تفسير سورة هود

التفسير القيم
تفسير سورة سورة هود من كتاب التفسير القيم .
لمؤلفه ابن القيم . المتوفي سنة 751 هـ

و( الخبت ) في أصل اللغة : المكان المنخفض من الأرض، وبه فسر ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة لفظ «المخبتين » وقالا : هم المتواضعون.
وقال مجاهد : المخبت : المطمئن إلى الله عز وجل.
قال : والخبت : المكان المطمئن من الأرض.
وقال الأخفش : الخاشعون. وقال إبراهيم النخعي : المصلون المخلصون.
وقال الكلبي : هم الرقيقة قلوبهم.
وقال عمرو بن أوس : هم الذين لا يظلمون، وإذا ظلموا لم ينتصروا.
وهذه الأقوال تدور على معنيين : التواضع، والسكون إلى الله عز وجل، ولذلك عدي «إلى » تضمينا لمعنى الطمأنينة والإنابة، والسكون إلى الله تعالى.
فإنه سبحانه ذكر الكفار ووصفهم بأنهم ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون، ثم ذكر المؤمنين ووصفهم بالإيمان والعمل الصالح والإخبات إلى ربهم فوصفهم بعبودية الظاهر والباطن، وجعل أحد الفريقين كالأعمى والأصم من حيث كان قلبه أعمى عن رؤية الحق، أعمى أصم عن سماعه، فشبهه بمن بصره أعمى عن رؤية الأشياء وسمعه أصم عن سماع الأصوات.
والفريق الآخر بصير القلب سميعه بصير العين وسميع الأذن.
وقد تضمنت الآية قياسين وتمثيلين للفريقين، ثم نفى التسوية عن الفريقين بقوله :﴿ هل يستويان مثلا ﴾.
أودع الله قلوب أتباع رسله سرا من أسرار معرفته ومحبته، والإيمان به خفي على أعداء الرسل، فنظروا إلى ظواهرهم، وعموا عن بواطنهم، فازدروهم واحتقروهم وقالوا للرسول : أبعد هؤلاء عنك حتى نأتيك ونسمع منك، وقالوا :﴿ أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ﴾ [ الأنعام : ٥٣ ] فقال نوح عليه السلام لقومه :﴿ ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم ﴾ [ هود : ٣١ ].
قال الزجاج : المعنى : إن كنتم تزعمون أنهم إنما اتبعوني في بادئ الرأي وظاهره فليس على أن أطلع على ما في أنفسهم، فإذا رأيت من يوحد الله عملت على ظاهره ورددت علم ما في نفوسهم إلى الله، وهذا معنى حسن.
والذي يظهر من الآية : أن الله يعلم ما في أنفسهم إذ أهلهم لقبول دينه وتوحيده، وتصديق رسله، والله سبحانه وتعالى عليم حكيم، يضع العطاء في مواضعه وتكون هذه الآية مثل قوله تعالى :﴿ وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين ﴾ [ الأنعام : ٥٣ ].
فإنهم أنكروا أن يكون الله سبحانه أهلهم للهدى، والحق، وحرمه رؤساء الكفار وأهل العزة منهم والثروة، كأنهم استدلوا بعطاء الدنيا على عطاء الآخرة، فأخبر الله سبحانه أنه أعلم بمن يؤهله لذلك، لسر عنده من معرفة قدر النعمة ورؤيتها من مجرد فضل المنعم ومحبته وشكره عليها، وليس كل أحد عنده هذا السر، فلا يؤهل كل أحد لهذا العطاء.
أخبر عن عموم قدرته تعالى، وأن الخلق كلهم تحت تسخيره وقدرته، وانه آخذ بنواصيهم، فلا محيص لهم عن نفوذ مشيئته وقدرته فيهم. ثم عقب ذلك بالإخبار عن تصرفه فيهم، وأنه بالعدل لا بالظلم، وبالإحسان لا بالإساءة، وبالصلاح لا بالفساد، فهو يأمرهم وينهاهم إحسانا إليهم وحماية وصيانة لهم.
ولا حاجة إليهم، ولا بخلا عليهم، بل جودا وكرما وبرا ولطفا، ويثيبهم إحسانا وتفضلا ورحمة. لا لمعاوضة واستحقاق منهم ودين واجب لهم يستحقونه عليه ويعاقبهم عدلا وحكمة، لا تشفيا ولا مخافة ولا ظلما، كما يعاقب الملوك وغيرهم. بل هو على الصراط المستقيم وهو صراط العدل والإحسان. في أمره ونهيه، وثوابه وعقابه.
فتأمل ألفاظ هذه الآية وما جمعته من عموم القدرة، وكمال الملك، ومن تمام الحكمة والعدل والإحسان، وما تضمنته من الرد على الطائفتين، فإنها من كنوز القرآن. ولقد كفت وشفت لمن فتح عليه باب فهمها.
فكونه تعالى على صراط مستقيم : ينفي ظلمه للعباد. وتكليفه إياهم ما لا يطيقون. وينفى العيب عن أفعاله وشرعه، ويثبت لها غاية الحكمة والسداد، ردا على منكري ذلك، وكون كل دابة تحت قبضته وقدرته، وهو آخذ بناصيتها.
ينبغي أن لا يقع في ملكه من أحد مخلوقاته شيء بغير مشيئته وقدرته.
وأن من ناصيته بيد الله وفي قبضته لا يمكنه أن يتحرك إلا بتحريكه، ولا يفعل إلا بإقداره، ولا يشاء إلا بمشيئته تعالى، وهذا أبلغ رد على منكري ذلك من القدرية فالطائفتان ما وفوا الآية معناها، ولا قدروها حق قدرها.
فهو سبحانه على صراط مستقيم في عطائه ومنعه، وهدايته، وإضلاله، وفي نفعه وضره، وعافيته، وبلائه، وإغنائه، وإفقاره، وإعزازه، وإذلاله، وإنعامه وانتقامه، وثوابه وعقابه، وإحيائه وإماتته، وأمره ونهيه، وتحليله وتحريمه، وفي كل ما يخلق، وكل ما يأمر به، وهذه المعرفة بالله لا تكون إلا للأنبياء ولورثتهم.
Icon