في السورة حملة على الكفار لاضطهادهم ضعاف المؤمنين والمؤمنات وفتنتهم إياهم عن الإسلام، وإشارة إنذارية إلى حادث مماثل، وتثبيت للمؤمنين وتذكير بمصائر البغاة كفرعون وثمود، وتنويه بقدر القرآن وحفظه وآياتها متصلة ببعضها نظما وموضوعا.
ﰡ
بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ والسماء ذات البروج( ١ )١ واليوم الموعود٢ ( ٢ ) وشاهد ومشهود٣ ( ٣ ) قتل أصحاب الأخدود٤ ( ٤ ) النار ذات الوقود( ٥ ) إذ هم عليها قعود( ٦ ) وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود( ٧ ) وما نقموا منهم٥ إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد( ٨ ) الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد( ٩ ) ﴾ [ ١-٩ ].
في الآيات قسم رباني بالأقسام الثلاثة بأن لعنة الله قد حقت على الذين حفروا الأخدود، وأججوا فيه النيران، وألقوا فيه المؤمنين وهم جالسون يشهدون عذابهم دون أن تأخذهم الشفقة عليهم. ولم يكن لهم ذنب يغضبهم عليهم إلا أنهم آمنوا بالله وحده.
والمتبادر أن الأقسام الثلاثة في بدء السورة مما كان يعرف السامعون خطورته ومداه مهما اختلف المؤولون فيه. وبهذا فقط تبدو الحكمة في ذلك، والله أعلم.
ولقد رويت روايات مختلفة في صدد الحادث الذي ذكر في الآيات منها حديث نبوي٢ عن ساحر كان يعلم أحد الأولاد السحر، فمر الولد براهب فأسلم على يديه وصار يبرئ الأكمه والأبرص باسم الله، ثم أسلم الساحر على يد الولد وعلم الملك بالأمر فعذب الراهب والساحر والولد ثم قتلهم، وظهرت للولد كرامات فآمن الناس بالإله الذي يؤمن به، فأمر الملك بحفر أخدود وتأجيج النار فيه وإلقاء من لم يرتد عن دين الولد فيه. ومنها٣ أن ذا نواس ملك حمير الذي اعتنق اليهودية طلب من نصارى نجران أن يتركوا دينهم ويتهودوا فأبوا، فخدّ الأخدود وأجج فيه النار وألقي فيها كل من ثبت على نصرانيته حتى بلغ من حرقهم ١٢ ألفا في رواية، وعشرين ألفا في رواية ؛ وأن هذا العمل حفز الأحباش النصارى على غزو اليمن وتقويض حكم ذي نواس والديانة اليهودية، وتهود ذي نواس وبعض أهل اليمن واضطهاده النصارى وغزو الأحباش لليمن بسبب ذلك وقائع تاريخية ثابتة٤ يمكن أن يستأنس بها في ترجيح هذه الرواية وقد ذكرنا ذلك في سياق تفسير سورة الفيل.
ومهما يكن من أمر فإن روح الآيات واكتفاءها بالإشارة الخاطفة إلى أصحاب الأخدود يدلان على أن سامعي القرآن كانوا يعرفون حادث التحريق في الأخدود وأسبابه، فاقتضت حكمة التنزيل التذكير به في صدد الحملة على مقترفي إثم يماثل إثم أصحاب الأخدود.
وأسلوب الآيات أسلوب تقريعي لهذا العمل الوحشي الظالم غضبا على أناس آمنوا بالله وتمسكوا بإيمانهم. وفيه تلقين قرآني عام مستمر المدى كما هو المتبادر.
تعليق على ذكر البروج
هذا، وما تعنيه كلمة " البروج " هو مما كان متداولا بين العرب قبل الإسلام على ما هو مستفاد من أقوال المفسرين. حيث يصح القول : إن حكمة التنزيل قد شاءت بأن تقسم بأمر يعرف العرب خطورته ويعرفون أنه مظهر من مظاهر قدرة الله تعالى وبكلمة أخرى شاءت أن تذكر هذا المظهر من مظاهر الكون بما كان متداولا بينهم. وهذا الأسلوب مما تكرر كثيرا في هذا الأمر ؛ لأنه أكثر تأثيرا فيهم كشأن القصص على ما شرحناه في سياق سورة القلم. ولقد كانوا يعرفون ويعترفون بأن الله سبحانه هو الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما وهو مدبر الأكوان على ما جاء في آيات كثيرة منها آية سورة يونس هذه :﴿ قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون٣١ ﴾ وآية سورة الزخرف هذه :﴿ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم٩ ﴾.
بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ والسماء ذات البروج( ١ )١ واليوم الموعود٢ ( ٢ ) وشاهد ومشهود٣ ( ٣ ) قتل أصحاب الأخدود٤ ( ٤ ) النار ذات الوقود( ٥ ) إذ هم عليها قعود( ٦ ) وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود( ٧ ) وما نقموا منهم٥ إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد( ٨ ) الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد( ٩ ) ﴾ [ ١-٩ ].
في الآيات قسم رباني بالأقسام الثلاثة بأن لعنة الله قد حقت على الذين حفروا الأخدود، وأججوا فيه النيران، وألقوا فيه المؤمنين وهم جالسون يشهدون عذابهم دون أن تأخذهم الشفقة عليهم. ولم يكن لهم ذنب يغضبهم عليهم إلا أنهم آمنوا بالله وحده.
والمتبادر أن الأقسام الثلاثة في بدء السورة مما كان يعرف السامعون خطورته ومداه مهما اختلف المؤولون فيه. وبهذا فقط تبدو الحكمة في ذلك، والله أعلم.
ولقد رويت روايات مختلفة في صدد الحادث الذي ذكر في الآيات منها حديث نبوي٢ عن ساحر كان يعلم أحد الأولاد السحر، فمر الولد براهب فأسلم على يديه وصار يبرئ الأكمه والأبرص باسم الله، ثم أسلم الساحر على يد الولد وعلم الملك بالأمر فعذب الراهب والساحر والولد ثم قتلهم، وظهرت للولد كرامات فآمن الناس بالإله الذي يؤمن به، فأمر الملك بحفر أخدود وتأجيج النار فيه وإلقاء من لم يرتد عن دين الولد فيه. ومنها٣ أن ذا نواس ملك حمير الذي اعتنق اليهودية طلب من نصارى نجران أن يتركوا دينهم ويتهودوا فأبوا، فخدّ الأخدود وأجج فيه النار وألقي فيها كل من ثبت على نصرانيته حتى بلغ من حرقهم ١٢ ألفا في رواية، وعشرين ألفا في رواية ؛ وأن هذا العمل حفز الأحباش النصارى على غزو اليمن وتقويض حكم ذي نواس والديانة اليهودية، وتهود ذي نواس وبعض أهل اليمن واضطهاده النصارى وغزو الأحباش لليمن بسبب ذلك وقائع تاريخية ثابتة٤ يمكن أن يستأنس بها في ترجيح هذه الرواية وقد ذكرنا ذلك في سياق تفسير سورة الفيل.
ومهما يكن من أمر فإن روح الآيات واكتفاءها بالإشارة الخاطفة إلى أصحاب الأخدود يدلان على أن سامعي القرآن كانوا يعرفون حادث التحريق في الأخدود وأسبابه، فاقتضت حكمة التنزيل التذكير به في صدد الحملة على مقترفي إثم يماثل إثم أصحاب الأخدود.
وأسلوب الآيات أسلوب تقريعي لهذا العمل الوحشي الظالم غضبا على أناس آمنوا بالله وتمسكوا بإيمانهم. وفيه تلقين قرآني عام مستمر المدى كما هو المتبادر.
بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ والسماء ذات البروج( ١ )١ واليوم الموعود٢ ( ٢ ) وشاهد ومشهود٣ ( ٣ ) قتل أصحاب الأخدود٤ ( ٤ ) النار ذات الوقود( ٥ ) إذ هم عليها قعود( ٦ ) وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود( ٧ ) وما نقموا منهم٥ إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد( ٨ ) الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد( ٩ ) ﴾ [ ١-٩ ].
في الآيات قسم رباني بالأقسام الثلاثة بأن لعنة الله قد حقت على الذين حفروا الأخدود، وأججوا فيه النيران، وألقوا فيه المؤمنين وهم جالسون يشهدون عذابهم دون أن تأخذهم الشفقة عليهم. ولم يكن لهم ذنب يغضبهم عليهم إلا أنهم آمنوا بالله وحده.
والمتبادر أن الأقسام الثلاثة في بدء السورة مما كان يعرف السامعون خطورته ومداه مهما اختلف المؤولون فيه. وبهذا فقط تبدو الحكمة في ذلك، والله أعلم.
ولقد رويت روايات مختلفة في صدد الحادث الذي ذكر في الآيات منها حديث نبوي٢ عن ساحر كان يعلم أحد الأولاد السحر، فمر الولد براهب فأسلم على يديه وصار يبرئ الأكمه والأبرص باسم الله، ثم أسلم الساحر على يد الولد وعلم الملك بالأمر فعذب الراهب والساحر والولد ثم قتلهم، وظهرت للولد كرامات فآمن الناس بالإله الذي يؤمن به، فأمر الملك بحفر أخدود وتأجيج النار فيه وإلقاء من لم يرتد عن دين الولد فيه. ومنها٣ أن ذا نواس ملك حمير الذي اعتنق اليهودية طلب من نصارى نجران أن يتركوا دينهم ويتهودوا فأبوا، فخدّ الأخدود وأجج فيه النار وألقي فيها كل من ثبت على نصرانيته حتى بلغ من حرقهم ١٢ ألفا في رواية، وعشرين ألفا في رواية ؛ وأن هذا العمل حفز الأحباش النصارى على غزو اليمن وتقويض حكم ذي نواس والديانة اليهودية، وتهود ذي نواس وبعض أهل اليمن واضطهاده النصارى وغزو الأحباش لليمن بسبب ذلك وقائع تاريخية ثابتة٤ يمكن أن يستأنس بها في ترجيح هذه الرواية وقد ذكرنا ذلك في سياق تفسير سورة الفيل.
ومهما يكن من أمر فإن روح الآيات واكتفاءها بالإشارة الخاطفة إلى أصحاب الأخدود يدلان على أن سامعي القرآن كانوا يعرفون حادث التحريق في الأخدود وأسبابه، فاقتضت حكمة التنزيل التذكير به في صدد الحملة على مقترفي إثم يماثل إثم أصحاب الأخدود.
وأسلوب الآيات أسلوب تقريعي لهذا العمل الوحشي الظالم غضبا على أناس آمنوا بالله وتمسكوا بإيمانهم. وفيه تلقين قرآني عام مستمر المدى كما هو المتبادر.
بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ والسماء ذات البروج( ١ )١ واليوم الموعود٢ ( ٢ ) وشاهد ومشهود٣ ( ٣ ) قتل أصحاب الأخدود٤ ( ٤ ) النار ذات الوقود( ٥ ) إذ هم عليها قعود( ٦ ) وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود( ٧ ) وما نقموا منهم٥ إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد( ٨ ) الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد( ٩ ) ﴾ [ ١-٩ ].
في الآيات قسم رباني بالأقسام الثلاثة بأن لعنة الله قد حقت على الذين حفروا الأخدود، وأججوا فيه النيران، وألقوا فيه المؤمنين وهم جالسون يشهدون عذابهم دون أن تأخذهم الشفقة عليهم. ولم يكن لهم ذنب يغضبهم عليهم إلا أنهم آمنوا بالله وحده.
والمتبادر أن الأقسام الثلاثة في بدء السورة مما كان يعرف السامعون خطورته ومداه مهما اختلف المؤولون فيه. وبهذا فقط تبدو الحكمة في ذلك، والله أعلم.
ولقد رويت روايات مختلفة في صدد الحادث الذي ذكر في الآيات منها حديث نبوي٢ عن ساحر كان يعلم أحد الأولاد السحر، فمر الولد براهب فأسلم على يديه وصار يبرئ الأكمه والأبرص باسم الله، ثم أسلم الساحر على يد الولد وعلم الملك بالأمر فعذب الراهب والساحر والولد ثم قتلهم، وظهرت للولد كرامات فآمن الناس بالإله الذي يؤمن به، فأمر الملك بحفر أخدود وتأجيج النار فيه وإلقاء من لم يرتد عن دين الولد فيه. ومنها٣ أن ذا نواس ملك حمير الذي اعتنق اليهودية طلب من نصارى نجران أن يتركوا دينهم ويتهودوا فأبوا، فخدّ الأخدود وأجج فيه النار وألقي فيها كل من ثبت على نصرانيته حتى بلغ من حرقهم ١٢ ألفا في رواية، وعشرين ألفا في رواية ؛ وأن هذا العمل حفز الأحباش النصارى على غزو اليمن وتقويض حكم ذي نواس والديانة اليهودية، وتهود ذي نواس وبعض أهل اليمن واضطهاده النصارى وغزو الأحباش لليمن بسبب ذلك وقائع تاريخية ثابتة٤ يمكن أن يستأنس بها في ترجيح هذه الرواية وقد ذكرنا ذلك في سياق تفسير سورة الفيل.
ومهما يكن من أمر فإن روح الآيات واكتفاءها بالإشارة الخاطفة إلى أصحاب الأخدود يدلان على أن سامعي القرآن كانوا يعرفون حادث التحريق في الأخدود وأسبابه، فاقتضت حكمة التنزيل التذكير به في صدد الحملة على مقترفي إثم يماثل إثم أصحاب الأخدود.
وأسلوب الآيات أسلوب تقريعي لهذا العمل الوحشي الظالم غضبا على أناس آمنوا بالله وتمسكوا بإيمانهم. وفيه تلقين قرآني عام مستمر المدى كما هو المتبادر.
بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ والسماء ذات البروج( ١ )١ واليوم الموعود٢ ( ٢ ) وشاهد ومشهود٣ ( ٣ ) قتل أصحاب الأخدود٤ ( ٤ ) النار ذات الوقود( ٥ ) إذ هم عليها قعود( ٦ ) وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود( ٧ ) وما نقموا منهم٥ إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد( ٨ ) الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد( ٩ ) ﴾ [ ١-٩ ].
في الآيات قسم رباني بالأقسام الثلاثة بأن لعنة الله قد حقت على الذين حفروا الأخدود، وأججوا فيه النيران، وألقوا فيه المؤمنين وهم جالسون يشهدون عذابهم دون أن تأخذهم الشفقة عليهم. ولم يكن لهم ذنب يغضبهم عليهم إلا أنهم آمنوا بالله وحده.
والمتبادر أن الأقسام الثلاثة في بدء السورة مما كان يعرف السامعون خطورته ومداه مهما اختلف المؤولون فيه. وبهذا فقط تبدو الحكمة في ذلك، والله أعلم.
ولقد رويت روايات مختلفة في صدد الحادث الذي ذكر في الآيات منها حديث نبوي٢ عن ساحر كان يعلم أحد الأولاد السحر، فمر الولد براهب فأسلم على يديه وصار يبرئ الأكمه والأبرص باسم الله، ثم أسلم الساحر على يد الولد وعلم الملك بالأمر فعذب الراهب والساحر والولد ثم قتلهم، وظهرت للولد كرامات فآمن الناس بالإله الذي يؤمن به، فأمر الملك بحفر أخدود وتأجيج النار فيه وإلقاء من لم يرتد عن دين الولد فيه. ومنها٣ أن ذا نواس ملك حمير الذي اعتنق اليهودية طلب من نصارى نجران أن يتركوا دينهم ويتهودوا فأبوا، فخدّ الأخدود وأجج فيه النار وألقي فيها كل من ثبت على نصرانيته حتى بلغ من حرقهم ١٢ ألفا في رواية، وعشرين ألفا في رواية ؛ وأن هذا العمل حفز الأحباش النصارى على غزو اليمن وتقويض حكم ذي نواس والديانة اليهودية، وتهود ذي نواس وبعض أهل اليمن واضطهاده النصارى وغزو الأحباش لليمن بسبب ذلك وقائع تاريخية ثابتة٤ يمكن أن يستأنس بها في ترجيح هذه الرواية وقد ذكرنا ذلك في سياق تفسير سورة الفيل.
ومهما يكن من أمر فإن روح الآيات واكتفاءها بالإشارة الخاطفة إلى أصحاب الأخدود يدلان على أن سامعي القرآن كانوا يعرفون حادث التحريق في الأخدود وأسبابه، فاقتضت حكمة التنزيل التذكير به في صدد الحملة على مقترفي إثم يماثل إثم أصحاب الأخدود.
وأسلوب الآيات أسلوب تقريعي لهذا العمل الوحشي الظالم غضبا على أناس آمنوا بالله وتمسكوا بإيمانهم. وفيه تلقين قرآني عام مستمر المدى كما هو المتبادر.
﴿ إن الذين فتنوا١ المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق( ١٠ ) إن الذي آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير( ١١ ) إن بطش ربك لشديد( ١٢ ) إنه هو يبدئ ويعيد( ١٣ ) وهو الغفور الودود( ١٤ ) ذو العرش المجيد( ١٥ ) فعال لما يريد( ١٦ ) ﴾ [ ١٠-١٦ ].
يصرف المفسرون بدون سند وثيق ضمير الفاعل في الآية الأولى من هذه الآيات إلى أصحاب الأخدود ويقولون : إن الوعيد فيها لهم وإن عذاب الحريق هو مقابلة عينية لما فعلوه من حرق المؤمنين في نار الأخدود. وهذا عجيب وغير صواب فيما يتبادر لنا. وجملة ﴿ ثم لم يتوبوا ﴾ دليل على ذلك ؛ لأن أصحاب الأخدود ماتوا وانقضى أمرهم ولم يعد لفتح باب التوبة لهم محل. والمعقول الذي تدل عليه هذه الجملة أن يكون الوعيد لجماعة كانوا يفتنون المؤمنين والمؤمنات وقت نزولها. ولقد كان ذلك أمراً واقعاً ؛ حيث كان بعض الزعماء المشركين في مكة يضطهدون ضعفاء المؤمنين والمؤمنات ويؤذونهم ليرغموهم على الافتتان أي الارتداد عن الإسلام. وهكذا تكون الآيات الأولى من السورة بمثابة مقدمة بين يدي هذا الوعيد يحتوي وعيدا مماثلا للمشركين الذين كانوا يفعلون بالمؤمنين بالرسالة النبوية شيئا مما فعله أصحاب الأخدود بالمؤمنين السابقين. وتكون الصلة قائمة واضحة بين المجموعتين. وهو ما جرى عليه النظم القرآني في سياق قصص الأمم السابقة وما كان من نكال الله الدنيوي فيهم جزاء كفرهم ومواقفهم العدائية والعدوانية من أنبيائهم مما مر منه بعض الأمثلة.
وقد احتوت الآيات بالإضافة إلى الوعيد لفاتني المؤمنين والمؤمنات، إذا لم يتوبوا بشرى للمؤمنين الذين يعملون الصالحات وتثبيت لهم وتنويه بقوة بطش الله الذي خلق الخلق بدءا والقادر على خلقه إعادة، الفعال لما يريد. وتنويه في الوقت نفسه بسعة رحمة الله وغفرانه ومودته للصالحين من عباده. وفي التنويه بالبطش والغفران والمودة وفي الإنذار والتبشير تساوق تام إزاء موقف المؤمنين ومضطهديهم وما يطلب من كل منهم كما هو المتبادر.
وذكر العرش هنا يأتي للمرة الثانية، ولقد علقنا على هذا الموضوع في سياق سورة التكوير بما يغني عن التكرار إلا أن نقول إن الأسلوب الذي جاء به هنا أيضا يؤيد ما نبهنا عليه في ذلك التعليق من الحكمة المنطوية في ذكر العرش وهو قصد بيان عظمة شأن الله تعالى.
تعليق على محنة فتنة المؤمنين الأولين
وفتنة المؤمنين في العهد المكي ذكرت في غير هذه السورة أيضا. وذكرها في هذه السورة المبكرة في النزول يدل على أنها قد بدأت منذ عهد مبكر من الدعوة، ولقد رويت روايات عديدة في سياقها كما وردت أيضا آيات في القرآن تشير إلى بعض نتائجها. ويستفاد من هذه وتلك : أن الأرقاء والمستضعفين من المسلمين الأولين هم الذين تعرضوا لها في الدرجة الأولى، وأنها كانت مع ذلك تشمل المؤمنين من الأسر القرشية البارزة، وأنه كان من صورها أن يعرى المسلمون ويطرحون فوق الرمال والصخور الشديدة الوهج من حرارة الشمس، وتوضع على أجسادهم الصخور الثقيلة، ويمنع عنهم الماء والطعام ساعات طويلة أو أياما عديدة، وكانت تقيد أيديهم وأرجلهم بقيود الحديد ويجلدون شديد الجلد، وأنه قد زهقت بسبب العذاب أرواح فضرب أصحابها الشهداء مثلا خالدا على التمسك بالعقيدة وتحمل أنواع الأذى والتضحية بالنفس في سبيلها١ والراجح أن آيات سورة البروج هذه تشير إلى هذه المرحلة.
وفي سورة النحل آيتان قد تدلان على أن بعض المؤمنين أرغموا على الافتتان والتبرؤ من الإسلام، فمنهم من ظل كافرا، ومنهم من عاد إلى الإسلام حينما سنحت له الفرصة وفر من مكة وهما هاتان :
١-﴿ من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم١٠٦ ﴾.
٢-﴿ ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم١١٠ ﴾.
وقد روى المفسرون٢ أن الاستثناء في الآية الأولى كان لعمار بن ياسر رضي الله عنه الذي أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان، وأنه قد جاء يبكي للنبي صلى الله عليه وسلم ويقول له إني نلتك بالشر فقال له مشجعا مطمئنا ( إن عادوا لك فعد لهم ).
وقد كان بعض أغنياء المسلمين، وبخاصة أبا بكر رضي الله عنه يشترون بعض الأرقاء المضطهدين من مالكيهم وينقذونهم من المحنة. وقد استمرت المحنة طيلة العهد المكي ثم إلى الفتح المكي في السنة الهجرية الثامنة بالنسبة لمن اضطر إلى البقاء في مكة ومنع الهجرة إلى المدينة. وكانت من أهم الحركات التي سببت للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين هما عظيما. وكان من نتائجها أن هاجر معظم المسلمين رجالا ونساء إلى الحبشة. وآيات سورة النحل هذه :﴿ والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون٤١ الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون٤٢ ﴾ تشير إلى ذلك.
ولقد كاد النبي صلى الله عليه وسلم نفسه يهاجر نتيجة لذلك على ما تفيده آية سورة الإسراء هذه :﴿ وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا٧٦ ﴾ ثم كانت من أسباب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة. وآية سورة الأنفال هذه :﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين٣٠ ﴾ وما جاء في آية الحج [ ٤٠ ] من هذه الجملة :﴿ الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ﴾ وآية سورة آل عمران هذه :﴿ فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب١٩٥ ﴾ تشير إلى ذلك. وقد وصفها القرآن بأنها أشد من القتل وأكبر، واعتبر الكفار بسببها البادئين بالحرب المستحقين للانتقام، وأوجب الاستمرار في قتالهم إلى أن ينتهوا عنها على ما جاء في آية سورة الحج هذه. ﴿ أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير٣٩ ﴾ وآيات سورة البقرة هذه :﴿ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين١٩٠ واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين١٩١ فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم١٩٢ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين١٩٣ ﴾ وفي كل هذا ينطوي ما كان لهذه المحنة من أثر عظيم وشديد في أحداث وسير السيرة النبوية، ثم ما كان من تحمل النبي صلى الله عليه وسلم والرعيل الأول من المؤمنين رضوان الله عليهم شدة هذه المحنة بقلوب عامرة بالإيمان مستغرقة في الله ودينه، وعظم كفاحهم وثباتهم في سبيل إعلاء دين الله أمام تألب السواد الأعظم من أهل مكة وقبائلها بقيادة الزعماء الأقوياء والأغنياء إلى أن حق الحق وزهق الباطل، وانتصر دين الله وصارت كلمته هي العليا.
تعليق على موقف المرأة المسلمة في هذه المحنة
ولقد كان الرعيل الأول من المؤمنين من الرجال والنساء على السواء، وكما تعرض الرجال للمحنة وصبروا عليها وكافحوا وثبتوا فقد تعرض النساء لها وصبرن وكافحن، على ما تفيده آيات سورة البروج التي نحن في صددها أولا، وآية سورة آل عمران [ ١٩٥ ] التي أوردنا نصها آنفا ثانيا. وقد ذكرت الروايات أن أم عمار بن ياسر رضي الله عنهما ماتت تحت العذاب مع أبيه وفضّلا الموت على النطق بكلمة الكفر. كما ذكرت أن المهاجرين إلى الحبشة ثم إلى المدينة كانوا من الرجال والنساء على السواء. ومن اللاتي هاجرن إلى الحبشة بنات زعماء كبار من قريش أسلمن مع أزواجهن وهاجرن معهم إلى الحبشة تمسكا بدينهن رغم قوة أبائهن، مثل أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان، وسهلة بنت سهيل بن عمرو، وأم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومي وفاطمة بنت صفوان بن أمية، وكان عدد النساء المهاجرات إلى الحبشة سبع عشرة.
ولقد سجل القرآن حادثا عظيما من هذا الباب ؛ حيث كان من نساء الرعيل الأول من أجبر على التخلف عن الهجرة إلى المدينة، فما إن سنحت لهن الفرصة حتى غامرن وخرجن والتحقن برسول الله صلى الله عليه وسلم تاركات أزواجهن وأهلهن الكفار مما انطوى خبره في آية سورة الممتحنة هذه٣ :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم١٠ ﴾.
وهكذا سجلت المرأة العربية المسلمة شخصيتها وقوة إيمانها ووعيها وكفاحها وثباتها وجرأتها ومخاطرتها منذ بدء الدعوة الإسلامية، وفي دور الأذى والمحنة العصيب أسوة بالرجل مما يثير الإعجاب والإجلال.
تعليق على موضوع التوبة
وبمناسبة ورود جملة ﴿ لم يتوبوا ﴾ [ ١٠ ] في الآية الأولى نذكر أن القرآن فتح باب التوبة لكل فئة من الناس ومهما كانت أفعالهم وسواء منهم الكفار أم المنافقون أو مقترفو المنكرات من المسلمين وحضهم عليها بمختلف الأساليب، وفي مختلف السور المكية والمدنية، وفي مختلف أدوار التنزيل من عهد مبكر في مكة إلى عهد متأخر في المدينة كما جاء في الآية التي نحن في صددها وكما جاء في آيات كثيرة أخرى منها الأمثلة التالية :
١- ﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين٢٧٨ فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ﴾ البقرة [ ٢٧٨-٢٧٩ ].
٢-﴿ كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين٨٦ أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين٨٧ خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون٨٨ إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ﴾ آل عمران [ ٨٦-٨٩ ].
٣-﴿ والذين يأتيانها منكم فأذوهما فإن تاب وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما١٦ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما١٧ وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك اعتدنا لهم عذابا أليما ﴾ النساء [ ١٦-١٨ ].
٤-﴿ ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ﴾ النساء [ ١١٠ ].
٥-﴿ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا١٤٥ إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما١٤٦ ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما ﴾ النساء [ ١٤٥-١٤٧ ].
٦-{ إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب
يصرف المفسرون بدون سند وثيق ضمير الفاعل في الآية الأولى من هذه الآيات إلى أصحاب الأخدود ويقولون : إن الوعيد فيها لهم وإن عذاب الحريق هو مقابلة عينية لما فعلوه من حرق المؤمنين في نار الأخدود. وهذا عجيب وغير صواب فيما يتبادر لنا. وجملة ﴿ ثم لم يتوبوا ﴾ دليل على ذلك ؛ لأن أصحاب الأخدود ماتوا وانقضى أمرهم ولم يعد لفتح باب التوبة لهم محل. والمعقول الذي تدل عليه هذه الجملة أن يكون الوعيد لجماعة كانوا يفتنون المؤمنين والمؤمنات وقت نزولها. ولقد كان ذلك أمراً واقعاً ؛ حيث كان بعض الزعماء المشركين في مكة يضطهدون ضعفاء المؤمنين والمؤمنات ويؤذونهم ليرغموهم على الافتتان أي الارتداد عن الإسلام. وهكذا تكون الآيات الأولى من السورة بمثابة مقدمة بين يدي هذا الوعيد يحتوي وعيدا مماثلا للمشركين الذين كانوا يفعلون بالمؤمنين بالرسالة النبوية شيئا مما فعله أصحاب الأخدود بالمؤمنين السابقين. وتكون الصلة قائمة واضحة بين المجموعتين. وهو ما جرى عليه النظم القرآني في سياق قصص الأمم السابقة وما كان من نكال الله الدنيوي فيهم جزاء كفرهم ومواقفهم العدائية والعدوانية من أنبيائهم مما مر منه بعض الأمثلة.
وقد احتوت الآيات بالإضافة إلى الوعيد لفاتني المؤمنين والمؤمنات، إذا لم يتوبوا بشرى للمؤمنين الذين يعملون الصالحات وتثبيت لهم وتنويه بقوة بطش الله الذي خلق الخلق بدءا والقادر على خلقه إعادة، الفعال لما يريد. وتنويه في الوقت نفسه بسعة رحمة الله وغفرانه ومودته للصالحين من عباده. وفي التنويه بالبطش والغفران والمودة وفي الإنذار والتبشير تساوق تام إزاء موقف المؤمنين ومضطهديهم وما يطلب من كل منهم كما هو المتبادر.
وذكر العرش هنا يأتي للمرة الثانية، ولقد علقنا على هذا الموضوع في سياق سورة التكوير بما يغني عن التكرار إلا أن نقول إن الأسلوب الذي جاء به هنا أيضا يؤيد ما نبهنا عليه في ذلك التعليق من الحكمة المنطوية في ذكر العرش وهو قصد بيان عظمة شأن الله تعالى.
تعليق على محنة فتنة المؤمنين الأولين
وفتنة المؤمنين في العهد المكي ذكرت في غير هذه السورة أيضا. وذكرها في هذه السورة المبكرة في النزول يدل على أنها قد بدأت منذ عهد مبكر من الدعوة، ولقد رويت روايات عديدة في سياقها كما وردت أيضا آيات في القرآن تشير إلى بعض نتائجها. ويستفاد من هذه وتلك : أن الأرقاء والمستضعفين من المسلمين الأولين هم الذين تعرضوا لها في الدرجة الأولى، وأنها كانت مع ذلك تشمل المؤمنين من الأسر القرشية البارزة، وأنه كان من صورها أن يعرى المسلمون ويطرحون فوق الرمال والصخور الشديدة الوهج من حرارة الشمس، وتوضع على أجسادهم الصخور الثقيلة، ويمنع عنهم الماء والطعام ساعات طويلة أو أياما عديدة، وكانت تقيد أيديهم وأرجلهم بقيود الحديد ويجلدون شديد الجلد، وأنه قد زهقت بسبب العذاب أرواح فضرب أصحابها الشهداء مثلا خالدا على التمسك بالعقيدة وتحمل أنواع الأذى والتضحية بالنفس في سبيلها١ والراجح أن آيات سورة البروج هذه تشير إلى هذه المرحلة.
وفي سورة النحل آيتان قد تدلان على أن بعض المؤمنين أرغموا على الافتتان والتبرؤ من الإسلام، فمنهم من ظل كافرا، ومنهم من عاد إلى الإسلام حينما سنحت له الفرصة وفر من مكة وهما هاتان :
١-﴿ من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم١٠٦ ﴾.
٢-﴿ ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم١١٠ ﴾.
وقد روى المفسرون٢ أن الاستثناء في الآية الأولى كان لعمار بن ياسر رضي الله عنه الذي أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان، وأنه قد جاء يبكي للنبي صلى الله عليه وسلم ويقول له إني نلتك بالشر فقال له مشجعا مطمئنا ( إن عادوا لك فعد لهم ).
وقد كان بعض أغنياء المسلمين، وبخاصة أبا بكر رضي الله عنه يشترون بعض الأرقاء المضطهدين من مالكيهم وينقذونهم من المحنة. وقد استمرت المحنة طيلة العهد المكي ثم إلى الفتح المكي في السنة الهجرية الثامنة بالنسبة لمن اضطر إلى البقاء في مكة ومنع الهجرة إلى المدينة. وكانت من أهم الحركات التي سببت للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين هما عظيما. وكان من نتائجها أن هاجر معظم المسلمين رجالا ونساء إلى الحبشة. وآيات سورة النحل هذه :﴿ والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون٤١ الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون٤٢ ﴾ تشير إلى ذلك.
ولقد كاد النبي صلى الله عليه وسلم نفسه يهاجر نتيجة لذلك على ما تفيده آية سورة الإسراء هذه :﴿ وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا٧٦ ﴾ ثم كانت من أسباب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة. وآية سورة الأنفال هذه :﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين٣٠ ﴾ وما جاء في آية الحج [ ٤٠ ] من هذه الجملة :﴿ الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ﴾ وآية سورة آل عمران هذه :﴿ فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب١٩٥ ﴾ تشير إلى ذلك. وقد وصفها القرآن بأنها أشد من القتل وأكبر، واعتبر الكفار بسببها البادئين بالحرب المستحقين للانتقام، وأوجب الاستمرار في قتالهم إلى أن ينتهوا عنها على ما جاء في آية سورة الحج هذه. ﴿ أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير٣٩ ﴾ وآيات سورة البقرة هذه :﴿ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين١٩٠ واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين١٩١ فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم١٩٢ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين١٩٣ ﴾ وفي كل هذا ينطوي ما كان لهذه المحنة من أثر عظيم وشديد في أحداث وسير السيرة النبوية، ثم ما كان من تحمل النبي صلى الله عليه وسلم والرعيل الأول من المؤمنين رضوان الله عليهم شدة هذه المحنة بقلوب عامرة بالإيمان مستغرقة في الله ودينه، وعظم كفاحهم وثباتهم في سبيل إعلاء دين الله أمام تألب السواد الأعظم من أهل مكة وقبائلها بقيادة الزعماء الأقوياء والأغنياء إلى أن حق الحق وزهق الباطل، وانتصر دين الله وصارت كلمته هي العليا.
تعليق على موقف المرأة المسلمة في هذه المحنة
ولقد كان الرعيل الأول من المؤمنين من الرجال والنساء على السواء، وكما تعرض الرجال للمحنة وصبروا عليها وكافحوا وثبتوا فقد تعرض النساء لها وصبرن وكافحن، على ما تفيده آيات سورة البروج التي نحن في صددها أولا، وآية سورة آل عمران [ ١٩٥ ] التي أوردنا نصها آنفا ثانيا. وقد ذكرت الروايات أن أم عمار بن ياسر رضي الله عنهما ماتت تحت العذاب مع أبيه وفضّلا الموت على النطق بكلمة الكفر. كما ذكرت أن المهاجرين إلى الحبشة ثم إلى المدينة كانوا من الرجال والنساء على السواء. ومن اللاتي هاجرن إلى الحبشة بنات زعماء كبار من قريش أسلمن مع أزواجهن وهاجرن معهم إلى الحبشة تمسكا بدينهن رغم قوة أبائهن، مثل أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان، وسهلة بنت سهيل بن عمرو، وأم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومي وفاطمة بنت صفوان بن أمية، وكان عدد النساء المهاجرات إلى الحبشة سبع عشرة.
ولقد سجل القرآن حادثا عظيما من هذا الباب ؛ حيث كان من نساء الرعيل الأول من أجبر على التخلف عن الهجرة إلى المدينة، فما إن سنحت لهن الفرصة حتى غامرن وخرجن والتحقن برسول الله صلى الله عليه وسلم تاركات أزواجهن وأهلهن الكفار مما انطوى خبره في آية سورة الممتحنة هذه٣ :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم١٠ ﴾.
وهكذا سجلت المرأة العربية المسلمة شخصيتها وقوة إيمانها ووعيها وكفاحها وثباتها وجرأتها ومخاطرتها منذ بدء الدعوة الإسلامية، وفي دور الأذى والمحنة العصيب أسوة بالرجل مما يثير الإعجاب والإجلال.
تعليق على موضوع التوبة
وبمناسبة ورود جملة ﴿ لم يتوبوا ﴾ [ ١٠ ] في الآية الأولى نذكر أن القرآن فتح باب التوبة لكل فئة من الناس ومهما كانت أفعالهم وسواء منهم الكفار أم المنافقون أو مقترفو المنكرات من المسلمين وحضهم عليها بمختلف الأساليب، وفي مختلف السور المكية والمدنية، وفي مختلف أدوار التنزيل من عهد مبكر في مكة إلى عهد متأخر في المدينة كما جاء في الآية التي نحن في صددها وكما جاء في آيات كثيرة أخرى منها الأمثلة التالية :
١- ﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين٢٧٨ فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ﴾ البقرة [ ٢٧٨-٢٧٩ ].
٢-﴿ كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين٨٦ أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين٨٧ خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون٨٨ إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ﴾ آل عمران [ ٨٦-٨٩ ].
٣-﴿ والذين يأتيانها منكم فأذوهما فإن تاب وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما١٦ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما١٧ وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك اعتدنا لهم عذابا أليما ﴾ النساء [ ١٦-١٨ ].
٤-﴿ ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ﴾ النساء [ ١١٠ ].
٥-﴿ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا١٤٥ إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما١٤٦ ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما ﴾ النساء [ ١٤٥-١٤٧ ].
٦-{ إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب
يصرف المفسرون بدون سند وثيق ضمير الفاعل في الآية الأولى من هذه الآيات إلى أصحاب الأخدود ويقولون : إن الوعيد فيها لهم وإن عذاب الحريق هو مقابلة عينية لما فعلوه من حرق المؤمنين في نار الأخدود. وهذا عجيب وغير صواب فيما يتبادر لنا. وجملة ﴿ ثم لم يتوبوا ﴾ دليل على ذلك ؛ لأن أصحاب الأخدود ماتوا وانقضى أمرهم ولم يعد لفتح باب التوبة لهم محل. والمعقول الذي تدل عليه هذه الجملة أن يكون الوعيد لجماعة كانوا يفتنون المؤمنين والمؤمنات وقت نزولها. ولقد كان ذلك أمراً واقعاً ؛ حيث كان بعض الزعماء المشركين في مكة يضطهدون ضعفاء المؤمنين والمؤمنات ويؤذونهم ليرغموهم على الافتتان أي الارتداد عن الإسلام. وهكذا تكون الآيات الأولى من السورة بمثابة مقدمة بين يدي هذا الوعيد يحتوي وعيدا مماثلا للمشركين الذين كانوا يفعلون بالمؤمنين بالرسالة النبوية شيئا مما فعله أصحاب الأخدود بالمؤمنين السابقين. وتكون الصلة قائمة واضحة بين المجموعتين. وهو ما جرى عليه النظم القرآني في سياق قصص الأمم السابقة وما كان من نكال الله الدنيوي فيهم جزاء كفرهم ومواقفهم العدائية والعدوانية من أنبيائهم مما مر منه بعض الأمثلة.
وقد احتوت الآيات بالإضافة إلى الوعيد لفاتني المؤمنين والمؤمنات، إذا لم يتوبوا بشرى للمؤمنين الذين يعملون الصالحات وتثبيت لهم وتنويه بقوة بطش الله الذي خلق الخلق بدءا والقادر على خلقه إعادة، الفعال لما يريد. وتنويه في الوقت نفسه بسعة رحمة الله وغفرانه ومودته للصالحين من عباده. وفي التنويه بالبطش والغفران والمودة وفي الإنذار والتبشير تساوق تام إزاء موقف المؤمنين ومضطهديهم وما يطلب من كل منهم كما هو المتبادر.
وذكر العرش هنا يأتي للمرة الثانية، ولقد علقنا على هذا الموضوع في سياق سورة التكوير بما يغني عن التكرار إلا أن نقول إن الأسلوب الذي جاء به هنا أيضا يؤيد ما نبهنا عليه في ذلك التعليق من الحكمة المنطوية في ذكر العرش وهو قصد بيان عظمة شأن الله تعالى.
تعليق على محنة فتنة المؤمنين الأولين
وفتنة المؤمنين في العهد المكي ذكرت في غير هذه السورة أيضا. وذكرها في هذه السورة المبكرة في النزول يدل على أنها قد بدأت منذ عهد مبكر من الدعوة، ولقد رويت روايات عديدة في سياقها كما وردت أيضا آيات في القرآن تشير إلى بعض نتائجها. ويستفاد من هذه وتلك : أن الأرقاء والمستضعفين من المسلمين الأولين هم الذين تعرضوا لها في الدرجة الأولى، وأنها كانت مع ذلك تشمل المؤمنين من الأسر القرشية البارزة، وأنه كان من صورها أن يعرى المسلمون ويطرحون فوق الرمال والصخور الشديدة الوهج من حرارة الشمس، وتوضع على أجسادهم الصخور الثقيلة، ويمنع عنهم الماء والطعام ساعات طويلة أو أياما عديدة، وكانت تقيد أيديهم وأرجلهم بقيود الحديد ويجلدون شديد الجلد، وأنه قد زهقت بسبب العذاب أرواح فضرب أصحابها الشهداء مثلا خالدا على التمسك بالعقيدة وتحمل أنواع الأذى والتضحية بالنفس في سبيلها١ والراجح أن آيات سورة البروج هذه تشير إلى هذه المرحلة.
وفي سورة النحل آيتان قد تدلان على أن بعض المؤمنين أرغموا على الافتتان والتبرؤ من الإسلام، فمنهم من ظل كافرا، ومنهم من عاد إلى الإسلام حينما سنحت له الفرصة وفر من مكة وهما هاتان :
١-﴿ من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم١٠٦ ﴾.
٢-﴿ ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم١١٠ ﴾.
وقد روى المفسرون٢ أن الاستثناء في الآية الأولى كان لعمار بن ياسر رضي الله عنه الذي أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان، وأنه قد جاء يبكي للنبي صلى الله عليه وسلم ويقول له إني نلتك بالشر فقال له مشجعا مطمئنا ( إن عادوا لك فعد لهم ).
وقد كان بعض أغنياء المسلمين، وبخاصة أبا بكر رضي الله عنه يشترون بعض الأرقاء المضطهدين من مالكيهم وينقذونهم من المحنة. وقد استمرت المحنة طيلة العهد المكي ثم إلى الفتح المكي في السنة الهجرية الثامنة بالنسبة لمن اضطر إلى البقاء في مكة ومنع الهجرة إلى المدينة. وكانت من أهم الحركات التي سببت للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين هما عظيما. وكان من نتائجها أن هاجر معظم المسلمين رجالا ونساء إلى الحبشة. وآيات سورة النحل هذه :﴿ والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون٤١ الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون٤٢ ﴾ تشير إلى ذلك.
ولقد كاد النبي صلى الله عليه وسلم نفسه يهاجر نتيجة لذلك على ما تفيده آية سورة الإسراء هذه :﴿ وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا٧٦ ﴾ ثم كانت من أسباب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة. وآية سورة الأنفال هذه :﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين٣٠ ﴾ وما جاء في آية الحج [ ٤٠ ] من هذه الجملة :﴿ الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ﴾ وآية سورة آل عمران هذه :﴿ فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب١٩٥ ﴾ تشير إلى ذلك. وقد وصفها القرآن بأنها أشد من القتل وأكبر، واعتبر الكفار بسببها البادئين بالحرب المستحقين للانتقام، وأوجب الاستمرار في قتالهم إلى أن ينتهوا عنها على ما جاء في آية سورة الحج هذه. ﴿ أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير٣٩ ﴾ وآيات سورة البقرة هذه :﴿ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين١٩٠ واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين١٩١ فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم١٩٢ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين١٩٣ ﴾ وفي كل هذا ينطوي ما كان لهذه المحنة من أثر عظيم وشديد في أحداث وسير السيرة النبوية، ثم ما كان من تحمل النبي صلى الله عليه وسلم والرعيل الأول من المؤمنين رضوان الله عليهم شدة هذه المحنة بقلوب عامرة بالإيمان مستغرقة في الله ودينه، وعظم كفاحهم وثباتهم في سبيل إعلاء دين الله أمام تألب السواد الأعظم من أهل مكة وقبائلها بقيادة الزعماء الأقوياء والأغنياء إلى أن حق الحق وزهق الباطل، وانتصر دين الله وصارت كلمته هي العليا.
تعليق على موقف المرأة المسلمة في هذه المحنة
ولقد كان الرعيل الأول من المؤمنين من الرجال والنساء على السواء، وكما تعرض الرجال للمحنة وصبروا عليها وكافحوا وثبتوا فقد تعرض النساء لها وصبرن وكافحن، على ما تفيده آيات سورة البروج التي نحن في صددها أولا، وآية سورة آل عمران [ ١٩٥ ] التي أوردنا نصها آنفا ثانيا. وقد ذكرت الروايات أن أم عمار بن ياسر رضي الله عنهما ماتت تحت العذاب مع أبيه وفضّلا الموت على النطق بكلمة الكفر. كما ذكرت أن المهاجرين إلى الحبشة ثم إلى المدينة كانوا من الرجال والنساء على السواء. ومن اللاتي هاجرن إلى الحبشة بنات زعماء كبار من قريش أسلمن مع أزواجهن وهاجرن معهم إلى الحبشة تمسكا بدينهن رغم قوة أبائهن، مثل أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان، وسهلة بنت سهيل بن عمرو، وأم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومي وفاطمة بنت صفوان بن أمية، وكان عدد النساء المهاجرات إلى الحبشة سبع عشرة.
ولقد سجل القرآن حادثا عظيما من هذا الباب ؛ حيث كان من نساء الرعيل الأول من أجبر على التخلف عن الهجرة إلى المدينة، فما إن سنحت لهن الفرصة حتى غامرن وخرجن والتحقن برسول الله صلى الله عليه وسلم تاركات أزواجهن وأهلهن الكفار مما انطوى خبره في آية سورة الممتحنة هذه٣ :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم١٠ ﴾.
وهكذا سجلت المرأة العربية المسلمة شخصيتها وقوة إيمانها ووعيها وكفاحها وثباتها وجرأتها ومخاطرتها منذ بدء الدعوة الإسلامية، وفي دور الأذى والمحنة العصيب أسوة بالرجل مما يثير الإعجاب والإجلال.
تعليق على موضوع التوبة
وبمناسبة ورود جملة ﴿ لم يتوبوا ﴾ [ ١٠ ] في الآية الأولى نذكر أن القرآن فتح باب التوبة لكل فئة من الناس ومهما كانت أفعالهم وسواء منهم الكفار أم المنافقون أو مقترفو المنكرات من المسلمين وحضهم عليها بمختلف الأساليب، وفي مختلف السور المكية والمدنية، وفي مختلف أدوار التنزيل من عهد مبكر في مكة إلى عهد متأخر في المدينة كما جاء في الآية التي نحن في صددها وكما جاء في آيات كثيرة أخرى منها الأمثلة التالية :
١- ﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين٢٧٨ فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ﴾ البقرة [ ٢٧٨-٢٧٩ ].
٢-﴿ كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين٨٦ أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين٨٧ خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون٨٨ إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ﴾ آل عمران [ ٨٦-٨٩ ].
٣-﴿ والذين يأتيانها منكم فأذوهما فإن تاب وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما١٦ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما١٧ وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك اعتدنا لهم عذابا أليما ﴾ النساء [ ١٦-١٨ ].
٤-﴿ ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ﴾ النساء [ ١١٠ ].
٥-﴿ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا١٤٥ إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما١٤٦ ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما ﴾ النساء [ ١٤٥-١٤٧ ].
٦-{ إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب
يصرف المفسرون بدون سند وثيق ضمير الفاعل في الآية الأولى من هذه الآيات إلى أصحاب الأخدود ويقولون : إن الوعيد فيها لهم وإن عذاب الحريق هو مقابلة عينية لما فعلوه من حرق المؤمنين في نار الأخدود. وهذا عجيب وغير صواب فيما يتبادر لنا. وجملة ﴿ ثم لم يتوبوا ﴾ دليل على ذلك ؛ لأن أصحاب الأخدود ماتوا وانقضى أمرهم ولم يعد لفتح باب التوبة لهم محل. والمعقول الذي تدل عليه هذه الجملة أن يكون الوعيد لجماعة كانوا يفتنون المؤمنين والمؤمنات وقت نزولها. ولقد كان ذلك أمراً واقعاً ؛ حيث كان بعض الزعماء المشركين في مكة يضطهدون ضعفاء المؤمنين والمؤمنات ويؤذونهم ليرغموهم على الافتتان أي الارتداد عن الإسلام. وهكذا تكون الآيات الأولى من السورة بمثابة مقدمة بين يدي هذا الوعيد يحتوي وعيدا مماثلا للمشركين الذين كانوا يفعلون بالمؤمنين بالرسالة النبوية شيئا مما فعله أصحاب الأخدود بالمؤمنين السابقين. وتكون الصلة قائمة واضحة بين المجموعتين. وهو ما جرى عليه النظم القرآني في سياق قصص الأمم السابقة وما كان من نكال الله الدنيوي فيهم جزاء كفرهم ومواقفهم العدائية والعدوانية من أنبيائهم مما مر منه بعض الأمثلة.
وقد احتوت الآيات بالإضافة إلى الوعيد لفاتني المؤمنين والمؤمنات، إذا لم يتوبوا بشرى للمؤمنين الذين يعملون الصالحات وتثبيت لهم وتنويه بقوة بطش الله الذي خلق الخلق بدءا والقادر على خلقه إعادة، الفعال لما يريد. وتنويه في الوقت نفسه بسعة رحمة الله وغفرانه ومودته للصالحين من عباده. وفي التنويه بالبطش والغفران والمودة وفي الإنذار والتبشير تساوق تام إزاء موقف المؤمنين ومضطهديهم وما يطلب من كل منهم كما هو المتبادر.
وذكر العرش هنا يأتي للمرة الثانية، ولقد علقنا على هذا الموضوع في سياق سورة التكوير بما يغني عن التكرار إلا أن نقول إن الأسلوب الذي جاء به هنا أيضا يؤيد ما نبهنا عليه في ذلك التعليق من الحكمة المنطوية في ذكر العرش وهو قصد بيان عظمة شأن الله تعالى.
تعليق على محنة فتنة المؤمنين الأولين
وفتنة المؤمنين في العهد المكي ذكرت في غير هذه السورة أيضا. وذكرها في هذه السورة المبكرة في النزول يدل على أنها قد بدأت منذ عهد مبكر من الدعوة، ولقد رويت روايات عديدة في سياقها كما وردت أيضا آيات في القرآن تشير إلى بعض نتائجها. ويستفاد من هذه وتلك : أن الأرقاء والمستضعفين من المسلمين الأولين هم الذين تعرضوا لها في الدرجة الأولى، وأنها كانت مع ذلك تشمل المؤمنين من الأسر القرشية البارزة، وأنه كان من صورها أن يعرى المسلمون ويطرحون فوق الرمال والصخور الشديدة الوهج من حرارة الشمس، وتوضع على أجسادهم الصخور الثقيلة، ويمنع عنهم الماء والطعام ساعات طويلة أو أياما عديدة، وكانت تقيد أيديهم وأرجلهم بقيود الحديد ويجلدون شديد الجلد، وأنه قد زهقت بسبب العذاب أرواح فضرب أصحابها الشهداء مثلا خالدا على التمسك بالعقيدة وتحمل أنواع الأذى والتضحية بالنفس في سبيلها١ والراجح أن آيات سورة البروج هذه تشير إلى هذه المرحلة.
وفي سورة النحل آيتان قد تدلان على أن بعض المؤمنين أرغموا على الافتتان والتبرؤ من الإسلام، فمنهم من ظل كافرا، ومنهم من عاد إلى الإسلام حينما سنحت له الفرصة وفر من مكة وهما هاتان :
١-﴿ من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم١٠٦ ﴾.
٢-﴿ ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم١١٠ ﴾.
وقد روى المفسرون٢ أن الاستثناء في الآية الأولى كان لعمار بن ياسر رضي الله عنه الذي أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان، وأنه قد جاء يبكي للنبي صلى الله عليه وسلم ويقول له إني نلتك بالشر فقال له مشجعا مطمئنا ( إن عادوا لك فعد لهم ).
وقد كان بعض أغنياء المسلمين، وبخاصة أبا بكر رضي الله عنه يشترون بعض الأرقاء المضطهدين من مالكيهم وينقذونهم من المحنة. وقد استمرت المحنة طيلة العهد المكي ثم إلى الفتح المكي في السنة الهجرية الثامنة بالنسبة لمن اضطر إلى البقاء في مكة ومنع الهجرة إلى المدينة. وكانت من أهم الحركات التي سببت للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين هما عظيما. وكان من نتائجها أن هاجر معظم المسلمين رجالا ونساء إلى الحبشة. وآيات سورة النحل هذه :﴿ والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون٤١ الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون٤٢ ﴾ تشير إلى ذلك.
ولقد كاد النبي صلى الله عليه وسلم نفسه يهاجر نتيجة لذلك على ما تفيده آية سورة الإسراء هذه :﴿ وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا٧٦ ﴾ ثم كانت من أسباب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة. وآية سورة الأنفال هذه :﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين٣٠ ﴾ وما جاء في آية الحج [ ٤٠ ] من هذه الجملة :﴿ الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ﴾ وآية سورة آل عمران هذه :﴿ فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب١٩٥ ﴾ تشير إلى ذلك. وقد وصفها القرآن بأنها أشد من القتل وأكبر، واعتبر الكفار بسببها البادئين بالحرب المستحقين للانتقام، وأوجب الاستمرار في قتالهم إلى أن ينتهوا عنها على ما جاء في آية سورة الحج هذه. ﴿ أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير٣٩ ﴾ وآيات سورة البقرة هذه :﴿ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين١٩٠ واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين١٩١ فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم١٩٢ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين١٩٣ ﴾ وفي كل هذا ينطوي ما كان لهذه المحنة من أثر عظيم وشديد في أحداث وسير السيرة النبوية، ثم ما كان من تحمل النبي صلى الله عليه وسلم والرعيل الأول من المؤمنين رضوان الله عليهم شدة هذه المحنة بقلوب عامرة بالإيمان مستغرقة في الله ودينه، وعظم كفاحهم وثباتهم في سبيل إعلاء دين الله أمام تألب السواد الأعظم من أهل مكة وقبائلها بقيادة الزعماء الأقوياء والأغنياء إلى أن حق الحق وزهق الباطل، وانتصر دين الله وصارت كلمته هي العليا.
تعليق على موقف المرأة المسلمة في هذه المحنة
ولقد كان الرعيل الأول من المؤمنين من الرجال والنساء على السواء، وكما تعرض الرجال للمحنة وصبروا عليها وكافحوا وثبتوا فقد تعرض النساء لها وصبرن وكافحن، على ما تفيده آيات سورة البروج التي نحن في صددها أولا، وآية سورة آل عمران [ ١٩٥ ] التي أوردنا نصها آنفا ثانيا. وقد ذكرت الروايات أن أم عمار بن ياسر رضي الله عنهما ماتت تحت العذاب مع أبيه وفضّلا الموت على النطق بكلمة الكفر. كما ذكرت أن المهاجرين إلى الحبشة ثم إلى المدينة كانوا من الرجال والنساء على السواء. ومن اللاتي هاجرن إلى الحبشة بنات زعماء كبار من قريش أسلمن مع أزواجهن وهاجرن معهم إلى الحبشة تمسكا بدينهن رغم قوة أبائهن، مثل أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان، وسهلة بنت سهيل بن عمرو، وأم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومي وفاطمة بنت صفوان بن أمية، وكان عدد النساء المهاجرات إلى الحبشة سبع عشرة.
ولقد سجل القرآن حادثا عظيما من هذا الباب ؛ حيث كان من نساء الرعيل الأول من أجبر على التخلف عن الهجرة إلى المدينة، فما إن سنحت لهن الفرصة حتى غامرن وخرجن والتحقن برسول الله صلى الله عليه وسلم تاركات أزواجهن وأهلهن الكفار مما انطوى خبره في آية سورة الممتحنة هذه٣ :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم١٠ ﴾.
وهكذا سجلت المرأة العربية المسلمة شخصيتها وقوة إيمانها ووعيها وكفاحها وثباتها وجرأتها ومخاطرتها منذ بدء الدعوة الإسلامية، وفي دور الأذى والمحنة العصيب أسوة بالرجل مما يثير الإعجاب والإجلال.
تعليق على موضوع التوبة
وبمناسبة ورود جملة ﴿ لم يتوبوا ﴾ [ ١٠ ] في الآية الأولى نذكر أن القرآن فتح باب التوبة لكل فئة من الناس ومهما كانت أفعالهم وسواء منهم الكفار أم المنافقون أو مقترفو المنكرات من المسلمين وحضهم عليها بمختلف الأساليب، وفي مختلف السور المكية والمدنية، وفي مختلف أدوار التنزيل من عهد مبكر في مكة إلى عهد متأخر في المدينة كما جاء في الآية التي نحن في صددها وكما جاء في آيات كثيرة أخرى منها الأمثلة التالية :
١- ﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين٢٧٨ فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ﴾ البقرة [ ٢٧٨-٢٧٩ ].
٢-﴿ كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين٨٦ أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين٨٧ خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون٨٨ إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ﴾ آل عمران [ ٨٦-٨٩ ].
٣-﴿ والذين يأتيانها منكم فأذوهما فإن تاب وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما١٦ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما١٧ وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك اعتدنا لهم عذابا أليما ﴾ النساء [ ١٦-١٨ ].
٤-﴿ ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ﴾ النساء [ ١١٠ ].
٥-﴿ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا١٤٥ إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما١٤٦ ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما ﴾ النساء [ ١٤٥-١٤٧ ].
٦-{ إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب
يصرف المفسرون بدون سند وثيق ضمير الفاعل في الآية الأولى من هذه الآيات إلى أصحاب الأخدود ويقولون : إن الوعيد فيها لهم وإن عذاب الحريق هو مقابلة عينية لما فعلوه من حرق المؤمنين في نار الأخدود. وهذا عجيب وغير صواب فيما يتبادر لنا. وجملة ﴿ ثم لم يتوبوا ﴾ دليل على ذلك ؛ لأن أصحاب الأخدود ماتوا وانقضى أمرهم ولم يعد لفتح باب التوبة لهم محل. والمعقول الذي تدل عليه هذه الجملة أن يكون الوعيد لجماعة كانوا يفتنون المؤمنين والمؤمنات وقت نزولها. ولقد كان ذلك أمراً واقعاً ؛ حيث كان بعض الزعماء المشركين في مكة يضطهدون ضعفاء المؤمنين والمؤمنات ويؤذونهم ليرغموهم على الافتتان أي الارتداد عن الإسلام. وهكذا تكون الآيات الأولى من السورة بمثابة مقدمة بين يدي هذا الوعيد يحتوي وعيدا مماثلا للمشركين الذين كانوا يفعلون بالمؤمنين بالرسالة النبوية شيئا مما فعله أصحاب الأخدود بالمؤمنين السابقين. وتكون الصلة قائمة واضحة بين المجموعتين. وهو ما جرى عليه النظم القرآني في سياق قصص الأمم السابقة وما كان من نكال الله الدنيوي فيهم جزاء كفرهم ومواقفهم العدائية والعدوانية من أنبيائهم مما مر منه بعض الأمثلة.
وقد احتوت الآيات بالإضافة إلى الوعيد لفاتني المؤمنين والمؤمنات، إذا لم يتوبوا بشرى للمؤمنين الذين يعملون الصالحات وتثبيت لهم وتنويه بقوة بطش الله الذي خلق الخلق بدءا والقادر على خلقه إعادة، الفعال لما يريد. وتنويه في الوقت نفسه بسعة رحمة الله وغفرانه ومودته للصالحين من عباده. وفي التنويه بالبطش والغفران والمودة وفي الإنذار والتبشير تساوق تام إزاء موقف المؤمنين ومضطهديهم وما يطلب من كل منهم كما هو المتبادر.
وذكر العرش هنا يأتي للمرة الثانية، ولقد علقنا على هذا الموضوع في سياق سورة التكوير بما يغني عن التكرار إلا أن نقول إن الأسلوب الذي جاء به هنا أيضا يؤيد ما نبهنا عليه في ذلك التعليق من الحكمة المنطوية في ذكر العرش وهو قصد بيان عظمة شأن الله تعالى.
تعليق على محنة فتنة المؤمنين الأولين
وفتنة المؤمنين في العهد المكي ذكرت في غير هذه السورة أيضا. وذكرها في هذه السورة المبكرة في النزول يدل على أنها قد بدأت منذ عهد مبكر من الدعوة، ولقد رويت روايات عديدة في سياقها كما وردت أيضا آيات في القرآن تشير إلى بعض نتائجها. ويستفاد من هذه وتلك : أن الأرقاء والمستضعفين من المسلمين الأولين هم الذين تعرضوا لها في الدرجة الأولى، وأنها كانت مع ذلك تشمل المؤمنين من الأسر القرشية البارزة، وأنه كان من صورها أن يعرى المسلمون ويطرحون فوق الرمال والصخور الشديدة الوهج من حرارة الشمس، وتوضع على أجسادهم الصخور الثقيلة، ويمنع عنهم الماء والطعام ساعات طويلة أو أياما عديدة، وكانت تقيد أيديهم وأرجلهم بقيود الحديد ويجلدون شديد الجلد، وأنه قد زهقت بسبب العذاب أرواح فضرب أصحابها الشهداء مثلا خالدا على التمسك بالعقيدة وتحمل أنواع الأذى والتضحية بالنفس في سبيلها١ والراجح أن آيات سورة البروج هذه تشير إلى هذه المرحلة.
وفي سورة النحل آيتان قد تدلان على أن بعض المؤمنين أرغموا على الافتتان والتبرؤ من الإسلام، فمنهم من ظل كافرا، ومنهم من عاد إلى الإسلام حينما سنحت له الفرصة وفر من مكة وهما هاتان :
١-﴿ من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم١٠٦ ﴾.
٢-﴿ ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم١١٠ ﴾.
وقد روى المفسرون٢ أن الاستثناء في الآية الأولى كان لعمار بن ياسر رضي الله عنه الذي أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان، وأنه قد جاء يبكي للنبي صلى الله عليه وسلم ويقول له إني نلتك بالشر فقال له مشجعا مطمئنا ( إن عادوا لك فعد لهم ).
وقد كان بعض أغنياء المسلمين، وبخاصة أبا بكر رضي الله عنه يشترون بعض الأرقاء المضطهدين من مالكيهم وينقذونهم من المحنة. وقد استمرت المحنة طيلة العهد المكي ثم إلى الفتح المكي في السنة الهجرية الثامنة بالنسبة لمن اضطر إلى البقاء في مكة ومنع الهجرة إلى المدينة. وكانت من أهم الحركات التي سببت للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين هما عظيما. وكان من نتائجها أن هاجر معظم المسلمين رجالا ونساء إلى الحبشة. وآيات سورة النحل هذه :﴿ والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون٤١ الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون٤٢ ﴾ تشير إلى ذلك.
ولقد كاد النبي صلى الله عليه وسلم نفسه يهاجر نتيجة لذلك على ما تفيده آية سورة الإسراء هذه :﴿ وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا٧٦ ﴾ ثم كانت من أسباب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة. وآية سورة الأنفال هذه :﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين٣٠ ﴾ وما جاء في آية الحج [ ٤٠ ] من هذه الجملة :﴿ الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ﴾ وآية سورة آل عمران هذه :﴿ فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب١٩٥ ﴾ تشير إلى ذلك. وقد وصفها القرآن بأنها أشد من القتل وأكبر، واعتبر الكفار بسببها البادئين بالحرب المستحقين للانتقام، وأوجب الاستمرار في قتالهم إلى أن ينتهوا عنها على ما جاء في آية سورة الحج هذه. ﴿ أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير٣٩ ﴾ وآيات سورة البقرة هذه :﴿ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين١٩٠ واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين١٩١ فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم١٩٢ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين١٩٣ ﴾ وفي كل هذا ينطوي ما كان لهذه المحنة من أثر عظيم وشديد في أحداث وسير السيرة النبوية، ثم ما كان من تحمل النبي صلى الله عليه وسلم والرعيل الأول من المؤمنين رضوان الله عليهم شدة هذه المحنة بقلوب عامرة بالإيمان مستغرقة في الله ودينه، وعظم كفاحهم وثباتهم في سبيل إعلاء دين الله أمام تألب السواد الأعظم من أهل مكة وقبائلها بقيادة الزعماء الأقوياء والأغنياء إلى أن حق الحق وزهق الباطل، وانتصر دين الله وصارت كلمته هي العليا.
تعليق على موقف المرأة المسلمة في هذه المحنة
ولقد كان الرعيل الأول من المؤمنين من الرجال والنساء على السواء، وكما تعرض الرجال للمحنة وصبروا عليها وكافحوا وثبتوا فقد تعرض النساء لها وصبرن وكافحن، على ما تفيده آيات سورة البروج التي نحن في صددها أولا، وآية سورة آل عمران [ ١٩٥ ] التي أوردنا نصها آنفا ثانيا. وقد ذكرت الروايات أن أم عمار بن ياسر رضي الله عنهما ماتت تحت العذاب مع أبيه وفضّلا الموت على النطق بكلمة الكفر. كما ذكرت أن المهاجرين إلى الحبشة ثم إلى المدينة كانوا من الرجال والنساء على السواء. ومن اللاتي هاجرن إلى الحبشة بنات زعماء كبار من قريش أسلمن مع أزواجهن وهاجرن معهم إلى الحبشة تمسكا بدينهن رغم قوة أبائهن، مثل أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان، وسهلة بنت سهيل بن عمرو، وأم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومي وفاطمة بنت صفوان بن أمية، وكان عدد النساء المهاجرات إلى الحبشة سبع عشرة.
ولقد سجل القرآن حادثا عظيما من هذا الباب ؛ حيث كان من نساء الرعيل الأول من أجبر على التخلف عن الهجرة إلى المدينة، فما إن سنحت لهن الفرصة حتى غامرن وخرجن والتحقن برسول الله صلى الله عليه وسلم تاركات أزواجهن وأهلهن الكفار مما انطوى خبره في آية سورة الممتحنة هذه٣ :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم١٠ ﴾.
وهكذا سجلت المرأة العربية المسلمة شخصيتها وقوة إيمانها ووعيها وكفاحها وثباتها وجرأتها ومخاطرتها منذ بدء الدعوة الإسلامية، وفي دور الأذى والمحنة العصيب أسوة بالرجل مما يثير الإعجاب والإجلال.
تعليق على موضوع التوبة
وبمناسبة ورود جملة ﴿ لم يتوبوا ﴾ [ ١٠ ] في الآية الأولى نذكر أن القرآن فتح باب التوبة لكل فئة من الناس ومهما كانت أفعالهم وسواء منهم الكفار أم المنافقون أو مقترفو المنكرات من المسلمين وحضهم عليها بمختلف الأساليب، وفي مختلف السور المكية والمدنية، وفي مختلف أدوار التنزيل من عهد مبكر في مكة إلى عهد متأخر في المدينة كما جاء في الآية التي نحن في صددها وكما جاء في آيات كثيرة أخرى منها الأمثلة التالية :
١- ﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين٢٧٨ فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ﴾ البقرة [ ٢٧٨-٢٧٩ ].
٢-﴿ كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين٨٦ أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين٨٧ خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون٨٨ إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ﴾ آل عمران [ ٨٦-٨٩ ].
٣-﴿ والذين يأتيانها منكم فأذوهما فإن تاب وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما١٦ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما١٧ وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك اعتدنا لهم عذابا أليما ﴾ النساء [ ١٦-١٨ ].
٤-﴿ ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ﴾ النساء [ ١١٠ ].
٥-﴿ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا١٤٥ إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما١٤٦ ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما ﴾ النساء [ ١٤٥-١٤٧ ].
٦-{ إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب
يصرف المفسرون بدون سند وثيق ضمير الفاعل في الآية الأولى من هذه الآيات إلى أصحاب الأخدود ويقولون : إن الوعيد فيها لهم وإن عذاب الحريق هو مقابلة عينية لما فعلوه من حرق المؤمنين في نار الأخدود. وهذا عجيب وغير صواب فيما يتبادر لنا. وجملة ﴿ ثم لم يتوبوا ﴾ دليل على ذلك ؛ لأن أصحاب الأخدود ماتوا وانقضى أمرهم ولم يعد لفتح باب التوبة لهم محل. والمعقول الذي تدل عليه هذه الجملة أن يكون الوعيد لجماعة كانوا يفتنون المؤمنين والمؤمنات وقت نزولها. ولقد كان ذلك أمراً واقعاً ؛ حيث كان بعض الزعماء المشركين في مكة يضطهدون ضعفاء المؤمنين والمؤمنات ويؤذونهم ليرغموهم على الافتتان أي الارتداد عن الإسلام. وهكذا تكون الآيات الأولى من السورة بمثابة مقدمة بين يدي هذا الوعيد يحتوي وعيدا مماثلا للمشركين الذين كانوا يفعلون بالمؤمنين بالرسالة النبوية شيئا مما فعله أصحاب الأخدود بالمؤمنين السابقين. وتكون الصلة قائمة واضحة بين المجموعتين. وهو ما جرى عليه النظم القرآني في سياق قصص الأمم السابقة وما كان من نكال الله الدنيوي فيهم جزاء كفرهم ومواقفهم العدائية والعدوانية من أنبيائهم مما مر منه بعض الأمثلة.
وقد احتوت الآيات بالإضافة إلى الوعيد لفاتني المؤمنين والمؤمنات، إذا لم يتوبوا بشرى للمؤمنين الذين يعملون الصالحات وتثبيت لهم وتنويه بقوة بطش الله الذي خلق الخلق بدءا والقادر على خلقه إعادة، الفعال لما يريد. وتنويه في الوقت نفسه بسعة رحمة الله وغفرانه ومودته للصالحين من عباده. وفي التنويه بالبطش والغفران والمودة وفي الإنذار والتبشير تساوق تام إزاء موقف المؤمنين ومضطهديهم وما يطلب من كل منهم كما هو المتبادر.
وذكر العرش هنا يأتي للمرة الثانية، ولقد علقنا على هذا الموضوع في سياق سورة التكوير بما يغني عن التكرار إلا أن نقول إن الأسلوب الذي جاء به هنا أيضا يؤيد ما نبهنا عليه في ذلك التعليق من الحكمة المنطوية في ذكر العرش وهو قصد بيان عظمة شأن الله تعالى.
تعليق على محنة فتنة المؤمنين الأولين
وفتنة المؤمنين في العهد المكي ذكرت في غير هذه السورة أيضا. وذكرها في هذه السورة المبكرة في النزول يدل على أنها قد بدأت منذ عهد مبكر من الدعوة، ولقد رويت روايات عديدة في سياقها كما وردت أيضا آيات في القرآن تشير إلى بعض نتائجها. ويستفاد من هذه وتلك : أن الأرقاء والمستضعفين من المسلمين الأولين هم الذين تعرضوا لها في الدرجة الأولى، وأنها كانت مع ذلك تشمل المؤمنين من الأسر القرشية البارزة، وأنه كان من صورها أن يعرى المسلمون ويطرحون فوق الرمال والصخور الشديدة الوهج من حرارة الشمس، وتوضع على أجسادهم الصخور الثقيلة، ويمنع عنهم الماء والطعام ساعات طويلة أو أياما عديدة، وكانت تقيد أيديهم وأرجلهم بقيود الحديد ويجلدون شديد الجلد، وأنه قد زهقت بسبب العذاب أرواح فضرب أصحابها الشهداء مثلا خالدا على التمسك بالعقيدة وتحمل أنواع الأذى والتضحية بالنفس في سبيلها١ والراجح أن آيات سورة البروج هذه تشير إلى هذه المرحلة.
وفي سورة النحل آيتان قد تدلان على أن بعض المؤمنين أرغموا على الافتتان والتبرؤ من الإسلام، فمنهم من ظل كافرا، ومنهم من عاد إلى الإسلام حينما سنحت له الفرصة وفر من مكة وهما هاتان :
١-﴿ من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم١٠٦ ﴾.
٢-﴿ ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم١١٠ ﴾.
وقد روى المفسرون٢ أن الاستثناء في الآية الأولى كان لعمار بن ياسر رضي الله عنه الذي أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان، وأنه قد جاء يبكي للنبي صلى الله عليه وسلم ويقول له إني نلتك بالشر فقال له مشجعا مطمئنا ( إن عادوا لك فعد لهم ).
وقد كان بعض أغنياء المسلمين، وبخاصة أبا بكر رضي الله عنه يشترون بعض الأرقاء المضطهدين من مالكيهم وينقذونهم من المحنة. وقد استمرت المحنة طيلة العهد المكي ثم إلى الفتح المكي في السنة الهجرية الثامنة بالنسبة لمن اضطر إلى البقاء في مكة ومنع الهجرة إلى المدينة. وكانت من أهم الحركات التي سببت للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين هما عظيما. وكان من نتائجها أن هاجر معظم المسلمين رجالا ونساء إلى الحبشة. وآيات سورة النحل هذه :﴿ والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون٤١ الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون٤٢ ﴾ تشير إلى ذلك.
ولقد كاد النبي صلى الله عليه وسلم نفسه يهاجر نتيجة لذلك على ما تفيده آية سورة الإسراء هذه :﴿ وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا٧٦ ﴾ ثم كانت من أسباب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة. وآية سورة الأنفال هذه :﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين٣٠ ﴾ وما جاء في آية الحج [ ٤٠ ] من هذه الجملة :﴿ الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ﴾ وآية سورة آل عمران هذه :﴿ فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب١٩٥ ﴾ تشير إلى ذلك. وقد وصفها القرآن بأنها أشد من القتل وأكبر، واعتبر الكفار بسببها البادئين بالحرب المستحقين للانتقام، وأوجب الاستمرار في قتالهم إلى أن ينتهوا عنها على ما جاء في آية سورة الحج هذه. ﴿ أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير٣٩ ﴾ وآيات سورة البقرة هذه :﴿ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين١٩٠ واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين١٩١ فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم١٩٢ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين١٩٣ ﴾ وفي كل هذا ينطوي ما كان لهذه المحنة من أثر عظيم وشديد في أحداث وسير السيرة النبوية، ثم ما كان من تحمل النبي صلى الله عليه وسلم والرعيل الأول من المؤمنين رضوان الله عليهم شدة هذه المحنة بقلوب عامرة بالإيمان مستغرقة في الله ودينه، وعظم كفاحهم وثباتهم في سبيل إعلاء دين الله أمام تألب السواد الأعظم من أهل مكة وقبائلها بقيادة الزعماء الأقوياء والأغنياء إلى أن حق الحق وزهق الباطل، وانتصر دين الله وصارت كلمته هي العليا.
تعليق على موقف المرأة المسلمة في هذه المحنة
ولقد كان الرعيل الأول من المؤمنين من الرجال والنساء على السواء، وكما تعرض الرجال للمحنة وصبروا عليها وكافحوا وثبتوا فقد تعرض النساء لها وصبرن وكافحن، على ما تفيده آيات سورة البروج التي نحن في صددها أولا، وآية سورة آل عمران [ ١٩٥ ] التي أوردنا نصها آنفا ثانيا. وقد ذكرت الروايات أن أم عمار بن ياسر رضي الله عنهما ماتت تحت العذاب مع أبيه وفضّلا الموت على النطق بكلمة الكفر. كما ذكرت أن المهاجرين إلى الحبشة ثم إلى المدينة كانوا من الرجال والنساء على السواء. ومن اللاتي هاجرن إلى الحبشة بنات زعماء كبار من قريش أسلمن مع أزواجهن وهاجرن معهم إلى الحبشة تمسكا بدينهن رغم قوة أبائهن، مثل أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان، وسهلة بنت سهيل بن عمرو، وأم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومي وفاطمة بنت صفوان بن أمية، وكان عدد النساء المهاجرات إلى الحبشة سبع عشرة.
ولقد سجل القرآن حادثا عظيما من هذا الباب ؛ حيث كان من نساء الرعيل الأول من أجبر على التخلف عن الهجرة إلى المدينة، فما إن سنحت لهن الفرصة حتى غامرن وخرجن والتحقن برسول الله صلى الله عليه وسلم تاركات أزواجهن وأهلهن الكفار مما انطوى خبره في آية سورة الممتحنة هذه٣ :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم١٠ ﴾.
وهكذا سجلت المرأة العربية المسلمة شخصيتها وقوة إيمانها ووعيها وكفاحها وثباتها وجرأتها ومخاطرتها منذ بدء الدعوة الإسلامية، وفي دور الأذى والمحنة العصيب أسوة بالرجل مما يثير الإعجاب والإجلال.
تعليق على موضوع التوبة
وبمناسبة ورود جملة ﴿ لم يتوبوا ﴾ [ ١٠ ] في الآية الأولى نذكر أن القرآن فتح باب التوبة لكل فئة من الناس ومهما كانت أفعالهم وسواء منهم الكفار أم المنافقون أو مقترفو المنكرات من المسلمين وحضهم عليها بمختلف الأساليب، وفي مختلف السور المكية والمدنية، وفي مختلف أدوار التنزيل من عهد مبكر في مكة إلى عهد متأخر في المدينة كما جاء في الآية التي نحن في صددها وكما جاء في آيات كثيرة أخرى منها الأمثلة التالية :
١- ﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين٢٧٨ فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ﴾ البقرة [ ٢٧٨-٢٧٩ ].
٢-﴿ كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين٨٦ أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين٨٧ خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون٨٨ إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ﴾ آل عمران [ ٨٦-٨٩ ].
٣-﴿ والذين يأتيانها منكم فأذوهما فإن تاب وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما١٦ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما١٧ وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك اعتدنا لهم عذابا أليما ﴾ النساء [ ١٦-١٨ ].
٤-﴿ ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ﴾ النساء [ ١١٠ ].
٥-﴿ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا١٤٥ إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما١٤٦ ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما ﴾ النساء [ ١٤٥-١٤٧ ].
٦-{ إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب
يصرف المفسرون بدون سند وثيق ضمير الفاعل في الآية الأولى من هذه الآيات إلى أصحاب الأخدود ويقولون : إن الوعيد فيها لهم وإن عذاب الحريق هو مقابلة عينية لما فعلوه من حرق المؤمنين في نار الأخدود. وهذا عجيب وغير صواب فيما يتبادر لنا. وجملة ﴿ ثم لم يتوبوا ﴾ دليل على ذلك ؛ لأن أصحاب الأخدود ماتوا وانقضى أمرهم ولم يعد لفتح باب التوبة لهم محل. والمعقول الذي تدل عليه هذه الجملة أن يكون الوعيد لجماعة كانوا يفتنون المؤمنين والمؤمنات وقت نزولها. ولقد كان ذلك أمراً واقعاً ؛ حيث كان بعض الزعماء المشركين في مكة يضطهدون ضعفاء المؤمنين والمؤمنات ويؤذونهم ليرغموهم على الافتتان أي الارتداد عن الإسلام. وهكذا تكون الآيات الأولى من السورة بمثابة مقدمة بين يدي هذا الوعيد يحتوي وعيدا مماثلا للمشركين الذين كانوا يفعلون بالمؤمنين بالرسالة النبوية شيئا مما فعله أصحاب الأخدود بالمؤمنين السابقين. وتكون الصلة قائمة واضحة بين المجموعتين. وهو ما جرى عليه النظم القرآني في سياق قصص الأمم السابقة وما كان من نكال الله الدنيوي فيهم جزاء كفرهم ومواقفهم العدائية والعدوانية من أنبيائهم مما مر منه بعض الأمثلة.
وقد احتوت الآيات بالإضافة إلى الوعيد لفاتني المؤمنين والمؤمنات، إذا لم يتوبوا بشرى للمؤمنين الذين يعملون الصالحات وتثبيت لهم وتنويه بقوة بطش الله الذي خلق الخلق بدءا والقادر على خلقه إعادة، الفعال لما يريد. وتنويه في الوقت نفسه بسعة رحمة الله وغفرانه ومودته للصالحين من عباده. وفي التنويه بالبطش والغفران والمودة وفي الإنذار والتبشير تساوق تام إزاء موقف المؤمنين ومضطهديهم وما يطلب من كل منهم كما هو المتبادر.
وذكر العرش هنا يأتي للمرة الثانية، ولقد علقنا على هذا الموضوع في سياق سورة التكوير بما يغني عن التكرار إلا أن نقول إن الأسلوب الذي جاء به هنا أيضا يؤيد ما نبهنا عليه في ذلك التعليق من الحكمة المنطوية في ذكر العرش وهو قصد بيان عظمة شأن الله تعالى.
تعليق على محنة فتنة المؤمنين الأولين
وفتنة المؤمنين في العهد المكي ذكرت في غير هذه السورة أيضا. وذكرها في هذه السورة المبكرة في النزول يدل على أنها قد بدأت منذ عهد مبكر من الدعوة، ولقد رويت روايات عديدة في سياقها كما وردت أيضا آيات في القرآن تشير إلى بعض نتائجها. ويستفاد من هذه وتلك : أن الأرقاء والمستضعفين من المسلمين الأولين هم الذين تعرضوا لها في الدرجة الأولى، وأنها كانت مع ذلك تشمل المؤمنين من الأسر القرشية البارزة، وأنه كان من صورها أن يعرى المسلمون ويطرحون فوق الرمال والصخور الشديدة الوهج من حرارة الشمس، وتوضع على أجسادهم الصخور الثقيلة، ويمنع عنهم الماء والطعام ساعات طويلة أو أياما عديدة، وكانت تقيد أيديهم وأرجلهم بقيود الحديد ويجلدون شديد الجلد، وأنه قد زهقت بسبب العذاب أرواح فضرب أصحابها الشهداء مثلا خالدا على التمسك بالعقيدة وتحمل أنواع الأذى والتضحية بالنفس في سبيلها١ والراجح أن آيات سورة البروج هذه تشير إلى هذه المرحلة.
وفي سورة النحل آيتان قد تدلان على أن بعض المؤمنين أرغموا على الافتتان والتبرؤ من الإسلام، فمنهم من ظل كافرا، ومنهم من عاد إلى الإسلام حينما سنحت له الفرصة وفر من مكة وهما هاتان :
١-﴿ من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم١٠٦ ﴾.
٢-﴿ ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم١١٠ ﴾.
وقد روى المفسرون٢ أن الاستثناء في الآية الأولى كان لعمار بن ياسر رضي الله عنه الذي أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان، وأنه قد جاء يبكي للنبي صلى الله عليه وسلم ويقول له إني نلتك بالشر فقال له مشجعا مطمئنا ( إن عادوا لك فعد لهم ).
وقد كان بعض أغنياء المسلمين، وبخاصة أبا بكر رضي الله عنه يشترون بعض الأرقاء المضطهدين من مالكيهم وينقذونهم من المحنة. وقد استمرت المحنة طيلة العهد المكي ثم إلى الفتح المكي في السنة الهجرية الثامنة بالنسبة لمن اضطر إلى البقاء في مكة ومنع الهجرة إلى المدينة. وكانت من أهم الحركات التي سببت للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين هما عظيما. وكان من نتائجها أن هاجر معظم المسلمين رجالا ونساء إلى الحبشة. وآيات سورة النحل هذه :﴿ والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون٤١ الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون٤٢ ﴾ تشير إلى ذلك.
ولقد كاد النبي صلى الله عليه وسلم نفسه يهاجر نتيجة لذلك على ما تفيده آية سورة الإسراء هذه :﴿ وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا٧٦ ﴾ ثم كانت من أسباب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة. وآية سورة الأنفال هذه :﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين٣٠ ﴾ وما جاء في آية الحج [ ٤٠ ] من هذه الجملة :﴿ الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ﴾ وآية سورة آل عمران هذه :﴿ فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب١٩٥ ﴾ تشير إلى ذلك. وقد وصفها القرآن بأنها أشد من القتل وأكبر، واعتبر الكفار بسببها البادئين بالحرب المستحقين للانتقام، وأوجب الاستمرار في قتالهم إلى أن ينتهوا عنها على ما جاء في آية سورة الحج هذه. ﴿ أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير٣٩ ﴾ وآيات سورة البقرة هذه :﴿ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين١٩٠ واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين١٩١ فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم١٩٢ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين١٩٣ ﴾ وفي كل هذا ينطوي ما كان لهذه المحنة من أثر عظيم وشديد في أحداث وسير السيرة النبوية، ثم ما كان من تحمل النبي صلى الله عليه وسلم والرعيل الأول من المؤمنين رضوان الله عليهم شدة هذه المحنة بقلوب عامرة بالإيمان مستغرقة في الله ودينه، وعظم كفاحهم وثباتهم في سبيل إعلاء دين الله أمام تألب السواد الأعظم من أهل مكة وقبائلها بقيادة الزعماء الأقوياء والأغنياء إلى أن حق الحق وزهق الباطل، وانتصر دين الله وصارت كلمته هي العليا.
تعليق على موقف المرأة المسلمة في هذه المحنة
ولقد كان الرعيل الأول من المؤمنين من الرجال والنساء على السواء، وكما تعرض الرجال للمحنة وصبروا عليها وكافحوا وثبتوا فقد تعرض النساء لها وصبرن وكافحن، على ما تفيده آيات سورة البروج التي نحن في صددها أولا، وآية سورة آل عمران [ ١٩٥ ] التي أوردنا نصها آنفا ثانيا. وقد ذكرت الروايات أن أم عمار بن ياسر رضي الله عنهما ماتت تحت العذاب مع أبيه وفضّلا الموت على النطق بكلمة الكفر. كما ذكرت أن المهاجرين إلى الحبشة ثم إلى المدينة كانوا من الرجال والنساء على السواء. ومن اللاتي هاجرن إلى الحبشة بنات زعماء كبار من قريش أسلمن مع أزواجهن وهاجرن معهم إلى الحبشة تمسكا بدينهن رغم قوة أبائهن، مثل أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان، وسهلة بنت سهيل بن عمرو، وأم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومي وفاطمة بنت صفوان بن أمية، وكان عدد النساء المهاجرات إلى الحبشة سبع عشرة.
ولقد سجل القرآن حادثا عظيما من هذا الباب ؛ حيث كان من نساء الرعيل الأول من أجبر على التخلف عن الهجرة إلى المدينة، فما إن سنحت لهن الفرصة حتى غامرن وخرجن والتحقن برسول الله صلى الله عليه وسلم تاركات أزواجهن وأهلهن الكفار مما انطوى خبره في آية سورة الممتحنة هذه٣ :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم١٠ ﴾.
وهكذا سجلت المرأة العربية المسلمة شخصيتها وقوة إيمانها ووعيها وكفاحها وثباتها وجرأتها ومخاطرتها منذ بدء الدعوة الإسلامية، وفي دور الأذى والمحنة العصيب أسوة بالرجل مما يثير الإعجاب والإجلال.
تعليق على موضوع التوبة
وبمناسبة ورود جملة ﴿ لم يتوبوا ﴾ [ ١٠ ] في الآية الأولى نذكر أن القرآن فتح باب التوبة لكل فئة من الناس ومهما كانت أفعالهم وسواء منهم الكفار أم المنافقون أو مقترفو المنكرات من المسلمين وحضهم عليها بمختلف الأساليب، وفي مختلف السور المكية والمدنية، وفي مختلف أدوار التنزيل من عهد مبكر في مكة إلى عهد متأخر في المدينة كما جاء في الآية التي نحن في صددها وكما جاء في آيات كثيرة أخرى منها الأمثلة التالية :
١- ﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين٢٧٨ فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ﴾ البقرة [ ٢٧٨-٢٧٩ ].
٢-﴿ كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين٨٦ أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين٨٧ خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون٨٨ إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ﴾ آل عمران [ ٨٦-٨٩ ].
٣-﴿ والذين يأتيانها منكم فأذوهما فإن تاب وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما١٦ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما١٧ وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك اعتدنا لهم عذابا أليما ﴾ النساء [ ١٦-١٨ ].
٤-﴿ ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ﴾ النساء [ ١١٠ ].
٥-﴿ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا١٤٥ إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما١٤٦ ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما ﴾ النساء [ ١٤٥-١٤٧ ].
٦-{ إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب
﴿ هل أتاك حديث الجنود١ ( ١٧ ) فرعون وثمود( ١٨ ) بل الذين كفروا في تكذيب( ١٩ ) والله من ورائهم محيط( ٢٠ ) بل هو قرآن مجيد٢( ٢١ ) في لوح محفوظ( ٢٢ ) ﴾ [ ١٧-٢٢ ].
الآيات متصلة بسابقاتها نظما وموضوعا ؛ حيث احتوت تذكيرا آخر بما كان من مواقف فرعون وثمود وجموعهم المجندة وتمردهم ونكال الله فيهم، وإنذارا للكافرين المكذبين بنقمة الله المحيط بهم.
وقد انتهت السورة بالتنويه بالقرآن بسبيل توكيد صلة الله به وتوكيد ما احتواه من نذر ووعيد للطغاة المتمردين. فهو كتاب الله المجيد الذي لا يمكن أن يطرأ عليه تبديل وتغيير ؛ لأن الله حافظ له في لوحه.
الآيات متصلة بسابقاتها نظما وموضوعا ؛ حيث احتوت تذكيرا آخر بما كان من مواقف فرعون وثمود وجموعهم المجندة وتمردهم ونكال الله فيهم، وإنذارا للكافرين المكذبين بنقمة الله المحيط بهم.
وقد انتهت السورة بالتنويه بالقرآن بسبيل توكيد صلة الله به وتوكيد ما احتواه من نذر ووعيد للطغاة المتمردين. فهو كتاب الله المجيد الذي لا يمكن أن يطرأ عليه تبديل وتغيير ؛ لأن الله حافظ له في لوحه.
الآيات متصلة بسابقاتها نظما وموضوعا ؛ حيث احتوت تذكيرا آخر بما كان من مواقف فرعون وثمود وجموعهم المجندة وتمردهم ونكال الله فيهم، وإنذارا للكافرين المكذبين بنقمة الله المحيط بهم.
وقد انتهت السورة بالتنويه بالقرآن بسبيل توكيد صلة الله به وتوكيد ما احتواه من نذر ووعيد للطغاة المتمردين. فهو كتاب الله المجيد الذي لا يمكن أن يطرأ عليه تبديل وتغيير ؛ لأن الله حافظ له في لوحه.
الآيات متصلة بسابقاتها نظما وموضوعا ؛ حيث احتوت تذكيرا آخر بما كان من مواقف فرعون وثمود وجموعهم المجندة وتمردهم ونكال الله فيهم، وإنذارا للكافرين المكذبين بنقمة الله المحيط بهم.
وقد انتهت السورة بالتنويه بالقرآن بسبيل توكيد صلة الله به وتوكيد ما احتواه من نذر ووعيد للطغاة المتمردين. فهو كتاب الله المجيد الذي لا يمكن أن يطرأ عليه تبديل وتغيير ؛ لأن الله حافظ له في لوحه.
﴿ هل أتاك حديث الجنود١ ( ١٧ ) فرعون وثمود( ١٨ ) بل الذين كفروا في تكذيب( ١٩ ) والله من ورائهم محيط( ٢٠ ) بل هو قرآن مجيد٢( ٢١ ) في لوح محفوظ( ٢٢ ) ﴾ [ ١٧-٢٢ ].
الآيات متصلة بسابقاتها نظما وموضوعا ؛ حيث احتوت تذكيرا آخر بما كان من مواقف فرعون وثمود وجموعهم المجندة وتمردهم ونكال الله فيهم، وإنذارا للكافرين المكذبين بنقمة الله المحيط بهم.
وقد انتهت السورة بالتنويه بالقرآن بسبيل توكيد صلة الله به وتوكيد ما احتواه من نذر ووعيد للطغاة المتمردين. فهو كتاب الله المجيد الذي لا يمكن أن يطرأ عليه تبديل وتغيير ؛ لأن الله حافظ له في لوحه.
الآيات متصلة بسابقاتها نظما وموضوعا ؛ حيث احتوت تذكيرا آخر بما كان من مواقف فرعون وثمود وجموعهم المجندة وتمردهم ونكال الله فيهم، وإنذارا للكافرين المكذبين بنقمة الله المحيط بهم.
وقد انتهت السورة بالتنويه بالقرآن بسبيل توكيد صلة الله به وتوكيد ما احتواه من نذر ووعيد للطغاة المتمردين. فهو كتاب الله المجيد الذي لا يمكن أن يطرأ عليه تبديل وتغيير ؛ لأن الله حافظ له في لوحه.
تعليق على جملة
﴿ في لوح محفوظ ﴾
إن أصل معنى اللوح : الشيء الممهد المنبسط الذي يكتب أو ينقش عليه. ولقد أورد المفسرون في سياق الجملة المذكورة أقوالا وروايات عديدة١. منها ما أوردوه في سياق تفسير سورة البروج، ومنها ما أوردوه في سياق تفسير جملة " أم الكتاب " في سورة الرعد التي فسروها بمعنى " اللوح المحفوظ ". ومنها ما أورده في سياق تفسير مطلع سورة القلم ؛ حيث رووا أن " ن " تعني اللوح النوراني الذي أمر الله القلم أن يكتب عليه المقادير. وقد أوردنا ذلك في سياق تفسير هذه السورة فنكتفي بالإشارة إليه.
ولقد روى الطبري في سياق تفسير سورة البروج عن أنس أنه القرآن المجيد المحفوظ في جبهة إسرافيل. وقال البغوي : هو أم الكتاب ومنه تنسخ الكتب ومحفوظ من الشياطين ومن الزيادة والنقصان. وروي عن ابن عباس أنه من درة بيضاء طوله ما بين السماء والأرض، وعرضه ما بين المشرق إلى المغرب وحافتاه الدر والياقوت ودفتاه ياقوتة حمراء وقلمه نور وكلامه قديم وكل شيء فيه مستور. وأعلاه معقود بالعرش وأصله في حجر ملك وعن يمين العرش. وأنه مكتوب في صدره " لا إله إلا الله وحده دينه الإسلام ومحمد عبده ورسوله فمن آمن بالله عز وجل وصدق بوعده واتبع رسله أدخله الجنة ). وروى ابن كثير عن عبد الرحمان بن سليمان أنه ما من شيء قضى الله القرآن وما قبله وما بعده إلا وهو في اللوح المحفوظ واللوح المحفوظ بين عيني إسرافيل لا يؤذن له بالنظر فيه، وروي عن الحسن البصري أن معنى الجملة : إن هذا القرآن عند الله في لوح محفوظ ينزل ما يشاء على من يشاء من خلقه وأورد حديثا أخرجه الطبراني عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إن الله تعالى خلق لوحا محفوظا من درة بيضاء صفحاتها من ياقوتة حمراء، قلمه نور وكتابه نور، لله في كل يوم ستون وثلاثمائة لحظة، يخلق ويرزق ويميت ويحيي ويعز ويذل ويفعل ما يشاء ). وفي سياق جملة [ أم الكتاب ] قال البغوي : إن أم الكتاب هو اللوح المحفوظ الذي لا يبدل ولا يغير. وروي عن ابن عباس أنهما كتابان كتاب يمحو منه ما يشاء ويثبت وأم الكتاب الذي لا يغير منه. وروي كذلك عن ابن عباس قوله :( إن لله تعالى لوحا محفوظا مسيرة خمسمائة عام من درة بيضاء لها دفتان من ياقوت، لله في كل يوم فيه ثلاثمائة وستون لحظة يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب. وروي كذلك أن ابن عباس سأل كعبا عن أم الكتاب فقال : علم الله ما هو خالق وما خلقه عاملون. وفي تفسير ابن كثير في سياق تفسير الآية [ ٧ ] من سورة هود حديث رواه الإمام أحمد عن عمران بن الحصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال جوابا على سؤال :( كان الله قبل كل شيء، وكان عرشه على الماء، وكتب في اللوح المحفوظ ذكر كل شيء ).
ويلحظ أن الحديث الذي أورده ابن كثير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم من إخراج الطبراني أورده البغوي بصيغة مباينة وعزواً إلى ابن عباس فقط، والبغوي من أئمة الحديث ؛ حيث يفيد هذا أنه لم يثبت عنده صدور ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا فضلا عن أن مسند الطبراني لا يعد من كتب الأحاديث الصحيحة. وليس هناك فيما اطلعنا عليه حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في ماهية اللوح. والحديث الذي أوردناه في سياق كلمة القلم في سورة العلق والذي رواه الترمذي وأبو داود عن عبادة بن الصامت لم يذكر اللوح، وإنما ذكر القلم، وذكر أن الله أمره أن يكتب ما هو كائن.
ومهما يكن من أمر فإننا نقول : إن القرآن لم يحتو أي بيان عن ماهية اللوح ومدى الجملة. وإنه ليس هناك أثر نبوي صحيح في ذلك، وهما المصدران اللذان يجب الوقوف عندهما في مثل هذه الأمور الغيبية. وليس فيما قيل وروي عن غير النبي صلى الله عليه وسلم ما يمكن أن تطمئن به النفس باستثناء ما روي عن كعب من أن معنى " أم الكتاب " التي يذكرها المفسرون كمرادفة للوح هو علم الله ما هو خالق وما خلقه عاملون.
والإيمان بما جاء في القرآن عن الأمور الغيبية واجب. ومع إيماننا بذلك فلا نرى ما يمنع الأخذ بتفسير كعب لأم الكتاب ولا القول : إن الله عز وجل منزه عن الحاجة إلى تثبيت كلامه وقرآنه وعلمه ومقدراته وكتابتها ونقشها على ألواح مادية. وإنه لما كان الناس قد اعتادوا أن يكتبوا وينقشوا ما يريدون تثبيته وحفظه من الأحداث والأفكار على الألواح بالأقلام أو ما يقوم مقامها ولما كانت حكمة التنزيل جرت على استعمال مألوفات البشر في الدنيا في التعبير عن المشاهد الأخروية والغيبية فالذي يتبادر لنا أولا : أن اللوح والقلم هما من هذا الباب للتعبير عن علم الله الأزلي الأبدي لكل كائن، وثانيا : أن من حكمة استعمال كلمة اللوح في صدد القرآن قصد التقريب والتشبيه، وبيان كون القرآن محفوظا حفظا تاما لا يمكن أن يطرأ عليه تبدل ولا تحريف.
وفي سورة الواقعة آيتان عن القرآن مشابهتان لآيتي سورة البروج اللتين نحن في صددهما مع اختلاف في اللفظ وهما هاتان :﴿ إنه لقرآن كريم٧٧ في كتاب مكنون٧٨ ﴾ فكريم هنا مقابل مجيد في آيتي البروج. وفي " كتاب مكنون " مقابل " في لوح محفوظ " وهذا الاختلاف اللفظي مع الاتفاق في المعنى يؤيد ما قررناه ؛ حيث يمكن أن يكون الكتاب واللوح في معنى واحد ومعرض واحد بقصد التقريب والتشبيه وتوكيد الحفظ التام، والله أعلم.