ﰡ
قوله: ﴿أَن جَآءَهُ﴾. فيه وجهان:
أحدهما: أنَّه مفعولٌ من أجله، وناصبه: إمَّا «تولَّى» وهو قول البصريين، وإمَّا «عَبَسَ» وهو قول الكوفيين، والمختار مذهب البصريين لعدم الإضمار في الثاني، وتقدم تحقيق هذا في مسائل النزاع والتقدير: لأن جَاءهُ الأعْمَى فعل ذلكَ.
قال القرطبيُّ: إن من قرأ بالمدِّ على الاستفهام، ف «أنْ» متعلقة بمحذوف دلَّ عليه ﴿عَبَسَ وتولى﴾ والتقدير: أأن جاءهُ اعرض عنهُ وتولى؟ فيوقف على هذه القراءة على «تولَّى»، ولا يوقف عليه على قراءة العامة.
فصل في سبب نزول الآية
قال المفسرون: أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ابن أم مكتومٍ، واسمُ مكتُومٍ عاتكةُ بنتُ عامرٍ بن مخزومٍ، وكان عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صناديدُ قريش: عُتْبَةُ وشيبةُ ابنا رَبِيعةَ، وأبُو
قال ابن العربي: أمَّا قول المفسرين: إنه الوليد بن المغيرة، أو أمية بن خلف والعباس، فهذا كله باطلٌ وجهلٌ؛ لأن أمية والوليد كانا ب «مكة» وابن أم مكتوم كان ب «المدينة» ما حضر معهما، ولا حضرا معه، وماتا كافرين، أحدهما: قبل الهجرة، والآخر في «بدر»، ولم يقصد أمية «المدينة» قط، ولا حضر معه مفرداً، ولا مع أحدٍ، وإنَّما أقبل ابن أم مكتوم والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مشتغل بمن حضره من وجوه قريش يدعوهم إلى الإسلام، وقد طمع في إِسلامهم، وكان في إسلامهم إسلام من وراءهم من قومهم فجاء ابن أم مكتوم وهو أعمى، فقال: يا رسول الله علمني مما علمك الله وجعل يناديه ويكثر النداء، ولا يدري أنه مشتغل بغيره، حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لقطعه كلامه، وقال في نفسه: يقول هؤلاء إنَّما اتْباعُه العُمْيَان والسَّفلة والعبيد، فعبس وأعرضَ عنه، فنزلت الآية.
قال الثوري: «فكان النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد ذلك إذا رأى ابن أم مكتوم بسط له رداءهُ، ويقول:» مَرْحَباً بمَنْ عَاتَبنِي فِيهِ ربِّي «، ويقول:» هَلْ مِنْ حَاجَةٍ «؟ واستخلفهُ على» المدينة «مرتين في غزوتين غزاهما».
قال أنسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: فرأيته يوم «القادسيَّة» راكباً وعليه دِرْع، ومعه رايةٌ سوداءُ.
فصل في معاتبة الله تعالى رسوله
قال ابن الخطيب: ما فعله ابن أم مكتوم كان يستحق التأديب والزَّجْر، فكيف عاتب الله - تعالى - رسوله على تأديبه ابن أم مكتوم؟.
وإنما قلنا: إنه كان يستحق التأديب؛ لأنه وإن كان أعمى لا يرى القوم، لكنه سمع
وأيضاً: فإنَّ الأهم يقدِّم على المُهِمّ، وكان قد أسلم، وتعلَّم ما يحتاج إليه من أمر دينه، أما أولئك الكفَّار، فلم يكونوا أسلموا بعد، وكان إسلامهم سبباً لإسلام جمع عظيم، فكان كلام ابن مكتوم كالسبب في قطع ذلك الخير العظيم لغرض قليل، وذلك محرم.
وأيضاً: فإنَّ الله - تعالى - ذمّ الذين يناجونه من وراء الحجرات بمجود ندائهم، فهذا النداء الذي هو كالصَّارف للكفار عن [قبول] الإيمانِ أوْلَى أن يكون ذنباً، فثبت أن الذي فعله ابن أمِّ مكتوم كان ذنباً ومعصية.
وأيضاً: فمع هذا الاعتناء بابن أم مكتوم، فكيف لقب بالأعمى؟.
وأيضاً: فالنبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يؤدَّب أصحابه بما يراه مصلحة، والتَّعبيسُ من ذلك القبيل، ومع الإذن فيه، كيف يعاتب عليه؟.
والجواب عن الأول: أنَّ ما فعله ابن أم مكتوم كان من سُوءِ الأدب لو كان عاملاً بأنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مشغولٌ بغيره، وأنَّه يرجو إسلامهم، ولكن الله عاتبه حتى لا تنكسر قلوبُ أهْلِ الصُّفَّةِ، أو ليعلم أنَّ المؤمن الفقير خيرٌ من الغنى، وكان النظر إلى المؤمن أولى، وإن كان فقيراً أصلحُ وأوْلَى من الإقبالِ على الأغنياء طمعاً في إيمانهم، وإن كان ذلك أيضاً طمعاً في المصلحة، وعلى هذا يخرج قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى﴾ [الأنفال: ٦٧] الآية.
وقيل: إنَّما قصد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تأليف الرجل ثقة بما كان في قلب ابن أم مكتوم من الإيمان، كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنِّي لأعْطِي الرَّجُل وغَيرهُ أحَبُّ إليَّ مِنْهُ مخَافَة أن يكُبَّهُ اللهُ على وجْهِهِ».
وقال ابن زيدِ: إنَّما عبس النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لابن أم مكتوم، وأعرض عنه؛ لأنَّه أشار إلى الذي كان يقوده أن يكفه، فدفعه ابن أم مكتوم، وأبى إلا أن يكلم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتى يعلمه فكان في هذا نوع جفاءٍ منه، ومع هذا أنزل الله تعالى في حقه: ﴿عَبَسَ وتولى﴾، بلفظ الإخبار عن الغائب تعظيماً له، ولم يقل: عَبْسَتَ وتولَّيت. ثم أقبل عليه بمواجهة الخطاب تأنيساً له، فقال: «ومَا يُدْرِيكَ» أي: يعلمك «لَعلَّهُ» ابنُ أم مكتوم «يَزَّكَّى» بما استدعى منك تعليمه إياه من القرآن والدين، وإنَّما ذكره بلفظ العمى ليس للتحقير، بل كأنه قيل: إنه بسبب عماه يستحق مزيد الرفق والرأفة، فكيف يليق بك يا محمد، أن
فصل فيمن استدل بالآية على جواز صدور الذنوب من الأنبياء
قال ابن الخطيب: تمسَّك القائلون بصدورِ الذنب عن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - بهذه الآية.
وقالوا: لمَّا عُوتبَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على ذلك الفعل دلَّ على أنَّه كان معصية.
قال ابن الخطيب: وهذا بعيد لما ذكرنا في الجواب عن الأول، وأيضاً: فإن هذا من باب الاحتياط وترك الأفضل.
قوله تعالى: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يزكى﴾ ؛ الظاهر أنه أجرى التَّرجي مجرى الاستفهام، لما بينهما من معنى الطَّلب في التَّعليق، لأن المعنى منصب على تسليط الدراية على التَّرجي، إذ التقدير: لا يدري ما هو مترجّى منه التركيب، أو التذكر.
وقيل: الوقف على «يَدْرِي»، والابتداء بما بعده على معنى: وما يطلعك على أمره، وعاقبة حاله، ثم ابتدأ، فقال: «لعلَّه يزكَّى».
فصل في تحرير الضمير في قوله: «لعله»
قيل: الضمير في «لعلَّهُ» للكافر، يعني: لعل إذا طمعت في أن يتزكَّى بالإسلام.
﴿أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذكرى﴾ أي: قبول الحق، «وما يدريك» أنَّ ما طمعت فيه كائن، ونظير هذه الآية قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي﴾ [الأنعام: ٥٢].
وقوله: ﴿وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا﴾ [الكهف: ٢٨].
قوله: ﴿أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذكرى﴾.
قرأ عاصم: «فتنفعه» بالنصب.
والباقون: بالرفع.
فمن رفع، فهو نسق على قوله: «أو يذَّكرُ».
ومن نصب، فعلى جواب التَّرجي كقوله في «المؤمن» :﴿فَأَطَّلِعَ﴾ [غافر: ٣٧]، وهو مذهب كوفي وقد تقدم الكلام عليه.
قال أبو حيان: «وهذا ليس تمنياً إنما هو ترجٍّ».
قال شهاب الدين: إنما يريد التًّمني المفهوم من الكلام، ويدلُّ له ما قاله أبو البقاء: «وبالنصب على جواب التمني في المعنى»، وإلاَّ فالفرق بين التمنِّي والترجِّي لا يجهله ابن عطية.
وقال مكي: «من نصبه جعله جواب» لَعلَّ «بالفاء؛ لأنَّه غير موجب، فأشبه التَّمني والاستفهام، وهو غير معروف عند البصريين» وقرأ عاصمٌ في رواية الأعرج: «أو يذْكُر» - بسكون الذال، وتخفيف الكاف مضمومة - مضارع «ذكر»، والمعنى: أو يتَّعظ بما يقوله: «فتنفعه الذكرى» أي: العِظَةُ.
قوله: ﴿أَمَّا مَنِ استغنى﴾ قال عطاء: يريد عن الإيمان، وقال الكلبي: استغنى عن الله، وقال بعضهم: استغنى أثرى؛ وهو فاسد ههنا؛ لأن إقبال النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لم يكن لثروتهم ومالهم حتى يقال له أما من أثرى، فأنت تقبل عليه، ولأنه قال: ﴿وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يسعى وَهُوَ يخشى﴾ ولم يقل وهو فقير معدم، ومن قال: أما من استغنى بماله فهو صحيح، لأن المعنى أنه استغنى عن الإيمان والقرآن بما لَهُ من المال.
وقوله تعالى: ﴿فَأَنتَ لَهُ تصدى﴾ تقدمت فيه قراءتا التثقيل والتخفيف.
قال الزجاج: أي: أنت تقبل عليه وتتعرض له وتميل إليه، يقال تصدى فلان لفلان، يتصدّد إذا تعرض له، والأصل فيه تصدد يتصدّد من الصدد، وهو ما استقبلك وصار قبالتك فأبدل أحد الأمثال حرف علة مثل: تظنيت وقصيت، وتقضى البازي قال الشاعر:
٥١٠٧ - ب - تَصدَّى لِوضَّاح كأنَّ جَبينَه | سِرَاجُ الدُّجَى يُجْبَى إليه الأساور |
وقيل: من الصدى وهو العطش، والمعنى على التعرض، ويتمحّل لذلك إذا قلنا أصله من الصوت أو العطش.
وقرأ أبو جعفر «تُصْدي» بضم التاء وتخفيف الصاد. أي يصديك حرصك على إسلامه.
قوله: ﴿أَلاَّ يزكى﴾ مبتدأ خبره «عليك» أي ليس عليك عدم تزكيته.
والمعنى لا شيء عليك في أن لا يسلم من تدعوه إلى الإسلام، فإنه ليس عليك إلا البلاغ، أي لا يبلغن بك الحرص على إسلامهم إلى أن تعرض عمن أسلم للاشتغال بدعوتهم.
قوله: ﴿يسعى﴾ حال من فاعل «جاءك» والمعنى أن يسرع في طلب الخير، كقوله: ﴿فاسعوا إلى ذِكْرِ الله﴾ [الجمعة: ٩].
وقوله: ﴿وَهُوَ يخشى﴾ جملة حالية من فاعل «يسعى» فهو حال من حال وجعلها حالاً ثانية معطوفة على الأولى ليس بالقوي وفيها ثلاثة أوجه يخشى الله ويخافه في ألاَّ يهتم بأداء تكاليفه، أو يخشى الكفار وأذاهم في إتيانك، أو يخشى الكبوة فإنه كان أعمى، وما كان له قائد.
قوله ﴿تلهى﴾ أصله تتلهى من لهي يلهى بكذا أي اشتغل وليس هو من اللهو في شيء.
وقال أبو حيان: ويمكن أن يكون منه لأن ما يبنى على فعل من ذوات الواو تنقلب واوه لانكسار ما قبلها. نحو شقي يشقى. فإن كان مصدره جاء بالياء فيكون من مادة غير مادة اللهو.
قال شهاب الدين: الناس إنما لم يجعلوه من اللهو لأجل أنه مسند إلى ضمير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولا يليق بمنصبه الكريم أن ينسب إليه التفعل من اللهو.
بخلاف الاشتغال فإنه يجوز أن يصدر منه في بعض الأحيان، ولا ينبغي أن يعتقد غير هذا وإنما سقط الشيخ وقرأ ابن كثير في رواية البزي عنه «عنهو تلهى» بواو وهي صلة لهاء الكناية، وتشديد التاء والأصل تتلهى فأدغم، وجاز الجمع بين ساكنين لوجود حرف علة وإدغام، وليس لهذه الآية نظير. وهو أنه إذا لقي صلة هاء الكناية ساكن آخر ثبتت الصلة بل يجب الحذف، وقرأ أبو جعفر «تُلَهَّى» بضم التاء مبنياً للمفعول. أي يلهيك شأن الصناديد، وقرأ طلحة «تتلهى» بتاءين وهي الأصل، وعنه بتاء واحدة وسكون اللام.
فصل
فإن قيل قوله: ﴿فَأَنتَ لَهُ تصدى﴾ فأنت عنه تلهى كان فيه اختصاصاً.
أحدهما : أنَّه مفعولٌ من أجله، وناصبه : إمَّا «تولَّى » وهو قول البصريين، وإمَّا «عَبَسَ » وهو قول الكوفيين، والمختار مذهب١ البصريين لعدم الإضمار في الثاني، وتقدم تحقيق هذا في مسائل النزاع والتقدير : لأن جَاءهُ الأعْمَى فعل ذلكَ.
قال القرطبيُّ٢ : إن من قرأ بالمدِّ٣ على الاستفهام، ف «أنْ » متعلقة بمحذوف دلَّ عليه ﴿ عَبَسَ وتولى ﴾ والتقدير : أأن جاءهُ أعرض عنهُ وتولى ؟ فيوقف على هذه القراءة على «تولَّى »، ولا يوقف عليه على قراءة العامة.
فصل في سبب نزول الآية
قال المفسرون : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتومٍ، واسمُ مكتُومٍ عاتكةُ بنتُ عامرٍ بن مخزومٍ، وكان عند النبي صلى الله عليه وسلم صناديدُ قريش : عُتْبَةُ وشيبةُ ابنا رَبِيعةَ، وأبُو جَهْلٍ بْنُ هشام، والعبَّاسُ بنُ عبدِ المُطلبِ، وأميَّةُ بن خلفٍ، والوليدُ بنُ المُغيرةِ، يدعوهم إلى الإسلام رجاءَ أن يسلم بإسلامهم غيرُهم، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم : عَلِّمني مما علمك الله، وكرَّر ذلك عليه، فكره قطعه لكلامه، وعبس وأعرض عنه، فنزلت هذه الآية.
قال ابن العربي : أمَّا قول المفسرين : إنه الوليد بن المغيرة، أو أمية بن خلف والعباس، فهذا كله باطلٌ وجهلٌ ؛ لأن أمية والوليد كانا ب «مكة » وابن أم مكتوم كان ب «المدينة » ما حضر معهما، ولا حضرا معه، وماتا كافرين، أحدهما : قبل الهجرة، والآخر في «بدر »، ولم يقصد أمية «المدينة » قط، ولا حضر معه مفرداً، ولا مع أحدٍ، وإنَّما أقبل ابن أم مكتوم والنبي صلى الله عليه وسلم مشتغل بمن حضره من وجوه قريش يدعوهم إلى الإسلام، وقد طمع في إِسلامهم، وكان في إسلامهم إسلام من وراءهم من قومهم، فجاء ابن أم مكتوم وهو أعمى، فقال : يا رسول الله علمني مما علمك الله وجعل يناديه ويكثر النداء، ولا يدري أنه مشتغل بغيره، حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لقطعه كلامه، وقال في نفسه : يقول هؤلاء إنَّما اتْباعُه العُمْيَان والسَّفلة والعبيد، فعبس وأعرضَ عنه، فنزلت الآية.
قال الثوري : فكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا رأى ابن أم مكتوم بسط له رداءهُ، ويقول :«مَرْحَباً بمَنْ عَاتَبنِي فِيهِ ربِّي »، ويقول : هَلْ مِنْ حَاجَةٍ » ؟ واستخلفهُ على «المدينة » مرتين في غزوتين غزاهما ».
قال أنسٌ رضي الله عنه : فرأيته يوم «القادسيَّة » راكباً وعليه دِرْع، ومعه رايةٌ سوداءُ٤.
فصل في معاتبة الله تعالى رسوله
قال ابن الخطيب٥ : ما فعله ابن أم مكتوم كان يستحق التأديب والزَّجْر، فكيف عاتب الله - تعالى - رسوله على تأديبه ابن أم مكتوم ؟.
وإنما قلنا : إنه كان يستحق التأديب ؛ لأنه وإن كان أعمى لا يرى القوم، لكنه سمع مخاطبة الرسول صلى الله عليه وسلم لأولئك الكفار، وكان بسماعه يعرف شدة اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بشأنهم، فكان إقدامه على قطع كلام النبي صلى الله عليه وسلم لغرض نفسه قبل تمام غرض النبي صلى الله عليه وسلم معصية عظيمة.
وأيضاً : فإنَّ الأهم يقدِّم على المُهِمّ، وكان قد أسلم، وتعلَّم ما يحتاج إليه من أمر دينه، أما أولئك الكفَّار، فلم يكونوا أسلموا بعد، وكان إسلامهم سبباً لإسلام جمع عظيم، فكان كلام ابن مكتوم كالسبب في قطع ذلك الخير العظيم لغرض قليل، وذلك محرم.
وأيضاً : فإنَّ الله - تعالى - ذمّ الذين يناجونه من وراء الحجرات بمجود ندائهم، فهذا النداء الذي هو كالصَّارف للكفار عن [ قبول ]٦ الإيمانِ أوْلَى أن يكون ذنباً، فثبت أن الذي فعله ابن أمِّ مكتوم كان ذنباً ومعصية.
وأيضاً : فمع هذا الاعتناء بابن أم مكتوم، فكيف لقب بالأعمى ؟.
وأيضاً : فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم يؤدَّب أصحابه بما يراه مصلحة، والتَّعبيسُ من ذلك القبيل، ومع الإذن فيه، كيف يعاتب عليه ؟.
والجواب عن الأول : أنَّ ما فعله ابن أم مكتوم كان من سُوءِ الأدب لو كان عاملاً بأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم مشغولٌ بغيره، وأنَّه يرجو إسلامهم، ولكن الله عاتبه حتى لا تنكسر قلوبُ أهْلِ الصُّفَّةِ، أو ليعلم أنَّ المؤمن الفقير خيرٌ من الغنى، وكان النظر إلى المؤمن أولى، وإن كان فقيراً أصلحُ وأوْلَى من الإقبالِ على الأغنياء طمعاً في إيمانهم، وإن كان ذلك أيضاً طمعاً في المصلحة، وعلى هذا يخرج قوله تعالى :﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى ﴾ [ الأنفال : ٦٧ ] الآية.
وقيل : إنَّما قصد النبي صلى الله عليه وسلم تأليف الرجل ثقة بما كان في قلب ابن أم مكتوم من الإيمان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :«إنِّي لأعْطِي الرَّجُل، وغَيرهُ أحَبُّ إليَّ مِنْهُ مخَافَة أن يكُبَّهُ اللهُ على وجْهِهِ ».
وقال ابن زيدِ : إنَّما عبس النبي صلى الله عليه وسلم لابن أم مكتوم، وأعرض عنه ؛ لأنَّه أشار إلى الذي كان يقوده أن يكفه، فدفعه ابن أم مكتوم، وأبى إلا أن يكلم النبي صلى الله عليه وسلم حتى يعلمه، فكان في هذا نوع جفاءٍ منه، ومع هذا أنزل الله تعالى في حقه :﴿ عَبَسَ وتولى ﴾، بلفظ الإخبار عن الغائب تعظيماً له، ولم يقل : عَبْسَتَ وتولَّيت. ثم أقبل عليه بمواجهة الخطاب تأنيساً له، فقال :«ومَا يُدْرِيكَ » أي : يعلمك «لَعلَّهُ » ابنُ أم مكتوم «يَزَّكَّى » بما استدعى منك تعليمه إياه من القرآن والدين، وإنَّما ذكره بلفظ العمى ليس للتحقير، بل كأنه قيل : إنه بسبب عماه يستحق مزيد الرفق والرأفة، فكيف يليق بك يا محمد، أن تخصَّه بالغلظةِ، وأمَّا كونه مأذوناً لهُ في تأديب أصحابه، لكن هنا لمَّا أوهم تقديمَ الأغنياء على الفقراءِ، وكان ذلك مما يوهمُ ترجيح الدنيا على الدِّين، فلهذا السبب عوتب٧.
فصل فيمن استدل بالآية على جواز صدور الذنوب من الأنبياء
قال ابن الخطيب٨ : تمسَّك القائلون بصدورِ الذنب عن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - بهذه الآية.
وقالوا : لمَّا عُوتبَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على ذلك الفعل دلَّ على أنَّه كان معصية.
قال ابن الخطيب : وهذا بعيد لما ذكرنا في الجواب عن الأول، وأيضاً : فإن هذا من باب الاحتياط وترك الأفضل.
٢ الجامع لأحكام القرآن ١٩/١٣٩..
٣ وهي قراءة الحسن وأبي عمران الجوني وعيسى، ينظر: المحرر الوجيز ٥/٤٣٧، والبحر المحيط ٨/٤١٩، والدر المصون ٦/٤٧٨، وزاد "زيد بن علي"..
٤ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٤٤٤)، وذكره الحافظ ابن حجر في "تخريج الكشاف" (٤/٧٠١)، وقال: أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة أخبرني أنس بهذا وكذا رواه أبو يعلى والطبري من رواية قتادة عن أنس رضي الله عنه.
وللحديث شاهد من حديث عائشة أخرجه الترمذي (٣٣٢٨)، وابن حيان (١٧٦٩)، والحاكم (٢/٥١٤)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي..
٥ ينظر: الفخر الرازي ٣١/٥٠..
٦ سقط من: أ..
٧ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٤٤٤)، مختصرا وذكره بتمامه القرطبي في "تفسيره" (١٩/١٣٩)، عن ابن زيد..
٨ ينظر: الفخر الرازي ٣١/٥١..
وقيل : الوقف على «يَدْرِي »، والابتداء بما بعده على معنى : وما يطلعك على أمره، وعاقبة حاله، ثم ابتدأ، فقال :«لعلَّه يزكَّى ».
فصل في تحرير الضمير في قوله :«لعله »
قيل : الضمير في «لعلَّهُ » للكافر، يعني : لعل إذا طمعت في أن يتزكَّى بالإسلام.
وقوله :﴿ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا ﴾ [ الكهف : ٢٨ ].
قوله :﴿ أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذكرى ﴾.
قرأ عاصم :«فتنفعه » بالنصب.
والباقون١ : بالرفع.
فمن رفع، فهو نسق على قوله :«أو يذَّكرُ ».
ومن نصب، فعلى جواب التَّرجي كقوله في «المؤمن »٢ :﴿ فَأَطَّلِعَ ﴾ [ غافر : ٣٧ ]، وهو مذهب كوفي وقد تقدم الكلام عليه.
وقال ابن عطية٣ : في جواب التمني ؛ لأنَّ قوله تعالى :﴿ أَوْ يَذَّكَّرُ ﴾ في حكم قوله :﴿ لَعَلَّهُ يزكى ﴾.
قال أبو حيان٤ :«وهذا ليس تمنياً إنما هو ترجٍّ ».
قال شهاب الدين٥ : إنما يريد التًّمني المفهوم من الكلام، ويدلُّ له ما قاله أبو البقاء :«وبالنصب على جواب التمني في المعنى »، وإلاَّ فالفرق بين التمنِّي والترجِّي لا يجهله ابن عطية.
وقال مكي :«من نصبه جعله جواب » لَعلَّ «بالفاء ؛ لأنَّه غير موجب، فأشبه التَّمني والاستفهام، وهو غير معروف عند البصريين » وقرأ عاصمٌ٦ في رواية الأعرج :«أو يذْكُر » - بسكون الذال، وتخفيف الكاف مضمومة - مضارع «ذكر »، والمعنى : أو يتَّعظ بما يقوله :«فتنفعه الذكرى » أي : العِظَةُ.
٢ يعني سورة "غافر"..
٣ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٤٣٧..
٤ ينظر: البحر المحيط ٨/٤١٩..
٥ ينظر: الدر المصون ٦/٤٧٨..
٦ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٤٣٧، والبحر المحيط ٨/٤١٩، والدر المصون ٦/٤٧٩..
قال الزجاج : أي : أنت تقبل عليه وتتعرض له وتميل إليه، يقال تصدى فلان لفلان، يتصدّد إذا تعرض له، والأصل فيه تصدد يتصدّد من الصدد، وهو ما استقبلك وصار قبالتك فأبدل أحد الأمثال حرف علة مثل : تظنيت وقصيت، وتقضى البازي قال الشاعر :
٥١٠٧ب- تَصدَّى لِوضَّاح كأنَّ جَبينَه | سِرَاجُ الدُّجَى يُجْبَى إليه الأساور١ |
وقيل : من الصدى وهو العطش، والمعنى على التعرض، ويتمحّل لذلك إذا قلنا أصله من الصوت أو العطش.
وقرأ أبو جعفر «تُصْدي » بضم التاء وتخفيف الصاد. أي يصديك حرصك على إسلامه.
يقال : صدى الرجل وصديته، وقال الزمخشري٢ : وقرئ «تُصدي » بضم التاء أي تعرض، ومعناه يدعوك إلى داع إلى التصدي له ؛ من الحرص والتهالك على إسلامه.
٢ ينظر: الكشاف ٤/٧٠١، ٧٠٢..
والمعنى لا شيء عليك في أن لا يسلم من تدعوه إلى الإسلام، فإنه ليس عليك إلا البلاغ، أي لا يبلغن بك الحرص على إسلامهم إلى أن تعرض عمن أسلم للاشتغال بدعوتهم.
وقال أبو حيان١ : ويمكن أن يكون منه لأن ما يبنى على فعل من ذوات الواو تنقلب واوه لانكسار ما قبلها. نحو شقي يشقى. فإن كان مصدره جاء بالياء فيكون من مادة غير مادة اللهو.
قال شهاب الدين٢ : الناس إنما لم يجعلوه من اللهو لأجل أنه مسند إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم ولا يليق بمنصبه الكريم أن ينسب إليه التفعل من اللهو. بخلاف الاشتغال فإنه يجوز أن يصدر منه في بعض الأحيان، ولا ينبغي أن يعتقد غير هذا وإنما سقط الشيخ وقرأ ابن كثير في رواية البزي عنه «عنهو تلهى » بواو وهي صلة لهاء الكناية، وتشديد التاء والأصل تتلهى فأدغم، وجاز الجمع بين ساكنين لوجود حرف علة وإدغام، وليس لهذه الآية نظير. وهو أنه إذا لقي صلة هاء الكناية ساكن آخر ثبتت الصلة بل يجب الحذف، وقرأ أبو جعفر «تُلَهَّى » بضم التاء مبنياً للمفعول. أي يلهيك شأن الصناديد، وقرأ طلحة «تتلهى » بتاءين وهي الأصل، وعنه بتاء واحدة وسكون اللام.
فصل
فإن قيل قوله :﴿ فَأَنتَ لَهُ تصدى ﴾ فأنت عنه تلهى كان فيه اختصاصاً.
قلنا نعم، ومعناه إنكار التصدي والتلهي عنه، أي مثلك خصوصاً لا ينبغي أن يتصدى للغني، ويتلهى عن الفقير.
٢ ينظر: الدر المصون ٦/٤٧٩..
وقوله: ﴿إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ﴾ فيه سؤالان:
الأول: قوله: ﴿إِنَّهَا﴾ ضمير المؤنث، وقوله: ﴿فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ﴾ ضمير المذكر، والضميران عائدان إلى شيء واحد، فكيف القول فيه؟.
الجواب: وفيه وجهان:
الأول: أن قوله: ﴿إِنَّهَا﴾ ضمير المؤنث، قال مقاتل: يعني آيات القرآن، وقال الكلبي: يعني هذه السورة وهو قول الأخفش والضمير في قوله: ﴿فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ﴾ عائد إلى التذكرة أيضاً، لأن التذكرة في معنى الذكر والوعظ.
الثاني: قال صاحب النظم: إنها تذكرة يعني بها القرآن والقرآن مذكر إلا أنه لما جعل القرآن تذكرة أخرجه على لفظ التذكرة، ولو ذكره لجاز كما قال في موضع آخر ﴿كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ﴾ والدليل على أن قوله: ﴿إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ﴾ المراد به القرآن قوله ﴿فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ﴾.
فصل
كيف اتصال هذه الآية بما قبلها؟ الجواب: من وجهين:
الأول: كأنه قيل: هذا التأديب الذي أوحيته إليك وعرفته لك في إجلال الفقراء وعدم الالتفات إلى أهل الدنيا أثبت في اللوح المحفوظ الذي قد وكل بحفظه أكابر الملائكة.
الثاني: كأنه قيل: هذا القرآن قد بلغ في العظمة إلى هذا الحد العظيم، فأي حاجة به إلى أن يقبله هؤلاء الكفار، فسواء قبلوه أو لم يقبلوه فلا تلتفت إليهم ولا تشغل قلبك بهم، وإياك أن تعرض عمن آمن به تطييباً لقلوب أرباب الدنيا.
وقوله: ﴿فَي صُحُفٍ﴾ صفة لتذكرة. فقوله: ﴿فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ﴾ جملة معترضة بين الصفة وموصوفها، ونحوها ﴿فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً﴾ [المزمل: ١٩] ويجوز أن يكون «في صحف» خبراً ثانياً ل «إنها» والجملة معترضة بين الخبرين.
فصل
اعلم أنه تعالى وصف تلك التذكرة بأمرين:
الأول: قوله: ﴿فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ﴾ أي هذه تذكرة بينة ظاهرة بحيث لو أرادوا فهمها والاتعاظ بها والعمل بموجبها لقدروا عليه.
والثاني: قوله: ﴿فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ﴾ أي تلك التذكرة معدة في هذه الصحف المكرمة، والمراد من ذلك تعظيم حال القرآن والتنويه بذكره والمعنى أن هذه التذكرة مثبتة في صحف.
والمراد من «الصحف» قولان:
الأول: أنها صحف منتسخة من اللوح مكرمة عند الله تعالى مرفوعة في السماء السابعة أو مرفوعة المقدار مطهرة عن أيدي الشياطين، أو المراد مطهرة بسبب أنها لا يمسها إلا المطهرون وهم الملائكة.
قوله: ﴿سَفَرَة﴾ جمع سافر وهو الكاتب ومثله كاتب وكتبة، وسفرت بين القوم أسفر سفارة أصلحت بينهم قال:
٥١٠٧ - ج - فَمَا أدَعُ السِّفارةَ بَيْنَ قَومي | ولا أمْشِي بغِشٍّ إن مَشَيْتُ |
وقوله: ﴿كِرَامٍ﴾ هي لفظة مخصوصة بالملائكة عند الإطلاق، ولا يشاركهم فيها سواهم، وروى الضحاك عن ابن عباس في «كِرامٍ» قال: يتكرمون أن يكونوا مع ابن آدم إذا خلا بزوجته أو تَبَرَّزَ لغائطهِ.
وقيل: يُؤثِرُون منافعَ غيرهم على منافع أنفسهم.
وقوله تعالى: ﴿بَرَرَةٍ﴾ جمع بارّ، مثل: كافرٍ وكفرةٍ، وساحرٍ وسحرةٍ وفاجرٍ وفجرةٍ، يقال: برٌّ وبارٌّ، إذا كان أهلاً للصِّدقِ، برَّ فلان في يمينه أي: صدق،
فصل في المراد بالسفرة
قال ابن الخطيب: قوله تعالى: ﴿بِأَيْدِي سَفَرَةٍ﴾ يقتضي أن طهارة تلك الصحف إنما حصلت بأيدي هؤلاء السَّفرة، فقال القفالُ في تقريره: لمَّا كان لا يمسُّها إلا الملائكة المطهرون أضيف التطهير إليها لطهارة من يمسُّها.
وقال القرطبي: إن المراد بقوله - تعالى - في سورة «الواقعة» :﴿لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون﴾ [الواقعة: ٧٩] أنهم الكرام البررة في هذه السورة.
الجواب : وفيه وجهان :
الأول : أن قوله :﴿ إِنَّهَا ﴾ ضمير المؤنث، قال مقاتل : يعني آيات القرآن، وقال الكلبي : يعني هذه السورة وهو قول الأخفش والضمير في قوله :﴿ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ ﴾ عائد إلى التذكرة أيضاً، لأن التذكرة في معنى الذكر والوعظ.
الثاني : قال صاحب النظم : إنها تذكرة يعني بها القرآن والقرآن مذكر إلا أنه لما جعل القرآن تذكرة أخرجه على لفظ التذكرة، ولو ذكره لجاز كما قال في موضع آخر ﴿ كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ ﴾ والدليل على أن قوله :﴿ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ ﴾ المراد به القرآن قوله ﴿ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ ﴾.
فصل
كيف اتصال هذه الآية بما قبلها ؟ الجواب : من وجهين :
الأول : كأنه قيل : هذا التأديب الذي أوحيته إليك وعرفته لك في إجلال الفقراء وعدم الالتفات إلى أهل الدنيا أثبت في اللوح المحفوظ الذي قد وكل بحفظه أكابر الملائكة.
الثاني : كأنه قيل : هذا القرآن قد بلغ في العظمة إلى هذا الحد العظيم، فأي حاجة به إلى أن يقبله هؤلاء الكفار، فسواء قبلوه أو لم يقبلوه فلا تلتفت إليهم ولا تشغل قلبك بهم، وإياك أن تعرض عمن آمن به تطييباً لقلوب أرباب الدنيا.
قوله :﴿ ذَكَرَهُ ﴾ يجوز أن يكون الضمير لله تعالى، لأن منزل التذكرة، وأن يكون للتذكرة، وذكر ضميرها ؛ لأنها بمعنى الذكر والوعظ.
فصل
اعلم أنه تعالى وصف تلك التذكرة بأمرين :
الأول : قوله :﴿ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ ﴾ أي هذه تذكرة بينة ظاهرة بحيث لو أرادوا فهمها والاتعاظ بها والعمل بموجبها لقدروا عليه.
والثاني : قوله :﴿ فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ ﴾ أي تلك التذكرة معدة في هذه الصحف المكرمة، والمراد من ذلك تعظيم حال القرآن والتنويه بذكره والمعنى أن هذه التذكرة مثبتة في صحف.
الأول : أنها صحف منتسخة من اللوح مكرمة عند الله تعالى مرفوعة في السماء السابعة أو مرفوعة المقدار مطهرة عن أيدي الشياطين، أو المراد مطهرة بسبب أنها لا يمسها إلا المطهرون وهم الملائكة.
٥١٠٧ج- فَمَا أدَعُ السِّفارةَ بَيْنَ قَومي*** ولا أمْشِي بغِشٍّ إن مَشَيْتُ١
وسفرت المرأة : كشفت نقابها.
قال ابن الخطيب١ : قوله تعالى :﴿ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ﴾ يقتضي أن طهارة تلك الصحف إنما حصلت بأيدي هؤلاء السَّفرة، فقال القفالُ في تقريره : لمَّا كان لا يمسُّها إلا الملائكة المطهرون أضيف التطهير إليها لطهارة من يمسُّها.
وقال القرطبي٢ : إن المراد بقوله - تعالى - في سورة «الواقعة» :﴿ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون ﴾ [ الواقعة : ٧٩ ] أنهم الكرام البررة في هذه السورة.
وقيل : يُؤثِرُون منافعَ غيرهم على منافع أنفسهم.
وقوله تعالى :﴿ بَرَرَةٍ ﴾ جمع بارّ، مثل : كافرٍ وكفرةٍ، وساحرٍ وسحرةٍ وفاجرٍ وفجرةٍ، يقال : برٌّ وبارٌّ، إذا كان أهلاً للصِّدقِ، برَّ فلان في يمينه أي : صدق، وفلان يَبِرُّ خالقهُ ويتبرَّرهُ : أي : يُطِيعهُ، فمعنى «بررة » أي : مطيعين لله صادقين الله في أعمالهم.
قال ابن الخطيب١ : قوله تعالى :﴿ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ﴾ يقتضي أن طهارة تلك الصحف إنما حصلت بأيدي هؤلاء السَّفرة، فقال القفالُ في تقريره : لمَّا كان لا يمسُّها إلا الملائكة المطهرون أضيف التطهير إليها لطهارة من يمسُّها.
وقال القرطبي٢ : إن المراد بقوله - تعالى - في سورة «الواقعة» :﴿ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون ﴾ [ الواقعة : ٧٩ ] أنهم الكرام البررة في هذه السورة.
وقيل: عُذِّبَ، والإنسان: الكافرُ.
روى الأعمشُ عن مجاهدٍ قال: ما كان في القرآن من قتل الإنسان، فإن ما عني به الكافر.
قال النحويون: وهذا إما تعجبٌ، أو استفهام تعجبٍ.
قال ابن الخطيب: اعلم أنَّه - تعالى - لما ذكر ترفُّع صناديد قريش على فقراء المسلمين عجب [عباده] المؤمنين من ذلك، فكأنَّه قيل: وأيُّ سببٍ في هذا الترفُّع مع أنَّه أوله نطفة مَذِرَة، وآخره جِيفةٌ قذرةٌ، وهو فيما بين الوقتين حمال عذرة، فلا جرم أن يذكر - تعالى - ما يصلُح أن يكون علاجاً لعجبهم، وعلاجاً لكفرهم فإنَّ خلقة الإنسان تصلُح لأن يستدلّ بها على وجود الصانع، ولأن يستدل بها على القول بالبعث والحشر.
قيل: نزلت في عتبةَ بنِ أبي لهبٍ، والظاهر العموم.
وقوله تعالى: ﴿قُتِلَ الإنسان﴾ دعاء عليه بأشدِّ الأشياءِ؛ لأنَّ القتل غاية شدائدِ الدُّنيا، و ﴿مَآ أَكْفَرَهُ﴾، تعجُّبٌ من إفراطهِ في كفرانِ نعمةِ اللهِ.
فإن قيل: الدعاء على الإنسان إنما يليق بالعاجز، والقادر على الكُلِّ كيف يليق به
فالجواب: أن ذلك ورد على أسلوب كلام العرب، لبيان استحقاقهم لأعظم العقاب، حيث أتوا بأعظم القبائحِ كقولهم إذا تعجَّبُوا من شيءٍ قاتلهُ اللهُ ما أخَسّه، وأخزاه الله ما أظلمه، والمعنى: اعجبوا من كفر الإنسان بجميع ما ذكرنا بعد هذا.
وقيل: ما أكفرهُ بالله ونعمه مع معرفته بكثرة إحسانه إليه، والاستفهام بقوله: ﴿مِنْ أَيِّ شَيءٍ خَلَقَهُ﴾ قيل: استفهامُ توبيخٍ، أي: أيُّ شيءٍ دعاهُ إلى الكفر.
وقيل: استفهام تحقير، له، فذكر أوَّل مراتبه، وهو قوله تعالى: ﴿مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ﴾، ولا شك أن النطفة شيءٌ حقيرٌ مهينٌ، ومن كان أصله ذلك كيف يتكبر، وقوله: «فقدَّره» اي: أطواراً.
وقيل: سوَّاه لقوله تعالى: ﴿ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً﴾ [الكهف: ٣٧]، وقدَّر كُلَّ عُضوٍ في الكيفيَّة والكميَّة بالقدر اللائق لمصلحته، لقوله تعالى: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً﴾ [الفرقان: ٢]، ثُمَّ لما ذكر المرتبة الوسطى قال تعالى: ﴿ثُمَّ السبيل يَسَّرَهُ﴾.
قيل: المراد: تيسير خروجه من بطنِ أمِّه، ولا شكَّ أن خروجه حيًّا من أضيقِ المسالك من أعجب العجائبِ، يقالُ: إنه كان رأسه في بطن أمه من فوقٍ، ورجلاهُ من تحتٍ، فإذا جاء وقت الخروج انقلب، فمن الذي أعطاه ذلك الإلهام، المراد منه قوله تعالى: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النجدين﴾ [البلد: ١٠]، أي: التمييز بين الخير والشرِّ.
وقيل: مخصوصٌ بالدين.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ السبيل يَسَّرَهُ﴾. يجوز أن يكون الضمير للإنسان، والسبيل ظرف، أي: يسر للإنسان الطريق، أي: طريق الخير، والشر، كقوله تعالى: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النجدين﴾ [البلد: ١٠].
وقال أبو البقاء: ويجوز أن ينتصب بأنَّه مفعولٌ ثانٍ ل «يسره»، والهاء للإنسان، أي: يسره السبيل، أي: هداه له.
قال شهاب الدين: فلا بد من تضمينه معنى «أعْطَى» حتى ينصب اثنين، أو حُذف حرف الجر أي: يسَّره للسَّبيل، ولذلك قدره بقوله: «هَداه له»، ويجوز أن يكون «السَّبيل» منصوباً على الاشتغالِ بفعلٍِ مقدرٍ، والضمير له، تقديره: ثم يسِّر السبيل يسَّره، أي: سهلهُ للناس، كقوله تعالى: ﴿أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى﴾ [طه: ٥٠]، وتقدَّم مثله في قوله تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل﴾ [الإنسان: ٣].
فصل في تفسير الآية
روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - ومجاهدٍ قالا: سبيل الشقاء والسعادة.
وقال ابن زيد: سبيل الإسلام، وقال أبو بكر بن طاهر: يسّر على كلّ أحد ما خلقهُ لهُ وقدره عليه، لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «اعْمَلُوا فكُلٌّ مُيسَّرٌ لمَا خُلِقَ لَهُ».
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ﴾ هذه المرتبة الثالثة، أي: جعل له قبراً يوارى فيه يقال: قبرهُ إذا دفنه، وأقبرهُ، أي: جعلهُ بحيث يقبر، وجعل له قبراً إكراماً له، ولم يجعله ممَّن يُلْقَى على وجه الأرض تأكله الطير. قاله الفراء.
قال أبو عبيدة: «أقْبَرَهُ» جعل له قبراً، وأمرَ أن يقبر، والقَابِرُ: هو الدَّافن بيده؛ قال: الأعشى: [السريع]
٥١٠٨ - لَوْ أسْندَتْ مَيْتاً إلى نَحْرِهَا | عَاشَ ولَمْ يُنْقَلْ إلى قَابرِ |
وتقول العرب: بترت ذنب البعير وأبتره الله، وعضبت قرن الثور، وأعضبه الله وطردت فلاناً، والله أطرده، أي: صَيَّره طريداً.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ﴾. أي: أحياه بعد موته، ومفعول شاء محذوف، أي: شاء إنشارهُ، و «أنشره» جواب «إذا».
وقرأ العامة: «أنْشَرَ»، بالألف.
وروى أبو حيوة عن نافع وشعيب عن ابن أبي حمزة: «نَشَرهُ» ثلاثياً بغير ألف.
ونقلها أبو الفضل أيضاً، وقال: هما لغتان بمعنى الإحياء.
قال ابن الخطيب: وإنَّما قال: «إذا شَاءَ أنشرهُ» إشعاراً بأنَّ وقته غير معلوم، فتقديمه وتأخيره موكولٌ إلى مشيئة الله تعالى.
قال ابن الخطيب: وعندي في هذا التفسير نظر؛ لأن الضمير فيه عائد إلى المذكور السَّابق وهو الإنسان في قوله تعالى: ﴿قُتِلَ الإنسان مَآ أَكْفَرَهُ﴾ وليس المراد من الإنسان هنا: جميع الإنسان، بل الإنسان الكافر، فقوله تعالى: ﴿لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ﴾، كيف يمكن حمله على جميع الناس؟.
وقال ابن فورك: كلاَّ لما يقض الله ما أمره، [كلا لم يقض الله لهذا الكافر ما أمره به من الإيمان وترك التكبر، بل أمره بما لم يقض له به وكان ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما يقول لما يقض ما أمره] : لم يبال بالميثاق الذي أخذ عليه في صلب آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -.
وقيل: المعنى: إن ذلك الإنسان الكافر لم يقض ما أمره به من التَّأمُّلِ في دلائل الله تعالى، والتَّدبُّر في عجائب خلقه.
قوله: «ما أمره»، «ما» : موصولة.
قال أبو البقاء: بمعنى «الذي»، والعائد محذوف، أي: ما أمره به.
قال شهابُ الدين: وفيه نظر، من حيثُ إنَّه قدر العائد مجروراً بحرف لم يجر الموصول، ولا أمره به، فإن قلت: «أمر» يتعدى إليه بحذف الحرف، فاقدره غير مجرور.
قلت: إذا قدرته غير مجرور فإمَّا أن تُقدِّره متصلاً أو منفصلاً، وكلاهما مشكل، لما تقدم في أول «البقرة» عند قوله تعالى: ﴿وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [البقرة: ٣].
وقال الحسن: «كلاَّ» معناه: «حقًّا»، «لما يقض» : أي: لم يعمل بما أمره به.
قال القرطبي: و «ما» في قوله: «لما» عماد للكلام، كقوله تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله﴾ [آل عمران: ١٥٩]، وقوله تعالى: ﴿عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ﴾ [المؤمنون: ٤٠].
وقيل : سوَّاه لقوله تعالى :﴿ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً ﴾ [ الكهف : ٣٧ ]، وقدَّر كُلَّ عُضوٍ في الكيفيَّة والكميَّة بالقدر اللائق لمصلحته، لقوله تعالى :﴿ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ﴾ [ الفرقان : ٢ ].
قيل : المراد : تيسير خروجه من بطنِ أمِّه، ولا شكَّ أن خروجه حيًّا من أضيقِ المسالك من أعجب العجائبِ، يقالُ : إنه كان رأسه في بطن أمه من فوقٍ، ورجلاهُ من تحتٍ، فإذا جاء وقت الخروج انقلب، فمن الذي أعطاه ذلك الإلهام، المراد منه قوله تعالى :﴿ وَهَدَيْنَاهُ النجدين ﴾ [ البلد : ١٠ ]، أي : التمييز بين الخير والشرِّ.
وقيل : مخصوصٌ بالدين.
قوله تعالى :﴿ ثُمَّ السبيل يَسَّرَهُ ﴾. يجوز أن يكون الضمير للإنسان، والسبيل ظرف، أي : يسر للإنسان الطريق، أي : طريق الخير، والشر، كقوله تعالى :﴿ وَهَدَيْنَاهُ النجدين ﴾ [ البلد : ١٠ ].
وقال أبو البقاء١ : ويجوز أن ينتصب بأنَّه مفعولٌ ثانٍ ل «يسره »، والهاء للإنسان، أي : يسره السبيل، أي : هداه له.
قال شهاب الدين٢ : فلا بد من تضمينه معنى «أعْطَى » حتى ينصب اثنين، أو حُذف حرف الجر أي : يسَّره للسَّبيل، ولذلك قدره بقوله :«هَداه له »، ويجوز أن يكون «السَّبيل » منصوباً على الاشتغالِ بفعلٍِ مقدرٍ، والضمير له، تقديره : ثم يسِّر السبيل يسَّره، أي : سهلهُ للناس، كقوله تعالى :﴿ أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى ﴾ [ طه : ٥٠ ]، وتقدَّم مثله في قوله تعالى :﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل ﴾ [ الإنسان : ٣ ].
فصل في تفسير الآية
روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ومجاهدٍ قالا : سبيل الشقاء والسعادة٣.
وقال ابن زيد : سبيل الإسلام٤، وقال أبو بكر بن طاهر : يسّر على كلّ أحد ما خلقهُ لهُ وقدره عليه، لقوله عليه الصلاة والسلام :«اعْمَلُوا فكُلٌّ مُيسَّرٌ لمَا خُلِقَ لَهُ »٥.
٢ ينظر: الدر المصون ٦/٤٨٠..
٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٤٤٨)، عن مجاهد وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥٢٠)، وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر..
٤ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٤٤٨)، عن ابن زيد..
٥ أخرجه البخاري (١١/٥٠٣)، كتاب: القدر، باب: وكان أمر الله قدرا مقدورا حديث (٦٦٠٥)، ومسلم (٤/٢٠٣٩)، كتاب: القدر، باب: كيفية الخلق حديث (٦/٢٦٤٨)، من حديث علي..
قال أبو عبيدة :«أقْبَرَهُ » جعل له قبراً، وأمرَ أن يقبر، والقَابِرُ : هو الدَّافن بيده ؛ قال : الأعشى :[ السريع ]
٥١٠٨- لَوْ أسْندَتْ مَيْتاً إلى نَحْرِهَا | عَاشَ ولَمْ يُنْقَلْ إلى قَابرِ١ |
وتقول العرب : بترت ذنب البعير وأبتره الله، وعضبت قرن الثور، وأعضبه الله وطردت فلاناً، والله أطرده، أي : صَيَّره طريداً.
ينظر ديوان الأعشى ص ٩٣، وسمط اللآلىء ١/٢٧٥، ٢/٧٥٦، ومجاز القرآن ٢/٢٨٦، وإعراب القرآن للنحاس ٣/٦٢٩، ٥/١٥٢، والطبري ٣٠/٣٦، ومجمع البيان ١٠/٦٦٣، والقرطبي ١٩/١٤٣..
وقرأ العامة :«أنْشَرَ »، بالألف.
وروى أبو حيوة عن نافع وشعيب عن ابن أبي حمزة :«نَشَرهُ » ثلاثياً بغير ألف١.
ونقلها أبو الفضل أيضاً، وقال : هما لغتان بمعنى الإحياء.
قال ابن الخطيب٢ : وإنَّما قال :«إذا شَاءَ أنشرهُ » إشعاراً بأنَّ وقته غير معلوم، فتقديمه وتأخيره موكولٌ إلى مشيئة الله تعالى.
٢ ينظر: الفخر الرازي ٣١/٥٦..
قال ابن الخطيب٢ : وعندي في هذا التفسير نظر ؛ لأن الضمير فيه عائد إلى المذكور السَّابق وهو الإنسان في قوله تعالى :﴿ قُتِلَ الإنسان مَآ أَكْفَرَهُ ﴾ وليس المراد من الإنسان هنا : جميع الإنسان، بل الإنسان الكافر، فقوله تعالى :﴿ لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ ﴾، كيف يمكن حمله على جميع الناس ؟.
وقال ابن فورك : كلاَّ لما يقض الله ما أمره، [ كلا لم يقض الله لهذا الكافر ما أمره به من الإيمان وترك التكبر، بل أمره بما لم يقض له به وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول لما يقض ما أمره ] : لم يبال بالميثاق الذي أخذ عليه في صلب آدم - عليه الصلاة والسلام -.
وقيل : المعنى : إن ذلك الإنسان الكافر لم يقض ما أمره به من التَّأمُّلِ في دلائل الله تعالى، والتَّدبُّر في عجائب خلقه.
قوله :«ما أمره »، «ما » : موصولة.
قال أبو البقاء٣ : بمعنى «الذي »، والعائد محذوف، أي : ما أمره به.
قال شهابُ الدين٤ : وفيه نظر، من حيثُ إنَّه قدر العائد مجروراً بحرف لم يجر الموصول، ولا أمره به، فإن قلت :«أمر » يتعدى إليه بحذف الحرف، فاقدره غير مجرور.
قلت : إذا قدرته غير مجرور فإمَّا أن تُقدِّره متصلاً أو منفصلاً، وكلاهما مشكل، لما تقدم في أول «البقرة » عند قوله تعالى :﴿ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [ البقرة : ٣ ].
وقال الحسن :«كلاَّ » معناه :«حقًّا »، «لما يقض » : أي : لم يعمل بما أمره به٥.
قال القرطبي٦ : و«ما » في قوله :«لما » عماد للكلام، كقوله تعالى :﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله ﴾ [ آل عمران : ١٥٩ ]، وقوله تعالى :﴿ عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ ﴾ [ المؤمنون : ٤٠ ].
وقال ابن الأنباريِّ : الوقف على «كلاَّ » قبيح، والوقف على «أمره » و «نشره » جيد، ف «كلا » على هذا بمعنى حقًّا.
وينظر تفسير الماوردي (٦/٢٠٦)، والقرطبي (١٩/١٤٣)..
٢ ينظر: الرازي ٣١/٥٦..
٣ الإملاء ٢/٢٨١..
٤ الدر المصون ٦/٤٨٠..
٥ ذكره القرطبي في تفسيره (١٩/١٤٣)، عن الحسن..
٦ الجامع لأحكام القرآن ١٩/١٤٣..
قال ابن الخطيب: اعلم أنَّ عادة الله - تعالى - جارية في القرآن الكريم، كلما ذكر دلائل الأنفس يذكر عقبها دلائل الآفاق، فبدأ - هاهنا - بما يحتاج الإنسان إليه.
واعلم أنَّ النَّبْتَ إنَّما يحصل من القَطْرِ النازل من السماء الواقع في الأرض، فالسماء كالذَّكر، والأرض كالأنثى، فبيَّن نزول السماء إلى الأرض بقوله: ﴿أَنَّا صَبَبْنَا المآء﴾.
وقال القرطبي: لمَّا ذكر تعالى ابتداء خلقِ الإنسان، ذكر ما يسَّر من رزقه، أي: فلينظر كيف خلق الله طعامه الذي هو قوام حياته، وكيف هيأ له أسباب المعاشِ ليستعد بها للمعاد، وهذا النظر نظر القلب بالفكر، والتدبر.
قال الحسنُ ومجاهدٌ: ﴿فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طَعَامِهِ﴾ أي: إلى مدخله ومخرجه.
روى الضحاكُ بنُ سفيان الكلابي، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «» يَا ضحَّاكُ، ما طَعامُكَ «؟ قلت: يا رسول الله، اللَحْمُ واللَّبنُ، قال:» ثُمَّ يصيرُ إلى مَاذَا «؟ قلت: إلى ما قد علمتهُ، قال:» فإنَّ الله - تعالى - ضَرَبَ مَا يَخْرجُ مِنْ ابْنِ آدمَ مثلاً للدُّنْيَا «».
وقال أبو الوليد: سألت ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - عن الرجل يدخل الخلاء، فينظر ما يخرج منه، قال: يأتيه الملك فيقول: انظر ما بخلت به إلى ما صار.
واعلم أنَّ الطعام الذي يتناوله الإنسان له حالتان:
إحداهما متقدمة، وهي التي لا بد من وجودها حتى يدخل ذلك الطعام في الوجود.
قوله تعالى: ﴿أَنَّا صَبَبْنَا المآء صَبّاً﴾.
قرأ الكوفيون: «أنَّا» بفتح الهمزة غير ممالة.
والباقون: بالكسر.
والحسين بن علي: بالفتح والإمالة.
فأمَّا الفراءة الأولى، ففيها ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها بدل من «طَعامه»، فيكون في محل جر، واستشكل بعضهم هذا الوجه، ورد بأنه ليس بواضح.
والثاني: أنه بدلُ اشتمالٍ، بمعنى أنَّ صبَّ الماء سبب في إخراج الطَّعام، فهو مشتمل عليه بهذا التقدير، وقد نحا مكيٌّ إلى هذا فقال: لأن هذه الأشياء مشتملة على الطعام ومنها يتكون، لأنَّ معنى «إلى طعامهِ» إلى حدوث طعامه كيف يتأتى، فالاشتمال في هذا إنما هو من الثاني على الأول؛ لأن الاعتبار إنَّما هو في الأشياء التي يتكون منها الطعام لا في الطعام نفسه.
والوجه الثاني: أنها على تقدير لام العلَّة، أي فلينظر لأنا، ثم حذف الخافض فجرى الخلاف المشهور في محلها.
قال القرطبيُّ: ف «أنّا» في موضع خفضٍ على الترجمة عن الطعام، فهو بدل منه؛ كأنًّه قال: ﴿فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طَعَامِهِ﴾ إلى «أنَّا صببنا»، فلا يحسن الوقف على «طعامه» في هذه القراءة.
والوجه الثالث: أنَّها في محل رفعٍ خبر لمبتدأ محذوف، أي: هو أنَّا صَببنَا، وفيه ذلك النظر المتقدم؛ لأنَّ الضمير إن عاد على الطعام، فالطعام ليس هو نفس الصب، وإن عاد على غيره، فهو غير معلوم، وجوابه ما تقدم.
وأما القراءة الثانية: فعلى الاستئناف تقديراً لنعمه عليه.
وأما القراءة الثالثة: «أنَّى» التي بمعنى: «كَيْفَ»، وفيها معنى التَّعجُّب، فهي على هذه القراءة كلمة واحدة، وعلى غيرها كلمتان.
٥١٠٩ - أنَّى، ومِنْ أيْنَ آبَكَ الطَّربُ | مِنْ حَيْثُ لا صبْوةُ ولا رَيبُ |
فصل في المراد بصبّ الماء
قوله: ﴿صَبَبْنَا المآء صَبّاً﴾، يعني: الغيث والأمطار، ﴿ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقّاً﴾ أي: بالنبات ﴿فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً﴾ أي: قَمْحاً وشعيراً وسلقاً، وسائر ما يحصد ويدخر، وإنما قدم ذلك لأنها كالأصل في الأغذية، «وعِنَباً» وإنما ذكره بعد الحب؛ لأنه غذاء من وجه، وفاكهة من وجه.
قوله: ﴿وَقَضْباً﴾ : القَضْبُ هنا، قال ابن عباس: هو الرطبُ، لأنه يقضب النخل، أي: يقطع، ورجَّحه بعضهم بذكره بعد العنب، وكثيراً ما يقترنان.
وقيل: القت.
قال القتيبي: كذا يسميه أهلُ «مكة».
وقيل: كُل ما يُقْضَبُ من البُقولِ لبني آدمَ.
وقيل: هو الرَّطبةُ، والمقاضب: الأرض التي تنبتها.
قال الراغب: والقَضْبُ: كالقضيب، لكن القضيب يستعمل في فروع الشجر، والقضبُ يستعمل في البقل، والقَضَبُ: أي بالفتح قطع القَضْب والقضيب، وعنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه كان إذا رأى في ثوبٍ تصليباً قضبه، وسيفٌ قاضبٌ وقضيبٌ، أي: قاطعٌ، فالقضيب - هاهنا - بمعنى: الفاعل، وفي الأول: بمعنى المفعول، وكذا قولهم: ناقة قضيب، لما تركب من بين الإبل ولما ترض، وفي الأول: بمعنى المفعول، وكذا قولهم: ناقة قضيب، لما تركب من بين الإبل ولما ترض، ويقال لكل ما لم يهذب: مقتضب، ومنه اقتضاب الحديث، لما لم يترو فيه.
وقال الخليل: القَضْبُ: أغصان الشجرة التي يتّخذ منها سهامٌ أو قسيٌّ.
وقال ابن عباس: إنه الفصفصة، وهوالقتّ الرطب.
وقيل: بالسين، فإذا يبست فهو قتّ.
قوله: ﴿وَزَيْتُوناً﴾. وهي: شجرة الزيتون، ﴿وَنَخْلاً﴾ يعني: النخيل.
قوله: ﴿وَحَدَآئِقَ غُلْباً﴾. جمع «أغلبَ وغلبَاء» ك «حُمْر» في «أحْمرَ، وحَمْراءَ»، يقال: حديقة غلباء، أي: غليظة الشجر ملتفة، واغلولب العشب أي: غلظ، وأصله في وصف الرقاب يقال: رجل أغلب، وامرأة غلباء، أي: غليظة الرقبة.
قال عمرو بن معديكرب: [الكامل]
٥١١٠ - يَسْعَى بِهَا غلْبُ الرِّقابِ كأنَّهُمْ | بُزلٌ كُسينَ مِنَ الكُحَيْلِ جِلالا |
٥١١١ - مَا زِلْتُ يَوْمَ البَيْنِ ألْوِي صُلْبِي | والرَّأسَ حتَّى صِرْتُ مِثْلَ الأغلبِ |
وقال قتادةُ: وابنُ زيدٍ: الغلبُ: النَّخْلُ الكرامُ.
وعن ابن زيدٍ أيضاً وعكرمةَ: عظام الأوساط، والجذوع.
وقال مجاهد: ملتفة. وتقدم الكلام على الحدائق في سورة «النمل».
قوله: ﴿وَفَاكِهَةً وَأَبّاً﴾. الفاكهةُ: ما يأكله الناس من ثمار الأشجار، كالتين، والخوخ، وغيرهما.
قال ابن الخطيب: وقد استدلَّ بعضهم بأنَّ الله - تعالى - لمَّا ذكره الفاكهة بعد ذكر العنبِ، والزيتونِ، والنخل، وجب ألا يدخل هذه الأشياء في الفاكهة، وهذا أقربُ من جهة الظاهر؛ لان المعطوف مغاير للمعطوف عليه.
وقيل: هو مطلق المرعى.
قال الشاعر يمدحُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: [الطويل]
٥١١٢ - لَهُ دَعْوةٌ مَيْمُونةٌ رِيحُهَا الصَّبا | بِهَا يُنْبِتُ اللهُ الحَصِيدةَ والأبَّا |
٥١١٣ - جِذمُنَا قَيْسٌ ونَجْدٌ دَارُنَا | ولنَا الأبُّ بِهِ والمُكْرَعُ |
وقيل: الأبُّ ما تأكله البهائمُ من العُشْبِ.
قال ابنُ عباسٍ والحسن: الأبُّ، كل ما أنبتت الأرض مما لا يأكله الناس، وما يأكله الآدميون، هو: «الحصيد».
وعن ابن عباس وابن أبي طلحة: الأبُّ، الثِّمارُ الرَّطبةُ.
وقال الضحاك: هو التِّينُ خاصَّةً. وهو محكي عن ابن عباس أيضاً. وقيل: الأب الفاكهة رطب الثمار ويابسها.
وقال إبراهيم التيمي: سُئل أبُو بكر الصديقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - عن تفسير الفاكهة والأبِّ، فقال: أيُّ سماءٍ تظلني وأي أرض تقلّني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم.
وقال أنس: سمعت عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يقرأ هذه الآية، ثم قال: كل هذا عرفناه فما الأبُّ؟ ثم رفع عصا كانت بيده، ثم قال: هذا لعمر الله التكليف، وما عليك يا ابن أم عمر ألا تدري ما الأبُّ؟.
ثم قال: اتَّبعوا ما بين لكم في هذا الكتاب، وما لا فدعوه.
وإنما أراد بقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «خُلِقْتُمْ مِنَ سَبْعٍ» يعني: ﴿مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ﴾
[الحج: ٥] الآية.
والرزق من سبع، وهو قوله تعالى: ﴿فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً﴾ إلى قوله «وفاكهة» ثم قال: «وأبًّا» وهو يدل على أنه ليس برزق لابن آدم، وأنَّه مما تختص به البهائم، والله أعلم.
قوله: ﴿مَّتَاعاً لَّكُمْ﴾ : نصب على المصدر المؤكد؛ لأن إنبات هذه الأشياء متاعٌ لجميع الحيوانات، واعلم أنه - تعالى - لما ذكر ما يغتذي به الناس والحيوان، قال جل من قائل: ﴿مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ﴾.
قال الفراء: جعلناه منفعة لكم ومتعة لكم ولأنعامكم، وهذا مثلٌ ضربه الله لبعث الموتى من قبورهم، كنبات الزرع بعد دُثُوره كما تقدم بيانه في غير موضع.
قرأ الكوفيون :«أنَّا » بفتح الهمزة غير ممالة.
والباقون١ : بالكسر.
والحسين بن علي : بالفتح والإمالة.
فأمَّا الفراءة الأولى، ففيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها بدل من «طَعامه »، فيكون في محل جر، واستشكل بعضهم هذا الوجه، ورد بأنه ليس بواضح.
والثاني : أنه بدلُ اشتمالٍ، بمعنى أنَّ صبَّ الماء سبب في إخراج الطَّعام، فهو مشتمل عليه بهذا التقدير، وقد نحا مكيٌّ إلى هذا فقال : لأن هذه الأشياء مشتملة على الطعام ومنها يتكون، لأنَّ معنى «إلى طعامهِ » إلى حدوث طعامه كيف يتأتى، فالاشتمال في هذا إنما هو من الثاني على الأول ؛ لأن الاعتبار إنَّما هو في الأشياء التي يتكون منها الطعام لا في الطعام نفسه.
والوجه الثاني : أنها على تقدير لام العلَّة، أي فلينظر لأنا، ثم حذف الخافض فجرى الخلاف المشهور في محلها.
قال القرطبيُّ٢ : ف «أنّا » في موضع خفضٍ على الترجمة عن الطعام، فهو بدل منه ؛ كأنًّه قال :﴿ فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طَعَامِهِ ﴾ إلى «أنَّا صببنا »، فلا يحسن الوقف على «طعامه » في هذه القراءة.
والوجه الثالث : أنَّها في محل رفعٍ خبر لمبتدأ محذوف، أي : هو أنَّا صَببنَا، وفيه ذلك النظر المتقدم ؛ لأنَّ الضمير إن عاد على الطعام، فالطعام ليس هو نفس الصب، وإن عاد على غيره، فهو غير معلوم، وجوابه ما تقدم.
وأما القراءة الثانية : فعلى الاستئناف تقديراً لنعمه عليه.
وأما القراءة الثالثة :«أنَّى » التي بمعنى :«كَيْفَ »، وفيها معنى التَّعجُّب، فهي على هذه القراءة كلمة واحدة، وعلى غيرها كلمتان.
قال القرطبي٣ : فمن أخذ بهذه القراءة، قال : الوقف على «طعامه » تام، ويقال : معنى «أنَّى » : أين، إلاَّ أنَّ فيها كناية عن الوجوه، وتأويلها : من أي وجهٍ صببنا ؛ قال : الكميت :[ المنسرح ]
٥١٠٩- أنَّى، ومِنْ أيْنَ آبَكَ الطَّربُ | مِنْ حَيْثُ لا صبْوةُ ولا رَيبُ٤ |
فصل في المراد بصبّ الماء
قوله :﴿ صَبَبْنَا المآء صَبّاً ﴾، يعني : الغيث والأمطار.
٢ الجامع لأحكام القرآن ١٩/١٤٤..
٣ ينظر السابق..
٤ ينظر: الكميت وقصائده الهاشميات ص ١٣٣، وشرح شواهد الألفية ص ٣١٠، وشرح المفصل ٤/١٠٩، ١١١، والصاحبي في فقه اللغة ص ٢٤٢، وشرح شافية ابن الحاجب ٣/٢٧، والقرطبي ١٩/١٤٤..
قوله :﴿ وَقَضْباً ﴾ : القَضْبُ هنا، قال ابن عباس : هو الرطبُ، لأنه يقضب النخل، أي : يقطع، ورجَّحه بعضهم بذكره بعد العنب، وكثيراً ما يقترنان.
وقيل : القت.
قال القتيبي : كذا يسميه أهلُ «مكة ».
وقيل : كُل ما يُقْضَبُ من البُقولِ لبني آدمَ.
وقيل : هو الرَّطبةُ، والمقاضب : الأرض التي تنبتها.
قال الراغب : والقَضْبُ : كالقضيب، لكن القضيب يستعمل في فروع الشجر، والقضبُ يستعمل في البقل، والقَضَبُ : أي بالفتح قطع القَضْب والقضيب، وعنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا رأى في ثوبٍ تصليباً قضبه، وسيفٌ قاضبٌ وقضيبٌ، أي : قاطعٌ، فالقضيب - هاهنا - بمعنى : الفاعل، وفي الأول : بمعنى المفعول، وكذا قولهم : ناقة قضيب، لما تركب من بين الإبل ولما ترض، ويقال لكل ما لم يهذب : مقتضب، ومنه اقتضاب الحديث، لما لم يترو فيه.
وقال الخليل : القَضْبُ : أغصان الشجرة التي يتّخذ منها سهامٌ أو قسيٌّ.
وقال ابن عباس : إنه الفصفصة، وهوالقتّ الرطب١.
وقال الخليل : القَضْبُ : الفصفصة الرطبة.
وقيل : بالسين، فإذا يبست فهو قتّ.
قال عمرو بن معديكرب :[ الكامل ]
٥١١٠- يَسْعَى بِهَا غلْبُ الرِّقابِ كأنَّهُمْ | بُزلٌ كُسينَ مِنَ الكُحَيْلِ جِلالا١ |
٥١١١- مَا زِلْتُ يَوْمَ البَيْنِ ألْوِي صُلْبِي | والرَّأسَ حتَّى صِرْتُ مِثْلَ الأغلبِ٢ |
وقال قتادةُ : وابنُ زيدٍ : الغلبُ : النَّخْلُ الكرامُ٣.
وعن ابن زيدٍ أيضاً وعكرمةَ : عظام الأوساط، والجذوع٤.
وقال مجاهد : ملتفة٥. وتقدم الكلام على الحدائق في سورة «النمل ».
٢ ينظر اللسان (بين)، و(صلب)، والقرطبي ١٩/١٤٤..
٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٤٥٠)، عن قتادة وابن زيد..
٤ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٤٥٠)، عن عكرمة وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥٢١)، وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر..
٥ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥٢١)، وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر..
قال ابن الخطيب١ : وقد استدلَّ بعضهم بأنَّ الله - تعالى - لمَّا ذكره الفاكهة بعد ذكر العنبِ، والزيتونِ، والنخل، وجب ألا يدخل هذه الأشياء في الفاكهة، وهذا أقربُ٢ من جهة الظاهر ؛ لأن المعطوف مغاير للمعطوف عليه.
وأمَّا الأبُّ : فقيل : الأبُّ للبهائم بمنزلة الفاكهة للنَّاس.
وقيل : هو مطلق المرعى.
قال الشاعر يمدحُ النبي صلى الله عليه وسلم :[ الطويل ]
٥١١٢- لَهُ دَعْوةٌ مَيْمُونةٌ رِيحُهَا الصَّبا | بِهَا يُنْبِتُ اللهُ الحَصِيدةَ والأبَّا٣ |
٥١١٣- جِذمُنَا قَيْسٌ ونَجْدٌ دَارُنَا | ولنَا الأبُّ بِهِ والمُكْرَعُ٤ |
وقيل : الأبُّ ما تأكله البهائمُ من العُشْبِ.
قال ابنُ عباسٍ والحسن : الأبُّ، كل ما أنبتت الأرض مما لا يأكله الناس، وما يأكله الآدميون، هو :«الحصيد »٥.
وعن ابن عباس وابن أبي طلحة : الأبُّ، الثِّمارُ الرَّطبةُ٦.
وقال الضحاك : هو التِّينُ خاصَّةً٧. وهو محكي عن ابن عباس أيضاً. وقيل : الأب الفاكهة رطب الثمار ويابسها.
وقال إبراهيم التيمي : سُئل أبُو بكر الصديقُ - رضي الله عنه - عن تفسير الفاكهة والأبِّ، فقال : أيُّ سماءٍ تظلني وأي أرض تقلّني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم٨.
وقال أنس : سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقرأ هذه الآية، ثم قال : كل هذا عرفناه فما الأبُّ ؟ ثم رفع عصا كانت بيده، ثم قال : هذا لعمر الله التكليف، وما عليك يا ابن أم عمر ألا تدري ما الأبُّ ؟.
ثم قال : اتَّبعوا ما بين لكم في هذا الكتاب، وما لا فدعوه٩.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«خُلِقْتُمْ مِنْ سَبْعٍ، ورُزقتُمْ مِنْ سَبعٍ فاسجُدُوا للهِ على سَبْعٍ »١٠.
وإنما أراد بقوله عليه الصلاة والسلام :«خُلِقْتُمْ مِنَ سَبْعٍ » يعني :﴿ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ ﴾ [ الحج : ٥ ] الآية.
والرزق من سبع، وهو قوله تعالى :﴿ فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً ﴾ إلى قوله ﴿ وفاكهة ﴾ ثم قال :﴿ وأبًّا ﴾ وهو يدل على أنه ليس برزق لابن آدم، وأنَّه مما تختص به البهائم، والله أعلم.
٢ في أ: قريب..
٣ ينظر القرطبي ١٩/١٤٥، والبحر ٨/٤١٨، والدر المصون ٦/٤٨٢..
٤ ينظر اللسان (أبب)، والكشاف ٤/٧٠٤، والقرطبي ١٩/١٤٥، والبحر المحيط ٤٧١، ومجمع البيان ١٠/٦٦٧..
٥ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٤٥٢)..
٦ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٤٥٢)..
٧ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥٢٢)، عن الضحاك وعزاه إلى عبد بن حميد..
٨ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥٢٢) وعزاه إلى أبي عبيد في فضائله وعبد بن حميد..
٩ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٤٥١)، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥٢٢)، وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وابن سعد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في "شعب الإيمان" والخطيب..
١٠ ينظر تفسير القرطبي (١٩/١٤٥)..
قال الفراء : جعلناه منفعة لكم ومتعة لكم ولأنعامكم، وهذا مثلٌ ضربه الله لبعث الموتى من قبورهم، كنبات الزرع بعد دُثُوره كما تقدم بيانه في غير موضع.
وقيل: هي مأخوذة من صَخّهُ بالحجر أي: صَكَّهُ به.
وقال الزمخشري: «صخَّ لحديثه مثل أصاخ له، فوصفت النفخة بالصاخَّة مجازاً؛ لأن النَّاس يصخُّون لها».
وقال ابن العربي: الصاخَّة: التي تورث الصَّممَ، وإنَّها لمسمعة، وهذا من بديع الفصاحة؛ كقول الشاعر: [البسيط]
٥١١٤ - أصمَّنِي سِرُّهُمْ أيَّام فُرقتِهِمْ | فَهل سَمِعتُمْ بِسرِّ يُورِثُ الصَّمَمَا |
وجواب «إذا» محذوف، يدل عليه قوله: «لكُلِّ امرئٍ مِنهُمْ يومئذٍ شأنٌ يُغنِيهِ». والتقدير: فإذا جاءت الصاخة اشتغل كل أحد بنفسه.
فصل في تعلق الآية
لما ذكر أمر المعاش ذكر أمر المعاد ليتزودوا له بالأعمال الصالحة، والإنفاق مما امتن به عليهم.
وقال ابنُ الخطيب: لمَّا ذكر تعالى هذه الأشياء، وكان المقصود منها أمور ثلاثة:
أولها: الدلائل الدالة على التوحيد.
وثانيها: الدلائل الدالة على القدرة والمعاد.
وثالثها: أن هذا الإله الذي أحسن إلى عبيده بهذه الأنواع العظيمة من الإحسان، لا يليق بالعاقل أن يتمرَّد عن طاعته، وأن يتكبَّر على عبيده أتبع ذلك بما يكون كالمؤكِّد لهذه الأغراض، وهو شرح [أهوالِ الآخرةِ]، فإن الإنسان إذا سمعها خاف، فيدعوه ذلك الخوف إلى التأمل في الدلائل، والإيمان بها، والإعراض عن الكفر، ويدعوه أيضاً إلى ترك التكبُّر على الناس، وإلى إظهار التواضع فقال تعالى: ﴿فَإِذَا جَآءَتِ الصآخة﴾ يعني: صيحة القيامةِ، وهي النفخة الأخيرةُ، تصخُّ الأسماع أي: تصمُّها، فلا تسمع إلا ما يدعى به الأحياء.
قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَا مِنْ دَابَّةٍ إلا وهِيَ مُصِيخَةٌ يوْمَ الجُمعَةِ شفقاً مِنَ السَّاعَةِ إلاَّ الجنِّ والإنسَ».
قوله: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ المرء﴾ بدل من «إذا»، ولا يجوز أن يكون «يغنيه» عاملاً، في «إذا»، ولا في «يوم» ؛ لأنه صفة ل «شأن» ولا يتقدم معمول الصِّفة على موصوفها.
والعامة على «يغنيه» من الإغناءِ.
فصل في معنى الآية
قوله: «يَفِرُّ»، أي: يهرب في يوم مجيء الصاخَّةِ، «مَنْ أخِيْهِ» أي: من مُوالاةِ أخيهِ، ومُكالمتهِ لأنه مشتغل بنفسه، لقوله بعده: ﴿لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾، أي: يشغلهُ عن غيره.
وقيل: إنَّما يفرّ حذراً من مطالبتهم إياه بالتبعات، يقول الأخُ: ما واسيتنِي بمالك، والأبوان يقولان: قصرت في برنَا، والصاحبة تقول: أطمعتني الحرامَ، والبنون يقولون: ما علمتنا.
وقيل: لعلمه أنهم لا ينفعونه، ولا يغنون عنه شيئاً، لقوله تعالى: ﴿يَوْمَ لاَ يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً﴾ [الدخان: ٤١].
وقال عبد الله بن طاهر: يفرُّ منهم لمَّا تبين له عجزهم، وقلّة حيلتهم.
وذكر الضحاك عن ابن عباس، قال: يفر قابيلُ من أخيه هابيل، ويفرُّ النبي من أمِّه، ويفرُّ إبراهيمُ من أبيه، ونوحٌ من ابنه، ولوطٌ من امرأتهِ، وآدمُ من سوءةِ بنيهِ.
قال ابنُ الخطيب: المراد: أن الذين كان المرء يفرُّ إليهم في دار الدنيا، ويستجيرُ بهم، فإنه يفرُّ منهم في دار الآخرة، وذكروا في فائدة الترتيب كأنَّه قيل: ﴿يَوْمَ يفرُّ المَرْءُ من أخِيهِ﴾، بل من أبويه، فإنهما أقرب من الأخوين، بل من الصَّاحبة والولد؛ لأنَّ تعلُّق القلب بهما أشد من تعلُّقه بالأبوين. ثم لمَّا ذكر الفِرارَ أتبعه بذكر سببه فقال تعالى: ﴿لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾.
قال ابن قتيبة: «يغنيه» أي: يصرفه عن قرابته، ومنه يقال: أغْنِ عنِّي وَجْهَكَ، أي: اصرفه.
وقال أهل المعاني: إنَّ ذلك الهم الذي حصل له قد ملأ صدره، فلم يبق فيه متسع لهمّ آخر، فصار شبيهاً بالغني في أنه ملك شيئاً كثيراً.
قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ﴾. لما ذكر تعالى حال يوم القيامة في الهول بيَّن أن المكلفين فيه على قسمين: سعداء، وأشقياء، فوصف سبحانه السعيد بقوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ﴾ أي: مضيئة مشرقة، وقد علمت ما لها من الفوز، والنعيم، من أسفر الصبح: إذا أضاء، وهي وجوه المؤمنين «ضاحكةٌ» أي: مسرورة فرحة.
وقال عطاءُ الخراسانيُّ: «مسْفِرةٌ» من طول ما اغبرت في سبيل الله.
وقال الضحاكُ: من آثار الوضوء.
وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: من قيامِ اللَّيل، لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «مَنْ كَثُرتْ صلاتُه باللَّيلِ حسُنَ وجههُ بالنَّهارِ».
قوله تعالى: ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ﴾.
قال المبرد: «الغَبَرةُ» الغبارُ، والقترةُ: سوادٌ كالدُّخان.
وقال أبو عبيدة: القترُ في كلام العرب: الغبارُ، جمع القترة؛ قال الفرزدقُ: [البسيط]
٥١١٦ - مُتَوجٌ بِرداءِ المُلكِ يَتْبعهُ | مَوْجٌ تَرى فَوقَهُ الرَّاياتِ والقَتَرَا |
٥١١٧ -....................................... كَذِبًا ومَيْنَا
وقوله: [الطويل]
٥١١٨ -...................................... النَّأيُ والبُعْدُ
وهو خلاف الأصل، وفي الحديث: «إنَّ البَهَائِمَ إذَا صَارتْ تُراباً يَوْمَ القِيَامَةِ حُولَ ذلِكَ التُّرابُ في وُجوهِ الكُفَّارِ».
وقال زيدُ بن أسلمَ: القترةُ: ما ارتفعت إلى السماء، والغبرةُ: ما انحطت إلى الأرض، والغُبَار والعبرةُ واحدٌ.
وعنه - أيضاً -: ذلَّةٌ وشدَّةٌ.
وقيل: تَرهقُهَا، أي: تدركها عن قُرب، كقولك: رَهقَتْهُ الخيل إذا أدركته مسرعة، والرَّهْقُ: عجلة الهلاك، القترةُ: سواد كالدُّخان، ولا يرى أوحشُ من اجتماع الغبار والسواد في الوجه، كما ترى وجوه الزنوج إذا غبرت، فجمع الله - تعالى - في وجوههم بين السواد، والغبرة، كما جمعوا بين الكفر، والفجور، والله أعلم.
والعامة: على فتح التاء في «قَتَرة»، وأسكنها ابن أبي عبلة.
قوله: ﴿أولئك هُمُ الكفرة﴾ : جمع كافِر، «الفَجرَةُ» : جمع فَاجِر، وهو الكاذبُ المُفتَرِي على الله تعالى.
وقيل: الفَاسقُ: يقال: فَجَرَ فُجُوراً، أي: فسَقَ، وفَجرَ: أي: كذبَ. وأصله الميل، والفاجر المائل.
روى الثعلبي عن أبيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صلى الله وسلم: «مَنْ قَرَأ سُورَة ﴿عَبَسَ وتولى﴾ جاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ ووجْههُ ضَاحِكٌ مُسْتَبْشِرٌ».
والعامة على «يغنيه » من الإغناءِ.
وابن محيصن١ والزهري، وابنُ أبي عبلة وحميدٌ، وابن السميفع :«يعنيه » بفتح الياء والعين المهملة من قولهم : عناني في الأمر، أي : قصدني.
فصل في معنى الآية
قوله :«يَفِرُّ »، أي : يهرب في يوم مجيء الصاخَّةِ، «مَنْ أخِيْهِ » أي : من مُوالاةِ أخيهِ، ومُكالمتهِ لأنه مشتغل بنفسه، لقوله بعده :﴿ لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ﴾، أي : يشغلهُ عن غيره.
وقيل : إنَّما يفرّ حذراً من مطالبتهم إياه بالتبعات، يقول الأخُ : ما واسيتنِي بمالك، والأبوان يقولان : قصرت في برنَا، والصاحبة تقول : أطمعتني الحرامَ، والبنون يقولون : ما علمتنا.
وقيل : لعلمه أنهم لا ينفعونه، ولا يغنون عنه شيئاً، لقوله تعالى :﴿ يَوْمَ لاَ يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً ﴾ [ الدخان : ٤١ ].
وقال عبد الله بن طاهر : يفرُّ منهم لمَّا تبين له عجزهم، وقلّة حيلتهم.
وذكر الضحاك عن ابن عباس، قال : يفر قابيلُ من أخيه هابيل، ويفرُّ النبي من أمِّه، ويفرُّ إبراهيمُ من أبيه، ونوحٌ من ابنه، ولوطٌ من امرأتهِ، وآدمُ من سوءةِ بنيهِ٢.
قال ابنُ الخطيب٣ : المراد : أن الذين كان المرء يفرُّ إليهم في دار الدنيا، ويستجيرُ بهم، فإنه يفرُّ منهم في دار الآخرة، وذكروا في فائدة الترتيب كأنَّه قيل :﴿ يَوْمَ يفرُّ المَرْءُ من أخِيهِ ﴾، بل من أبويه، فإنهما أقرب من الأخوين، بل من الصَّاحبة والولد ؛ لأنَّ تعلُّق القلب بهما أشد من تعلُّقه بالأبوين.
٢ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/١٤٦)..
٣ ينظر: الفخر الرازي ٣١/٥٩..
والعامة على «يغنيه » من الإغناءِ.
وابن محيصن١ والزهري، وابنُ أبي عبلة وحميدٌ، وابن السميفع :«يعنيه » بفتح الياء والعين المهملة من قولهم : عناني في الأمر، أي : قصدني.
فصل في معنى الآية
قوله :«يَفِرُّ »، أي : يهرب في يوم مجيء الصاخَّةِ، «مَنْ أخِيْهِ » أي : من مُوالاةِ أخيهِ، ومُكالمتهِ لأنه مشتغل بنفسه، لقوله بعده :﴿ لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ﴾، أي : يشغلهُ عن غيره.
وقيل : إنَّما يفرّ حذراً من مطالبتهم إياه بالتبعات، يقول الأخُ : ما واسيتنِي بمالك، والأبوان يقولان : قصرت في برنَا، والصاحبة تقول : أطمعتني الحرامَ، والبنون يقولون : ما علمتنا.
وقيل : لعلمه أنهم لا ينفعونه، ولا يغنون عنه شيئاً، لقوله تعالى :﴿ يَوْمَ لاَ يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً ﴾ [ الدخان : ٤١ ].
وقال عبد الله بن طاهر : يفرُّ منهم لمَّا تبين له عجزهم، وقلّة حيلتهم.
وذكر الضحاك عن ابن عباس، قال : يفر قابيلُ من أخيه هابيل، ويفرُّ النبي من أمِّه، ويفرُّ إبراهيمُ من أبيه، ونوحٌ من ابنه، ولوطٌ من امرأتهِ، وآدمُ من سوءةِ بنيهِ٢.
قال ابنُ الخطيب٣ : المراد : أن الذين كان المرء يفرُّ إليهم في دار الدنيا، ويستجيرُ بهم، فإنه يفرُّ منهم في دار الآخرة، وذكروا في فائدة الترتيب كأنَّه قيل :﴿ يَوْمَ يفرُّ المَرْءُ من أخِيهِ ﴾، بل من أبويه، فإنهما أقرب من الأخوين، بل من الصَّاحبة والولد ؛ لأنَّ تعلُّق القلب بهما أشد من تعلُّقه بالأبوين.
٢ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/١٤٦)..
٣ ينظر: الفخر الرازي ٣١/٥٩..
والعامة على «يغنيه » من الإغناءِ.
وابن محيصن١ والزهري، وابنُ أبي عبلة وحميدٌ، وابن السميفع :«يعنيه » بفتح الياء والعين المهملة من قولهم : عناني في الأمر، أي : قصدني.
فصل في معنى الآية
قوله :«يَفِرُّ »، أي : يهرب في يوم مجيء الصاخَّةِ، «مَنْ أخِيْهِ » أي : من مُوالاةِ أخيهِ، ومُكالمتهِ لأنه مشتغل بنفسه، لقوله بعده :﴿ لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ﴾، أي : يشغلهُ عن غيره.
وقيل : إنَّما يفرّ حذراً من مطالبتهم إياه بالتبعات، يقول الأخُ : ما واسيتنِي بمالك، والأبوان يقولان : قصرت في برنَا، والصاحبة تقول : أطمعتني الحرامَ، والبنون يقولون : ما علمتنا.
وقيل : لعلمه أنهم لا ينفعونه، ولا يغنون عنه شيئاً، لقوله تعالى :﴿ يَوْمَ لاَ يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً ﴾ [ الدخان : ٤١ ].
وقال عبد الله بن طاهر : يفرُّ منهم لمَّا تبين له عجزهم، وقلّة حيلتهم.
وذكر الضحاك عن ابن عباس، قال : يفر قابيلُ من أخيه هابيل، ويفرُّ النبي من أمِّه، ويفرُّ إبراهيمُ من أبيه، ونوحٌ من ابنه، ولوطٌ من امرأتهِ، وآدمُ من سوءةِ بنيهِ٢.
قال ابنُ الخطيب٣ : المراد : أن الذين كان المرء يفرُّ إليهم في دار الدنيا، ويستجيرُ بهم، فإنه يفرُّ منهم في دار الآخرة، وذكروا في فائدة الترتيب كأنَّه قيل :﴿ يَوْمَ يفرُّ المَرْءُ من أخِيهِ ﴾، بل من أبويه، فإنهما أقرب من الأخوين، بل من الصَّاحبة والولد ؛ لأنَّ تعلُّق القلب بهما أشد من تعلُّقه بالأبوين.
٢ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/١٤٦)..
٣ ينظر: الفخر الرازي ٣١/٥٩..
قال ابن قتيبة :«يغنيه » أي : يصرفه عن قرابته، ومنه يقال : أغْنِ عنِّي وَجْهَكَ، أي : اصرفه.
وقال أهل المعاني : إنَّ ذلك الهم الذي حصل له قد ملأ صدره، فلم يبق فيه متسع لهمّ آخر، فصار شبيهاً بالغني في أنه ملك شيئاً كثيراً.
قال الكلبي : يعني بالفراغ من الحساب١ ﴿ مُّسْتَبْشِرَةٌ ﴾ أي : بما آتاها الله تعالى من الكرامة.
وقال عطاءُ الخراسانيُّ :«مسْفِرةٌ » من طول ما اغبرت في سبيل الله.
وقال الضحاكُ : من آثار الوضوء٢.
وقال ابن عباس - رضي الله عنه - : من قيامِ اللَّيل٣، لقوله عليه الصلاة والسلام :«مَنْ كَثُرتْ صلاتُه باللَّيلِ حسُنَ وجههُ بالنَّهارِ »٤.
٢ ينظر المصدر السابق..
٣ ينظر المصدر السابق..
٤ أخرجه ابن ماجه (١٣٣٣)، وابن عدي في "الكامل" (٢/٥٢٦)، والعقيلي في "الضعفاء" (١/١٧٦)، والخطيب في "تاريخ بغداد (١/٣٤١)، وابن حبان في "المجروحين" (١/٢٠٧)، والقضاعي في "مسند الشهاب" رقم (٤٠٨، ٤٠٩، ٤١٠، ٤١٢)، وأورده ابن الجوزي في "الموضوعات (٢/١٠٩-١١١).
وقال البوصيري في "زوائد ابن ماجه" (١/٤٣٣): هذا حديث ضعيف ذكره ابن الجوزي في "الموضوعات" من عدة طرق وضعفها كلها وقال هذا حديث باطل لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم..
قال المبرد :«الغَبَرةُ » الغبارُ، والقترةُ : سوادٌ كالدُّخان.
وقال أبو عبيدة : القترُ في كلام العرب : الغبارُ، جمع القترة ؛ قال الفرزدقُ :[ البسيط ]
٥١١٦- مُتَوجٌ بِرداءِ المُلكِ يَتْبعهُ *** مَوْجٌ تَرى فَوقَهُ الرَّاياتِ والقَتَرَا١
وفي عطفه على الغبرة ما يرد هذا إلا أن يقال : اختلف اللفظ فحسن العطف، كقوله :[ الوافر ]
٥١١٧-. . . *** كَذِبًا ومَيْنَا٢
وقوله :[ الطويل ]
٥١١٨-. . . *** النَّأيُ والبُعْدُ٣
وهو خلاف الأصل، وفي الحديث :«إنَّ البَهَائِمَ إذَا صَارتْ تُراباً يَوْمَ القِيَامَةِ حُولَ ذلِكَ التُّرابُ في وُجوهِ الكُفَّارِ »٤.
وقال زيدُ بن أسلمَ : القترةُ : ما ارتفعت إلى السماء، والغبرةُ : ما انحطت إلى الأرض، والغُبَار والعبرةُ واحدٌ٥.
٢ تقدم..
٣ تقدم..
٤ ينظر تفسير القرطبي (١٩/١٤٧)..
٥ ينظر المصدر السابق..
وعنه - أيضاً - : ذلَّةٌ وشدَّةٌ٢.
وقيل : تَرهقُهَا، أي : تدركها عن قُرب، كقولك : رَهقَتْهُ الخيل إذا أدركته مسرعة، والرَّهْقُ : عجلة الهلاك، القترةُ : سواد كالدُّخان، ولا يرى أوحشُ من اجتماع الغبار والسواد في الوجه، كما ترى وجوه الزنوج إذا غبرت، فجمع الله - تعالى - في وجوههم بين السواد، والغبرة، كما جمعوا بين الكفر، والفجور، والله أعلم.
والعامة : على فتح التاء في «قَتَرة »، وأسكنها٣ ابن أبي عبلة.
٢ ذكره الماوردي في "تفسيره" (٦/٢١٠)..
٣ ينظر البحر المحيط ٨/٤٢١، والدر المصون ٦/٤٨٣..
وقيل : الفَاسقُ : يقال : فَجَرَ فُجُوراً، أي : فسَقَ، وفَجرَ : أي : كذبَ. وأصله الميل، والفاجر المائل.