلاص من النار.
وقال مجاهد: تأويله: قوا أنفسكم وأهليكم النار، ثم علمنا وجه الاتقاء بقوله: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).
قال: من التضرع إليه والفزع لديه؛ ليكون هو بفضله يقي عنا النار؛ لما علم ألا نصل إليه بقوى أنفسنا وحيلنا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ).
فهذا على المبالغة في وصف شدة النار، وأخبر أن شدتها تنتهي إلى هذا في أن صير الناس وقودا لها وكذلك الحجارة، والناس والحجارة لا يتقدان في النار؛ لأن النار إذا عملت في الإنسان حرقته ولم تبقه؛ فلا يصير وقودًا، وكذلك إذا أصابت الحجارة رضَّتها ولاشتها، فيكون فيه تبين شدتها؛ إبلاغا في الزجر.
وجائز أن يكون أريد بالحجارة: التي اتخذوها أصناما يعبدونها من دون اللَّه، فكانوا يعبدونها لتنصرهم وتدفع عنهم العذاب؛ كما قال تعالى: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ)، وقال: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا)، أي: تصير عذابا عليها، وهم رجوا أن تكون سببا لخلاصهم؛ فصارت عليهم ضدًّا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ).
89
فجائز أن يكون هذا وصفهم: أنهم خلقوا غلاظا شدادا.
وجائز أن يكونوا أشداء على الكفار وأعداء اللَّه تعالى، رحماء على أوليائه، ألا ترى إلى قوله تعالى: (وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)، فبين أن اشتدادهم؛ لمكان الأمر؛ وهو كقوله تعالى: (وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)، وصفهم بالشدة على الكفرة وبالرحمة على المؤمنين؛ فجائز أن يكون الملائكة كذلك في الآخرة، وفي هذا دلالة أن الملائكة امتحنوا بالأمر والنهي في الآخرة؛ لأن ملائكة الرحمة امتحنوا بإتيان التحف والكرامات إلى أهل الجنة، وملائكة العذاب امتحنوا بتعذيب أهل النار وبالغلظة عليهم والشدة، وإذا أمر كل واحد من الفريقين بما ذكرنا، فقد نُهي عن تركه.
قال أبو بكر الأصم: في قوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا)، وفي قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا...) الآية إلزام الوعيد بأهل الصلاة لأنه ألزمهم الاتقاء من النار، وألزمهم التوبة؛ ليكفر عنهم سيئاتهم، ولو لم يكن الوعيد لازما عليهم لم يكونوا يحتاجون إلى الاتقاء، وهذا منه ومن جملة أهل الاعتزال تحريف الكلام عن مواضعه؛ لأن اللَّه تعالى ذكر هذا الوعيد في أهل الإيمان بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا)، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا)، ولم يذكر اللَّه - تعالى - أهل الصلاة، ولا ألحق بهم الوعيد، فهم يقطعون الوعيد عمن ألحق اللَّه تعالى بهم الوعيد وهم المؤمنون، ويلزمونه على من لم يجر ذكره في القرآن من أهل الصلاة ولا ألحق به الوعيد، وهذا تحريف الكلام وقلب القصة؛ ولأنه صار من أهل الصلاة بإيمانه؛ إذ لولا إيمانه لما كان هو من أهل الصلاة، فإذا ألحقوا الوعيد بأهل الصلاة فقد ألحقوه بأهل الإيمان؛ فلم يبق بيننا وبينهم إلا سوء الخلق، وإلا فلا معنى لقلبه عن أهل الإيمان وإلحاقه بأهل الصلاة، وأهل الصلاة هم أهل الإيمان.
ثم الوعيد على قولهم إنما يلزم أهل الإيمان في وقت خروجهم من الإيمان، ونحن
90
نقول في الوعيد المذكور في أهل الإيمان: إنه يجوز أن يلحقهم وقت إيمانهم، ويعذبهم اللَّه تعالى بإجرامهم.
ويحتمل أن يقع لهم الوعيد إذا خرجوا من الإيمان، وهم يقطعون الوعيد عن أحد الوجهين ويجعلونه على الوجه الآخر، ونحن نلزمهم الوعيد إذا خرجوا من الإيمان، أولا ننفي الوعيد عين لم يخرج بعد من إييانه، فصرنا نحن أشد استعمالا لما يقتضيه ظاهر الآيات منهم؛ فصار العموم حجة عليهم لا علينا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧).
ليس في هذا نفي قبول العذر لو كان لهم عذر، ولكن اعتذارهم هو الندم عما كانوا فيه والإنابة إلى اللَّه تعالى والتوبة إليه، وليس ذلك وقت قبول التوبة؛ لأن ذلك الوقت هو وقت خروج ملك أنفسهم عن أنفسهم، فلا يقبل في ذلك الوقت إيمان ولا عمل.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).
يعني: أن عملكم السوء هو الذي ألزمكم العذاب في الحكمة؛ فتجزون بعملكم ولستم تجزون بمنفعة ترجع إلينا أو بما حملتم من أوزار الغير، ولكن بأعمالكم الخبيثة التي في الحكمة التعذيب عليها، وفي هذا دلالة نفي العذاب عن أطفال المشركين؛ لأنه لم يوجد منهم عمل؛ فيجزون بعملهم، ولا يجوز أن يعذبوا بذنوب آبائهم؛ لأنه أخبر أن كلًّا يجزى بعمله لا بعمل غيره، واللَّه أعلم.
وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٨).
ففي هذه الآية إلزام التوبة على بقاء اسم الإيمان؛ لأنه ألزمهم التوبة بعد أن سماهم مؤمنين، وأخبر أنه يكفر عنهم سيئاتهم بالتوبة، ومن مذهب الاعتزال: أن الصغائر مغفورة لأربابها إذا اجتنبوا الكبائر؛ فلا يحتاجون إلى التوبة عنها، وإذا كان كذلك فالآية في الكبائر عندهم، والكبائر تخرج أهلها -على قولهم- من الإيمان، واللَّه - تعالى - قد أبقى لهم اسم الإيمان، فمن أزال عنهم الإثم، فقد خالف نص القرآن.
وإن زعموا أن الآية في الصغائر ففيه دلالة على أن اللَّه تعالى يعذب على الصغائر وأنها
91
غير مغفورة، حتى وقعت لهم الحاجة إلى التوبة وطلب المغفرة، وقال أيضًا في آية أخرى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، فإما أن يكونوا أمروا بالتوبة عن الصغائر؛ فيكون فيه دلالة على أنها ليست بمغفورة؛ إذا احتاجوا إلى التوبة عن الصغائر، أو عن الكبائر؛ فيكون فيه دلالة بقائهم على الإيمان! وكذلك قال: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ)، وإن كان استغفاره هذا عن الصغائر، ففيه دلالة على أنها غير مغفورة؛ لحاجته إلى طلب المغفرة، ولو كان الأمر على ما ظنت المعتزلة، لكان سؤاله المغفرة يخرج مخرج الاستهزاء برب العالمين؛ لأنه يطلب منه ما لا يملك، وذلك في الشاهد هزء واستخفاف بالمسئول.
وإن كان في الكبائر، ففيه دلالة بقائهم وثباتهم على الإيمان؛ لأنه قال: (وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ).
ثم قوله تعالى: (تَوْبَةً نَصُوحًا).
قرئ بنصب النون وضمها: (نُصُوحًا)، والضم يخرج مخرج المصدر، والنصوح -بالفتح-: يخرج مخرج النعت للتوبة، والفَعُول من الأفعال هو اسم للمبالغة في الأمر، فكأنه يقول: توبوا توبة تناهت في نصحها، والمبالغة في النصح أن يكون صادقا في توبته، وعلامة الصدق أن يكون نادما بقلبه عما فعل، عازما على ألا يرجع إليه، وأن يقلع يديه عما كان فيه من المعاصي، وأن يستغفر اللَّه بلسانه؛ فيستعمل كل جسده في الندم والانقلاع، كما استعمل سائره في التلذذ بالمآثم؛ فذلك هو المبالغة في النصح.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) بالتوبة، ففي هذا إبانة أن من السيئات سيئات لا تكفر إلا بالتوبة، ومنها ما يكفر باجتناب الكبائر بقوله: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ)، لا أن يكفر كلها بالاجتناب عن الكبائر كما زعمت المعتزلة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ).
وقد سبق بيان هذا.
وقوله - تعالى -: (وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ).
وللمعتزلة بهذه الآية تعلق، وهو أن قالوا بأن اللَّه تعالى أخبر أنه لا يخزي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -
92
الآية ٨ وقوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا ﴾ ففي هذه الآية إلزام التوبة على بقاء اسم الإيمان، لأنه ألزمهم التوبة بعد أن سماهم مؤمنين.
وأخبر أنه يكفر عنهم سيئاتهم بالتوبة.
ومذهب الاعتزال أن الصغائر مغفورة لأربابها إذا اجتنبوا الكبائر، فلا يحتاجون إلى التوبة عنها.
فإذا كان كذلك فالآية في الكبائر عندهم، والكبائر يخرج أهلها على قولهم من الإيمان، والله تعالى١ قد أبقى لهم اسم الإيمان. فمن أزال عنهم الاسم فقد خالف نص القرآن، وإن زعموا أن الآية في الصغائر ففيه دلالة على أن الله تعالى أن يعذب على الصغائر، وأنها غير مغفورة حتى وقعت لهم الحاجة إلى التوبة وطلب المغفرة.
وقال أيضا في آية أخرى :﴿ وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون ﴾ [ النور : ٣١ ] فأما أن يكونوا أمروا بالتوبة عن الصغائر فيكون فيه دلالة بقائهم على الإيمان، وكذلك قال :﴿ واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات ﴾ [ محمد : ١٩ ]/٥٨٠-ب/ وإن كان استغفاره هذا على الصغائر ففيه دلالة أنها مغفورة لحاجته إلى طلب المغفرة.
ولو كان الأمر على ما طنت المعتزلة لكان سؤاله المغفرة يخرج مخرج الاستهزاء برب العالمين لأنه يطلب منه ما لا يملك، وذلك في الشاهد هزء به واستخفاف بالمسؤول.
وإن كان في الكبائر ففيه دلالة بقائهم وثباتهم على الإيمان لأنه قال :﴿ وللمؤمنين والمؤمنات ﴾.
وقوله تعالى :﴿ توبة نصوحا ﴾ قرئ بنصب النون وضمها٢ نصوحا، والضم يخرج مخرج المصدر والنصوح بالفتح يخرج مخرج البعث للتوبة، والفعول من الأفعال هو اسم للمبالغة في الأمر، فكأنه يقول : توبوا توبة، تناهت في نصحها، والمبالغة في النصح أن يكون صادقا في توبته.
وعلامة الصدق أن يكون نادما بقلبه عما فعل عازما على ألا يرجع إليه، وأن يقلع يديه عما كانت فيه من المعاصي، وأن يستغفر الله بلسانه، فيستعمل كل جسده في الندم والانقلاع كما استعمل سائره في التلذذ في المآثم. فلذلك هو المبالغة في النصح.
وقوله تعالى :﴿ عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ﴾ بالتوبة. ففي هذا إبانة أن من السيئات سيئات لا تكفر إلا بالتوبة، ومنها ما يكفر باجتناب الكبائر بقوله :﴿ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ﴾ [ النساء : ٣١ ]لا أن تكفر كلها بالاجتناب عن الكبائر كما زعمت المعتزلة.
وقوله تعالى :﴿ ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ﴾ وقد مر بيان هذا.
وقوله تعالى :﴿ يوم لا يخزى الله النبي والذين آمنوا معه ﴾ وللمعتزلة بهذه الآية تعلق، وهو أن قالوا : إن الله تعالى أخبر أنه لا يخزي النبي والمؤمنين، والإخزاء بالعذاب ؛ فقد وعد ألا يعذب الذين آمنوا. ولو كان أصحاب الكبائر مؤمنين لم يخف عليهم العذاب، إذ قد وعد ألا يخزي المؤمنين. ومن قولهم٣ : أنه يخاف عليهم العقاب، ثبت٤ أنهم ليسوا بمؤمنين.
ولكن نقول : إنه بهذا السؤال يلزمهم من الوجه الذي أرادوا إلزام خصومهم لأن في الآية وعدا بألا يخزي الذين آمنوا معه، وهم مقرون أن أهل الكبائر ممن قد آمنوا. ولكنهم بعد ارتكابهم الكبائر ليسوا بمؤمنين.
والآية لم تنطق بنفي الإخزاء عن المؤمنين، لأنه لم يقل :﴿ يوم لا يخزي الله النبي ﴾ والمؤمنين، وإنما قال :﴿ والذين آمنوا معه ﴾ وهم يقطعون القول بإخزاء من قد آمن، فصاروا هم المحجوجين بهذه الآية [ ثم حق هذه الآية ]٥ عندنا أن نقف على قوله ﴿ النبي ﴾ أي يخزيه الله تعالى في أن يرد شفاعته، أو يعذبه.
وقوله تعالى :﴿ والذين آمنوا معه ﴾ ابتداء كلام وخبره :﴿ نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم ﴾وهو كقوله :﴿ والراسخون في العلم يقولون آمنا به ﴾ [ آل عمران : ٧ ].
أو لا يخزي الذين آمنوا بعد شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم.
ويحتمل أن الإخزاء، هو الفضيحة، أي لا يفضحهم يوم القيامة بين أيدي الكفار.
ويجوز أن يعذبهم على وجه لا يقف عليه٦ الكفرة، والخزي هو الفضيحة وهتك الستر، ولا يفعل ذلك بالمؤمنين بفضله، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم ﴾ أي ﴿ بين أيديهم ﴾ إذا مشوا ﴿ وبأيمانهم ﴾ عند الحساب، لأنهم يؤتون الكتاب بأيمانهم، وفيه نور وخير، أو يسعى النور ﴿ بين أيديهم ﴾ في موضع وضع الأقدام ﴿ وبأيمانهم ﴾ لأن ذلك طريقهم، وشمالهم طريق الكفرة.
وقوله تعالى :﴿ يقولون ربنا أتمم لنا نورنا ﴾ فجائز أن يقولوا٧ هذا عند انطفاء نور المنافقين، فيخافون انقطاع ذلك النور عنهم أيضا، أو يقولوا هذا عند ضعف النور، فيسألونه الإتمام، والله أعلم.
١ في الأصل و م: أعلم..
٢ انظر معجم القراءات القرآنية ج٧/١٧٨..
٣ في الأصل و م: قولكم..
٤ في الأصل و م: فثبت..
٥ من م، ساقطة من الأصل..
٦ في الأصل و م: عليهم..
٧ من م، في الأصل: يقول..
والمؤمنين، والإخزاء يقع بالعذاب؛ فقد وعد ألا يعذب الذين آمنوا، ولو كان أصحاب الكبائر مؤمنين لم يخف عليهم العذاب؛ إذ قد وعد ألا يخزي المؤمنين ومن قولكم: إنهم يُخاف عليهم العقاب؛ فثبت أنهم ليسوا بمؤمنين.
ولكن نقول: إن هذا السؤال يلزمهم من الوجه الذي أرادوا إلزام خصومهم؛ لأن في الآية وعدا بألا يخزي الذين آمنوا، وهم مقرون بأن أهل الكبائر ممن قد آمنوا، ولكنهم بعد ارتكابهم الكبائر ليسوا بمؤمنين، والآية لم تنطق بنفي الإخزاء عن المؤمنين؛ لأنه لم يقل: يوم لا يخزي اللَّه النبي والمؤمنين، وإنَّمَا قال: (وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ)، وهم يقطعون القول بإخزاء من قد آمن؛ فصاروا هم المحجوجين بهذه الآية، ثم حق هذه الآية عندنا أن نقف على قوله: (النَّبِيَّ)، أي: لا يخزيه اللَّه تعالى في أن يرد شفاعته أو يعذبه، وقوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ)، ابتداء كلام وخبره (نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ)؛ وهو كقوله - تعالى -: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ).
أو لا نخزي الذين آمنوا بعد شفاعة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
ويحتمل أن الإخزاء هو الفضيحة، أي: لا يفضحهم يوم القيامة بين أيدي الكفار، ويجوز أن يعذبهم على وجه لا يقف عليه الكفرة، والخزي: هو الفضيحة، وهتك الستر، ولا يفعل ذلك بالمؤمنين بفضله، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ).
أي: بين أيديهم إذا مشوا، وبإيمانهم عند الحساب؛ لأنهم يؤتون الكتاب بأيمانهم، وفيه نور وخير، أو يسعى النور بين أيديهم في موضع وضع الأقدام وبأيمانهم؛ لأن ذلك طريقهم وشمالهم طريق الكفرة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا).
جائز أن يقولوا هذا عند انطفاء نور المنافقين؛ فيخافون انقطاع ذلك النور عنهم أيضًا.
أو يقولون هذا عند ضعف النور، فيسألونه إتمامه، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٩) قيل: جاهد الكفار
93
بالسيف، والمنافقين بإقامة الحدود عليهم؛ وذلك أن المنافقين هم الذين كانوا يرتكبون المآثم التي أوجب فيها الحدود ففيهم نزلت الحدود، وأما أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقد عصموا عن المآثم التي لها الحدود.
وقالت الباطنية في قوله: (جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ) أي: جاهد الكفار والمنافقين بالقتال، فكان مأمورا بالقتال مع الفريقين جميعًا، ولكنه اشتغل بقتال أهل الكفر، ولم يتفرغ لقتال أهل النفاق فتولى قتالهم علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وما ذكر أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال لأصحابه حين رأى عليًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يخصف نعله: " إن خاصف نعله يقاتل على التأويل كما نقاتل نحن على التنزيل "، وقتاله على التأويل قتال أهل النفاق، فإن كان الأمر على ما ذكروا من القتال فأبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هو الذي تولى قتال أهل النفاق لا عليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لأنه ذكر أن العرب ارتدت بعدما قبض رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فقاتلهم أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وارتدادهم يدل على أنهم لم يكونوا محققين في إيمانهم؛ إذ لو كانوا كذلك لم يرجعوا بل كانوا منافقين، وأما الذين قاتلهم علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فلم يكونوا منافقين بل كانوا يدعون عليًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى أن يحكم بكتاب اللَّه تعالى، والمنافق هو الذي يظهر من نفسه أنه يعمل بحكم اللَّه تعالى، ثم يسر بخلاف حكمه، لا أن يدعو إلى العمل بحكم اللَّه تعالى، وهذه السمة ظهرت في الذين قاتلهم أبو بكر دون الذين قاتلهم علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثم مجاهدته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في تقرير الحجة في قلوب الكفرة والمنافقين وإلزامها عليهم، وذلك يكون مرة بالسيف ومرة بإلزامها باللسان.
ووجه إلزام الحجة بالسيف ما ذكرنا أن غلبته على الأعداء مع كثرتهم وقوة
شوكتهم وقلة أنصار رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يظهر لهم نصر اللَّه إياه وكونه على الحق، فيحملهم ذلك على الإيمان باللَّه تعالى، وإذا كان كذلك فقوله: (جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ) في إلزام الحجة؛ فإن كانوا في موضع أمن فمجاهدتهم في إلزام الحجة عليهم من جهة القول، وإن كانوا في موضع المحاربة والقتال، فمجاهدتهم في قتالهم، وقد كان من المنافقين من قد لحق بالكفرة وذب عنهم، ألا ترى إلى قوله: (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ)، فمن لحق بهم قاتلهم مع الكفرة، ومن لم يلحق بهم ألزمهم الحجة، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ).
94
أي: اشدد عليهم، والتشديد عليهم: أن يسفه أحلامهم، ويهتك أستارهم، وهو أن يبين لهم ما هم عليه من النفاق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)، قد تقدم ذكر هذا.
ثم في قوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ)، دلالة فضيلة نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على من تقدمه من الأنبياء والرسل - عليهم السلام - لأنه ذكر موسى - عليه السلام - في التوراة: يا موسى، وفي الإنجيل: يا عيسى، وفي مخاطبات آدم: يا آدم، فسمى كل نبي باسمه سوى نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فإنه ذكره وخاطبه بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ) (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ)، وبالنبوة والرسالة استحق الفضيلة، فذكره باسم فضله وخاطبه به، وذكر غيره من الأنبياء - عليهم السلام - باسم شخصه.
* * *
قوله تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (١٠) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١١) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (١٢).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ).
فجائز أن هذا المثل لمكان الكفرة الذين لهم برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - اتصال من حرمة القرابة، فكانوا يطمعون منه الشفاعة في الآخرة إن كان الأمر على ما ذكره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لهم؛ لأنهم عرفوه بالشفقة والرحمة على الخلق جملة، فكيف يدع شفقته ورحمته على قرابته وهو يراهم يترددون في الهلاك؟!
فبين لهم شأن امرأة نوح وامرأة لوط وما كان بينهما وبين نوح ولوط - عليهما السلام - من الاتصال؛ لئلا يغتروا باتصالهم بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
وجائز أن يكون هذا في بدء الإسلام، في الوقت الذي يتفرد الآباء بالإسلام دون الأبناء، والأبناء دون الآباء؛ فيكون المثل لمكان أُولَئِكَ الذين التزموا وداوموا عليه،
95
ولم يتبعوا آباءهم وأبناءهم فيقول: لا ينفع من دام على الكفر إسلام من أسلم منهم، وإن كان بينهما قرب من جهة الأبوة والبنوة؛ لأن رحمة الإنسان وشفقته على زوجته أكثر من شفقته على من ذكرنا، وكذلك الاتصال، فإذا لم ينفعهما إسلام زوجيهما، فكذلك لا ينفع أُولَئِكَ الذين داموا على الكفر إسلام من أسلم من آبائهم وأبنائهم.
وجائز أن يكون هذا المثل؛ لمكان أهل النفاق فيما أظهروا موافقة المؤمنين، وأسروا الخلاف لهم، فيخبر أنه لا ينفعهم إظهار موافقتهم في الدِّين إذا كانوا على خلافه في التحقيق؛ كما لم ينفع زوجتي نوح ولوط - عليهما السلام - إظهار الموافقة منهما لزوجيهما إذا كانتا على خلافهما في السر، واللَّه أعلم.
قال أبو بكر الأصم: في هذه الآية دلالة أن صلاح الصالح لا ينفع للطالح؛ كما لم ينفع صلاح نوح ولوط - عليهما السلام - للزوجين إذا كانتا في أنفسهما فاسدتين، وأراد بهذا نفي الشفاعة لأهل الكبائر.
وليس كما ذكر؛ لأن هذا المثل ضرب للكافرين لا للعصاة؛ إذ لم يقل: " ضرب الله مثلا للذين عصوا "، فليس له تعلق في هذه الآية.
ثم قد نجد صلاح الصالح في الشاهد ينفع الطالح وإن لم ينفع الكافر؛ لأن المرء قد يكون له زوجة طالحة تمتنع عن كثير من الشرور؛ لمكان زوجها إذا كان زوجها من أهل الصلاح والبر؛ وكذلك الولد ينفعه صلاح والديه في الدنيا؛ إذ بخشيتهما ينتهي عن كثير من المناهي لصلاحهما، فقد نفعه صلاح والديه ونفعها صلاح زوجها، فجائز أن ينفع الطالح أيضًا في الآخرة صلاح الصالحين، وأما الكافر فهو لم يمتنع عن الخلاف لمكان أبويه ولا لمكان أحد من الخلق؛ فلم ينفعه إسلام أبويه ولا صلاحهما في الدنيا فكذلك لا ينفعه في الآخرة، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ).
أي: فخانتاهما في الدِّين.
ومنهم من يذكر أن خيانة امرأة نوح هي أن أخبرت قومه بجنون زوجها، وكانت خيانة
96
امرأة لوط هي أن أخبرت قوم لوط بشأن أضيافه.
ولكن إن كان هذا صحيحا، فهو يرجع إلى الأول؛ لأن الذي حمل كل واحدة منهما على الإخبار بما أخبرت موافقَتُهَا أُولَئِكَ القوم وخلافها لزوجها في الدِّين، ولا يجوز أن نشهد بهذا إلا بتواتر جاء.
وذكر بعضهم: أنهما زنيا، فخيانتهما زناهما، وهذا غير ثابت؛ لأن الأنبياء - عليهم السلام - عصموا عما يوجب عليهم [العار والشنار]، والزوج يعير بزنى زوجته وفراشه، وفيه توهم التهمة في أولادهم؛ فدل أن هذا التأويل غير صحيح، وحاجتنا إلى وجود الخيانة منهما دون التفسير، ولا يجب أن نشهد بهذا إلا بتواتر جاء مزيدًا في الحجة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١١).
وجه ضرب المثل بها هو أن يعلم المقهور تحت أيدي الكفرة أن لا عذر له في التخلف عن الإيمان باللَّه تعالى؛ إذ كانت امرأة فرعون مقهورة تحت يديه، وكانت بين ظهراني الظلمة، ولم يمنعها ذلك عن الإيمان باللَّه - تعالى - وعن التصديق برسوله موسى - عليه السلام -.
والثاني: أنها لم تشاهد من زوجها ومن القوم الذين بين ظهرانيهم سوى الكفر بالله تعالى، ثم اللَّه تعالى بلطفه ألهمها الإيمان به فآمنت، وكانت امرأة نوح - عليه السلام - تحت نوح ولم تشاهد منه سوى الطاعة والعبادة لربه - جل وعلا - ثم لم ينفعها إيمانه وعبادته؛ ليعلم أنه لا ينفع أحدا إسلام أحد، ولا يضر أحدا كفر غيره، وإنما يصير مؤمنا بفعل نفسه كافرا بفعل نفسه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ).
وهي لم ترد بقولها: (ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا) بقيام الوجه الذي عرفت بناء زوجها وغيره من الخلائق، وإنما أرادت بقولها: (ابْنِ لِي)، أي اخلق لي بيتا في الجنة ولذلك لم يفهم أحد من قوله: (فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا) ما فهم الخلق من النفخ في الأشياء، وإنما فهموا به الخلق والإنشاء، فما بال المشبهة فهموا من قوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ)، ومن قوله: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)، ما فهموا من
97
الاستواء المضاف إلى الخلق لولا ضعف اعتقادهم وجهلهم بصانعهم في التحقيق.
ثم الأصل أن ينظر في الأسماء التي هي أسماء الأفعال المشتركة فيما بين الخلق إذا أضيف شيء منها إلى اللَّه تعالى، فنعرضها على الأسماء التي هي أسماء الأفعال المخصوصة لله تعالى، فما أريد بالاسم المخصوص من ذلك، فذلك المعنى هو المراد بالاسم المشترك؛ فالاسم المخصوص لفعل اللَّه تعالى هو الخلق، إذ لا أحد من الخلائق يسمي أحدا من الخلائق: خالقًا، فيفهم بقوله (ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ) أي: اخلق لي، ويفهم بقوله: (فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا) الخلق والإنشاء، والذي يبين أن الأسماء المشتركة يجب عرضها على الأسماء المخصوصة ويفهم بها ما يفهم بالأخرى قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ)، ومعناه: هو الذي خلق سيركم في البر والبحر، وقال: (هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ)، يعني: هو الذي يخلق الموت والحياة، وقال: (يُضِلُّ مَن يَشَآءُ)، أي: يخلق الضلال (وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)، أي: يخلق هدايته، ومن حمل الأمر على ما ذكرنا سلم من الشبه كلها ووسواس الشيطان، وسلم من التشبيه، واللَّه الموفق.
وفي هذا دلالة إيمانها بالبعث والحساب.
ثم من الجائز أن تكون وصلت إلى علم البعث والحساب بالتلقين، أو بنظرها وتفكرها في الحجج والبراهين.
وذكر أهل التفسير أنها قالت ذلك عندما عذبها فرعون، واختلفوا في صفة العذاب من أوجه، وحق مثله الإمساك عنه، وألا تشتغل بتفسيرها؛ لما يتوهم من وقوع زيادة فيها أو نقصان على القدر الذي بين في الكتب المتقدمة، وهذه الأنباء جعلت حججا لرسالة نبينا - عليه السلام - على أهل الكتاب لما وجدوها موافقة للأنباء التي ذكرت في كتبهم، وإذا وقع فيها زيادة أو نقصان وجدوا فيه موضع الطعن في رسالته؛ فلهذا المعنى ما يجب ترك الخوض فيها والإعراض عن ذكرها.
وذكر عن الحسن وغيره أنه قال: ما من مؤمن ولا كافر إلا وبُني له بيت في الجنة، فإن مات على الإسلام سكن البيت، وإن قبض كافرا ورثه غيره.
وهذا لا يحتمل؛ لأن اللَّه - تعالى - إذا علم أنه يموت على الكفر فهو يبني له ذلك
98
البيت كي لا يسكنه، ومن بني لنفسه في الشاهد وهو يعلم أنه لا يسكنه، صار عابثا في فعله، وجل اللَّه تعالى عن أن يوصف بالعبث.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).
أي: نجني من شر فرعون وجوره، ومن عمله أي: من كفره؛ فيكون قولها: (وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ) راجعا إلى نفسه، والآخر راجعا إلى عمله، (وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ) راجعا إلى قومه، فسألت النجاة عنهم جملة، لما كانوا يمنعونها عن عبادة اللَّه تعالى، فكانت تخاف ناحيتهم، ولا تأمن وتخاف منهم، فسألت النجاة منهم؛ لتصل إلى عبادة ربها.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (١٢).
فأخبر عنها بإحصانها فرجها، وذلك بالأسباب، وهي ما اتخذت بين نفسها وبين الناس حجابا؛ لئلا يقع بصر الناس عليها، ولا يقع بصرها عليهم لتصل به إلى تحصين فرجها؛ قال اللَّه تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ)، وهم إذا غضوا الأبصار، وصلوا إلى حفظ الفروج؛ ففي الحجاب غض البصر، وفي غض البصر وصول إلى حفظ الفرج وإحصانه، وقال في آية أخرى: (يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ)، وتطهيره إياها في أن طهرها من الفواحش والزنى، فأضاف الإحصان إليها في الآية الأولى، وأضاف التطهير هاهنا إلى نفسه، فوجه إضافة الإحصان إليها ما ذكرنا: أنها تكلفت الأسباب التي هي أسباب الموانع للزنى، الدواعي إلى الإحصان، وأضاف إلى نفسه التطهير؛ لأن وقوع ذلك وحصوله كائن به، ففيه دلالة أن كل فعل من أفعال العباد لا يخلو من أن يكون لله - تعالى - فيه صنع وتدبير.
وقوله - تعالى -: (فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا).
أي: خلقنا فيه ما به تحيا الصور والأبدان.
وقوله: (فِيهِ)، أي: في عيسى، وقال في آية أخرى: (فَنَفَخْنَا فِيهَا)، أي: في نفس عيسى - عليه السلام - والنفس مؤنث.
ثم تشبيهه بالنفخ: أن الروح إذا خلق فيه انتشر في الجسد كالريح إذا نفخت في شيء انتشرت فيه.
أو التشبيه بالنفخ لسرعة دخوله فيما نفخ فيه كالريح، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا).
99
فجائز أن يكون الكلمات هي التي بشرت بها مريم من قوله: (إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ)، وقوله: (يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ)، وقوله: (يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ)، وقوله: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ)، فصدقت بجملتها أنها من عند اللَّه، لا شيء ألقى إليها الشيطان.
أو (وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا) أي: بحجج ربها وبراهينه؛ لقوله: (وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ)، أي: بحججه: وأدلته.
ثم تكون الحجج حجج البعث أو حجج الرسالة أو الوحدانية، أو يكون قوله: (وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا)، أي: بالكلمات التي يستعاذ بها من الشرور، فصدقت أنها تعيذ من تعوذ بها، واللَّه أعلم.
وقوله - تعالى -: (وَكُتُبِهِ)، وقرئ (وَكِتَابِهِ).
وفي تصديقها بالكتاب تصديق منها بالكتب؛ لأن من آمن بكتاب من كتب اللَّه تعالى، فقد آمن بسائر كتبه؛ لأنها يوافق بعضها بعضًا، ومن آمن بكتبه فقد آمن بكل كتاب له على الإشارة إليه؛ فثبت أن في الإيمان بكتاب إيمانًا بسائر الكتب، فكل واحدة من القراءتين تقتضي معنى القراءة الأخرى؛ فإن قوله: [(وَكِتَابِهِ)] أي بالإنجيل، وقوله [(وَكُتُبِهِ)] أي: بالإنجيل وسائر الكتب المتقدمة المنزلة من عند اللَّه تعالى.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ).
قيل: من المصلين؛ لأنه قال في آية أخرى: (يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ)، وإذا وصف الصلاة، فالتزمت هذا الأمر؛ فصارت من القانتين.
وقيل: أي: من المطيعين لربها، واللَّه أعلم بالصواب.
* * *
100
Icon