بسم الله الرحمن الرحيم
سورة عبس ١ مكية ٢٢ - أ: وهي مكية، وانظر: الإجماع على ذلك في تفسير الماوردي ٤/٣٩٩ والمحرر ١٦/٢٢٨ وزاد المسير ٩/٢٦ وتفسير القرطبي ١٩/٢١١..
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة عبسمكية
- قوله تعالى: ﴿عَبَسَ وتولى﴾، إلى قوله: ﴿وَلأَنْعَامِكُمْ﴾.
هذا عتاب من الله جل ذكره لنبيه ﷺ. قالت عائشة: أتى النبيّ ﷺ ابنُ أمّ مكتوم وعند النبي عظماء قريش، فجعل (ابن) أم مكتوم [يقول]: أرشدني، فجعل النبي ﷺ يُعُرِض عنه [ويُقبِل] على الآخرين يقول لهم: أترون بما أقول
قال (ابن عباس): " بينما رسول الله ﷺ يناجي عتبة من ربيعة وأبا جهل بن هشام والعبّاس بن عبد المطلب، وكان يتصدّاهم كثيراً رَجاء أن يؤموا، فأقبل إليه رجلٌ أعمى يقال له: ابنُ أمّ مكتومٍ، (يمشي والنبي ﷺ يناجيهم، فَجَعل ابن أم مكتوم) [يستقرئ] النبيّ ﷺ آيةً من القرآن وهو يقول: يا رسول الله، علّمني مما علمك الله. فأَعرضَ عنه [رسول الله ﷺ]، وعَبَس (في) وجهه وتولى عنه وأقبل على الآخرين، فما قضى رسول الله ﷺ نَجْواهُ وأخذ ينقلب إلى أهله، أمسك الله بعض
قال قتادة: اسم ابن أم مكتوم: عبد الله بن زائدة، وقيل: اسمه [عمرو بن قيس]، واسم أمه: أم مكتوم عاتكة. قال مجاهد، هو من بني فهر.
وذكر قتادة أن النبي ﷺ استخلفه في المدينة على الصلاة في غزوتين من غزواته.
وروي أن الذي كان قد اشتغل النبي ﷺ [ به] (عن ابن أم مكتوم هو شيبة
وقيل: هو أبي بن خلف، كان النبي يُقْبل عليه ويكنيه، ويقول له: أبا فلان، هل ترى بما أقول بأساً؟ طمعاً أن يسلم، فيسلم بإسلامه خلق، فأجابه المشرك فقال له: [والدما]، ما أرى بِما تقول بأساً. فأقسم المشرك للنبي ﷺ بالأصنام وترك أن يقسم بالله.
[والدما] جمع دمية، وهي الصورة من [صور الأصنام]. [فعذل] الله
وقال ابن زيد: أقبل ابن أم مكتوم ومعه قائدُه، فلما بصر به النبي ﷺ - وكان مقبلاً على رجل من عظماء قريش قد طمع في إسلامه - أشار إلى قائده (أن كُفَّهُ)، فدفعه ابن أم مكتوم، فعند ذلك عبس النبي في وجهه، فكان النبي عليه السلام يكرمه بعد ذلك.
وقال سفيان: " كان النبي ﷺ - بعد ذلك - إذا رآه بسط له رداءه، وقال مرحباً [بمن] عاتبني فيه ربي جل وعز ".
قال ابن زيد: كان [يقال]: لو أن رسول الله كتم من الوحي شيئاً لكتم هذا على نفسه.
- وقوله: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يزكى﴾.
- ﴿أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذكرى﴾.
(أي): [أو] يتعظ [فينفعه] الاتعاض.
- ثم قال تعالى: ﴿أَمَّا مَنِ استغنى * فَأَنتَ لَهُ تصدى﴾.
(أي): أما من استغنى بماله، فأنت تتعرض له رجاء أن يسلم. قال سفيان: " نزلت في العباس ".
وقال مجاهد: " نزلت في عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ".
- ثم قال تعالى: ﴿وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يزكى﴾.
أي: وأي شيء عليك - يا محمد - ألا يتطهر من ذنوبه وكفره بالإسلام؟!
أي: وأما الأعمى جاءك يسعى وهو يخشى الله [ويتقيه].
- ﴿فَأَنتَ عَنْهُ تلهى﴾.
(أي): تُعْرِض وتتشاغل بغيره.
- ثم قال تعالى: ﴿كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ﴾.
أي: ليس الأمر كما تفعل يا محمد. وقيل: المعنى: ألاّ إنها تذكرة. والوقف عند نافع ونصير على ﴿كَلاَّ﴾ على التأويل الأول.
- وقوله: ﴿إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ﴾.
(وقيل: المعنى أن القصة التي عوتبت فيها يا محمد تذكرة) وعظة.
- ﴿فَمَن شَآءَ/ ذَكَرَهُ﴾.
أي: فمن شاء من عباد الله ذكر تنزيل الله ووحيه فاتعظ به.
فالهاء في ﴿إِنَّهَا﴾ للسورة أو للقصة، والهاء في [﴿ذْكِرَةٌ﴾] للتنزيل والوحي.
- ثم قال تعالى: ﴿فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ﴾.
أي: هذه العظة والقصة في صحف قد كتبتها الملائكة في صحف مكرمة، أي: عزيزة.
- ﴿مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ﴾.
- وقوله: ﴿بِأَيْدِي سَفَرَةٍ﴾.
يعني: الملائكة. وواحد السفرة: سافر. قال ابن عباس وقتادة: سفرة: " كتبة ".
وعن قتادة أن السفرة هم القراء. وعن ابن عباس.
أيضاً هي " الملائكة ". قال ابن زيد: هم " الذين يحصون
- وقوله: ﴿كِرَامٍ بَرَرَةٍ﴾.
قال وهب بن منبه: السفرة الكرامُ البررةُ: أصحابُ محمد ﷺ و ﴿بَرَرَةٍ﴾ جمع بار، ككافر، وساحر وسحرة.
والمستعمل في كلام العرب أن يقولو: " رجل بَرّ "، و " امرأة برّة "، فإذا جمعوا ردوه إلى جمع (بار، فقالوا: رجال بررة. وقال النحاس: الأبرار جمع) بَرٍّ، والبَرَرَة جمع بَارٍّ.
أي: لعن الكافر [و] أهلك، ما الذي أكفره مع ظهور الآيات وبيا (ن الحق)؟! ف ﴿مَآ﴾: استفهام على طريق التوبيخ والتقرير.
وقيل: إنها نزلت في عتبة بن أبي لهب، وكان قد آمن، فلما نزلت سورة: (والنجم)، ارتد، فدعا عليه النبي ﷺ فقتله الأسد في قصة طويلة.
وقيل: ﴿مَآ﴾: تعجُّب، أي: هو ممن يقال فيه: ما أكفره إذا تمادى على كفره مع ظهور الآيات والحجج.
قال مجاهد: كل شيء في القرآن " قتل الإنسان " أو " فعل الإنسان " فإنما عنى
- ثم قال تعالى: ﴿مِنْ أَيِّ شَيءٍ خَلَقَهُ﴾.
أي: أعجبوا (له)! من أي شيء خلق الله الكافر حتى يتكبر عن طاعة الله. ثم بين الشيء الذي خلقه منه فقال:
- ﴿مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ﴾.
أي: (من) ماء حقير خلقه فكيف يتكبر مَن أصلُه هذا.
- وقوله: ﴿فَقَدَّرَهُ﴾.
أي: قدره أحوالاً: نطفة ثم علقة، ثم مضغة، ثم، ثم...
وقيل: معناه: قدرة حسناً أو قبيحاً، ذكراً وأنثى.
- وقوله: ﴿ثُمَّ السبيل يَسَّرَهُ﴾.
قال ابن عباس: يعني يسره لطريق الخروج من بطن أمه.
وهو قول السدي وقتادة وأبي صالح، وهو اختيار الطبري، لأن قبله ذكر
وقال مجاهد: هو طريق الخير والشر كقوله: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾ [الإنسان: ٣]. وعنه أيضاً أنه سبيل الشقاء والسعادة. وقال الحسن: سبيل الخير يسره له.
وقال ابن زيد: هداه إلى الإسلام ويسره له.
- ثم قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ﴾.
أي: أماته بعد إحيائه له عند انقضاء أجله وجعل له قبراً ولم يجعله ممن يُلْقى على وجه الأرض، فهذا كله من نعم الله على ابن آدم.
يقال: " قَبَرْت الرجل ": [إذا] أدخلته في القبر، و " أَقْبَرْتُهُ ": إذا جعلت له قبراً. والمعنى: فصيره ذا قبر.
أي: أحياه بعد موته. يقال: أحيا الله الميت وأنشره بمعنى. ونَشَر الميّتُ: حَيي هو نفسُهُ.
- ثم قال تعالى: ﴿كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ﴾.
أي: ليس الأمر ما يقول هذا الإنسان من [أنه قد أدى] حق الله في نفسه وما له، لم (يقض) ذلك، ولا يقدر عليه.
قال مجاهد: لا يقضي أحد أبداً ما افترض الله عليه.
- ثم قال تعالى: ﴿فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا المآء صَبّاً * ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقّاً﴾.
هذا كله تنبيه من الله لعباده على نعمه عليهم. ومن قرأ (أنّا) بالفتح،
وهو قول الفراء و [أبي] عبيد. وتقديره: فلينظر الإنسان إلى صبنا الماء. وهو قول فيه بعد، لأن الثاني [ليس هو الأول] ولا [بعضه] ولا مشتملاً عليه.
(وقيل: إنما فتحت على أنها رفع بالابتداء. ولا يُحسّن سيبويه الابتداء " بأنّ " المفتوحة، وأيضاً فإنه لا خبر لها).
وقيل: ﴿أَنَّا﴾ بدل الاشتمال من طعامه. والمعنى: فليعتبر الإنسان ويعلم قدر نِعَم الله علي وكيف سبب له [كمال طعامه] الذي به قوامه، [بأن أنزل] الغيث من السماء فصبه على الأرض صباً، ثم شق للغَيْثِ الأرض شقاً/ فأنبت فيها حباص، يعين الزرع وسائر الحبوب.
- ﴿وَعِنَباً﴾.
- ﴿وَقَضْباً﴾.
يعني: القت. وأهل مكة يسمون القت الصغير القضب، كأنه قطع مرة بعد مرة. يقال: قضبه: إذا قطعه.
وحكى أبو عبيدة أنه الرطبة وقاله الضحاك.
وقال الحسن: " القضب: العلف ".
- ﴿وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً * وَحَدَآئِقَ غُلْباً﴾.
يعني البساتين التي قد حوِّط حلها بالبنيان. والغلب: الغلاظ، يعني:
قال ابن عباس: الحدائق الغلب: ما التف من الشجر واجتمع.
وقاله مجاهد.
وعن ابن عباس أيضاً: الغلب: الطول.
(وقال قتادة: هي النخل، الكرام)، وقاله ابن زيد.
- ثم قال تعالى: ﴿وَفَاكِهَةً وَأَبّاً﴾.
يعني بالفاكهة: ما يأكله الناس، والأب: ما تأكله الأنعام من المرعى. وهو قول ابن عباس ومجاهد وابن زيد وقتادة. وعن ابن عباس أيضاً
- ثم قال تعالى: ﴿مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ﴾.
(أي: متعة لكم، يعني الفاكهة ما قبلها، ولأنعامكم). يعني: الأبّ.
- قوله تعالى: ﴿فَإِذَا جَآءَتِ الصآخة﴾، إلى آخر السورة.
أي: فإذا قامت القيامة، والصاخة: اسم من أسماء يوم القيامة.
قال ابن عباس: الصاخة: القيامة.
وقال عكرمة: هي النفخة الأولى.
والطامة الكبرى: النفخة الثانية. فالأولى يموت بها كل حيّ. والثانية يحيى بها كل ميت.
وقال الحسن: (يصيخ) لها كل شيء، أي: يصمت لها كل شيء.
قال الطبري: وأحسبها مأخوذة من قولهم: صخّ فلان فلاناً: إذا أصمه. ولعل الصوت هو الصاخ. قال: فإن يكن ذلك كذلك، فينبغي أن يكون ذلك لنفخة الصور.
- ثم قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ﴾.
(أي: فإذا جاءت الصاخة في يوم يفر المرء من أخيه) وأمه وأبيه، وفراره منهم حذر من مطالتبهم إياه بمظالم لهم عليه. وقيل: معنى فراره عنه لئلا يرى ما ينزل به.
- ثم قال تعالى: ﴿لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾.
(يعني: لكل واحد من هؤلاء المذكورين ذلك اليوم شأن يغنيه).
قال قتادة: " أفضى إلى كل إنسان ما يشغله عن الناس ". " وسألتْ عائشة رضي الله عنها رسُول الله ﷺ: كيفَ يُحْشرُ الرّجال؟ فقال: حُفةً عُراةً، ثمّ سألتْهُ: كيفَ يُحشَرُ [النساء]؟ فقال: كَذَلِكَ حُفاةً عُراةً، فقالت: واسَوْأَتَاه من يوم القيامة!!
فقال: عن أيّ شيء تَسأليني؟ إنّهُ قدْ نَزَلت عليَّ آيةٌ لا يضرّك كَانت عليكِ ثِيابٌ (أمّ لا، قَالَت): أيّ آيةٍ [هِيَ يا نبيّ الله]؟
قال: ﴿لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾. قال قد شغله عن صاحبه ".
- ثم قال: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ﴾.
أي: وجوه قوم يومئذ مشرقة مضيئة ﴿ضَاحِكَةٌ﴾ من السرور بما أعطاها الله من النعيم، ﴿مُّسْتَبْشِرَةٌ﴾ [لم] ترجوه من الزيادة وهي وجوه المؤمنين الذين قد رضي الله عنهم.
يقال: أسفر وجه فلان: إذا حَسُن، وأسفر الصبح: إذا أضاء. وكل مضيء (فهو مسفرٌ. ويقال للمرأة إذا ألقت خمارها أو نقابها أو [برقعها] قد سفرت) عن وجهها.
- ثم قال تعالى: ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ﴾.
وهي وجوه الكفار. روي أن البهائم التي يصيرها الله تراباً يومئذ بعد القصاص يحول ذلك التراب غبرة في وجوه أهل الكفر.
أي): تغشى [تلك] الوجوه ﴿قَتَرَةٌ﴾ أي: ذلة.
ثم بين تعالى من هو، فقال:
- ﴿أولئك هُمُ الكفرة الفجرة﴾.
أي: الكفرة بالله ورسله وكتبه، الفجرة في دينه لا يبالون ما أتوا من معاصي الله ومحارمه.