سورة هود مكية، عدد آياتها مائة وثلاث وعشرون آية، نزلت بعد سورة يونس التي نزلت بعد الإسراء وفي فترة من أحرج الفترات في تاريخ حياة الرسول عليه الصلاة والسلام وأشقها في تاريخ الدعوة بمكة. فقد سبقها موت أبي طالب وخديجة، وتجرأ المشركون على ما لم يكونوا ليجرأوا عليه قبل ذلك، وخاصة بعد حادث الإسراء، واستهزاء المشركين، وارتداد بعض ضعاف المسلمين. يومئذ عظمت المصيبة على الرسول الكريم، حتى سمّى ذلك العام " عام الحزن " وقال : ما نالت قريش مني شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب. لأنه لم يكن في عشيرته وأعمامه حاميا له ولا ذابّا عنه أكثر منه.
وقد ابتدأت السورة بالتنويه بالقرآن الكريم، وعبادة الله وحده، والإنذار والتبشير ثم بيان قدرة الله وربوبيته، وذكر أحوال الناس في تلقيهم لنعمه ونقمه، ثم مقام القرآن، والتحدي به، وكفر الكافرين به من غير عذر في كفرهم، وبيان ثواب المؤمنين.
والسورة كما يظهر من مفتتحها ومختتمها والسياق الذي تجري عليه آياتها تبين غرض القرآن، وتصف المحصّل من مقاصده على اختلاف آياته وكثرتها. فبالإضافة إلى احتوائها معارف الدين المختلفة من أصول المعارف الإلهية والأخلاق الكريمة الإنسانية، والأحكام الشرعية الراجعة إلى كليات العبادات والمعاملات والسياسات والولايات، تصف عامة الخليقة كالعرش والكرسي واللوح والقلم والسماء والأرض والملائكة والجن والشياطين والنبات والحيوان والإنسان، كما تصف بدء الخليقة وما ستعود إليه من الفناء يوم الرجوع إلى الله سبحانه، للحشر والحساب.
هذا كما تصف الرابطة التي بين خلقة الإنسان وبين عمله وما يستتبعه هذا من سعادة أو شقاء، وما يتعلق بذلك من الوعد والوعيد والإنذار بالموعظة الحسنة والحكمة.
فالآيات القرآنية جميعا تعتمد على حقيقة واحدة هي الأصل والأساس الذي بني عليه بنيان الدين، وهو توحيده تعالى على أنه رب كل شيء
لا رب غيره، له يسلم المؤمن من كل وجهة فيوفي له حق ربوبيته، ولا يخضع في عمل إلا له جل شأنه.
إلى هذا الأصل على إجماله ترجع جميع تفاصيل المعاني القرآنية من معارفها وشرائعها بالتحليل.
ولقد قصّ الله تعالى قصص بعض النبيين، وأشار إلى مجادلة أقوامهم لهم، وذكر إنزال العذاب الدنيوي بالكافرين ونجاة المؤمنين، من ذلك قصة نوح التي وردت هنا بتفصيل أكثر منه في سورة يونس. ثم ذكر قصة عاد مع نبي الله هود، ببيان يوضح عقلية الكفر، وما نزل بالكافرين مع قوة بأسهم وشدتهم وبهذا سميت السورة " سورة هود ".
ثم ذكر بمثل ذلك من البيان قصة نبي الله صالح مع ثمود، ثم قصة سيدنا إبراهيم، ثم قصة نبي الله لوط، ثم قصة نبي الله شعيب.
وفي الختام ذكر سبحانه وتعالى العبر في هذا القصص الحق، وختمها بدعوة المؤمنين إلى العمل، وانتظار الثواب.
وقد ذكر هود في القرآن الكريم سبع مرات، في سورة الأعراف : الآية ٦٥، وفي سورة هود. الآيات ٥٠ و٥٣ و٥٨ و٦٠ و٧٩، وفي سورة الشعراء، الآية ١٤٢، وذكر ضمنا في سورة المؤمنون : الآية ٣٢. وفي سورة الأحقاف : الآيتان ٢١ و٢٢.
بسم الله الرحمان الرحيم
ﰡ
أحكمت آياته : أتقنت.
فصلت : جعلت واضحة.
حروف ابتدأت بها السورة للإشارة إلى أن القرآن معجِز، مع أنه مكون من الحروف التي ينطقون بها، وللتنبيه إلى الإصغاء عند تلاوة القرآن الكريم إلى أنه كتاب آياته محكمة النظم واضحة المعاني، قد فصِّلت أحكامها، وأنزلها ربّ حكيمٌ يقدر حاجة عباده، وخبير يضع الأمور في مواضعها.
إلى أجل مسمى : إلى عمر مقدر.
وقلْ لهم أيضاً : ادعوا الله واسألوه أن يغفر لكم ذنوبكم، ثم توبوا إليه بإخلاص، فيمتّعكم في معيشتكم متاعاً حسنا بالرِزق الطّيب والعافية والأمن إلى أن ينتهي الأجل المقدر لكم في هذه الحياة.
ويعطي كل صاحب عمل صالح في الدنيا أفضل الثواب وأحسن الجزاء في الآخرة.
وإن توليتم وأعرضْتم عما دعوتكم إليه، فإني أخاف عليكم عذابَ يومٍ كبير، هو يوم القيامة، لما فيه من أهوال شديدة.
ليستخفوا منه : ليخفوا أنفسهم.
يستغشون ثيابهم : يتغطون بها.
بعد أن ذكر الله تعالى أنهم إن أعرضوا حلّ بهم عذابٌ كبير، بيّن هنا في هذه الآية وصفَ حالتِهم العجيبة وكيف يتلقى فريق منهم تلك الآياتِ، عندما يتلوها عليهم النبيّ الكريم.
إن هؤلاء الكافرين يطوون صدورَهم ليكتُموا ما يجُول فيها.
والله سبحانه وتعالى مطّلع على أحوالهم حتى في حال خَلْوَتِهم حين يتغطَّون بثيابهم، فهو يعلم سرَّهم وعلانيتَهم.
وهو يعلم بأسرار الصدور وخواطر القلوب.
المستقر : مكان الاستقرار.
ومستودعها : الموضع الذي كانت فيه قبل استقرارها، كالصلب والرحم والبيضة.
يبيّن الله في هذه الآية والآيات التي تليها آثار قدرته، وما يتعلقّ بحياة البشر وشؤونهم المختلفة، ويعرِّفُ الخلْقَ بربهم الحقّ الذي عليهم أن يعبدوه، فهو العالِمُ المحيط علمه بكل خلْقه، وهو الرازق الذي لا يترك أحداً من رزقه.
ثم يُطلعهم على آثار قدرتِه وحكمته في خلق السماوات والأرض بنظامٍ خاص في أطوار أو آمادٍ مُحكّمة.
ليس هناك دابة تتحرك على الأرض إلا وقد تكّفل الله برزقها، فكل مخلوق له رزقٌ مقدَّر من الله في سُننه التي ترتِّب النِّتاجَ على الجُهد، فلا يقعدنَّ أحد عن السعي فالسّماء لا تمطر ذهباً ولا فضة. ﴿ وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى ﴾ [ النجم : ٣٩ ].
إن الله يعلم أين تستقرّ تلك الدابة أو المخلوق وأين تقيم، والمكان الذي تودع فيه بعد موتها.
كل شيء من ذلك مسجَّلٌ عنده سبحانه في كتابٍ مبين موضِحٍ لأحوال ما فيه.
ومن قبل ذلك لم يكن الوجود أكثر من عالم الماء.
﴿ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء ﴾ يعني أن الماء كان موجوداً، خَلَقَه سبحانه وتعالى قبل أن يخلق السماوات والأرض.
أما كيف كان هذا الماء، وكيف كان عرشه عليه، فليس هناك نص على شيء من ذلك، والعقلُ وحده لا يمِلك العمل به ونترك البحث فيه.
ثم عَلل الله بما ذكر آنفاً بعض حِكمه الخاصة بالمكلفين المخاطبين بالقرآن فقال :
﴿ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾.
ولقد خلق هذا الكونَ ليُظهر أحوالَكم أيها الناس، بالاختبار وليُظهِر أيكم أحسنُ إتقانا لما يعمله لنفسه وللناس.
لئن أخبرتَ يا محمد، هؤلاء ا لمشركين أن الله سيبعثُهم من قبورِهم بعد مماتِهم، سارعوا إلى الرد عليك مؤكدين أن هذا الذي جئتَهم به لا حقيقةَ له، وما هو إلا كالسِحر الواضح تسحَرُ به العقول.
فما أعجبَ هذا القول وما أغربه ! ؟
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي :«إن هذا إلا ساحر مبين ».
حاق بهم : نزل بهم وأحاط بهم.
ولئن أخّرنا عنهم عذابَنا الذي توعِدُهم به أيها الرسول، إلى وقت محدّد لَيقولون مستهزئين : ما الذي يمنعُه عنّا الآن ! شأنُهم في التكذيب بالبعث، كشأنهم في مسألة العذابِ الدنيوي، يستعجِلونه ويتساءلون عن سببِ تأخيره.
ألا فلْيعلمْ هؤلاء القوم أن العذابَ آتٍ حتما، لا خلاصَ لهم منه، وأنه سيحيط بهم بسبب استهزائهم واستهتارهم.
نزعناها منه : أخذناها منه.
يؤوس : مبالغة في اليأس.
هذه طبيعةُ الإنسان العَجول القاصر، إذا أعطيناه بعضَ النِعم رحمةٍ منا كالصحَة والرِزق الواسع، ثم نزعنا تلك النعمة أسرفَ في يأسه من عودتها، وقطع الرجاءَ من رحمةِ الله. إنه يؤوس منَ الخير، كفور بالنعمة.
نعماء : نعمة.
ضراء : مضرة.
وإذا منحنا هذا الإنسانَ اليؤوسَ الكفور نعمةً أذقناه لذَّتها بعد ضرر لحِقَ به، لم يقابلْها بالشُّكر والطاعة، بل تجده يبطَر ويفخَر على الناس ويقول : ذهبَ ما كان يسوؤني.
كنز : أصل الكنز المالُ المدفون تحت التراب، وكل مال مدخر فهو كنز. لا تحاول أيها النبيُّ، إرضاءَ المشركين، فهم لا يؤمنون ولعلّك يا محمد، تاركٌ تلاوةَ بعض ما يوحى إليك ما يشُقُّ سماعه على المشركين، بل قد تحسّ بالضِيق وأنت تتلوا عليهم ما لا يقبلون.
إنهم يطلبون أن يُنزل اللهُ عليك كنزا، أو يجيء مَلَك يؤيّدك في دعوتك، فلا تبالِ بعنادهم.
فأنت منذِر ومحذِّر من عقاب الله لمن يخالف أمره، وقد أدّيتَ رسالتك، وليس عليك من أعمالهم شيء.
لقد تكرر هذا القول، وتكرر التحدي، فقد جاء في سور ﴿ البقرة الآية : ٢٣ ] قوله تعالى :{ وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِثْلِهِ... الآية ﴾ وفي سورة [ يونس الآية ٣٨ ] ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ... الآية ﴾، أما هنا في سورة هود فالوضع فيه تحدٍّ، لكنّه يختلف عن السورتين السابقتين، فالله تعالى يقول لهم :﴿ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ﴾ أي فاتوا بمثله ولو كَذِباً مفترى.
والمعنى : قل لهم : إن كان هذا القرآن مما افتريتُه على الله من عندي، فإن كنتُم صادقين في دعواكم هذه، فهاتوا من عندكم عشرَ سُورٍ مثله مفتريات مكذوبات، واستعينوا في ذلك بكل من تستطيعون من فصحائكم وبُلغائكم وشعرائكم وجنّكم وإنسكم.
فالقرآن الكريم معجز بأسلوبه، وبما فيه من القصص الصادق، وما فيه من العلوم الكونية التي أشار إليها، ولم تكن معروفة في عصر نزوله، وفي الأحكام التي اشتمل عليها.
لا يبخسون : لا ينقصون.
بعد قيام الحجّةِ على حقيقة الإسلام، والتحدي الشديد بالقرآن وعجزهم عن الإتيان بمثله، ظل المشركون يكابرون.. لأنهم كانوا يخافون على ما يتمتعون به من منافع وسلطة وشهوات، لهذا يعقّب القرآنُ على ذلك بما يناسب حالهم ويصور لهم عاقبة أمرهم بقوله :
﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ ﴾.
من كان يطلب الحياةَ الدنيا والتمتع بلذّاتها وزينتِها من طعامٍ وشرابٍ ومال وأولاد وغيرِ ذلك نعطِهم ثمراتِ أعمالهم لا يُنْقَص منها شيء.
هؤلاء الذين قَصَروا همَّهم على الدنيا وما فيها من لذائذ ليس لهم في الآخرة إلا عذاب النار، جزاءَ كل ما صنعوه في الدنيا، لأنه لم يكن للآخرة فيه نصيب.
يتلوه : يتبعه.
مرية : شك.
وبعد أن ذكَر اللهُ مآل من يعمل للدنيا وزينتِها، ولا يهتمُّ بالآخرة وأعمالِها، ذكر هنا من كان يريدُ الآخرة ويعمل لها، ومعه شاهد على صدقه وهو القرآن.
أفمَن كان يسير في حياته على بصرةٍ وهداية من ربّه، ومعه شاهدٌ بالصدِق من الله وهو القرآن، وشاهدٌ من قبله وهو كتابُ موسى الذي أنزله الله قدوةً ورحمة لمتّبعيه، كمن يسيرُ على ضلالٍ وكفرٍ فلا يهتمُّ إلا بالدنيا وزينتها ؟ ! كلاّ أبداً.
أولئك الأَوّلون هم الذين أنارَ الله بصائرهم، فهم يؤمنون بالنبيّ والكتابِ الذي أُنزل عليه.
ومن يكفر به ممن تألّبوا على الحقّ وتحزَّبوا ضده، فالنارُ موعدُه يوم القيامة.
لا تكن أيها النبيّ في شكّ من هذا القرآن. وحاشا النبيَّ أن يشكّ. وإذا كان الخطاب موجَها إليه فالمقصود به كل من سمع برسالة محمد، والمعنى : لا ينبغي لعاقل أن يشك في رسالة محمد ولا في القرآن المنزل عليه.
إن هذا القرآن هو الحقُّ النازل من عند ربّك، لا يأتيه الباطل، ولكنّ أكثر الناس تُضِلُّهم شهواتهم فلا يؤمنون.
بعد أن بين الله أن الناس فريقان : فريق يريد الدنيا وزينتها، وفريق مؤمن بربه وبرسالة رسوله الكريم، ذكر هنا بيان حال كُلٍّ من الفريقين وما يكون عليه في الآخرة. وهو يضرب للفريقين مثلا : الأعمى والأصم، والبصير والسميع.
لا أحد أكثرُ ظلماً لنفسه وبُعدا عن الحق من الذين يكذِبون على الله.
إن افتراء الكذب في ذاته جريمةٌ نكراء وظلمٌ لمن يُفترى عليه الكذب، فكيف إذا كان هذا الافتراءُ على الله ! !
سَيُعْرَضُ هؤلاء المفترون يوم القيامة على ربهم ليحاسبَهم على أعمالهم السيئة، فيقول الأشهاد من الملائكة والأنبياء والناس : هؤلاء هم الذين ارتكبوا جريمة الكذب على الله. بذلك يفضحونهم بهذه الشهادةِ المقرونة باللَّعنة، أي خروجِهم من رحمة الله.
وفي الصحيحَين عن عبد الله بن عمر قال :( سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الله يُدني المؤمنَ حتى يضعَ كنَفَه عليه ويسترَهُ من الناس، ويقرِّره بذنوبه ويقول له : أتعرف ذنْبَ كذا ؟ أتعرف ذنب كذا ؟ فيقول : يا ربِّ أعرف، حتى إذا قرّره بذُنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلَك قال : فإنّي سترتُها عليك في الدُّنيا وأنا أغفر لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته ).
يبغونها عوجا : يريدونها ملتوية معوجة.
الذين يَصرِفون الناسَ عن سبيلِ الله، وهو دينُه القيم وصراطُه المستقيم ؛ ويريدون أن تكونَ هذه السبيلُ معوجَّة لتوافقَ شهواتِهم وأهواءَهم، وهم كافرون بالآخرِة والبعث والجزاء.
ثم بين علة هذه المضاعفة للعذاب بقوله :
﴿ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ ﴾.
لقد أعماهم وأصمَّهم انهماكهم في الكفر والضلال حتى كرهوا أن يسمعوا القرآن أو يبصروا آيات الله في الكون.
حقا إنهم أشدُّ الناس خسارةً في الآخرة، وبذلك يكونون قد أضاعوا أنفسَهم في الدنيا والآخرة.
وبعد أن بين الله حال الكافرين وأعمالهم ومآلهم، بين حال المؤمنين أصحاب العمل الصالح وعاقبة أمرهم، إن الذين آمنوا بالله ورسُله، وعملوا الأعمالَ الصالحة، وخشعتْ قلوبُهم واطمأنّت إلى ربها، سيكونون أهل الجنةِ خالدين فيها أبدا.
هل يستوي هذانِ الفريقان في الحال والمآل ؟ أفلا تتفكرون أيها الناس فيما بين الباطل والحق من خلاف فتعتبروا به، وتسيروا على الصراط المستقيم !
كما أرسلناك يا محمد، إلى قومك لتنذِرَهم وتبشّرهم، فقابلَكَ فريقٌ بالكفر والجحود، أرسلنا من قبلُ نوحاً إلى قومه فقال لَهم : إني رسولُ الله إليكم، أُنذرُكم من عذابِ الله وأبيّن لكم طريق النجاة.
قراءات :
قرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة :«إني لكم نذير مبين » بكسر همزة أن، والباقون بفتحها.
وإني أطلبُ منكم أن لا تعبُدوا إلا الله، ولا تشرِكوا به شيئا، لأني أخاف عليكم إن عبدتم غيره أو أشركتم معه سواه أن ينالكم عذابُ يوم مؤلم.
أراذل : جمع أرذل، وهو الخسيس الدنيء.
بادى الرأي : ظاهره قبل التأمل في باطنه.
اختار الله تعالى نوحاً من بين أولئك القوم لينذرَهم عذابَ الله، لأنهم تمادَوا في غيِّهم وضلالهم. وقد اجتمع كبراؤهم وأهلُ الثراء فيهم على تكذيبه واحتقاره هو ومن اتبعه، واستبعدوا أن يكونَ واحدٌ منهم - لا يمتاز عليهم بالغِنى والجاه- هو المختار لهدايتهم، وأَنِفوا أن يكونوا مثل الّذين اتّبعوا نوحاً من الضعفاء. وزعموا أن هؤلاء قد اتبعوه من غير رويّة ولا تفكير، «بادى الرأي ».
قراءات :
قرأ أبو عمرو :«بادئ الرأي » بالهمزة والباقون بدون همزة.
عميت : خَفِيت.
أنلزمكموها : أنكرهكم عليها.
القراءات :
قرأ حمزة والكسائي وحفص :«فعميت » بضم العين وتشديد الميم. «فعميت » بفتح العين وكسر الميم بدون تشديد.
وطلبوا إليه أن يطرد أولئك الأراذل الفقراء، فأبى نوح ذلك خوفا من الله تعالى
كذلك أوضح لهم أنه إنما جاءهم بالهداية، وليس رجلَ مال قد مكّنه الله من خزائنه وأطلعه على غَيْبه، وقال إنه يدع المُلك فيهم، وإنما هو شخص اختاره الله تعالى لدعوتهم وتبليغهم أمره. أما أتباعه من المؤمنين الذين تزدريهم أعين الكبراء فإن أمْرَهم إلى الله، وهو أعلمُ بسرائرهم، لأن إدراك الهداية إلى الحقّ لا يكون بالمظهر الفاخر بل باطمئنان النفس وركونها إلى الهدى مع اليقين التام والرضى به،
قالوا : يا نوحُ، قد ناقشتَنا بجِدالك فأطلتَ حتى مَلِلْنا. إن كنت صادقاً فيما تدعيه، فعجِّلْ وهاتِ ما توعدنا به من العذاب.
إنه لن ينفعكم نصحي لمجردٍ إرادتي الخيرَ لكم، إذا كان الله قد شاء أن يضلَّكم... إنه ربُّكم وخالقكم لا أنا، وإليه ترجعون يوم القيامة، ويجازيكم على أعمالكم.
ونرى من هذا الحوار الذي دار بين نوح والملأ من قومه أنهم عجَزوا عن الجدال فطلبوا أن يأتيَهم بالعذاب تشكيكاً فيه، وهذا دَيْدَنُ الأمم في عدم الخضوع لحكم العقل إذا خالف الأمرُ ما ألِفُوه وورثوه عن آبائهم.
في تلك الحال أوحى الله إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك غير الذين سبق وآمنوا، فلا تحزَنْ على ما كانوا يعملون...
بأعيننا : تحت رعايتنا.
وحينا : بإرشاد وحينا.
ابنِ السفينةَ تحت رعايتنا وبإرشاد وحْينا، ولا تشفعْ في الّذين ظلموا... فهم محكومٌ عليهم بالغرق.
حتى إذا جاء وقتُ أمرِنا بإهلاكهم نبع الماء بشدة من التنُّور. وحينئذ قلنا لنوح : احملْ معك في السفينة من كل نوعٍ زوجَين ذكراً وأنثى، واحمِل أهلَكَ جميعاً إلا من سبق عليه حُكْمنا بإهلاكه. كذلك واحمِل معك من آمن بك من قومك، وهم نفر قليل.
قراءات :
قرأ حفص :«من كل زوجين اثنين » بتنوين كل والزوج يطلق على الواحد وعلى الاثنين. والباقون :«من كلّ زوجين اثنين ».
وقال نوح : اركبوا في السفينة باسم الله جريانُها ورسوُّها، إن ربّي لواسع المغفرة لعباده.
القراءات :
قرأ حمزة والكسائي :«مجراها » بفتح الميم والباقون بضم الميم.
وركبوا في السفينة وهم يذكُرون الله، وجرتْ بهم في أمواجٍ هائجة عالية كالجبال، ثم إن نوحاً دعتْه الشفقة على ابنه الذي تخلّف ولم يرافق أباه. فناداه قائلاً : تعال اركب معنا يا بنّي، ولا تكن من الجاحدين.
يعصمني : يحميني.
فكان جواب ذلك الوالد العاصي : يا أبتِ، سألجأ إلى جبلٍ يحميني من طغيان الماء. فقال نوح : لا شيء يعصِم أحداً من عذاب الله في هذا اليوم العصيب، إلا من رحمه الله. ثم إن الموج حال بينهما وغاب الولد في اللجة وكان من الهالكين.
وغيض الماء : نضب.
الجوديّ : اسم جبل يقال إنه في الموصل.
ثم ذكر الله ما حدثَ بعد هلاكهم، فأُمرت الأرضُ أن تبتلعَ ماءها، والسماءُ أن تكفَّ عن المطر. وغاضَ الماء، وانتهى حكمُ الله بالإهلاك، ورست السفينةُ عند الجبل المسمَّى بالجُودِيّ عند المَوْصِل بالعراق. «وقيِلَ بُعداً للقومِ الظالمين ».
قراءات :
قرأ الكسائي ويعقوب :«إنه عَملَ غيرَ صالح » والباقون «عملٌ غيرُ صالحٍ » وقرأ ابن كثير :«لا تسألن » بتشديد النون وفتحها. وقرأ نافع وابن عامر : فلا تسألَنِيّ.
وفي هذه الآية دليل على أن الله تعالى يجازي الناس في الدنيا والآخرة بإيمانهم وأعمالهم، لا بأنسابهم. إنه لا يحابي أحدا لأجل الآباء والأجداد ولو كانوا من الأنبياء.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( يا فاطمة بنت محمد، واللهِ لا أُغني عنك من الله شيئا ). فأساس الدين عندنا أنه لا علاقة للصلاح بالوارثة والأنساب، وإنما بالإيمان والعمل الصالح.
ويسأل أناس كثيرون : هل كان الطوفان عاماً في الأرض جميعا، أم حدث في المنطقة التي كان يسكنها نوح وقومه، وأين كانت هذه الأرض ؟
لم يرد نص صريح بذلك، وقد وردت رواياتٌ وإسرائيليات كثيرة وأخبار غير مقطوع بصحتها، ولذلك نضرب عنها صفحا.
إن هذه القصة عن نوح وقومه من أخبارِ الغيب التي لا يَعلمها إلا الله، ما كنتَ تعلمُها يا محمد، ولا قومُك من قبل هذا. فاصبِر على إيذاء قومك كما صَبَرَ الأنبياءُ قبلك، فإن عاقبة الفوز للّذين يتّقون اللهَ بالإيمان والعمل الصالح.
والقارئ لقصة هود مع قومه يراه إنسانا وقوراً رزيناً يزنُ الكلامَ قبل إلقائه، ويتجلى الإخلاص وحُسن النية على قسمات وجهه. فهو لا يقابل الشرَّ بمثله، بل لا يفارقه اللّينُ مع قومه أبداً، ويتلطف معهم بذكِر نعم الله عليهم ويرغِّبهم في الإيمان، ويذكّرهم بما أنعمَ اللهُ عليهم به من أموال وبنين وجنات وعيون، وأنه زادَهم في الخلْق بَسْطَةً، وجعلهم خلفاء الأرض من بعد قوم نوح، فإذا آمنوا حازوا رضى الله، فيرسل السماءَ عليهم مِدراراً لسقي زروعهم وإنباتِ الكلأ لماشيتهم، كما يزيدُهم عزّاً على عزّهم، وكان في كل محاوراته معهم واسعَ الصدر، مثالَ الحكمة والرزانة والأَناة.
وقد ذكرت قصة هود في سورة الأعراف بأُسلوب ونَظْمٍ يخالف ما هنا، وفي كل من الموضعَين من العظة والعبرة ما ليس في الآخرة.
وأرسلْنا إلى قوم عادٍ أخاهم في النسَب والوطَن هودا، فقال لهم : يا قوم، اعبُدوا الله وحده، ليس هناك إلهٌ غيره، أما عبادتكم للأصنام والأوثان فهي محض افتراءٍ منكم على الله.
كانت مساكنُ عادٍ في أرض الأحقاف، في شمال حَضْرَمَوْت، وفي شمالها يوجد الرَّبْع الخالي، وفي شرِقها عُمان. وموضع بلادهم اليومَ رمالٌ خالية ليس بها أنيس. ولم يردْ ذِكرٌ لقوم عاد في الكتب القديمة سوى القرآن الكريم.
يا قوم إنني لا أطلبُ منكم أجراً على تبليغ رسالة ربي إليكم، فأَجري على من خلقني وبعثني إليكم. أفلا تعقِلون ما ينفعُكم وما يضركم ؟.
يا قومُ اطلبوا المغفرةَ من ربِّكم على ما سلَفَ من ذنوبكم، ثم توبوا إليه توبةً صادقة، فإنه يَغِيثُكم بالمطر الغزير المتتابع، ويزيدُكم قوةً إلى قوتكم التي تغترّون بها، ولا تُعرِضوا عما أدعوكم إليه، وأنتم مصرّون على إجرامكم وآثامكم.
حتى إذا عجَزتم جيمعا، ولم يبقَ شُبهةٌ في أن آلهتكم لا تضرّ ولا تنفع، أجبتُكم أَني توكَلْت على الله واعتمدتُ عليه. هو ربّي وربكم. وليس في هذا الكون من دابّةٍ إلا هو مالكُ أمرِها يصرّفها كما يريد، فلا يُعجِزه حِفظُها من أذاكم. وهو عادل تجري كل أفعاله على طريق الحق والعدل، ولا يضيع عنده مظلوم.
وتلك قبيلة عادٍ. لقد أنزلنا لهم نقمتنا لأنهم أنكروا الحججَ الواضحة، وعصَوا رسُل الله جميعا بعصيانهم رسولَهم، وطاعتِهم لأمر كل طاغية من رؤسائهم وكبرائهم.
ثم أكد الله كفرهم بشهادته عليهم فقال :
﴿ ألا إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ ﴾.
فلْيعلم كلُّ الناس أن عاداً جحدوا نعمة خالقِهم عليهم ولم يشكروها بالإيمان، فبُعداً لهم. وهذا دعاء عليهم بالطرد عن رحمة الله.
استعمركم فيها. جعلكم تعمرونها.
صالح هو الرسول الثاني من العرب، ورد ذِكره في القرآن تسع مرات، في سورة الأعراف ثلاث مرات، وفي سورة هود أربع مرات، وفي كل من الشعراء والنمل مرة واحدة. وجاء ذِكر ثمودَ في سورة الحِجْر، وفُصّلت، والذاريات، والنجم، والقمر، والحاقة، والشمس.
كانت مساكن ثمود بالحِجْر التي تُعرف اليوم بمدائن صالح، في شمال الحجاز، وآثارُها باقية إلى اليوم، وكانوا وثنيين يعبُدون الأصنام.
وأرسلْنا إلى قوم ثمود رسولَهم صالحاً، فقال لهم : يا قومي، اعبدوا الله وحدَه، ليس لكم إله غيره يستحق العبادة. لقد خلقَكُم من الأرض، ومكّنكم من عِمارتها، واستثمار خَيراتِها، فاستغفِروه من ذنوبكم، ثم ارِجعوا إليه بالتوبة الصادقة، فهو قريبُ الرحمة مجيبٌ لمن دعاه.
مريب : موجب للتهمة والشك.
قالوا : يا صالح، لقد كنّا نرجو الخير فيك قبل هذه الدعوة، كنا نرى فيك حكمةً وأصالة رأي، فما بالك الآن ؟ أتنهانا عن عبادة ما كان يعبُد آباؤنا ؟ نحن في شكّ من دعوتك هذه إلى عبادة الله وحده، نحن في شكٍ يجعلُنا نرتابُ فيك وفيما تقول.
قال صالح : أخبروني إن كنتُ على بَصيرةٍ من ربي، وأعطاني رحمةً منه لي ولكم، وهي النبوة والرسالة، ماذا أصنع ؟ وكيف أخالف أمره وأعصيه ؟ ومن يُعينني إن عصيتُه ؟، إنكم لن تزيدوني غيرَ الضياعِ والوقوع في الخسران.
ذروها : اتركوها.
يا قوم، هذه ناقةُ الله معجزةً لكم تشهدُ على صدقي، فاتركوها تأكل في الأرض ولا تَمَسُّوها بأذى فينزلَ بكم عذابٌ قريب.
في داركم : في بلدكم.
فعقروها... فقال لهم صالح : استمتعوا بحياتكم في بلدِكم ثلاثة أيام، ثم بعدَ ذلك يأتيكم عذابُ الله. هذا وعد من الله الذي لا يخلف وعده.
قراءات :
قرأ نافع :«ومِن خزي يومَئذ » بفتح ميم يومَئذٍ. وقرأ الباقون بكسرها.
جاثمين : ساقطين على وجوههم.
وأخذت الصَّيحةُ ثمود، فأصبحوا في ديارِهم هامدين ساقطين على وجوههم.
يومئذٍ انتهى أمرُهم وباتت ديارُهم خاليةً مهجورة كأنهم لم يسكنوها. لقد كفر قوم ثمود بآيات ربهم، فبُعداً لهم. وهكذا كانت الخاتمة، تسجيل الذنب وإتباعهم اللعنة، وهلاكهم إلى الأبد.
القراءات :
قرأ الكسائي «لثمودٍ » بكسر الدال وتنوينها. وقرأ حمزة وحفص عن عاصم ويعقوب :«إلا أن ثمودَ » بفتح الدال بدون تنوين. والباقون :«ثمودا » بالتنوين.
حنيذ : مشوي بالحجارة المحماة.
جاء ذِكر إبراهيم عليه السلام في خمس وعشرين سورة سيأتي بعض التفصيلات عنها في سورة إبراهيم.
ولقد أرسلنا الملائكة إلى إبراهيم تبشِّره بأن الله سيرزُقُه غلاماً من زوجته سارة. وكان له إسماعيل من هاجر. فقالوا يحيُّونه : سلاماً، فقال : سلام، وأسرع فهيَّأ لهم طعاماً لذيذاً، عِجلاَ مشوياً، وكان كريماً يحب الضيوف.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي :«قال سلم » بكسر السين وسكون اللام.
وأوجس منهم خِيفة : أحس بالخوف.
استغرب إبراهيم حال ضيوفه حين رأى أيديَهم لا تمتد إلى الطعام، وأَدرك أنهم ليسوا من البشرَ، وأَضمر ذلك في نفسِه وخافَ أن يكون مَجيئهم لأمرٍ خطيرٍ لا يعلمه. فالذّي لا يأكل الطعام من الضيوف يكون أمره مريباً، ويُشعر بأنه ينوي خيانةً أو غدراً حسب تقاليد العرب.
وعند ذلك كشفوا له عن حقيقتِهم، قالوا : لا تخفْ، لقد أُرسِلْنا إلى قومِ لوطٍ لإهلاكهم. وكانت ديارهم قريبةً من ديار إبراهيم.
البعل : الزوج.
وكانت امرأةُ إبراهيم سارة واقفةً تسمع ما يقال، فضحكتْ سروراً بالأمنِ من الخوف، فبشَّرها الملائكة بأن الله سيرزقها ولداً اسمُه إسحاق، ومن بعدِه سيولد لإسحاقَ يعقوب.
قراءات :
قرأ ابن عامر وحمزة حفص «ويعقوب » بنصب الباء، والباقون «ويعقوب » بالرفع.
لتكنْ هذه معجزةً من معجزاته الخارقة للعادات، وهي رحمةٌ منه لكم وإحدى نعمه الكثيرة عليكم يا أهلَ بيتِ النبوّة. وهو جلَّ ثناؤه مستحقّ لجميع المحامد، حقيق بالخير والإحسان.
وكان إبراهيم عليه السلام رجلاً رقيق القلب، فلما عَلِمَ أن قومَ لوطٍ هالكون، كما أعلمه الملائكة، أخذتْه الشفقةُ عليهم، فجعلَ يجادل ويسأل الرحمة بهم، رجاء أن ينظُر الله إليهم نظر رحمة.
حين اطمأن إبراهيم إلى أن ضيوفه ملائكة من رسُل الله، وذهب عنه الخوف، وسكن قلبه ببُشرى الولد التي حمولها إليه، أخذ يجادل الملائكة في هلاك قوم لوط. وكان لوط هذا ابن أخ إبراهيم، وقد آمن بعمه كما قال تعالى :﴿ فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إلى ربي ﴾ [ العنكبوت : ٢٦ ].
أواه : كثير التأوه والتضرع إلى الله.
منيب : يرجع إلى الله في كل أمر.
لقد جادل إبراهيم الملائكة في عذاب قوم لوط لأنه كان يعلم أن لوطاً من الصدِّيقين، ولأن إبراهيم نفسهَ كان حليماً لا يعْجَل بالانتقام من المسيء، بل هو كثير التأوُّه والتضرُّع إلى ربه، ويرجع في كل أموره إلى الله.
وضاق بهم ذرعا : تحير ولم يطق هذه المصيبة. الذرع : منتهى الطاقة، يقال : ضاق الأمر ذرعا : إذا صعب عليه احتمالُه.
عصيب : شديد.
كان لوط ابنَ أخِ إبراهيم. آمن بنبوّة عمّه وتَبعه في رحلاته. فكان معه بِمِصْرَ وأغدق عليه ملكُ مصرَ كما أغدق على إبراهيم. فكثُر ماله ومواشيه. ثم إنه افترقَ عن إبراهيم لأن المكانَ الذي سكنه عمّه لم يعد يتسع لمواشيهما، ونزل سدوم في جنوب فلسطين، وهو المكان الذي فيه البحر الميت الآن.
وقد ذكر لوط في القرآن الكريم سبعا وعشرين مرة في أربع عشرة سورة هي : الأنعام، الأعراف، هود، الحجر، الأنبياء، الحج، الشعراء، النمل، العنكبوت، الصافات، ص، ق، القمر، التحريم.
وكان أهلُ سَدوم، قوم لوط، ذوي أخلاق دنيئة لا يستحون من منكر، ولا يتعفّفون عن معصية، بل يأتونها علناً على رؤوس الأشهاد، كما قال تعالى :﴿ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ المنكر ﴾ [ العنكبوت : ٢٩ ].
وقد ذكرت قصة لوط بتمامها في عدة سُوَر، وخلاصتها أن قوم لوطٍ كانوا من الشرّ بمكان... كانوا يقطعون الطريقَ على السابلة، قد ذهب الحياء من وجوههم فلا يستقبحون قبيحا، ولا يَرْغَبون في حَسَن. وكانوا قد ابتدعوا من المنكَرات ما لم يسبقهم إليه أحَد، ومن ذلك أنهم يأتون الذكورَ من دون النساء، و يرون في ذلك سوءا. وقد وعظَهم لوط ونصحهم ونهاهم وخوَّفهم بأسَ الله فلم يأبهوا له ولم يرتدعوا. فلما ألحّ عليهم بالعِظات والإنذار هدّدوه : تارةً بالرجم، وتارةً بالإخراج، لأنه غريب، إلى أن جاءَ الملائكةُ الذين مرّ ذِكرهم. وقد جاءوا إلى لوط بهيئةِ غِلمان مُرْدٍ حسان الوجوه، فلّما جاءوا على هذه الهيئة تألَم واستاء، وأحسّ بضعف عن احتمال ضيافتهم وحمايتهم من فساد قومه، وقال : هذا يومٌ شديد، شرُّه عظيم.
لا تخزوني : لا تخجلوني.
رشيد : عاقل.
ولما علم قومُ لوط جاءوا مسرعين إليه، وكانوا معتادين على ارتكاب الفواحش والفُسوق وعملِ السيئات.
وحاول لوط ردَّهم فقال : يا قوم، هؤلاء بناتي، تزوجوا بهن، ذلك أطهرُ لكم من ارتكاب الفواحش مع الذكور... اخشوا الله واحذَروا عقابه،
ولا تفضحوني بالاعتداء على ضيوفي، أليس فيكم رجلٌ عاقل سديدُ الرأي يردّكم عن الغيّ والضلال ! !
وأَجمَعُوا أمرَهم على فعلِ ما يريدون من العمل الخبيث.
عند ذلك تحيرّ لوط، وأَحسّ بضعفه، وهو غريبٌ بينهم، لا عشيرةَ له تحميه، فقال بحزن :
﴿ قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ ﴾.
آه لو كان لي قوة تدفعكم عن بيتي هذا، أو ركن شديد أعتمدُ عليه في حماية ضيوفي، ومنعكم من ارتكاب السيئات.
وفي صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وهو يقرأ هذه الآيات يقول :«يغفرُ الله للوط، إنه كان لَيأوي إلى ركن شديد ».
﴿ قَالُوا يا لوط إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ... ﴾. فاسر بأهلك : فسِرْ بأهلك في الليل، السرى والإسراء : السير ليلاً. بقطع من الليل : بجزء منه.
فلما اشتد الأمرُ على لوط، وضاقت عليه الأرض بما رحُبَت، قالت الملائكة، وقد ظهرت على حقيقتها : لا تخف يا لوط، نحن رسُل ربك، ولسنا بشراً كما بدا لك. إن قومك لن يؤذوك، سنمنعهم من ذلك. ولن يصلوا إليك بشر أو ضر، اسر بأهلك ليلاً، واخرج بهم من هذه القرية، ولا يلتفت أحدٌ منكم خلفه لكيلا يرى هولَ العذاب فيُصابَ بشرٍ منه، إلا امرأتك التي لم تؤمن فإنها من الهالكين مع قومها، إن موعد هلاكهم الصبح، وهو موعدٌ قريب.
قراءات :
قرأ بان كثير ونافع : فاسر بهمزة الوصل، والباقون :«فأسر » من الإسراء. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو :«إلا امرأتُك » بالرفع، والباقون :«إلا امرأَتَك » بالنصب.
منضود : متتابع منتظم.
فلما جاء وقت العذاب قلَبْنا ديارهم، بهم، وجعلنا عاليَها سافلَها، وأَمطرنا عليهم حجارةً من طينٍ متحجّر، عليها علامة من عند ربك.
ليس العذاب الذي حل بقوم لوط وديارهم بعيدا عنكم أيها المشركون من أهل مكة.
وأرض قومه هي مَدْين في شمال الحجاز لا تزال معروفة إلى الآن، ويسمي المفسِّرون شُعيباً خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومَه وبراعته في الحوار وإقامة الحجة عليهم. ويقول الشيخ عبد الوهاب النجّار في كتابه «قصص الأنبياء » صفحة ١٤٩ :
«أما شُعيب فقد كان زمنه قبل زمن موسى، فإن الله تعالى لما ذكر نوحاً ثم هوداً ثم صالحاً ثم لوطاً ثم شعيباً قال :( ثم بعثنا من بعدِهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملأه ) سورة الأعراف، ومثل ذلك في سورة يونس وهود والحج والعنكبوت... ).
ولقد أرسلْنا إلى قومِ مدين أخاهم في النسَب شعيبا، قال لهم : يا قوم اعبُدوا الله وحده، ليس لكم إله يستحق العبادة غيره، ولا تنقُصوا المكيالَ والميزان حين تبيعون. إني أراكم أهل ثروة واسعةٍ في الرزق تُغنيكم عن الدناءة في بخس حقوق الناس وأَكل أموالهم بالباطل، وأخاف أن يحلّ عذابُ يومٍ يحيط بكم لا تستطيعون أن تفلتوا من أهواله إذا لم تشكروا الله وتطيعوا أمره ؟
ولا تعثَوا في الأرض مفسدين : لا تبالغوا في الإفساد.
﴿ ويا قوم أَوْفُوا المكيال والميزان بالقسط ﴾.
أتمُّوهما بالعدْل دون زيادة ولا نقصان.
﴿ وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءَهُمْ ﴾.
بسرقة أموالهم بالباطل.
﴿ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ ﴾.
ولا تفسدوا في الأرض بقطع الطريق، وتهديد الأمن، وتعطيل مصالح الناس.
إن ما يبقى لكم من المال الحلال الذي تفضّل اللهُ به عليكم خيرٌ لكم من المال الذي تجمعونه من الحرام، إن كنتم تؤمنون بالله حقّ الإيمان. ولست أستطيع أن أكون عليكم رقيبا أحصي أعمالكم وأحاسبكم عليها.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي وحفص :«أصلاتك » بالإفراد، والباقون :«أصلواتك » بالجمع.
أصلاتُك يا شعيب تأمُرك أن نتركَ ما كان يعبد آباؤنا ؟ وأن لا نتصرّف في أموالنا كما نشاء ؟ أفأنت الحليمُ الرشيدُ كما هو معروف بيننا ؟.
أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه : ولا أريد أن أفعل ما أنهاكم عنه.
وإليه أنيب : إلى الله أرجع.
فأجاب شعيب :
يا قوم، أرأيتم إن كنتُ على حجةٍ واضحة من ربي ( وهي النبوة ) ورزقَني منه رزقاً حسنا... هل يصحُّ لي مع هذه النعم الجزيلة أن أكتَم ما أمرني بتبليغه لكم ؟ إنني لن آتي ما أنهاكم عنه لأستبدَّ به دونكم، وإنما أريد الإصلاح قدر طاقتي، وما توفيقي لإصابة الحق والصواب في كل ما آتي إلا بهداية الله تعالى، عليه توكلت في أداء ما كلّفني من تبليغكم، وإليه أرجع في كل ما أهمَّني.
ويا قوم، لا يحملنَّكُم الخلافُ بيني وبينكم على العناد والإصرار على الكفر. عندئذ يصيبكم ما أصاب قومَ نوح من الغرق، أو قوم هودٍ من الريح، أو قوم صالح من الرَّجْفة. إن ديار قوم لوط قريبة منكم، فاعتبروا بما أصابهم.
لولا رهطك : ولولا جماعتك.
لرجمناك : لرميناك بالحجارة.
قالوا : يا شعيب، نحن لا نفهم كثيراً مما تقول، وأنت بيننا ضعيف في مكانتك، ولولا أن عشيرتك عزيزةٌ علينا لقتلناك رَجماً بالحِجارة، وما أنت علينا بعزيز حتى نجلّك ونحترمك.
قال شعيب : يا قوم أعشيرتي أعزُّ عليكم من الله أرسلني إليكم ! لقد جعلتم أوامره منبوذةً وراء ظهوركم.. إن ربي محيط بكل ما تعملون.
ارتقبوا : انتظروا.
الصيحة : صيحة العذاب.
يا قوم، اعملوا ضدي كل ما تستطيعون، أما أنا فسأظل أعمل على الثبات والدعوة إلى الله. وسوف تعلمون من منّا الذي يأتيه عذاب يفضحُه ومن هو كاذب، انتِظروا وأنا معكم من المنتظِرين.
وحين جاء عذابُنا نجَّينا شعيباً ومن آمنَ معه، وأخذت الظالمين من أهل مدين الصيحةُ المهلكة، فأصبحوا في ديارهم باركين مكبّين على وجوههم.
بُعداً لمدين : هلاكا لهم.
وانتهى أمرُهم وزالت آثارهم وصارت ديارهم خاوية كأنْ لم يقيموا فيها. الهلاكُ لمدين، وبعداً لهم من رحمة الله كما بعدت ثمود من قبلهم.
سلطان مبين : الحجة الواضحة والدليل الظاهر.
لقد تكرر ذِكر موسى عليه السلام في القرآن الكريم مراتٍ كثيرة، ولما ذكر سبحانه ما أصاب أقوامَ نوح وهود وصالح ولوط وشعيب، أشار في هذه الآيات إلى قصص موسى مع فرعون وقومه للإعلام بأن عاقبة فرعون وزعماء قومه الهلاكُ مثل الظالمين من أولئك الأقوام، والغاية من ذلك العبرة والعظة.
لقد أرسلنا موسى، مؤيَّداً بالمعجزات الدالة على صدقه والحجّة.
أمر فرعون : أفعاله وتصرفاته.
إلى فرعون وكبار قومه. فكفر فرعون وأمر قومه أن يتبعوه في الكفر، فاتبعوا أمره وخالفوا أمر موسى. وليس ما فعل مما يدل على الرشد.
وسيأتي يوم القيامة يتقدم قومه كما كان يتقدمهم في الدنيا، فيوردهم النار. ولبئس ذاك المورد.
فعلى فرعون وعليهم لعنة الله والملائكة والناس.
«بئس الرفد المرفود » بئس العطاء المعطى... أي تلك اللعنة.
وحصيد : محصود امَّحت آثاره كالزرع المحصود.
إن هذا القصص يا محمد، هو بعض أخبار القرى التي أهلكناها، وهي جديدة عليك لم تكن تعلمها من قبل، لكن الوحي من لدنّا ينبئك بهذا الغيب. وذلك بعض أغراض القرآن في قصصه.
«منها قائم » ومن هذه القرى ما لا تزال آثاره تشهد بما بلغ أهله من القوة والعمران، كآثار الفراعنة بمصر، وبقايا عاد وثمود،
«وحصيد » ومن تلك الآثار ما درس وزال، كأنه زرع محصود، كما حل بقوة نوح أو قوم لوط وغيرهم.
وما ظلمناهم بإهلاكهم، ولكنّهم ظلموا أنفسَهم بالكفر وعبادةِ غير الله والفساد في الأرض، فما استطاعت آلهتُهم أن تردّ عنهم الهلاك، ولا نفعتْهم بشيءٍ لما جاء أمر ربك، فما زادوهم غير هلاكٍ وتخسير.
بعد أن ذكر اللهُ تعالى العبرةَ في إهلاك الأمم في الدنيا، ذكر هنا العبرة بجزاء الآخرة للأشقياء والسعداء، وما ينال الأشقياءَ من العذاب والخلود في النار. ما يتمتع به المؤمنون في الجنة.
إن في ذلك القصص عبراً ومواعظ يعتبر بها من آمن بالله وخاف عذاب الآخرة بعد يوم القيامة، وهو يوم يُجمع له الناس كلهم للحساب، وتشهدهُ الخلائق جميعا من الجن والإنس والملائكة.
ونحن نؤخر ذلك اليوم حتى تمضي مدة محدّدة في عالمنا لا تزيد ولا تنقص، ولم يُطلع عليها أحداً من الخلق.
في ذلك اليوم الذي يأتي لا تتكلَّم نفس من الأنفس إلا بإذنه تعالى، ويكون الناس فريقين : شقياً مستحقاً للعذاب الأليم، وسعيداً مستحقاً لما وُعد به المتقون من نعيم الآخرة
قراءات :
قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة :«يوم يأتِ » بكسر التاء بدون ياء. والباقون «يوم يأتي » بالياء.
شهيق : نشيج في البكاء إذا اشتد تردده في الصدر وارتفع به الصوت.
ثم فصل جزاء الفريقين فقال :
﴿ فَأَمَّا الذين شَقُواْ فَفِي النار لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ﴾.
فأما الذين شقوا في الدنيا ففي النار مآلُهم يكون فيها تنفُّسهم مصحوباً بآلام مزعجة، وشهيقُهم يشتد تردُّده في الصدر من شدة كروبهم.
إن ربك أيّها النبي فعّال لما يريد فعله، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
أما الذين رزقَهم الله السعادةَ فيدخلون الجنة خالدين فيها إلى ما لا نهاية، إلا الفريق الذي يشاء الله تأخيرَه عن دخول الجنة مع السابقين، وهم عصاةُ المؤمنين، وهؤلاء يتأخَرون في النار ريثما يتم توقيع الجزاء عليهم، ثم يخرجون منها إلى الجنة ويعطي ربك أهل الجنة عطاءً دائماً غير مقطوع ولا منقوص.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي وحفص :«وأما الذين سعدوا » بضم السين وكسر العين والباقون :«سعدوا » بفتح السين وكسر العين.
بعد أن بيّن الله تعالى قصص عبدةِ الأوثان وما آل إليه أمرهم، ثم أتبعه بأحوال الأشقياء والسعداء، أعاد الخطاب إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام ليسرّي عنه و عن المؤمنين معه ويثبتهم.
ما دام أمر الأمم المشركة في الدنيا ثم في الآخرة كما قصصنا عليك يا محمد، فلا يكن لديك أدنى شكٍ في مصير عَبَدِة الأوثان من قومك.
إنهم يعبدون ما كان يعبد آباؤهم من قبل، من الأوثان والأصنام فهم مقلِّدون لهم، وسوف نعطيهم نصيبهم من العذاب جزاء أعمالهم وافيا على قدر جرائمهم.
بعد أن ذكّر مشركي مكة بالماضين من أمثالهم، وما جرى لهم في الدنيا وما سينالهم في الآخرة، ذكّرهم هنا في هذه الآية بقوم موسى، واختلافهم في الكتاب. فمنهم من آمن ومنهم من كفر، فلا عجب أن آمن بك قومٌ أيها الرسول، وكفر بك آخرون.
ولقد آتينا موسى التوراة فاختلف بنو إسرائيل فيها، ولولا كلمةٌ سبقت من ربك بتأخير عذابهم إلى يوم القيامة لفصل بينَهم بإهلاك المبطِلين ونجاة المحقّين. إن كفار قومك يشكّون في صدق القرآن، وكذلك هؤلاء الذين ورثوا التوراة واقعون في حيرة وبعدٍ عن الحقيقة.
قراءات :
قرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر «وإن كلا » بإسكان النون. وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة «لما » بالتشديد. والباقون «لما » بالتخفيف.
﴿ فاستقم كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾.
ما دام هذا حالُ الأمم التي جاءها كتاب من الله فاختلفت فيه وخرجت عليه، فاستِقم أنت يا محمد، ومن معك من المؤمنين ولا تتجاوزوا حدودَ الاعتدال، إنه سبحانه محيط علمه بكل ما تعملون.
وكذلك لا تسكُتوا عن المنكر إذا رأيتموه... فإن الإمام أحمد وأصحاب السُنن رووا عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«إن الناس إذا رأوا المنكَر بينهم فلم يُنكِروه، يوشكُ أن يعمَّهم الله بعقابه » وهذا ما هو حاصل فينا اليوم.
بعد أن أمر الله رسولَه بالاستقامة وعدم تجاوُزِ ما رسمه الدين، وعدم الركون إلى الظالمين، أمره هنا بأفضلِ العبادات وأجلّ الفضائل،
فقال : يا محمد، أقمِ الصلاة كاملة على أحسن وجه، وداومْ عليها في طرفَي النهار( وهما أوله وآخره ) وفي أوقات متفرقة منه.
وهذه تشمل أوقاتَ الصلاة المفروضة دون تحديد عددها، لكن السُّنة وعمل الرسول الكريم حددت ذلك. وقد خصّ الله تعالى الصلاة بالذكر لأنها أساس العبادات.
إن الأعمال الحسنة تمحو السيئات التي قلّما يخلو منها البشر، والمراد بالسيئات الذنوب الصغيرة، لأن الكبائر لا يكفّرها إلا التوبة. كما قال تعالى ﴿ إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ﴾ [ النساء : ٣١ ].
وفي الحديث الصحيح :«الصلوات الخمسُ كفّارة لما بينَها ما اجتُنبت الكبائر » رواه مسلم. وفي صحيح البخاري أيضا :«أرأيتُم لو أن نهراً بباب أحدِكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء ؟ قالوا : لا قال : فذلك مثلُ الصلوات الخمس يمحو الله بها الخطايا ».
إن في الوصايا السابقة من الاستقامة، والنهي عن الركون إلى الذين ظلموا، وإقامة الصلاة في تلك الأوقات عبرةً للمتعظين المستعدين لقبولها، الذين يذكرون ربهم على الدوام.
﴿ واصبر فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين ﴾.
اصبر أيها النبي على مشاق ما أمرناك به، فالاستقامة إحسان، وإقامة الصلاة في أوقاتها إحسان، والصبر على المكاره إحسان، والله لا يضيع أجر المحسنين.
القرون : جمع قرن، الجيل من الناس وشاع تقديره بمائة سنة.
أولوا بقية : ما يبقى من أهل الصلاح والعقل.
ما أترفوا فيه : ما تنعموا فيه من ملذات الدنيا فأفسدتهم وأبطرتهم.
فهلاَّ وجد هناك من أهل القرون التي كانت قبلكم جماعةٌ أصحابُ شيء من العقل أو الرأي والصلاح ينهون قومهم عن الفساد في الأرض.
ولكن كان هناك نفَر قليل من المؤمنين لم يُسمع لهم رأي ولا توجيه فأنجاهم الله مع رسلهم. أما الظالمون المعانِدون فقد تمسّكوا بما رزقناهم من أسباب الترف والنعيم فبطِروا واستكبروا وصدّوا عن سبيل الله، وكانوا بذلك مجرمين.
ثم بين الله تعالى ما يحول بين الأمم وإهلاكها فقال :
﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴾.
ما كان من سنة الله، ولا من عدله في خَلقه، أن يظلم أمةً من الأمم فيهلكها وهي متمسكة بالحق، ملتزمة الفضائل. وهذا هو العدل من أحكم الحاكمين.
لا يزالون مختلفين في شئونهم الدنيوية والدينية، إلا من رحم الله منهم لسلامة فِطَرهم، فإنهم اتفقوا على حكم الله فيهم، فآمنوا بجميع رسله وكتبه واليوم الآخر. ولهذه المشيئة التي اقتضتها حكمته تعالى في نظام هذا الكون، خلَقهم مستعدّين لهذا الاختلاف ليرتب على ذلك استحقاق الثواب والعقاب.
ولقد سبق في قضائه وقدَره وحكمته النافذة، أن يملأ جهنم من أتباع إبليس من الجن والناس من الذين ظلموا ولا يهتدون.
من أنباء الرسل : من أخبارهم.
نثبت : نقوي.
في خاتمة السورة خطاب للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أن في قصص الأنبياء والأمم القديمة فائدةً عظمى له وللمؤمنين، وهي تثّبت الفؤاد وتُلقي العظة.
إننا نقصّ عليك أيها النبي، كلّ نبأ من أنباء الرسُل المتقدمين مع أممهم كيما نقوي قلبك على تحمل أعباء الرسالة. وقد جاءك في هذه الأنباء بيان الحق الذي تدعو إليه مثلما دعا إليه السابقون من الرسل، وفيها موعظة وذكرى وعبرة ينتفع بها المؤمنون.
أيها النبيّ، قل للذين يصرّون على العناد والكفر : اعملوا ما تستطيعون من محاربة الإسلام وإيذاء المؤمنين، فإننا ماضون في طريقنا على قدر ما نستطيع من الثبات على الدعوة وتنفيذ أمر الله.