تفسير سورة هود

كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
تفسير سورة سورة هود من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل .
لمؤلفه أبو بكر الحداد اليمني . المتوفي سنة 800 هـ

﴿ الۤر ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (مَعْنَاهُ أنَا اللهُ الرَّحْمَنُ). وقولهُ: ﴿ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ﴾؛ وَقِيْلَ: (كِتَابٌ) بدلٌ من قولهِ ﴿ الۤر ﴾ لأنه خبرهُ، كأنه قال: هذه الحروفُ كتابٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ﴾ أي أُحكِمَتْ بالأمرِ والنهي.
﴿ ثُمَّ فُصِّلَتْ ﴾؛ بالثواب والعقاب، وقال قتادة: (أُحْكِمَتْ عَنِ الْبَاطِلِ بالْحُجَجِ وَالدَّلاَئِلِ، ثُمَّ فُصِّلَتْ بأَنْ أنْزِلَتْ شَيْئاً فَشَيْئاً). وقال الكلبيُّ: (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ لَمْ يُنْسَخْ بكِتَابٍ، كَمَا نُسِخَتِ الْكُتُبُ وَالشَّرَائِعُ بهِ.
﴿ ثُمَّ فُصِّلَتْ ﴾ بُيِّنَتْ بالأَحْكَامِ مِنَ الْحَلاَلِ وَالْحَرَامِ، وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ). وقولهُ: ﴿ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴾؛ أي مِنْ عند حكيمٍ في خَلقهِ وتدبيرهِ، خبيرٍ بمَن يصدِّقُ ويكذِّبُ به.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ ٱللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ﴾؛ أي أحْكَمَ اللهُ القرآنَ بالْحُجَجِ لِئَلاَّ يُطيعوا إلاَّ اللهَ. وَقِيْلَ: معناهُ: أمَرَكم أنْ لا تعبُدوا غيرَهُ إنَّني لكم من اللهِ مُعَلِّمٌ بموضعِ المخافة لتَحذرُوا، وموضعِ الخيرِ لتطلُبوا، ونذيرٌ بمعنى مُنْذِرٍ، كما في قولهِ ﴿ أَلِيمٌ ﴾ يعني مؤلِم.
قولهُ: ﴿ وَأَنِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ ﴾؛ أي وأمرَكم أن تطلبُوا المغفرةَ من ربكم، واجعلُوها غرَضَكم وتوصَّلوا إليها بالتوبةِ وهي الندمُ على القبيح، والعزمُ على تركِ المعاودة إليه. وَقِيْلَ: معناهُ: وأنِ استغفروا ربَّكم بالتوبةِ عما سلَفَ من ذُنوبكم، ثم توبُوا إليه عمَّا يقعُ منكم من الذنوب في المستقبلِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعاً حَسَناً إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾؛ ﴿ يُمَتِّعْكُمْ ﴾ جُزِمَ على جواب الأمر؛ أي إنْ فعلتُم ذلك أنعَمَ اللهُ عليكم نِعَماً سابغةً حِسَاناً تستبقون بها إلى آجَالِكم التي قدَّرَها اللهُ لكم، فلم يستَأْصِلكم كما استأصلَ الأُمَم المكذِّبَة به قبلَكم. قال القتيبيُّ: (أصْلُ الإمْتَاعِ الإطَالَةُ) يقالُ: جبلٌ مَاتِعٌ، وقد مَتَعَ النهارُ إذا طالَ، فمعنى يُمَتِّعْكُمْ يُعَمِّرْكُمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ﴾؛ أي مَن كان ذا فَضْلٍ في دينهِ فضَّلَهُ اللهُ في الآخرةِ بالثواب على عمله. وَقِيْلَ: يعطِي كلَّ ذِي عمَلٍ صالحٍ أجرَهُ وثوابه. وقال ابنُ عبَّاس: (يُعْطِي كُلَّ مَنْ فَضَلَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ فَضْلَهُ؛ يَعْنِي الْجَنَّةَ وَهِيَ فَضْلُ اللهِ، يِعْنِي أنَّ مَنْ زَادَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ). وعن ابنِ مسعود قال في هذه الآيةِ: (مَنْ عَمِلَ حَسَنَةً كُتِبَتْ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَمَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً كُتِبَتْ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً، وَإنْ لَمْ يُعَاقَبْ بتِلْكَ السَّيِّئَةِ فِي الدُّنْيَا أُخِذ مِنْ عَشْرِ حَسَنَاتِهِ وَاحِدَةً وَبَقِيَتْ لَهُ تِسْعٌ) ثُمَّ قالَ: (هَلَكَ مَنْ غَلَبَتْ آحَادُهُ أعْشَارَهُ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِن تَوَلَّوْاْ ﴾؛ أي إنْ أعرَضُوا عنِ الإيمانِ والتوبة.
﴿ فَإِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ﴾؛ أي عظيمِ الشَّأنِ وهو يومُ القيامةِ، وإنما ذكرَ الخوفَ في هذا الموضعِ؛ لأن الخطابَ من الرسول صلى الله عليه وسلم، والخوفُ عليه جائزٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِلَى ٱللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾؛ على إعادَتِكم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي الأَخْنَسِ بْنِ شُرَيْقٍ، كَانَ حِينَ يُجَالِسُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وَيُظْهِرُ لَهُ أمْراً حَسَناً، وَكَانَ حَسَنَ الْمَنْظَرِ، وَكَانَ حَسَنَ الْحَدِيثِ، إلاَّ أنَّهُ كَانَ يُضْمِرُ فِي قَلْبهِ خِلاَفَ مَا يُظْهِرُ، فَأْنَزَلَ اللهُ فِي أمْرِهِ هَذِهِ الآيَةَ). يقالُ: إنَّ طائفةً من المشركين بَلَغَ بهم الجهلُ إلى أنْ قالُوا: إنَّا اذا أغلَقنا أبوابَنا، وأرخَينا سُتُورَنا، واسْتَغْشَيْنَا ثِيابَنا، وثَنَيْنَا صُدورَنا على عداوةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم كيف يعلمُ بنا؟ فَأَنْبَأَ اللهُ نَبيَّهُ عليه السلام عَمَّا كَتَمُوهُ. ومعنى الآيةِ: ألا إنَّهم يَثْنُونَ صُدورَهم على الكفرِِ وعداوةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لِيكتُموا منه ما في صدورهم من عداوتهِ بإظهار المحبَّة. ويقال: معنى (يَثْنُونَ) يعرضون بصدورهم عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾؛ معناه: ألا حين يَتَغَطَّونَ بثيابهم يعلمُ الله ما يُسِرُّونَ بقلوبهم وفيما بينهم وما يُظهرون من محبَّة أو غيرِها.
﴿ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ ﴾؛ أي عالِمٌ بالقلوب التي في الصُّدور، لأن الصدورَ مواضعُ القلوب.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ﴾؛ أي ما من حيوان يدبُّ، قال الزجَّاج: (الدَّابَّةُ اسْمٌ لِكُلِّ حَيْوَانٍ مُمَيِّزٍ وَغَيْرِهِ، ذكَراً كَانَ أوْ أُنْثَى). وفي الآيةِ بيانُ أن اللهَ عالِمٌ بالقلوب كلِّها، وذلك أنه إذا كان ضَامِناً رزقَ كلَّ دابةٍ في الأرض، فليس يرزقُها إلاّ وهو يعلمُ صغيرَها وكبيرها، من الذرِّ فما فوقَها وما دونَها، وإذا عَلِمَها فقد عَلِمَ مستقرَّها ومستودَعَها، المستقَرُّ موضعُ قَرَارها وهو الموضعُ الذي تَأْوِي إليه، والمستودَعُ هو الموضعُ الذي تُودَعُ فيه، قِيْلَ: إنه الرَّحِمُ، وَقِيْلَ: هو الموضعُ الذي تُدْفَنُ فيه. وقال قتادةُ ومجاهد: (أمَّا مُسْتَقَرُّهَا فَفِي الرَّحِمِ، وَأمَّا مُسْتَوْدَعُهَا فَفِي الصُّلْب) ﴿ كُلٌّ ﴾؛ ذلكَ عندَ اللهِ.
﴿ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾؛ يعني اللوحَ المحفوظ، والمعنى: أن ذلك ثابتٌ في علمِ الله. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا ﴾ قال المفسِّرون: فَضْلاً لا وجُوباً، والله تَكَفَّلَ بذلك بفضلهِ. قال أهلُ المعانِي (عَلَى) هاهُنا بمعنى (من)، المعنى: إلاَّ مِنَ الله رزقُها. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾ أي رزقُ كلِّ دابَّةٍ وأجلُها مكتوبٌ في اللوحِ. قال ابنُ عبَّاس: (إنَّ مِمَّا خَلَقَ اللهُ تَعَالَى لَوْحاً مَحْفُوظاً مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ، دَفَّتَاهُ مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، عَرْضُهُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، كِتَابُهُ نُورٌ وَقَلْبُهُ نُورٌ، يَنْظُرُ اللهُ تَعَالَى فِيْهِ كُلَّ يَوْمٍ ثَلاَثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ نَظْرَةً، يَخْلُقُ بكُلِّ نَظْرَةٍ وَيُحْيي وَيُمِيتُ وَيُعِزُّ وَيُذِلُّ وَيَفْعَلُ مَا يَشَاءُ)، قال أبو رَوقٍ: (أعْلاَهُ مَعْقُودٌ بالْعَرْشِ، وَأسْفَلُهُ فِي حِجْرٍ مَلَكٍ كَرِيمٍ يُسَمَّى مَاطُوتُون).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَق ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى ٱلْمَآءِ ﴾؛ يعني قبلَ أنْ خَلَقَ السماوات والأرضَ، قال ابنُ عبَّاس: (خَلَقَ اللهُ السَّّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أيَّامٍ، أوَّلُهَا يَوْمُ الأحَدِ وَآخِرُهَا يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَلَوْ أرَادَ سُبْحَانَهُ خَلْقَهَا فِي أقَلِّ مِنْ لَحْظَةٍ لَفَعَلَ). قولهُ تعالى: ﴿ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى ٱلْمَآءِ ﴾ فيه بيانُ أنَّ السماوات والأرضَ ليستَا بأوَّلِ خَلْقٍ، وأنه تَقدَّمَهما خلقُ شيءٍ آخر، وفيه بيانُ زيادةِ القَدْرِ؛ لأن العرشَ مع كونهِ أعظمَ مِن السماواتِ والأرضِ كان على الماءِ، ولم يكن ذلك الماءُ على قَرَارٍ، ولكنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ أمسكَهُ بقُدرتهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾؛ أي ليَبلُوَكم فينظرَ أيُّكم أحسنُ عملاً، فيُثِيبُ المطيعَ المعتَبرَ بما يَرى من آياتِ السماوات والأرضِ، ويعاقِبَ أهلَ العنادِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ ٱلْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾؛ معناهُ: ولئن قُلتَ يا مُحَمَّدُ للكفار: إنَّكم مبعُوثون من بعدِ الموتِ، ليقولُنَّ الذين كفَرُوا: ما هذا إلا تَمويهٌ ليس له حقيقةٌ، وقد أقَرُّوا أنَّ الله خالقُ السماواتِ والأرض ويُمسِكُها بغيرِ عَمَدٍ، لا يعجزهُ شيءٌ فكيف يشُكُّون في البعثِ بعدَ الموتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ ٱلْعَذَابَ ﴾؛ معناهُ: ولئن أخرنا العذاب عن الكفار.
﴿ إِلَىٰ أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ ﴾، ليقولون: ﴿ مَا يَحْبِسُهُ ﴾، ما منعناهُ: قال ابنُ عبَّاس ومجاهد: (يَعْنِي إلَى أجَلٍ وَحِينٍ)، والأُمَّةُ هاهنا المدةُ، ليقولُنَّ ما يحبسُ هذا العذابَ عنَّا إن كان ما يقولهُ مُحَمَّدٌ حقّاً، يقول اللهُ تعَالى: ﴿ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ ﴾؛ العذابُ.
﴿ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ ﴾؛ لا يقدرُ أحدٌ على صَرفهِ عنهم. فالمعنى: أنَّهم لَمَّا قالوا: ما يحبسُ العذابَ عنَّا على وجهِ الاستهزاء، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ ﴾ يعني إذا أخذتْهم سيوفُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابهِ لم تُغْمَدْ عنهم حتى تعلُو كلمةُ الإخلاصِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ ﴾؛ أي نَزَلَ بهم جزاءُ استهزائِهم وهو العذابُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَئِنْ أَذَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ ﴾ لا يصبرُ على سَلْب تلك النعمةِ، ويصيرُ أيْئَسُ شيء أقنطَهُ من رحمةِ الله، قال ابنُ عبَّاس: (نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ)، وَقِيْلَ: في عبدِاللهِ بن أبي أُمَيَّة المخزوميِّ. والرحمةُ هاهنا الرِّزْقُ، وقوله: ﴿ كَفُورٌ ﴾؛ أي لا يشكرُ نِعَمَ اللهِ قبلَ أن تُسلَبَ عنه، ولا يصبرُ بعد أنْ سُلِبَتْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ ٱلسَّيِّئَاتُ عَنِّيۤ ﴾؛ أي ولئن أذقنا الكافرَ النَِّعَمَ الظاهرةَ بعد المضَرَّة الظاهرةِ التي أصابتْهُ، ليقولَنَّ الكافرُ: ذهبَ الشدائدُ والضرُّ والفاقَةُ والآلامُ عَنِّي، ويفرحُ بذلك ويَبْطَرُ ويَفْجُرُ به على الناسِ من دون أنْ يشكُرَ اللهَ على كشفِ الشدائد عنه. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ ﴾؛ أي بَطِرٌ مُفَاخِرٌ أوليائي بما وسَّعتُ عليه. وإنما نُصِبَ اللام في قولهِ ﴿ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ ٱلسَّيِّئَاتُ ﴾ لأنه في موضعِ الوِحْدَان، وقوله:﴿ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ ﴾[هود: ٨] بضَمِّ اللام في موضعِ لفظ الجماعةِ، وقولهُ تعالى:﴿ لَّيَقُولَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ ﴾[الروم: ٥٨] بنَصب اللام أيضاً؛ لأن الفعلَ مقدَّمٌ على الاسمِ فذُكِرَ بلفظِ الوِحْدَانِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾؛ استثناءٌ ليس من الأوَّل، معناهُ: لكن الذين صَبَروا على الشدائدِ، وعَمِلوا الصالحاتِ فيما بينهم وبين ربهم أٌولئك لهم مغفرةٌ لذُنوبهم وثوابٌ عظيم على طاعتِهم وصبرِهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ ﴾؛ سببُ نزول هذه الآيةِ: أنَّ المشركين كانُوا يقولون للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: لو تركتَ سبَّنَا وسبَّ آلهتنا جالَسنَاكَ، وكانوا يُؤذونَهُ ويقولون: لولا أُنزل على مُحَمَّدٍ كَنْزٌ من السَّماءِ فيعشُ به وينفعهُ، أو جاءَ معه مَلَكٌ يشهدُ له ويُعِينُهُ على الرسالةِ. وَقِيْلَ: إن المشركين قالوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: لو أتَيتَنا بكتابٍ ليس فيه سبٌّ آلهتِنا حتى نؤمنَ بكَ ونتَّبعَكَ، وقال بعضُ المتكبرين: هَلاَّ ينْزِلُ عليك يا مُحَمَّدُ مَلَكٌ يشهدُ لكَ بالصدقِ، أو تُعطَى كَنْزاً تستَغني أنتَ وأتباعُكَ؟ فَهَمَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أن يدعَ سَبَّ آلهتِهم فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ. ولا يجوزُ أن تكون كلمة (لَعَلَّ) في أولِ هذه الآية على جهة الشَّكِّ، وإنما الغرضُ تثبيتُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في ما أُمِرَ به؛ كيلا يلتفتَ على قولِهم، وكي لا ييأَسُوا عن تركِ أداء الرسالة. فلما قالوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: ﴿ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ ﴾.
يقولُ الله للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: ﴿ إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ ﴾؛ أي عليكَ أن تُنذِرَهم وتُخوِّفَهم وتأتِيَهم بما يُوحَى إليكَ من الآياتِ، وليس عليك أن تأتِيَ بشهوَاتِهم وما يفرَحُون من الآياتِ.
﴿ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ ﴾؛ من مقالَتِهم وغيرِ ذلك.
﴿ وَكِيلٌ ﴾؛ أي حفيظٌ. والفرقُ بين ضَائِقٍ وَضَيِّقٍ، أن الضائقَ يكونُ بضِيقِ عَارِضٍ، والضِّيقُ قصورُ الشيءِ عن مقدارِ غيرهِ أنْ يكونَ فيه، وموضعُ ﴿ أَن يَقُولُواْ ﴾ حذف الباء تقديرهُ: ضَائِقٌ به صدرُكَ بأَنْ يقُولوا.
قًوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ﴾؛ معناهُ: بل يقولُ الكفَّار: اختلقَ مُحَمَّدٌ القرآنَ من تلقاءِ نفسه، قُل لَهم يا مُحَمَّد: إنْ كان هذا مُفْتَرَى على اللهِ فأَتُوا بعشرِ سُوَرٍ مثله مُفْتَرياتٍ مختلفات، فإنَّ القرآنَ نزل بلُغَتكم، وأنا نشأتُ بين أظهُرِكم، فإن لم يُمكنكم أن تأتوا بمثلِ القرآن فاعلموا أنه من عندِ اللهِ.
﴿ وَٱدْعُواْ مَنِ ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ ﴾؛ أي استَعينوا بكلِّ أحدٍ يقدرُ على الإتيانِ بعشرِ سُوَرٍ مثله مفتريات.
﴿ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾؛ في مقالَتِكم أنَّ مُحَمَّداً اختلقَهُ. وذهبَ بعض المفسِّرين: إلى أن المرادَ بالسُّوَر العشرِ: من سُورةِ البقرة إلى هذه السُّورة، والأَوْلى أن يُقال: إن المرادَ فاتوا بعَشرِ سُور مثلِ سُوَر القرآنِ أيَّ سُورةٍ كانت، لأن سُورةَ هُودٍ مكِّية، وسورة البقرةِ وما بعدها مدَنِيَّاتٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّمَآ أُنزِلَ بِعِلْمِ ٱللَّهِ وَأَن لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ ﴾؛ الخطابُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم والمسلمين؛ أي فإن لم يُجِبْكَ هؤلاءِ الكفَّارُ إلى الإتيان بمثل القرآنِ، فاعلَمُوا أنَّ هذا القرآنَ أنزلَهُ جبريلُ بعلمِ الله وأمرِه. ويجوز أن يكون بعلمِ الله؛ أي بما أنزلَ اللهُ فيه من غَيْبٍ. ويجوز أن يكون معناه: فإنْ لم يستجِيبوا لكُم؛ أي فإن لم يُجِبْكُمُ الذين دعوتُموهم إلى المعاونةِ إلى الإتيان بمثل هذا القرآنِ، فقد قامت عليكم الحجَّةُ، فاعلَمُوا أنَّما أُنْزِلَ بعلمِ الله، واعلموا أنَّما أنزلَهُ إلاَّ هو، ولا يُنْزِلُ الوحيَ أحدٌ غيرهُ، فهل أنتم تخلِصُون للهِ في التوحيد والعبادةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ ﴾؛ في الآيةِ وجهَان: أحدُهما: أنَّ المرادَ بالآيةِ إذا أتَى بالأعمالِ التي تكون حَسَنَةً في العقلِ مثل صِلَةِ الرَّحمِ والتصدُّقِ وإعانةِ المظلوم، فإن اللهَ يجازيهِ على هذه الأعمالِ في الدُّنيا بأن يُمَكِّنَهُ مما حولَهُ ويعطيهِ ما يسعَى لطلبهِ وافراً عليه ويُقِرَّ عَيْنَهُ بذلك. والثاني: أنَّ المراد بها المنافقُ إذا خرجَ للغزوِ مع المسلمين وهو يريدُ الغنيمةَ دون الثواب ونصرةِ الدِّين، يجزيهِ الله على غَزوهِ بأن أمرَ بإعطائهِ سَهْمَهُ من الغنيمةِ لا يُبْخَسُ عنه شيءٌ من سهمهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ إِلاَّ ٱلنَّارُ ﴾؛ معناهُ: إنَّ الذين عَمِلُوا لغيرِ الله من الكفارِ والمنافقين ليس لهم في الآخرةِ إلا النارُ.
﴿ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا ﴾؛ من الأعمالِ الحسَنة؛ لأنَّهم لم يرَوا لها ثواباً.
﴿ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾؛ من خيرٍ.
قْولُهُ تَعَالَى: ﴿ أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ ﴾؛ اختصارٌ معناهُ: أفمَن كان على بَيِّنَةٍ من ربه، ويتلوهُ شاهدٌ منه كالذِي يريدُ الحياةَ الدُّنيا وزينَتها، وأرادَ بالبيِّنة البرهانَ الذي هو من اللهِ، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم على بُرهانٍ وحُجَّةٍ من ربه، ويقرأ عليه القرآنَ شاهدٌ من اللهِ وهو جبريلُ عليه السلام، هكذا قالَ أكثرُ المفسِّرين أنَّ المرادَ بقولهِ: أفَمَنْ كان على بيِّنة من ربهِ هو النبيُّ صلى الله عليه وسلم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَاماً وَرَحْمَةً ﴾؛ أي ومِن قبلِ القرآنِ كان جبريلُ يقرأ على موسَى التوراةَ إمَاماً يُقتَدى به، ونعمةً من اللهِ لِمَن آمَنَ به، و ﴿ إِمَاماً ﴾ بالنصب على الحالِ.
﴿ وَرَحْمَةً ﴾ أي ذا رحمةٍ، وَقِيْلَ: أرادَ بقوله: ﴿ أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ ﴾ جميعَ المؤمنين، وأرادَ بالشَّاهدِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾؛ يعني أصحابَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ومَن صَدَّقَهُ. وقولهُ تعالى: ﴿ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ ٱلأَحْزَابِ فَٱلنَّارُ مَوْعِدُهُ ﴾؛ أي مَن يكفُرْ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم من أصنافِ الكفَّار واليهودِ والنصارى وغيرهم، فالنارُ مصيرهُ التي وعد َاللهُ في الآخرة. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ ﴾؛ أي لا تكن في شَكٍّ من القرآنِ، وظاهرٌ أنَّ هذا الخطابَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم إلاَّ أن المرادَ به جميعُ الناسِ. وقولهُ تعالى: ﴿ إِنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ ﴾؛ يعني القرآن.
﴿ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾؛ أي لا يصدِّقون في أنَّ القرآنَ من عندِ اللهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً ﴾؛ أي ليس أحدٌ أظلمَ لنفسهِ من الكاذب على ربه بأن زعمَ أن له وَلَداً وشَريكاً.
﴿ أُوْلَـٰئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمْ ﴾؛ معناهُ: أولئكَ الكاذبون يُسَاقُونَ يوم القيامةِ إلى ربهم، ويُوقَفون في المقاماتِ التي يطالَبون فيها بأعمالِهم، ويُسأَلون فيها، ويُجَازَوْنَ عليها. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيَقُولُ ٱلأَشْهَادُ هَـٰؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَىٰ رَبِّهِمْ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس ومجاهد: (الأَشْهَادُ هُمُ الْمَلاَئِكَةُ وَالأَنْبيَاءُ)، وقال قتادةُ: (يَعْنِي الْخَلاَئِقَ)، وقال مقاتلُ: (هُمُ النَّاسُ). والأَشْهَادُ جمعُ شَاهِدٍ مثل نَاصِرٍ وأنْصَارِ وصَاحِبٍ وأصحابٍ، ويجوزُ أن يكون جمعُ شَهِيدٍ مثل شريفٍ وأشرَافٍ. والمعنى: يقولُ الأشهادُ يومَ القيامة من الملائكةِ والنبِّيين والعلماءِ وعامَّة المؤمنين، ويُشيرون إلى الكفارِ فيقولون: ﴿ هَـٰؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَىٰ رَبِّهِمْ ﴾ فيُفضَحُ الكفارُ على رُؤوسِ الأشهادِ. وقولهُ تعالى: ﴿ أَلاَ لَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّالِمِينَ ﴾؛ يجوزُ أن يكون من قولِ الأشهادِ، ويجوز أنْ يكون من قولِ الله، وأرادَ بالظَّالمين المشركين، واللَّعْنَةُ: الإبعادُ من الخيرِ. وعن ابنِ عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:" يَدْنُو الْمُؤْمِنُ مِنْ رَبهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يُقَرِّرُهُ بذُنُوبهِ: هَلْ تَعْرِفُ؟ فَيَقُولُ: رَب أعْرِفُ، فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُ؟ فَيَقُولُ: رَب أعْرِفُ، فَيَسْأَلُهُ عَنْ مَا شَاءَ أنْ يَسْأَلَهُ، قَالَ: فَإنِّي قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، ثُمَّ يُعْطَى صَحِيفَةَ حَسَنَاتِهِ بيَمِينِهِ. وَأمَّا الْكُفَّارُ فَيُنَادَى عَلَيْهِ عَلَى رُؤُوسِ الأَشْهَادِ: هَؤُلاَءِ الَّذِينَ كَذبُوا عَلَى رَبهِمْ، ألاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً ﴾؛ أوَّلُ الآيةِ نعتٌ للظالمين، والمعنى: الذين يسببون للصدِّ من دون اللهِ وطاعته، ويبغُون للهِ سبيل الإسلام زَيغاً وعِوَجاً، يتأوَّلون القرآنَ على خلافِ تأويلهِ.
﴿ وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ﴾؛ أعادَ كلمةَ (هُمْ)؛ تأكيداً لشأنِهم في الكفرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أُولَـٰئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ ﴾؛ معناهُ: أولئك ليسُوا بغائبين عن اللهِ في الأرضِ، ولا مهربَ لهم من عذابهِ حتى يجزِيَهم بأعمالِهم الخبيثة. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ ٱلْعَذَابُ ﴾ أي لا يقتصرُ لهم على عقاب الكُفر، بل يُعاقبون على الكفرِ، وعلى الصدِّ عن سبيل اللهِ. وَقِيْلَ: معناهُ: كلَّما مضَى ضِعْفٌ من العذاب جاءهم ضِعْفٌ من العذاب. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ ٱلسَّمْعَ ﴾؛ أي كان يَثْقُلُ عليهم سماعُ الحقِّ من شدَّة عداوتِهم للنبيِّ صلى الله عليه وسلم.
﴿ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ ﴾؛ لأنهَّم صُمٌّ عن الحقُّ عُمْيٌ لا يُبصرون ولا يهتدون.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ ﴾؛ أي أهلَكُوا أنفُسَهم في الآخرةِ، وذُكرَ الهلاكُ بلفظِ الْخُسرانِ؛ لأن الخسرَان هو ذهابُ رأسِ المال، ورأسُ مال الإنسان نفسهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾؛ أي ذهبَ عنهم الانتفاعُ بأعمالهم التي كانوا يكذِبون بها على اللهِ كما قالوا في الدُّنيا، وَقِيْلَ: معناهُ: ذهبَ عنهم الأصنامُ التي كانوا يعبدونَها في الدُّنيا، يَفْتَرُونَ بقولهم إنَّها آلهةٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لاَ جَرَمَ ﴾؛ قيل: معنى ﴿ لاَ جَرَمَ ﴾: لا بدَّ، ويقال: لا محالة، ويقال: حقاً، قال سيبويه: (لاَ جَرَمَ بمَعْنَى حَقّاً). وقال الزجَّاج: (لا َبَقَاءَ لِمَا ظَنُّوا أنَّهُ يَنْفَعُهُمْ) كأنه قالَ: لا ينفعُهم ذلك جَرَمَ.
﴿ أَنَّهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ هُمُ ٱلأَخْسَرُونَ ﴾؛ أي كَسْبُ ذلك الفعلِ لهم الخسران، وجَرَمَ معناه: كَسَبَ، وذلك كقوله:﴿ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ ﴾[المائدة: ٢].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾؛ الإخْبَاتُ: الْخُشُوعُ والتواضعُ والطُّمَأنِينَةُ؛ أي تواضَعُوا وخَشَغُوا لربهم. وقال مجاهد: (اطْمَأَنُّوا)، وقال قتادة: (أنَابُوا). وهذه الآيةُ نازلةٌ في أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وما قبلَها نازلٌ في المشركين. ثم ضربَ اللهُ مثَلاً في الفريقين فقال: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَثَلُ ٱلْفَرِيقَيْنِ كَٱلأَعْمَىٰ وَٱلأَصَمِّ ﴾؛ يعني الكفارَ.
﴿ وَٱلْبَصِيرِ وَٱلسَّمِيعِ ﴾؛ يعني المؤمنينَ؛ لأنَّهم سَمِعوا الحقَّ وأبصروهُ واتَّبعوه. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً ﴾؛ أي هل يستوِي الأعمَى والأصمُّ والبصير والسميع عند عاقلِ، كما لا يَستويان عندَ أحدٍ من العُقلاء، فكذلك لا يستوِي حالُ المؤمن والكافرِ عندَ الله في الدُّنيا والآخرة.
﴿ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ﴾؛ أي أفلا تتَّعظون بأمثالِ القرآن.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ إِنَّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴾ ابتدأ بذكرِ أوَّل رسولٍ جاءَ بالشريعةِ بعد آدَمَ عليه السلام وهو نوحٌ عليه السلام، أوَّلُ مَن جاءَ بتحريمِ الأُمَّهات والأخوَاتِ، وقولهُ تعالى: ﴿ إِنَّي لَكُمْ ﴾ مَنْ فتحَ الألِفَ كان التقديرُ: أرسَلنا نُوحاً بأنِّي لكم، ومَن كسرَ فتقديره ليقول: إنِّي لكم.
وقولهُ تعالى: ﴿ أَن لاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ ٱللَّهَ ﴾؛ أي وليقُولوا لاَ تعبُدوا إلا اللهَ فإنه لا إله إلا هو.
﴿ إِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ ﴾؛ أي إنِّي أعلمُ أن يكون عليكم إنْ لم تُؤمنوا عذابَ يوم أليمٍ، وإنما وصفَ اليومَ بالألَمِ؛ لأن أسبابَ الألَمِ تقعُ فيه، فنَسَبَ الألَم إليه.
وقوله: ﴿ فَقَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا ﴾؛ أي قالَ الرُّؤساء والأشرافُ الذين كفَروا من قومِ نوحٍ: ما نراكَ يا نوحُ إلا بَشَراً مثلَنا في الصورةِ والخفَّة، فلِمَ صِرْتَ أولى أن تكون نَبيّاً ورَسُولاً للهِ منَّا. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا نَرَاكَ ٱتَّبَعَكَ إِلاَّ ٱلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا ﴾؛ ما نراكَ آمَنَ بكَ إلاّ الذين هم أسَافِلُنا وأخَسُّنا، قال ابنُ عبَّاس: (يُرِيدُونَ الْمَسَاكِينَ الَّذِينَ لا عُقُولَ لَهُمْ وَلاَ شَرَفَ وَلاَ مَالَ) والرَّاذِلُ الدُّونُ من كلِّ شيءٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ بَادِيَ ٱلرَّأْيِ ﴾؛ أي مَن قرأ (بَادِئَ) بالهمزِ فمعناهُ: أنَّهم اتَّبعوكَ بأوَّلِ الرأيِ من دون تفكُّر ونظرٍ، مِن قولهم: بَدَأتُ الأَمْرَ؛ أي ابتدأتهُ، ويجوزُ أن يكون المعنى: بَادِيَ الرؤيةُ؛ أي بأوَّلِ ما تقعُ الرؤية عليهم يعلمُ أنَّهم أراذِلُنا، وقد يكون الرأيُ بمعنى الرُّؤيةِ. قَالَ اللهُ تَعَالَى:﴿ يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ ٱلْعَيْنِ ﴾[آل عمران: ١٣] أي رُؤيةَ العينِ: ومن قرأ (بَادِيَ) بغير همزٍ فمعناه: ظاهرَ الرأيِ وهم يعرِفون الظاهرَ ولا تمييزَ لَهم. ويجوزُ أن يكون معناه: اتَّبعوكَ في الظاهرِ، وباطنُهم على خلافِ ذلك. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ ﴾؛ أي ما نرَى لكَ ولقومِكَ علينا من فَضْلٍ، فإنّ الفضلَ يكون بكثرةِ المال، وشرفِ النَّسب والمَنْزِلة في الدُّنيا.
﴿ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ﴾؛ فيما تقولونَهُ على اللهِ، وفيما تدْعُون إليه.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ يٰقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيۤ ﴾؛ أي قالَ لهم نوحُ: أخبروني إنْ كنتُ على بُرهانٍ وحُجَّة من ربي.
﴿ وَآتَانِي رَحْمَةً ﴾؛ نعمةً.
﴿ مِّنْ عِندِهِ ﴾؛ وهي النبوَّة.
﴿ فَعُمِّيَتْ ﴾؛ فخَفِيت.
﴿ عَلَيْكُمْ ﴾، هذه النعمةُ التي ظهرَتْ لِمَن اتَّبعوني فلم تُبصِروها لتَفاوُتِكم.
﴿ أَنُلْزِمُكُمُوهَا ﴾، أمكَنَنا أن نجعلَكم قابلين لها.
﴿ وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ﴾؛ هذا مما لا يكونُ. قال قتادةُ: (وَاللهِ لَوِ اسْتَطَاعَ نَبيُّ اللهِ ألْزَمَهَا قَوْمَهُ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ ذلِكَ). فإن قِيْلَ: فهَلاَّ قال فَعَمِيتُمْ عَنْهَا وهم الذين كانوا عموا؟ قُلْنَا: قد بيَّنا إنه وَضع ذلك موضع: فخَفِيت عليكم، ثم لا فرقَ بين اللفظين كما لا فرقَ بين قولهم: أدخلتُ الخاتمَ في الإصبع، وأدخلتُ الإصبعَ في الخاتَم. ومن قرأ (فَعُمِّيَتْ) بضمِّ العين وتشديد الميم، فالمعنى: ألَيْسَتْ عليكم نُبُوَّتِي؟.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيٰقَوْمِ لاۤ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً ﴾؛ أي لا أسألُكم على دُعائي لكم إلى اللهِ مالاً، فتخشَون العدمَ في أموالكم بإجابَتي.
﴿ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ ﴾؛ أي ما ثَوابي إلا على اللهِ يُعطيني في الآخرة. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ ﴾؛ قال ابنُ جريج: (إنَّهُمْ سَأَلُوهُ طَرْدَ الَّذِينَ آمَنُوا لِيُؤْمِنُوا بهِ أنفَةً مِنْ أنْ يَكُونُوا مَعَهُمْ عَلَى سَوَاءٍ، فَقَالَ: لاَ يَجُوزُ لِي طَرْدُهُمْ بقَوْلِكُمْ وَازْدِرَائِكُمْ).
﴿ إِنَّهُمْ مُّلاَقُواْ ﴾؛ ما وعدَهم.
﴿ رَبِّهِمْ ﴾؛ فيجزيهم بأعمالهم، ويقال: فيُخاصِمُونِي عندَهُ إنْ طردتُّهم.
﴿ وَلَـٰكِنِّيۤ أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ ﴾؛ أوامرَ اللهِ وما فيه إصلاحُكم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيٰقَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ ٱللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ ﴾؛ معناهُ: يا قومِ مَن يمنَعُني من العقاب النازل في يومِ القيامة إنْ طردتُ مَنْ آمن بي، وآويتُ مَن كفرَ.
﴿ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ﴾؛ تتَّعظون بما أقولُ لكم فتؤمنون.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ ٱللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ ﴾؛ أي لا أرفعُ نفسي فوقَ منْزِلتي، فأقولُ إنَّ عندي مقدوراتِ اللهِ، فأخصُّ بذلك من أشاءُ، وأمنعهُ ممن أشاء. وقولهُ تعالى: ﴿ وَلاَ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ ﴾ أي ولا أدَّعي علمَ الغيب فإني لا أعلمُ إلا ما علَّمَني اللهُ. ويقال: إنَّهم لما قالوا لنوح عليه السلام: إن هؤلاءِ إنما آمَنوا بكَ، واتَّبعوكَ في ظاهرِ ما ترى منهم، أجابَهم نوحُ بهذا، فقال: لا أقولُ لكم عندِي خزائنُ اللهِ، يعني غُيُوبَ اللهِ التي يعلمُ منها ما تُضمِرهُ الناس، فلا أعلمُ الغيبَ، ولا أعلمُ ما يُسِرُّونَهُ في أنفسهم، فسَبيلي قَبُولُ إيمانِهم الذي ظهرَ لي، ومضمراتُهم لا يعلمها إلاّ اللهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ ﴾؛ هذا جوابٌ لقولهم: ما نراكَ إلا بَشَراً مثلنا؛ أي لا أدَّعي أنِّي مَلَكٌ نزلتُ إليكم من السَّماء. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِيۤ أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ ٱللَّهُ خَيْراً ﴾؛ أي لا أقولُ للذين تحتقِرُ أعيُنكم وتستصغرُ: لن يؤتيكم اللهُ صَلاحاً في الدُّنيا وفَلاحاً في الآخرةِ، يعني المؤمنين الذين قالوا: هم أراذِلُنا. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِيۤ أَنْفُسِهِمْ إِنِّيۤ إِذاً لَّمِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ ﴾؛ أي إن طردتُّهم تَكذِيباً، الظاهرُ إيمانُهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالُواْ يٰنُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا ﴾؛ أي قالُوا: يا نوح قد خاصَمْتنا فيما دعوتَنا إليه من دِين غيرِ آبائنا، فأكثرتَ خصُومتَنا ودُعاءَنا، فلا نقبلُ منكَ.
﴿ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ ﴾؛ أي بما تعِدُنا أنَّ الله يُعذِّبنا على الكفرِ.
﴿ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ ﴾؛ أرادَ بهذا القول أن يُلْبسُوا على ضُعفائِهم أنَّ نوحاً عاجزٌ عن إنزالِ العذاب بهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ ٱللَّهُ إِن شَآءَ ﴾؛ أي إن العذابَ ليس بيَدِي، ولكنَّ اللهَ هو الذي يقدرُ عليه، فيُنْزِلهُ عليكم إنْ شاءَ.
﴿ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ ﴾؛ من إنزالِ العذاب بكم، عن أبي هُريرة رضي الله عنه أنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" إنَّ نُوحاً عليه السلام كَانَ إذا جَادَلَ قَوْمَهُ ضَرَبُوهُ، فَإذا أفَاقَ قَالَ: اللَّهُمَّ اهدِ قَوْمِي؛ فَإنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِيۤ إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ ٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ ﴾؛ معناهُ: قال لَهم: لا ينفعُكم دُعائِي، وتحذيرِي إيَّاكم إنْ أردتُ أنْ أحذِّرَكم من عذاب الله إنْ كان اللهُ يريدُ أن يُضِلَّكم عن الْهُدَى مجازاةً بعملِكم، فإن إرادةَ اللهِ فوق إرادَتِي، ويكونُ ما يريدُ لا ما أريدُ. فإن قِيْلَ: كيف يجوزُ أن تكون إرادةُ إبليس موافقةً لإرادةِ الله، وأرادةُ نوحٍ مخالفةً لإرادة الله؟ فالجواب: إنَّ اللهَ تعالى شاءَ لأُؤلئك القومِ الكفرَ، وشاءَ لنوحٍ أن يسألَهم الإيمانَ، وشاءَ لإبليس أن يسألَهم الكفرَ، فالكلُّ بمشيئةِ الله تعالى. ويقالُ: معنى قولهِ: ﴿ إِن كَانَ ٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ ﴾ إن كان اللهُ يريد أن يُهلِكَكم، وينحِّيَكم من رحمتهِ بكُفرِكم، كما قال:﴿ فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً ﴾[مريم: ٥٩] أي هَلاكاً وعذاباً، والغَيُّ قد يكون بمعنى الْخَيْبَةِ، كما قال الشاعرُ: فَمَنْ يَلْقَ خَيْراً يَحْمَدِ النَّاسُ أمْرَهُ   وَمَنْ يَغْوَ لاَ يَعْدَمْ عَلَى الْغَيِّ لاَئِمَاأي ومَن يَخِبْ، يقالُ: غوَى الرجلُ يَغْوِي غَيّاً؛ إذا فسدَ عليه أمرهُ، أو فسدَ هو في نفسهِ، ومنه﴿ وَعَصَىٰ ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ ﴾[طه: ١٢١] أي فَسَدَ عليه عيشهُ في الجنَّة، وهذا يُؤَوَّلُ أيضاً إلى معنى الْخَيْبَةِ فيها فسادُ العيشِ. وذكرَ الحسنُ في معنى الآية: (لاَ يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي الْيَوْمَ إذا نَزَلَ بكُمُ الْعَذابُ، فَاسْتَدْركُوا أمْرَكُمْ قَبْلَ نُزُولِ الْعَذاب لِتَنْتَفِعُوا بنُصحِي). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ هُوَ رَبُّكُمْ ﴾ أي مَالِكُكُم يقدرُ على إنزالِ العذاب بكم.
﴿ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾؛ أي إليه مصيرُكم بعد الموتِ فيجزِيَكُم بأعمالكم. وهذه الآيةُ مما يحتجُّ بها أنَّ الشرطَ إذا اعترضَ على الشرطِ مِن غير أن يتخلَّلهُما الجوابُ، كان الشرطُ الثاني مُقدَّماً على الأوَّلِ في المعنى، حتى لو قالَ قائلٌ: إنْ دخلتَ الدارَ، إنْ كلَّمْتَ زيداً فعبدِي حرٌّ، لا يحنَثُ حتى يكلِّمَ ثم يدخلَ. فيكون تقديرُ الآية: ولا ينفعُكم نُصحِي إنْ كان اللهُ يريد أن يُغوِيَكُمْ إن أردتُ أن أنصَحَ لكم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ قُلْ إِنِ ٱفْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي ﴾؛ معناهُ: أنَّ قومَهُ يقولون: إنَّ نُوحاً قد تَقَوَّلَ على اللهِ الكذبَ، فأمَرَ اللهُ نوحاً أن يُجيبَهم بالقولِ اللَّيِّنِ بعدَ المبالغةِ في إقامة الحجَّة عليهم، فيقولُ لَهم: ﴿ إِنِ ٱفْتَرَيْتُهُ ﴾ أي تَقَوَّلْتُ الكذبَ على اللهِ فعليَّ عقوبةُ إجرَامِي.
﴿ وَأَنَاْ بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُجْرِمُونَ ﴾؛ وأنا بريءٌ من عُقوبَةِ جُرمِكم. ويقالُ: معنى الآية: أم يقولُ أهلُ مكَّة إنَّ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم قد افترَى قصَّةَ نوحٍ ﴿ قُلْ إِنِ ٱفْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي ﴾ والإجرامُ يستعمل في كَسْب الإثم خاصَّة.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ ﴾ أي وأوحَى اللهُ إلى نوحٍ: أنه لن يصَدِّقَ من قومِكَ سِوَى مَن صدَّقَ.
﴿ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ﴾؛ فلا تَغْتَمَّ بالْحُزْنِ عليهم، والابْتِئَاسُ: هو الغَمُّ على وجهِ الاستكانةِ للحُزنِ على الشَّأن. فقيل: إنما دعَا نوحُ عليه السلام بقولهِ:﴿ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ دَيَّاراً ﴾[نوح: ٢٦] بعدَ هذا الوحيِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا ﴾؛ أي اصْنَعِ السَّفينة بحِفظِنا لكَ حفظَ الرَّاعِي لغيرهِ لدفع الضَّرَرِ عنه، وذكرَ الأعيُنَ لتأكيدِ الحفظ. ويقالُ: معناهُ بأَعيُن الملائكةِ الذين يُعرِّفونَكَ كيف تُصنَعُ السفينةُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَوَحْيِنَا ﴾ أي وبأمرِنا إيَّاك. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ ﴾؛ أي لاَ تُراجِعْني الكلامَ في نجاةِ الذين ظلَمُوا أنفسهم بالكفرِ.
﴿ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ ﴾؛ بالطُّوفَانِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيَصْنَعُ ٱلْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ ﴾ أي لما أخذ نوحٌ في علاجِ السَّفينة. ويُروى أنه استأجرَ أُجَراءَ ينحِتُون معه، وكلَّما مرَّ ملأٌ من قومهِ هَزِئُوا به لمعالجتهِ السفينةَ؛ لأنَّهم كانوا يَرَونه يعملُ السفينةَ مع أنَّه لم يكن بقُربهِ ماءٌ، وكان من لَدُنْ آدم عليه السلام إلى نوحٍ يُسْقَوْنَ من ماءِ المطر، فلا بحرَ ولا نَهْرَ جَارٍ، فكانوا يقُولون: انظروا إلى هذا الشَّيخِ الضالِّ يصنعُ هذه السفينةَ يخوِّفُنا بالغرقِ، ويجعلُ للماءِ أكَافاً فأين الماءُ؟! وكانوا يقولون في كلامِهم: فَرَغْتَ من أمرِ النبُوَّة، وأخذتَ في أمر النِّجارةِ! وكانوا يَرَونَهُ ينجرُ الخشبَ وهي شبهُ البيتِ العظيم، فإذا سألوهُ عن ذلك، قال أعملُ سفينةً تجري في الماءِ، ولم يكن هناكَ قبل ذلك سفينةٌ، فكانوا يتضَاحَكون ويعجَبُون من عملهِ. و ﴿ قَالَ ﴾؛ لَهم نوحٌ: ﴿ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا ﴾؛ الآنَ.
﴿ فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ ﴾؛ عندَ نزولِ العذاب.
﴿ كَمَا تَسْخَرُونَ ﴾؛ أنتمُ الساعةَ؛ أي إن كُنتم تسخَرون منَّا لِمَا تَرَوْنَ من صَنْعَةِ الفُلْكِ، فإنَّا نعجبُ من غفلَتِكم عما أضَلَّكم.
﴿ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾؛ من أحقُّ بالسِّخريِّ مِنَّا ومنكم، وتعلمون.
﴿ مَن ﴾؛ الذي.
﴿ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ ﴾؛ في الدُّنيا.
﴿ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ ﴾؛ وينْزِلُ عليه.
﴿ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ﴾؛ دائمٌ في الآخرة.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ قُلْنَا ٱحْمِلْ فِيهَا ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (وَذلِكَ أنَّ اللهَ أوْحَى إلَيْهِ أنَّ مَوْعِدَكَ أنْ يَخْرُجَ الْمَاءُ مِنْ آخِرِ مَكَانٍ فِي دَاركَ وَهُوَ تَنُّورُ الْخَابزَةِ، تَنُّورُ آدَمَ عليه السلام كَانَ يَوْمَ حَجَّ نُوحٌ عليه السلام رَأى تَنُّورَ آدَمَ عليه السلام فَحَمَلَهُ مَعَهُ، وَوَهَبَهُ اللهُ تَعَالَى لَهُ). ثمَّ قَالَ لَهُ: إذا رَأَيْتَ الْمَاءَ قَدْ فَاضَ مِنْهُ فَاحْمِلْ فِي السَّفِينَةِ مَا أُمِرْتَ بهِ مِنْ أجْنَاسِ الْحَيْوَانِ.
﴿ مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ ﴾؛ واحمِلْ؛ ﴿ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ ﴾؛ بالعذاب وهي امرأتهُ الكافرة وابنهُ كنعان استثنَاهما اللهُ من جُملة أهلهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَنْ آمَنَ ﴾؛ أي احمِلْ مَن آمَنَ معكَ أيضاً في السَّفينة، وقال ابنُ عبَّاس وعكرمة والزهريُّ: (مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ ﴾ أيِ انْبَجَسَ الْمَاءُ عَلَىَ وَجْهِ الأَرْضِ). وقال عليٌّ رضي الله عنه: (وَفَارَ التَنُورُ؛ أيْ طَلَعَ الْفَجْرُ). وقولهُ تعالى: ﴿ جَآءَ أَمْرُنَا ﴾ أي عذابُنا، وقولهُ تعالى: ﴿ قُلْنَا ٱحْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ ﴾ أي احمِلْ في السفينةِ من كلِّ زوجين اثنين، الذكَرُ زوجٌ والأُنثى زوجٌ، وهو قولُ الحسنِ ومجاهد وقتادة؛ قالوا: (ذكَراً وَأُنْثَى). فلما فارَ الماءُ من التَّنورِ أرسلَ الله السماءَ بمطرٍ شديد، فأقبلتِ الوحوشُ حين أصابَها مطرُ السماءِ إلى نوح وسُخِّرت، فحَمل في السفينةِ من كلِّ طير زَوجين، ومن كلِّ وحشٍ زوجين، وكلِّ دابَّة وبَهيمة زَوجين، ومن كلِّ سَبُعٍ زوجين، وحمَلَ من البقرِ والغنم خمسةَ أزواجٍ. وبعثَ اللهُ جبريلَ فقطعَ فِقَارَ العقرب، وضربَ فمَ الحيَّة فحمَلَها في السَّفينة، وكانت السماءُ تُمْطِرُ، وكان هو عندَ قومهِ يحذِّرُهم حتى ابتلَّت أقدامُهم، وصارَ الماءُ إلى الكعبَين، ثم حذرَهم حتى صارَ الماءُ إلى نصفِ الساق، ثم حذرَهم حتى صارَ إلى الرُّكَب وإلى الْحِقْوَيْنِ، كلُّ ذلك يحذِّرُهم ويُنذِرهم، وكان يَنُوحُ ويَبكِي عليهم، وقال ابنُ عبَّاس: (سُمِّيَ نُوحاً، لأنَّهُ كَانَ يَنُوحُ عَلَى الإسْلاَمِ حَيْثُ لَمْ يُقِرَّ به قَوْمُهُ). فلمَّا بلغَ الماءُ الشِّدْوَةَ قالَ: غَرِقَ قَومِي، ثم قال لابنهِ كنعانُ: (يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا) فكَثُرَ الماءُ حتى صار فوقَ الجبالِ خمسةَ عشر ذِراعاً بالذراع الأول، وكان للسفينةِ ثلاثةُ أبوابٍ بعضُها أسفل من بعضٍ، حملَ في الباب الأسفل السِّباع والهوامَّ، وفي الباب الأوسط الوحْشَ والبهائِمَ، وفي الباب الأعلَى بني آدمَ، وكانوا ثمانين إنساناً، أربعين رجُلاً وأربعين امرأةً، سِوَى التي غَرِقَتْ، وثلاثةَ بنين: سَامٌ وحَامٌ وَيَافِثُ، ونساؤُهم وإثنان وسَبعُون إنساناً فيهم الْخَضِرُ وهو ابنُ بنتِ نوحٍ. واختلَفُوا في مقدار السفينة، قال الحسنُ: (كَانَ طُولُهَا ألْفاً وَمِائَتَي ذِرَاعٍ، وَعَرْضُهَا سِتُّمِائَةِ ذِرَاعٍ)، وقال ابنُ عبَّاس: (كَانَ طُولُهَا ثَلاَثمِائَةِ ذِرَاعٍ وَعَرْضُهَا خَمْسِينَ ذِرَِاعاً، وَارْتِفَاعُهَا ثَلاَثِينَ) وهو قولُ قتادةَ قال: (وَكَانَ لَهَا بَابَانِ فِي عَرْضِهَا). وقولهُ تعالى: ﴿ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ ﴾ أي واحمِلْ أهلَكَ، يعني ولدَهُ وعياله.
﴿ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ ﴾ يعني امرأتَهُ وأهله وابنهُ كنعان، و ﴿ وَمَنْ آمَنَ ﴾ يعني واحمِلْ مَنْ آمنَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ ﴾؛ أي إلا نفرٌ قليل، قِيْلَ: ثَمانون إنساناً، وَقِيْلَ: ثلاثةُ بنين وثلاثُ كَنَائِن، الكَنَائِنُ: زوجاتُ البَنِين، وقال ابنُ جريج: (كَانُوا ثَمَانِيَةَ أنْفُسٍ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَالَ ٱرْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ ٱللَّهِ مَجْريٰهَا وَمُرْسَاهَا ﴾؛ أي قالَ لَهم نوحُ: اركَبُوا في السفينةِ، وقولهُ ﴿ بِسْمِ ٱللَّهِ ﴾ يجوزُ أن يكون متَّصلاً بقولهِ ﴿ ٱرْكَبُواْ ﴾ أي ارْكَبُوا بسمِ الله، ويجوزُ أن يكون متَّصلاً بقوله ﴿ مَجْريٰهَا وَمُرْسَاهَا ﴾ أي بسمِ الله إجراؤُها وإرسَاؤُها. وقال الضحَّاك: (كَانُوا إذا أرَادُوا أنْ تَجْرِيَ السَّفِينَةُ قَالُواْ: بسْمِ اللهِ، فَجَرَتْ، وإذا أرَادُوا أنْ يُرْسُوهَا قَالُواْ: بسْمِ اللهِ، فَرَسَتْ)، ومَن قرأها (مَجْرَاهَا) بنصب الميم فهو عبارةٌ عن الموضعِ الذي تَجْرِي فيه، ولَم يقرأ أحدٌ (مُرْسَاهَا) الا بضَمِّ الميم، ومَن قرأ (مُجْرِيهَا وَمُرْسِيهَا) فهو نعتُ (اللهِ)، والمعنى بسمِ الله الْمُجْرِي لها حيث يشاءُ.
﴿ إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَٱلْجِبَالِ ﴾؛ يعني: السفينة تجري بهم في موج كالجبال العظيمةِ.
﴿ وَنَادَىٰ نُوحٌ ٱبْنَهُ ﴾؛ كنعان وكان كافراً.
﴿ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ ﴾؛ عنهُ ولَمْ يركب معه، وَقِيْلَ: معناهُ: وكان في معزلٍ من دين أبيه: ﴿ يٰبُنَيَّ ٱرْكَبَ مَّعَنَا ﴾؛ في السّفينة بشرطِ الإيمانِ، ولذلكَ قال: ﴿ وَلاَ تَكُن مَّعَ ٱلْكَافِرِينَ ﴾؛ أي على دِينهم فتغرَقَ معهم، وقال الحسنُ: (إنَّمَا دَعَاهُ إلى رُكُوب السَّفِينَةِ؛ لأنَّ ابْنَهُ كَانَ يُظْهِرُ لَهُ الإيْمَانَ نِفَاقاً، وَكَانَ يَحْسَ بُهُ مُؤْمِناً). واختلفَتِ القراءةُ في قوله ﴿ يٰبُنَيَّ ٱرْكَبَ مَّعَنَا ﴾: قرأ بعضُهم بكسرِ الياء على الإضافة وهو الأجودُ؛ لأن الأصلَ يا بني ثلاثُ يَاءَاتٍ، ياءُ التصغيرِ وياءُ الفعلِ وياءُ الإضافة، فحُذفت ياءُ الإضافة، وتُركت الكسرةُ دليلاً على الإضافة، وأُدغِمَت إحدى اليائَين في الأُخرى. وقرأ بعضُهم (يَا بُنَيَّ) بفتحِ الياء على أن أصلَها: يا بُنَيَّا بالألف، كما تقولُ العرب: يا غُلاَما أقْبلْ، تريدُ يا غُلامِي أقْبلْ، فتُبدَلُ الألفُ من ياءِ الإضافة على وجهِ النُّدْبَةِ والتَّفْجِيعِ، وكان الأصلُ يا بُنَيَّا ثم حُذفت الألف لسكونِها وسكونِ الراء من قولهِ ﴿ ٱرْكَبَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ سَآوِيۤ إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ ٱلْمَآءِ ﴾؛ أي قال ابنُ نوحٍ: سأذهبُ وأرجع إلى مأوًى من الجبلِ حَريزٍ يَمنعُنِي من آفاتِ الماء.
﴿ قَالَ ﴾؛ له نوحُ عليه السلام: ﴿ لاَ عَاصِمَ ٱلْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ ﴾؛ بالنجاةِ، وتقديرُ الكلامِ: لا عاصمَ اليومَ من عذاب الله إلا اللهُ تعالى، وقال بعضُهم: لا عاصمَ اليومَ من عذاب الله إلا مَنْ رَحِمَهُ اللهُ، وهو نوح عليه السلام فإنَّه قد جعلَ الله إليه إركابَ المؤمنين في السفينةِ وَقِيْلَ: معناهُ: لا معصومَ اليوم إلا من رَحِمَهُ اللهُ، كما قال الحطيئة: دَعِ الْمَكَارمَ لاَ تَرْحَلْ لِبُغْيَتِهَا   وَاقْعُدْ فَإنَّكَ أنْتَ الطَّاعِمُ الْكَاسِيالْمَطْعُومُ الْمَكْسُوُّ، ومنه يقالُ: سِرٌّ كَاتِمٌ أي مكتومٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَحَالَ بَيْنَهُمَا ٱلْمَوْجُ ﴾؛ أي بين كنعانَ ونوح، وَقِيْلَ: بين كنعان والجبلِ.
﴿ فَكَانَ مِنَ ٱلْمُغْرَقِينَ ﴾.
قولهُ: ﴿ وَقِيلَ يٰأَرْضُ ٱبْلَعِي مَآءَكِ وَيٰسَمَآءُ أَقْلِعِي ﴾؛ أي قِيْلَ بعدَ ما تناهى أمرُ الطُّوفان، وذلك لِمَا روى ابنُ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: (أنَّ السَّمَاءَ مَطَرَتْ أرْبَعِينَ يَوْماً اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَخَرَجَ مَاءُ الأَرْضِ أرْبَعِينَ يَوْماً اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَسَارَتْ بهِمُ السَّفِينَةُ فَطَافَتْ بهِمُ الأَرْضَ كُلَّهَا فِي خَمْسَةِ أشْهُرٍ لاَ تَسْتَقِرُّ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى أتَتِ الْحَرَمَ فَلَمْ تَدْخُلْهُ، وَطَافَتْ بالْحَرَمِ أُسْبُوعاً، وَرُفِعَ الْبَيْتُ الَّذِي بَنَاهُ آدَمُ إلَى السَّمَاءِ، وَهُوَ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، جُعِلَ الْحَجَرُ الأَسْوَدُ عَلَى أبي قُبَيْسٍ، وَأُوْدِعَ فِيْهِ، ثُمَّ ذهَبَتْ بهِمُ السَّفينَةُ في الأَرْضِ حَتَّى انْتَهَتْ بهِمْ إلَى الْجُودِيِّ وَهُوَ جَبَلٌ بَأَرْضِ الْمَوْصِلِ، فََاسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ بَعْدَ خَمْسَةِ أشْهُرٍ). ويقالُ: رَكِبَ نوحُ في السفينةِ لعشرٍ مضَين من رجب، وخرجَ منها يومَ عاشوراء، فذلك خمسةُ أشهر. فلما استقرَّت السفينةُ على الْجُودِيِّ كشفَ نوح الطبقَ الذي فيه الطيرُ، فبعثَ الغرابَ ليأتيه بالخبرِ فأبصرَ جِيفَةً، فوقعَ عليها وأبطأَ على نوحٍ ولم يأتهِ، فأرسلَ الْحَدْأَةَ على إثرهِ فأبطأت عليه ولم تأته، فدعَا على الغراب أن يكون طويلَ العمر في مخافةٍ وشَقَاء. ثم أرسلَ الحمامة بعد الحدأة بسبعٍ فلم تجِدْ مَوقِعاً فرجعت، فبسطَ لها نوحُ عليه السلام كفَّهُ فوقعت عليهِ، ثم مكثَ نوح ما شاءَ الله، ثم أرسلَها مرَّة أخرى فجاءت بعدَ ذلك فوقعت على الأرضِ وغابَت رجلاَها في الطِّين، فعرفَ نوحٌ أن الأرضَ قد ظَهرت، فدعَا بها فقالَ: كونِي آنَسَ طيرٍ وأنعمَهُ وأكيَسَهُ. وقوله تعالى: ﴿ وَقِيلَ يٰأَرْضُ ٱبْلَعِي مَآءَكِ ﴾ أي انْشِفِي الماءَ الذي خرجَ منكِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيٰسَمَآءُ أَقْلِعِي ﴾ أي كُفِّي عن الصَّب، يقال: أقلعَتِ السماءُ إذا استمسكَ المطرُ حتى لم يبقَ له أثرٌ، وأقلعَتِ الْحُمَّى عن فلانٍ إذا تركتْهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَغِيضَ ٱلْمَآءُ ﴾؛ أي ونَشِفَ الأرض ماؤُها، ويقال غاضَ الماءُ يَغِيضُ إذا غَارَ في الأرضِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقُضِيَ ٱلأَمْرُ ﴾؛ أي وقعَ هلاكُ الكفار على التَّمامِ، هَلَكَ مَن هلكَ، ونَجا مَن نَجَا. قال ابنُ عبَّاس: (نَشَّفَتِ الأَرْضُ مَاءَهَا الَّذِي خَرَجَ مِنْهَا، وَذهَبَ مَاءُ السَّمَاءِ إلَى الْبُحُورِ؛ لأنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ ﴿ يٰأَرْضُ ٱبْلَعِي مَآءَكِ ﴾ ). قولهُ: ﴿ وَٱسْتَوَتْ عَلَى ٱلْجُودِيِّ ﴾؛ أي استوَتِ السفينةُ على الجوديِّ شَهراً، وهو جبلُ بالجزيرةِ.
﴿ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ ﴾؛ يجوزُ أن يكون معناه: قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ بُعْداً ﴾ أي سخطٌ من رحمة الله للقوم الكافرين، ويجوز أن يكون هذا مِن قول أهلِ السفينة حين نَجَوا من الغرقِ، وخرَجُوا من السفينةِ، قالوا: ﴿ بُعْداً لِّلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ ﴾ أي أبعَدَهم اللهُ من رحمتهِ في الآخرة أيضاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ٱبْنِي مِنْ أَهْلِي ﴾؛ أي قَومِي.
﴿ وَإِنَّ وَعْدَكَ ﴾؛ بنجاةِ قومي.
﴿ ٱلْحَقُّ ﴾؛ الصِّدقُ لا شكَّ فيه.
﴿ وَأَنتَ أَحْكَمُ ٱلْحَاكِمِينَ ﴾؛ في قولِكَ وفعلِكَ، وكان دعاءُ نوحٍ عليه السلام بهذا الدُّعاء حين حَالَ الموجُ بينَهُ وبين ابنهِ كنعان. ﴿ قَالَ يٰنُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ﴾؛ معناهُ: قال اللهُ: يا نوحُ إنَّهُ ليس من أهلِكَ الذين وعدتُكَ أن أُنْجِيَهُمْ، إنما أهلُكَ دِينُكَ، وإنَّ ابنَكَ كافرٌ ليس على دينكَ، فانقطعَتِ العصمةُ بينَكَ وبينه بكُفرهِ وإيمانِكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ﴾ أي إنَّ سؤَالَكَ إيَّايَ أنْ أُنْجِي كافراً عَمَلٌ غيرُ صالحٍ، قرأ الكسائيُّ ويعقوب (عَمِلَ) بكسرِ الميم وفتح اللام (غَيْرَ) منصوب، أي إنه عَمِلَ بالشِّركِ والتكذيب، وقرأ الباقون بالرَّفع والتنوينِ (غَيْرُ) بالرفع؛ أي إنه ذُو عَمَلٍ غير صالح. وَقِيْلَ إنَّ سُؤالَكَ إيَّاي نجاةَ ولدِكَ الذي ليس من أهلِكَ سؤالٌ غيرُ مُرْضٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ﴾؛ قرأ ابنُ كثير بتشديد النُّون وفتحِها، وقرأ أهلُ المدينة والشام بتشديد النونِ وكسرِها، والمعنى واحدٌ؛ أي لا تسألني ما ليسَ لك به علمٌ أنه صوابٌ وأنا أفصِلهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنِّيۤ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ ﴾؛ إي إنِّي أعِظُكَ أن تسأَلَني سؤالَ الجاهلِ، ولكن سَلْنِي سؤالَ العالِم بي. والوَعْظُ في اللغة: هو الزَّجْرُ عن القبيحِ، وكان نداءُ نوح ﴿ رَبِّ إِنَّ ٱبْنِي مِنْ أَهْلِي ﴾ نداءَ تعظيمٍ لله تعالى على ظنِّ أنَّ ابنَهُ من أهلِ دينه، وقولهُ تعالى ﴿ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ﴾ نداءُ تنبيهٍ على أنه ليسَ مِنْ أهلِ دينه، ولا من أهلِ أن يلطفَ به. واختلَفُوا في هذا الابنِ، فقالوا: إنه لَمْ يكن ابنَ نوحٍ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ﴾ أي مِن ولدِكَ وهو قولُ مجاهد والحسنِ، والمعنى على قولِهما إنهُ وُلِدَ لغيرِ رُشدهِ. قال قتادةُ: (وسُئلَ الْحسَنُ عَنْهُ فَقَالَ: (وَاللهِ مَا كَانَ ابْنَهُ)، وَقَرَأ﴿ فَخَانَتَاهُمَا ﴾[التحريم: ١٠]! فَقُلْتُ: إنَّ اللهَ تَعَالَى حَكَى عَنْهُ أنَّهُ قالَ: ﴿ إِنَّ ٱبْنِي ﴾ وَقَالَ: (وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ) وَأنْتَ تَقُولُ: لَمْ يَكُنِ ابْنَهُ! وَإنَّ أهْلَ الْكِتَابَيْنِ لاَ يَخْتَلِفُونَ فِي أنَّهُ كَانَ ابْنَهُ، فَقَالَ الْحَسَنُ: (وَمَنْ يَأْخُذُ دِينَهُ مِنْ أهْلِ الْكِتَاب؟! إنَّهُمْ يَكْذِبُونَ). وقال ابنُ جريج: (وَنَادَاهُ وَهُوَ يَحْسَبُ أنَّهُ ابْنُهُ، وَكَانَ وُلِدَ علَى فِرَاشِهِ). وقال بعضُهم: إنما كان ابنَ امرأتهِ، واستدَلُّوا بقولهِ ﴿ إِنَّ ٱبْنِي مِنْ أَهْلِي ﴾ ولَمْ يقُل إن ابني منِّي، وهو قولُ أبي جعفر الباقر. وقال أكثرُ المفسِّرين: إنه كان ولدَهُ مِن صُلبهِ، وقولهُ تعالى: ﴿ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ﴾ أي الذي وعدتُكَ أن أُنْجِيَهُمْ، قالُوا: ومَا بَغَتِ امرأةُ نَبيٍّ قط، وإنَّما خيانَتُهما في الدِّين لا في الفراشِ، ولأنَّ الله تعالى يعصِمُ أنبياءَهُ صلواتُ اللهُ عَلَيْهِمْ أن يقعَ مِن نسائهم ما يُلحِقُ بهم عَيْباً في الدُّنيا، وإنْ كان قد يقعُ منهنَّ ما يكون عَيْباً في أمرِ الآخرة، وفي الحديثِ:" مَا بَغَتِ امْرَأةُ نَبيٍّ قَطٌّ، وَكَانَتْ خِيَانَتُهَا لَهُ أنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ لِلنَّاسِ: إنَّهُ مَجْنُونٌ وَكَانَتْ تَدُلُّ عَلَى الأَضْيَافِ "وهذا قولُ ابنِ عبَّاس وعكرمةُ وسعيد بن جبيرٍ والضحَّاك. وقال أبو معاوية البجلي: (قَالَ رَجُلٌ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: قَوْلُهُ ﴿ إِنَّ ٱبْنِي مِنْ أَهْلِي ﴾ هَلْ كَانَ ابْنَ نُوحٍ؟ فَسَبَّحَ اللهَ طَوِيلاً، قَالَ: لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ، يُحَدِّثُ اللهُ مُحَمَّداً نَبيَّهُ وَيَقُولُ إنَّهُ ابْنُهُ وَتَقُولُ أنتَ لَيْسَ ابْنَهُ! كَانَ ابْنَهُ وَلَكِنْ كَانَ مُخَالِفاً فِي النِّيَّةِ وَالْعَمَلِ وَالدِّينِ، فَمَنْ ثَمَّ قَالَ: ﴿ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ﴾ ). وهذا القولُ أولَى بالصواب، وأليقُ بظاهرِ الكتاب.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّيۤ أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ﴾؛ أي قال نوح: إني أمتنعُ بك أن أسألكَ ما ليس لي به علمٌ أنه صوابٌ.
﴿ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي ﴾ خَطِيئَتِي هذهِ وهي هذا السؤالُ.
﴿ وَتَرْحَمْنِيۤ أَكُن مِّنَ ٱلْخَاسِرِينَ ﴾ بالوِزْر والعقوبةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قِيلَ يٰنُوحُ ٱهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ ﴾؛ أي قالَ اللهُ لنوحٍ: فاهبطْ من السَّفينة إلى الأرضِ بأَمْنٍ وسلامةٍ من الآفاتِ، (وَبَرَكَاتٍ) أي وخَيرَاتٍ ثابتة عليك وعلى الذين معك مِن المؤمنين. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾؛ أي وأُمَمٌ سنمَتِّعُهم عليهم بعدَكَ في الدُّنيا ثم يَمسُّهم في الآخرةِ منَّا عذابٌ أليم، وهم الكافرون وأهلُ الشَّقاوةِ. فهبطَ نوحُ ومَن معه من الجوديِّ، ولم يكن لواحدٍ منهم نَسْلٌ إلا لنوحٍ وأولادهِ، كما قالَ اللهُ تَعَالَى:﴿ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ ٱلْبَاقِينَ ﴾[الصافات: ٧٧]، وعن محمَّد بن كعبٍ قال: (دَخَلَ فِي السَّلاَمِ وَالْبَرَكَةِ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَدَخَلَ فِي الإمْتَاعِ وَالْعَذاب كُلُّ كَافِرٍ وَكَافِرَةٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ). وفي الآيةِ دلالةٌ على ذلك؛ لأن لفظَ الأُمَمِ يدلُّ على الجماعاتِ الكثيرة، ولم يكن مع نوحٍ في السفينة إلا قليلٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهَآ إِلَيْكَ ﴾؛ أي تلك القصَّةُ التي ذكرتُها لكَ يا مُحَمَّدُ قصةُ نوحٍ من الأمور الغائبة عنكَ.
﴿ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـٰذَا ﴾، القرآنِ وهذا مِنَّةٌ من اللهِ تعالى: ﴿ فَٱصْبِرْ ﴾؛ على أذى الكفَّارِ، كما صبرَ نوحُ على أذاهم، واصبر على القيامِ بأمرِ الله وتبليغ الرِّسالةِ، وما تلقَى من أذى قومِكَ كما صبرَ نوحُ على أذى قومهِ.
﴿ إِنَّ ٱلْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾؛ أي آخرَ الأمرِ بالسَّعادة والظَّفر والنصرِ للمتقين، كما كانت لنوحٍ ومَن آمَنَ بهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً ﴾؛ أي وأرسَلنا إلى عادٍ أخاهم هُوداً في النَّسب.
﴿ قَالَ يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ ﴾؛ أي وَحِّدُوهُ دونَ الأصنامِ فإنَّها ليست بآلِهَةٍ، وما أنتُم إلا كاذبون في قولِكم إنَّها آلهةٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يٰقَوْمِ لاۤ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً ﴾؛ أي لاَ أسَألُكم على ما أُؤَدِّي إليكم من الرِّسالة مَالاً فتَتَّهمُونِي أنِّي أبتغِي بذلك كسبَ مالٍ أو تخشُون أن أُلزِمَكم غَرَماً في مالِكم.
﴿ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى ٱلَّذِي فَطَرَنِيۤ ﴾؛ أي ما ثَوابي إلا على الذي خلَقَني.
﴿ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾؛ أن الأمرَ على ما أقولهُ. وأصلُ الفَطْرِ الشَّقُّ، وسمي الخلقُ فَطراً لأنه يظهرُ به المخلوق كما يظهرُ الشيء بالشَّقِّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيٰقَوْمِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ ﴾؛ أي استغفِرُوا ربَّكم من الكفرِ والذنوب ثم ارجِعُوا إليه بالنَّدم والعزم على تركِ العَوْدِ في الذُّنوب.
﴿ يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُمْ ﴾؛ بالمطرِ.
﴿ مِّدْرَاراً ﴾؛ دائماً مُتواتراً.
﴿ وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً ﴾؛ في أبدانِكم وأموالكم.
﴿ إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ ﴾؛ التي لكم.
﴿ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ ﴾؛ عمَّا أدعُوكم إليه مُذنِبين.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالُواْ يٰهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ ﴾؛ أي حُجَّةٍ، وقد جاءَهم بمعجزةٍ إلا أنَّهم لم يعتِقدُوها حجَّةً، قًوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِيۤ آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ ﴾؛ أي قالُوا: ما نحنُ بتاركِي عبادةِ آلهتنا بقولِكَ.
﴿ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾؛ أي بمصدِّقين فيما تقولهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِن نَّقُولُ إِلاَّ ٱعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوۤءٍ ﴾؛ أي قالُوا ما نقولُ فيكَ إلا أنه أصابَكَ بعضُ آلهتنا بجُنونٍ فخَبَلَ عقلُكَ لسَبكَ إيَّاها، وكان القومُ يعلمون وكلُّ أحدٍ أنَّ الذي يعقلُ ويُميِّزُ لو أرادَ أن يصيبَ غيره بجُنونٍ لم يقدِرْ على ذلكَ، فكيف تقدرُ الأصنامُ التي لا عقلَ لها ولا تَمييزَ؟! والاعْتِرَاءُ افْتِعَالٌ من عَرَاهُ يَعْرُوهُ إذا مَسَّهُ وأصَابَهُ. وقولهُ تعَالَى: ﴿ قَالَ إِنِّيۤ أُشْهِدُ ٱللَّهَ وَٱشْهَدُوۤاْ أَنِّي بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ﴾ ﴿ مِن دُونِهِ ﴾؛ أي قالَ هودُ: إنِّي أُشهِدُ الله على نفسِي، واشهَدُوا أنتم أيضاً أنِّي بريءٌ مما تُشركون مع اللهِ في العبادة، ولم يكن إشهادهُ إيَّاهم للاحتجاجِ بقولهم، وإنما هو للاحتجاجِ عليهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ ﴾؛ أي إنْ قدِرتُم على قَتلِي أنتم وآلهتُكم، أو على إنزالِ السُّوء، فافعَلُوا ولا تُمهلوني طَرَفَةَ عَينٍ، ولم يقُل هذا على جهةِ الأمرِ لهم، وإنما قال لبيانِ عَجزِهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى ٱللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ﴾؛ أي فوّضَتُ أمرِي إلى خالِقِي وخالِقُكم متمسِّكاً بطاعتهِ وتاركاً لمعصيتهِ، وهذا هو حقيقةُ التوكُّل على اللهِ. وقولهُ تعالى: ﴿ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ ﴾؛ أي ما مِن أحدٍ إلا وهو في قَهْرِ اللهِ وتحت قُدرَتهِ، وإنما جعلَ الأخذ بالناصيةِ كنايةً عن ذلك؛ لأنَّكَ إذا أخذتَ بناصيةِ غيرِكَ فقد قَهَرْتَهُ وأذْلَلْتَهُ، والنَّاصِيَةُ مَقْدَمُ شَعْرِ الرأسِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾؛ أي هو في تدبيرِ عباده لا يفعلُ إلا الحقَّ، فإنه عادلٌ لا يَجُورُ، ويقالُ: إن معناهُ: أن طريقَ العبادةِ على الله كما قال تعالى﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ ﴾[الفجر: ١٤].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ ﴾؛ أي فإنْ توَلَّوا عن الإيمانِ فما هو تقصيرٌ مني في إبلاغِ الرسالة، ولكن لسُوءِ اختياركم.
﴿ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ ﴾؛ أطوعَ له منكم؛ أي يهلِكُكم بعذاب استئصالٍ، قد يستخِلفُ بهلاكِكُم قوماً غيرَكم أطوعَ له منكم.
﴿ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً ﴾؛ أي لا تَقدِرُون على أن تُنقِصُوا شيئاً من مُلكهِ وهو سبحانهُ لا يجوزُ عليه المضَارُّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ﴾؛ أي هو شاهدٌ على أعمالِ العباد للمجازاةِ، لا يخفَى عليه شيءٌ منها.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ ﴾؛ أي لما جاءَ أمْرُنا بعقاب قوم هُودٍ بالرِّيحِ العَقِيمِ، نَجَّيْنَا هُوداً والمؤمنين به من ذلكَ العقاب.
﴿ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ﴾؛ يُحتمل أن يكون المرادُ: أنْ نَجَّاهُمْ مِن الريحِ العقيمِ، إلا أنه أعادَ ذِكْرَ النجاةِ للتأكيدِ وتفخيم الحال. ويحتملُ أن يكون معناهُ: كما نَجَّينَا المؤمنين مِمَّا عُذِّبَ به عادٌ في الدُّنيا، فكذلك نَجَّينَاهم من عذاب الآخرة.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ ﴾؛ أي كذبوا بدلائلِ الله الدالَّة على وَحْدَانِيَّتِهِ وصِدْقِ أنبيائهِ، وعَصَوا هُوداً ومَن قبلَهُ ومَن بعدَهُ؛ لأنه عليه السلام أُرْسِلَ بتصديقِ مَن قبله وبالبشارةِ لمن بعده، فلما كذبوهُ فقد كذبوا الرُّسُلَ كلَّهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ﴾؛ أي أمرَ كلِّ طَاغٍ عَاتٍ مُعرِضٍ عن اللهِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأُتْبِعُواْ فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا لَعْنَةً ﴾؛ أي أتبعُوا بعدَ الهلاكِ في هذه الدُّنيا بالإبعادِ عليهم باللَّعْنِ، فلَعَنَتْهُمُ الملائكةُ والناس ما دامَتِ الدُّنيا. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ ﴾؛ أي ويومَ القيامةِ يُبعَدُونَ من رَحمةِ الله كما أُبعدوا في الدُّنيا. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَلاۤ إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ ﴾؛ أي جَحَدوا.
﴿ أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ ﴾، أي أبعدَهم الله من رحمتهِ إبعاداً. وفي هذا تَهْدِيدٌ للكفار، كأنَّهُ تعالى قالَ: انظُروا يا أهلَ مكَّة كيف فعلَتْ عادٌ وكيف فُعِلَ بهم، فاحذرُوا أنْ يُصيبَكم مثلَ ما أصابَهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً ﴾؛ في النَّسَب.
﴿ قَالَ يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ ﴾؛ أي أنشأَ آباءَكم كما قالَ في آيةٍ أخرى﴿ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ﴾[الروم: ٢٠].
﴿ وَٱسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ﴾؛ أي المرادُ أن تكونوا عُمَّارَ الأرضِ وسُكَّانَها، فمَكَّنَكم من عِمارَتِها وأحوَجَكم إلى المسكنِ فيها. وقال مجاهدُ: (مَعْنَاهُ: أعْمَرَهَا لَكُمْ مُدَّةَ أعْمَارِكُمْ) مِنَ الْعُمْرَى، وَهِيَ الْهِبَةُ الَّتِي يَهَبُهَا الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ عَلَى أنْ تَكُونَ لِلْمَوْهُوب لَهُ مُدَّةَ حَيَاتِهِ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى الْوَاهِب. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَٱسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ ﴾؛ أي استغفروهُ من الشِّرك والذنوب، ثم دُومُوا على التوبةِ.
﴿ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ ﴾؛ ممن تقرَّبَ إليه.
﴿ مُّجِيبٌ ﴾؛ لِمَن دعاهُ وأطاعَهُ. وأراد بالقُرب الإسراعَ بالرَّحمة والإجابَةِ؛ لا قُرب المسافةِ.
قْولُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالُواْ يٰصَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَـٰذَا ﴾؛ أي قد كُنَّا نَرجُوا فيكَ الخيرَ قبلَ هذا اليوم لِمَا كان فيكَ من الخلائقِ الحسَنة والشمائلِ المرْضِيَّة، والآنَ قد دعوتَنا إلى غيرِ دين آبَائِنا قد يَئِسنَا منكَ.
﴿ أَتَنْهَانَآ أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ﴾؛ الألفُ ألِفُ استفهامٍ بمعنى الإنكارِ. وقولهُ تعالى: ﴿ وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ ﴾؛ أي لو أجبنَاكَ إلى ما تدعُونا إليه لأجَبنَاكَ على شَكٍّ ظاهرٍ، فإنَّا لا نعلمُ صِدقَكَ فيما تقولُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ يٰقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ ﴾؛ أخبرُونِي.
﴿ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةً ﴾؛ برهانٍ وحجَّة.
﴿ مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً ﴾؛ نعمةً وهي النبوَّةُ.
﴿ فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ ٱللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ ﴾؛ فمَن يمنعُ عذابَ الله عنِّي إنْ عصَيتهُ مع نعمتهِ علَيَّ.
﴿ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ ﴾؛ إنْ عصيتُ اللهَ في اتِّباع دينِكُم إلا خُسران الدُّنيا والآخرةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيٰقَوْمِ هَـٰذِهِ نَاقَةُ ٱللَّهِ لَكُمْ آيَةً ﴾؛ أي دلالةً ومُعجِزَةً على صِدْقِ قَولِي حيث أخرجتُها لكم بإذن الله ناقةً عَشراءَ من صخرةٍ ملسَاءَ كما سألتُم.
﴿ فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِيۤ أَرْضِ ٱللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوۤءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ * فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذٰلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ﴾؛ وقد تقدمَ ذلك في سورةِ الأعراف.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا ﴾؛ أي لما جاءَ أمرُنا بالعذاب نَجَّينا صَالحاً من ذلك، ونَجَّينا الذين آمَنُوا معهُ بنعمةٍ منَّا.
﴿ وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ ﴾، الْخِزْيُ: هو الذل الذي يُستَحَى منهُ، وهو ما نَزَلَ بهم في كلِّ يومٍ من عَلاَمةِ الأشقياءِ من اصْفِرَارِ وجُوهِهم في اليوم الأوَّل، واحْمِرَارِها في اليومِ الثانِي، واسوِدَادِها في اليومِ الثالث، وقولهُ تعالى: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ ٱلْقَوِيُّ ٱلْعَزِيزُ ﴾؛ أي هو القادرُ على أخذِ أعدائه، العزيزُ المنتَقِم مِمَّن عصاهُ.
قَوْلُهُ تَعََالَى: ﴿ وَأَخَذَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ٱلصَّيْحَةُ ﴾؛ معناهُ: الذين ظَلَموا أنفُسَهم بالكفرِ، وَقِيْلَ: الذين ظلَمُوا الناقةَ. والصَّيحَةُ: جِبرِيلُ عليه السلام صَاحَ بهم صيحةً هائلةً عند صباحِ اليوم الرابعِ، لَمْ تحتَمِلها قلوبُهم فهلَكُوا. وإنَّما قالَ في هذهِ الآية: (وَأخَذ)، وفي آيةٍ أُخرى: (وَأخَذتْ)؛ لأنَّ الصيحةَ والصِّياحَ واحدٌ، فردَّ الكنايةَ مرَّة إلى الصِّياحِ ومرَّة إلى الصَّيحَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾؛ أي مَيِّتِينَ قد هَمَدُوا رَمَاداً جُثُوماً على الرُّكَب. ويقال: أصبَحُوا في بلادِهم جَاثِمين على وجُوهِهم على الطَّرفِ. وقولهُ تعالى: ﴿ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ ﴾؛ أي كأَنْ لم يكونُوا في الأرضِ قَطُّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ ﴾؛ أي برَبهِم.
﴿ أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ ﴾؛ أي أبعَدَهم اللهُ من رحمتهِ. وقرىء (لِثَمُودِ) بالكسرِ لقُربها من قولهِ ﴿ أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ ﴾، فمَنْ صرفَهُ جعله اسماً، ومَن لم يصرِفْهُ جعله اسماً للقبيلةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِٱلْبُـشْرَىٰ ﴾؛ قالَ ابنُ عبَّاس: (وَذلِكَ أنَّ جِبرِيلَ وَمَنْ مَعَهُ اثْنَي عَشَرَ مَلَكاً جَاؤُا إلَى إبْرَاهِيمَ لِيُبَشِّرُوهُ بإسْحَاقَ مِنْ زَوْجَتِهِ سَارَةَ). فلما دخَلُوا عليه.
﴿ قَالُواْ سَلاَماً ﴾؛ أي سلَّمُوا عليه سَلاَماً، وَقِيْلَ: قالوا: نُسَلِّمُ سَلاماً، وهو نَصْبٌ على المصدرِ، وقولهُ: ﴿ قَالَ سَلاَمٌ ﴾؛ أي أجابَهم إبراهيمُ بأن قالَ: عليكم سَلامٌ. وإنما لم يقل عليكُم سَلاماً بالنصب؛ لأنه لو كان كذلكَ لكان يُتوَهَّمُ أن إبراهيمَ عليه السلام حكَى قولَ الملائكةِ أنَّكُم سلَّمْتُم سلاماً، فخالَفَ بينهما ليكون قولهُ جَواباً لَهم. ومَن قرأ بكسرِ السِّين، فالسِّلْمُ والسَّلامُ بمعنى واحدٍ، كحَلَّ وحَرُمَ مثل حلالٍ وحرام. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ﴾؛ أي ما لَبثَ إبراهيمُ أن جاءَ بعِجْلٍ مَحْنُوذٍ؛ أي مَشْوِيٍّ، قال ابنُ عبَّاس: (الْحَنِيذُ: النَّضِيجُ) وهو قولُ مجاهد وقتادة، والْحِنْذُ: إشْوَاءُ اللَّحمِ بالحجارةِ الْمُحَمَّاةِ في شَوْءٍ مِن الأرضِ، وهو مِن فِعْلِ الباديةِ، وقال مقاتلُ: (إنَّمَا جَاءَهُمْ بعِجْلٍ لأنَّهُ كَانَ أكْثَرُ مَالِهِ الْبَقَرَ). وقال الحسنُ: (إنَّمَا جَاءَهُمْ بالطَّعَامِ لأنَّهُمْ جَاؤُهُ عَلَى صُورَةِ الآدَمِيِّينَ، عَلَى هَيْأَةِ الأَضْيَافِ، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أحَبَّ إلَيْهِ مِنَ الضَّيفَانِ، وَلَوْ جَاؤُهُ عَلَى صُورَةِ الْمَلاَئِكَةِ لَمْ يَكُنْ يُقَدِّمُ إلَيْهِمْ ذلِكَ لِعِلْمِهِ باسْتِغْنَاءِ الْمَلاَئِكَةِ عَنِ الطَّعَامِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ ﴾؛ أي لَمَّا وضعَ الطعامَ بين أيديهم، فرَآهُم لا يَمُدُّونَ إليه أيدِيَهم أنْكرَهم.
﴿ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ ﴾؛ أضمَرَ في نفسهِ.
﴿ خِيفَةً ﴾؛ خَوْفاً منهم، وكان أهلُ ذلك الزمانِ إذا لم يأكُلْ بعضُهم من طعامِ بعضٍ خَافُوا من غَائِلَتِهِ. فلما عَلِمتِ الملائكةُ خوفَهُ منهم.
﴿ قَالُواْ لاَ تَخَفْ ﴾؛ منَّا يا إبراهيمُ.
﴿ إِنَّا أُرْسِلْنَا ﴾، أي إنَّ اللهَ أرسَلنا.
﴿ إِلَىٰ قَوْمِ لُوطٍ ﴾؛ لنُهلِكَهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱمْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ ﴾؛ معناهُ: وامرأتهُ سَارَةُ كانت قائمةً معه على رؤُوسِهم بالخدمةِ، ويقالُ: كانت قائمةً من وراءِ السَّترِ في حالِ محاورة إبراهيمَ مع الملائكةِ، ويقال: إنَّ سارةَ بنتُ عمِّ إبراهيم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَضَحِكَتْ ﴾ أي ضَحِكَتْ من سُرورِها بالسَّلام، فزَادُوها بشَارةً بإسحاقَ عليه السلام، وقال السديُّ: (إنَّ إبْرَاهِيمَ قَالَ لَهُمْ: ألاَ تأْكُلُونَ؟! قَالُوا: إنَّا قَوْمٌ لاَ نَأْكُلُ إلاَّ بالثَّمَنِ، قَالَ: كُلُوا وَأدُّوا ثَمَنَهُ، قَالُواْ: وَمَا ثَمَنُهُ؟ قَالَ: أنْ تَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أوَّلِهِ وَتَحْمَدُوهُ فِي آخِرِهِ. فَنَظَرَ جِبْرِيلُ إلَى مَنْ مَعَهُ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ وَقَالَ: حَقٌّ لِهَذا أنْ يَتََّخِذهُ اللهُ خَليلاً، فَضَحِكَتِ امْرَأَتُهُ وَقَالَتْ: عَجَباً لأَضْيَافِنَا نَخْدِمُهُمْ بأْنفُسِنَا تَكْرِمَةً لَهُمْ وَهُمْ لاَ يَأْكُلُونَ طَعَامَنَا!). وقال قتادةُ: (ضَحِكَتْ لِغَفْلَةِ قَوْمِ لُوطٍ، وَقُرْب الْعَذاب مِنْهُمْ). وَقِيْلَ: ضَحِكَتْ سُروراً بالأمْنِ منهم لَمَّا قالوا: لاَ تَخَفْ، وقال عكرمةُ: (ضَحِكَتْ أيْ حَاضَتْ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ﴾؛ قرأ ابنُ عامر وحمزة ويعقوب بالنصب على معنى: وَوَهَبْنَا لها من وراءِ اسحاقَ يعقوبَ، وَقِيْلَ: بنَزعِ الخافض؛ أي وبشَّرنَاها من وراءِ اسحاقَ بيعقوب، فلما حُذفت الباء نُصِبَ. وقال الزجَّاج: (لاَ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ ذلِكَ فِي مَوْضِعِ الْخَفْضِ عَلَى ذلِكَ؛ لأنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْفَصْلُ بَيْنَ الْجَارِّ والْمَجْرُورِ وبَيْنَهُمَا وَاوُ الْعَطْفِ إلاَّ بإعَادَةِ حَرْفِ الْجَرِّ؛ لأنَّهُ لاَ يَجُوزُ أنْ يُقَالَ: مَرَرْتُ بزَيْدٍ فِي الدَّار وَالْبَيْتِ وَعَمْرٍو، حَتَّى يَقُولَُ: وَبعَمرٍ). وقولهُ ﴿ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ ﴾ قال المفسِّرون: كان إبراهيمُ قد وُلِدَ له من هاَجَرَ وكَبرَ وشَبَّ، فتمَنَّت سارةُ أن يكون لها ابنٌ وآيَسَتْ من ذلك لكبَرِ سِنَّها، فبُشِّرت على كِبَرِ السنِّ بولدٍ يكون نبيّاً. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ﴾ قال الزجَّاج: (بَشَّرُوهَا أنَّهَا تَلِدُ اسْحَاقَ، وَأنَّهَا تَعِيشُ إلَى أنْ تَرَى وَلَدَ وَلَدِهِ، وَوَرَاءَ هَاهُنَا بمَعْنَى بَعْدَ)
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَتْ يَٰوَيْلَتَىٰ ءَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـٰذَا بَعْلِي شَيْخاً ﴾؛ لا يجوزُ أن يكون هذا على جهةِ الإنكارِ، فإن (يَا وَيْلَتَا) كلمةٌ تستعمِلُها النساءُ عند وقوعِ أمرٍ فظيع، فاستعمَلَتها في هذا الموضعِ على جهة التعجُّب، ولهذا قالت: ﴿ إِنَّ هَـٰذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ ﴾.
وأصلهُ: يَا وَيْلَتِي فأُبدل من الياءِ الألف لأنه أخَفُّ من الياءِ والكسرِ. قال ابنُ عبَّاس: (كَانَتْ سَارَةُ بنْتَ ثَمَانٍ وَتِسعِينَ سَنَةً، وَكَانَ زَوْجُهَا ابْنَ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ، فَتَعَجَّبَتْ بأَنْ يَكُونَ بَيْنَ شَيْخَيْنِ كَبيرَيْنِ وَلَدٌ)، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَهَـٰذَا بَعْلِي شَيْخاً ﴾ أي هذا الذي يعرفونَهُ بَعْلِي، ثم قالت (شَيْخاً) أي انتَبهوا له في حالِ شيخوخَتهِ فهو نُصِبَ على الحالِ، وذهبَ الكوفيُّون إلى أنه نُصِبَ على القطعِ عن المعرفة إلى النَّكرة كما يقالُ: خَرجَ زَيدٌ راكباً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالُوۤاْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ ﴾؛ أي قالت الملائكةُ: أتَعجَبينَ من قُدرة اللهِ وأنت عارفةٌ أنَّ الله قادرٌ على كلِّ شيء؟ قال السديُّ: (أخَذ جِبْرِيلُ عُوداً يَابساً فَدَلَكَهُ بَيْنَ إصْبعَيْهِ فَإذا هُو أخْضَرُ يَهْتَزُّ، فَعَرَفَتْ أنَّهُ مِنَ اللهِ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ رَحْمَتُ ٱللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ ﴾؛ معناهُ: نعمةُ اللهِ عليكم في الدِّين والدنيا وخيراتهِ التامَّة عليكم يا أهلَ البيتِ بيتِ إبراهيم عليه السلام.
﴿ إِنَّهُ حَمِيدٌ ﴾؛ لأعمَالِكم.
﴿ مَّجِيدٌ ﴾؛ أي كريمٌ يُكرِمُكم بالنِّعَمِ، الكريمُ هو الذي يَبْتَدِئُ بالنعمةِ قبلَ الاستحقاقِ، والْمَجِيدُ الْمَاجِدُ وهو ذو الشَّرَفِ والمجدِ والكرَمِ.
قوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ ٱلرَّوْعُ ﴾؛ أي الخوفُ والفَزَعُ.
﴿ وَجَآءَتْهُ ٱلْبُشْرَىٰ ﴾؛ بإسحاقَ جعلَ.
﴿ يُجَادِلُنَا ﴾؛ يجادِلُ رسُلَنا.
﴿ فِي قَوْمِ لُوطٍ ﴾.
واختلَفُوا في هذهِ المجادلة، فقال بعضُهم: سألَ عن سبب تعذيب اللهِ لهم سؤالَ مُسَتقْصٍ حتى قالَ: إنَّ اللهَ أمرَ باستئصالِهم وبتخويفِهم بالعقاب، وحتى قال: إنَّ فيها لُوطاً. وقال بعضُهم: أراد بالمجادلةِ الدُّعاءَ والتضرُّعَ وشدةَ الحرصِ على نجاة القومِ رجاءَ إيمانِهم. كما رُوي أنَّ إبراهيمَ عليه السلام قامَ من الليلِ يُصلِّي وهو يقولُ: يا رب أتُهِلكُ قومَ لوطٍ؟ قِيْلَ: يا إبراهيمَ ليس فيهم مؤمنون، قال: يا رب فإن كان فيهم خمسونَ أهلُ بيتٍ مُؤمنون أتُهلِكُهم؟ قِيْلَ: لا، قال: فأربعونَ؟ قِيْلَ: لاَ، فَلَمْ يزل يُرَدِّدُ حتى قِيْلَ: إنْ كان فيهم خمسةُ أبياتٍ مؤمنين رفَعنا عنهم البلاءَ. يقولُ الله تعالى:﴿ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ ٱلْمُسْلِمِينَ ﴾[الذاريات: ٣٦].
قِيْلَ: لَمَّا جادَلَهم إبراهيمُ عليه السلام قالت له الرُّسُل: يا إبراهيم أعْرِضْ عن هذا الجدالِ، إنه قد جاءَ أمرُ ربكَ بعذابهم، وإنَّهم آتِيهم عذابٌ غير مردودٍ، قوله: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ ﴾؛ أي وَقُورٌ بَطِيءُ الغضب، والحليمُ: الْمُحْتَمِلُ للأَذى مع قُدرتهِ على العقوبةِ والمكافأة.
﴿ أَوَّاهٌ ﴾؛ بالدعاء، ويقال: الرحيمُ، ويقال المتأَوِّهُ خَوفاً وأسَفاً على الذُّنوب، و ﴿ مُّنِيبٌ ﴾؛ هو الراجعُ إلى اللهِ.
قوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَٰإِبْرَٰهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَـٰذَآ ﴾؛ أي عن جِدَالِكَ.
﴿ إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبَّكَ ﴾ بهلاكهم.
﴿ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ﴾؛ غيرُ مُنْصَرِفٍ عنهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيۤءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً ﴾؛ يعني لَمَّا جاءت الملائكةُ لوطاً ساءَهُ مجيئُهم، وضاقَ بهيأتهم قلبُه؛ فإنَّهم جاؤهُ في صورةِ الغُلمَانِ الْمُرْدِ الحِسَانِ، وكان قد عَلِمَ عادةَ قومهِ، فخافَ عليهم من صنع قومه.
﴿ وَقَالَ ﴾؛ في نفسِه: ﴿ هَـٰذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ ﴾؛ أي شديدٌ لازم شرُّهُ كالمعصُوب بالعُصبةِ، كأنَّهُ قال: هذا يومٌ الْتَفَّ الشرُّ فيه بالشرِّ، وأما ضِيقُ الذرْعِ فيوضعُ موضعَ ضيقٍ الصَّدر، يقال: ضاقَ فلانٌ بأمرهِ ذرْعاً إذا لم يجد من الْمَكْرَهِ في ذلك مَخْلصاً. قِيْلَ: معناهُ: ضَاقَ بهم وسْعاً. وكان لوطُ ضاقَ وسعَهُ بهم أنْ يحفَظَهم. وفي الخبرِ: أنه جعلَهم فيما بين مَواشِيهم، فلما كان في وقتِ غفلةِ الناس حَمَلَهُم إلى دارهِ، فذهبت امرأتهُ الخبيثة وأخبرَتْهم، وقالَتْ لَهم: إنه قد نزلَ عند لُوطٍ أضيافٌ لم يُرَ قط أحسَنَ وُجوهاً منهم، ولا أطيبَ ريحاً، ولا أنظفَ ثياباً.
قْولُهُ تَعَالَى: ﴿ وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ ﴾ وذلك أنَّ امرأةَ لوط لَمَّا أخبرَتْهم بأضيافهِ، جاؤُا إلى دارهِ يُسرِعُونَ إليه، ويُهَرْوِلُونَ هَرْوَلَةً، والإهْرَاعُ: مَشْيٌ بين مِشيَتَينِ، ومِن قبلِ ذلك كانوا يعمَلون المعاصِي، وهي ما كانوا يعمَلون من الفاحشةِ مع الذُّكور، فإنَّهم كانوا يعمَلون ذلك مِن دون أن يُخَفِي بعضٌ عن بعضٍ.﴿ قَالَ ﴾: لَهم لوطُ عليه السلام: ﴿ يٰقَوْمِ هَـٰؤُلاۤءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ﴾؛ عَرَضَ عليهم بناتَهُ نِكَاحاً، وأظهرَ من نفسهِ في صونِهم ما لا شيءَ أبلغُ منه، أظهرَ الكرامةَ في باب الأضيافِ، فذكَرَ بناتَهُ ليدلُّ بذلك على التشديدِ في دَفعِهم عمَّا أرَادُوا. فكان يجوز في ذلك الوقتِ تزويجُ الْمُسْلِمَةِ من الكافرِ، كما كان يجوزُ في شَريعتنا في ابتداء الإسلام، فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم زَوَّجَ ابنتَهُ من ابنِ العاص بن الرَّبيع. ويقالُ: أرادَ بقوله ﴿ بَنَاتِي ﴾ بناتَ قومهِ؛ لأن النبيَّ يكون للقومِ بمنْزِلة الوالدِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَاتَّقُواْ اللًّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي ﴾؛ أي اتَّقُوا عقابَ الله، ولا تُلزِمُونِي عَيباً في ضَيفِي.
﴿ أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ ﴾؛ في نفسهِ فَيَنْزَجِِرُ عن هذا الأمرِ، ويزجرُكم عنه.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ ﴾؛ أي مَيلَنا إلى الغِلمَانِ دون النِّساء، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً ﴾؛ أدفَعُكم بها عن أضيَافِي، ويُمكِنُني.
﴿ أَوْ آوِيۤ إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ ﴾؛ إلى قبيلةٍ أستغيثُ بها على دَفعِكم لَمَنَعْتُكُمْ أشدَّ المنعِ عما تُحاولون. وعن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال:" رَحِمَ اللهُ أخِي لُوط لَقَدْ آوَى إلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ "أي التجأَ إلى اللهِ وملائكته، وقال ابنُ عبَّاس: (فَلَمَّا عَلِمَ جِبْرِيلُ وَالْمَلاَئِكَةُ خَوْفَ لُوطٍ مِنْ تَهدِيدِ قَوْمِهِ، وَقَدْ كَانَ لُوطُ أغْلَقَ الْبَابَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى الْمَلاَئَكَةِ وَهُوَ يُنَاشِدُ قَوْمَهُ، قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: يَا لُوطُ إنَّ رُكْنَكَ لَشَدِيدٌ، وَإنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالُواْ يٰلُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوۤاْ إِلَيْكَ ﴾؛ فافتَحِ البابَ ودَعْنا وإيَّاهم، ففتحَ البابَ فدخَلُوا، فقامَ جبريلُ في الصُّورةِ التي يكون فيها في السَّماء، فنَشَرَ جناحَهُ وضربَ به وُجوهَهم فطَمَسَ أعيُنَهم وأعمَاهُم، فصارُوا لا يعرفون الطريقَ ولا يهتَدُون إلى بُيوتِهم. فقالَ لوطُ عليه السلام متَى مَوعِدُ هَلاَكِهم؟ قالوا: الصُّبْحَ، قالَ: أريدُ أسرعَ من ذلك، فقالوا: أليس الصُّبح بقريبٍ؟ وذلك قولهُ تعالى:﴿ وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ ﴾[القمر: ٣٧].
ثُم قالوا له: ﴿ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ ﴾؛ وفيه قراءَتان (فَأَسْرِ) بالهمز والوصلِ، يقال سَرَى وأسْرَى بمعنى واحدٍ، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ بِقِطْعٍ مِّنَ ٱلْلَّيْلِ ﴾؛ أي في آخرِ الليل عند السَّحَرِ والهدوءِ، وقال الضحَّاك: (بقِطْعٍ أيْ ببَقِيَّةٍ)، وقال قتادةُ: (بَعْدَ مَا مَضَى صَدْرُهُ).
﴿ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ ٱمْرَأَتَكَ ﴾.
قرأ ابنُ كثير وأبو عمرو (امْرَأَتُكَ) رفعاً على الاستثناءِ من الإلتفات؛ أي ولا يلتَفِت أحدٌ إلا امرأتُكَ، فإنَّها تلتفِتُ فتهلَكُ. وقرأ الباقون بالنصب على الاستثناء من الإسراءِ؛ أي فَاسْرِ بأهلِكَ إلا امرأتُكَ فلا تَسْرِ بها وخلِّفها مع قومِها. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمْ ﴾؛ ظاهرُ المعنى. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ ﴾؛ أي قالت الملائكةُ: إن وقتَ هلاكِهم.
﴿ ٱلصُّبْحُ ﴾؛ فقالَ لوط: الآنَ يا جبريلُ، وإنما ذلكَ لضيقِ صدرِه منهم وشدَّة غَيظِه، فقالَ جبريلُ: ﴿ أَلَيْسَ ٱلصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ﴾، وفي هذا بيانُ أنَّ اللهَ لا يُهلِكُ أحداً قبلَ انقضاءِ مدَّتهِ، وإنْ ضَاقَتْ صدورُ أوليائهِ عنه. وعن ابن عبَّاس: (أنَّ جِبْرِيلَ لَمَّا قَالَ لِلُوطٍ: فَاسْرِ بأَهْلِكَ بقِطَْعٍ مِنَ اللَّيْلِ، قَالَ لُوطُ: يَا جِبْرِيلُ كَيْفَ أصْنَعُ وَأَبَوابُ الْمَدِينَةِ قَدْ أُغْلِقَتْ، فجَمَعَ لَهُ جِبْرِيلُ أهْلَهُ وَبَقَرَهُ وَغَنَمَهُ وَمَالَهُ، وَاحْتَمَلَهُمْ عَلَى جَنَاحِهِ حَتَّى أخْرَجَهُمْ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَانْطَلَقَ بهِمْ مُتَوَجِّهاً إلَى صَغَرْ، وَهِيَ عَلَى أرْبَعَةِ فَرَاسِخَ مِنْ مَدَائِنِ لُوطٍ، وَهِيَ إحْدَى الْقَرَى الْخَمْسِ: سَدُومُ وَدَادَ وَمَاو وَعَامُورا وَصَغَرْ، وَلَمْ يَكُنْ أهْلُ صَغَرْ يَعْمَلُونَ عَمَلَهُمْ، وَكَانَ فِي كُلِّ مَدِينَةٍ ألْفُ مُقَاتِلٍ، فَمَا سَارَ لٌُوطُ فَرْسَخَيْنِ حَتَّى سَمِعَ الصَّيْحَةَ). كما رُوي أنَّ جبريل عليه السلام جعلَ جناحه في أسفلِها فرَفَعها من الأرضِ السَّابعة إلى السَّماءِ حتى سَمِعَ أهلُ السَّماء نباحَ الكلاب وصياحَ الدِّيَكة، ثم قلَبَها وجعلَ أسفلها أعلاَها، وأعلاها أسفَلَها، وأقبَلَت تَهوِي من السَّماءِ إلى الأرضِ، فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ ﴾؛ قال وهبُ: (لَمَّا رُفِعَتْ إلَى السَّمَاءِ أمْطَرَ الله ُعَلَيْهَا حِجَارَةَ الْكِبْرِيتِ بالنَّارِ، ثُمَّ قُلِبَتْ عَلَيْهِمْ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ ﴾ قِيْلَ: أمطرَ اللهُ الحجارةَ على شُذاذِهم ومُسافرِيهم. واختلَفُوا في السِّجِِّيلِ، فقيل: هو فارسيةٌ مُعرَّبَة، وفيه بيانُ أن تلك الحجارةَ كانت شديدةً صَلِبَةً، نحو ما يُطبَخُ من الطِّين فيصيرُ كالآجُرِّ وأصلبَ منه، يدلُّ عليه قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ ﴾[الذاريات: ٣٣].
وقال بعضُهم: هو من سجيل وهو الإرسَالُ، فيكون معناهُ: حجارةً مُرسَلَةً، ويقال: السِّجِّيلُ: سَماءُ الدنيا، وقيل: السجِّيلُ وَالسِّجِّينُ: الشديدُ من الحجَرِ. قْوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَّنْضُودٍ ﴾؛ أي بعضُهم فوقَ بعضٍ. وقولهُ: ﴿ مُّسَوَّمَةً ﴾؛ أي مُعَلَّمَةً بعَلامةٍ المعاقَبين، وكانت مخطَّطة بالسَّوادِ والْحُمْرَةِ والبَياضِ. وَقِيْلَ: كان مكتوبٌ على كلِّ حجَرٍ اسمَ مَن هَلَكَ بهِ. وقولهُ تعالى: ﴿ عِندَ رَبِّكَ ﴾؛ أي أعلَمَتها الملائكةُ في السَّماء بأمرِ الله. وقوله تعالى: ﴿ وَمَا هِيَ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ﴾؛ أي وما تلكَ الحجارةُ من ظالمِي أُمَّتِكَ ببعيدٍ، وعن ابنِ عبَّاس أنه قال: (لاَ وَاللهِ لاَ تَذْهَبُ اللَّيالِي وَالأَيَّامُ حَتَّى تَسْتَحِلَّ هَذِهِ الأُمَّةُ أدْبَارَ الرَّجَالِ كَمَا اسْتَحَلُّوا النِّسَاءَ، وَلاَ تَذْهَبُ الأَيَّامُ وَاللَّيَالِي حَتَّى يُصِيبَ طَوَائِفَ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ حِجَارَةً مِنْ عِنْدِ رَبِكَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً ﴾؛ أي وإلى ولَدِ مِديَنَ بن إبراهيم أخاهُم في النَّسب.
﴿ قَالَ يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ ﴾؛ أي ولا تَنقُصُوا حقوقَ الناسِ عند الكَيْلِ والوزنِ عليهم بالتَّطفِيفِ.
﴿ إِنِّيۤ أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ ﴾؛ أي إنِّي أراكُم في الخصْب والرُّخْصِ ما أوفَيتُم للناسِ حقوقَهم. وَقِيْلَ: معناهُ: إنِّي أراكم في كَثرَةِ الأموالِ، وأنتم مُستَغنون عن نُقصَانِ الكَيْلِ والوزنِ.
﴿ وَإِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ ﴾ أي عَذاباً يحيطُ بكم فلا يفلتُ منكم أحد.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيٰقَوْمِ أَوْفُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ ﴾؛ أي بالعدلِ.
﴿ وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ ﴾؛ أي ولا تَنقُصوهم حُقوقَهم.
﴿ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾؛ أي لا تضطَرِبوا في الأرضِ بالقبيح مُفسدِين بالمعاصِي.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ بَقِيَّتُ ٱللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَآ ﴾؛ معناهُ: ما أبقاهُ الله خيرٌ لكم من الحلالِ بعد إتْمَامِ الكيلِ والوزن خيرٌ لكم مما حرَّمَ عليكم من البخْسِ والتطفيفِ إنْ كنتم مصدِّقين ما أقولهُ لكم. ويقالُ: أراد بالبقيَّة طاعةَ الله، فإنَّها هي التي يبقَى ثوابُها. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ﴾؛ أي لم أوَكَّلْ بحفظِكم فأُقاتِلَكم وأمنَعَكم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالُواْ يٰشُعَيْبُ أَصَلَٰوتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِيۤ أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ ﴾؛ أي قالوا يا شُعيبُ: أكثرَةُ صَلواتِكَ التي تفعَلُها تأمرُكَ أن نتركَ عبادةَ ما يعبدُ آباؤنا، وتأمُرك أن تأمُرَنا بأنْ لا نفعلَ في أموالنا ما نشاءُ، وقال عطاء: (مَعْنَى قَوْلِهِ: أصَلاَتُكَ؛ أيْ دِينُكَ يَأْمُرُكَ، فَكَنَّى عَنِ الدِّينِ بالصَّلاَةِ؛ لأنَّهَا مِنْ أمْرِ الدِّينِ، وَكَانَ شُعَيْبُ كَثِيرَ الصَّلاَةِ، فَلِذلِكَ قَالُواْ هَذا). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّكَ لأَنتَ ٱلْحَلِيمُ ٱلرَّشِيدُ ﴾؛ السفيه الجاهل، فذكروا الحليم الرشيد على جهةِ الاستهزاء، هكذا رُوي عن ابنِ عبَّاس، ويقال: قالوا ذلك علَى جهةِ التحقيقِ إنكَ لأنتَ الحليمُ الرشيد في قومِكَ، فكيف تَنهَانَا عن عبادةِ ما يعبدُ آباؤنا وعن أن نفعلَ في أموالِنا ما نشاءُ من البَخْسِ والتَّطفِيفِ، كأنَّهم استبعَدُوا أن يكون آباؤُهم قد أخطَأُوا في دِينهم ورباهم.
قولُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ يٰقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي ﴾؛ أي قال لَهم شعيبُ: أخبروني إنْ كنتُ على دلالةٍ واضحة من ربي.
﴿ وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً ﴾؛ قِيْلَ: أرادَ النبوَّةَ فإنَّها أعظمُ رزْقِ الله تعالى. وَقِيْلَ: أراد به المالَ الحلالَ. قال ابنُ عبَّاس: (كَانَ شُعَيْبُ عليه السلام كَثِيرَ الْمَالِ كَثِيرَ الصَّلاَةِ)، وَقِيْلَ: معنى قولِه: ﴿ رِزْقاً حَسَناً ﴾ أي عِلْماً ومعرفةً. وأما جوابُ قولهِ ﴿ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي ﴾ المالَ الحلال اتبعهُ الضلالَ فأبْخَسُ وأُطَفِّفُ، أشُوبَ الحلالَ بالحرامِ كما تفعلون به. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ﴾؛ أي ما أريدُ أن تترُكوا ما نَهيتُكم عنه لأعملَ أنا به فانتفعَ، والمعنى لستُ أنْهاكُم عن شيءٍ ثم أدخلُ فيه.
﴿ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ ٱلإِصْلاَحَ مَا ٱسْتَطَعْتُ ﴾؛ أي ما أريدُ إلا الإصلاحَ في أمرِ الدين والمعاشِ بقدر استطاعَتي.
﴿ وَمَا تَوْفِيقِيۤ إِلاَّ بِٱللَّهِ عَلَيْهِ ﴾؛ أي ما توفيقي للصَّلاحِ إلا مِنَ اللهِ، والتوفيقُ من اللهِ، هو كلُّ فِعْلٍ يَتَّفِقُ مَعَ الْعَبْدِ عِنْدَ اخْتِيَار الطَّاعةِ وَالصَّلاحِ، وَلَوْلاَهُ لَكَانَ يَخْتَارُ خِلاَفَ ذلِكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ﴾؛ أي فوَّضتُ أمرِي إلى اللهِ، وقولهُ تعالى: ﴿ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾؛ أي أرجِعُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيٰقَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِيۤ أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ ﴾؛ أي يا قومِ لا يكسِبَنَّكم عدَاوتِي أنْ لا تُؤمِنُوا فيصِيبُكم مثلُ ما أصابَ قومَ نوحٍ من الغرَقِ.
﴿ أَوْ قَوْمَ هُودٍ ﴾؛ من الرِّيح العقيمِ.
﴿ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ ﴾؛ من الصَّيحَةِ.
﴿ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ ﴾؛ أي قد بلَغَكم ما أصابَهم وهم أقربُ إليكم ممن تقدَّمَهم. يجوزُ أن يكون المراد بذلك قُرْبَ زمانِهم، ويجوز أن يكون المرادُ به قربَ ديارهم منهم، وكلُّ ذلك أقربُ إلى الاعتبار.
قولهُ: ﴿ وَٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ ﴾؛ أي استَغفِرُوهُ من الشِّركِ والذنوب، ثم تُوبُوا إليه بإخلاصٍ.
﴿ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ ﴾ بعبادهِ.
﴿ وَدُودٌ ﴾ مُتَوَدِّدٌ بالنِّعم وقَبول التوبةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالُواْ يٰشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ ﴾؛ أي ما نَفْهَمُ كثيراً ما تقولُ، قال ابنُ الأنباريِّ: (مَعْنَاهُ مَا نَفْقَهُ صِحَّةَ كَثِيرٍ مِمَّا تَقُولُ، يَعْنُونَ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ، وَمَا يَأْمُرُهُمْ بهِ مِنَ الزَّكَاةِ وَتَرْكِ الْبَخْسِ، وَالْفِقْهُ فِي اللُّغَةِ هُوَ اسْتِدْرَاكُ مَعْنَى الْكَلاَمِ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً ﴾؛ قالَ ابنُ عبَّاس: (أرَادُوا بالضَّعْفِ أنَّهُ ضَرِيرُ الْبَصَرِ)، وقال ابنُ جبير: (مَعْنَاهُ إنَّا لَنَرَاكَ أعْمَى)، وقد رُوي أنه كان قد ذهبَ بصرهُ من كثرةِ بُكائِهِ من خِشيَةِ اللهِ تعالى. وفي بعضِ الرِّوايات: أنه عَمِيَ ثلاثَ مرَّات، وكان اللهُ تعالى يرُدُّ عليه بَصَرَهُ حتى أوحَى إليه: يا شعيبُ ما هذا البكاءُ؟ قال: شَوقاً إليك يا رب." وسُئِلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ شُعَيْبٍ قَالَ: " ذاكَ خَطيبُ الأَنْبيَاءِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ " ". قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ﴾؛ أي ولولا عَشِيرتُكَ لقَتلنَاكَ بالحجارةِ.
﴿ وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ ﴾؛ أي إنا لا نَدَعُ قتلَكَ لعزَّتِكَ علينا، ولكن لأجلِ قومِكَ. والمعنى: لستَ تَمتَنِعُ علينا أنْ نقتُلَكَ لولا ما نُراعِي من حقِّ عَشيرِتَكَ.
قْوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ يٰقَوْمِ أَرَهْطِيۤ أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ ٱللَّهِ ﴾؛ أي إنَّكم تزعُمون أنَّكم تتركون قَتلِي إكراماً لرَهْطِي واللهُ تعالى أوْلَى بأن يُتَّبَعَ أمرهُ؛ أي إنَّكم تركتم قَتلِي لأجلِ عشيرتِي، ولا تتركونَهُ لأجلِ اللهِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱتَّخَذْتُمُوهُ وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً ﴾؛ أي نَبَذْتُمْ أمرَ اللهِ وراءَ ظُهورِكم، والظِّهْرِيُّ: ما نَبَذهُ الإنسانُ وراءَ ظَهرهِ.
﴿ إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴾؛ أي عليمٌ، لا يَعْزِبُ عنه عِلمُ شيءٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيٰقَوْمِ ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَٰمِلٌ ﴾؛ أي اعمَلُوا على دِينِكم إنِّي عاملٌ على دِيني، وهذا على سبيلِ التَّهديد والوعيدِ، والْمَكَانَةُ والمكانُ بمعنى واحد. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ ﴾؛ أي يُذِلُّهُ ويُهِينُهُ، وَتعلمُون ﴿ وَمَنْ هُوَ كَٰذِبٌ ﴾؛ على اللهِ.
﴿ وَٱرْتَقِبُوۤاْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ ﴾؛ أي انتَظِروا إنِّي منتظرٌ معكم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا ﴾؛ أي نَجَّينا شُعيباً من ذلك العذاب، ونَجَّينَا الذين آمَنوا معه برحمةٍ منَّا.
﴿ وَأَخَذَتِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ ﴾؛ يعني من قومِ شُعيب. يقال: إنَّ جبريل صاحَ بهم صيحةً، فخرجت أرواحُهم من أجسادِهم.
﴿ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾؛ أي ميِّتين سَاقِطِين صَرْعَى. وَقِيْلَ: بل وَاقِفِين على رُكَبهم.
﴿ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ ﴾؛ أي كأنْ لم يكونوا في الأرضِ قطٌّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ ﴾؛ معناهُ: ألاَّ سُحْقاً وهلاكاً لقومِ شُعيب كما هلَكت ثَمُودُ، وإنما شبَّهَهم بثَمُودَ؛ لأن الصيحةَ كانت سَبباً في هلاكِ الفريقين جميعاً. قال ابنُ عبَّاس: (وَذلِكَ أنَّ مَدْيَنَ أصَابَهُمْ حَرٌّ شَدِيدٌ، وَلَمْ تَتَحَرَّكِ الرِّيحُ لَيْلاً وَلاَ نَهَاراً، فَكَانَ يُحْرِقُهُمْ باللَّيْلِ حَرُّ الْقَمَرِ، وَبالنَّهَار حَرُّ الشَّمْسِ، فَنَشَأَتْ لَهُمْ سَحَابَةٌ كَهَيْئَةِ الظُّلَّةِ فِيْهَا عَذابُهُمْ، فَأَتَوهَا يَسْتَظِلُّونَ تَحْتَهَا وَيَطْلُبُونَ الرَّوْحَ، فَسَالَ عَلَيْهِمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَرَجَفَتِ الأَرْضُ مِنَ الْعَذاب وَأحْرَقَتْهُمُ السَّحَابَةُ، وَذلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ ٱلظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾[الشعراء: ١٨٩]). قال: (وَلَمْ يُعَذبْ أُمَّتَانِ بعَذابٍ وَاحِدٍ إلاَّ قَوْمَ شُعَيْبَ وَصَالِح، فَأَمَّا قَوْمُ صَالِحٍ فَأَخَذتْهُمُ الصَّيْحَةُ مِنْ تَحْتِهِمْ، وَأمَّا قَوْمُ شُعَيْبٍ فأَخَذتْهُمُ الصَّيْحَةَ مِنْ فَوْقِهِم).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ﴾؛ أي أرسَلنا مُوسَى بدَلائِلنا، والآيةُ العلامةُ التي فيها العِبرَةُ، وقولهُ تعالى: ﴿ وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ﴾ أي وحجَّة بيِّنَةٍ مسلَّطة على إبطَال الفاسد. وقولهُ تعالى: ﴿ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ﴾؛ وأشرافِ قَومِهِ.
﴿ فَٱتَّبَعُوۤاْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ ﴾؛ أي اتَّبعوا قولَهُ وترَكُوا أمرَ الله.
﴿ وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ﴾؛ أي ما هو بصَائبٍ، إلا أنَّهم اتبعوا وخالَفُوا أمرَ موسى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ ٱلنَّارَ ﴾؛ أي يَمشِي أمامَ قومهِ يومَ القيامةِ حتى يهجُمَ بهم على النارِ، وإنما يمشِي أمامَ قومهِ يومَ القيامة لأنَّهم اتبعوهُ في الدنيا حتى هدَاهُم إلى طريقِ النار، فكذلكَ يمشي بهم في الآخرةِ حتى يدخلَ بهم النارَ. وأما عطفُ الماضي الذي هو (فَأَوْرَدَهُمْ) على المستقبلِ فهو على معنى فهو إذا قَدِمَهُمْ أوردَهم النارَ. وإنما تقدَّمَهم ولم يقل يسبقُ؛ لأن قولَهُ يسبقُ قومَهُ لا يدلُّ على أنه يَمشِي بين أيديهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَبِئْسَ ٱلْوِرْدُ ٱلْمَوْرُودُ ﴾ فيه إلى النارِ، والوِرْدُ في الحقيقة إنما يستعملُ في الماءِ كما قالَ تعالى:﴿ وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ ﴾[القصص: ٢٣]، ولكنْ لَمَّا كان فرعونُ وقومه في الآخرةِ يكونون عَطَاشَى ويَرِدُونَ على ما بهم من العطشِ استعملَ فيهم هذه اللَّفظة.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأُتْبِعُواْ فِي هَـٰذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ ﴾؛ أي وأتْبَعَهُم اللهُ في الدنيا لعنةً بإبعادِهم عن الرَّحمة بالغرقِ ﴿ وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ ﴾ لَهم لعنةٌ أُخرى وهي النارُ.
﴿ بِئْسَ ٱلرِّفْدُ ٱلْمَرْفُودُ ﴾؛ بئْسَتِ اللعنةُ على إثْرِ اللعنة، تَرَادَفَتْ عليهم اللَّعَنَاتُ الغرَقُ في الدنيا والنارُ في الآخرةِ. والرِّفْدُ في اللغة: هو العَوْنُ في الأمرِ إلا أن العطيةَ تُسمَّى رِفْداً لما فيها من العَوْنِ، كأنَّهُ قالَ: بئْسَ العطاءِ ما أعطَى. وقال بعضُهم: هذا من الْمَقْلُوب؛ أي بئْسَ الرِّدْفُ الْمَرْدُوفُ، فالرِّدْفُ: لَعْنَةُ اللهِ إياهم، والمردوفُ لَعْنَةُ الأنبياءِ والمؤمنين.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْقُرَىٰ نَقُصُّهُ عَلَيْكَ ﴾؛ أي ذلكَ الذي ذكرتُ يا مُحَمَّدُ من أخبارِ الأُمَمِ الماضيةِ ينْزِلُ به عليكَ جبريلُ عليه السلام نقصُصهم عليكَ مرَّةً بعد مرةٍ، مأخوذٌ من إتبَاعِ الشيءِ الشيءَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ ﴾ أي منها قائمُ الأبنِية وقد بادَ أهلهُ كما قالَ تعالى:﴿ وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ ﴾[الحج: ٤٥]، والحصيدُ ما هَلَكَ بأهلهِ فلا يبقَى له مكان ولا أثرَ نحو مدائنِ قومِ لوط حُصدت من الأرضِ السُّفلَى. والمعنى منها قائمٌ بقيَت حيطانهُ ومنها حصيدٌ مخسوفٌ به قد أُمْحِيَ أثرهُ، قال ابنُ عبَّاس: (قَائِمٌ يَنْظُرُونَ إلَيْهِ وإلَى مَا بَقِيَ مِنْ أثَرِهِ، وَحَصِيدٌ قَدْ خَرِبَ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ أثَرٌ شَبيهٌ بالزَّرْعِ إذا حُصِدَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـٰكِن ظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ ﴾؛ أي ما ظلَمنَاهم بإهلاكِهم، ولكن ظلَمُوا أنفُسَهم بسوءِ اختيارِهم.
﴿ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ ﴾؛ أي فما نفعَتهُم آلهتُهم.
﴿ ٱلَّتِي يَدْعُونَ ﴾؛ التي كانوا يعبُدونَها.
﴿ مِن دُونِ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ لَّمَّا جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ ﴾؛ أي تَخْسِيرٍ ومنهُ:﴿ تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ﴾[المسد: ١] أي خَسِرَتْ يداهُ وخَسِرَ هو.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَكَذٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ ٱلْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ ﴾؛ معناهُ: كما أخذ ربُّكَ فرعون ومَن تَقدَّمَهُ من الكفارِ، فكذلك أخْذُ ربكَ إذا أخذ القُرى وهي كافرةٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾؛ ظاهرُ المعنى. وقولهُ تعالى: ﴿ وَهِيَ ظَالِمَةٌ ﴾ من صِفَةِ القُرَى وهي في الحقيقةِ لأهلِها وسُكانِها، ونحو هذا قوله﴿ وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً ﴾[الأنبياء: ١١].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ ٱلآخِرَةِ ﴾؛ أي إنَّ في ذلك لعِبرَةً لمن خافَ عذابَ الآخرةِ فلا يَقتَدِى بهم، وقولهُ تعالى: ﴿ ذٰلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ ٱلنَّاسُ ﴾؛ معناهُ: إن يومَ القيامة يومُ يُجْمَعُ فيه الأوَّلون والآخِرون، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ ﴾؛ أي يشهدُه أهلُ السماوات والأرضِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ ﴾؛ وقد عَدَّهُ الله، وعَلِمَ أن صلاحَ الخلقِ في إدامة التكليفِ عليهم إلى ذلك الأجَلِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ﴾؛ مَن قرأ (يَأْتِي) بإثبات الياء فعلَى الأصلِ، ومعناهُ: يوم يأتِي ذلك اليومُ لا تَكَلَّمُ نفسٌ في الشَّفاعةِ إلا بأمرِ الله، ويقالُ: لا يجبرُ أحدٌ أن يتكلَّم بالاحتجاجِ وإقامة العُذرِ من مَشِيئَةِ اللهِ إلا بإذنه، ومَن قرأ (يَأْتِ) بغيرِ ياء فهي لُغة هُذيلٍ، وهكذا في مُصحَفِ عُثمان، ومنه يقولُ العرب: لاَ أدْرِ ولا أمْضِ، فيحذفُ الياءَ ويجتزئُ بالكسرِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ﴾؛ أي مِن الناس شَقِيٌّ وسعيدٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ شَقُواْ فَفِي ٱلنَّارِ ﴾؛ أي فأمَّا الذين كُتبت عليهم الشقاوةُ ففي النارِ، وقال بعضُهم: شَقُوا بفِعلِهم، وقال بعضُهم: شَقُوا في بطُونِ أمَّهاتِهم، فما شَقِيَ أحدٌ بفعلٍ إلا بعدَ ما شَقِيَ في بطنِ أُمه، وما شَقِيَ في بطنِ أُمه إلا بعدَ سابقِ علمِ الله فيه، وإنما يلحقهُ اللَّومُ بالشقاوة المحتومةِ لا بالشقاوة المعلومة، وكذلك السعادةُ على هذه الجملة. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ﴾؛ الزفيرُ شدَّةُ الأَنِينِ في الصَّدرِ، والشهيقُ الأَنِينُ الشديدُ المرتفع نحوَ الزَّعْقَةِ التي تكون من شدَّةِ الكَرْب والحزنِ، وربَّما يتبعُها الغَشْيَةُ، ومن هذا قالوا: إن الزفيرَ أوَّلُ صوتِ نَهيق الحمارِ، والشهيقُ آخر صوت نَهيقهِ، وسُمي رأسُ الجبلِ شاهقاً لارتفاعهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾؛ أي دَائمين في النارِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ ﴾؛ قال بعضُهم: أرادَ بذلك مقدارَ سماء الدُّنيا وأرضها، وذلكَ أنَّ العربَ إذا أرادت تأكيدَ التأكيدِ والتبعيد قالت: ما دامتِ السماواتُ والأرض، وما لاحَ كوكبٌ، وما أضاءَ القمرُ، وما اختلفَ الجديدان، لا يريدُ بذلك الشرطَ، وإنما يريد بذلك التأكيدَ والتبعيدَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ ﴾؛ أي سِوَى ما شاءَ ربُّكَ من الْخُلُودِ بعدَ مُضِيِّ مقدارِ سماء الدُّنيا وأرضها. وقال بعضُهم: معنى الآية: ما دامَت سماءُ الدُّنيا وأرضها، وسماءُ الجنَّة وأرضها، وقوله: ﴿ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ ﴾ مذكورٌ على وجه التأبيدِ أيضاً. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ﴾؛ أي يفعلُ ما شاءَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ سُعِدُواْ ﴾؛ مَن قرأ (سُعِدُوا) بضمِّ السين فمعناهُ: رُزقُوا السعادةَ، ومِمَّن قرأ ذلك أهلُ الكوفة، قولهُ: ﴿ فَفِي ٱلْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ﴾؛ أي أعطَاهم النعيمَ عطاءً غير مجذوذٍ أي غير مقطوعٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ ﴾؛ أي فلا تكن أيُّها الشاكُّ في مِرْيَةٍ.
﴿ مِّمَّا يَعْبُدُ هَـٰؤُلاۤءِ ﴾؛ من دون الله أنه باطلٌ، والْمِرْيَةُ هي الشكُّ مع ظهور دلائل التُّهمةِ، وقولهُ تعالى: ﴿ مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ ﴾؛ معناهُ: ما يعبدون إلا على جهةِ التقليد لآبائهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ ﴾؛ أي حظَّهم من العذاب غيرَ منقوصٍ عن مقدار ما استحَقُّوا؛ آيسَهم الله بهذا القول عن العفوِ، وَقِيْلَ: أرادَ بالنصيب الأرزاقَ والآجال، وما قُدِّرَ لهم في دُنياهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَابَ فَٱخْتُلِفَ فِيهِ ﴾؛ أي ولقد أعطينا موسى الكتابَ، فصدَّق به بعضُهم، وكذب به بعضهم.
﴿ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ﴾؛ أي لولاَ وعدُ الله سبقَ بإبقاء التكليفِ عليهم إلى ذكرِ الوقت لقضى بتعجيلِ العقاب لمن استحقَّ العقابَ في الدُّنيا، وبتعجيلِ الثواب لمن استحقَّ الثوابَ في الدنيا. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ ﴾؛ أي وإنَّهم لفِي شكٍّ من القرآنِ يريبُهم أمرهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِنَّ كُـلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ ﴾؛ معناهُ: وإنَّ كُلاًّ من الفريقَين المصدِّق والمكذِّب يجتمعان يومَ القيامة فيُوفِّيهم ربُّكَ.
﴿ أَعْمَالَهُمْ ﴾؛ على التمامِ.
﴿ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾؛ وبما يستحقُّون من الجزاءِ خَبِيرٌ. قرأ ابنُ كثير ونافع (وَإنْ كُلاًّ لَمَا) كلاهما بالتخفيفِ، وقرأ أبو بكر عن عاصم (وَإنْ) مخفَّفة (لَمَّا) مشدَّدة، والباقون كلاهما بالتشديدِ، فحُجة أبو عمرِو والكسائي أن اللامَ في قوله: (لَمَّا) لامُ التأكيدِ دخلت في خبرِ إن، واللامُ التي في ﴿ لَيُوَفِّيَنَّهُمْ ﴾ لامُ القسمِ، تقديره: واللهِ ليُوَفِّينَّهُمْ، دخلت (مَا) للفصلِ بين اللاَّمَين. وأما حُجة نافع وابن كثير في نصبهِ (كُلاً) ما قال سيبويه: إنَّهُ سَمِعَ مِنَ الْعَرَب مَنْ يَقُولُ: إنْ عَمراً لَمُنْطَلِقٌ، فَيُخَفِّفُونَ إنْ وَيُعْمِلُونَهَا، وأنشدَهُ الشاعرُ: وَوَجْهٌ حَسَنُ النَّحْرِ   كَأنْ ثَدْيَيْهِ حُقَّانِوالمعنى على قراءةِ أبي عمرو (وَإنَّ كُلاً) من السعيدِ والشقيِّ ليُوفِّيَنَّهُمْ ربُّك أعمالَهم، و(مَا) زائدةٌ في قولهِ (لَمَّا)، ومَن خفَّف (إنْ) كان معناه من معنى المشدَّدة، تقول: إنْ زَيْداً لْقَائِمٌ، وَإنَّ زَيْداً لَقَائِمٌ، تريدُ إثباتَ قيامهِ، فإذا قُلتَ: إنْ زَيْدٌ قَائِمٌ، فمعناهُ: مَا زَيْدٌ قَائِمٌ، ونظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ﴾[الطارق: ٤] بتخفيفِ (لَمَا)، تقدير لعلَّها حافظٌ، ومن خفَّف (إنْ) وشدَّدَ (لَمَّا) فتأويلهُ الجحدُ والتحقيق؛ أي ما كلٌّ إلا ليُوَفينَّهم، ونُصبَ (كُلاًّ) على هذا التأويلِ بـ (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) لا بـ (أنْ).
قْوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَٱسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ ﴾؛ أي استقِمْ يا مُحَمَّدُ في التمسُّكِ بطاعةِ اللهِ تعالى كما أُمِرْتَ وَليستقم.
﴿ وَمَن تَابَ مَعَكَ ﴾؛ من الشِّركِ.
﴿ وَلاَ تَطْغَوْاْ ﴾؛ بمجاوزَةِ أوامرِ الله تعالى.
﴿ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾؛ من الخيرِ والشرِّ.
﴿ بَصِيرٌ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ تَرْكَنُوۤاْ إِلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ﴾؛ أي لا تَميلُوا إلى الذين ظَلموا بالأُنس بهم والمحبَّة والرضا بفِعلِهم، قال السديُّ: (وَلاَ تُدَاهِنُواْ الظَّلَمَةَ)، وقال أبو العاليةِ: (لاَ تَرْضَوا بأَعْمَالِهِمْ)، وقال عكرمةُ: (هُوَ أنْ يُحِبَّهُمْ)، وقال قتادةُ: (وَلاَ تَلْحَقُواْ الْمُشْرِكِينَ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَتَمَسَّكُمُ ٱلنَّارُ ﴾ أي فتُصِيبَكم كما تصيبُهم.
﴿ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ ﴾؛ من أعوانٍ يدفعون عنكم عذابَ الله.
﴿ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ ﴾؛ على أعدائِكم؛ لأنَّ الله تعالى إنما ينصرُ المطيعِين.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ طَرَفَيِ ٱلنَّهَارِ ﴾؛ أي وقتَ الغَدَاةِ والعصرِ.
﴿ وَزُلَفاً مِّنَ ٱلَّيْلِ ﴾؛ أي ساعةً بعد ساعةٍ من الليل، يعني صلاةَ المغرب والعِشَاء. والزُّلْفَى جَمْعُ الزُّلْفَةِ؛ هي الساعةُ القريبة من أوَّلِ الليل. ويقالُ: إن صلاةَ الظُّهر داخلةٌ في قوله ﴿ طَرَفَيِ ٱلنَّهَارِ ﴾؛ لأنَّها لا تقامُ إلا بعدَ الزوالِ، فإذا زالتِ الشمسُ فقد دخلَ الطرفُ الآخر خُصوصاً إذا اعتبرَ النهارُ من طلوعِ الفجر. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱلْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّـيِّئَاتِ ﴾؛ أي إن الصلواتِ الخمس يُذهِبْنَ الصغائرَ، كما رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:" الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إلَى الْجُمُعَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ "وَقِيْلَ: إنَّ التوبةَ تُكَفِّرُ عقابَ السيِّئات، وَقِيْلَ: أرادَ بالحسناتِ: سُبحان الله؛ والحمدُ للهِ؛ ولا إلهَ إلا اللهُ؛ واللهُ أكبر. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ذٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّاكِرِينَ * وَٱصْبِرْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ ﴾؛ أي ذلك الخطابُ تذكيرٌ للذاكرِين الذين يذْكُرون أوامرَ اللهِ ويأخذون بها، ويذكرون نَواهِيَهُ فيجتنبون معاصيه. وعن ابنِ عبَّاس قال:" نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ عُمَرَ بْنَ عَرَفَةَ الأَنْصَاريّ، أتَتْهُ امْرَأةٌ تَبْتَاعُ تَمْراً فَأَعْجَبَتْهُ، فَقَالَ: إنَّ فِي الْبَيْتِ تَمْراً أجْودَ مِنْهُ، فانْطَلِِقِي مَعِي حَتَّى أُعْطِيكِ مِنْهُ. فَانْطَلَقَتْ مَعَهُ، فَلَمَّا دَخَلَتِ الْبَيْتَ وَثَبَ عَلَيْهَا، فَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئاً مِمَّا يَفْعَلُهُ الرَّجُلُ بالْمَرْأةِ إلاَّ وَقَدْ فَعَلَهُ، إلاَّ أنَّهُ لَمْ يُجَامِعْهَا - يَعْنِي أنَّهُ ضَمَّهَا وَقَبَّلَهَا وَحَذفَ شَهْوَتَهُ - فَقَالَتْ لَهُ: اتَّقِ اللهَ، فَتَرَكَهَا وَنَدِمَ، ثُمَّ اغْتَسَلَ وَأتَى رَسُولِ اللهِ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ رَاوَدَ امْرَأةً عَنْ نَفْسِهَا، وَلَمْ يُبْقِ شَيْئاً مِنْ مَا يَفْعَلُهُ الرَّجُلُ بالنِّسَاءِ غَيْرَ أنَّهُ لَمْ يُجَامِعْهَا؟فَقَالَ عُمَرٌ: لَقَدْ سَتَرَكَ اللهُ لَوْ سَتَرْتَ عَلَى نَفْسِكَ! وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئاً، فَقَالَ: " مَا أدْرِي، مَا أدْرِي عَلَيْكَ حَتَّى يَأْتِي فِيكَ شَيْءٌ " فَحَضَرَتْ صَلاَةُ الْعَصْرِ، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الصَّلاَةِ، نَزَلَ جِبْرِيلُ عليه السلام يُنْبؤُهُ بهَذِهِ الآيَةِ، فَقَرَأهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أخَاصٌّ لَهُ أمْ عَامٌّ؟ فَقَالَ: " بَلْ عَامٌّ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ " ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ ٱلْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ ﴾؛ أي فهَلاَّ كان مِن القرون الماضية، وَقِيْلَ: ما كان من القُرونِ من قبلِكم ذو تَمييزٍ.
﴿ يَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْفَسَادِ فِي ٱلأَرْضِ ﴾؛ عن المعاصِي؛ أي ولِمَاذا أطبَقُوا كلُّهم على المعصيةِ حتى استحَقُّوا بذلك عذابَ الاستئصالِ، والبَقِيَّةُ في اللغة: ما يُمْدَحُ به الإنسانُ، يقال: فلانٌ في بَقِيَّةٍ، وفي بني فُلان بَقِيَّةٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ ﴾؛ كانوا ينهَون عن الفسادِ، وهم الأنبياءُ عَلَيْهِمُ السَّلامُ والصالحون، فأنْجَينَاهُم من العذاب. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱتَّبَعَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ ﴾؛ أي أقبَلُوا على ما خُوِّلوا من دُنياهم، واستَغنوا بذلك عن طاعةِ الله، فلم يَنْهَوا عن الفسادِ، وعَتَوا عن أمرِ الله، وآثَرُوا الدُّنيا وبَطَرُوا.
﴿ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ ﴾؛ أي وكانوا مُذنِبين بتركِ الأمرِ بالمعروف.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴾ أي لم يكن ليُهلِكَ أهلَ القرى بظُلمٍ منهُ عليهم إذا كان أهلُها مصلحين، ولكن إنَّما كان أهلَكَهم بظُلمِهم لأنفسهم. وعن ابنِ عبَّاس رضي الله عنه أنَّ معناهُ: (مَا كَانَ لِيُهْلِكَ أهْلَ الْقُرَى بشِرْكِهِمْ وَهُمْ مُصْلِحُونَ، يَتَعَاطَوْنَ الْحَقَّ بَيْنَهُمْ، أيْ لَيْسَ مِنْ سَبيلِ الْكُفَّارِ إذا قََصَدُواْ الْحَقَّ فِي الْمُعَامَلَةِ، وَتَرْكِ الظُّلْمِ أنْ يُنْزِلَ اللهُ بهِمْ عَذاباً يُهلِكُهُمْ). والمعنى: ما كان اللهُ ليُهلِكَهم بشِرْكِهم، وهم مُصلِحون ما بينهم لا يتظالَمون ويتعاطَون الحقَّ بينهم، وإنما يهلِكُهم إذا تظَالَموا؛ لأنَّ مكافأةَ الشِّركِ النارُ؛ أي إنما يُهلِكُهم بزيادةِ المعصية على الشِّرك، كما في قومِ لُوطٍ وقومِ صالح وقومِ موسى وغيرهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾؛ أي لجعلَهم كلُّهم على دينِ الإسلام، ولكن عَلِمَ أنَّهم كلُّهم ليسوا بأهلٍ لذلك، وَقِيلَ: لو شاءَ لأَلْجَأَهُمْ إلى الإيمانِ لآمَنُوا كلُّهم ضرورةَ، ولكن لو فَعَلَ ذلك لزَالَ التكليفُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ﴾؛ أي في الدِّين على أدْيَانٍ شتَّى من يهودِيٍّ ونصرانِيٍّ ومجوسي وغيرِ ذلك. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ﴾؛ إلا مَن عَصَمَهُ اللهُ من الباطلِ والأديان المخالفَةِ بأنْ لَطَفَ به، ووفَّقَهُ للإيمان المؤدِّي إلى الثواب، فهو نَاجٍ من الاختلاف بالباطلِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلِذٰلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾؛ أي وللرَّحمةِ خلَقَهم؛ أي لكي يُؤمِنُوا فيَرحَمَهم. وَقِيْلَ: معناهُ وللاختلافِ خلَقَهم، فتكون اللامُ في هذا لامَ العاقبةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾؛ أي من كفَّار الجنِّ وكفار الإنس.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ ٱلرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ﴾؛ أي كلُّ القِصَصِ وكلُّ ما يحتاجُ إليه نبيِّنهُ لكَ من أخبار الرُّسل ما يطيبُ ويسكنُ به قلبُكَ ويزيدُكَ يَقِِيناً ويقوِّي قلبَكَ. وذلك أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان ضَاقَ صدرهُ بما يكون من أذى قومهِ في الله، فقَصصَ اللهُ عليه شيئاً من أخبار الرُّسل المقدِّمين مع أُمَمِهم لنثبتَ به فُؤادَكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَجَآءَكَ فِي هَـٰذِهِ ٱلْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ ﴾؛ أي في هذه السُّورة الصِّدق من أقاصيصِ الأنبياء وللوعظِ وذكر الجنَّة والنار. وخُصَّت هذه السورةُ بمجيءِ الحقِّ فيها تَشريفاً لها ورَفعاً لمْنزِلَتِها. وقِيْلَ: أرادَ بقولهِ ﴿ فِي هَـٰذِهِ ﴾ الدُّنيا، والموعظةُ: تعريفُ القبيحِ للزَّجرِ عنه، وتعريفُ الحسَنِ للترغيب فيه، و؛ هي؛ ﴿ وَذِكْرَىٰ ﴾؛ الذِّكرى: ﴿ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ ﴾ أي اثبتُوا على ما أنتم عليه كثباتِ الرَّجُل على مكانهِ، وهذا على وجهِ التهديد.
﴿ وَٱنْتَظِرُوۤاْ ﴾؛ ما يَعِدُكم الشيطانُ.
﴿ إِنَّا مُنتَظِرُونَ ﴾؛ ما وَعَدَ اللهُ بنا ونزول ما وعدَ الله بكم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَللَّهِ غَيْبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾؛ أي له ما غابَ عن البلادِ في السَّماوات والأرضِ.
﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ ٱلأَمْرُ كُلُّهُ ﴾؛ أمرُ العبادِ، كُلُّهُ؛ فأَطِعْهُ وفوِّضْ أمرَكَ إليه.
﴿ فَٱعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ أي يَجزِي المحسِنين بإحسانهِ، والمسيءَ بإساءَتهِ. وقرأ (يَعْمَلُونَ) بالياءِ على معنى قُل لَهم ذلك. عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قالَ:" مَنْ قَرَأَ سُورَةَ هُودٍ أُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ بعَدَدِ مَنْ صَدَّقَ نُوحاً وَهُوداً وَشُعيباً وَلُوطاً وَصَالِحاً وَإبْرَاهِيمَ وَمُوسَى، وَمَنْ كَذبَهُمْ عَشْرَ حَسَنَاتٍ، وَكَانَ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ السُّعَدَاءِ ".
Icon