تفسير سورة هود

حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
تفسير سورة سورة هود من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين .
لمؤلفه الصاوي . المتوفي سنة 1241 هـ

قوله: ﴿ كِتَابٌ ﴾ خبر المحذوف قدره المفسر بقوله: (هذا) يدل عليه قوله في آية أخرى﴿ ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ ﴾[البقرة: ٢] واسم الإشارة يصح عوده على ما ذكر في هذه السورة فقط، أو على جميع القرآن، وتقدم ذلك. قوله: ﴿ أُحْكِمَتْ ﴾ صفة لكتاب، إما من الأحكام أي الإتقان، ففعله متعد، والمعنى أتقنت آياته لفظاً ومعنى، فلا يحيط بمعنى آيات القرآن غيره تعالى، ولم يوجد تركيب بديع الصنع عديم النظير نظير القرآن، أو الهمزة للنقل من حكم بضم الكاف، بمعنى جعلت حكمية. قوله: ﴿ ثُمَّ فُصِّلَتْ ﴾ يحتمل أن ثم لمجرد الإخبار، والمعنى أخبرنا الله بأن القرآن محكم أحسن الإحكام، مفصل أحسن التفصيل، كما تقول: فلان كريم الأصل، ثم كريم الفعل، ويحتمل أنها للترتيب الزماني بحسب النزول لأنها أحكمت أولاً حين نزلت جملة واحدة، ثم فصلت ثانياً، بحسب الوقائع. قوله: ﴿ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴾ صفة ثانية لكتاب، وفيه طباق حسن، لأن حكيم يناسب أحكمت، وخبير يناسب فصلت، ويصح أن يكون من باب التنازع، أعمل الأول وهو أحكمت، وأضمر في الثاني وحذف، والأحسن الأول. قوله: ﴿ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ ﴾ الأحسن أن ﴿ أَنْ ﴾ تفسيرية لوجود ضابطها، وهو تقدم جملة فيها معنى القول دون حروفه، وهو قوله: ﴿ ثُمَّ فُصِّلَتْ ﴾.
قوله: ﴿ مِّنْهُ ﴾ يصح عود الضمير على الله، أو على الكتاب. قوله: (إن كفرتم) أي دمتم على الكفر. قوله: ﴿ وَأَنِ ٱسْتَغْفِرُواْ ﴾ عطف على قوله: ﴿ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ ﴾ والسين والتاء للطلب، والمعنى اسألوه الغفران لذنوبكم فيما مضى، وقوله: ﴿ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ ﴾ أي في المستقبل، لأن شرط التوبة الندم على ما فات، والإقلاع في الحال، والعزم على عدم العود في المستقبل، فلا يقال: إن الاستغفار هو التوبة، بل بينهما التغاير. قوله: ﴿ يُمَتِّعْكُمْ ﴾ جواب الأمر. قوله: (بطيب عيش) أي في لأمن وراحة ورضا، فمن تاب في ذنوبه وأخلص عبارة ربه عاش في أمن وراحة ورضا، وإن ضيقت عليه الدنيا، فهي رفع درجات له، بوجود رضا الله عليه، ومن لم يتب وأصر على المعاصي والكفر، عاش في خوف ونصب وسخط، وإن وسعت عليه ملاذ الدنيا، ألا لا خير في عيش بعده النار، وحينئذ فلا ينافي هذا، كون الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر. قوله: (فيه حذف إحدى التاءين) أي والأصل تتولوا. قوله: (أي تعرضوا) أي عن الأوامر والنواهي، وتدوموا على الكفر، وجواب الشرط محذوف، والتقدير فلا تلوموا إلا أنفسكم، وقوله: ﴿ فَإِنِّيۤ أَخَافُ ﴾ إلخ تعليل للجواب المحذوف. قوله: ﴿ إِلَى ٱللَّهِ مَرْجِعُكُمْ ﴾ أي فلا مفر لكم منه. قوله: (ومنه الثواب) أي من الشيء المقدور عليه. قوله: (فيمن كان يستحي) أي من المسلمين. قوله: (أن يتخلى) أي يقضي حاجته من البول والغائط. قوله: (فيفضي) معطوف على (يتخلى) وتنزيل الآية على حكم هذا القول، باعتبار تعليم التوحيد والمراقبة، كأن الله يقول لهم: لا تظنوا أن تغطيتكم تحجبكم عن الله، بل الله يعلم ما تسرون وما تعلنون، فلا ينافي أن التغطية عند التخلي والجماع مندوبة، وليس المراد ذمهم على هذا الفعل، إذ هو مطلوب حياء من الله والجن والملائكة. قوله: (وقيل في المننافقين) قال ابن عباس: نزلت في الأخنس بن شريق في منافقي مكة، وكان رجلاً طلق الكلام، حلو المنظر، وكان يلقى رسول الله بما يحب، وينطوي بقلبه على ما يكره، وقيل: كان الرجل من الكفار، يدخل بيته، ويرخي ستره، ويحني ظهره، ويستغشي بثوبه، ويقول الكفر، ويظن أن الله لا يعلمه في تلك الحالة.
قوله: ﴿ أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ ﴾ من الثني وهو طي الشيء ليكون مستوراً، فالمراد يعطفون صدورهم على ما فيها من الكفر ليكون مخفياً مستوراً وأصله يثنون، نقلت ضمة الياء إلى ما قبلها، ثم حذفت الياء لالتقائها ساكنة مع الواو، وهذا المعنى على أن سبب النزول في المنافقين، وأما على أنه فيمن يستحي، حال قضاء الحاجة والجماع، فالمراد بثني الصدر، انحناؤه بظهره حال قضاء الحاجة، وتغطيته بثوبه حين قضاء الحاجة والجماع فتأمل. قوله: ﴿ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ ﴾ هذا هو علة ثني الصدر على ما فيه. قوله: ﴿ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ ﴾ أي يأوون إلى فراشهم ويرتدون ثيابهم. قوله: ﴿ مَا يُسِرُّونَ ﴾ أي في قلوبهم وقوله: ﴿ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾ أي بأفواههم. قوله: (أي بما في القلوب) أي فالمراد بالصدور والقلوب وما فيها هو الخواطر، فأطلق المحل وأريد الحال فيه. قوله: (وما من دابة) النكرة في سياق النفي تعم، فدخلت جميع الدواب عاقلة وغير عاقلة. قوله: (وهي ما دب عليها) أي مشى وسار. قوله: ﴿ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا ﴾ ليس المراد أن ذلك واجب عليه، تنزه وسبحانه وتعالى، بل المراد أنه التزم به وتكفل به التزاماً لا يتخلف، ففي الحقيقة على بمعنى من، إنما التعبير بعلى، ليزداد العبد ثقة بربه توكلاً عليه، وإن أخذ في الأسباب فلا يعتمد عليها، بل يثق بالله ويعتمد عليه، وليكن أخذه في الأسباب امتثالاً لأمره تعالى، لأن الله يكره العبد البطال، وخص دواب الأرض بالذكر، لأنهم المحتاجون للأرزاق، وأما دواب السماء، كالملائكة والحور العين، فليسوا محتاجين لذلك، بل قوتهم التسبيح والتهليل. قوله: ﴿ وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ﴾ أتى بذلك دفعاً لما يتوهم من كونه متكفلاً لكل دابة في الأرض برزقها، أنه ربما يخفى عليه بعض أماكن تلك الدواب، فدفع ذلك التوهم بأنه يعلم مكان كل دابة، فلا تخفى عليه خافية، والمعنى أنه أحاط علمه بمكان كل دابة وزمانها. قوله: (بعد الموت) أي وهو القبر. قوله: ﴿ كُلٌّ ﴾ (مما ذكر) أي من الدابة ورزقها ومستقرها ومستودعها، فاللوح المحفوظ، أحاط بجميع أرزاق الدواب وأمكنتها وأزمنتها وأحوالها، وهذا من باهر قدرته تعالى، لزيادة طمأنينة العبيد، ومراجعة الملائكة الموكلين بالأرزاق، لا خوفاً من نسيانه، إذ هو مستحيل عليه.
قوله: ﴿ وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَق ٱلسَّمَٰوَٰتِ ﴾ هذا بيان لكونه قادراً على جميع الممكنات، وما تقدم بيان لكونه عالماً بالمعلومات كلها. قوله: ﴿ وَٱلأَرْضَ ﴾ أي وما فيها من الأقوات والحيوانات وغير ذلك، والكلام على التوزيع، إذ خلق السموات في يومين، والأرض في يومين، والأقوات في يومين، كما يأتي في سورة فصلت. قوله: (أولها الأحد) تقدم أن هذا مشكل، لأنه لم يكن ثم زمان فضلاً عن تفصيله أياماً، فضلاً عن تخصيص كل يوم باسم، وتقدم الجواب عنه، بأن ذلك باعتبار ما تعلق به علمه سبحانه وتعالى، لأن كل شيء كان أو يكون، فهو في علمه على ما هو عليه، فالمعنى أولها الأحد الذي علم الله أنه يكون. قوله: ﴿ عَلَى ٱلْمَآءِ ﴾ أي لم يكن بينهما حائل، بل هو في مكانه الذي هو فيه الآن، وهو ما فوق السماوات السبع، والماء في المكان الذي هو فيه الآن، وهو تحت الأرضين السبع، وذلك أن أول ما خلق الله النور المحمدي، ثم خلق منه العرش، ونشأ الماء من عرق العرش، فخلق الله منه الأرضين والسماوات فالأرضون من زبده، والسماوات من دخانه. قوله: (ليختبركم) أي ليتميز المحسن من المسيء بتلك النعم، فمن شكر فهو المحسن، ومن كفر فهو المسيء، والمعنى ليظهر بين الناس المطيع فيثيبه في الآخرة على طاعته، والعاصي فيعاقبه في الآخرة على عصيانه. قوله: ﴿ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة في محل نصب معمولة ﴿ لِيَبْلُوَكُمْ ﴾ علق عنها بالاستفهام. قوله: ﴿ وَلَئِن قُلْتَ ﴾ اللام موطئة لقسم محذوف، وإن حرف شرط، وقوله: ﴿ لَيَقُولَنَّ ﴾ جواب القسم، وحذف جواب الشرط لتأخره، قال ابن مالك: واحذف لدى اجتماع شرط وقسم   جواب ما أخرت فهو ملتزموكذا يقال فيما بعده. قوله: ﴿ إِلاَّ سِحْرٌ ﴾ أي كالسحر، فالكلام على التشبيه البليغ، من حيث إنه كلام مزين الظاهر، فاسد الباطن، قوله: (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضاً. قوله: ﴿ وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ ٱلْعَذَابَ ﴾ أي الذي استعجلوه. قوله: ﴿ إِلَىٰ أُمَّةٍ ﴾ أي طائفة من الأزمنة. قوله: (معدودة) أي قليلة. قوله: ﴿ لَّيَقُولُنَّ ﴾ الفعل مرفوع بالنون المحذوفة لتوالي الأمثال، والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين فاعله، وأعرب مع وجود نون التأكيد ولم يبن، لأن نون التوكيد تباشره، إذ الأصل ليقولونن حذفت نون الرفع لتوالي الأمثال، فالتقى ساكنان، حذفت الواو لالتقائهما والمحذوف لعلة كالثابت، وهذا بخلاف ليقولن المتقدم، فإنه مبني لمباشرة النون في اللفظ والتقدير. قوله: ﴿ مَا يَحْبِسُهُ ﴾ أي أي شيء يمنعه من النزول؟ وهذا الاستفهام على سبيل السخرية. قوله: ﴿ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ ﴾ ﴿ أَلاَ ﴾ أداة افتتاح، داخلة على ليس في المعنى، و ﴿ يَوْمَ ﴾ معمول لخبر ليس، واسمها ضمير فيهل يعود على العذاب، وكذلك فاعل ﴿ يَأْتِيهِمْ ﴾ ضمير يعود على العذاب، والتقدير ألا ليس هو أي العذاب، مصروفاً عنهم يوم يأتيهم العذاب، ففي هذه الآية تقدم معمول خبر ليس عليها. قوله: (من العذاب) بيان لما.
قوله: ﴿ ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ ﴾ أي أخذناه قهراً. قوله: (قنوط) أي لقلة صبره وعدم رجائه في ربه. قوله: ﴿ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ ٱلسَّيِّئَاتُ عَنِّيۤ ﴾ أي على حسب عادة الدهر، ولا ينظر لفضل الله في ذلك، فهو مغضوب عليه على كل حال. قوله: ﴿ إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ ﴾ مستثنى من قوله: ﴿ وَلَئِنْ أَذَقْنَا ٱلإِنْسَانَ ﴾ إلخ، وقد أشار المفسر، إلى أن هذا الاستثناء منقطع، حيث عبر بلكن، ويصح أن يكون متصلاً، باعتبار أن المراد بالإنسان الجنس لا واحد بعينه. قوله: ﴿ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ ﴾ أي لذنوبهم. قوله: ﴿ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾ أي عظيم مدخولهم في الآخرة. قوله: ﴿ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ ﴾ لعل تأتي للترجي في الأمر المحبوب، كما تقول: لعل الحبيب قادم، وتأتي للتوقع في الأمر المكروه، كما تقول: لعل العدو قادم، والآية من هذا الثاني، غير أن التوقع ليس على بابه، إذ مستحيل على رسول الله كتم بعض ما أمر بتبليغه والعزم على ذلك، بل المقصود منه الاستفهام الإنكاري، والتحضيض على التبليغ، مع عدم المبالاة بمن عاداه، كأن الله يقول لنبيه: بلغ ما أمرت به، ولو كره المشركون ذلك، ولا تترك التبليغ محافظة على عدم استهزائهم، وذلك أن رسول الله، كان إذا قرأ آية فيها سب المشركين وآلهتهم، نفروا وقالوا: أئت بقرآن غير هذا أو بدله، ونحن نتبعك، فرد الله عليهم ذلك، حيث حضه على التبليغ، ونهاه عن الكتم. قوله: ﴿ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ ﴾ أي وهو ما فيه سب آلهتهم. قوله: ﴿ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ ﴾ أي لا يكن منك ضيق صدر، بسبب استهزاء الكفار بك، فإن الله حافظك وناصرك عليهم وخاذلهم. ﴿ أَن يَقُولُواْ ﴾ أي فقد قالوا: إن كنت صادقاً في الرسالة من عند الله الذي تصفه بالقدرة التامة، وأنك حبيبه وعزيز عنده، مع أنك فقير، فهلا أنزل عليك ما تستغني بذلك أنت وأصحابك؟ وهلا أنزل عليك ملك يشهد لك بالرسالة؟ قوله: ﴿ كَنزٌ ﴾ أي مال كثير، وسمي بذلك لأن شأنه أن يكنز. قوله: (فلا عليك إلا البلاغ) أي فلا تبال بقولهم، ولا تغنم منهم. قوله: (حفيظ) أي فيحفظك ويجازيهم.
قوله: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ ﴾ ﴿ أَمْ ﴾ منقطعة بمعنى بل والهمزة، والإضراب انتقالي، والهمزة للتوبيخ والإنكار والتعجب. قوله: ﴿ ٱفْتَرَاهُ ﴾ أي اختلقه من عند نفسه. قوله: ﴿ قُلْ فَأْتُواْ ﴾ إلخ رد لما قالوه، والمعنى أنكم عربيون مثلي، فائتوا بكلام مثل هذا الكلام الذي جئت به، فإنكم تقدرون على ذلك، بل أنتم أقدر مني، لممارستكم الأشعار والوقائع. قوله: ﴿ مِّثْلِهِ ﴾ نعت لسور، وإن كان بلفظ الإفراد، فإنه يوصف به: المثنى والجمع والمذكر والمؤنث. قوله: (تحداهم بها أولاً) أي بعد أن تحداهم بجميع القرآن كما في سورة الإسراء، قال تعالى:﴿ قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنْسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾[الإسراء: ٨٨] الآية، ثم تحداهم بعشر سور كما هنا، ثم بسورة كما في البقرة ويونس فالإسراء قبل هود نزولاً ثم هود ثم يونس ثم البقرة. قوله: (على) أي الإتيان. قوله: (أي غيره) أي من الأصنام أو من جميع المخلوقات. قوله: ﴿ فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ ﴾ أي أيها المشركون، وقوله: (أي من دعوتموهم) تفسير للواو في ﴿ يَسْتَجِيبُواْ ﴾.
قوله: ﴿ بِعِلْمِ ٱللَّهِ ﴾ أي فكما أن علمه لا يشابهه علم، كذلك كلامه لا يشابه كلام، لأن الكلام على حسب علم المتكلم، فكلما كان المتكلم متسع العلم، كان كلامه فصيحاً بليغاً، ولا أوسع من علم الله، لأنه أحاط بكل شيء علماً. قوله: (مخففة) أي واسمها ضمير الشأن. قوله: (أي اسلموا) أي فهو استفهام فيه معنى الطلب، لزوال العذر المانع من ذلك.
قوله: ﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا ﴾ اختلف في سبب نزولها، فقيل في اليهود والنصارى، وقيل في المنافقين الذين كانوا يطلبون بغزوهم مع رسول الله الغنائم، لأنهم كانوا لا يرجون ثواب الآخرة، وقيل في المرائين، والحمل على العموم أولى، فيندرج فيه الكافر والمنافق والمؤمن، الذي يأتي بالطاعات على وجه الرياء والسمعة. قوله: ﴿ وَزِينَتَهَا ﴾ أي ما يتزين به فيها، من الصحة والأمن والسعة والرياسة، وغير ذلك. قوله: (بأن أصروا على الشرك) هذا شامل للقولين المتقدمين. قوله: (وقيل هي في المرائين) أي ومعنى قوله: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ إِلاَّ ٱلنَّارُ ﴾ أي ابتداء، ثم بعد استيفاء ما عليه يخرج منها، ويدل على أن له هذا الوعيد الشديد ما روي،" يقول الله: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته وشركه "، وهذا القول اختاره البيضاوي لحديث:" يقال لأهل الرياء: حججتم وصليتم وتصدقتم وجاهدتم وقرأتم ليقال ذلك، فقد قيل ذلك، ثم قال: إن هؤلاء أول من تسعر بهم النار "رواه أبو هريرة ثم بكى بكاء شديداً، ثم قال: صدق رسول الله ﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا ﴾ إلخ. قوله: ﴿ نُوَفِّ ﴾ بالنون مبنياً للفاعل وفيه ضمير يعود على الله، وبالياء مبنياً للمفعول وَ ﴿ أَعْمَالَهُمْ ﴾ بالرفع نائب فاعل، والفاء مشددة على كل حال قراءتان: الأولى سبعية، والثانية شاذة. قوله: (أي جزاء ما عملوه) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف. قوله: (بأن نوسع عليهم رزقهم) أي فهذا جزاء أعمالهم الحسنة في الدنيا، وأما في الآخرة فليس لهم في نظير ذلك شيء، قال تعالى:﴿ وَقَدِمْنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً ﴾[الفرقان: ٢٣] فجزاء الآخرة بالجنة ونعيمها مخصوص إلا العذاب، قال تعالى﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ ﴾[الشورى: ٢٠].
قوله: ﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا ﴾ أي في الدنيا من الخيرات.
قوله: ﴿ أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ ﴾ لما تقدم ذكر أوصاف أهل الدنيا الغافلين عن الآخرة وعاقبة أمرهم ذكر أوصاف أهل الآخرة، الذين يريدون بأعمالهم وجه ربهم، واسم الموصول مبتدأ خبره محذوف، قدره المفسر فيما يأتي بقوله: (كمن ليس كذلك) جواب الاستفهام محذوف قدره بقوله: (لا) وقد صرح بهذين المحذوفين في قوله تعالى:﴿ أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ ﴾[السجدة: ١٨].
(بيان) أي نور واضح ودليل ظاهر، وذلك نظير قوله تعالى:﴿ أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ ﴾[الزمر: ٢٢].
قوله: (وهو النبي) أي وعليه فالجمع للتعظيم في قوله: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾، وقوله: (أو المؤمنون) والجمع فيها ظاهر، وفي نسخة والمؤمنون، وهي ظاهرة. قوله: (وهو القرآن) تفسير للبينة، وقد أخذ هذا التفسير مما يأتي في سورة البينة في قوله تعالى:﴿ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ ٱلْبَيِّنَةُ * رَسُولٌ مِّنَ ٱللَّهِ يَتْلُواْ صُحُفاً مُّطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ﴾[البينة: ١-٣].
قوله: ﴿ وَيَتْلُوهُ ﴾ الضمير عائد على من. قوله: (وهو جبريل) تفسير للشاهد، والمعنى من كان متمسكاً بالحق، والحال أنه يتبعه شاهد من الله يصدقه على ذلك وهو جبريل، لأنه مقوي ومصدق للرسول، ويصح أن يكون المراد بالشاهد معجزات القرآن، والضمير في ﴿ مِّنْهُ ﴾ إما عائد على الله أو على القرآن، والمعنى على هذا، ويتبعه شاهد يشهد بكونه من عند الله وهو الإعجاز في نظمه واشتماله على عجائب المغيبات في معناه، فلا يستطيع أحد أن يأتي بمثله، كلاً أو بعضاً ويصح أن يراد بالشاهد، المعجزات الظاهرة على يد رسول الله مطلقاً. قوله: ﴿ وَمِن قَبْلِهِ ﴾ الجار والمجرور حال من كتاب موسى، الواقع معطوفاً على شاهد. قوله: (شاهد له أيضاً) الأوضح أن يقول يتلوه أيضاً، إذ هو المسلط عليه. قوله: ﴿ إِمَاماً ﴾ أي مقتدى به. قوله: ﴿ وَرَحْمَةً ﴾ أي إحساناً ولطفاً لمن أنزل إليهم. قوله: (أي من كان على بينة من ربه) أشار بذلك إلى أن اسم الإشارة عائد على قوله: ﴿ أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ ﴾.
قوله: ﴿ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ ﴾ اسم الموصول راجع لقوله: (كمن ليس كذلك) فهو لف ونشر مرتب. قوله: ﴿ فَلاَ تَكُ ﴾ أصله تكون، دخل الجازم فسكنت النون فالتقى ساكنان، حذفت الواو لالتقائهما، وحذفت النون تخفيفاً. قوله: ﴿ فِي مِرْيَةٍ ﴾ بكسر الميم باتفاق السبعة، وقرىء شذوذاً بضمها وهي لغة قليلة، وهو خطاب للنبي والمراد غيره. قوله: ﴿ إِنَّهُ ٱلْحَقُّ ﴾ أي الثابت والذي لا محيص عنه. قوله: ﴿ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ ﴾ يفيد أن الأقل مؤمن، وهو كذلك في كل زمن إلى يوم القيامة، وإنما خص المفسر أهل مكة، لكون أصل الخطاب لهم. قوله: (أي لا أحد) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي، وهذا شروع في ذكر أوصافهم، وقد ذكر منها هنا أربعة عشر وصفاً أولها قوله: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ ﴾ وآخرها قوله:﴿ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ هُمُ ٱلأَخْسَرُونَ ﴾[هود: ٢٢].
قوله: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمْ ﴾ أي عرض فضيحة وهتك ستر. قوله: (وهم الملائكة) أي والنبيون والأصفياء. قوله: ﴿ أَلاَ لَعْنَةُ ٱللَّهِ ﴾ هذا من كلام الله تعالى لهم يوم القيامة، فيطردون بذلك عن الرحمة الصالحة في الآخرة، وليس المراد أنهم يطردون عن رحمة الدنيا. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾ أي يمنعون الناس عن الدخول في دين الإسلام، والمعنى أنهم كما ضلوا في أنفسهم، يضلون غيرهم. قوله: ﴿ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً ﴾ أي ينسبونها للاعوجاج، والحال أنه قائم بقلوبهم. قوله: ﴿ أُولَـٰئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ ﴾ أي فارين من عذاب الله، لأن الله وإن أمهلهم لا يهملهم. قوله: ﴿ مِنْ أَوْلِيَآءَ ﴾ من زائدة في اسم كان، والمعنى ليس لهم أنصار من غير الله، يمنعون عذاب الله عنهم. قوله: (بإضلالهم غيرهم) أشار بذلك إلى جواب سؤال، وأراد على الآية. وحاصله، أن المضاعفة مخصوصة بالحسنات، وأما السيئات فلا تضاعف. قال تعالى:﴿ وَمَن جَآءَ بِٱلسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَىۤ إِلاَّ مِثْلَهَا ﴾[الأنعام: ١٦٠] فأجاب المفسر: بأن معنى المضاعفة الشدة، لأنهم يعذبون عذابين، عذاباً على ضلالهم في أنفسهم، وعذاباً في إضلالهم غيرهم. قوله: ﴿ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ ٱلسَّمْعَ ﴾ أي لم يقبلوه لوجود الحجاب على قلوبهم. قوله: ﴿ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ ﴾ أي لم يقدروا على ذلك.
قوله: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ ﴾ أي الذين لا يستطيعون السمع ولا الإبصار. قوله: (من دعوى الشريك) بيان لما. قوله: ﴿ لاَ جَرَمَ ﴾ اختلف العلماء في معنى لا جرم، على ثلاثة أوجه، ، أولها: أن لا نافية لأماني الكفار، وجرم فعل ماض بمعنى حق وثبت، وقوله: ﴿ أَنَّهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ هُمُ ٱلأَخْسَرُونَ ﴾ الجملة في محل رفع فاعل بجرم، ويصير المعنى لا عبرة بأمانيهم بل حق، وثبت خسرانهم في الآخرة، وهذا الوجه أحسنها. ثانيها: أن لا كذلك، وجرم بمعنى كسب، وأن وما دخلت عليه، في تأويل مصدر مفعوله، والفاعل ما دل عليه السياق، والمعنى ما كسب لهم كفرهم وأمنياتهم إلا خسرانهم في الآخرة. ثالثها: أن لا جرم بمعنى لا بد، أي لا بد أنهم في الآخرة هم الأخسرون، فلا نافية للجنس وجرم اسمها مبني معها على الفتح، وجملة أنهم في محل رفع خبرها إذا علمت ذلك، فقول المفسر حقاً لم يوافق واحداً من هذه الثلاثة، إلا أن يقال إنه مر على الأول، ويكون حقاً مفعولاً مطلقاً لفعل محذوف، والتقدير حق حقاً، وقد وردت هذه اللفظة في القرآن في خمسة مواضع، ويقال في كل واحد منها ما قيل هنا. قوله: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ لما ذكر الله أحوال الكفار، وما آل إليه أمرهم، أتبعهم بذكر المؤمنين، وما آل إليه أمرهم. قوله: ﴿ وَأَخْبَتُوۤاْ ﴾ من الإخبات وهو الخشوع والخضوع، ويتعدى باللام وإلى، فإن عدى باللام، فمعناه خشع وخضع، وإن عدى بإلى، فمعناه اطمأن وسكن، وقد اقتصر المفسر على هذا الثاني. قوله: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلجَنَّةِ ﴾ التعبير بأصحاب، إشارة إلى أن أهل الجنة، مالكون لمنازلها ملكاً لا يحول ولا يزول. قوله: ﴿ مَثَلُ ٱلْفَرِيقَيْنِ ﴾ لما ذكر أحوال الكفار، وما هم عليه من الصمم والعمى عن اتباع الحق، وذكر أحوال المؤمنين، وما هم عليه من التبصر وسماع الحق واتباعه، أتبع ذلك بذكر مثل لكل فريق. قوله: ﴿ كَٱلأَعْمَىٰ وَٱلأَصَمِّ ﴾ هذا كناية عن كون الله سلبهم الانتفاع بالحق لسبق شقاوتهم في علم الله، والمراد من الأعمى والأصم ذات واحدة اتصفت بهذين الوصفين، فإنه هو الذي لا يقبل الهدى لمقصوده بأي وجه كان، ومثل ذلك يقال في نظيره، وهو البصير والسميع. قوله: ﴿ مَثَلاً ﴾ تمييز محول عن الفاعل، والأصل هل يستوي مثلهما. قوله: (لا) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري. قوله: ﴿ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ﴾ الهمزة داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أعميتم وتركتم الهدى فلا تذكرون، فهو خطاب للمشركين الذين كانوا في زمنه صلى الله عليه وسلم. قوله: (فيه إدغام لتاء) إلخ، أي والأصل تتذكرون، أبدلت التاء الثانية ذالاً، وأدغمت في الذال، وفي قراءة سبعية بحذف إحدى التاءين تخفيفاً.
قوله: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً ﴾ جرت عادة الله في كتابه العزيز، أنه إذا أقام الحجج على الكفار، ووبخهم وضرب لهم الأمثال، يذكر لهم بعض قصص الأنبياء المتقدمين وأممهم، لعلهم يهتدون، وفي هذه السورة سبع قصص، الأولى: قصة نوح مع قومه، الثانية: قصة هود مع قومه. الثالثة: قصة صالح مع قومه. الرابعة: قصة إبراهيم مع الملائكة. الخامسة: قصة لوط مع قومه. السادسة: قصة شعيب مع قومه. السابعة: قصة موسى مع فرعون. وذكر هذه القصص على حسب الترتيب الزماني، وتقدم أن نوحاً اسمه عبد الغفار، ونوح لقبه، سمي بذلم لكثرة نوحه، لما ورد أنه رأى كلباً مجذوماً فقال له: إخسأ يا قبيح، فأوحى الله إليه أعبتني أم عبت الكلب، فكان ذلك عتاباً له، فاستمر ينوح صلى الله عليه وسلم على نفسه، فسمي بذلك. قوله: (أي بأني) أ الفتح، على إضمار حرف الجر. قوله: (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضاً. قوله: (على حذف القول) أي ومتى وقعت إن بعد القول كسرت. قوله: أشار بذلك إلى أن قراءة الفتح، على إضمار حرف الجر. قوله: (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضاً. قوله: (على حذف القول) أي ومتى وقعت إن بعد القول كسرت. قوله: ﴿ مُّبِينٌ ﴾ أي بيَّن الإنذار وواضحه. قوله: ﴿ إِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ ﴾ هذا في قول التعليل لقوله: ﴿ أَن لاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ ٱللَّهَ ﴾.
قوله: ﴿ أَلِيمٍ ﴾ صفة لليوم، وأسنده له مبالغة على سبيل المجاز العقلي، وحق الإسناد للعذاب. قوله: ﴿ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا ﴾ أعلم أنهم احتجوا عليه بثلاث حجج، أولها قوله: ﴿ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا ﴾ وآخرها قوله: ﴿ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ﴾ وقد أجابهم عنها إجمالاً بقوله:﴿ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيۤ ﴾[هود: ٢٨] إلخ. وتفصيلاً بقوله:﴿ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ ٱللَّهِ ﴾[هود: ٣١] الخ. قوله: ﴿ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا ﴾ أي آدمياً مثلنا. قوله: (ولا فضل علينا) أي لا مزية لك علينا، وهذا من فرط جهلهم، استعبدوا فضل الله على البشر، وظنوا أن الرسل لا يكونون إلا من الملائكة. قوله: ﴿ أَرَاذِلُنَا ﴾ إما جمع الجمع فهو جمع أرذل بضم الذال جمع رذل بسكونها، ككلب وأكلب وأكالب، أو جمع المفرد وهو أرذل، كأكبر وأكابر وأبطح وأباطح. قوله: (كالحاكة) جمع حائك وهو القزاز. قوله: (والأساكفة) جمع إسكاف وهو صانع النعال، وهذه عادة الله في الأنبياء والأولياء، أن أول من يتبعهم ضعفاء الناس لذلهم، فلا يتكبرن عن الإتباع. قوله: (بالهمز وتركه) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (من غير تفكر فيك) أي ولو تفكروا لما اتبعوك. قوله: ﴿ مِن فَضْلٍ ﴾ أي مزية من مال وغيره. قوله: (في الخطاب) أي في قوله: وما نرى لكم بل نظنكم.
قوله: ﴿ قَالَ يٰقَوْمِ ﴾ هذا خطاب في غاية التلطف بهم. قوله: (بيان) أي حجة وبرهان. قوله: ﴿ فَعُمِّيَتْ ﴾ أي النبوة أي خفيت عليكم. قوله: (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضاً. قوله: (والبناء للمفعول) أي والأصل أعماها الله عليكم أي أخفاها، فأطلق العمى وأريد لازمه وهو الخفاء، لأن الأعمى عليه الأشياء، فلا يهتدي ولا يهدي غيره، قوله: (أجبركم على قبولها) أي لا قدرة لنا على إلزامكم إياها، والحال أنكم كارهون لها، بل الإيمان إنما هو بالرضا والتسليم الباطني، والمعنى أخبروني إن كنت على حجة ظاهرة من ربي وأعطاني نبوة من عنده، فأخفاها عليكم، أأجبركم على قبولها والإيمان بها، والحال أنكم كارهون منكرون لها، لا أستطيع ذلك، بل لا قدرة لي إلا على البلاغ. قوله: ﴿ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ ﴾ أي فهو المتكفل لي بالثواب والعطايا. قوله: (كما أمرتموني) أي فقد قالوا لي: امنع واطرد هؤلاء الأسافلة عنك ونحن نتبعك، فإنا نستحي أن نجلس معهم في مجلسك، وهذا كما قالت قريش لمحمد صلى الله عليه وسلم كما في سورة الأنعام، فنزل رداً عليهم﴿ وَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ﴾[الأنعام: ٥٢] الآية. قوله: (فيجازيهم) أي على ما قدموا من الأعمال الصالحة. قوله: ﴿ تَجْهَلُونَ ﴾ أي لا تحسنون خطاباً. قوله: (أي لا ناصر لي) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري. قوله: ﴿ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ﴾ الهمزة داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير أتأمروني بطردهم أفلا تذكرون. قوله: ﴿ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ ٱللَّهِ ﴾ هذا رد لقولهم:﴿ وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ ﴾[هود: ٢٧] والمراد بخزائن الله، مغيباته التي لا يعلمها ولا يطلع عليها إلا هو. قوله: ﴿ وَلاَ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ ﴾ رد لقولهم:﴿ وَمَا نَرَاكَ ٱتَّبَعَكَ ﴾[هود: ٢٧] إلخ، والمعنى ما قلت لكم إني أعلم الغيب فأطلع على بواطنكم. قوله: ﴿ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ ﴾ رد لقولهم:﴿ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا ﴾[هود: ٢٧].
قوله: ﴿ تَزْدَرِيۤ ﴾ أصله تزتري فقلبت تاء الافتعال دالاً. قوله: ﴿ لَن يُؤْتِيَهُمُ ٱللَّهُ خَيْراً ﴾ أي توفيقاً وهدى. قوله: ﴿ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِيۤ أَنْفُسِهِمْ ﴾ أي من إيمان وكفر. قوله: ﴿ قَدْ جَادَلْتَنَا ﴾ أي شرعت في جدالنا. قوله: (به) قدره إشارة إلى أن عائد الموصول محذوف، ويصح أن تكون ما مصدرية، والمعنى بوعدك إيانا. قوله: (فيه) أي في الوعد. قوله: (تعجيله) إشارة بذلك إلى أن مفعول شاء محذوف. قوله: (بفائتين الله) أي بفارين من عذابه. قوله: (وجواب الشرط) أي الأول، وهذا مرور على مذهب البصريين القائلين: إن جواب الشرط لا يتقدم عليه، وجوزه الكوفيون، وحينئذ يكون تقدير الكلام: إن كان الله يريد أن يغويكم، فإن أردت أن أنصح لكم فلا ينفعكم نصحي، وذلك لأن القاعدة إذا اجتمع في الكلام شرطان، وجواب يجعل الجواب للثاني، والشرط الثاني وجوابه، جواباً عن الأول. قوله: (أي كفار مكة) هذا أحد قولين، والثاني وعليه أكثر المفسرين، أن هذه الآية من جملة قصة نوح. ويكون الضمير في ﴿ ٱفْتَرَاهُ ﴾ عائداً على الوحي الذي جاءهم به نوح. قوله: (أي عقوبته) أشار بذلك إلى الكلام على حذف مضاف.
قوله: ﴿ وَأُوحِيَ ﴾ الجمهور على أنه مبني للمفعول، وأنه بالفتح في تأويل مصدر نائب فاعل، وقرىء شذوذاً بالبناء للفاعل، وأنه بالكسر، إما على إضمار القول: أي أوحى الله إلى نوح قائلاً له إنه إلخ، أو بتضمين الإيحاء معنى القول. قوله: ﴿ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ ﴾ أي لن يستمر على الإيمان إلا من ثبت إيمانه وحصل، فاندفع ما يقال إن فيه تحصيل الحاصل. قوله: (فدعا عليهم) أي بعد اليأس من إيمانهم، وحصول غاية المشقة له منهم، فكانوا يضربونه حتى يسقط، فيلقونه في اللبد ويلقونه في بيت يظنون موته، فيخرج في اليوم الثاني، ويدعوهم إلى الله تعالى، وكانوا يخنقونه حتى يغشى عليه، فإذا أفاق قال: رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون، وكان الوالد منهم يوصي أولاده بعدم اتباعه ويقول: قد كان هذا الشيخ مع آبائنا وأجدادنا هكذا مجنوناً، فلا يقبلون منه شيئاً. فلما أوحي إليه بعدم إيمانهم دعا عليهم كما قال المفسر.
قوله: ﴿ وَٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ ﴾ يطلق مفرداً وجمعاً، والمراد هنا المفرد، وكان طولها ثمانين ذراعاً، وعرضها خمسين، وطولها لجهة العلو ثلاثين ذراعاً والذراع إلى المنكب، وهذا أشهر الروايات، وقيل كان طولها ألفاً ومائتي ذراع، وعرضها ستمائة ذراع، وقيل غير ذلك، جعلها ثلاث طبقات، فالسفلى للوحوش والسباع والهوام، وفي الوسطى الدواب والأنعام، وركب هو ومن معه في العليا، وقيل السفلى للدواب والوحوش، والوسطى للإنس والعليا للطير، وأول ما حمله نوح الدرة، وآخر ما حمل الحمار، فلما أراد أن يدخل الحمار، أدخل صدره فتعلق إبليس بذنبه، فاستثقل رجلاه، وجعل نوح يقول: ويحك ادخل، فينهض فلا يستطيع حتى قال له: ادخل ولو كان الشيطان معك فدخ، فقال له نوح: ما أدخلك علي يا عدو الله؟ قال: ألم تقل ادخل وإن كان الشيطان معك؟ قال: اخرج عني يا عدو الله، قال: لا بد أن تحملني معك، هكذا قيل، وقيل إنه لم يحمله معه في السفينة وهو الصحيح، لأنه لم يثبت في حمله خبر صحيح، ومكث في صنع السفينة مائتي سنة، مائة في غرس الأشجار، ومائة في عملها وهي من خشب الساج. قوله: (بمرأى منا وحفظنا) دفع بذلك ما يقال إن ظاهره مستحيل لاستحالة الأعين، بمعنى الجارحة المعلومة على الله. فأجيب: بأن أطلق الملزوم وأرد اللازم، لأنه يلزم من كون الشيء بالأعين، أنه مبالغ في حفظه. قوله: ﴿ وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ ﴾ أي لا تراجعني في شأنهم، فإن الهلاك لا بد لهم منه، قوله: (حكاية حال ماضية) أي فالمضارع بمعنى الماضي. قوله: ﴿ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ ﴾ الجملة حالية، والتقدير يصنع الفلك، والحال أنه كلما مر الخ استهزؤوا به، أي فقالوا صرت نجاراً بعد أن كنت نبياً، وكان يعمل السفينة في برية لا ماء فيها، واستهزاؤهم إما لكونهم لا يعرفون السفينة ولا الانتفاع بها، أو لكونهم يعرفونها، غير أنهم تعجبوا من صنعه لها في أرض لا ماء بها. قوله: ﴿ فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ ﴾ أي أنتم محل السخرية والاستهزاء، لأن من كان على أمر باطل فهو أحق بالاستهزاء والسخرية، ولا حاجة لكون الكلام من باب المشاكلة. قوله: (موصولة) أي وعلم عرفانية تنصب مفعلاً واحداً، ويصح أن تكون استفهامية، وعلم على بابها من كونها متعدية لاثنين، ويكون الثاني محذوفاً. قوله: ﴿ عَذَابٌ ﴾ أي وهو الغرق. قوله: (غاية للصنع) أي في قوله ويصنع الفلك.
قوله: ﴿ وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ ﴾ وكان من حجارة ورثه من أمه حواء، والأشهر أنه كان بالكوفة، على يمين الداخل مما يلي باب كندة، والتنور مما انفق فيه لغة العرب والعجم كالصابون. قوله: (للخباز) أي وهي امرأة نوح، وكان فورانه وقت طلوع الفجر. قوله: (وكان ذلك) أي فوران التنور وغليانه. قوله: (علامة لنوح) أي على الطوفان، وكان في ثالث وعشرين من أبيب في شدة القيظ. قوله: ﴿ مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ ﴾ المراد بالزوجين كل اثنين، لا يستغني أحدهما عن الآخر، كالذكر والأنثى وقال لكل منهما زوج، والمعنى من كل صنف زوجين ذكر وأنثى، قال الحسن: لم يحمل نوح معه إلا ما يلد أو يبيض، وأما ما سوى ذلك ما يتولد من الطين كالبق والبعوض، فلك يحمل منه شيئاً، وروى بعضهم: أن الحية والعقرب أتيا نوحاً وقالا: احملنا معك، فقال: إنكما سبب البلاء أحملكما، فقال: احملنا ونحن نضمن لك أن لا نضر أحداً ذكرك، فمن قرأ حين يخاف مضرتهما:﴿ سَلاَمٌ عَلَىٰ نُوحٍ فِي ٱلْعَالَمِينَ ﴾[الصافات: ٧٩]، لم يضر. قوله: (وهو مفعول) أي لفظ اثنين، وقوله: ﴿ مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ ﴾ حال منه مقدم عليه. قوله: (أي زوجته) اي التي أسلمت، لأنه كان له زوجتان، إحداهما آمنت فحملها، والأخرى لم تؤمن فتركها. قوله: (وأولاده) أي الثلاثة وزوجاتهم. قوله: ﴿ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ ﴾ أي القضاء بالغرق. قوله: (أي منهم) أخذ هذا التقييد من سورة المؤمنون. قوله: (وهو زوجته) أي التي لم تؤمن واسمها واعلة، وقيل واعكة، ورد أنه قبل مجيء الطوفان بأربعين سنة أصيبوا بالعقم، فلم يلدوا في تلك المدة، كي لا تصيبهم الرحمة من أجل وجود، الصغار بينهم. قوله: (بخلاف سام) وهو أبو العرب، وحام أبو السودان، ويافث أبو الترك. قوله: (ثمانون) أي اثنان وسبعون من الأمة، وهو وأولاده الثلاثة وزوجاتهم. قوله: ﴿ وَقَالَ ٱرْكَبُواْ ﴾ خطاب لمن معه. قوله: ﴿ بِسْمِ ٱللَّهِ مَجْريٰهَا وَمُرْسَاهَا ﴾ حال من الواو في اركبوا، والتقدير قائلين بسم الله إلخ. وبسم الله خبر مقدم، وقوله: ﴿ مَجْريٰهَا وَمُرْسَاهَا ﴾ مبتدأ مؤخر، روي أنه كان إذا أراد أن تجري قال: بسم الله، فجرت، وإذا أراد أن ترسو قال: بسم الله فرست. قوله: (بفتح الميمين) سبق قلم إذ فتح مرساها شاذ، فالصواب أن يقول بضم الميمين، أو فتح الأولى مع ضم الثانية. قوله: (مصدران) راجع لكل من الفتح والضم. قوله: (أي جريها) هذا يناسب الفتح، وأما الضم فيقال في تفسيره، أي إجراؤها وإرساؤها. قوله: ﴿ كَٱلْجِبَالِ ﴾ روي أن الله أرسل المطر أربعين يوماً وليلة، وخرج الماء من الأرض، قال تعالى﴿ فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ ٱلسَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا ٱلأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى ٱلمَآءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ﴾[القمر: ١١-١٢] وارتفع الماء على أعلى جبل وأطوله أربعين ذراعاً، حتى أغرق كل شيء، وروي أنه لما كثر الماء في السكك خافت أم صبي على ولدها من الغرق، وكانت تحبه حباً شديداً، بخرجت به إلى الجبل حتى بلغت ثلثه لحقها الماء، فارتفعت حتى بلغت ثلثيه، فلما لحقها الماء ذهبت حتى استوت على الجبل، فلما بلغ الماء رقبتها رفعت الصبي بيديها حتى ذهب بهما الماء فأغرقهما، فلو رحم الله منهم أحداً لرحم أم الصبي، ولا ينافي ما تقدم من أنهم أصابهم العقم أربعين سنة، لجواز أن يكون هذا الولد ابن أكثر من أربعين. قوله: ﴿ وَنَادَىٰ نُوحٌ ٱبْنَهُ ﴾ أي قبل سير السفينة. قوله: ﴿ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ ﴾ الجملة حالية من ضمير ابنه، وقوله: ﴿ يٰبُنَيَّ ﴾ إلخ، هذه هو المنادى به بثلاث ياءات الأولى ياء التصغير، والثانية لام الكلمة، والثالثة ياء المتكلم، تحركت ياء المتكلم وانفتح ما قبلها، قلبت ألفاً فالتقى ساكنان، حذفت لالتقائهما، وأدغمت إحدى الياءين في الأخرى، فيقرأ بفتح الياء وكسرها قراءتان سبعيتان، وقوله: ﴿ ٱرْكَبَ مَّعَنَا ﴾ بإظهار الياء وإدغامها في الميم سبعيتان. قوله: ﴿ وَلاَ تَكُن مَّعَ ٱلْكَافِرِينَ ﴾ أي في البعد عن الركوب معنا، إن قلت: لا يخلو الحال، إما إن يكون هذا الولد مسلماً أو كافراً، فإن كان مسلماً فيبعده كونه في معزل، وإن كان كافراً، فلم عطف عليه وناداه مع علمه بكفره؟ أجيب: بأنه ذكر العلماء أنه كان منافقاً، يظهر الإسلام ويخفي الكفر، فعند مجيء الطوفان أظهر ما كان يخفيه، ولا مانع من كون الله يخرج الكافر من المؤمن وبالعكس، وهذا الولد قيل كان من صلبه وهو الراجح، وقيل ابن زوجته من نكاح غيره، وقيل كان ولد خبث، ولدته زوجته على فراشه ولم يعلم به، وهذا القول غير وجيه، لقول ابن عباس: ما بغت امرأة نبي قط.
قوله: ﴿ سَآوِيۤ ﴾ أي ألتجىء. قوله: ﴿ مَن رَّحِمَ ﴾ عبر المفسر بلكن، إشارة إلى أن الاستثناء منقطع، لأن ما بعد إلا هو المعصوم، وما قبلها هو العاصم، ولا شك أنه غيره. قوله: ﴿ وَحَالَ بَيْنَهُمَا ﴾ أي بين نوح وابنه. قوله: ﴿ فَكَانَ مِنَ ٱلْمُغْرَقِينَ ﴾ أي الهالكين بالماء، ورد أنه أوى إلى جبل عال، فدخل في غار منه، وسد على نفسه من كل جهة، فغرق في بوله وغائطه. قوله: ﴿ وَقِيلَ يٰأَرْضُ ﴾ إلخ، أي أمر الله الأرض بذلك، والمراد تعلقت قدرته بزوال الماء على حد قوله تعالى:﴿ إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾[يس: ٨٢] وهذا القول وقع يوم عاشوراء، ونزل نوح السفينة لعشر خلون من رجب، فكان مكثهم في السفينة ستة أشهر، فلما نجوا صاموا جميعاً، حتى الطيور والوحوش يوم عاشوراء، شكراً لله على النجاة، ومرت السفينة بهم بالبيت الحرام، فطافت به سبع مرات، وأودع الله الحجر الأسود في جبل أبي قبيس، وورد أن نوحاً حمل أباه آدم معه في السفينة. قوله: (فصار أنهاراً وبحاراً) أي فماء السماء بقي في أماكن من الأرض أنهاراً وبحاراً، وماء الأرض ابتلعته الأرض في باطنها. قوله: (نقص) أي ولم يذهب بالكلية، لما علمت من بقاء ماء السماء. قوله: (جبل بالجزيرة) هي مدينة العراق، روي أن الله أوحى إلى الجبال، أن السفينة ترسي على واحد منها، فتطاولت وبقي الجودي لم يتطاول تواضعاً لله، فاستوت السفينة عليه وبقيت على أعوادها، وفي الحديث:" بقي منها شيء أدركه أوائل هذه الأمة "ورد أنهم لما خرجوا من السفينة، بنوا قرية وسموها الثمانين، لأنهم كانوا ثمانين. قوله: ﴿ وَقِيلَ بُعْداً ﴾ منصوب على المصدر بفعل مقدر، أي بعدوا بعداً، فهو مصدر بمعنى الدعاء عليهم. قوله: ﴿ لِّلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ ﴾ أي فهلكوا جميعاً، حتى البهائم والطيور والأطفال، على القول بأنهم لم يعقموا، ولا يسأل عما يفعل، وهذا الغرق عقوبة للمكلفين لا غيرهم، قال بعضهم: هذه الآية أبلغ آية في القرآن، لاحتوائها على أحد وعشرين نوعاً من أنواع البديع، والحال أن كلماتها تسعة عشر، وخوطب في الأرض أولاً بالبلع، لأن الماء نبع منها أولاً، قبل أن تمطر السماء.
قوله: ﴿ وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ ﴾ أي قبل سير السفينة. قوله: ﴿ فَقَالَ ﴾ هذا تفصيل للنداء. قوله: (وقد وعدتني بنجاتهم) أي المدلول عليها بقوله:﴿ قُلْنَا ٱحْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ ﴾[هود: ٤٠] قوله: (الناجين أو من أهل دينك) أشار المفسر إلى أن الكلام، إما على حذف الصفة، أو على حذف المضاف، قوله: (أي سؤالك) أشار بذلك إلى أن الضمير في أنه عائد على نوح على حذف المضاف، والمعنى قال الله: يا نوح، إن سؤالك عمل غير صالح أي غير مقبول، لأن الله لا يقبل الشفاعة إلاّ في المسلمين، فسؤالك خطأ، وذلك نظير استغفار ابراهيم لأبيه، وهذا غير قادح في منصب النبوة لأن نوحاً كان يظن إسلام ولده، لأنه كان يظهره، ومن المعلوم أن الرسل يحكمون بالظاهر، وقيل إن الضمير عائد على الولد، ويقال في الإخبار عنه بعمل ما قيل في زيد عدل وهو الراجح. قوله: (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضاً. قوله: (ونصب غير) أي على المفعولية لعمل. قوله: (بالتشديد والتخفيف) أي فعلى التخفيف تسكن اللام، وعلى التشديد تفتح اللام وفي قراءة التخفيف وجهان: حذف الياء وإثباتها، وفي قراءة التشديد ثلاث: فتح النون مع حذف الياء لا غير، وكسر النون مع حذف الياء وإثباتها، وكل هذا في حال الوصل، وأما عند الوقف فلا تثبت أصلاً. قوله: ﴿ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ﴾ أي ما لا تعلم أنه صواب أم لا. قوله: ﴿ إِنِّيۤ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ ﴾ هذا العتاب فيه رفق وتلطف، والمعنى كأن الله يقول له: إن مقامك عظيم، فشأنك أن لا تسأل ولا تشفع؛ إلا فيمن يرجى فيه النجاة، وأما فيمن تجهل قبول الشفاعة فيه، فلا يليق منك أن تقدم على السؤال فيه. قوله: ﴿ إِنِّيۤ أَعُوذُ بِكَ ﴾ أي أتحصن بك. قوله: ﴿ أَنْ أَسْأَلَكَ ﴾ أي بعد ذلك. قوله: (ما فرط مني) أي تقدم وسلف، وهو الإقدام على سؤال نا ليس به علم، وهذا لا يقتضي صدور ذنب من نوح، إذ هو معصوم من الذنوب، كبيرها وصغيرها، لأن الله وعد نوحاً عليه السلام، بأن ينجيه وأهله، فأخذ نوح بظاهر اللفظ واتبع التأويل، حيث ظن أن ولده من جملة اهله الناجين، فلما عاتبه ربه، رجع على نفسه باللوم والندم مما وقع منه، وسأله المغفرة والرحمة، وذلك كما وقع لآدم في الأكل من الشجرة، وليست هذه ذنوباً، بل هي من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين.
قوله: ﴿ قِيلَ يٰنُوحُ ٱهْبِطْ بِسَلاَمٍ ﴾ أي سلامة وأمن، ودخل في هذا السلام، وكل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة، وفيما بعده من المتاع والعذاب، كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة. قوله: (انزل من السفينة) ورد أنه لما نزل منها، أراد أن يبعث من يأتيه بخبر الأرض، فقال له الدجاج أنا، فأخذوه وختم على جناحه وقال لها: أنت مختومة بخاتمي لا تطيري أبداً تنتفع بك أمتي فبعث الغراب فأصاب جيفة فوقع عليها فاحتبس، فلعنه ودعا عليه بالخوف، فلذلك يقتل في الحل والحرم ولا يألف البيوت، وبعث الحمام فلم تجد قراراً فوقفت على شجرة بأرض سبأ، فحملت ورقة زيتون، ورجعت إلى نوح، فعلم أنها لم تتمكن من الأرض، ثم بعثها بعد ذلك، فطارت حتى وقفت بوادي الحرم، فإذا الماء قد ذهب موضع الكعبة، وكانت طينتها حمراء، فاختضبت رجلاها، ثم جاءت إلى نوح فقالت: بشراي منك، أن تهب لي الطوق في عنقي، الخضاب في رجلي، وأن أسكن الحرم، فمسح يده على عنقها وطوقها ووهب لها الحمرة في رجليها، ودعا لها ولذريتها بالبركة. قوله: (أي من أولادهم) إلخ، أشار بذلك إلى أن من تبعيضية، والكلام على حذف مضاف، والمعنى وعلى أمم من ذرية ممن معك. قوله: ﴿ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ﴾ يقال فيه ما قيل فيما قبله، أي وامم من ذرية من معك سنمتعهم إلخ. والمعنى أن ذرية الأمم الذين معه، بعضها مؤمن فعليه السلام، وبعضها كافر فيمتع في الدنيا، ثم يمسه العذاب الأليم في الآخرة، والذرية المذكورة لم تكن إلا من أولاده الثلاثة كما تقدم، فهو الأب الثاني للخلق بعد آدم. قوله: ﴿ تِلْكَ ﴾ مبتدأ، أخبر عنه بثلاثة أخبار. قوله: ﴿ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ ﴾ أي تفصيلاً. قوله: ﴿ فَٱصْبِرْ ﴾ هذا هو المقصود من ذكر ذلك القصة، أي فتسل ولا تحزن على عدم إيمان المشركين، ولا تنزعج من أذاهم. قوله: ﴿ وَإِلَىٰ عَادٍ ﴾ الجملة معطوفة على جملة﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ ﴾[هود: ٢٥] عطف قصة على قصة، وأخر هوداً لأنه متأخر عن نوح في الزمن، إذ هو من أولاد سام بن نوح، وبين هود ونوح ثمانمائة سنة، وعاد اسم قبيلة تنسب إلى أبيها بن نوح، وهود بن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد، وعاش هود أربعمائة سنة وأربعاً وستين سنة. قوله: (وحدوه) أي وسمى التوحيد عبادة، لأنه أساسها ورأسها. قوله: ﴿ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ ﴾ ما نافية، ولكم خبر مقدم، وإله مبتدأ مؤخر، وغيره صفته، ومن زائدة كما قال المفسر. قوله: (كاذبون على الله) أي حيث ادعيتم أن لله شركاء وعبدتموهم. قوله: ﴿ لاۤ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً ﴾ أي ليس مقصدي من تبليغ التوحيد، والأحكام لكم، أنكم تعطوني أجراً على ذلك من مال أو غيره؛ والمقصود من ذلك الخطاب، إراحة قلوبهم واللطف بهم، عسى أن يقبلوا ما جاء به بقلب سليم، وعبر هنا بأجر، وفي قصة نوح بما لا تفتنا. قوله: ﴿ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى ٱلَّذِي فَطَرَنِيۤ ﴾ أي لأنه هو المعطي المانع، الضار النافع، المقدم المؤخر، أطلب من غير. قوله: ﴿ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ الهمزة داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير أجهلتم وعميتم فلا تعقلون.
قوله: ﴿ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ﴾ أي من كل ذنب مضى، وقوله: وَ ﴿ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ ﴾ أي أقلعوا واعزموا على عدم الرجوع في المستقبل. قوله: (وكانوا قد منعوه) أي ثلاث سنين. قوله: ﴿ مِّدْرَاراً ﴾ حال من السماء، أي كثيرة النزول والتتابع. قوله: (كثير الدرور) أي فيقال: دريدر دراً ودروراً، فهو مدرار. قوله: (بالمال والولد) أي وكانت قد عقمت نساؤهم ثلاثين سنة لم تلد. قوله: ﴿ قَالُواْ يٰهُودُ ﴾ أي استهزاء وعناداً. قوله: ﴿ بِبَيِّنَةٍ ﴾ أي معجزة، وكانت معجزته التي قامت بها الحجة عليهم، ما يأتي في قوله: ﴿ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ ﴾ فعصمته منهم هي معجزته، وكذا معجزة نوح التي قامت بها الحجة عليهم هي قوله:﴿ فَأَجْمِعُوۤاْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ﴾[يونس: ٧١] الآية، وأما الريح والطوفان، وإن كان كل معجزة فيهم هلاكهم، لا إقامة الحجة عليهم. قوله: (برهان) أي دليل واضح على صحته. قوله: (أي لقولك) أشار بذلك إلى أن عن بمعنى لام التعليل. قوله: ﴿ إِن نَّقُولُ ﴾ أي في شأنك. قوله: (فخبلك) أي أفسد عقلك. قوله: (لسبك) علة لقوله فخبلك. قوله: (فأنت تهذي) أي تتكلم بالهذيان، وهو الكلام الساقط الذي لا معنى له. قوله: ﴿ أَنِّي بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ﴾ أي خالص ومتبرىء من جميع ما تشركونه مع الله. قوله: ﴿ فَكِيدُونِي ﴾ بإثبات الياء وصلاً ووقفاً هنا لجميع القراء، والتي في المرسلات بحذفها لجميعهم، وأما التي في الأعراف فمن ياءات الزوائد، فتحذف وقفاً، ويجوز حذفها وإثباتها في الوصل. قوله: ﴿ ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ ﴾ أي لا تؤخرون حتى آتي بشيء يحفظني من قراءة أو سلاح أو غير ذلك، وهذا من شدة وثوقه بربه واعتماده عليه.
قوله: ﴿ إِنِّي تَوَكَّلْتُ ﴾ أي فوضت أموري إليه واعتمدت عليه. قوله: ﴿ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ﴾ هذا تبكيت عليم. قوله: (فلا نفع ولا ضرر إلا بإذنه) أي وأنتم من جملة الدواب، فليس لكم تأثير في شيء أصلاً. قوله: ﴿ فَإِن تَوَلَّوْاْ ﴾ شرط حذف جوابه لدلالة قوله: ﴿ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ﴾ إلخ عليه، والتقدير فلا عذر لكم ولا مؤاخذة علي، فقد أبلغتكم إلخ. قوله: ﴿ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي ﴾ إلخ، هذا وعيد شديد مترتب على إعراضهم، والمعنى فإن تعرضوا عن الإيمان، فلا مؤاخذة علي، بل يقبلني ربي ويهلككم ويستخلف غيركم، ولا تضرونه شيئاً بإعراضكم، بل ما تضرّون إلا أنفسكم. قوله: ﴿ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ﴾ أي فلا تخفى عليه أحوالكم، بل يجازي كل أحد بعمله. قوله: (عذابنا) أي وهو الريح الصرصر المذكور في قوله تعالى:﴿ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ ﴾[الحاقة: ٧] الآية، فأصابهم صبيحة الأربعاء لثمان بقين من شوال، وكان يدخل في أنف الواحد، ويخرج من دبره، فيرفعه في الجو فيسقط على الأرض فتقطع أعضاؤه، وقد تقدم بسطها في الأعراف. قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ أي وكانوا أربعة آلاف قوله: ﴿ وَتِلْكَ عَادٌ ﴾ مبتدأ أو خبر على حذف مضاف، كما أشار له المفسر، أي آثار عاد. قوله: (في الأرض) أي أرضهم. قوله: (وانظروا إليها) أي لتعتبروا، وهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته، ولكن المراد الأمة. قوله: (لأن من عصى رسولاً) إلخ، جواب عما يقال لم جمع الرسل، مع أنهم عصوا رسولاً واحداً وهو هود. قوله: ﴿ عَنِيدٍ ﴾ أي معاند متجاوز في الظلم. قوله: ﴿ لَعْنَةً ﴾ أي طرداً وبعداً. قوله: ﴿ وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ ﴾ (لعنة) أي طرداً على رحمة الله، وهي الجنة وما فيها، لاتصافهم بالشقاوة الدائمة الموجبة للخلود في النار. قوله: ﴿ أَلاۤ إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ ﴾ هذا بيان لسبب استحقاقهم للعنتين. قوله: ﴿ أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ ﴾ هذا هو معنى قوله: ﴿ وَأُتْبِعُواْ فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ ﴾ وذكر تأكيداً وإشارة إلى أنهم مستحقون لذلك. قوله: ﴿ قَوْمِ هُودٍ ﴾ بدل من عاد، واحترز به عن عاد الثانية المسماة بثمود، وهي قوم صالح الآتية قصتهم بعد.
قوله: ﴿ وَإِلَىٰ ثَمُودَ ﴾ عطف على قوله:﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً ﴾[هود: ٢٥] عطف قصة على قصة، وقدر المفسر (أرسلنا) إشارة إلى أن قوله أرسلنا الأول مسلّط عليه، فهو من عطف الجمل، وثمود هنا يمنع الصرف باتفاق القراء العشرة، وقرىء شاذاً بالصرف، بخلاف ما يأتي في قوله:﴿ أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ ﴾[هود: ٦٨] فبالصرف وعدمه قراءتان سبعيتان، وثمود اسم أبي القبيلة، سميت باسمه لشهرته، وبين صالح وبينه خمسة أجداد، وبين صالح وهو مائة سنة، وعاش صالح مائتي سنة وثمانين سنة. قوله: ﴿ هُوَ أَنشَأَكُمْ ﴾ هذا دليل على كونه هو المستحق للعبادة دون غيره. قوله: ﴿ مِّنَ ٱلأَرْضِ ﴾ أي مباشرة أو بواسطة، فالأول كخلق أبينا آدم منها، والثاني كخلق مواد النطف التي منها النوع الإنساني. قوله: (جعلكم عماراً تسكنون بها) أي خلفاء في الأرض، ويصح أن يكون المعنى جعلكم معمرين لها بعد أن خربت. قوله: ﴿ فَٱسْتَغْفِرُوهُ ﴾ أي من الذنوب التي مضت. قوله: ﴿ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ ﴾ أي أقلعوا عن الذنوب في المستقبل. قوله: (بعلمه) أي فالمراد قرب مكانة ورفعة، والمعنى أن الله قريب من خلقه قرباً معنوياً، منزهاً عن الإحاطة والجهة، فهو أقرب من نور العين لها، ومن سمع الأذن لها، ومن لمس الجسم له، ومن الأنف له سبحانه وتعالى: ﴿ مُّجِيبٌ ﴾ أي فلا يخيب سائلاً. قوله: (نرجو أن تكون سيداً) أي لأنه كان يعين ضعيفهم ويعطي فقيرهم، وكانوا يرجعون إليه في الأمور قبل تلك المقالة، فلما حصلت قالوا قد انقطع رجاؤنا فيك. قوله: (الذي صدر منك) أي وهو نهيهم عن عبادة الأوثان. قوله: ﴿ أَتَنْهَانَآ أَن نَّعْبُدَ ﴾ أي أتنهانا عن عبادة الذي كان يعبده آباؤنا، قوله: (من الأوثان) بيان لما. قوله: ﴿ وَإِنَّنَا ﴾ هذه هو الأصل، ويصح وإنا بنون واحدة مشددة ولذا قرىء به في سورة إبراهيم. قوله: ﴿ مُرِيبٍ ﴾ وصف لشك والإسناد مجازي، وحق الإسناد لصاحبه. قوله: (موقع في الريب) أي الدائم. قوله: ﴿ أَرَأَيْتُمْ ﴾ أي أخبروني. قوله: ﴿ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةً ﴾ أتى بإن مشاكلة، لاعتقادهم فيه ومسايرة لخطابهم. قوله: (بيان) أي برهان وحجة واضحة. قوله: (أي عذابه) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف. قوله: ﴿ إِنْ عَصَيْتُهُ ﴾ أي على فرض وقوع المعصية مني، وإلا فهي مستحيلة عليه، كبيرها وصغيرها، قبل النبوة وبعدها. قوله: (بأمركم لي بذلك) أي بعصيانه وموافقتكم. قوله: (تضليل) أي لي إن اتبعتكم، والمعنى أخبروني إن كنت على بينة ونبوة من ربي، فلا أحد يمنعني من عذاب الله إن اتبعتكم وعصيته، وحينئذ أكون خاسراً مضيعاً لما أعطاني الله من الحق، وهل رأيتم نبياً صار كافراً، وكل هذا تنزل منه لهم.
قوله: ﴿ هَـٰذِهِ نَاقَةُ ٱللَّهِ ﴾ أي وقد طلبوا منه أن يخرج لهم ناقة من صخرة عينوها، حيث قالوا: أخرج لنا من هذه الصخرة ناقة وبراء عشراء، فدعا الله، فتمخضت الصخرة كما تتمخض النساء عند الولادة، فخرجت منها ناقة كما وصفوا، فولدت الناقة في الحال فصيلاً، قدرها في الجثة يشبهها، وأضيفت الناقة لله تشريفاً، أي لا اختصاص لأحد بها. قوله: ﴿ تَأْكُلْ فِيۤ أَرْضِ ٱللَّهِ ﴾ أي من العشب والنبات، وفي الكلام اكتفاء، أي وتشرب من ماء الله، على حد﴿ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ ٱلْحَرَّ ﴾[النحل: ٨١] أي والبرد. قوله: ﴿ قَرِيبٌ ﴾ أي عاجل لا يتأخر عنهم إلا ثلاثة أيام. قوله: (عقرها قدار) أي ابن سالف، حيث ضربها في رجليها، فذبحوها واقتسموا لحمها، وقدار هذا من أشقى الأشقياء. قوله: ﴿ فِي دَارِكُمْ ﴾ أي أرضكم. قوله: ﴿ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ﴾ والحكمة في ذلك، بقاء الفصيل ينوح على أمه ثلاثة أيام، ثم فتحت له الصخرة، ودخل فيها، قالوا: وما العلامة؟ قال: تصبحون في اليوم الأول وجوهكم مصفرة، وفي اليوم الثاني وجوهكم محمرة، وفي اليوم الثالث وجوهكم مسودة. قوله: ﴿ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ﴾ (فيه) أشار المفسر بتقدير فيه، إلى أنه من باب الحذف والإيصال. قوله: ﴿ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا ﴾ أي وهي الإيمان. قوله: ﴿ وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ ﴾ أي يوم إهلاكهم بالصيحة. قوله: (لإضافته إلى مبني) أي فهي من أسباب البناء. قوله: (وهو الأكثر) أي عربية، وأما في القراءة فمستويان. قوله: ﴿ وَأَخَذَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ﴾ حذفت تاء التأنيث من الفعل، إما لكون المؤنث مجازياً كما يقال طلع الشمس، أو للفصل بالمفعول، كأتى القاضي بيت الواقف. قوله: ﴿ ٱلصَّيْحَةُ ﴾ أي مع الزلزلة فتقطعت قلوبهم، والمراد صيحة جبريل عليهم من السماء، فسمعوا صوت كل شيء فماتوا جميعاً. قوله: ﴿ أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ ﴾ أي طرداً دائماً عن رحمة الله، فقد نزعوا من دائرة الحلم والرحمة. قوله: (بالصرف وتركه) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (على معنى الحي) راجع للصرف، وقوله: (والقبيلة) راجع لتركه، فهو لف ونشر مرتب، وقد تقدم بسط تلك القصة في الأعراف.
قوله: ﴿ وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ ﴾ أتى هنا بقصة إبراهيم توطئة لقصة لوط لا استقلالاً، لأن الهلاك هنا لم يكن لقوم إبراهيم، ولذا غاير الاسلوب، فلم يقل وأرسلنا إبراهيم إلى قومه مثلاً، ورسلنا بضم السين وإسكانها، قراءتان سبعيتان في جميع القرآن، متى أضيفت رسل للضمير، فإن أضيفت للظاهر قرىء بضم السين لا غير، واختلف في عدة الرسل الذين جاؤوه، فعن ابن عباس ثلاثة: جبريل وميكائيل وإسرافيل، وقيل تسعة، وقيل اثنا عشر، وقيل غير ذلك، وعاش إبراهيم من العمر مائة وخمساً وسبعين سنة، وبينه وبين نوح ألفاً سنة وستمائة وأربعون سنة، وابنه إسحاق عاش مائة وثمانين سنة، ويعقوب بن إسحاق عاش مائة وسبعاً وأربعين سنة. قوله: ﴿ بِٱلْبُـشْرَىٰ ﴾ هي الخبر السار، سميت بذلك لانبساط البشرة عند حصولها. قوله: (بإسحاق ويعقوب بعده) أفاد المفسر أن المراد بالبشرى هنا هي ما يأتي في قوله:﴿ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ ﴾[هود: ٧١] إلخ، ويحتمل أن المراد هنا بقوله هنا: ﴿ بِٱلْبُـشْرَىٰ ﴾ ما هو أعم من ذلك، فيشمل بشراه بنجاة لوط، وهلاك الكافرين، وغير ذلك. قوله: ﴿ قَالُواْ سَلاَماً ﴾ هذه تحيتهم الواقعة منهم، وهو منصوب بفعله المحذوف، والتقدير سلمنا عليك سلاماً. قوله: (مصدر) أي نائب عن لفظ الفعل. قوله: ﴿ قَالَ سَلاَمٌ ﴾ إنما أتى إبراهيم بالجملة الإسمية في الرد، لتفيد الدوام والثبوت، فيكون الرد أحسن من الابتداء، لأن الجملة الإسمية أشرف من الفعلية، وقوله: (عليكم) قدره المفسر إشارة إلى أن السلام مبتدأ، والخبر محذوف، والمسوغ للابتداء بالنكرة التعظيم، على حد أشر هر ذا ناب، أو الدعاء. قوله: ﴿ فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ ﴾ ما نافية، ولبث فعل ماض، وأن جاء في تأويل مصدر فاعل، والمعنى لم يتأخر مجيئه بعجل حينذ. قوله: (مشوي) أي على الحجارة المحماة في حفرة الأرض، وهو من فعل أهل البادية، وكان سميناً يسيل منه الودك كما في آية الذاريات، وكان عامة مال إبراهيم البقر. قوله: ﴿ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ ﴾ هذا مرتب محذوف، كما في الآية الأخرى، فقربه إليهم فقال ألا تأكلون، فلما رأى الخ، في بعض الروايات قالوا: لا نأكل طعاماً إلا بثمن، قال: فإن له ثمناً، قالوا: وما ثمنه؟ قال: تذكرون اسم الله على أوله، وتحمدونه على آخره، فنظر جبريل إلى ميكائيل قال: وحق لهذا أن يتخذه ربه خليلاً. قوله: (خوفاً) أي من أجل امتناعهم من طعامه فخاف منهم الخيانة، على عادة الخائن، أنه لا يأكل طعام من أراد خيانته. إن قلت: كيف يخاف إبراهيم منهم، مع كونه خليل الرحمن، وهم محصورون في بيته؟ أجيب: بأن خوفه لما رأى فيهم من جلال الله وهيبته، فخوفه من ربه لا من ذواتهم. قوله: ﴿ قَالُواْ لاَ تَخَفْ ﴾ أي جواباً لقوله لهم كما في سورة الحجر﴿ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ ﴾[الحجر: ٥٢].
قوله: ﴿ إِلَىٰ قَوْمِ لُوطٍ ﴾ أي وهو ابن أخي إبراهيم الخليل، وهو أول من آمن به؛ وأبوه هاران أخو إبراهيم. قوله: (لنهلكهم) أخذ هذا المقدر من قوله في سورة الذاريات﴿ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ * مُّسَوَّمَةً ﴾[الذاريات: ٣٣-٣٤] الخ. قوله: (سارة) بالتخفيف والتشديد، وهي بنت عمه. قوله: (تخدمهم) أي على عادة نساء العرب، لا يتحاشون خدمة الضيوف.
قوله: ﴿ فَضَحِكَتْ ﴾ في سبب ذلك الضحك أقوال، قيل: للبشرى بهلاك قوم لوط، كما قال المفسر، وقيل: من خوف إبراهيم، وهو في خدمه وحشمه، وقيل: سروراً بالولد، وقيل: تعجباً من إتيان الولد على كبر، وقيل: لموافقة مجيء الملائكة بهلاك قوم لوط لما قالته لإبراهيم، فإنها قالت له قبل مجيء الملائكة: اضمم إليك ابن أخيك لوطاً، فإن العذاب نازل بقومه، وقيل غير ذلك. قوله: ﴿ فَبَشَّرْنَاهَا ﴾ إنما نسبت البشارة لها دونه، لأنها كانت أشوق منه إلى الولد، لأنه لم يأتها ولد قط بخلافه هو، فقد أتاه إسماعيل قبل إسحاق بثلاثة عشر سنة. قوله: ﴿ بِإِسْحَاقَ ﴾ ولد بعد البشارة بسنة، فإسماعيل أسن منه بأربعة عشر سنة. قوله: ﴿ يَعْقُوبَ ﴾ بالرفع والنصب، قراءتان سبعيتان. قوله: (كلمة تقال) أي على سبيل التعجب من مخالفة العادة لا من قدرة الله، فإن ذلك كفر، حاشاها منه. قوله: (عند أمر عظيم) أي خيراً كان أو شراً، ولكن المراد هنا الخير. قوله: (والألف مبدلة من ياء الإضافة) أي فيقال في إعرابها ويلتي منادى منصوب بفتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المنقلبة ألفاً، منع من ظهورها اشتغال المحل بالفتحة النائبة عن الكسرة لمناسبة الألف وويلتى مضاف، والألف مضاف إليه مبني على السكون في محل جر وترسم بالياء وتقرأ بالألف والإمالة. قوله: ﴿ وَهَـٰذَا بَعْلِي ﴾ سمي الزوج بذلك، لأن البعل هو المستعلي على غيره، ولا شك أن الزوج مستعل على المرأة، قائم بأمورها. قوله: ﴿ رَحْمَتُ ٱللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ﴾ هذا دعاء من الملائة لهم. قوله: ﴿ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ ﴾ أشار المفسر بتقدير (يا) إلى أن أهل البيت منصوب على النداء، ويصح أن يكون منصوباً على الاختصاص. قوله: ﴿ حَمِيدٌ ﴾ أي كثير الحمد. قوله: ﴿ مَّجِيدٌ ﴾ أي عظيم شريف. قوله: ﴿ فَلَمَّا ذَهَبَ ﴾ جوابها محذوف، قدره المفسر بقوله: (أخذ). قوله: ﴿ وَجَآءَتْهُ ٱلْبُشْرَىٰ ﴾ أي بعد الروع. قوله: (يجادل رسلنا) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف. قوله: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ ﴾ أي فالحامل له على المجادلة حلمه ورقة قلبه، فغرضه تأخير العذاب عنهم، لعلهم يؤمنون ويرجعون عما هم عليه من القبائح. قوله: (كثير الإناة) أي التأني في الأمور وعدم العجلة. قوله: ﴿ أَوَّاهٌ ﴾ في تفسير أقوال كثيرة، تقدم بعضها في سورة براءة. قوله: (فقال لهم) هذه صورة المجادلة، والحاصل أنه سألهم خمسة أسئلة وأجابوه عنها. قوله: (إلخ) أي إلى آخر ما في سورة العنكبوت.
قوله: ﴿ أَمْرُ رَبِّكَ ﴾ أي قضاؤه وحكمه. قوله: (غير مردود) أي غير مصروف عنهم، فإنه قضاء مبرم لا محيص عنه. قوله: ﴿ وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا ﴾ أي الملائكة الذين كانوا عند إبراهيم، والمعنى أنهم ارتحلوا من عند إبراهيم حتى أتوا قرية لوط، وتسمى سدوم بلد بحمص، وبينها وبين الخليل أربعة فراسخ، نصف النهار، فوجدوا لوطاً يعمل في أرض له، وقيل كان يحتطب، وقد قال الله للملائكة لا تهلكوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات، فاستضافوه فانطلق بهم، فلما مشى بهم ساعة قال لهم: أما بلغكم أمر هذه القرية؟ قالوا: وما أمرها؟ قال: أشهد بالله أنها أشر قرية في الأرض عملاً، قال ذلك أربع مرات، فمضوا معه حتى دخلوا منزله، وقيل إنه مر مع الملائكة على جماعة من قومه، فتغامزوا فيما بينهم، فقال لوط: إن قومي شر خلق الله، فقال جبريل: هذه واحدة، فمر على جماعة أخرى فتغامزوا، فقال مثله، ثم مر على جماعة أخرى ففعلوا ذلك، فقال لوط مثل ما قال أولاً، حتى قال ذلك أربع مرات، وكلما قال لوط هذا القول، قال جبريل للملائكة اشهدوا، وقيل إن الملائكة جاؤوا إلى بيت لوط، فوجدوه في داره، فدخلوا عليه ولم يعلم أحد بمجيئهم إلا أهل بيت لوط، فخرجت امرأته الخبيثة فأخبرت قومها وقالت: إن في بيت لوط رجالاً ما رأيت مثل وجوههم قط ولا أحسن منهم. قوله: ﴿ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً ﴾ الأصل فيه، أن البعير يذرع بيده في سيره ذرعاً على قدر سعة خطوته، فإذا حمل عليه ضعف ومد عنقه وضاق ذرعه، فأطلق الذرع وأريد منه الصدر، فالمراد ضاق صدره، لعدم الخلاف من ذلك المكروه. قوله: (فخاف عليهم قومه) منصوب بنزع الخافض أي من قومه. قوله: ﴿ عَصِيبٌ ﴾ مأخوذ من العصب وهو الشدة، ومنه العصابة التي يشد بها الرأس. قوله: (لما علموا بهم) أي إما لأنهم رأوهم مع لوط في الطريق، أو أعلمتهم زوجته.
قوله: ﴿ يُهْرَعُونَ ﴾ أي يسوق بعضهم بعضاً. قوله: ﴿ كَانُواْ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ ﴾ أي فلا حياء عندهم منها لاعتيادهم لها. قوله: ﴿ قَالَ يٰقَوْمِ ﴾ هذا الخطاب وقع من لوط، وهم خارج الباب. قوله: ﴿ هَـٰؤُلاۤءِ بَنَاتِي ﴾ (فتزوجوهن) أي وكان في شرعه يجوز تزوج الكافر بالمسلمة، وقيل: عرض بناته عليهم بشرط الإسلام، وقيل: قال ذلك لتخليص أضيافه، لا إباحة لتزويجهم بهن، لعلهم إذا رأوه قد فدى أضيافه ببناته، ينزجروا ويرتدعوا ويتركوا هذا الأمر، وقيل: المراد ببناته نساء قومه وأضافهن إليه، لأن كل نبي لقومه كالأب لأولاده، في الشفقة واللطف بهم. قوله: ﴿ هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ﴾ إن قلت: إن تلك الفعلة لا طهارة فيها. أجيب: بأن أفعل التفضيل ليس على بابه، نظير قوله تعالى:﴿ أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ ٱلزَّقُّومِ ﴾[الصافات: ٦٢].
قوله: (تفضحون) أي تعيبوني. قوله: (في ضيفي) أي في شأنه. قوله: ﴿ أَلَيْسَ مِنْكُمْ ﴾ استفهام توبيخ. قوله: ﴿ قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً ﴾ أي لو ثبت أن لي بكم قوة، أو أني آوي جواب لو محذوف، قدره المفسر بقوله: (لبطشت بكم) وإنما قال ذلك، لأنه لم يكن من قومه نسباً، بل كان غريباً فيهم، لأنه كان أولاً بالعراق مع إبراهيم ببابل، فهاجر إلى الشام بأمر من الله، فنزل إبراهيم بأرض فلسطين، ونزل لوط بالأردن، فأرسله إلى أهل سدوم، فمن ذلك الوقت، لم يرسل الله رسولاً إلا من قومه. قوله: ﴿ قَالُواْ يٰلُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ ﴾ أي فافتح الباب ودعنا وإياهم، ففتح الباب ودخلوا، فاستأذن جبريل ربه في عقوبته فأذن له، فتحول إلى صورته التي يكون فيها، ونشر جناحيه فضرب بهما وجوههم، فأعماهم وطمس أعينهم، حتى ساوت وجوههم، فصاروا لا يعرفون الطريق، فانصرفوا وهم يقولون: النجاة النجاة في بيت لوط سحرة، قد سحرونا يا لوط، سترى منا غداً ما ترى. قوله: ﴿ فَأَسْرِ ﴾ بقطع الهمزة ووصلها، وفعله أسرى وسرى، وهما قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ بِأَهْلِكَ ﴾ أي وهم بنتاه، فخرجوا وطوى الله لهم الأرض، حتى وصلوا إلى إبراهيم في وقته. قوله: ﴿ بِقِطْعٍ ﴾ الباء للمصاحبة، والمعنى نصف الليل. قوله: ﴿ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ ﴾ خطاب له ولبنتيه. قوله: (بالرفع) بدل من أحد، أي والمعنى: ولا يلتفت منك أحد إلا امرأتك فإنها تلتفت. قوله: (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضاً. قوله: (فقيل لم يخرج بها) راجع لقراءة الرفع. قوله: (وقيل خرجت والتفتت) راجع لقراءة النصب. قوله: (بأن رفعها جبريل إلى السماء) أي بأن أدخل جناحيه تحتها، وهي خمس مدائن، أكبرها سدوم، وهي المؤتفكات المذكورة في سورة براءة، ويقال كان فيها أربعة آلاف ألف، فرجع جبريل المدن كلها، حتى سمع أهل السماء صياح الديكة ونباح الكلاب، ولم ينكب لهم إناء، ولم ينتبه لهم نائم ثم قلبها.
قوله: ﴿ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا ﴾ أي على أهلها الخارجين عنها في الأسفار وغيرها، وقيل على القرى بعد قلبها، فمن جملة ما وقع، أن رجلاً منهم كان في الحرم، فجاءه حجر ووقف في الهواء أربعين يوماً ينتظر ذلك الرجل، حتى خرج من الحرم فسقط عليه فقتله. قوله: (متتابع) أي في النزول. قوله: (عليها اسم من يرمى بها) أي مكتوب على كل حجر اسم صاحبه الذي يرمى به. قوله: (الحجارة أو بلادهم) هذان تفسيران في مرجع الضمير، قيل: يعود على الحجارة لأنها أقرب مذكور، وقيل: يعود على القرى المهلكة، وعلى الأول فهو وعيد عظيم لكل ظالم من هذه الأمة، ففي الحديث:" سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عن المراد بالظالمين، فقال له جبريل: يعني ظالمي أمتك، ما من ظالم منهم، إلا وهو بعرض حجر، يسقط عليه من ساعة إلى ساعة "قوله: ﴿ بِبَعِيدٍ ﴾ أي بمكان بعيد، بل بمكان قريب يمرون عليها في أسفارهم، قوله: ﴿ وَإِلَىٰ مَدْيَنَ ﴾ معطوف على قوله:﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً ﴾[هود: ٢٥] عطف قصة على قصة، ومدين اسم قبيلة، سميت باسم جدهم مدين بن إبراهيم، ويسمى شعيب خطيب الأنبياء، لحسن مراجعته قومه. قوله: ﴿ أَخَاهُمْ شُعَيْباً ﴾ أي في النسب لا الدين، لأنه ابن ميكائيل بن يشجر بن مدين بن إبراهيم. قوله: ﴿ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ ﴾ أمرهم بالتوحيد أولاً لأنه أهم الأشياء وأصلها، وغيره فرع، فإذا صلح الأصل صلح الفرع. قوله: ﴿ وَلاَ تَنقُصُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ ﴾ نقص يتعدى لمفعولين: فالمفعول الأول قوله: ﴿ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ ﴾ والمفعول الثاني محذوف تقديره شيئاً، والمعنى لا تنقصوهما شيئاً أصلاً عند الأخذ ولا عند الدفع، فنقصهما عند الدفع ظاهر، ونقصهما عند الأخذ بأن يزيد على حقه في المبيع، وهو في الحقيقة نقص الثمن، قال تعالى:﴿ وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * ٱلَّذِينَ إِذَا ٱكْتَالُواْ عَلَى ٱلنَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ﴾[المطففين: ١-٣].
قوله: ﴿ إِنِّيۤ أَرَاكُمْ ﴾ أي فاقتنعوا بما أعطاكم الله، ولا تطففوا الكيل والميزان. قوله: (ووصف اليوم به) أي بقوله محيط. قوله: (مجاز) أي عقلي في الإسناد للزمان. قوله: ﴿ وَلاَ تَبْخَسُواْ ﴾ كرر ذلك ثلاث مرات، أولها قوله: ﴿ وَلاَ تَنقُصُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ ﴾، وثانيها قوله: ﴿ وَيٰقَوْمِ أَوْفُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ ﴾، وثالثها قوله: ﴿ وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ ﴾ تأكيداً لكونهم مصرين على ذلك العمل القبيح منهمكين فيه. قوله: ﴿ أَشْيَآءَهُمْ ﴾ أي أموالهم، ودخل في ذلك من يسوم السلع ينقص قيمتها، وهو مشهور تقتدي به الناس، فالواجب إعطاء كل سلعة قيمتها، وإعطاء كل ذي حق حقه، وحينئذ فهو عطف عام على خاص. قوله: ﴿ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾ هذا أعم مما قبله، والمعنى لا تكونوا من المفسدين في الأرض بالمعاصي، بل كونوا مصلحين لدينكم ودنياكم.
قوله: ﴿ بَقِيَّتُ ٱللَّهِ ﴾ ترسم بالتاء المجرورة، وعند الوقف عليه للاضطرار، يجوز بالتاء المجرورة أو المربوطة، وليس في القرآن غيرها. قوله: ﴿ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ أي لوجود البركة فيه. قوله: ﴿ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ أي مصدقين بما أمرتكم به ونهيتكم عنه، وهو شرط حذف جوابه لدلالة ما قبله عليه، أي فارضوا بما قسم الله لكم من الحلال. قوله: ﴿ وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ﴾ أي حافظ لكم من القبائح، ولا حافظ عليكم النعم، إنما أنا مبلغ لكم الأحكام. قوله: ﴿ يٰشُعَيْبُ ﴾ خاطبوه باسمه من غير اقتران بالتعظيم، لقباحتهم وسوء فعلهم. قوله: ﴿ أَصَلَٰوتُكَ تَأْمُرُكَ ﴾ أي وكان كثير الصلاة، وقيل المراد بها الدين، وخصت بالذكر لأنها أعظم الشعائر. قوله: (بتكليف) قدره دفعاً لما يقال: إن الترك من وصفهم وفعلهم لا فعل شعيب، والإنسان يؤمر بفعل نفسه لا فعل غيره. قوله: (من الأصنام) بيان لما. قوله: ﴿ أَوْ أَن نَّفْعَلَ ﴾ قدر المفسر (نترك)، إشارة إلى أنه معطوف على ﴿ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ ﴾.
قوله: (قالوا ذلك استهزاء) إلخ، أي أو أرادوا السفيه الغاوي، من باب تسمية الأضداد، أو المراد الحليم الرشيد في زعمك. قوله: ﴿ أَرَأَيْتُمْ ﴾ أي اخبروني. قوله: ﴿ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ ﴾ أي نبوة وصدق. قوله: (أفأشوبه) أي أخلطه، قوله: (من البخس والتطفيف) بيان للحرام. قوله: ﴿ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ ﴾ أي فأنا آمركم بما آمر به نفسي، وليس قصدي أن أنهاكم عن شيء وأفعله. قوله: ﴿ مَا ٱسْتَطَعْتُ ﴾ أي مدة استطاعتي. قوله: ﴿ وَمَا تَوْفِيقِيۤ ﴾ أي وما كوني موفقاً. قوله: ﴿ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ﴾ أي فوضت أموري إليه. قوله: (يكسبنكم) أي فهو متعد لمفعولين: الأول للضمير، والثاني أن وما دخلت عليه، والمعنى لا يكن شقاقي مكسباً لكم إصابة مثل ما ذكر، فلا تستمروا على مخالفتي، حتى يصيبكم بسبب تلك المخالفة مثل ما أصاب إلخ. قوله: (أي منازلهم) أي لأنهم كانوا مجاورين لقوم لوط، وبلادهم قريبة من بلادهم، وقوله: (أو زمن هلاكهم) أي فقد كان زمن هلاك قوم لوط، قريباً من قوم شعيب. قوله: ﴿ وَٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ﴾ أي اطلبوا منه المغفرة لذنوبكم. قوله: ﴿ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ ﴾ أي ارجعوا إليه بفعل الطاعات. قوله: ﴿ وَدُودٌ ﴾ صيغة مبالغة، إما بمعنى فاعل أي محب لهم، كما قال المفسر، أو بمعنى مفعول أي إن عباده يحبونه، ويمتثلون أوامره، ويجتنبون نواهيه.
قوله: ﴿ ضَعِيفاً ﴾ أي لا قوة لك. قوله: ﴿ لَرَجَمْنَاكَ ﴾ أي رميناك بالحجارة، وقيل المعنى لشتمناك وأغلظنا عليك بالقول. قوله: (هم الأعزة) أي لموافقتهم لهم في الدين. قوله: ﴿ ظِهْرِيّ ﴾ منسوب للظهر، والكسر من تغيرات النسب، والقياس فتح الظاء، والهاء مفعول أول، وظهرياً مفعول ثان لاتخذوا، ووراءكم ظرف له. قوله: (منبوذاً خلف ظهوركم) أي جعلتموه نسياً منسياً. قوله: ﴿ ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ ﴾ هذا وعيد عظيم وتهديد لهم. قوله: ﴿ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ استئناف بياني، كأن قاتلاً قال: فماذا يكون بعد ذلك؟ قوله: (موصولة) أي بمعنى الذي. قوله: ﴿ وَمَنْ هُوَ كَٰذِبٌ ﴾ معطوف على قوله: ﴿ مَن يَأْتِيهِ ﴾ والمعنى سوف تعلمون الذي يأتيه عذاب يخزيه وتعلمون الكاذب. قوله: (صاح بهم جبريل) أي فخرجت أرواحهم جميعاً، وهذا في أهل قريته، وأما أصحاب الأيكة، فأهلكوا بعذاب الظلمة، وهي سبحانه فيها ريح طيبة بالردة، فأظلتهم حتى اجتمعوا جميعاً، فألهبها الله عليهم ناراً، ورجفت الأرض من تحتهم، فاحترقوا وصاروا رماداً. قوله: ﴿ أَلاَ بُعْداً ﴾ أي هلاكاً. قوله: كما ﴿ بَعِدَتْ ثَمُودُ ﴾ أي كما هلكت ثمود، والتشبيه من حيث إن هلاك كل بالصيحة. قوله: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ ﴾ هذه هي القصة السابعة. قوله: ﴿ بِآيَاتِنَا ﴾ أي التسع، تقدم منها ثمانية في الأعراف، والتاسعة في يونس، وتقدم الكلام عليها. قوله: ﴿ وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ﴾ قيل: المراد بالعصا، وخصت بالذكر لكونها أكبرت الآيات وأعظمها، وقيل: المراد به المعجزات الباهرة والحجج الظاهرة، وسميت الحجة سلطاناً، لأن بها قهر وأعظمها، وقيل: المراد به المعجزات الباهرة والحجج الظاهرة، وسميت الحجة سلطاناً، لأن بها قهر الخصم، كما أن السلطان به قهر الخصم، كما أن السلطان به قهر غيره، فيكون عطف عام. قوله: ﴿ وَمَلَئِهِ ﴾ أي جماعته وأتباعه، قوله: ﴿ فَٱتَّبَعُوۤاْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ ﴾ أي ما هو عليه من الكفر بتلك الآيات العظيمة. قوله: (سديد) أي صائب محمود العاقبة، بل لا يدعو إلى خير.
قوله: ﴿ يَقْدُمُ ﴾ مضارع قدم كنصر، ومصدره قدم كقفل، وقدوم بمعنى يتقدم. قوله: (كما اتبعوه في الدنيا) أي في دخول البحر والكفر والضلال. قوله: ﴿ فَأَوْرَدَهُمُ ٱلنَّارَ ﴾ الورود في الأصل يقال للمرور على الماء للاستقاء منه، فشبه النار بماء يورد، وطوى ذكر المشبه به، ورمز له بشيء من لوازمه وهو الورود، فإثباته تخييل، وشبه فرعون في تقدمه على قدمه إلى النار، ممن يتقدم على الواردين إلى الماء ليكسر العطش على سبيل التهكم. قوله: (هي) قدره إشارة إلى المخصوص بالذم محذوف. قوله: ﴿ لَعْنَةً ﴾ أي طرداً وبعداً عن الرحمة. قوله: ﴿ وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ ﴾ هذا وقف نام، وقدر المفسر لعنة، إشارة إلى أن فيه الحذف من الآخر، لدلالة الأول عليه. قوله: ﴿ بِئْسَ ٱلرِّفْدُ ٱلْمَرْفُودُ ﴾ المراد بالرفد اللعنة الأولى، وقوله: ﴿ ٱلْمَرْفُودُ ﴾ أي المعان باللعنة الثانية، والمعنى أن اللعنة الأولى، أرفدت بلعنة أخرى تقويها وتعاونها، وتسميتها رفداً تهكم. قوله: ﴿ ذَلِكَ ﴾ أي ما تقدم في هذه السورة من القصص. قوله: ﴿ مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْقُرَىٰ ﴾ أي أخبار أهل القرى، وهم الأمم الماضية. قوله: ﴿ نَقُصُّهُ عَلَيْكَ ﴾ أي لتخبر به قومك لتعتبروا. قوله: ﴿ مِنْهَا قَآئِمٌ ﴾ أي أثر قائم موجود. قوله: ﴿ وَحَصِيدٌ ﴾ (هلك بأهله) أي محي فلم يبق له أثر، وفيه تشبيه القائم والحصيد بالزرع، الذي بعضه قائم على ساقه، وبعضه قد حصد وذهب أثره. قوله: ﴿ لَّمَّا جَآءَ ﴾ أي حين جاء. قوله: ﴿ وَمَا زَادُوهُمْ ﴾ الضمير المرفوع للأصنام، والمنصوب لعابديها، وعبر عنها بواو العقلاء لتنزيلهم منزلتهم. قوله: ﴿ غَيْرَ تَتْبِيبٍ ﴾ التباب الخسران، يقال تببته وتبت يده، تتب بمعنى خسرت. قوله: ﴿ وَهِيَ ظَالِمَةٌ ﴾ الجملة حالية. قوله: ﴿ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ أي غير مرجو الخلاص منه. قوله: (إن الله ليملي للظالم) أي يمده بطول العمر وسعة الرزق ونفوذ الكلمة. قوله: (ثم قرأ) الخ، أي فيؤخذ من ذلك، أن من قدم على ظلم، يجب عليه أن يتوب، ويرجع عما هو عليه، ويرد المظالم لأهلها، لئلا يقع في هذا الوعيد العظيم، فإن هذه الآية ليست مخصوصة بالأمم الماضية، بل هي عامة في كل ظالم، غير أن هذه الأمة المحمدية، لا ينزل بها عذاب على سبيل الاستئصال إكراما لنبيها صلى الله عليه وسلم. قوله: (من القصص) أي السبع.
قوله: ﴿ لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ ٱلآخِرَةِ ﴾ أي لأنه إذا تأمل ما حصل لهؤلاء في الدنيا من العذاب، كان ذلك باعثاً له على الخوف من ذلك اليوم. قوله: (فيه) أشار بذلك إلى أن اللام بمعنى في، والمعنى أن يوم القيامة تجمع فيه الخلائق من الأنس والجن وغيرهما. قوله: (يشهده) أي يحضره. قوله: ﴿ وَمَا نُؤَخِّرُهُ ﴾ أي ذلك اليوم وهو يوم القيامة. قوله: (لوقت معلوم) أي وهو مدة الدنيا. قوله: ﴿ يَوْمَ يَأْتِ ﴾ (ذلك اليوم) إن قلت: إن اليوم لا يصلح أن يكون ظرفاً لليوم، وإلا لزم تعيين الشيء بنفسه. وأجيب: بأن الكلام على حذف مضاف، أي هوله وعذابه، أو المعنى حين يأتي ذلك اليوم إلخ. قوله: ﴿ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ﴾ أي فجميع الخلائق يسكنون في ذلك اليوم، فلا يتكلم أحد إلا بإذنه. إن قلت: كيف يجمع بين ما هنا وبين قوله تعالى﴿ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا ﴾[النحل: ١١١] وقوله تعالى حكاية عن الكفار:﴿ وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾[الأنعام: ٢٣]؟ أجيب: بأن القيامة مواطن مختلفة ففي بعضها لا يقدرون على الكلام لشدة الهول، وفي بعضها يحتاجون ويتجادلون، أو المراد لا تكلم نفس بما ينفع وينجي، بل قد يتكلم الكفار بكلام لا نفع به، بل لإظهار بطلان حججهم. قوله: (كتب كل في الأزل) أي وظهرت الخاتمة على طبق ما كتب. قوله: (في علمه) أي وهم من ماتوا كفاراً وإن تقدم منهم إيمان. قوله: ﴿ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ﴾ الزفير في الأصل ترديد النفس في الصدر، حتى تنتفخ منه الأضلاع، والشهيق رد النفس إلى الصدر، وهذا التفسير الذي ذكره المفسر لابن عباس، وقيل: الزفير أول صوت الحمار، والشهيق آخره، وقيل: الزفير صوت الحمار، والشهيق صوت البغل، وقيل غير ذلك. قوله: (أي مدة دوامهما) أشار بذلك إلى أن ما مصدرية ظرفية، ودام تامة لأنها بمعنى بقيت أو مقدار دوامهما. قوله: (في الدنيا) أي فالمراد سماوات الدنيا وأرضها. قوله: (غير) ﴿ مَا شَآءَ رَبُّكَ ﴾ أفاد أن ﴿ إِلاَّ ﴾ معنى غير، والمعنى أنهم يخلدون في النار مقدار مكث الدنيا، غير لزيادة التي شاءها الله، وما شاء الله قد بين في آيات أخر، منها، قوله:﴿ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ﴾[النساء: ٥٧]، ومنها﴿ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ ٱلنَّارِ ﴾[البقرة: ١٦٧]، ومنها قوله:﴿ لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ﴾[الزخرف: ٧٥].
قوله: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ﴾ دفع بذلك ما يتوهم من التعبير بالمشيئة أنها قد تتخلف. فأجاب بقوله ﴿ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ﴾ فلا تخلف لمشيئة الله بخلود الكافر، لأنه متى أراد شيئاً حصل ولا بد، وما قيل إن وعيده قد يتخلف، فالمراد وعيد العاصي لا وعيد الكافر.
قوله: ﴿ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ سُعِدُو ﴾ هذا مقابل قوله:﴿ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ شَقُواْ ﴾[هود: ١٠٦] وفي هذه الآية من المحسنات البديعية، الجمع والتفريق والتقسيم، فالجمع في قوله:﴿ يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ﴾[هود: ١٠٥] والتفريق فة قوله تعالى:﴿ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ﴾[هود: ١٠٥]، والتقسيم في قوله:﴿ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ شَقُواْ ﴾[هود: ١٠٦] إلخ ﴿ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ سُعِدُواْ ﴾ إلخ. قوله: (بفتح السين وضمها) أي فهما قراءتان سبعيتان، فالفتح من قولهم: سعد الرجل بمعنى قامت به السعادة، والضمم في قولهم: سعده الله أي أسعده، فالأول قاصر، والثاني متعد، والمعنى: إن الذين سبقت لهم السعادة من الله بموتهم على الإيمان، وإن سبق منهم الكفر في الدنيا، فهم في الجنة، والمراد بالسعادة رضا الله على العبد، وعلامة ذلك أن يكون العبد محباً لربه، ساعياً في مرضاته، دائم الإقبال على طاعته، راضياً بأحكامه. قوله: ﴿ فَفِي ٱلْجَنَّةِ ﴾ المراد بها دار النعيم بجميع دورها، فشمل جنة الفردوس وغيرها. قوله: ﴿ مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ ﴾ أي مدة دوامهما في الدنيا، والمعنى قدر مكث السماوات والأرض، من أول الدنيا إلى آخرها. قوله: (كما تقدم) أي فيقال غير ما شاء ربك من الزيادة التي لا منتهى لها، فالمعنى خالدين فيها أبداً، ويدل ذلك على قوله تعالى:﴿ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ﴾[النساء: ٧٥] فالزيادة التي شاءها الله، فسرت في آيات أخر بالخلود المؤبد، قوله: (ودلّ عليه) أي على الخلود المؤبد، وقوله: (فيهم) أي السعداء. قوله: ﴿ عَطَآءً ﴾ مفعول مطلق لفعل محذوف وتقديره أعطاهم ذلك العطاء، وعطاء اسم مصدر أعطى، والمصدر إعطاء. قوله: (مقطوع) أي ولا ممنوع، بل هو عطاء دائم، لا يزول ولا يحول. قوله: (هو الذي ظهر) أي من نحو عشرين وجهاً في تفسير تلك الآية، منها أن المراد بالسماوات والأرض سقف الجنة والنار وأرضهما، ويحتمل الاستثناء في جانب أهل الشقاوة على عصاة الأمة فيكون المعنى خالدين فيها أبداً، إلا عصاة المؤمنين الذين نفذ فيهم الوعيد، فلا يخلدون أبداً، بل يخرجون بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، والاستثناء حينئذ، إما منقطع لعد دخول هؤلاء في الأشقياء، أو متصل بحعل هؤلاء أشقياء باعتبار، وسعداء باعتبار آخر، وفي جانب أهل السعادة على عصاة المؤمنين أيضاً، لكن باعتبار تعذيبهم أولاً، فيتأخرون في الدخول مع السابقين، فتحصل أن الاستثناء في كل محمول على العصاة، لكن في جانب أهل الشقاوة مستثنون من الخلود، وفي جانب أهل السعادة مستثنون من المبدأ. كأنه قال: فأما الذين سعدوا ففي الجنة من أول الأمر، إلا ما شاء ربك من العصاة، فليسوا في الجنة من أول الأمر، بل هم في النار يعذبون ثم يخرجون. ومنها: أن المراد بالذين شقوا الكفار، وبالذين سعدوا المؤمنون، والاستثناء باعتبار أن بعض الكفار، قد ينقل من النار إلى غيرها كالزمهرير، وبعض المؤمنين قد ينقل من النعيم، فيما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، إلى أعلى منه، وهو رؤية وجه الله الكريم ومخاطبته، ومنها: أن الاستثناء راجع لمدة تأخرهم عن دخول الجنة والنار، كمدة الدنيا والبرزخ، لأنهم لم يدخلوها حين خلقوا سعداء وأشقياء. ومنها غير ذلك. وما تقدم من أن نعيم الجنان وعذاب النار دائم، هو ما دلت عليه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، ووراء ذلك أقوال يجب تأويلها، والأخذ بظاهرها كفر، فمنها ما قيل إن الجنة والنار يتقضيان بدليل ظاهر هذه الآية، ومنها أن أهل النار تنقلب عليهم النار نعيماً، حتى لو صب عليهم ماء الجنة يتأذون، ومنها أن النار تخرب حتى لا يصير فيها أحد، ومنها غير ذلك، وهذه الأقوال باطلة، ونسبتها المحيي الدين بن العربي كذب، وعلى فرض صحة نقلها عنه يجب تأويلها.
قوله: ﴿ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ ﴾ هذا شروع في ذكر أحوال المخالفين من هذه الأمة، إثر بيان المخالفين من غيرهم، وهذا الخطاب للنبي والمراد غيره. قوله: (من الأصنام) بيان لما. قوله: ﴿ مَا يَعْبُدُونَ ﴾ أي فليس لهم في ذلك إلا محض تقليد آبائهم. قوله: (وقد عذبناهم) أي آباءهم، وإنما قدره لتتم المشابهة. قوله: ﴿ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ ﴾ أي هؤلاء. قوله: (أي تاماً) أشار بذلك إلى قوله: ﴿ غَيْرَ مَنقُوصٍ ﴾ حال من نصيب مبينة له. قوله: ﴿ فَٱخْتُلِفَ فِيهِ ﴾ هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم أي فلا تحزن على ما وقع لك، فإنه قد وقع لغيرك. قوله: ﴿ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ﴾ أي لجوزي المحسن على إحسانه، والمسيء على إساءته في الدنيا. قوله: (أي المكذبين به) أي بالقرآن. قوله: ﴿ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ﴾ أي من القرآن. قوله: (موقع في الريبة) اي لأنهم غذا نظروا لآبائهم وما كانوا عليه قالوا: لو كان ما هم عليه ضلالاً ما اجتمعوا عليه، وإذا نظروا إلى النبي ومعجزاته الظاهرة قالوا إنه لحق، وما جاء به صدق، فهم في شك، ولا شك أنه كفر، وكل ناشىء من الطبع على قلوبهم، وإلا فالحق ظاهر لما تدبره.
قوله: ﴿ وَإِنَّ كُـلاًّ ﴾ أي من الطائعين والعاصين، وأتى بالجملة الإسمية المؤكدة بإن، ولام القسم زيادة في تأكيد بشرى المطيع ووعيد العاصي. قوله: (بالتشديد والتخفيف) أي ولما كذلك فتكون القراءات أربعاً وكلها سبعية. قوله: (أي كل الخلائق) أشار بذلك إلى أن التنوين عوض عن المضاف إليه. قوله: (ما زائدة) أي والأصل ليفينهم، فاستثقل اجتماع اللامين فوسطت بينهما ما، لدفع ذلك الثقل. قوله: (واللام موطئة) أي والأخرى للتأكيد. قوله: (أو فارقه)، فكان المناسب حذف قوله أو فارقه، إلا أن يقال إنها مهملة، و ﴿ كُـلاًّ ﴾ منصوب بفعل مقدر تقديره وإن يرى طلاً، وفيه أن هذا تكلف، وما لا كلفة فيه خبر مما فيه كلفة، وما ذكره المفسر من الإعراب، مبني على قراءة تشديد إن وتخفيفها مع تخفيف لما، وتوضيحه أن يقال إن حرف توكيد ونصب، وكلاً اسمها، واللام موطئة لقسم محذوف، وما زائدة، واللام الثانية للتأكيد، ويوفينهم فعل مضارع مبني على الفتح، لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، والهاء مفعول، وربك فاعل، وجملة القسم في محل رفع خبر إن. قوله: (بمعنى إلا فإن نافية) هذا ظاهر على قراءة تخفيف إن، وحينئذ فيقال إن نافية، وكلا منصوب بفعل مقدر، والتقدير إن يرى كلاً إلا ليوفينهم إلخ، ولم يتكلم على تشديدهما، هذا حاصل تقرير المفسر، ولا يخفى عليك ما فيه من المناقشة والكلفة والإعراب السالم، من ذلك كله أن يقال: إن القراءات السبعية أربع، تخفيفهما وتشديدهما وتخفيف إن فقط، وتخفيف لما فقط، مع نصب كلاً في الجميع، فعلى الأولى إن مخففة من الثقيلة، وكلا اسمها، واللام الأولى لام ابتداء، وما اسم موصول، واللام الثانية موطئة لقسم محذوف، ويوفينهم جواب القسم، وجملة القسم وجوابه صلة الموصول، والموصول وصلته خبر إن، وعلى الثانية إن عاملة، ولما أصله لمن ما بدخول اللام على من الجارة، قلبت النون ميماً لوالي الأمثال، حذفت إحدى الميمات، وأدغمت إحدى الميمين في الأخرى، فما اسم موصول، وجملة ليوفينهم قسمية صلة الموصول، وهو وصلته خبر إن، وعلى الثالثة فإن المخففة عاملة، واصل لما: لمن ما، فعل بها ما تقدم، وعلى الرابعة إن المشددة عاملة، واللام لام الابتداء، وما اسم موصول في جميع الأوجه كلها. واللام الثانية موطئة للقسم، والأولى لام الابتداء فتأمل، وما قررناه زبدة كلام طويل في هذا المقام فليحفظ. قوله: (أي جزاؤها) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف. قوله: ﴿ فَٱسْتَقِمْ ﴾ أي دم على الاستقامة التي أمرت بها في خاصة نفسك، كقيام الليل، وتبليغ ما أمرت بتبليغه للخلق، وعدم فرارك من قتال الكفار واو اجتمعت أهل الدنيا، وغير ذلك من التكاليف العامة له ولغيره والخاصة به. قوله: ﴿ وَمَن تَابَ مَعَكَ ﴾ قدر المفسر قوله: (ليستق) جواباً عما يقال إن قوله: ﴿ وَمَن تَابَ ﴾ معطوف على الضمير المستتر في استقم، فيلزم عليه أن فعل الأمر قد رفع الظاهر، فأجاب المفسر: بأن ذلك من عطف الجمل، والمحذور إنما يلزم لو كان من عطف المفردات، ويجاب أيضاً: بأنه قد يغتفر في التابع، ما لا يغتفر في المتبوع. قوله: ﴿ وَلاَ تَطْغَوْاْ ﴾ خطاب للنبي والأمة، ولكن المراد الأمة، فإن الطغيان مستحيل على النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الآية صعبة التكليف، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" شيبتني هود وأخواتها ".
قوله: ﴿ إِلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ﴾ أي بالكفر أو بالمعاصي. قوله: (بمودة) مصدر وادد كقاتل، أي محبة. قوله: (أو مداهنة) أي مصانعة، فالمداهنة بذل الدين لإصلاح الدنيا. قوله: (أو رضا بأعمالهم) أي وتزيينها لهم، ولا عذر في الاحتجاج بضرورات الدنيا، فإن الله هو الرزاق ذو القوة المتين. قوله: ﴿ فَتَمَسَّكُمُ ٱلنَّارُ ﴾ أي لأن المرء يحشر مع مع أحب. قوله: (يحفظونكم منه) أي من عذاب النار. قوله: ﴿ طَرَفَيِ ٱلنَّهَارِ ﴾ منصوب على الظرفية، لإضافته إلى الظرف. قوله: (الغداة والعشي) تفسير للطرفين. قوله: (أي الصبح) راجع للغداة، وقوله: (والظهر والعصر) راجع للعشي. قوله: ﴿ وَزُلَفاً ﴾ بضم ففتح كغرف، وقوله: (جمع زلفة) أي كغرفة. قوله: ﴿ ٱلْحَسَنَاتِ ﴾ أي الواجبة أو المندوبة. قوله: (نزلت فيمن قبل أجنبية) أي وهو أبو اليسر، قال: اتتني امرأة تبتاع تمراً فقلت لها: إن في البيت تمراً أطيب من هذا، فدخلت معي البيت فقبلتها، فأتيت أبا بكر فذكرت لذك له فقال: استر على نفسك وتب ولا تخبر أحداً، فأتيت عمر فذكرت ذلك له فقال: استر على نفسك وتب ولا تخبر أحداً، فلم أصبر حتى أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: أخنت رجلاً غازياً في سبيل الله في أهله بمثل هذا، وأطرق طويلاً حتى أوحي إليه ﴿ وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ ﴾ إلى قوله: ﴿ لِلذَّاكِرِينَ ﴾، فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ألي هذا خاصة أم للناس عامة؟ فقال: بل للناس عامة. قوله: ﴿ ذٰلِكَ ﴾ أي المذكور من الأمر بالاستقامة وما بعده. قوله: ﴿ وَٱصْبِرْ ﴾ أي ولا تنزعج من قومك. قوله: ﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ ﴾ أي بل يعطيهم فوق ما يطلبون.
قوله: ﴿ فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ ٱلْقُرُونِ ﴾ إلخ، لما بيّن سبحانه وتعالى ما حل بالأمم الماضية من عذاب الاستئصال، بيّن هنا أن السبب في ذلك أمران الأول: عدم وجود من ينهى عن الفساد. الثاني: عدم رجوعهم عما هم فيه. قوله: (فهلا) أفاد المفسر أن لولا تحضيضية، والمراد بها النفي. قوله: ﴿ مِن قَبْلِكُمْ ﴾ الجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة للقرون، وَ ﴿ أُوْلُواْ ﴾، فاعل كان، وقوله: ﴿ مِنَ ٱلْقُرُونِ ﴾ حال من فاعل ﴿ كَانَ ﴾.
قوله: (أصحاب دين وفضل) أي وسموا ﴿ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ ﴾ لأن أهل البقاء بربهم لا يتحولون عما هم عليه من الدين والصلاح، فلهم البقاء والنجاة من الهلاك. قوله: (والمراد به) أي بالتحضيض المستفاد من لولا. قوله: ﴿ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ هذا استثناء منقطع، ولذا عبر المفسر بلكن، فالمستثنى منه القرون المهلكة بالعذاب، لعدم نهيهم عن المنكر، والمستثنى من انجاء الله من العذاب، بسبب أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر. قوله: ﴿ وَٱتَّبَعَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ ﴾ أي داموا على شهواتهم ولم يتذكروا عذاب الله. قوله: (نعموا) أي من النعيم الذي يغضب الله تعالى، فالمعنى أن سبب هلاكهم انشغالهم بالشهوات المغضبة لله تعالى وعدم رجوعهم عنها. قوله: ﴿ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ ﴾ الجملة حالية أي والحال أنهم فاعلون الجرائم مصرون عليها. قوله: ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ ﴾ هذا كالدليل لما قبله، والمعنى ما صح أن يهلك القرى بظلم منه، والحال أن أهلها مصلحون، وسمي الأخذ من غير ذنب ظلماً تكرماً منه، وإلا فحقيقته الظلم التصرف في ملك الغير من غير إذنه، ولا ملك لأحد معه، وهو بهذا المعنى مستحيل عقلاً من الله، وأما أخذه بغير ذنب، فهو وإن كان جائزاً عقلاً فمستحيل شرعاً، لأنه سماه ظلماً تفضلاً منه، ونزه نفسه سبحانه عنه، كما ألزم نفسه بالرحمة تفضلاً منه. قوله: (منه لها) ويصح أن يكون المعنى بظلم منهم، ويراد بالظلم الشرك، والمعنى أنه لا يهلك أهل القرى بمجرد شركهك، إذا كانوا مصلحين فيما بينهم، لفرط مسامحته تعالى في حقوقه، ولذلك تقدم حقوق العبادة على حقوق خالقهم. قوله: ﴿ وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ أي لكنه لم يشأ ذلك، فلم يجعلهم أمة واحدة، فلو امتناعية، والمعنى امتنع ذلك لعدم مشيئة الله له. قوله: (أهل دين واحد) أي وهو دين الإسلام. قوله: ﴿ وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ﴾ أي على أديان شتى، واستفيد من هذا، أن الاختلاف كما كان حاصلاً في الأمم الماضية، لا يزال مستمراً في هذه الأمة، فمنهم الكافر والمؤمن والطائع والعاصي، ولذلك ورد في الحديث:" افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وستفترقون ثلاثاً وسبعين، اثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، والمراد بالفرقة الواحدة، أهل السنة والجماعة "قوله: (فلا يختلفون فيه) بل هم على دين واحد لا يتفرقون، قال تعالى:﴿ أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ ﴾[الشورى: ١٣].
قوله: ﴿ وَلِذٰلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾ اللام للعاقبة والصيرورة، والمعنى: خلق أهل الاختلاف، لتكون عاقبة أمرهم هو الاختلاف، وخلق أهل الرحمة، لتكون عاقبة أمرهم الرحمة. قوله: ﴿ وَتَمَّتْ ﴾ أي حقت ووجبت. قوله: ﴿ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ ﴾ أي حتى تقول قط قط، بمعنى يكفي يكفي كما في الحديث، وذلك بعد أن تمد أعناقها وتطلب الزيادة، فيتجلى الله عليها بصفة الجلال، فتخضع وتذل وتقول قط قط. قوله: ﴿ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ ﴾ أي الكفار منهم، لأن الامتلاء على سبيل الخلود، لا يكون إلا من الكفار. قوله: (نصب بنقص) أي على أنه مفعول له.
قوله: ﴿ مِنْ أَنْبَاءِ ٱلرُّسُلِ ﴾ أي أخبارهم. قوله: ﴿ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ﴾ أي القصص والأخبار التي بها يزداد فؤادك ثباتاً على أداء الرسالة، وتحمل أذى قومك، وعلماً بفضل أمتك وشرفها، حيث انقاد منها خلق كثير في مدة يسيرة، بخلاف الأمم الماضية. قوله: (الأنباء) أي الأخبار، وقوله: (أو الآيات) تفسير ثان، والمراد بالآيات آيات هذه السورة وخصت بالذكر، وإن كان جاءه الحق في جميع السور تشريفاً لها، لكونها جمعت من قصص الأمم الماضية ما لم يكن في غيرها. قوله: ﴿ وَمَوْعِظَةٌ ﴾ أي اتعاظ، وقوله: ﴿ وَذِكْرَىٰ ﴾ أي تذكر وتدبر. قوله: (حالتكم) أي وهي الكفر. قوله: (على حالتنا) أي وهي الإيمان. قوله: (تهديد لهم) أي تخويف، وليس المراد الأمر بدوامهم على الكفر، بل هو على حد: إذا لم تستح فاصنع ما شئت. قوله: ﴿ إِنَّا مُنتَظِرُونَ ﴾ أي عاقبة أمركم. قوله: ﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ قال كعب الأحبار: خاتمة التوراة هي خاتمة سورة هود. قوله: (أي علم ما غاب فيهما) أي فلم يكلفنا بمعرفته. قوله: (للمفعول) أي فهما قراءتان سبعيتان والمعنى واحد. قوله: ﴿ ٱلأَمْرُ كُلُّهُ ﴾ أي أمر الخلائق كلهم في الدنيا والآخرة من خير وشر. قوله: (فينتقم ممن عصى) أي ويثيب من أطاع. قوله: ﴿ فَٱعْبُدْهُ ﴾ هذا مفرع على قوله: ﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ إلخ، أي فحيث كان هو العالم بما غاب في السماوات والأرض، وإليه مرجع الأمور كلها، فهو حقيق بعبادته هو لا غيره، وحقيق بالتوكل عليه وتفويض الأمور إليه. قوله: (ثق به) أي اعتمد عليه ولا تلتفت لغيره؛ فإنه لا يضر ولا ينفع، بل الضار النافع، المعطي المانع، هو الله، وبهذا تعلم أن التوكل أمر زائد على التوحيد، فالتوحيد بنفي الشرك، والتوكل ينفي الأوهام المعطلة على مراتب الأخبار. قوله: ﴿ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ ﴿ وَمَا ﴾ حجازية، و ﴿ رَبُّكَ ﴾ اسمها، و ﴿ بِغَافِلٍ ﴾ خبرها منصوب بفتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. قوله: (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضاً. قوله: (بالفوقانية) أي خطاباً للنبي والمؤمنين.
Icon