وهي مائة وثلاث وعشرون آية. وهي مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر ومجاهد وابن زيد. وقال ابن عباس وقتادة : الآية وهي قوله :﴿ وأقم الصلاة طرفي النهار ﴾ وقال مقاتل : أو إلا ﴿ فلعلك تارك ﴾ الآية ﴿ وأولئك يؤمنون به ﴾ الآية.
والحاصل أن المدني عند ابن عباس آية واحدة وعند مقاتل آيتان. وعن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( اقرؤوا هود يوم الجمعة ) ١ أخرجه الدارمي وأبو داود والبيهقي وغيرهم وعن أبي بكر الصديق قال : قلت يا رسول الله أسرع إليك الشيب فقال : شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت ) ٢ أخرجه الطبراني والترمذي وحسنه. وعن أنس مرفوعا وهل أتاك حديث الغاشية رواه البزار. وقد روي بطرق عن جمع من الصحابة.
قال بعض العلماء : سبب شيبه من هذه السورة ما فيها من ذكر القيامة والبعث والحساب والجنة والنار والله أعلم بمراد رسوله صلى الله عليه وسلم.
٢ الترمذي تفسير سورة ٥٦ / ٦.
ﰡ
وقوله (كتاب) خبر لمبتدأ محذوف أي هذا كتاب، ويدل على ذلك قوله في آية أخرى (ذلك الكتاب) والإشارة إما إلى بعض القرآن أو إلى مجموعه.
ومعنى (أحكمت آياته) صارت محكمة متقنة لا نقص فيها ولا نقض لها كالبناء المحكم المرصف، وقيل معناه أنها لم تنسخ بخلاف التوراة والإنجيل، وعلى هذا فيكون هذا الوصف للكتاب باعتبار الغالب وهو المحكم الذي لم ينسخ، وقيل معناه أحكمت آياته بالأمر والنهي، والآيات المراد بها حقيقتها وهي الجمل من السور المنفصل بعضها عن بعض أي نظمت نظماً متقناً لا يعتريه خلل بوجه من الوجوه، وقيل معنى أحكامها إن لا فساد فيها أخذاً من قولهم أحكمت الدابة إذا وضعت عليها الحكمة لتمنعها من الجماح.
(ثم فصلت) بالوعد والوعيد والثواب والعقاب، وقيل أحكمها الله من الباطل ثم فصلها بالحلال والحرام، وقيل أحكمت جملته ثم فصلت آياته، وقيل جُمعت في اللوح المحفوظ ثم فُصلت بالوحي، وقيل أيدت بالحجج القاطعة الدالّة على كونها من عند الله، والتراخي المستفاد من ثم إما زماني إن فسر التفصيل بالتنجيم على حسب المصالح، وإما رتبي إن فسر بغيره مما تقدم، وإليه ذهب الزمخشري، وقال: هي محكمة أحسن الأحكام ثم مفصلة أحسن
(من لدن حكيم خبير) فيه طباق حسن، لأن المعنى أحكمها حكيم وفصلها خبير عالم بواقع الأمور، وقيل صفة ثانية لكتاب خبر ثان وإليه نحا الزمخشري وقيل غير ذلك
وقيل تقديره هي أن لا تعبدوا، وقيل أن مفسرة لما في التفصيل من معنى القول أي قال لا تعبدوا أو أمركم أن لا تعبدوا، وهذا أظهر الأقوال لأنه لا يحوج إلى إضمار، ولما ذكر شؤون الكتاب ذكر أن من جاء به مرسل من عند الله لتبليغ احكامه فقال (إنني لكم منه نذير وبشير) أي ينذرهم ويخوفهم من عذابه لمن عصاه ويبشرهم بالجنة والرضوان لمن أطاعه، والضمير في منه راجع إلى الله سبحانه أي كائن من جهة الله.
وهذا على ظاهره ليس بجيد لأن الصفة لا تتقدم على الموصوف فكيف تجعل صفة لنذير وكأنه يريد أنه صفة في الأصل لو تأخر، ولكن لما تقدم صار حالاً، صرح به أبو البقاء فصوابه كائناً من جهته، وقيل يعود على الكتاب أي نذير لكم من مخالفته وبشير منه لمن آمن وعمل صالحاً، وقدم الإنذار لأن التخويف أهم إذ يحصل به الانزجار، وقيل هو من كلام الله سبحانه كقوله (ويحذركم الله نفسه)
ثم رتب على ما تقدم أمرين: الأول (يمتعكم متاعاً حسناً) أصل الامتاع الإطالة ومنه امتع الله بك، فمعنى الآية يطول نفعكم في الدنيا بمنافع حسنة مرضية موسعة للرزق ورغد العيش، وقيل هو الرضاء بالميسور والصبر على المقدور (إلى أجل مسمى) إلى وقت مقدر عند الله وهو الموت، وقيل القيامة، وقيل دخول الجنة والأول أولى.
والأمر الثاني قوله (ويؤت كل ذي فضل) في الطاعة والعمل (فضله) أي جزاء فضله إما في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما جميعاً، والضمير راجع إلى كل ذي فضل، وقيل راجع إلى الله سبحانه على معنى إن الله يعطي كل من فضلت حسناته الذي يتفضل به على عباده.
عن ابن مسعود قال: من عمل سيئة كتبت عليه سيئة، ومن عمل حسنة كتبت له عشر حسنات، فإن عوقب بالسيئة التي عملها في الدنيا بقيت له عشر حسنات وإن لم يعاقب بها في الدنيا أخذ من الحسنات العشر واحدة وبقيت له تسع حسنات ثم يقول هلك من غلب آحاده إعشاره، وقال أبو العالية من كثرت طاعاته في الدنيا زادت حسناته ودرجاته في الجنة.
ثم توعدهم على مخالفة الأمر فقال (وإن تولوا) أي تعرضوا عن الإخلاص في العبادة والاستغفار والتوبة (فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير) هو يوم القيامة، ووصفه بالكبر لما فيه من الأهوال، وقيل اليوم الكبير يوم بدر، وقيل صفة لعذاب فهو منصوب وإنما خفض على الجوار.
ثم بينَّ سبحانه عذاب اليوم الكبير بقوله
(وهو على كل شيء قدير) ومن ذلك عذابكم على عدم الامتثال، وهذه الجملة مقررة لما قبلها.
ثم أخبر الله سبحانه بأن هذا الإنذار والتحذير والتوعد لم ينجع فيهم، ولا لانت له قلوبهم، بل هم مصرون على العناد مصممون على الكفر، فقال مصدراً لهذا الإخبار بكلمة التنبيه الدالة على التعجيب من حالهم، وأنه أمر ينبغي أن يتنبه له العقلاء ويفهموه
وقيل معناه يعطفون صدورهم على ما فيها من الكفر والإعراض عن الحق وعداوة النبي ﷺ بحيث يكون ذلك مخفياً مستوراً فيها كما تعطف الثياب على ما فيها من الأشياء المستورة، فيكون في الكلام كناية عن الإخفاء لما يعتقدونه من الكف كما كان دأب المنافقين، والوجه الثاني أولى، ويؤيده قوله (ليستخفوا منه) أي من الله فلا يطلع عليه رسوله والمؤمنين أو من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم كرر كلمة التنبيه مبيناً للوقت الذي يثنون فيه صدورهم فقال (ألا حين يستغشون ثيابهم) أي يستخفون في وقت استغشاء الثياب وهو التغطي
وقيل معناه يأوون إلى فراشهم ويتدثرون بثيابهم، وقيل أنه حقيقة، وذلك أن بعض الكفار كان إذا مر به رسول الله ﷺ ثنى صدره وولى ظهره واستغشى ثيابه لئلا يسمع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال البخاري عن ابن عباس: يغطون رؤوسهم، وروى عنه أيضاً قال: يعني به الشك في الله وعمل السيئات، وكذا روي عن مجاهد والحسن وغيرهما، أي إنهم كانوا يثنون صدورهم إذا قالوا شيئاً أو عملوه فيظنون إنهم سيخفون من الله بذلك، فأعلمهم سبحانه أنه حين يستغشون ثيابهم عند منامهم في ظلمة الليل يعلم سرهم وعلانيتهم.
وعن عبد الله بن شداد قال: كان المنافقون إذا مر أحدهم بالنبي (- ﷺ -) ثنى صدره وتغشى ثوبه لكيلا يراه فنزلت، وعن الحسن قال: في ظلمة الليل في أجواف بيوتهم، وعن قتادة قال: كانوا يحنون صدورهم لكيلا يسمعوا كتاب الله.
وجملة (يعلم ما يسرون وما يعلنون) مستأنفة لبيان أنه لا فائدة لهم في الاستخفاء لأن الله سبحانه يعلم ما يسرونه في أنفسهم أو في ذات بينهم وما يظهرونه فالظاهر والباطن عنده سواء والسر والجهر سيان (إنه عليم بذات الصدور) تعليل لما قبله وتقرير له، وذات الصدور هي الضمائر التي تشتمل عليها الصدور وقيل هي القلوب.
والمعنى أنه عليم بجميع الضمائر أو عليم بالقلوب وأحوالها في الأسرار والإظهار فلا يخفى عليه شيء من ذلك.
ثم أكد كونه عالماً بكل المعلومات بما فيه غاية الامتنان ونهاية الإحسان فقال
(في الأرض إلا على الله رزقها) أي الرزق الذي يحتاج إليه من الغذاء اللائق بالحيوان على اختلاف أنواعه تفضلاً منه وإحساناً، وإنما جيء به على طريق الوجوب كما تشعر به كلمة (على) اعتباراً بسبق الوعد به منه، وقيل أن (على) على بابها وأنه عليه من باب الفضل لا الوجوب لأنه لا يجب عليه شيء.
والحاصل أن المراد بالوجوب وجوب اختيار لا وجوب إلزام، فهو موكول إلى مشيئته، إن شاء رزقها وإن شاء لم يرزقها. وقيل أن على بمعنى " من " أي من الله رزقها، أي ما يقوم به رمقها وتعيش به، قال مجاهد: ما جاءها من رزق فمن الله، وربما لم يرزقها فتموت جوعاً.
ووجه اتصال هذا الكلام بما قبله إن الله سبحانه لما كان لا يغفل عن كل حيوان باعتبار ما قسمه له من الرزق، فكيف يغفل عن أحواله وأقواله وأفعاله (ويعلم مستقرها) أي محل استقرارها في الأرض أو محل قرارها في
ووجه تقديم المستقر على المستودع على قول الفراء ظاهر، وأما على القول الأول فلعل وجه ذلك أن المستقر أنسب باعتبار ما هي عليه حال كونها دابة، والمعنى وما من دابة إلا يرزقها الله حيث كانت من إماكنها بعد كونها دابة، وقبل كونها دابة، وذلك حين تكون في الرحم ونحوه.
وفي البيضاوي أماكنها في الحياة وفي الممات أو الأصلاب والأرحام أو مساكنها من الأرض حين وجدت بالفعل ومودعها من المواد والمقار حين كانت بعد بالقوة. اهـ
والمراد كالمني والعلقة، والمقار كالصلب والرحم، وعن ابن مسعود قال: مستقرها في الأرحام ومستودعها حيث تموت، ويؤيد هذا التفسير ما أخرجه الحاكم وصححه عن ابن مسعود عن النبي (- ﷺ -) قال: إذا كان أجل أحدكم بأرض أتيحت له إليها حاجة حتى إذا بلغ أقصى أثره منها فيقبض، فتقول الأرض يوم القيامة: هذا ما استودعتني (١)
ثم ختم الآية بقوله (كل في كتاب مبين) أي كل مما تقدم ذكره من الدواب ومستقرها ومستودعها ورزقها في اللوح المحفوظ أي مثبت فيه قبل خلقها.
ثم أكد دلائل قدرته بالتعرض لذكر خلق السماوات والأرض وكيف كان الحال قبل خلقها فقال
_________
(١) المستدرك كتاب الإيمان ١/ ٤١.
وقيل المراد هنا الأيام المعروفة وهي المقابلة لليالي أولها الأحد وآخرها الجمعة ولا يستقيم ذلك لأنه لم تكن حينئذ أرض ولا سماء، وليس اليوم إلا عبارة عن مدة كون الشمس فوق الأرض؛ وفي الجمل وهذا مشكل جداً إذ لا يتعين الأحد ولا غيره من الأيام إلا عند وجودها بالفعل، وفي تلك الحال لم يكن زمان قط فضلاً عن تفضيله أياماً فضلاً عن تخصيص كل يوم باسم.
والجواب عن هذا الإشكال بأن المراد مقدار ستة أيام لا يدفع هذا الإشكال إنما يدفع الإشكال الآخر وهو أنه لم يكن ثم زمان اهـ.
(وكان عرشه) قبل خلقهما (على الماء) ليس تحته شيء غيره، سواء كان بينهما فرجة أو كان موضوعاً على متنه فلا دلالة فيه على إمكان الخلاء، كيف لا ولو دل لدل على وجوده لا على إمكانه فقط ولا على كون الماء أول ما حدث في العالم بعد العرش، وإنما يدل على أن خلقهما أقدم من خلق السماوات والأرض من غير تعرض للنسبة بينهما.
قلت: وكونه قبل خلقهما مأخوذ من كان لأن المعنى المستفاد منها بالنسبة للحكم لا للتكلم وهو خلق السماوات والأرض، وهذا ظاهر سواء كانت الجملة معطوفة أو حالية بتقدير قد. ونقل عن السلف أنه كان على الماء وهو الآن على ما كان عليه وعبارة سليمان الجمل: بل هو في مكانه الذي هو فيه الآن وهو ما فوق السماوات السبع والماء في المكان الذي هو فيه الآن وهو ما تحت الأرضين السبع. انتهى
عن ابن عباس أنه سئل على أي شيء كان الماء؟ قال على متن الريح، وعن أبي رزين العقيلي قال: قلت يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال كان في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء وخلق عرشه على الماء (١)
_________
(١) الترمذي تفسير سورة ١١/ ١.
قال الأزهري: فنحن نؤمن به ولا نكيف صفته، وقد وردت أحاديث كثيرة في صفة العرش، وفي كيفية خلق السماوات والأرض ليس هذا موضع ذكرها. (ليبلوكم) أي خلق هذه المخلوقات ليبتلي عباده بالاعتبار والتفكر والاستدلال على كمال قدرته على البعث والجزاء (أيكم أحسن عملاً) فيما أمر به ونهى عنه من غيره، ويدخل في العمل الاعتقاد لأنه من أعمال القلب، وقيل المراد بالأحسن عملاً الأتم عقلاً، وقيل الأزهد في الدنيا وقيل الأكثر شكراً، وقيل الأتقى لله، وجاز تعليق فعل البلوى لما في الاختبار من معنى العلم لأنه طريق إليه فهو ملابس له.
(ولئن قلت) اللام موطئة للقسم فقد اجتمع في الكلام شرط وقسم، والقاعدة أن يحذف جواب المتأخر ويذكر جواب المتقدم، فقوله ليقولن جواب القسم وجواب الشرط محذوف، وكذا في قوله (ولئن أخرنا) وقوله (ولئن أذقنا الإنسان) وقوله (ولئن أذقناه) فالمواضع أربعة.
ولما كان الابتلاء يتضمن حديث البعث أتبع ذلك بذكره، والمعنى لئن قلت لهم يا محمد على ما توجبه قضية الابتلاء (إنكم مبعوثون من بعد الموت) فيجازى المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، قيل أنكم بمعنى لعلكم على أن الرجاء باعتبار حال المخاطبين، أي توقعوا ذلك ولا تبثوا القول بإنكاره (ليقولن الذين كفروا) من الناس (إن هذا) الذي تقوله يا محمد (إلا سحر مبين) أي كالسحر أو باطل كبطلان السحر وخدع كخدعه فالكلام من باب التشبيه البليغ.
ويجوز أن تكون الإشارة بهذا إلى القرآن لأنه المشتمل على الأخبار بالبعث وقرئ ساحر يعني النبي صلى الله عليه وسلم.
فأجابهم الله بقوله (ألا) أداة استفتاح داخلة على ليس في المعنى (يوم يأتيهم) أي العذاب (ليس مصروفاً) أي محبوساً (عنهم) بل واقع بهم لا محالة، ويوم منصوب بخبر (ليس) مقدماً عليه وهو دليل البصريين على جواز تقديم خبرها عليها إذ المعمول تابع للعامل فلا يقع إلا حيث يقع متبوعه وإلا يلزم تقديم الفرع على أصله.
ورد بأن الظرف يجوز فيه ما لا يجوز في غيره توسعاً، ويبنى الأمر فيه على التسامح فيه، وبأنه قد يقدم المعمول حيث لا مجال لتقدم العامل كما في قوله تعالى (فأما اليتيم فلا تقهر * وأما السائل فلا تنهر) فإن اليتيم والسائل مع كونهما منصوبين بالفعلين المجزومين قد تقدما على لا الناهية مع امتناع تقدم الفعلين عليها.
فيأبى فما يزاد إلا لجاجة | وكنت أبياً في الخنا لست أقدم |
(وحاق) أي أحاط (بهم ما كانوا به يستهزءون) أي العذاب الذي كانوا يستعجلونه استهزاء منهم، ووضع هذا مكان يستعجلون لأن استعجالهم كان استهزاء منهم، وعبر بلفظ الماضي تنبيهاً على تحقق وقوعه فكأنه قد حاق بهم
(ثم نزعناها منه) أي سلبناه إياها وأخذناها قهراً عليه، وإيراد النزع للإشعار بشدة تعلقه بها وحرصه عليها (إنه ليؤوس) أي آيس من الرحمة شديد القنوط من عودها وأمثالها لقلة صبره وعدم ثقته بالله (كفور) عظيم الكفران وهو الجحود لها. قاله ابن الأعرابي
وفي إيراد صيغتي المبالغة ما يدل على أن الإنسان كثير اليأس وكثير الجحد عند أن يسلبه الله بعض نعمه فلا يرجو عودها ولا يشكر ما قد سلف له منها. وفي التعبير بالذوق ما يدل على أنه يكون منه ذلك عند سلب أدنى نعمة ينعم الله بها عليه لأن الإذاقة والذوق أقل ما يوجد به الطعم.
(ليقولن) أي بل يقول (ذهب السيئات عني) أي المصائب التي ساءته من الضر والفقر والخوف والمرض عنه وزال أثرها غير شاكر لله ولا مثن عليه بنعمه (إنه لفرح فخور) أي كثير الفرح بطراً أو أشراً كثير الفخر على الناس بتعديد المناقب والتطاول عليهم بما يتفضل الله به عليه من النعم، والفرح لذة تحصل في القلب بنيل المراد والمشتهى.
وفي التعبير عن ملابسة الضر له بالمس مناسبة للتعبير في جانب النعماء بالإذاقة فإن كليهما لأدنى ما يطلق عليه اسم الملاقاة كما تقدم.
(أولئك) إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بالصبر وعمل الصالحات (لهم مغفرة) لذنوبهم وإن جمت (وأجر) يؤجرون به على أعمالهم الحسنة (كبير) متناه في الكبر، وهو الجنة، ووصف الأجر به لما احتوى عليه من النعيم السرمدي ودفع التكاليف والأمن من عذاب الله والنظر إلى وجهه الكريم، واختياره على العظيم لعله لرعاية الفواصل.
ثم سلى الله سبحانه رسوله ﷺ فقال
(وضائق به صدرك) الضمير راجع إلى " ما " أو إلى بعض وعبر بضائق دون ضيق لأن اسم الفاعل فيه معنى الحدوث والعروض والصفة المشبهة فيها معنى اللزوم (أن يقولوا) أي كراهة أو مخافة، أو لأجل أن أو بأن لا. وقال أبو البقاء: لأن يقولوا (لولا) أي هلا (أنزل عليه كنز) أي مال مكنوز مخزون ينتفع به ويستغني به (أو جاء معه ملك) يصدقه ويبين لنا صحة رسالته.
ثم بيَّن سبحانه أن حاله ﷺ مقصور على النذارة فقال (إنما أنت نذير) أي ليس عليك إلا الإنذار بما أوحى إليك، وليس عليك حصول مطلوبهم وإيجاد مقترحاتهم (والله على كل شيء وكيل) يحفظ ما يقولون وهو فاعل بهم ما يجب أن يفعل.
ثم أمره الله سبحانه أن يجيب عليهم بما يقطعهم ويبيَّن كذبهم ويظهر به عجزهم فقال (قل فأتوا بعشر سور مثله) أي مماثلة له في البلاغة وحسن النظم، وجزالة اللفظ، وفخامة المعنى، ووصف السور بما يوصف به المفرد فقال مثله ولم يقل أمثاله لأن المراد مماثله كل واحدة من السور أو لقصد الإيماء إلى أن وجه الشبه ومداره المماثلة في شيء واحد وهو البلاغة البالغة إلى حد الإعجاز.
وهذا إنما هو على القول بأن المطابقة في الجمع والتثنية والإفراد شرط، وقيل لفظة مثل وإن كانت بلفظ الإفراد فإنها يوصف بها المثنى والمجموع والمؤنث كقوله تعالى (أنؤمن لبشرين مثلنا) وتجوز المطابقة قال تعالى (وحور عين كأمثال اللؤلؤ) وقال تعالى: (ثم لا يكونوا أمثالكم) والهاء في مثله تعود لما يوحى.
ثم وصف السور بصفة أخرى فقال (مفتريات) جمع مفتراة كمصطفيات في مصطفاة فانقلبت الألف ياء كالتثنية، قاله السمين أي مختلفات حيث قالوا له افتريت هذا القرآن من عند نفسك وليس من عند الله، فتحداهم وأرخى لهم العنان وفاوضهم على مثل دعواهم وقال مفتريات في مقابلة قولهم افتراه.
ولما تحداهم بهذا الكلام أمره بأن يقول لهم (وادعوا) للاستظهار على المعارضة بالعشر السور (من استطعتم) دعاءه وقدرتم على الاستعانة به من هذا النوع الإنساني و (من دون الله) أي ممن تعبدونه وتجعلونه شريكاً لله سبحانه أي ادعوا من استطعتم متجاوزين الله سبحانه (إن كنتم صادقين) فيما تزعمون من افترائي له.
(فاعلموا) أمر لرسول الله ﷺ وللمؤمنين أو للرسول وحده على التأويل الذي سلف قريباً ومعنى أمرهم بالعلم أمرهم بالثبات عليه لأنهم عالمون بذلك من قبل عجز الكفار عن الإتيان بعشر سور مثله أو المراد بالأمر بالعلم الأمر بالازدياد منه إلى حد لا يشوبه شك، ولا تخالطه شبهة، وهو علم اليقين، والأول أولى.
(إنما أنزل) متلبساً (بعلم الله) المختص به الذي لا تطلع على كنهه العقول ولا تستوضح معناه الأفهام لما اشتمل عليه من الإعجاز الخارج عن طوق البشر، وليس مفترى على الله، وإنما أداة حصر ويجوز في ما أن تكون موصولة اسمية أو حرفية تقديره فاعلموا أن تنزيله أو أن الذي أنزله متلبس بعلم الله (وأن لا إله إلا هو) أي واعلموا أن الله هو المتفرد بالألوهية لا شريك له ولا يقدر غيره على ما يقدر عليه، ثم ختم الآية بقوله (فهل أنتم مسلمون) أي ثابتون على الإسلام راسخون فيه مخلصون له إذا تحقق عندكم إعجازه.
وقيل المعنى فإن لم يستجب لكم من دعوتموهم للمعاضدة والمناصرة على الإتيان بعشر سور من سائر الكفار ومن تعبدونهم وتزعمون أنهم يضرون وينفعون فاعلموا أن هذا القرآن الذي أنزله الله على هذا الرسول خارج عن قدرة غيره سبحانه وتعالى لما اشتمل عليه من الإعجاز الذي يتقاصر دونه قوة المخلوقين وأنه أنزل الله الذي لا تحيط به العقول ولا تبلغه الأفهام.
واعلموا أنه المتفرد بالألوهية لا شريك له فهل أنتم بعد هذا مسلمون أي داخلون في الإسلام متبعون لأحكامه مقتدون بشرائعه بعد قيام الحجة القاطعة.
وفي مثل هذا الاستفهام إيجاب بليغ لما فيه من معنى الطلب والتنبيه على قيام الموجب وزوال العذر، وهذا الوجه أقوى من الوجه الأول من جهة، وأضعف منه من جهة.
فأما جهة قوته فلاتّساق الضمائر وتناسبها وعدم احتياج بعضها إلى تأويل، وأما ضعفه في ترتيب الأمر بالعلم على عدم الاستجابة ممن دعوهم واستعانوا بهم من الخفاء واحتياجه إلى تكلف، وهو أن يقال إن عدم استجابة من دعوهم واستعانوا بهم من الكفار والآلهة مع حرصهم، على نصرهم ومعاضدتهم ومبالغتهم في عدم إيمانهم واستمرارهم على الكفر، يفيد حصول العلم لهؤلاء
واعلم أنه قد اختلف التحدث للكفار بمعارضة القرآن فتارة وقع بمجموع القرآن كقوله: (لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله) وبعشر سور كما في هذه الآية وذلك لأن العشرة أول عقد من العقود، وبسورة منه كما تقدم في البقرة ويونس، وذلك لأن السورة أقل طائفة منه.
ثم إن الله سبحانه توعد من كان مقصور الهمة على الدنيا لا يطلب غيرها ولا يريد سواها فقال:
والمعنى أن من كان يريد بعمله حظ الدنيا يكافأ بذلك وليس المراد مجرد الإرادة والمراد بزينتها ما يزينها ويحسنها من الصحة والأمن والسعة في الرزق وارتفاع الحظ ونفاذ القول وكثرة الأولاد والرياسة ونحو ذلك، وإدخال كان في الآية يفيد أنهم مستمرون على إرادة الدنيا بأعمالهم لا يكادون يريدون الآخرة ولهذا قيل أنهم مع إعطائهم حظوظ الدنيا يعذبون في الآخرة لأنهم جردوا قصدهم إلى الدنيا ولم يعملوا للآخرة.
وظاهر قوله: (نوف إليهم أعمالهم فيها) أن من أراد بعمله الدنيا حصل له الجزاء الدنيوي لا محالة، ولكن الواقع في الخارج يخالف ذلك فليس كل متمن ينال من الدنيا أمنيته وإن عمل لها وأرادها فلا بدّ من تقييد ذلك
قال القرطبي: ذهب أكثر العلماء إلى أن هذه الآية مطلقة وكذلك الآية التي في الشورى (من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها) (ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها) كذلك (ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها) وقيدتها وفسرتها التي في سبحان (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد).
(وهم فيها لا يبخسون) أي وهؤلاء المريدون بأعمالهم الدنيا هم في الدنيا لا ينقصون من جزائهم فيها بحسب أعمالهم لها وذلك في الغالب، وليس بمطرد بل إن قضت به مشيئته سبحانه ورجحته حكمته البالغة.
وقال القاضي: معنى الآية من كان يريد بعمل الخير الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم وافية كاملة من غير بخس في الدنيا وهو ما ينالون من الصحة والكفاف وسائر اللذات والطيبات والمنافع، فخص الجزاء بمثل ما ذكره وهو حاصل لكل عامل للدنيا ولو كان قليلاً يسيراً. أهـ.
وإنما عبر عن عدم نقص أعمالهم بنفي البخس الذي هو نقص الحق مع أنه ليس لهم شائبة حق فيما أوتوه كما عبر عن إعطائه بالتوفية التي هي إعطاء الحقوق مع أن أعمالهم بمعزل عن كونها مستوجبة لذلك، بناء للأمر على ظاهر الحال ومحافظة على صور الأعمال ومبالغة في نفي النقص، كأن ذلك نقص لحقوقهم فلا يدخل تحت الوقوع والصدور عن الكريم أصلاً.
(أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار) الإشارة إلى المريدين المذكورين ولا بدّ من تقييد هذا بأنهم لم يريدوا الآخرة بشيء من الأعمال المعتد بها الموجبة للجزاء الحسن في الدار الآخرة أو تكون الآية خاصة بالكفار كما تقدم.
(وحبط ما صنعوا فيها) أي ظهر في الدار الآخرة حبوط ما صنعوه من الأعمال التي كانت صورتها صورة الطاعات الموجبة للجزاء الأخروي لولا أنهم أفسدوها بفساد مقاصدهم وعدم الخلوص وإرادة ما عند الله في دار الجزاء، بل قصروا ذلك على الدنيا وزينتها.
ثم حكم سبحانه ببطلان عملهم فقال: (وباطل ما كانوا يعملون) أي إنه كان عملهم في نفسه باطلاً غير معتد به، لأنه لم يعمل لوجه صحيح يوجب الجزاء ويترتب عليه ما يترتب على العمل الصحيح.
عن مجاهد قال: هم أهل الرياء، وهذا مشكل لأن قوله أولئك الذين، الآية لا يليق بحال المؤمن إلا إذا قلنا إن تلك الأعمال الفاسدة والأفعال الباطلة لما كانت لغير الله استحق فاعلها الوعيد الشديد وهو عذاب النار.
ويدل له ما روي عن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ " من تعلم علماً لغير الله أو أراد به غير الله فليتبوأ مقعده من النار (١) أخرجه الترمذي.
_________
(١) الترمذي، كتاب العلم باب ٦.
والذي تقتضيه جزالة النظم الكريم أن المراد به مطلق الكفرة بحيث يندرج فيهم القادحون في القرآن العظيم اندراجاً أولياً، فإنه عز وعلا لما أمر نبيه ﷺ والمؤمنين بأن يزدادوا علماً ويقيناً بأن القرآن مُنزل بعلم الله وبأن لا قدرة لغيره على شيء أصلاً، وهيجهم على الثبات على الإسلام والرسوخ فيه عند ظهور عجز الكفرة وما يدعون من دون الله عن المعارضة، وتبين أنهم ليسوا على شيء أصلاً، اقتضى الحال أن يتعرض لبعض شئونهم الموهمة لكونهم على شيء في الجملة ممن نيلهم الحظوظ العاجلة واستيلائهم على المطالب الدنيوية، وبيان أن ذلك بمعزل عن الدلالة عليه، ولقد بينَّ ذلك أي بيان.
_________
(١) مسلم ٢٩٨٥.
ثم بيَّن سبحانه أن بين من كان طالباً للدنيا فقط ومن كان طالباً للآخرة تفاوتاً وتبايناً بعيداً فقال: (أفمن كان على بيّنة) برهان يدل على الحق (من ربه) في اتباع النبي ﷺ والإيمان بالله كغيره، ممن يريد الحياة الدنيا وزينتها، وقيل المراد به النبي صلى الله عليه وسلم، أي أفمن كان معه بيان من الله ومعجزة كالقرآن ومعه شاهد كجبريل، وقد بشرت به الكتب السابقة كمن كان يريد الحياة الدنيا وزينتها.
والضمير في (ويتلوه شاهد) راجع إلى البيّنة باعتبار تأويلها بالبرهان أي يؤيده ويشدّده ويقويه، والضمير في (منه) راجع إلى القرآن لأنه تقدم ذكره في قوله أم يقولون افتراه أو راجع إلى الله تعالى. والمعنى ويتلو البرهان الذي هو البيّنة شاهد يشهد بصحته من القرآن أو من الله سبحانه، والشاهد هو الإعجاز الكائن في القرآن أو المعجزات التي ظهرت لرسول الله (- ﷺ -) فإن ذلك من الشواهد التابعة للقرآن.
وقال الفراء: قال بعضهم: ويتلوه شاهد منه الإنجيل وإن كان قبله فهو يتلو القرآن في التصديق، والهاء في منه لله عز وجل. وقيل المراد بمن كان على بيّنة من ربه هم مؤمنو أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وإضرابه.
وعن علي بن أبي طالب قال: ما من رجل من قريش إلا نزل فيه طائفة من القرآن، فقال له رجل: ما نزل فيك؟ قال: أما تقرأ سورة هود (أفمن كان على بيّنة من ربه ويتلوه شاهد منه) فرسول الله ﷺ بيّنة
وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويتلوه شاهد منه، علي (١) أخرجه ابن عساكر. وعنه وددت أني أنا هو ولكنه لسان محمد. وعن ابن عباس أن الشاهد جبريل، ووافقه سعيد بن جبير وعلقمة وإبراهيم ومجاهد والضحاك وأكثر المفسرين. وقال الحسن وقتادة: هو لسان النبي صلى الله عليه وسلم.
ووجه ذلك أن اللسان لما كان يعرب عما في الجنان، ويظهره جعل كالشاهد له لأنه آية الفصل والبيان وبه يتلى القرآن. وقال مجاهد: الشاهد هو ملك يحفظ النبي (- ﷺ -) ويسدده والأول أولى.
(ومن قبله) أي القرآن (كتاب موسى) عطف على شاهد والتقدير ويتلوه الشاهد وشاهد آخر وهو كتاب موسى، فهو إن كان متقدماً في النزول فهو يتلو الشاهد في الشهادة، وإنما قدم الشاهد على كتاب موسى مع كونه متأخراً في الوجود لكونه وصفاً لازماً غير مفارق فكان أعرق في الوصفية من كتاب موسى.
ومعنى شهادة كتاب موسى وهو التوراة أنه بشر بمحمد ﷺ وأخبر بأنه رسول من الله.
قال الزجاج: والمعنى ويتلوه من قبله كتاب موسى لأن النبي ﷺ موصوف في كتاب موسى يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، وقرئ كتاب موسى بالنصب أي يتلو كتاب موسى جبريل.
(إماماً ورحمة) الإمام هو الذي يؤتم به في أمور الدين ويقتدى به في الأحكام والشرائع، والرحمة النعمة العظيمة التي أنعم الله بها على من أنزله
_________
(١) فيه رائحة التشيع.
(أولئك) أي المتصفون بتلك الصفة الفاضلة وهو الكون على البينة من الله (يؤمنون به) أي يصدقون بالنبي ﷺ أو بالقرآن (ومن يكفر به) أي بالنبي أو بالقرآن (من الأحزاب) وهم المتحزبون على رسول الله ﷺ من أهل مكة وغيرهم أو المتحزبون من أهل الأديان كلها قال قتادة: الكفار أحزاب كلهم على الكفر.
(فالنار موعده) أي هو من أهل النار لا محالة وفي جعل النار موعداً إشعار بأن فيها ما لا يحيط بها الوصف من أفانين العذاب.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة لا يهودي ولا نصراني ومات ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار (١) أخرجه البغوي بسنده، قال سعيد بن جبير: ما بلغني حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على وجهه إلا وجدت مصداقه في كتاب الله حتى بلغني هذا الحديث، فقلت أين هذا في كتاب الله حتى أتيت على هذه الآية.
(فلا تك في مرية منه) أي في شك من كون القرآن نازلاً من عند الله وفيه تعريض بغيره ﷺ لأنه معصوم عن الشك في القرآن أو في شك من الموعد. والمرية بالكسر والضم والأولى لغة الحجاز، وبها قرأ جماهير الناس، والثانية لغة أسد وتميم وبها قرأ السلمي وغيره (إنه الحق من ربك) فلا مدخل للشك منه بحال من الأحوال (ولكن أكثر الناس لا يؤمنون) بذلك مع وجوب الإيمان به وظهور الدلائل الموجبة له، ولكنهم يعاندون مع علمهم بكونه حقاً أو قد طبع على قلوبهم فلا يفهمون أنه الحق أصلاً.
_________
(١) شرح السنة ١/ ١٠٤.
(أولئك) أي الموصوفون بالظلم المتبالغ (يعرضون على ربهم) يوم القيامة فيحاسبهم على أعمالهم أو المراد بعرضهم عرض أعمالهم عرضاً تظهر به فضيحتهم (ويقول الأشهاد) جمع شهيد، ورجحه أبو علي بكثرة ورود شهيد في القرآن كقوله (ويكون الرسول عليكم شهيداً، فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً).
وقيل هو جمع شاهد كأصحاب وصاحب. قال مجاهد: هم الملائكة الحفظة وقيل المرسلون. قاله ابن عباس، وقيل الملائكة والمرسلون والعلماء الذين بلغوا ما أمرهم الله بإبلاغه، وقيل جميع الخلائق، قاله قتادة. والمعنى أنه يقول هؤلاء الأشهاد عند العرض
(هؤلاء) المعرضون أو المعروضة أعمالهم (الذين كذبوا على ربهم) في
وفي الصحيحين وغيرهما عن ابن عمر: سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن الله يدني المؤمن حتى يضع كنفه ويستره من الناس ويقرره بذنوبه ويقول له: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول رب أعرف، حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك قال فإني سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم. ثم يعطى كتاب حسناته وأما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد إلى قوله الظالمين (١).
والفائدة في قول الأشهاد بهذه المقالة المبالغة في فضيحة الكفار والتقريع لهم على رؤوس الأشهاد.
ثم وصف هؤلاء الظالمين الذين لعنوا بأنهم
_________
(١) البخاري كتاب التوحيد باب ٣٦ بلفظ: " يدنو أحدكم من ربه حتى... ".
(ويبغونها عوجاً) أي يصفونها بالاعوجاج تنفيراً للناس عنها أو يبغون أهلها أن يكونوا معوجين بالخروج عنها إلى الكفر، يقال بغيتك شراً أي طلبته لك. وقال أبو مالك: يعني يرجون بمكة غير الإسلام ديناً.
(وهم) أي والحال أنهم هم بالآخرة (كافرون) أي غير مصدقين فكيف يصدون الناس عن طريق الحق وهم على الباطل البحت، وتكرير الضمير لتأكيد كفرهم واختصاصهم به، حتى كأن كفر غيرهم غير معتد به بالنسبة إلى عظيم كفرهم.
(وما كان لهم من دون الله من أولياء) يدفعون عنهم ما يريده الله سبحانه من عقوبتهم وإنزال بأسه بهم؛ ومن زائدة
(يضاعف) وقرئ يضعَّف بالتشديد (لهم العذاب) في الآخرة مستأنفة لبيان أن تأخير العذاب والتراخي عن تعجيله لهم ليكون عذاباً مضاعفاً بسبب صدهم عن سبيل الله وإنكارهم البعث، بعد الموت
وقال السيوطي: بإضلالهم غيرهم قال الصاوي: حاصله (١) إن المضاعفة مخصوصة بالحسنات، وأما السيئات فلا تضاعف قال تعالى (ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها) فمعنى المضاعفة الشدة لأنهم يعذبون عذابين عذاباً على ضلالهم في أنفسهم وعذاباً على إضلالهم غيرهم.
(ما كانوا يستطيعون السمع) أي أفرطوا في إعراضهم عن الحق وبغضهم له حتى كأنهم لا يقدرون على السمع للحق وهذا تعليل لمضاعفة
_________
(١) قوله حاصله أي حاصل قول السيوطي إهـ منه.
ويجوز أن يراد بقوله (وما كان لهم من دون الله من أولياء) أنهم جعلوا آلهتهم أولياء من دون الله ولا ينفعهم ذلك، فما كان هؤلاء الأولياء يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون فكيف ينفعونهم فيجلبون لهم نفعاً ويدفعون عنهم ضراً.
وقوله: (يضاعف لهم العذاب) اعتراض وسط بينهما نعياً عليهم من أول الأمر سوء العاقبة ويجوز أن يكون ما هي المدة، والمعنى أنه يضاعف لهم العذاب مدة استطاعتهم السمع والبصر، وقال الفراء: لا يستطيعون السمع لأن الله أضلهم في اللوح المحفوظ.
وقال الزجاج: لبغضهم النبي ﷺ وعداوتهم له لا يستطيعون أن يسمعوا منه ولا يفهموا عنه.
قال النحاس: هذا معروف في كلام العرب يقال فلان لا يستطيع أن ينظر إلى فلان، إذا كان ثقيلاً عليه.
وقال الزجاج: أن جرم بمعنى كسب وفاعله مضمر أي كسب ذلك الفعل لهم الخسران، وأن منصوبة بجرم.
قال الأزهري: وهذا من أحسن ما نقل في هذه اللغة، وقال الكسائي: معنى لا جرم لا صد ولا منع، وقال جماعة من النحويين: أن معنى لا جرم لا قطع قاطع قالوا والجرم القطع وقد جرم النخل واجترمه أي قطعه.
ووردت هذه اللفظة في القرآن في خمسة مواضع متلوة بأن واسمها ولم يجيء بعدها فعل ويقال في كل واحد منها ما قيل هنا، وفيه لغات بكسر الجيم وبضمها ولا جر بحذف الميم، ولا أن ذا جرم ولا ذو جرم وغير ذلك:
وفي هذه الآية بيان أنهم قد بلغوا في الخسران إلى حد يتقاصر عنه غيرهم ولا يبلغ إليه، وهذه الآيات مقررة لما سبق من نفي المماثلة بين من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها وبين من كان على بينة من ربه.
قال الفراء: إلى ربهم ولربهم واحد، وقيل لفظ الإخبات يتعدى باللام وإلى فإذا قلت أخبت فلان إلى كذا فمعناه اطمأن إليه، وإذا قلت له فمعناه خشع وخضع (أولئك) الموصوفون بتلك الصفات الصالحة (أصحاب الجنة هم فيها خالدون) لا انقطاع لنعيمها ولا زوال لأهلها.
(هل يستويان مثلاً) أي حالاً وصفة (أفلا تذكرون) في عدم استوائهما وفيما بينهما من التفاوت الظاهر لا يخفى على من له تذكر وعنده تفكر وتأمل. والهمزة لإنكار عدم التذكر واستبعاد صدوره عن المخاطبين.
ولما أورد سبحانه على الكفار المعاصرين لمحمد ﷺ أنواع الدلائل التي هي أوضح من الشمس أكد ذلك بذكر القصص على طريقة الافتنان في الكلام، ونقله من أسلوب إلى أسلوب لتكون الموعظة أظهر والحجة أبين والقبول أتم فقال.
وفي هذه السورة ذكر أنواع من القصص، الأولى قصة نوح، الثانية قصة هود، الثالثة قصة صالح، الرابعة قصة إبراهيم؛ الخامسة قصة لوط، السادسة قصة شعيب، السابعة قصة موسى وهي آخر القصص على الترتيب الزماني.
ثم ذكر ما أجاب به قومه عليه، وهذا الجواب يتضمن الطعن منهم في نبوته من ثلاث جهات
وقال الزجاج: نسبوهم إلى الحياكة ولم يعلموا أن الصناعات لا أثر لها في الديانة لأن الرفعة في الدين ومتابعة الرسل لا تكون بالشرف والمال والمناصب العلية بل للفقراء الخاملين وهم أتباع الرسل ولا تضرهم خسة صنائعهم إذا حسنت سيرتهم في الدين، وهذه عادة الله في الأنبياء والأولياء أن أول من يتبعهم ضعفاء الناس لذلهم فلا يتكبرون عن الاتباع بمال ولا جاه.
وقال ثعلب عن ابن الأعرابي: السفلة هو الذي يصلح الدنيا بدينه قيل له فمن سفلة السفله، قال: الذي يصلح دنيا غيره بفساد دينه.
والظاهر من كلام أهل اللغة أن السفلة هو الذي يدخل في الحرف الدنية، والرؤية في الموضعين أن كانت القلبية فبشراً في الأول واتبعك في الثاني هما المفعول الثاني، وإن كانت البصرية فهما منتصبان على الحال.
(بادي الرأي) أي في ظاهر الرأي من غير تعمق، يقال بدا يبدو إذا ظهر قال الأزهري: معناه فيما يبدو لنا من الرأي، وقيل أول الرأي قرئ بالهمز وتركه وهما سبعيتان ونصبه على الظرف أي وقت حدوث أول رأيهم.
والوجه الثالث من جهات قدحهم في نبوته (وما نرى لكم علينا من فضل) بالمال والشرف والجاه والرأي خاطبوه في الوجهين الأولين منفرداً، وفي هذا الوجه خاطبوه مع متبعيه، ثم أضربوا عن الثلاثة المطاعن وانتقلوا إلى ظنهم المجرد عن البرهان الذي لا مستند له إلا مجرد العصبية والحسد واستبقاء ما هم فيه من الرياسة الدنيوية فقالوا (بل نظنكم كاذبين) فيما تدعونه، ويجوز
وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (٢٩)
أن يكون هذا خطاباً للأراذل وحدهم، والأول أولى لأن الكلام مع نوح لا معهم إلا بطريق التبعية له.
ثم ذكر سبحانه ما أجاب به نوح عليه السلام عليهم إجمالاً فقال
(وآتاني رحمة من عنده) وهي النبوة وقيل الرحمة المعجزة والبينة النبوة قيل ويجوز أن يكون الرحمة هي البينة نفسها والأولى تفسير الرحمة بغير ما فسرت به البينة وقيل الرحمة هي على الحق، وقيل هي الهداية إلى معرفة البرهان، وقيل الإيمان والإفراد في (فعميت) على إرادة كل واحدة منهما أو على إرادة البينة لأنها هي التي تظهر لمن تفكر وتخفى على من لم يتفكر، ومعنى عميت خفيت يقال عميت عن كذا وعمي عليّ كذا إذا لم أفهمه.
قيل وهو من باب القلب لأن البينة أو الرحمة لا تعمي، وإنما يعمى عنها
(عليكم) فلم تهدكم كما لو عمي على القوم دليلهم في المفازة بقوا بغيرها وفي قراءة أُبيّ فعماها عليكم.
والاستفهام في (أنلزمكموها) للإنكار أي لا يمكنني أن أضطركم إلى المعرفة بها أي بالرحمة والمراد إلزام الجبر بالقتل ونحوه لا إلزام الإيجاب إذ هو حاصل ولذا فسره السيوطي بقوله أنجبركم على قبولها (وأنتم) أي والحال أنكم (لها كارهون) أي منكرون ونافون لها، والمعنى أخبروني إن كنت على حجة ظاهرة الدلالة على صحة النبوة إلا أنها خافية عليكم أيمكننا أن نضطركم إلى العلم بها والحال أنكم لها كارهون غير متدبرين فيها فإن ذلك لا يقدر عليه إلا الله عز وجل.
وعن قتادة قال: أما والله لو استطاع نبي الله لألزمها قومه، ولكنه لم يستطع ذلك ولم يمكنه.
(و) قوله (ما أنا بطارد الذين آمنوا) كالجواب عما يفهم من قولهم (وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا) من التلميح منهم إلى إبعاد الأراذل
ثم علل ذلك بقوله (إنهم ملاقوا ربهم) أي لا أطردهم فإنهم ملاقون يوم القيامة ربهم فهو يجازيهم على إيمانهم لأنهم طلبوا بإيمانهم ما عنده سبحانه، وكأنه قال هذا على وجه الإعظام لهم، ويحتمل أنه قاله خوفاً من مخاصمتهم له عند ربهم بسبب طرده لهم.
ثم بين لهم ما هم عليه في هذه المطالب التي طلبوها منه والعلل التي اعتلوا بها عن إجابته فقال (ولكني أراكم قوماً تجهلون) كل ما ينبغي أن يعلم، ومن ذلك استرذالهم للذين اتبعوه وسؤالهم له أن يطردهم.
ثم أكد عدم جواز طردهم بقوله
(أفلا تذكرون) معطوف على مقدر كأنه قيل أتستمرون على ما أنتم عليه من الجهل بما ذكر فلا تذكرون من أحوالهم ما ينبغي تذكره وتتفكرون فيه حتى تعرفوا ما أنتم عليه من الخطأ، وماءهم عليه الصواب، وقيل تقديره أتأمروني بطردهم فلا تذكرون، وقيل الأصل فلا تذكرون، وقيل أفلا بمعنى هلا التحضيضية كما ذكره الكرخي.
(ولا أقول) لكم (إني ملك) حتى تقولوا ما نراك إلا بشراً مثلنا، فإن البشرية ليست من موانع النبوة بل من مباديها، وقد استدل بهذا من قال إن الملائكة أفضل من الأنبياء، والأدلة نفي هذه المسألة مختلفة وليس لطالب الحق إلى تحقيقها حاجة، فليست هي مما كلفنا الله بعلمه
(ولا أقول للذين) أي في شأن الذين (تزدري أعينكم) أي تحتقر وتستصغر، والإزدراء مأخوذ من أزرى عليه إذا عابه وزرى عليه إذا احتقره، والمعنى أني لا أقول لهؤلاء المتبعين لي المؤمنين بالله الذين تعيبونهم وتحتقرونهم (لن يؤتيهم الله خيراً) أي توفيقاً وهداية وإيماناً وأجراً بل قد آتاهم الخير العظيم بالإيمان به واتباع نبيه، فهو مجازيهم بالجزاء العظيم في الآخرة ورافعهم في الدنيا إلى أعلى محل، ولا يضرهم احتقاركم لهم شيئاً.
(الله أعلم بما في أنفسهم) من الإيمان به والإخلاص له فمجازيهم على ذلك ليس لي ولا لكم من أمرهم شيء (إني إذاً لمن الظالمين) لهم أن فعلت ما تريدونه بهم أو من الظالمين لأنفسهم إن فعلت ذلك بهم
ثم جاوبوه بغير ما تقدم من كلامهم وكلامه
فأجاب بأن ذلك ليس إليه وإنما هو بمشيئة الله وإرادته و
(إن كان الله يريد أن يغويكم) أي إغواءكم فلا ينفعكم النصح مني، وكان جواب هذا الشرط محذوفاً كالأول وتقديره ما ذكرنا، وهذا التقدير إنما هو على مذهب من يمنع من تقدم الجزاء على الشرط، وأما على مذهب من يجيزه فجزاء الشرط الأول ولا ينفعكم نصحي، والجملة جزاء للشرط الثاني.
قال ابن جرير: معنى يغويكم يهلككم بعذابه؛ وظاهر لغة العرب أن الإغواء الإضلال، فمعنى الآية لا ينفعكم نصحي إن كان الله يريد أن يضلكم عن سبيل الرشاد، ويخذلكم عن طريق الحق. وحكى عن طي أصبح فلان غاوياً أي مريضاً وليس هذا العنى هو المراد في الآية، وقد ورد الأغواء بمعنى الإهلاك، ومنه فسوف يلقون غياً، وهو غير ما في الآية هذه.
(هو ربكم) فإليه الإغواء وإليه الهداية (وإليه ترجعون) فيجازيكم بأعمالكم إن خيراً فخير، وأن شراً فشر
قال قتادة: إجرامي أي عملي، والإجرام اكتساب السيئة واقترافها، يقال جرم جرماً أذنب والاسم منه الجرم بالضم والجريمة مثله، وأجرم هو الفاشي في الاستعمال، ويجوز جرم ثلاثياً، والمعنى إن كنت افتريته فعليّ عقاب جرمي، وإن كنت صادقاً وكذبتموني فعليكم عقاب ذلك التكذيب إلا أنه حذفت هذه البقية لدلالة الكلام عليها، ولا يدل ذلك على أنه كان شاكاً لأنه قول يقال على وجه الإنكار عند اليأس من القبول (وأنا بريء مما تجرمون) أي من إجرامكم بسبب ما تنسبون إلى من الافتراء، قيل وفي الكلام حذف والتقدير لكن ما افتريته فالإجرام وعقابه ليس إلا عليكم وأنا بريء منه.
وقد اختلف المفسرون في هذه الآية فقيل أنها حكاية عن نوح وما قاله لقومه، وقيل هي حكاية عن المحاورة الواقعة بين نبينا محمد ﷺ وكفار مكة قاله مقاتل، فعلى هذا تكون الآية معترضة في قصة نوح والأول أولى، لأن الكلام قبلها وبعدها مع نوح عليه السلام.
وقيل أن الاستثناء منقطع وهو على طريقة قوله (إلا ما قد سلف) قال قتادة: وذلك حين دعا عليهم نوح قال (لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً) وعن الحسن قال: إن نوحاً لم يدع على قومه حتى نزلت الآية هذه فانقطع عند ذلك رجاؤه منهم فدعا عليهم (فلا تبتئس بما كانوا يفعلون) البؤس الحزن أي فلا تحزن عليهم، قاله ابن عباس والبائس المستكين، فنهاه الله سبحانه عن أن يحزن حزن مستكين لأن الابتئاس حزن في استكانة، يقال ابتأس فلان إذا بلغه ما يكره والمبتئس الكاره الحزين.
ثم إن الله سبحانه لما أخبره أنهم لا يؤمنون البتة عرفه الله هلاكهم وألهمه الأمر الذي يكون به خلاصة وخلاص من آمن معه فقال
وقيل بعلمنا لك وجمع الأعين للمبالغة والتعظيم لا للتكثير، وقيل معناها بأعين ملائكتنا الذين جعلناهم عيوناً على حفظك، وقيل بأمرنا، والحق أن العين صفة من صفاته لا ندري كيفيتها فيجب إمرارها على ظاهرها من دون
ومعنى (ووحينا) بما أوحينا إليك من كيفية صنعتها، وقال ابن عباس: بعين الله ووجهه ولم يعلم نوح كيف يصنع الفلك فأوحى الله إليه أن يصنعها مثل جؤجؤ الطائر.
(ولا تخاطبني في الذين ظلموا) قيل هم امرأته وابنه أي لا تطلب إمهالهم وترك إهلاكهم أي لا تراجعني ولا تدني باستدفاع العذاب عنهم فقد حان وقت الانتقام منهم (إنهم مغرقون) تعليل لما قبله أي فإنهم محكوم منا عليهم بالغرق وقد مضى به القضاء فلا سبيل إلى دفعه ولا تأخيره، وقيل العنى ولا تخاطبني في تعجيل عقابهم فإنهم مغرقون في الوقت الضروب لذلك لا يتأخر إغراقهم عنه.
وكان طولها ثلثمائة ذراع وسمكها في السماء ثلاثين ذراعاً وعرضها خمسين ذراعاً والذراع إلى المنكب، وكانت من خشب الساج لها ثلاثة بطون وأطباق سفلى ووسطى وعليا، وكان بابها في عرضها فحمل في أسفلها الدواب والوحش، وفي أوسطها الإنس وفي أعلاها الطير، وقيل السفلى للوحش والوسطى للطعام والعليا له ولمن آمن، قال الخفاجي: والساج شجر عظيم يكثر بالهند، وقيل إنه ورد في التوراة أنها من الصنوبر وقيل غير ذلك (١).
(وكلما مر عليه ملأ) أي جماعة (من قومه سخروا منه) كل ظرفية وما
_________
(١) ليس على ما أورده المفسر من دليل صريح عن المعصوم فلا داعي إلى مثله.
وفي وجه سخريتهم منه قولان (أحدهما) أنهم كانوا يرونه يعمل السفينة فيقولون: يا نوح صرت بعد النبوة نجاراً، وكان يصنعها في برية في أبعد موضع من الماء وفي وقت عزته عزة شديدة (والثاني) أنهم لما شاهدوه يعمل السفينة وكانوا لا يعرفونها قبل ذلك ولا كيفية استعمالها والانتفاع بها فتعجبوا من ذلك وقالوا: يا نوح ما تصنع بها.
(قال) أمشي بها على الماء فعجبوا من قوله وسخروا به ثم أجاب عليهم بقوله (إن تسخروا منا) وهذا الكلام مستأنف على تقدير سؤال كأنه قيل فماذا قال لهم فقيل قال والمعنى أن تسخروا منا بسبب عملنا السفينة اليوم.
(فإنا نسخر منكم) غداً عند الغرق، ومعنى السخرية هنا الاستجهال أي إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم، وهذا على سبيل المشاكلة إذ السخرية لا تليق بمقام الأنبياء، وقيل أنه لجزائهم من جنس صنيعهم فلا يقبح (كما تسخرون) أي تستجهلون واستجهاله لهم باعتبار إظهاره لهم ومشافهتهم وإلا فهم عنده جهال قبل هذا وبعده والتشبيه لمجرد التحقيق والوقوع أو التجدد والتكرر.
والمعنى إنا نسخر منكم سخرية متحققة واقعة كما تسخرون منا كذلك أو متجددة متكررة كما تسخرون منا كذلك، وقيل معناه نسخر منكم في المستقبل سخرية مثل سخريتكم إذا وقع عليكم الغرق وفيه نظر فإن حالهم إذ ذاك لا تناسبه السخرية إذ هم في شغل شاغل عنها ثم هددهم بقوله.
(فسوف تعلمون من) موصولة في محل نصب أو استفهامية في محل رفع أي أينا (يأتيه عذاب يخزيه) أي يهينه وهو عذاب الغرق في الدنيا، قاله ابن عباس: والمراد بعذاب الخزي العذاب الذي يخزي صاحبه ويحل عليه العار (ويحل) التلاوة بكسر الحاء ويجوز لغة ضمها كما في المصباح أي ينزل (عليه عذاب مقيم) في الآخرة وهو عذاب النار الدائم والخلود فيها.
وقيل معنى يحل يجعل المؤجل حالاً مأخوذ من حلول الدين المؤجل. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان نوح مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم حتى كان آخر زمانه غرس شجرة فعظمت وذهبت كل مذهب، ثم قطعها ثم جعل يعمل منها سفينة ويمرون فيسألونه فيقول اعملها سفينة فيسخرون منه ويقولون تعمل سفينة في البر وكيف تجري، قال سوف تعلمون، فلما فرغ منها وفار التنور وكثر الماء في السكك خشيت أم الصبي عليه وكانت تحبه حباً شديداً فخرجت إلى الجبل حتى بلغت ثلثه فلما بلغها الماء خرجت حتى استوت على الجبل فلما بلغ الماء رقبته رفعته بين يديها حتى ذهب الماء بها، فلو رحم الله منهم أحداً لرحم أم الصبي (١)، وقد ضعفه الذهبي في مستدركه على مستدرك الحاكم، وقد روي في صفة السفينة وقدرها أحاديث وآثار ليس في ذكرها هنا كثير فائدة.
_________
(١) المستدرك كتاب التفسير/هود ٢١/ ٣٤٢.
(وفار التنور) أي غلى، واختلف في تفسير التنور على أقوال (الأول) أنه وجه الأرض والعرب تسمي وجه الأرض تنوراً أو اشرف موضع فيها؛ روى ذلك عن ابن عباس وعكرمة والزهري وابن عيينة.
(الثاني) أنه تنور الخبز الذي يخبزون فيه ابتدئ منه النبع على خلاف العادة وبه قال مجاهد وعطية والحسن وهو قول أكثر المفسرين، قيل وهذا أولى لأن اللفظ إذا دار بين الحقيقة والمجاز كان حمله على الحقيقة أولى، ولفظ التنور حقيقة في اسم الموضع الذي يخبز فيه (الثالث) أنه موضع اجتماع الماء في السفينة وروى هذا عن الحسن. (الرابع) أنه طلوع الفجر من قولهم تنور الفجر، روي ذلك عن علي بن أبي طالب (الخامس) أنه مسجد الكوفة، روي ذلك عن علي أيضاً ومجاهد، وقال مجاهد: كان ناحية التنور بالكوفة على يمين الداخل مما يلي باب كندة وكان الشعبي يحلف بالله أنه ما فار إلا من ناحية الكوفة. (السادس) أنه أعالي الأرض والمواضع المرتفعة قاله قتادة (السابع) أنه العين التي بالجزيرة المسماة عين الوردة وهي بالشام، روي ذلك عن عكرمة، وبه قال مقاتل (الثامن) أنه موضع بالهند، قال ابن عباس: كان تنور آدم
قال النحاس: وهذه الأقوال ليست بمتناقضة لأن الله سبحانه قد أخبر بأن الماء قد جاء من السماء والأرض قال (ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيوناً) فهذه الأقوال تجتمع في إن ذلك كان علامة هكذا، قال: وفيه نظر فإن القول الرابع ينافي هذا الجمع ولا يستقيم عليه التفسير بنبع الماء إلا إذا كان المراد مجرد العلامة كما ذكره آخراً.
وقد ذكر أهل اللغة أن الفوز الغليان، يقال فار الماء يفور فوراً نبع وجرى وفارت القدر فوراً من باب قال وفوراناً غلت، وعلى هذا لا تجوز في الآية إلا من حيث نسبة الفوران إلى التنور، وهو اسم أعجمي عربته العرب، وعلى هذا فلا اشتقاق له.
وقيل فارسي لا تعرف له العرب اسماً غير هذا فلذلك جاء في القرآن بهذا اللفظ فخوطبوا بما يعرفون، وقيل جاء هكذا بكل لفظ عربي وعجمي، وأنه مما اتفق عليه لغة العرب والعجم كالصابون ووزنه تفعول ويعزى هذا لثعلب، وقيل فعول ويعزى لأبي على الفارسي، وقيل معنى فار التنور التمثيل بحضور العذاب كقولهم حمي الوطيس إذا اشتد الحرب، وعلى هذا فهو كناية عن اشتداد الأمر.
وقيل كان من حجر لحواء فصار إلى نوح، وقد روى في تفسير التنور غير هذا. ذكر ابن جرير وغيره إن الطوفان كان في ثالث عشر من أبيب رجب في شدة القيظ وكان الفوران علامة لنوح على مجيئه وركوب السفينة.
(قلنا) يا نوح (احمل فيها) أي في السفينة (من كل زوجين) مما في الأرض من الحيوانات (اثنين) ذكراً وأنثى، وقرئ من كل بالتنوين أي من كل شيء زوجين، والزوجان للاثنين اللذين لا يستغني أحدهما عن الآخر،
ويطلق الزوج على الاثنين إذا استعمل مقابلاً للفرد، ويطلق الزوج على الضرب والصنف ومنه قوله تعالى (وأنبتت من كل زوج بهيج).
قال الرازي: وأما ما يروى أن إبليس دخل السفينة فبعيد لأنه من الجن، وهو جسم ناري أو هوائي فكيف يفر من الغرق، وأيضاً فإن كتاب الله لم يدل على ذلك ولم يرد فيه خبر صحيح، فالأولى ترك الخوض فيه اهـ.
(و) احمل (أهلك) والمراد امرأته المؤمنة وبنوه ونساؤهم (إلا من سبق عليه القول) أي من تقدم الحكم عليه بأنه من المغرقين في علمه أو في قوله (ولا تخاطبنى في الذين ظلموا أنهم مغرقون) على الاختلاف الشائع فيهم، فمن جعلهم جميع الكفار من أهله وغيرهم كان هذا الاستثناء من جملة احمل فيها وأهلك ومن قال المراد بهم ولده كنعان وامرأته الكافرة واعلة أم كنعان جعل الاستثناء من أهلك ويكون متصلاً إن أريد بالأهل ما هو أعم من المسلم والكافر منهم، ومنقطعاً إن أريد بالأهل المسلمون منهم فقط.
(و) احمل (من آمن) من قومك في السفينة، وأفرد الأهل منهم لمزيد العناية بهم أو للاستثناء منهم على القول الآخر.
ثم وصف الله سبحانه قلة المؤمنين مع نوح بالنسبة إلى من كفر به فقال (وما آمن معه إلا قليل) واعتبار المعية في إيمانهم للإيماء إلى المعية في مقر الأمان والنجاة، قيل كانوا ثمانية: نوح وأهله وبنوه الثلاثة ونساؤهم، وبه قال
ولما خرجوا من السفينة بنوا قرية يقال لها قرية الثمانين وهي موجودة بناحية الموصل، وقيل سبعة نوح وبنوه وثلاث كنائن له، قاله الأعمش، قال الخفاجي: ويرده عطف من آمن إلا أن يكون الأهل بمعنى الزوجة فإنه ثبت بهذا المعنى، وهو خلاف الظاهر، وقيل كانوا تسعة وسبعين: زوجته المسلمة وبنوه الثلاثة سام وحام ويافث ونساؤهم واثنان وسبعون رجلاً وامرأة من غيرهم.
وعن ابن إسحاق كانوا عشرة خمسة رجال وخمس نسوة، وقيل غير ذلك، قال الطبري: والصواب من القول في ذلك أن يقال كما قال عز وجل (وما آمن معه إلا قليل) ولم يحد عدداً بمقدار، فلا ينبغي أن يجاوز في ذلك حد الله سبحانه وتعالى إذ لم يرد ذلك في كتاب ولا خبر صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل أن الفائدة في زيادة " في " أنه أمرهم بأن يكونوا في جوف السفينة لا على ظهرها، وقيل بل أنها زيدت لرعاية جانب المحلية والمكانية في السفينة كما في قوله (فإذا ركبوا في الفلك) وقوله (حتى إذا ركبا في السفينة).
قيل ولعل نوحاً قال هذه المقالة بعد إدخال ما أمر بحمله في الفلك من الأزواج كأنه قيل فحمل الأزواج وأدخلها في الفلك وقال للمؤمنين اركبوا فيها، ويمكن أن يقال أنه أمر بالركوب كل من أمر بحمله من الأزواج والأهل
وقرئ الأول بفتح الميم والثاني بضمها وهاتان القراءتان سبعيتان، وقرئ بفتحها فيهما من جرى ورسى، وهذه شاذة، وقرئ مجريها ومرسيها بلفظ اسم الفاعل مجروري المحل على أنهما وصفان لله، ويجوز أن يكونا في موضع رفع بإضمار مبتدأ أي هو مجريها ومرسيها، والرسو الثبات والاستقرار. قال مجاهد في الآية: أي حين تركبون وتجرون وترسون.
وعن الضحاك قال: كان إذا أراد أن ترسى قال: بسم الله فرست، وإذا أراد أن تجري قال: بسم الله فجرت.
(إن ربي لغفور) للذنوب (رحيم) بعباده ومن رحمته إنجاء هذه الطائفة تفضلاً منه لبقاء هذا الجنس الحيواني وعدم استئصاله بالغرق.
أخرج أبو يعلى والطبراني وابن السني وغيرهم عن الحسن بن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمان لأمتي من الغرق إذا ركبوا الفلك أن يقولوا بسم الله الملك الرحمن بسم الله مجراها الآية (وما قدروا الله حق قدره) الآية (١).
_________
(١) ضعيف الجامع الصغير ١٣٤٦ - تخريج الكلم ١٧٥ - الأحاديث الضعيفة ٢٩٣٢.
قال أهل السير: ارتفع الماء على أعلى جبل وأطوله أربعين ذراعاً، وقيل خمسة عشر ذراعاً حتى أغرق كل شيء وعم العباد وشمل كل البلاد، وما قيل من أن الماء طبق ما بين السماء والأرض وكانت السفينة تجري في جوفه كالحوت فغير ثابت.
(ونادى نوح ابنه) هو كنعان وقيل يام وكان كافراً؛ واستبعد كون نوح ينادي من كان كافراً مع قوله (رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً) وأجيب بأنه كان منافقاً فظن نوح أنه مؤمن، وقيل حملته شفقة الأبوه على ذلك وكان من صلبه على المعتمد.
وقال ابن عباس: هو ابنه غير أنه خالفه في النية والعمل، وقيل أنه كان ابن امرأته ولم يكن ابنه. ويؤيده ما روي أن علياً قرأ (ونادى نوح ابنها) وقيل أنه كان لغير رشدة وولد على فراش نوح، ورد بأن قوله هذا وقوله (إن ابني من أهلي) يدفع ذلك مع ما فيه من عدم صيانة منصب النبوة فإن جناب الأنبياء أرفع من أن يشار إليه بأصبع الطعن.
(يا بني) أصله بثلاث ياءات ياء التصغير ولام الكلمة وياء المتكلم (اركب معنا) في السفينة أي أسلم واركب، قال ملا عليّ الجيلاني: الظاهر أن معنى الآية أسلم لتستحق الركوب معنا.
(ولا تكن مع الكافرين) في البعد عنا فتهلك معهم، نهاه عن الكون معهم خارج السفينة، ويمكن أن يراد بالكون معهم الكون على دينهم في الكفر، والأول أولى لأنه عليه السلام بصدد التحذير عن الهلكة فلا يلائمه النهي عن الكفر.
ثم حكى الله سبحانه ما أجاب به ابن نوح على أبيه فقال
(قال) أي فأجاب عنه نوح بقوله (لا عاصم) من الجبال أي لا مانع (اليوم من أمر الله) فإنه يوم قد حق فيه العذاب وجف القلم بما هو كائن، فيه نفي جنس العاصم فيندرج تحته العاصم من الغرق في ذلك اليوم اندراجاً أولياً، وعبر عن الماء أو عن الغرق بأمر الله سبحانه تفخيماً لشأنه وتهويلاً لأمره (إلا من رحم) وقرئ على البناء للمفعول والاستثناء منقطع قاله الزجاج أي لكن من رحمه فهو يعصمه واستظهره السفاقسي أو متصل على أن يكون عاصم
وقيل العاصم بمعنى ذي العصمة كلابن وتامر، والتقدير لا عاصم قط إلا مكان من رحم الله وهو السفينة وحينئذ فلا يرد ما يقال أن معنى من رحم من رحمه الله ومن رحمه الله فهو معصوم، فكيف يصح استثناؤه عن العاصم لأن في كل وجه من هذه الوجوه دفعاً للإشكال.
وذكر صاحب الانتصاف إن الاحتمالات الممكنة هنا أربعة لا عاصم إلا راحم، لا معصوم إلا مرحوم، لا عاصم إلا مرحوم، لا معصوم إلا راحم، فالأولان استثناء من الجنس، والآخران استثناء من غير الجنس فيكون منقطعاً أي لكن المرحوم يعصم على الأول؛ ولكن الراحم يعصم من أراد على الثاني قال عكرمة: لا ناج إلا أهل السفينة.
(وحال بينهما الموج) أي حال بين نوح وابنه فتعذر خلاصه من الغرق وقيل بين ابن نوح وبين الجبل والأول أولى لأن تفرع (فكان من المغرقين) عليه يدل على الأول لا على الثاني لأن الجبل ليس بعاصم والمعنى فصار أو فكان كنعان من المغرقين في علم الله بالفعل والمهلكين بالماء.
(وقيل) أي بعد ما تناهى الطوفان وأغرق الله قوم نوح والقيل كما قيل في هذين الموضعين عبارة عن تعلق القدرة التنجيزي بزوال الماء وبهلاكهم كما قيل في قوله تعالى (أن يقول له كن فيكون) وعلى هذا فالآية على الاستعارة المكنية والتخييلية وقيل تمثيلية، كما فصل ذلك الخفاجي في العناية تفصيلاً بسيطاً مع ما يصحبه من لطائف البلاغة.
ولكن الحق الذي لا تردد فيه عند أولي البصيرة أن الآية على حقيقتها من النداء والأمر وهو المختار في قوله سبحانه (كن فيكون) وأمثاله أيضاً.
قال الخفاجي: النشف من نشف الثوب العرق كسمع وبصر إذا شربه، قال المدقق: هذا أولى من جعل السكاكي البلع مستعاراً لغور الماء في الأرض لدلالته على جذب الأرض ما عليها كالبلع بالنسبة إلى الحيوان ولأن النشف فعل الأرض والغور فعل الماء. فالله دره ما أكثر اطلاعه على حقائق المعاني اهـ.
وقال عكرمة: ابلعي هو بالحبشية ازدرديه وعن ابن منبه نحوه وعن جعفر بن محمد عن أبيه قال: معناه اشربي بلغة الهند وعن ابن عباس مثله.
أقول وثبوت لفظ البلع وما يشتق منه في لغة العرب ظاهر مكشوف فمالنا وللحبشة والهند والمعنى انشفي وتشربي (ماءك) أي ما على وجهك من ماء الطوفان دون المياه المعهودة فيها من العيون والأنهار. وعبر عنه بالماء بعد ما عبر عنه بأمر الله، لأن المقام مقام النقص والتقليل لا مقام التفخيم والتهويل.
(ويا سماء أقلعي) الإقلاع الإمساك يقال اقلع المطر إذا انقطع وأقلع عن
(وغيض الماء) أي نقص ونضب ما بين السماء والأرض من الماء يقال غاض الماء وغضته أنا وهو لازم ومتعد، فمن اللازم قوله تعالى (وما تغيض الأرحام) أي تنقص، وقيل بل هو هنا متعد أيضاً وسيأتي، ومن المتعدي هذه الآية لأنه لا يبنى للمفعول من غير واسطة حرف الجر إلا المتعدي بنفسه وهو إخبار عن حصور المأمورية من السماء والأرض معاً أي فامتثلا ما أمرا به ونقص الماء، ولا يخص غيض الماء بطوفان السماء كما توهم، وفيه كلام طويل في الكشف، قال الصاوي: أي ولم يذهب بالكلية لما علمت من بقاء ماء السماء.
(وقضي الأمر) أي أحكم وفرغ منه يعني أهلك الله قوم نوح على تمام وإحكام وأنجز ما كان وعده، قاله القرطبي (واستوت على الجودي) أي استقرت السفينة على الجبل المعروف بالجودي، روى أنه عليه السلام ركب في الفلك في عاشر رجب ونزل عنها في عاشر المحرم فصام ذلك اليوم شكراً فصار سنة، والجودي جبل بقرب الموصل.
وقيل أن الجودي اسم لكل جبل وقيل هو بالشام، وقيل بآمل وفي الحديث لقد بقي منها شيء أدركه أوائل هذه الأمة ويقال أنه من جبال الجنة فلذا استوت عليه بعد أن طافت الأرض كلها ستة أشهر.
(وقيل بعداً للقوم الظالمين) القائل هو الله سبحانه ليناسب صدر الآية، وقيل هو نوح وأصحابه والمعنى وقيل هلاكاً لهم وهو من الكلمات التي تختص
قال عبد الرحمن بن خلدون: اتفقوا على أن الطوفان الذي كان في زمن نوح وبدعوته ذهب بعمران الأرض أجمع وبما كان من خراب المعمور وهلك الذين ركبوا معه في السفينة ولم يعقبوا فصار أهل الأرض كلهم من نسله وعاد أباً ثانيا للخليقة انتهى.
وقال ابن الأثير في الكامل: وأما المجوس فلا يعرفون الطوفان وكان بعضهم يقر به ويزعم أنه كان في إقليم بابل وما قرب منه، وأن مساكن ولد خومرت كانت بالمشرق فلم يصل ذلك إليهم، وكذلك جميع الأمم المشرقية من الهند والفرس والصين لا يعترفون بالطوفان، وبعض الفرس يعترف به ويقول لم يكن عاماً ولم يتعد عقبة حلون.
والصحيح أن جميع أهل الأرض من ولد نوح عليه السلام لقوله تعالى (وجعلنا ذريته هم الباقين) فجميع الناس من ولد سام وحام ويافث أولاد نوح انتهى.
وقال المقريزي في الخطط: أن جميع أهل الشرائع أتباع الأنبياء من المسلمين واليهود والنصارى قد أجمعوا على أن نوحاً هو الأب الثاني للبشر، وأن العقب من آدم عليه السلام انحصر فيه ومنه ذرأ الله جميع أولاد آدم، فليس أحد من بني آدم إلا وهو من أولاد نوح، وخالفت القبط والمجوس وأهل الهند والصين ذلك فأنكروا الطوفان.
وزعم بعضهم أن الطوفان إنما حدث في إقليم بابل وما وراءه من البلاد الغربية فقط وأن أولاد كيومرت الذي هو عندهم الإنسان الأول كانوا بالبلاد الشرقية من بابل فلم يصل الطوفان إليهم ولا إلى الهند والصين.
وقد أطبق علماء البلاغة على أن هذه الآية الشريفة بالغه من الفصاحة والبلاغة إلى محل يتقاصر عن الوصف وتضعف عن الإتيان بما يقاربه قدرة القادرين على فنون البلاغة الثابتين الأقدام في علم البيان، الراسخين في اللغة المطلعين على ما هو مدون من خطب مصاقع خطباء العرب وأشعار بواقع شعرائهم المرتاضين بدقائق علوم العربية وأسرارها.
قال الصاوي وسليمان الجمل: قال بعضهم: هذه الآية أبلغ آية في القرآن باحتوائها على أحد وعشرين نوعاً من أنواع البديع، والحال أن كلماتها تسعة عشر انتهى.
قلت: وقد تعرض لبيان ما اشتملت عليه من ذلك جماعة فأطالوا وأطابوا رحمنا الله وإياهم برحمته الواسعة منهم أبو حيان محمد بن يوسف الإمام الأندلسي في تفسيره المسمى بالنهر الماد من المحيط ذكر فيه أحداً وعشرين نوعاً من البديع وكذا السيد محمد بن أسماعيل بن صلاح الأمير في رسالته المسماة بالنهر المورود، في تفسير آية هود، وهو المناسبة والمطابقة، والمجاز، والاستعارة، والإشارة والتمثيل، والأرداف، والتعليل، وصحة التقسيم، والاحتراس، والإيضاح، والمساواة، وحسن النسق، والإيجاز، والتسهيم والتهذيب، وحسن البيان، والتمكين، والتجنيس، والمقابلة، والذم، والوصف.
وبسط في بيان هذه الأنواع أتم بسط وقال هذا كله نظراً في الآية من
وأما النظر فيها من جانب الفصاحة اللفظية فألفاظها على ما ترى عربية أصلية مستعملة جارية على قانون اللغة سليمة عن التنافر، بعيدة عن البشاعة عذبة على العذبات سلسة على الاسلات، كل منها كالماء في السلاسة وكالعسل في الحلاوة وكالنسيم في الرقة. انتهى.
قلت: النظر في هذه الآية من أربع جهات:
(الأول) من جهة علم البيان وهو النظر فيما فيها من المجاز وغيره كما تقدمت الإشارة إليه (والثاني) من جهة علم المعاني، وهو النظر في فائدة كل كلمة فيها وجهة كل تقديم وتأخير فيما بين جملها (والثالث والرابع) من جهة الفصاحة المعنوية واللفظية كما تقدم.
وقد ذكر طرفاً من هذه الجهات الأربع النسفي في المدارك، ثم قال: ومن ثم أطبق المعاندون، على أن طوق البشر قاصر عن الإتيان بمثل هذه الآية، ولله در شأن التنزيل لا يتأمل العالم آية من آياته إلا أدرك لطائف لا تسع الحصر.
ولا تظنن الآية مقصورة على المذكور فلعل المتروك أكثر من المسطور. اهـ.
قال القاضي: والآية في غاية الفصاحة لفخامة لفظها وحس نظمها
وقال أبو السعود: ولقد بلغت الآية الكريمة من مراتب الإعجاز قاصيتها، وملكت من غرر المزايا ناصيتها، وقد تصدى لتفصيلها المهرة المتقنون، ولعمري إن ذلك فوق ما يصفه الواصفون، فحري بنا أن نوجز الكلام في هذا الباب ونفوّض الأمر إلى تأمل أولي الألباب والله عنده علم الكتاب.
فإن قيل كيف طلب نوح عليه السلام إنجاز ما وعده الله بقوله (وأهلك) وهو المستثنى منه وترك ما يفيده الاستثناء وهو إلا من سبق عليه القول فيجاب بأنه لم يعلم إذ ذاك أنه ممن سبق عليه القول فإنه كان يظنه من المؤمنين.
(وإن وعدك الحق) الصدق الذي لا خلف فيه وهذا منه (وأنت أحكم الحاكمين) أي أتقن المتقنين لما يكون به الحكم فلا يتطرق إلى حكمك نقض، وقيل أراد به أعلمهم وأعدلهم أي أنت أكثر علماً وعدلاً من ذوي الحكم، وقيل أن الحاكم بمعنى ذي الحكمة كدراع.
ثم أجاب الله سبحانه عن نوح ببيان أن ابنه غير داخل في عموم الأهل وأنه خارج بقيد الاستثناء (قال يا نوح إنه) يعنى هذا الابن الذي سألتني نجاته (ليس من أهلك) الذين آمنوا بك وتابعوك ومن أهل دينك، وإن كان من أهلك باعتبار القرابة، قال عكرمة وسعيد بن جبير والضحاك وأكثر المفسرين: أنه ابن نوح من صلبه وهو الصحيح.
وعن ابن عباس قال: ما بغت امرأة نبي قط، وأن الله نص عليه بقوله (ونادى نوح ابنه) ونوح أيضاً نص عليه بقوله (يا بني) ولا يجوز صرف الكلام عن الحق إلى المجاز من غير ضرورة.
وقيل المعنى إنه ليس من الذين وعدتك أن أنجيهم معك، وإنما خالف هذا الظاهر من خالفه لأنه استبعد أن يكون ولد نبي كافراً، وهذا خطأ ممن قاله لأن الله يخرج الكافر من المؤمن، والمؤمن من الكافر، ولا فرق في ذلك بين الأنبياء وغيرهم، فإن الله سبحانه قد أخرج قابيل من صلب آدم وهو نبي وكان كافراً. وأخرج إبراهيم: وهو نبي من صلب آزر وكان كافرآ، فكذلك أخرج كنعان من صلب نوح وهو كافر، فهو المتصرف في خلقه كيف شاء لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
ثم صرح بالعلة الموجبة لخروجه من عموم الأهل المبينة له بأن المراد بالقرابة قرابة الدين لا قرابة النسب وحده فقال (إنه عمل غير صالح) قرأ الجمهور (عمل) على لفظ المصدر وقرئ على لفظ الفعل، ومعنى الأولى المبالغة في ذمه كأنه جعل نفس العمل وأصله ذو عمل غير صالح، كذا قال أبو
ومعنى الثانية ظاهر، أي أنه عمل عملاً غير صالح، وهو كفره وعدم متابعته لأبيه. قاله أبو علي.
قال الصاوي: أشار السيوطي إلى أن الضمير في (أنه) عائد إلى نوح على حذف مضاف، والمعنى قال الله له: يا نوح إن سؤالك عمل غير مقبول. انتهى. ويؤيده ما قال ابن عباس: يقول مسألتك اياي يا نوح عمل غير صالح لا أرضاه لك.
ثم نهاه عن مثل هذا السؤال فقال (فلا تسألن ما ليس لك به علم) أي ما لا تعلم أصواب هو فتسأل عنه أم ليس كذلك فتتركه، وهو وإن كان نهياً عاماً بحيث يشمل كل سؤال لا يعلم صاحبه إن حصول مطلوبه منه صواب فهو يدخل تحته سؤاله هذا دخولاً أولياً. وفيه عدم جواز الدعاء بما لا يعلم الإنسان مطابقته للشرع وسمى دعاءه سؤالاً لتضمنه معنى السؤال باعتبار استنجازه في شأن ولده.
(إني أعظك) من (أن تكون من الجاهلين) أي أحذرك وأنهاك أن تكون جاهلاً فتسأل مثل ما يسألون كقوله يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً، وسمى سؤاله جهلاً لأن حب الولد شغله عن تذكر استثناء من سبق عليه القول منهم بالإهلاك قاله الكرخي.
وقيل المعنى أرفعك أن تكون منهم، قال ابن العربي: وهذه زيادة من الله وموعظة يرفع بها نوحاً عن مقام الجاهلين، ويعليه بها إلى مقام العلماء العاملين. ثم لما علم نوح بأن سؤاله لم يطابق الواقع وأن دعاءه ناشئ عن وهم كان يتوهم بادر إلى الاعتراف بالخطأ وطلب المغفرة والرحمة و
وليس في الآية ما يقتضي صدور ذنب ومعصية من نوح سوى تأويله وإقدامه على سؤال ما لم يؤذن له فيه. وهذا ليس بذنب ولا معصية.
وقال الخطيب: أخطأ في ذلك الاجتهاد كما وقع لآدم في الأكل من الشجرة فلم يصدر منه إلا هذه الزلة.
وقيل بتحية وعظمة كما قال (سلام على نوح في العالمين) وذلك أن الغرق لما كان عاماً في جميع الأرض فعندما خرج من السفينة علم أنه ليس في
ثم أردفه الله تعالى بالبركة بقوله (وبركات) أي خيرات نامية ونعم ثابتة باقية دائمة في نسلك وما يقوم به معاشك ومعاشهم من أنواع الأرزاق والبركة مشتق من بروك الجمل وهو ثبوته ومنه البركة لثبوت الماء فيها (عليك) وفي هذا الخطاب دليل على قبول توبته ومغفرة زلته وخلاصه من الخسران وإعلام وبشارة من الله تعالى بفيضان أنواع الخيرات عليه في كل ما يأتي وما يذر.
(وعلى أمم) ناشئة وهم المُتَشَعّبُونَ (ممن معك) أي من ذرية من كان معك في السفينة وهي الأمم إلى آخر الدهر؛ قيل الذين كانوا معه في السفينة لم يعقب أحد منهم إلا أولاد نوح الثلاثة، فانحصر النوع الإنساني بعد نوح في ذريته ولذلك يقال أنه آدم الصغير وقد كان بينه وبين آدم ألف سنة وثمانية أجداد.
فالمراد من هذه الآية تقسيم ذرية أولاد نوح إلى فريق مؤمن وفريق كافر لا تقسيم من كان معه في السفينة إذ كانوا كلهم مؤمنين، قال أبو السعود: ويجوز أن تكون من بيانية أي وعلى أمم هم الذين معك، وإنما سموا أمماً لأنهم أمم متحزبة وجماعات متفرقة أو لأن جميع الأمم إنما تشعبت منهم، فحينئذ يكون المراد بالأمم المشار إليهم في قوله (وأمم سنمتعهم) بعض الأمم المتشعبة منهم وهي الأمم الكافرة المتناسلة منهم إلى يوم القيامة، ويبقى أمر الأمم المؤمنة الناشئة منهم مبهماً غير متعرض له ولا مدلول عليه ومع ذلك ففي دلالة المذكور على خبره المحذوف خفاء، لأن من المذكورة بيانية والمحذوفة تبعيضية أو ابتدائية فتأمل اهـ.
قال محمد بن كعب القرظي: دخل في ذلك السلام والبركات كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة، ودخل في ذلك العذاب الأليم كل كافر وكافرة إلى يوم القيامه وعن ابن زيد: هبطوا والله راض عنهم، ثم أخرج منهم نسلاً منهم من رحم الله ومنهم من عذب، وقيل المراد بالأمم الممتعة قوم هود وصالح ولوط وشعيب وبالعذاب ما نزل بهم، وإلى هنا انتهت قصة نوح عليه السلام.
(ما كنت) يا محمد (تعلمها أنت) تفصيلاً خبر ثالث وإلا كانت مشهورة عند كل القرون لكن إجمالاً (ولا) يعلمها (قومك) يعني العرب بل هي مجهولة عندكم وفي ذكرهم تنبيه على أنه لم يتعلمه إذا لم يخالط غيرهم وإنهم مع كثرتهم لما لم يسمعوه فكيف بواحد منهم (من قبل هذا) أي الوحي أو القرآن أو من قبل هذا الوقت، (فاصبر) على ما تلاقيه من كفار زمانك كما صبر نوح على أذى قومه والفاء لتفريع ما بعدها على ما قبلها (إن العاقبة) المحمودة في الدنيا والآخرة (للمتقين) لله المؤمنين بما جاءت به رسله؛ وفي هذا تسلية لرسول الله ﷺ وتبشير له بأن الظفر للمتقين في عاقبة الأمر ولا اعتبار بمباديه.
(قال يا قوم اعبدوا الله) وحدوه ولا تشركوا معه شيئاً في العبادة (ما لكم من إله غيره) في معنى العلة لما قبله قرئ غيره بالجر على اللفظ، وبالرفع على محل من إله، وبالنصب على الاستثناء (إذ أنتم) أي ما أنتم باتخاذ إله غير الله وجعله شفيعاً (إلا مفترون) أي كاذبون على الله عزّ وجل.
ثم خاطبهم فقال
(إن أجري إلا على الذي فطرني) أي ما أجري الذي أطلب إلا ممن خلقني فهو الذي يثيبني على ذلك (أفلا تعقلون) إن أجر الناصحين إنما هو من رب العالمين.
ثم أرشدهم إلى الاستغفار والتوبة فقال
وكان قوم هود أهل بساتين وزروع وعمارة وكانت مساكنهم الرمال التي بين الشام واليمن، عن الضحاك قال: أمسك الله القطر عن عاد ثلاث سنين فأجدبت بلادهم وقحطت بسبب كفرهم فقال لهم هود (استغفروا) الآية فأبوا إلا تمادياً.
(ويزدكم قوة إلى قوتكم) أي شدة مضافه إلى شدتكم أو خصباً إلى خصبكم أو عزاً إلى عزكم، قال الزجاج: قوة في النعم، وقال عكرمة: القوة إلى القوة ولد الولد، وقيل كانت قد عقمت نساؤهم ثلاثين سنة لم تلد؛ وقيل قوة في الدين إلى قوة الأبدان.
(وما نحن لك بمؤمنين) أي بمصدقين في شيء مما جئت به
فأجابهم بما يدل على عدم مبالاته بهم وعلى وثوقه بربه وتوكله عليه وأنهم لا يقدرون على شيء مما يريده به الكفار، بل الله سبحانه هو الضار النافع (قال إني أشهد الله) على نفسي (واشهدوا) أنتم أيضاً عليها (أني بريء مما تشركون) به
وفي هذا من إظهار عدم المبالاة بهم وبأصنامهم التي يعبدونها ما يصك مسامعهم ويوضح عجزهم وعدم قدرتهم على شيء وهذا من معجزاته الباهرة.
ثم لما بين لهم توكله على الله وثقته بحفظه وكلاءته وصفه بما يوجب التوكل عليه والتفويض إليه من اشتمال ربوبيته عليه وعليهم وأنه مالك للجميع فقال (ما من دابة) تدب على الأرض (الا هو آخذ بناصيتها) أي أن ناصية كل دابة.
قال الرازي وهو بعيد لأن شرط الناسخ أن يكون رافعاً لحكم المنسوخ، ومدلول الآية اختصاص كل واحد بأفعاله وبثمرات أفعاله من الثواب والعقاب وآية القتال ما رفعت شيئاً من مدلولات هذه الآية، بل هو باق فكان القول بالنسخ باطلاً.
(ومنهم من يستمعون إليك) بين الله سبحانه في هذا أن في أولئك الكفار من بلغت حاله في النفرة والعداوة إلى هذا الحد وهي أنهم يستمعون إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا قرأ القرآن وعلم الشرائع في الظاهر ولكنهم لا يسمعون في الحقيقة لعدم حصول أثر السماع وهو حصول القبول والعمل بما يسمعونه، وجمع الضمير في يستمعون حملاً على معنى من وأفرده في ومنهم من ينظر حملاً على لفظه، قيل والنكتة كثرة المستمعين بالنسبة إلى الناظرين لأن الاستماع لا يتوقف على ما يتوقف عليه النظر من المقابلة وانتفاء الحائل
(أفأنت تسمع الصم) الهمزة للإنكار يعني أن هؤلاء وإن استمعوا في الظاهر فهم صم والصمم مانع من سماعهم فكيف يطمع منهم في ذلك مع حصول المانع وهو الصمم، فكيف إذا انضم إلى ذلك (لو كانوا لا يعقلون) فإن من كان أصم غير عاقل لا يفهم شيئاً ولا يسمع ما يقال له، والفاء عاطفة.
وفيه تنبيه على أن حقيقة استماع الكلام فهم المعنى المقصود منه ولذلك لا توصف به البهائم وهو لا يتأتى إلا باستعمال العقل السليم في تدبره، وعقولهم لما كانت مريضة بمعارضة الوهم ومتابعة الإلف والتقليد، تعذر إفهامهم الحكم والمعاني الدقيقة فلم ينتفعوا بسرد الألفاظ عليهم غير ما ينتفع به البهائم من كلام الناعق.
والكلام في (ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون) كالكلام فيما تقدم لأن العمى مانع فكيف يطمع من صاحبه في النظر، وقد انضم إلى فقد البصر فقد البصيرة لأن الأعمى الذي له في قلبه بصيرة قد يكون له من الحدس الصحيح ما يفهم به في بعض الأحوال فهما يقوم مقام النظر، وكذلك الأصم (وعصوا) أي رؤساؤهم وسفلتهم (رسله) أي هوداً وحده لأنه لم يكن في عصره رسول سواه، وإنما جمع هنا للتعظيم أو لأن من كذب رسولاً فقد كذب جميع الرسل.
وقيل إنهم عصوا هوداً ومن كان قبله من الرسل أو كانوا بحيث لو بعث الله إليهم رسلاً متعددين لكذبوهم (واتبعوا أمر كل جبار عنيد) الجبار المتكبر والعنيد الطاغي الذي لا يقبل الحق ولا يذعن له ويتجاوز في الظلم.
قال أبو عبيدة: العنيد والعنود والعاند والمعاند هو المعارض بالخلاف منه، ومنه قيل للعرق الذي يتفجر بالدم عاند، وعن قتادة قال: عنيد مشرك، وقال السدي: العنيد المشاق.
وقيل إنهم عصوا هودا ومن كان قبله من الرسل أو كانوا بحيث لو بعث الله إليهم رسلا متعددين لكذبوهم ﴿ واتبعوا أمر كل جبار عنيد ﴾ الجبار المتكبر والعنيد الطاغي الذي لا يقبل الحق ولا يذعن له ويتجاوز في الظلم.
قال أبو عبيدة : العنيد والعنود والعاند والمعاند هو المعارض بالخلاف منه، ومنه قيل للعرق الذي يتفجر بالدم عاند، وعن قتادة قال : عنيد مشرك، وقال السدي : العنيد المشاق.
قال السدي: لم يبعث نبي بعد عاد ألا لعنت على لسانه، وقال قتادة: تتابعت عليهم لعنتان من الله، لعنة في الدنيا ولعنة في الآخرة.
(ألا إن عاداً كفروا ربهم) قال الفراء: أي بنعمة ربهم، يقال كفرته وكفرت به مثل شكرته وشكرت له (ألا بعداً لعاد قوم هود) أي لا زالوا مبعدين من رحمة الله، والبعد الهلاك والتباعد عن الخير، يقال بعد يبعد بعدًا إذا تأخر وتباعد، وبعد يبعد بعداً إذا هلك، والمبالغة في التنصيص والتكرير بعبارتين مختلفتين تدل على تقوية التأكيد ونهاية التحقيق، وقد تقدم إن العرب تستعمله في الدعاء بالهلاك.
والكلام فيه وفي قوله (قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) كما تقدم في قصة هود (هو أنشأكم من الأرض) أي ابتدأ خلقكم لأن كل بني آدم من صلب آدم وهو مخلوق منها فمن لابتداء الغاية، وقيل هي بمعنى في (واستعمركم فيها) أي جعلكم عمارها وسكانها من قولهم أعمر فلان فلاناً داره فهي له عمرى فيكون استفعل بمعنى افعل مثل استجاب بمعنى أجاب والسين والتاء زائدتان.
وقال الضحاك: معناه أطال عمركم، وكانت أعمارهم ثلثمائة إلى ألف سنة، وقيل معناه أمركم بعمارتها من بناء المساكن وغرس الأشجار. وقال ابن زيد: استخلفكم فيها.
(فاستغفروه) أي سلوه المغفرة لكم من عبادة الأصنام (ثم توبوا إليه) أي ارجعوا إلى عبادته (إن ربي قريب مجيب) أي قريب الإجابة لمن دعاه، وقد تقدم القول فيه في البقرة عند قوله تعالى (فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان).
والاستفهام في قوله: (أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا) للإنكار، أنكروا عليه هذا النهي، والمعنى ما كان يعبد آباؤنا فهو حكاية حال ماضية لاستحضار الصورة (وإننا لفي شك مما تدعونا إليه) من عبادة الله (مريب) موقع في الريبة من أربته فأنا أريبه إذا فعلت به فعلاً يوجب له الريبة، وهي قلق النفس وانتفاء
الطمأنينة أو من أراب الرجل إذا كان ذا ريبة، فالإسناد مجازى للمبالغة كجد جده، والظاهر أنه على الأول مجازى أيضاً، والمعنى أننا مرتابون في عبادة الله وحده وترك عبادة الأوثان، والتنوين فيه وفي شك للتفخيم.
(قال يا قوم أرأيتم) قال ابن عطية: هي من رؤية القلب، والشرط الذي بعده وجوابه يسد مسد مفعولين لأرأيتم. قال الشيخ: والذي تقرر أن أرأيت ضمن معنى أخبرني، وعلى تقدير أن لا يضمن فجعله الشرط والجواب لا تسد مسد مفعولي علمت.
(إن كنت على بينة من ربي) أي حجة ظاهرة وبرهان صحيح (وآتاني منه) أي من جهته (رحمة) أي نبوة، وهذه الأمور وإن كانت متحققة الوقوع لكنها صدرت بكلمة الشك اعتباراً بحال المخاطبين لأنهم في شك من ذلك كما وصفوه عن أنفسهم، وعبارة الشهاب أنه من باب إرخاء العنان.
(فمن ينصرني من الله) استفهام معناه النفي أي لا ناصر لي يمنعني من عذاب الله والنصرة مستعملة في لازم معناها وهو المنع ولذا عدي بمن (إن عصيته) في تبليغ الرسالة وراقبتكم وفترت عما يجب علي من البلاغ (فما تزيدونني) بتثبيطكم إياي (غير تخسير) بأن تجعلوني خاسراً بإبطال عملي وما منحني الله والتعرض لعقوبة الله لي، قال الفراء: أي تضليل وإبعاد من الخير.
وقيل المعنى فما تزيدونني باحتجاجكم بدين آبائكم غير بصيرة بخسارتكم، وقال مجاهد وعطاء الخراساني: ما تزدادون أنتم إلا خساراً.
قال الكرخي: أي ترع نباتها وتشرب ماءها فهو من قبيل الاكتفاء نحو (تقيكم الحر) وجعل تأكل من عموم المجاز يحتاج إلى قرينة صارفة.
(ولا تمسوها بسوء) قال الفراء: بعقر، والظاهر أن النهي عما هو أعم من ذلك (فيأخذكم) إن قتلتموها (عذاب قريب) في الدنيا، جواب النهي أي قريب من عقرها وذلك ثلاثة أيام.
(ذلك) أي التمتع ثلاثة أيام (وعد غير مكذوب) فيه، فحذف الجار اتساعاً أو من باب المجاز كأن الوعد إذا وفي به صدق ولم يكذب، ويجوز أن يكون مصدراً أي وعد غير كذب.
(فأصبحوا في ديارهم جاثمين) ميتين صرعى هلكى ساقطين على وجوههم موتى قد لصقوا بالتراب كالطير إذا جثمت، والجثوم كالركوب من البعير والفاعل جاثم وجثام مبالغ يقال جثم الطائر والأرنب يجثم.
(ألا إن ثمود كفروا ربهم) وضع الظاهر موضع المضمر لزيادة البيان وصرح بكفرهم مع كونه معلوماً تعليلاً للدعاء عليهم بقوله (ألا بعداً لثمود) بالصرف وتركه قراءتان سبعيتان على معنى الحي والقبيلة وقد تقدم تفسير هذه القصة في الأعراف بما يحتاج إلى مراجعته ليضم ما في إحدى القصتين من الفوائد إلى الأخرى.
وكانت قرى قوم لوط بنواحي الشام وإبراهيم ببلاد فلسطين فلما أنزل الله الملائكة بعذاب قوم لوط مروا بإبراهيم ونزلوا عنده وكان كل من نزل عنده
(بالبشرى) التي بشروه بها هي بشارته بالولد وقيل بإهلاك قوم لوط، والأول أولى (قالوا سلاماً) أي سلمنا عليك سلاماً وهذه تحيتهم التي وقعت منهم وهي لفظ سلاماً (قال) لهم إبراهيم (سلام) أي أمركم سلام أو عليكم سلام وهذه التحية الواقعة منه جواباً وهي لفظ سلام وحياهم بالجملة الاسمية في جواب تحيتهم بالفعلية ومن المعلوم أن الأولى أبلغ من الثانية فكانت تحيته أحسن من تحيتهم كما قال تعالى (فحيوا بأحسن منها).
(فما لبث) أي إبراهيم (أن جاء بعجل حنيذ) قال أكثر النحاة " أن " هنا بمعنى حتى، وقيل التقدير فما لبث عن أن جاء أي ما أبطأ إبراهيم عن مجيئه بعجل، وما نافية قاله سيبويه، وقال الفراء: فما لبث مجيئه أي ما أبطأ مجيئه، وقيل أن ما موصولة والتقدير فالذي لبث إبراهيم هو مجيئه والحنيذ المشوي مطلقاً.
وقيل المشوي بحرِّ الحجارة من غير أن تمسه النار، وهذا من فعل أهل البادية يقال حنذ الشاة يحنذها جعلها فوق حجارة محماة لينضجها فهي حنيذ وقيل هو سمين وقيل هو السميط، وقيل النضيج وهو فعيل بمعنى مفعول وإنما جاءهم بعجل لأن البقر كانت أكثر أمواله.
وفي الذاريات (قوم منكرون) أي غرباء لا أعرفهم قال ذلك في نفسه كما قاله ابن عباس، وقيل إنما أنكر أمرهم لأنهم دخلوا عليه من غير استئذان، وقال أبو العالية: أنكر سلامهم في ذلك الزمان وفي تلك الأرض.
(وأوجس منهم) أي أحس في نفسه (خيفة) أي خوفاً وفزعاً، وقيل معنى أوجس أضمر في نفسه، والأول ألصق بالمعنى اللغوي، والوجس هو رعب القلب والإيجاس الإدراك وقيل الإضمار، وفي السمين الإيجاس حديث النفس وأصله من الدخول كأن الخوف داخله والوجيس ما يعتري النفس أو أن الفزع ووجس في نفسه كذا أي خطر بها يجس وجساً ووجيساً وكأنه ظن أنهم قد نزلوا به لأمر ينكره أو لتعذيب قومه.
(قالوا لا تخف) قالوا له ذلك مع كونه لم يتكلم بما يدل على الخوف بل أوجس ذلك في نفسه فلعلهم استدلوا على خوفه بأمارات كظهور أثره على وجهه أو قالوه له بعد ما قال عقب ما أوجس في نفسه من الخيفة قولاً يدل على الخوف كما في قوله في سورة الحجر (قال إنا منكم وجلون) ولم يذكر ذلك هاهنا اكتفاء بما هنالك.
ثم عللوا نهيه عن الخوف بقولهم (إنا أرسلنا إلى قوم لوط) خاصة ولوط أول من آمن بإبراهيم وأبوه هاران أخو إبراهيم، ويمكن أن يكون إبراهيم عليه السلام قد قال قولاً يكون هذا جواباً عنه كما قال: (فما خطبكم أيها المرسلون * قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين).
(وامرأته) أي سارَّة زوجة إبراهيم وهي ابنة هارون بن ناحورا وهي ابنة عمّ إبراهيم (قائمة) قيل كانت قائمة عند تحاورهم وراء الستر تسمع كلامهم وقيل كانت واقفة قائمة تخدم الملائكة وهو جالس؛ والجملة مستأنفة أو حالية (فضحكت) الضحك هنا هو الضحك المعروف الذي يكون للتعجب أو للسرور كما قاله الجمهور، وأصل الضحك انبساط الوجه من سرور يحصل للنفس ولظهور الأسنان عنده سميت مقدمات الأسنان الضواحك ويستعمل في السرور المجرد وفي التعجب المجرد أيضا وعليه أكثر المفسرين.
وقال مجاهد وعكرمة أنه الحيض، والعرب تقول ضحكت الأرنب إذا حاضت وقد أنكر بعض اللغويين أن يكون في كلام العرب ضحكت بمعنى حاضت، قال الراغب: وقول من قال حاضت ليس تفسيراً لقوله فضحكت كما تصوره بعض المفسرين وإنما ذكر ذلك تنصيصاً لحالها فإن ذلك أمارة لما بشرت به فحيضها في الوقت ليعلم أن حملها ليس بمنكر لأن المرأة ما دامت تحيض فإنها تحمل.
قال الفراء: ضحكت بمعنى حاضت لم نسمعه من ثقة، وقال الزجاج: ليس بشيء ضحكت بمعنى حاضت، وقال ابن الأنباري: قد أنكر الفراء وأبو عبيده أن يكون ضحكت بمعنى حاضت، وقال في المحكم: ضحكت المرأة حاضت والأول أولى ولا مصير إلى المجاز إلا عند تعذر الحقيقة، وظاهر النص أنها ضحكت.
قال قتادة: ضحكت تعجباً مما فيه قوم لوط من الغفلة ومما أتاهم من العذاب، وقال السدي: ضحكت تعجباً من عدم أكلهم، وقال مقاتل والكلبي: ضحكت من خوف إبراهيم من ثلاثة وهو فيما بين خدمه وحشمه
وقال وهب: ضحكت تعجباً من أن يكون لها ولد على كبر سنها وسن زوجها. وقيل غير ذلك مما ليس في ذكره كثير فائدة والله أعلم مما ضحكت.
وقال ابن عباس: حاضت وهي بنت ثمان وتسعين سنة. وعن مجاهد قال: وكان إبراهيم ابن مائة سنة.
(فبشرناها بإسحاق) ظاهره أن التبشير كان بعد الضحك، وقال الفراء: فيه تقديم وتأخير، والمعنى فبشرناها فضحكت سروراً بالولد وولد إسحق بعد البشارة بسنة وكانت ولادته بعد إسماعيل بأربعة عشر سنة (ومن وراء) أي وهبنا لها من وراء (إسحاق يعقوب) وقرئ بجر يعقوب ومنعه الفراء وقرئ بالرفع على الابتداء وخبره الظرف الذي قبله وبالنصب وهما سبعيتان.
وقد وقع التبشير هنا لها ووقع لإبراهيم في قوله تعالى (وبشرناه بغلام حليم) وبشروه بغلام عليم لأن كل واحد منهما مستحق للبشارة به لكونه منهما، قال ابن عباس: هو ولد الولد أي فبشرت بأنها تعيش حتى ترى ولد الولد وقد رأته.
(قالت يا ويلتا) مستأنفة كأنه قيل فماذا قالت وهي لم ترد الدعاء على نفسها بالويل، ولكنها كلمة تقع كثيراً على أفواه النساء إذا طرأ عليهن ما يعجبن منه، وأصل الويل الخزي، ثم شاع في كل أمر فظيع، والألف مبدلة من ياء الإضافة والاستفهام في قولها.
(أألد وأنا عجوز) للتعجب، أي كيف ألد وأنا شيخة قد طعنت في السن يقال عجزت تعجز مخففاً ومثقلاً عجزاً وتعجيزاً أي طعنت في السن، ويقال عجوز وعجوزة، وأما عجزت بكسر الجيم فمعناه عظمت عجيزتها (وهذا بعلي) أي زوجي إبراهيم (شيخاً) لا تحبل من مثله النساء ونصبه على الحال والعامل فيه معنى اسم الإشارة.
ومثل هذه الحال من غوامض العربية إذ لا تجوز إلا حيث يعرف الخبر، وقرئ بالرفع على أنه خبر محذوف أي هو شيخ أو خبر بعد خبر أو هو الخبر، وبعلي بدل؛ وجوَّز كونه عطف بيان، وكون شيخ تابعاً لبعلي أيضاً والبعل هو المستعلي على غيره، والزوج مستعل على المرأة قائم بأمرها فسمي بعلاً لذلك. قيل كان إبراهيم ابن مائة وعشرين سنة وهي بنت تسع وتسعين وقيل بنت تسعين وهذه المبشرة هي سارة امرأة إبراهيم، وقد كان ولد لإبراهيم من هاجر أمته إسماعيل فتمنت سارة أن يكون لها ابن وأيست منه لكبر سنها فبشرها الله به على لسان ملائكته، وكانت بين الولادة والبشارة سنة.
(إن هذا لشيء عجيب) أي ما ذكرته الملائكة من التبشير بحصول الولد مع كونها في هذه السن العالية التي لا يولد لمن كان في مثلها شيء يقضى منه العجب ولم تنكر قدرة الله.
(قالوا أتعجين من أمر الله) مستأنفة جواب سؤال مقدر والاستفهام فيها للإنكار، أي كيف تعجبين من قضاء الله وقدره وهو لا يستحيل عليه شيء.
وقيل المعنى لا تعجبي من ذلك، وإنما أنكروا عليها مع كون ما تعجبت منه من خوارق العادة لأنها من بيت النبوة، ولا يخفى على مثلها أن هذا من مقدوراته سبحانه، ولهذا قالوا.
(رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت) أي الرحمة التي وسعت كل شيء واستتبعت كل خير، وإنما وضع المطهر موضع المضمر لزيادة تشريفها، والبركات الخيرات النامية المتكاثرة في كل باب، التي من جملتها هبة الأولاد، والبركة هى النمو والزيادة؛ وقيل الرحمة النبوة والبركات الأسباط من بني إسرائيل لما فيهم من الأنبياء وكلهم من ولد إبراهيم.
وانتصاب أهل البيت على المدح أو الاختصاص وبين النصبين فرق ذكره السمين، وصرف الخطاب من صيغة الواحدة إلى الجمع لقصد التعميم، وقيل خطاب لها وله، وهذا على مهى الدعاء من الملائكة بالخير والبركة، وفيه دليل على أن أزواج الرجل من أهل بيته عن ابن عباس أنه كان ينهي عن أن يزاد في جواب التحية على قولهم عليكم السلام ورحمة الله وبركاته ويتلو هذه الآية. وعن ابن عمر نحوه (إنه حميد) أي يفعل موجبات الحمد من عباده على سبيل الكثرة (مجيد) كثير الإحسان إلى عباده بما يفيضه إليهم من الخيرات. وقيل المجيد المنيع الذي لا يرام.
وقال الخطابي: المجيد الواسع الكريم وأصل المجد في كلامهم السعة، وقيل هو ذو الشرف والكرم والجملة تعليل لقوله رحمة الله وبركاته الخ.
(فلما ذهب عن إبراهيم الروع) أي الخيفة التي أوجسها في نفسه، يقال ارتاع من كذا إذا خاف. قال مجاهد: الروع الفرق وهو الخوف وقيل الفزع (وجاءته البشرى) أي بالولد أو بقولهم لا تخف (يجادلنا في قوم لوط) قال الأخفش والكسائي: إن يجادلنا في موضع جادلنا فيكون هو جواب لما، لما تقرر من أن جوابها يكون بالماضي لا بالمستقبل.
قال النحاس: جعل المستقبل مكانه كما يجعل الماضي مكان المستقبل في الشرط وقيل أن الجواب محذوف ويجادلنا في محل نصب على الحال قاله الفراء وتقديره فلما ذهب عنه الروح وجاءته البشرى اجترأ على خطابنا حال كونه يجادلنا، أي يجادل رسلنا.
وقيل أن المعنى أخذ أو جعل يجادلنا ومجادلته لهم، قيل أنه لما سمع قولهم إنا مهلكو أهل هذه القرية، قال: أرأيتم إن كان فيهم خمسون من المسلمين أتهلكونهم قالوا: لا، قال: فأربعون، قالوا: لا، قال فعشرون: قالوا: لا، قال: فعشرة فخمسة، قالوا: لا، قال: فواحد؛ قالوا: لا، قال: إن فيها لوطاً، قالوا: نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله. الآية.
وعن ابن عباس قال: لا جاءت الملائكة إلى إبراهيم قالوا لإبراهيم إن كان فيها خمسة يصلون رفع عنهم العذاب، فهذا معنى مجادلته في قوم لوط، أي في شأنهم وأمرهم، وقيل معناه يكلمنا ويسألنا، لأن العبد لا يقدر أن يخاصم ربه وإن كان نبياً؛ ولهذا قال جمهور المفسرين معناه يجادل رسلنا.
ثم أثنوا على إبراهيم أو أثنى الله عليه فقال
(وضاق بهم ذرعاً) قال الأزهري: الذرع يوضع موضع الطاقة، وأصله أن البعير يذرع بيده في سيره على قدر سعة خطوة أي يبسطها فإذا حمل عليه أكثر من طاقته ضاق ذرعه عن ذلك فجعل ضيق الذرع كناية عن قلة الوسع والطاقة وشدة الأمر.
وقيل هو من ذرعه القيء إذا غلبه وضاق عن حبسه، والمعنى أنه ضاق صدره لما رأى الملائكة في تلك الصورة خوفاً عليهم من قومه لما يعلم من فسقهم وارتكابهم لفاحشة اللواط ولم يجد مخلصاً.
قال ابن عباس. ساء ظناً بقومه وضاق ذرعاً بأضيافه، وقيل ضاق بهم قلباً وصدراً ولا يعرف أصله، ويقال ضاق فلان ذرعاً بكذا إذا وقع في مكروه ولا يطيق الخروج منه (وقال هذا يوم عصيب) أي شديد كأنه قد عصب به الشر والبلاء أي شد به مأخوذ من العصابة التي يشد بها الرأس، يقال عصيب وعصيصب وعصوصب على التكثير أي يوم مكروه يجتمع فيه الشر، ومنه عصبة وعصابة أي مجتمعو الكلمة، ورجل معصوب أي مجتمع الخلق.
والمعنى أن قوم لوط لما بلغهم مجيء الملائكة في تلك الصورة أسرعوا إليه كأنما يدفعون دفعاً لطلب الفاحشة من أضيافه (ومن قبل) أي ومن قبل مجيء الرسل (كانوا يعملون السيئات) أي يأتون الرجال في أدبارهم وكانت ذلك عادتهم، فلا حياء عندهم منها فلما جاؤوا إلى لوط وقصدوا أضيافه لذلك العمل قام إليهم لوط مدافعاً.
(قال يا قوم) خاطبهم بهذا الخطاب وهم من وراء الباب خارجه (هؤلاء بناتي) أي تزوجوهن ودعوا ما تطلبونه من الفاحشة بأضيافي، وقد كان له ثلاث بنات وقيل ابنتان وكانوا يطلبون منه أن يزوجهم بهن فيمتنع لخبثهم لا لعدم كفاءتهم، وكان لهم سيدان مطاعان فأراد أن يزوجهما بنتيه والمراد بالجمع ما فوق الواحد.
وقيل أراد بقوله هؤلاء بناتي النساء جملة، لأن نبي القوم أب لهم قاله ابن عباس وهو قول مجاهد وسعيد بن جبير، قال الكرخي: وهذا القول أولى لأن
لكن فيه مخالفة لظاهر النظم، وقيل كان في ملته يجوز تزوج الكافر بالمسلمة قال قتادة: المراد بناته لصلبه، وفي أضيافه ببناته، وقال الحسين بن الفضل: عرض بناته عليهم بشرط الإسلام، وقالت طائفة: أما كان هذا القول منه على طريق المدافعة ولم يرد الحقيقة، وعن حذيفة بن اليمان قال: عرض عليهم بناته تزويجاً وأراد أن يقي أضيافه بتزويج بناته.
(هن أطهر لكم) أي أحل وأنزه والتطهر التنزه عما لا يحل، وليس في صيغة أطهر دلالة على التفضيل، بل هي مثل (الله أكبر) وقرأ الحسن وعيسى ابن عمر بنصب أطهر، وقرأ الباقون بالرفع، ووجه النصب أن يكون اسم إشارة مبتدأ وخبره بناتي. وهن ضمير فصل، وأطهر حال، وقد منع الخليل وسيبويه والأخفش مثل هذا، لأن ضمير الفصل الذي يسمى عماداً إنما يكون بين كلامين بحيث لا يتم الكلام إلا بما بعدها، نحو كان زيد هو أخاك (فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي) أي اتقوا الله بترك ما تريدون من الفاحشة بهم، ولا تذلوني وتجلبوا عليَّ العار في ضيفي، والضيف يطلق على الواحد والاثنين والجماعة، لأنه في الأصل مصدر، ومنه قول الشاعر:
لا تعدمي الدهر شفار الجازر | للضيف والضيف أحق زائر |
قال أبو هريرة: ما بعث الله نبياً بعده إلا في منعة من عشيرته، وقيل أراد بالقوة الولد وبالركن من ينصره من غير ولده، وقيل أراد بالقوة قوته في نفسه قال السدي: إلى جند شديد لقاتلتكم.
وقد ثبت في البخاري وغيره من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: يغفر الله للوط إن كان يأوي إلى ركن شديد، وهو مروي في غير الصحيح من طريق غيره من الصحابة، وقال النووي: المراد بالركن الشديد هو الله عز وجل فإنه أشد الأركان وأقواها وأمنعها اهـ. وهو يخالف ظاهر الآية والحديث المتقدم.
ولما سمعته الملائكة يقول هذه المقالة ووجدوا قومه قد غلبوه وعجز عن مدافعتهم
(فأسر بأهلك) قرئ بالوصل وبالقطع من أسرى وسرى وهما لغتان سبعيتان فصيحتان، قال تعالى (والليل إذا يسر) وقال (سبحان الذي أسرى) وهل هما بمعنى واحد أو بينهما فرق.
خلاف مشهور فقيل هما بمعنى واحد وهو قول أبي عبيد. وقيل أن أسرى للمسير من أول الليل وسرى للمسير من آخره وهو قول الليث، وأما سار فمختص بالنهار، وليس مقلوباً من سرى والباء للتعدية أو للمصاحبة والأهل هم بنتاه فلم يخرج من القرية إلا هو وبنتاه فقط، وفي القرطبي: خرج لوط وطوى الله له الأرض في وقته حتى نجا ووصل إلى إبراهيم.
(بقطع) أي مصاحبين بقطع (من الليل) القطع الطائفة منه، قال ابن الأعرابي: بساعة منه؛ وقال الأخفش: بجنح من الليل، وقال الضحاك: ببقية الليل وقال قتادة: بعد مضي أوله " وقيل أنه السحر الأول، وقيل بنصف منه لأنه قطعة منه مساوية لباقيه، وقيل بظلمة منه، وقيل بعد هدو من الليل، وقال
وقيل أن الباء بمعنى في؛ وقد تقدم الكلام على القطع في يونس بأشبع من هذا وقيل أن السرى لا يكون إلا في الليل فما وجه زيادة بقطع من الليل؟ قيل لو لم يقله لجاز أن يكون في أوله قبل اجتماع الظلمة وليس ذلك بمراد.
(ولا يلتفت منكم أحد) أي بقلبه إلى ما خلف أو لا ينظر إلى ما وراءه أو لا يشتغل بما خلفه من مال أو غيره، قيل وجه النهي عن الالتفات أن لا يروا عذاب قومهم وهول ما نزل بهم فيرحموهم ويرقوا لهم، أو لئلا ينقطعوا عن السير المطلوب منهم بما يقع من الالتفات فإنه لا بد للملتفت من فترة في سيره، وقع فيه ضمير منكم للأهل فهو التفات فقوله لا يلتفت من تسمية النوع.
وهذا من بديع النكات وهو عند المتأخرين من أهل البديع أن يؤتى بشيء من البديع ويذكر اسمه على سبيل التورية، وتبجحوا باختراعه وأنه قد وقع في القرآن في هذه الآية.
قال الخفاجي: ثم أني وجدت منه قوله تعالى (من وجد في رحله فهو جزاؤه) في سورة يوسف فإن (فهو جزاؤه) جزاء من الشرطية وقد ذكر أنه جزاء ومنه قوله تعالى (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها) إلى قوله: (كذلك يضرب الله الأمثال) اهـ.
(إلا امرأتك) بالنصب سبعية والاستثناء من قوله فأسر بأهلك أي أسر بأهلك جميعاً إلا امرأتك فلا تسر بها لكونها كافرة، وأنكر قراءة الرفع جماعة منهم أبو عبيدة، قال النحاس: الرفع على البدل له معنى صحيح أي لا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك فإنها تلتفت وتهلك، وقيل أن الرفع على البدل من أحد ويكون الالتفات بمعنى التخلف لا بمعنى النظر إلى الخلف، فكأنه قال ولا
(إنه مصيبها ما أصابهم) من العذاب وهو رميهم بالحجارة، والجملة تعليل للاستثناء (إن موعدهم الصبح) هذه الجملة تعليل لما تقدم من الأمر بالإسراء والنهي عن الالتفات، والمعنى أن موعد عذابهم أي وقت هلاكهم الصبح المسفر عن تلك الليلة، روي أنه قال لهم متى موعد هلاكهم فقالوا هذه المقالة فقال أريد أسرع من ذلك فقالوا (أليس الصبح بقريب) الهمزة للإنكار التقريري على حد (ألم نشرح لك صدرك) والجملة تأكيد للتعليل ولعل جعل الصبح ميقاتاً لهلاكهم لكون النفوس فيه أسكن، والناس فيه مجتمعون لم يتفرقوا إلى أعمالهم.
قال مجاهد: لما أصبحوا غدا جبريل على قريتهم وقطعها من أركانها ثم أدخل جناحه ثم حملها على خوافي جناحه بما فيها ثم صعد بها إلى السماء، حتى سمع أهل السماء صياحٍ ديكهم ونباح كلابهم ثم قلبها فكان أول ما سقط منها سرادقها فلم يصب قوما ما أصابهم.
ثم إن الله طمس على أعينهم ثم قلبت قريتهم وهي خمس مدائن أكبرها سدوم وهي المؤتفكات المذكورة في سورة براءة يقال كان فيها أربعة آلاف ألف.
(وأمطرنا عليها) أي على المدن حين رفعها جبريل أو على شذاذها وعلى من كان خارجاً عنها من مسافريها أو من بعد قلبها، قيل أنه يقال أمطرنا في
(حجارة من سجيل) هو الطين المتحجر بطبخ أو غيره، وقيل هو الشديد الصلب من الحجارة، وقيل هو الكثير، وقيل أن السجيل لفظة غير عربية أصله سنج وجيل وهما بالفارسية حجر وطين عربتهما العرب فجعلتهما اسماً واحداً.
قال سعيد: معناه سنك كل فارسي معرب لأن العرب إذا تكلمت بشيء من الفارسي صار لغة للعرب ولا يضاف إلى الفارسي مثل قوله سندس وإستبرق، فكل هذه ألفاظ فارسية تكلمت بها العرب واستعملتها في ألفاظهم فصارت عربية.
قال قتادة وعكرمة: هو الحجر والطين، دليله قوله تعالى في موضع آخر (حجارة من طين) وقال مجاهد: أولها حجر وآخرها طين. وقال الحسن: أصل الحجارة طين فشدت، وقال الضحاك: يعني الآجر. وقيل هو من لغة العرب. وذكر الهروي إن السجيل اسم لسماء الدنيا.
قال ابن عطية: وهذا ضعيف يرده وصفه بمنضود، وقيل هو بحر معلق في الهواء بين السماء والأرض، وقيل هي جبال في السماء الدنيا. وقال الزجاج: هو من التسجيل لهم أي ما كتب لهم من العذاب فهو في معنى سجين، ومنه قوله تعالى (وما أدراك ما سجين كتاب مرقوم) وقيل هو من أسجلته إذا أعطيته فكأنه عذاب أعطوه والأول أولى.
(منضود) أي نضد بعضه فوق بعض، ومنه (وطلح منضود) أي متراكب والمراد وصف الحجارة بالكثرة. وقيل بعضه في إثر بعض، يقال نضدت المتاع إذا جعلت بعضه على بعض فهو منضود ونضيد أي متتابع أو مجموع معه العذاب نعت لسجيل.
(مسوَّمة) معلمة أي التي لها علامة حال من حجارة، وسوغ مجيئها من النكرة تخصيص النكرة بالوصف، والتسويم العلامة، قيل كان عليها أمثال الخواتيم. قاله الحسن والسدي، وقيل مكتوب على كل حجر اسم من رمى به، وقال الفراء: زعموا أنها كانت مخططة بحمرة وسواد في بياض فذلك تسويمها. قال ابن جريج: عليها سيماء لا تشاكل حجارة الأرض، وقال قتادة وعكرمة: عليها خطوط حمر على هيئة الجزع.
(عند ربك) أي في خزائنه أو في حكمه والخطاب للنبي ﷺ (وما هي) أي الحجارة الموصوفة، وقيل العقوبة المفهومة من السياق والأول أولى لأنه أقرب مذكور (من الظالمين) وهم قوم لوط (ببعيد) فإنهم بظلمهم حقيق بأن تمطر عليهم، وفيه وعيد لكل ظالم من الظلمة، ومنهم كفار قريش ومن عاضدهم على الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وقيل الضمير للقرى، أي هي قريبة من ظالمي مكة ممن كفر بالنبي (- ﷺ -) فإنها بين الشام والمدينة يمرون بها في أسفارهم وتذكير البعيد على تأويل الحجارة بالحجر أو إجراء له على موصوف مذكر أي شيء بعيد أو مكان بعيد أو لكونه مصدراً كالزفير والصهيل، والمصادر يستوي في الوصف بها المذكر والمؤنث.
وعن مجاهد قال: يرهب بها قريشاً أن يصيبهم ما أصابهم. وعن السدي قال: من ظلمة العرب إن لم يؤمنوا فيعذبوا بها، وعن قتادة قال: من ظالمي هذه الأمة. وقد ذكر المفسرون روايات وقصصاً في كيفية هلاك قوم لوط طويلة متخالفة وليس في ذكرها فائدة ولا سيما وبين من قال بشيء من ذلك وبين هلاك قوم لوط دهر طويل لا يتيسر له في مثله إسناد صحيح. وغالب ذلك مأخوذ عن أهل الكتاب وحالهم في الرواية معروف، وقد أمرنا بأن لا نصدقهم
ولا نكذبهم فاعرف هذا فهو الوجه لحذفنا كثيراً من هذه الروايات الكائنة في قصص الأنبياء وقومهم (و) أرسلنا (إلى مدين) هو اسم ابن إبراهيم الخليل ثم صار اسماً للقبيلة من أولاده وهو المراد هنا.
وقيل هو في الأصل اسم مدينة بناها مدين المذكور والتقدير إلى أهل مدين قال المقريزي في الخطط: أن مدين أمة شعيب هم بنو مديان بن إبراهيم وأمهم قنطورا ابنة يقطان الكنعانية ولدت له ثمانية من الولد تناسلت منهم أمم، ومدين على بحر القلزم تحاذي تبوك على نحو ست مراحل، وهي أكبر من تبوك وبها البئر التي استقى منها موسى لسائمة شعيب وعمل عليها بيت.
قال الفراء: مدين اسم بلد وقطر والجمهور على أن مدين أعجمي، وقيل عربي، فإن كان عربياً فإنه يحتمل أن يكون فعيلاً من مدن بالمكان أقام به وهو بناء نادر، وقيل مهمل أو مفعلاً من دان فتصحيحه شاذ وهو ممنوع الصرف على كل حال، سواء كان اسم الأرض أو اسم القبيلة عجمياً أو عربياً اهـ. وبه قال النحاس وقد تقدم الكلام على هذا في الأعراف بأبسط مما هنا وهم قوم شعيب.
(أخاهم) في النسب لأن (شعيباً) بن ميكائيل بن يشجر بن مدين بن إبراهيم عليه السلام، وقد تقدم تفسير قوله (قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) في أول السورة، وهذه الجملة مستأنفة كأنه قيل ماذا قال لهم
وقد كان شعيب عليه السلام يسمى خطيب الأنبياء لحسن مراجعته لقومه، وهذه عادة الأنبياء عليه السلام يبدؤون بالأهم فالأهم.
ولما كان الدعوة إلى توحيد الله وعبادته أهم الأشياء دعاهم إليه ثم نهاهم عن أن ينقصوا المكيال والميزان لأنهم كانوا مع كفرهم أهل تطفيف، وكان المعتاد منهم البخس في الكيل والوزن، وكانوا إذا جاءهم البائع بالطعام أخذوا بكيل زائد، وكذلك إذا وصل إليهم الموزون أخذوا بوزن زائد، وإذا باعوا باعوا بكيل ناقص ووزن ناقص فقال:
ْ (ولا تنقصوا المكيال والميزان) أي لا عند الأخذ ولا عند الدفع، والنقص فيهما على وجهين كما قدمنا الإشارة إليه، والمراد بالمكيال المكيل به وبالميزان الموزون به، وهذا أبلغ في الأمر بوفائهما (إني أراكم لخير) أي بثروة وسعة في الرزق تغنيكم عن البخس فلا تغيروا نعمة الله عليكم بمعصيته والإضرار بعباده، وهذه النعمة حقها أن تتفضلوا على الناس شكراً عليها لا أن تنقصوا حقوقهم، وهو في الجملة علة النهي.
ثم ذكر بعد هذه العلة علة أخرى فقال (وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط) فهذه العلة فيها الاذكار لهم بعذاب الآخرة كما أن العلة الأولى فيها الإذكار لهم بنعيم الدنيا، ووصف اليوم بالإحاطة والمراد العذاب لأن العذاب واقع في اليوم، فهو مجاز في الإسناد كقولهم نهاره صائم، ومعنى إحاطة عذاب اليوم بهم أنه لا يشذ منهم أحد عنه ولا يجدون منه ملجأً ولا مهرباً، واليوم هو يوم القيامة، وقيل هو يوم الانتقام منهم في الدنيا بالصيحة. قال ابن عباس: الخير رخص السعر والعذاب غلاء السعر.
ثم أكد النهي عن نقص الكيل والوزن بقوله:
ثم قال (ولا تعثوا في الأرض) بتطفيف الكيل والوزن ومنع الناس حقوقهم، وقد مر أيضاً تفسيره في البقرة. والعثي في الأرض يشمل كل ما يقع فيها من الإضرار بالناس فيدخل فيه كل ما في السياق من نقص المكيال والميزان، وعثى مصدر قياسي وعثو سماعي وقيده بالحال وهو قوله (مفسدين) ليخرج ما كان صورته من العثي في الأرض، والمراد به الإصلاح كما وقع من الخضر في السفينة.
وقال الربيع: وصيته، وقال الفراء: مراقبته، وقال قتادة: حظكم من ربكم. وقال ابن عباس: رزق الله، وقيل ثوابه في الآخرة.
وبقيت ترسم التاء المجرورة؛ وإذا وقف عليه اضطراراً يصح الوقف بالمجرورة والمربوطة، وليس في القرآن غيرها.
وإنما قيد ذلك بقوله (إن كنتم مؤمنين) لأن ذلك إنما ينتفع به المؤمن لا الكافر، والمراد بالمؤمنين هنا المصدقون لشعيب عليه السلام، وفي البيضاوي: بشرط أن تؤمنوا فإن خيريتها باستتباع الثواب مع النجاة وذلك مشروط بالإيمان (وما أنا عليكم بحفيظ) أحفظكم من الوقوع في المعاصي من التطفيف والبخس وغيرهما وأحفظ عليكم أعمالكم وأحاسبكم بها وأجازيكم عليها، وإنما أنا ناصح مبلغ، وقد أعذرت حين أنذرت؛ أو لست بحافظ عليكم نعم الله لو لم تتركوا سوء صنيعكم.
(أن نترك ما يعبد آباؤنا) أي عبادة الأوثان وفيه أن الترك فعلهم لا فعل شعيب وهو المأمور والإنسان يؤمر بفعل نفسه فالمضاف محذوف وهو التكليف
وقولهم (أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء) جواب له عن أمرهم بإيفاء الكيل والوزن ونهيهم عن نقصهما وعن بخس الناس، وعن العثي في الأرض معطوف على ما يعبد، فالترك مسلط عليه، وأو بمعنى الواو، والمعنى هل تأمرك بتكليفك لنا ترك إن نفعل في أموالنا ما نشاء من الأخذ والإعطاء والزيادة والنقص، وهذا لف ونشر مرتب.
وقرئ بالتاء في الفعلين عطفاً على مفعول تأمرك أي أصلاتك تأمرك أن تفعل أنت في أموالنا ما تشاء، وقرئ نفعل بالنون وما تشاء بالفوقية أي نفعل فيها ما تشاء أنت وندع ما نشاء نحن وما يجري به التراضي بيننا.
وعن ابن زيد في الآية قال: نهاهم عن قطع هذه الدنانير والدراهم فقالوا إنما هي أموالنا نفعل فيها ما نشاء إن شئنا قطعناها وإن شئنا أحرقناها وإن شئنا طرحناها، وعن محمد بن كعب وزيد بن أسلم وابن المسيب نحوه.
ثم وصفوه بوصفين عظيمين فقالوا (إنك لأنت الحليم الرشيد) عند نفسك وفي اعتقادك ومعناه أن هذا الذي نهيتنا عنه وأمرتنا به يخالف ما نعتقده في نفسك من الحلم والرشد، وقيل أنهم قالوا ذلك لا على طريق الاستهزاء بل هو عندهم كذلك، وأنكروا عليه الأمر والنهي منه لهم بما يخالف الحلم والرشد في اعتقادهم والمعنى إنك فينا حليم رشيد فلا يحمد بك شق عصا قومك ومخالفتهم في دينهم.
وقال ابن عباس: يقولون إنك لست بحليم ولا رشيد أي أرادوا السفيه الغاوي لأن العرب قد تصف الشيء بضده فيقولون للديغ سليم وللفلاة المهلكة مفازة؛ وقيل هو على حقيقته وإنما قالوا ذلك على سبيل السخرية قال قتادة: استهزاء به.
وجواب الشرط محذوف يدل عليه سياق الكلام تقديره أأترك أمركم ونهيكم أو تقولون في شأني ما تقولون مما تريدون به السخرية والاستهزاء أو هل يسعني مع هذه النعمة أن أخون في وحيه، وهذا الجواب شديد المطابقة بقولهم إنك لأنت الحليم الرشيد أي كيف يليق بالحليم الرشيد أن يخالف أمر ربه وله عليه نعم كثيرة (وما أريد) بنهي لكم عن التطفيف والبخس (أن أخالفكم إلى ما أنهاكم) نهيتكم (عنه) فأفعله دونكم يقال خالفه إلى كذا إذا قصده وهو مول عنه وخالفته عن كذا في عكس ذلك، قال الزجاج: معناه لست أنهاكم عن شيء وأدخل فيه إنما أختار لكم ما أختار لنفسي، قال ابن الأنباري: بين أن الذي يدعوهم إليه من اتباع طاعة الله وترك البخس والتطفيف هو ما يرتضيه لنفسه ولا
(إن أريد) أى ما أريد بالأمر والنهي (إلا الإصلاح) لكم ودفع الفساد عن دينكم ومعاملاتكم (ما استطعت) ما بلغت إليه استطاعتي وتمكنت منه طاقتي (وما توفيقي إلا بالله) أى ما صرت موفقاً هادياً نبياً مرشداً إلا بتأييد الله سبحانه وإقداري عليه ومنحي إياه (عليه توكلت) في جميع أموري التي منها أمركم ونهيكم (وإليه أنيب) أي إليه أرجع في كل ما نابني من الأمور وأفوض جميع أموري إلى ما يختاره لي من قضائه وقدره وقيل معناه إليه أرجع في الآخرة وقيل أن الإنابة الدعاء ومعناه وله أدعو.
وعن علي قال: قلت يا رسول الله أوصني قال: قل الله ربي ثم استقم قلت ربي الله وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب، قال؛ ليهنك العلم يا أبا الحسن لقد شربت العلم شرباً ونهلته نهلاً، أخرجه أبو نعيم في الحلية وفي إسناده محمد بن يوسف الكديمي.
(وما قوم لوط منكم ببعيد) يحتمل أن يريد ليس مكانهم ببعيد من مكانكم أو ليس زمانهم ببعيد من زمانكم أو ليسوا منكم ببعيد في السبب الموجب لعقوبتهم وهو مطلق الكفر وأفرد لفظ بعيد لمثل ما سبق، وقيل بشيء بعيد كذا قدره الزمخشري وتبعه الشيخ، وقال الزمخشري يجوز أن يستوي في بعيد وقريب وقليل وكثير بين المذكر والمؤنث لورودها على زنة المصادر التي هي كالصهيل والنهيق ونحوهما، وقال قتادة: إنما كانوا حديثي عهد قريب بهلاكهم بعد نوح وثمود.
ثم بعد ترهيبهم بالعذاب أمرهم بالاستغفار والتوبة فقال
قال في الصحاح: وددت الرجل أوده وداً إذا أحببته والود المحبة والمشهور وددت بكسر العين وسمع بفتحها والودود بمعنى فاعل أى يود عباده ويرحمهم، وقيل بمعنى مفعول بمعنى أن عباده يحبونه ويوادون أولياءه فهم بمنزلة المواد مجازاً، والأول أولى، والمعنى هنا أنه يفعل بعباده فعل من هو بليغ المودة بمن يوده من اللطف به وسوق الخير إليه ودفع الشر عنه وفي هذا تعليل لما قبله من الأمر بالاستغفار والتوبة.
وجملة
وقيل قالوا ذلك إعراضاً عن سماعه وإيذاناً بقلة المبالاة به واحتقاراً لكلامه مع كونه مفهوماً لديهم معلوماً عندهم، فلا يكون نفي الفقه حقيقة بل مجازاً، يقال فقه يفقه إذا فهم فقهاً وفقهاً وحكى الكسائي فقهاناً ويقال فقه فقهاً إذا صار فقيهاً.
عن سعيد بن جبير قال: كان أعمى، وإنما عمي من بكائه من حب الله عز وجل وعن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " بكى شعيب عليه السلام من حب الله حتى عمي "، أخرجه ابن عساكر والواحدي، قال السدي: معناه إنما أنت واحد، وقال علي: كان مكفوفاً فنسبوه إلى الضعف، وقيل الضعيف العاجز عن الكسب والتصرف؛ وقال الحسن ومقاتل: يعني ذليلاً والأول أولى ويدل لصحته قوله.
(ولولا رهطك) رهط الرجل جماعته وعشيرته الذين يستند إليهم ويتقوى بهم، ومنه الراهط لحجر اليربوع لأنه يتوثق به ويخبأ فيه ولده، والرهط والراهط يقع على الثلاثة إلى العشرة، وقيل إلى السبعة، قاله الزمخشري ولا يقع الرهط والعصبة والنفر إلا على الرجال ويجمع على أرهط وأرهط على أراهط وإنما جعلوا رهطه مانعاً من إيقاع الضرر به مع كونهم في قلة، والكفار ألوف مؤلفة لأنهم كانوا على دينهم فتركوه احتراماً لهم لا خوفاً منهم وقال علي: فوالله الذي لا إله غيره ما هابوا جلال ربهم. ما هابوا إلا العشيرة.
(لرجمناك) أى لقتلناك بالحجارة، والرجم بالحجارة أسوأ القتلات وأشرها وقيل معناه لشتمناك وأغلظنا لك القول والأول أظهر.
ثم أكدوا ما وصفوه به من الضعف بقولهم (وما أنت علينا بعزيز) أي كريم مكرم معظم حتى نكف عنك لأجل عزتك ومنعتك عندنا بل تركنا رجمك لعزة رهطك علينا لموافقتهم لنا في الدين لا لقوة شوكتهم.
(قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله) مستأنفة وإنما قال من الله ولم يقل مني لأن نفي العزة عنه وإثباتها لقومه كما يدل عليه إيلاء الضمير حرف النفي استهانة به والاستهانة بأنبياء الله استهانة بالله عز وجل، فقد تضمن كلامهم أن رهطه أعز عليهم من الله، فاستنكر ذلك عليهم وتعجب منه وألزمهم مما لا مخلص لهم عنه ولا مخرج لهم منه بصورة الاستفهام وفي هذا من قوة المحاجة ووضوح المجادلة وإلقام الخصم الحجر ما لا يخفى.
والضمير في (واتخذتموه) راجع إلى الله سبحانه والمعنى واتخذتم الله عز وجل بسبب عدم اعتدادكم بنبيه الذي أرسله إليكم (وراءكم ظهرياً) أي منبوذاً وراء الظهر لا تبالون به، وقيل المعنى واتخذتم أمر الله الذي أمرني بإبلاغه إليكم وهو ما جئتكم به وراء ظهوركم كالشيء الملقى الذي لا يلتفت إليه.
يقال جعلت أمره بظهر إذا قصرت فيه، وظهرياً منسوب إلى الظهر والكسر من تغييرات النسب، والقياس فتح الظاء كما قالوا في أمس إمسى بكسر الهمزة وفي دهر دهري بضم الدال، قال مجاهد: نبذتم أمره، وقال قتادة: لا تخافونه، وقال الضحاك: تهاونتم به، وقيل أن الضمير يعود إلى العصيان أي واتخذتم العصيان عوناً على عداوتي فالظهري على هذا بمعنى المعين المقوي (إن ربي بما تعلمون محيط) لا يخفى عليه شيء من أقوالكم، ولا أفعالكم فيجازيكم بها يوم القيامة.
(ويا قوم اعملوا على مكانتكم) لما رأى إصرارهم على الكفر وتصميمهم على دين آبائهم وعدم تأثير الموعظة فيهم توعدهم بأن يعملوا على غاية تمكنهم ونهاية استطاعتهم يقال مكن مكانة إذا تمكن أبلغ تمكن.
(إني عامل) على حسب ما يمكنني ويقدره الله لي ثم بالغ في التهديد والوعيد بقوله (سوف تعلمون) أينا الجاني على نفسه المخطئ في فعله وتعلمون عاقبة ما أنتم عليه من عبادة غير الله والإضرار بعباده، وقد تقدم مثله في الأنعام.
قال الزمخشري: وصل سوف تارة بالفاء وتارة بالاستئناف كما هو عادة البلغاء من العرب، وأقوى الوصلين وأبلغهما الاستئناف لأنه أكمل في باب الفصاحة والتهويل اهـ. يعني حذف الفاء هنا لأنه جواب سائل هو المسمى في علم البيان بالاستئناف البياني كأن كان قائلاً قال: فماذا يكون بعد ذلك فهو أبلغ في التهويل.
(من يأتيه عذاب يخزيه) أي سوف تعلمون من هو الذي يأتيه العذاب المخزي الذي يتأثر عنه الذل والفضيحة والعار (ومن هو كاذب) في زعمكم ومن هو المعذب، وفيه تعريض بكذبهم في قولهم لولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز.
وقيل التقدير من هو كاذب فسيعلم كذبه ويذوق وبال أمره (وارتقبوا إني معكم رقيب) أي انتظروا إني معكم منتظر لما يقضي به الله بيننا.
(فأصبحوا في ديارهم جاثمين) ميتين باركين على الركب وقد تقدم تفسيره وتفسير
قال المهدوي: من ضم العين من بعدت فهي لغة تستعمل في الخير والشر، وبعدت بالكسر على قراءة الجمهور تستعمل في الشر خاصة وهي هنا بمعنى اللعنة وقيل بكسر العين بمعنى الهلاك وبضمها ضد القرب والمصدر البعد بفتح العين، والمعنى هلاكاً لهم كما هلكت ثمود والتشبيه من حيث إن هلاك كل بالصيحة.
قال ابن الأنباري: من العرب من يسوي بين الهلاك والبعد الذي هو ضد القرب قيل لم يعذب أمتان قط بعذاب واحد إلا قوم شعيب وقوم صالح، فأما قوم صالح فأخذتهم الصيحة من تحتهم، وأما قوم شعيب فأخذتهم الصيحة من فوقهم.
وقيل المراد بالآيات هي التسع المذكورة في غير هذا الموضع منها ثمانية في الأعراف، والتاسعة في يونس.
وليس من الآيات المرادة هنا التوراة لأنها أنزلت بعد إغراق فرعون وقومه والسلطان العصا وهي وإن كانت من التسع لكنها لما كانت أعظم الآيات وأبهرها للعقول وأشدها خرقاً للعادة أفردت بالذكر.
وقيل المراد بالآيات ما يفيد الظن، والسلطان ما يفيد القطع مما جاء به موسى وقيل هما جميعاً عبارة عن شيء واحد أي أرسلناه بما يجمع وصف كونه آية وكونه سلطاناً بيناً، وقيل أن السلطان المبين ما أورده موسى على فرعون في المحاورة بينهما.
وعبر بالماضي تنبيهاً على تحقق وقوعه والهمزة في أورد للتعدية لأنه قبلها يتعدى لواحد، قال تعالى (ولما ورد ماء مدين).
وقيل بل هو ماض على حقيقته وهذا قد وقع وانفصل، وذلك أنه أوردهم في الدنيا النار، قال تعالى (النار يعرضون عليها)
وقيل أوردهم موجباتها وأسبابها، وفيه بعد لأجل العطف بالفاء قال قتادة: يمضي فرعون بين أيدي قومه حتى يهجم بهم على النار. قال الخفاجي: وأنزل لهم النار منزلة الماء فسمى إتيانها وروداً فالنار استعارة مكنية تهكمية للضد وهو الماء وإثبات الورود لها تخييل.
ثم ذم الورد الذي أوردهم إليه فقال (وبئس الورد المورود) أي المدخل المدخول فيه الذي وردوه لأن الوارد إلى الماء الذي يقال له الورد إنما يرده ليطفئ حر العطش ويذهب ظمأه، والنار على ضد ذلك، والورد يكون مصدراً بمعنى الورود فلابد من حذف مضاف تقديره وبئس مكان الورد المورود وهو النار، وإنما احتيج إلى هذا التقدير، لأن تصادق فاعل نعم وبئس ومخصوصهما شرط، فلا يقال نعم الرجل الفرس.
ثم ذمهم بعد ذم المكان الذي يردونه فقال
قال الكسائي وأبو عبيدة: رفدته أرفده رفداً أعنته وأعطيته، واسم العطية الرفد أي بئس العطاء والإعانة ما أعطوهم إياه وأعانوهم به والمخصوص بالذم محذوف أي رفدهم وهو اللعنة التي اتبعوها في الدنيا والآخرة كأنها لعنة بعد لعنة تمد الأخرى وتؤيدها.
وسميت اللعنة عوناً لأنها إذا تبعتهم في الدنيا أبعدتهم عن رحمة الله وأعانتهم على ما هم فيه من الضلال، وسميت رفداً أي عوداً لهذا المعنى على التهكم، وإلا فاللعنة إذلال لهم وإنزال بهم إلى الحضيض الأسفل، وسميت معاناً لأنها أرفدت في الآخرة بلعنة أخرى لتكونا هاديتين إلى طريق الجحيم.
وذكر الماوردي حكاية عن الأصمعي أن الرفد بالفتح القدح وبالكسر ما فيه من الشراب فكأنه ذم ما يستقونه في النار وهذا أنسب بالمقام، وقيل أن الرفد الزيادة، أي بئسما يرفدونه به بعد الغرق وهو الزيادة، قاله الكلبي: وأصل الرفد العون والعطاء والصلة، والإرفاد أيضاً الإعطاء والإعانة. قال أبو السعود: وقد فسر الرفد بالعطاء ولا يلائمه المقام، وأصله ما يضاف إلى غيره ليعمده.
وقيل القائم العامر والحصيد الخراب، وقيل القائم القرى الخاوية على عروشها والحصيد المستأصل بمعنى محصود، شبه ما بقي من آثار القرى بالزرع القائم على ساقه وشبه المقطوع والمعفو منها بالحصيد.
قال ابن عباس: يعني قرى عامرة وقرى خامدة، وقال قتادة: قائم يرى مكانه وحصيد لا يرى له أثر، وقال ابن جريج: قائم خاو على عروشه وحصيد ملصق بالأرض، والمعنى بعضها باق وبعضها عاف، والجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لأنه لما ذكر أنباء القرى اتجه لسائل أن يقول ما حال هذه القرى أباقية آثارها أم لا؟
(فما أغنت عنهم آلهتهم) أي فما دفعت عنهم أصنامهم أو ما نفعت، قاله أبو عاصم (التي يدعون) يعبدونها (من دون الله) أي غيره (من شيء) أي شيئاً من العذاب، وبأس الله، ومن زائدة (لما جاء) أي حين جاء (أمر ربك) أي عذابه (وما زادوهم غير تتبيب) أي هلاك وخسران. قال ابن عمر: أي هلكة وقال ابن زيد: أي تخسير، وقيل تدمير، والتتبيب اسم من تببه بالتشديد، وتبت يده تتب بالكسر خسرت كناية عن الهلاك وتباً له أي هلاكاً واستتب الأمر تهيأ ويستعمل لازماً ومتعدياً، يقال تببه غيره وتب هو بنفسه، والمعنى ما زادتهم أصنامهم التي يعبدونها إلا هلاكاً وخسراناً، وقد كانوا يعتقدون أنها تعينهم على تحصيل المنافع ودفع المضار.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله سبحانه وتعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته "، ثم قرأ (وكذلك أخذ ربك) الآية (١) ولا تظنن أن الآية حكمها مختص بظالمي الأمم الماضية بل هو عام في كل ظالم ويعضده الحديث.
_________
(١) مسلم ٢٥٨٣ - البخاري ٢٠١٣.
(ذلك) أي يوم القيامة المدلول عليه بذكر الآخرة (يوم مجموع له) صفة ليوم جرت على غير من هي له فلذلك رفعت الظاهر وهو (الناس) من الأولين والآخرين للمحاسبة والمجازاة (وذلك) أي يوم القيامة (يوم مشهود) يشهده أهل المحشر، أو مشهود فيها الخلائق، أو يشهده أهل السماء والأرض فاتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول.
وقد جمع بين هذا وبين قوله (يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها) وقوله إخباراً عن محاجة الكفار (ربنا ما كنا مشركين) وقوله (هذا يوم لا ينطقون * ولا يؤذن لهم فيعتذرون) باختلاف أحوالهم باختلاف مواقف القيامة وقد تكرر مثل هذا الجمع في مواضع.
وقد اشتملت هذه الآية على ثلاثة أنواع من البديع. الجمع في قوله لا تكلم نفس والتفريق في قوله فمنهم شقي وسعيد والتقسيم في قوله فأما الذين شقوا.
(فمنهم) أي من الأنفس أو من أهل الموقف وإن لم يذكروا قال الزمخشري: لأن ذلك معلوم ولأن قوله لا تكلم نفس يدل عليه وكذا قال ابن عطية (شقي) هو من كتبت عليه الشقاوة (وسعيد) أي من كتبت له السعادة وتقديم الشقي على السعيد لأن المقام مقام تحذير.
أخرج الترمذي وحسنه وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
وقد استدل بهذه الآية على أن أهل الموقف قسمان لا ثالث لهما وظاهر الآية والحديث يدل على ذلك لكن بقي قسم آخر مسكوت عنه وهو من استوت حسناته وسيآته أو لا حسنات لهم ولا سيآت كالمجانين والأطفال فهم تحت مشيئته يحكم فيهم بما شاء وتخصيص القسمين لا ينفي القسم الثالث.
_________
(١) الترمذي كتاب القدر الباب الثالث.
قال: وزعم أهل اللغة من البصريين والكوفيين أن الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمير والشهيق بمنزلة آخره، وقيل الزفير للحمار والشهيق للبغل، وقيل الزفير الصوت الشديد والشهيق الصوت الضعيف، وقيل الزفير إخراج النفس والشهيق ردها، وقيل الزفير من الصدر والشهيق من الحلق.
وقيل الزفير ترديد النفس في الصدر من شدة الخوف حتى تنتفخ منه الأضلاع والشهيق النفس الطويل الممتد أو رد النفس إلى الصدر والمراد بهما الدلالة على شدة كربهم وغمهم وتشبيه حالهم بمن استولت الحرارة على قلبه وانحصر فيه روحه
وقال الليث: الزفير أن يملأ الرجل صدره حال كونه في الغم الشديد من النفس ويخرجه والشهيق أن يخرج ذلك النفس وهو قريب من قولهم تنفس الصعداء، والجملة إما مستأنفة أو حالية.
(خالدين) لابثين (فيها) أي في النار (ما دامت السماوات والأرض) ما مصدرية أي مدة دوامهما في الدنيا وهذه المدة غير ما يزيده الله مما لا نهاية له ودامت هنا تامة لأنها بمعنى بقيت.
وقد اختلف العلماء في بيان معنى هذا التوقيت لأنه قد علم بالأدلة القطعية تأبيد عذاب الكفار في النار وعدم انقطاعه عنهم.
وثبت أيضاً إن السماوات والأرض تذهب عند انقضاء أيام الدنيا فقالت طائفة: أن هذا الإخبار جار على ما كانت العرب تعتاده إذا أرادوا المبالغة في دوام الشيء قالوا هو دائم ما دامت السماوات الأرض ومنه قولهم لا آتيك ما جن الليل وما اختلف الليل والنهار وما ناح الحمام ونحو ذلك فيكون المعنى أنهم خالدون فيها أبداً لا انقطاع لذلك ولا انتهاء له.
وقيل أن المراد سماوات الآخرة وأرضها فقد ورد ما يدل على أن للآخرة سماوات وأرضاً غير هذه الموجودة في الدنيا وهي دائمة بدوام دار الآخرة، وأيضاً لا بد لهم من موضع يقلهم وآخر يظلهم وهما أرض وسماء؛ قال ابن عباس: لكل جنة أرض وسماء؛ وروى نحوه عن السدي والحسن
(إلا ما شاء ربك) قد اختلف أهل العلم في معنى هذا الاستثناء على أقوال.
الأول: أنه من قوله ففي النار كأنه قال: إلا ما شاء ربك من تأخير قوم عن ذلك روى هذا عن أبي سعيد الخدري.
الثاني: أن الاستثناء إنما هو للعصاة من الموحدين وأنهم يخرجون بعد مدة من النار وعلى هذا يكون قوله سبحانه (فأما الذين شقوا) عاماً في الكفرة
قال البيضاوي: هو استثناء من الخلود في النار لأن بعضهم وهم فساق الموحدين يخرجون منها وذلك كاف في صحة الاستثناء، لأن زوال الحكم عن الكل يكفيه زواله عن البعض؛ وهم المرادون بالاستثناء الثاني فإنهم مفارقون عن الجنة أيام عذابهم، فإن التأبيد من مبدأ معين ينتقص باعتبار الابتداء كما ينتقص باعتبار الانتهاء، وهؤلاء وإن شقوا بعصيانهم فقد سعدوا بإيمانهم اهـ.
وقد ثبت بالأحاديث المتواترة تواتراً يفيد العلم الضروري بأنه يخرج من النار أهل التوحيد فكان ذلك مخصصاً لكل عموم.
الثالث: أن الاستثناء من الزفير والشهيق أي لهم فيها ذلك إلا ما شاء ربك من أنواع العذاب غير الزفير والشهيق، قاله ابن الأنباري.
الرابع: أن معنى الاستثناء أنهم خالدون فيها ما دامت السماوات والأرض لا يموتون فيها إلا ما شاء ربك، فإنه يأمر النار فتأكلهم حتى يفنوا ثم يجدد الله خلقهم، روي ذلك عن ابن مسعود.
الخامس: أن إلا بمعنى سوى ولكن والاستثناء منقطع والمعنى ما دامت السماوات والأرض سوى ما يتجاوز ذلك من الخلود كأنه ذكر في خلودهم ما ليس عند العرب أطول منه ثم زاد عليه الدوام الذي لا آخر له حكاه الزجاج.
السادس: ما روي عن الفراء وابن الأنباري وابن قتيبة من أن هذا لا ينافي عدم المشيئة كقولك والله لأضربنه إلا أن أرى غير ذلك، ونوقش هذا بأن معنى الآية الحكم بخلودهم إلا المدة التي شاء الله فالمشيئة قد حصلت جزماً، وقد حكى هذا القول الزجاج أيضاً.
السابع: أن المعنى خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك من مقدار موقفهم في قبورهم وللحساب حكاه الزجاج أيضاً.
التاسع: أن إلا بمعنى الواو قاله الفراء والمعنى وما شاء ربك من الزيادة، قال مكي: وهذا القول بعيد عند البصريين أن يكون إلا بمعنى الواو.
العاشر: أن إلا بمعنى الكاف، والتقدير كما شاء ربك ومنه قوله تعالى (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف) أي كما قد سلف.
الحادي عشر: أن هذا الاستثناء إنما هو على سبيل الاستثناء الذي ندب إليه الشارع في كل كلام فهو على حد قوله (لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين) قاله ابن عطية، وروى نحو هذا عن أبي عبيد، ولا يحتاج إلى أن يوصف بمتصل ولا منقطع.
وهذه الأقوال هي جملة ما وقفنا عليه من أقوال أهل العلم، وقد نوقش بعضها بمناقشات ودفعت بدفوعات، وقد أوضح الشوكاني ذلك في رسالة مستقلة جمعها في جواب سؤال ورد من بعض الأعلام، قال السيوطي: وما تقدم من التأويل هو الذي ظهر وهو خال من التكلف، والله أعلم بمراده انتهى.
قال في الجمل: أي التفسير للاستثناء وحاصله أن إلا في المعنى بمعنى حرف العطف والاستثناء منقطع، فكأنه قيل (خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض) وزيادة على هذه المدة لا منتهى لها؛ وقوله هو الذي ظهر أي ظهر له اختياره من ثلاثة عشر وجهاً للمفسرين في هذا المقام وهو وجه حسن لأن فيه التأبيد بما يعلمه المخاطبون بالمشاهدة ويعترفون به وهو دوام الدنيا.
وأما التأبيد بدوام سموات الآخرة وأرضها كما قيل ففيه أنه غير معلوم
ثم ذكر الوجه الثاني والخامس والحادي عشر كما مر.
وقال ابن حجر الهيتمي المكي في الزواجر عن اقتراف الكبائر: دلت الآيات والأحاديث على أن عذاب الكفار في جهنم دائم مؤبد، وما ورد مما يخالف ذلك يجب تأويله، فمن ذلك قوله تعالى (خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد) فظاهره أن مدة عقابهم مساوية لمدة بقاء السماوات والأرض إلا ما شاء الله من هذه المدة فلا يكونون فيه خالدين فيها.
وقد أوله العلماء بنحو عشرين وجهاً يرجع بعضها إلى حكمة التقييد بمدة دوام السماوات والأرض، وبعضها إلى حكمة الاستثناء ومعناه، فمن الأول أن المراد سماوات الجنة وأرضها إذ السماء كل ما علاك، والأرض كل ما استقررت عليه، وكون الجنة والنار لهما سماء وأرض بهذا الاعتبار أمر قطعي لا يخفى على أحد، فاندفع التنظير في هذا القول بأنه لا يجوز حمل ما في الآية عليه لأنه غير معروف للمخاطبين أو سماوات الدنيا وأرضها وأجرى ذلك على عادة العرب في الإخبار عن دوام الشيء وتأييده بذلك ونحوه كقولهم لا آتيك ما سال سيل وما جن ليل وما طما البحر، وما قام جبل، لأنه تعالى يخاطب العرب على عرفهم في كلامهم وهذه الألفاظ في عرفهم تفيد الأبد والدوام.
وعن ابن عباس أن جميع الأشياء المخلوقة أصلها من نور العرش وأن السماوات والأرض في الآخرة تردان إلى النور الذي خلقنا منه وهما دائمتان أبداً من نور العرش.
ثم هذا الجواب إنما يحتاج إليه بناء على أن مفهوم التقييد بدوام السماوات والأرض أنهم لا يبقون في النار إلا بقدر مدة دوامهما من حين
فإذا قلنا ما دامتا بقي عقابهم، ثم قلنا لكنهما دائمتان لزم دوام عقابهم أو لكنهما ما بقيتا لم يلزم عدم دوام عقابهم، لا يقال إذا دام عقابهم بقيتا أو عدمتا فلا فائدة للتقييد بدوامهما لأنا نقول بل فيه أعظم الفوائد وهو دلالته على بقاء ذلك العذاب دهراً دائماً طويلاً لا يحيط العقل بقدر طوله وامتداده.
فأما أنه هل لذلك العذاب آخِر أم لا فذلك يحصل من أدلة أخرى، وهي الآيات المصرحة بتأييد خلودهم المستلزم أنه لا آخر له، ومن الثاني أنه استثناء من فيها لأنهم يخرجون من النار إلى الزمهرير وإلى شرب الحميم ثم يعودون فيها فهم خالدون فيها أبداً إلا في تلك الأوقات فإنها وإن كانت أوقات عذاب أيضاً إلا أنهم ليسوا حينئذ فيها حقيقة أو أن ما لمن يعقل كانكحوا ما طاب لكم من النساء وحينئذ فيكون استثناء لعصاة المؤمنين من ضمير خالدين متصلاً بناء على شمول شقوا لهم أو منقطعاً بناء على عدم شموله لهم وهو الأظهر، أو أنه منقطع وإلا بمعنى سوى أي ما دامتا سوى ما شاء ربك زيادة على ذلك.
وبقيت أجوبة كثيرة أعرضت عنها لبعدها، ولا ينافي ذلك ما رواه أحمد عن عبد الله بن عمر وليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد، وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقاباً، لأن في سنده من قالوا فيه أنه غير ثقة وصاحب أكاذيب كثيرة عظيمة.
نعم نقل غير واحد هذه المقالة عن ابن مسعود وأبي هريرة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية وهو قول عمر بن الخطاب وابن عباس وابن مسعود وأبي
ويرد ما نقله عن الحسن قول غيره، قال العلماء: قال ثابت: سألت الحسن عن هذا فأنكره، والظاهر أن هؤلاء الذين ذكرهم لم يصح عنهم من ذلك شيء، وعلى التنزل فمعنى كلامهم كما قاله العلماء ليس فيها أحد من عصاة المؤمنين، أما مواضع الكفار فهى ممتلئة بهم لا يخرجون عنها أبداً كما ذكره الله في آيات كثيرة.
وفي تفسير الرازي قال قوم: أن عذاب الكفار منقطع وله نهاية، واستدلوا بهذه الآية وبـ " لابثين فيها أحقاباً "، وبأن معصية الظالم متناهية فالعقاب عليها بما لا يتناهى ظلم انتهى.
والجواب عن الآية وقوله تعالى أحقاباً لا يقتضى أن له نهاية لما مر أن العرب يعبرون به وبنحوه عن الدوام، ولا ظلم في ذلك لأن الكافر كان عازماً على الكفر ما دام حياً فعوقب دائماً فهو لم يعاقب بالدائم إلا على دائم، فلم يكن عذابه إلا جزاء وفاقاً.
واعلم أن التقييد والاستثناء في أهل الجنة ليس المراد بهما ظاهرهما باتفاق الكل لقوله تعالى (غير مجذوذ) فيؤول بنظير ما مر ويكون المراد بما إذا جعلناها بمعنى (من) أهل الأعراف عصاة المؤمنين الذين لم يدخلوها بعد.
قال ابن زيد: أخبرنا الله تعالى بالذي يشاء لأهل الجنة فقال: عطاء غير مجذوذ أي غير مقطوع ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار. انتهى كلام ابن حجر.
وفي الذي تحامل به على ابن تيمية نظر فقد أوضح البحث الحافظ ابن القيم رحمه الله في حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح مستوفياً بما له وعليه فمن شاء فليرجع إليه.
وعن جابر قال: قرأ رسول الله ﷺ هذه الآية فقال: " إن شاء آلله أن يخرج أناساً من الذين شقوا من النار فيدخلهم الجنة فعل "، أخرجه ابن مردويه. وعن خالد بن معدان في الآية قال: إنها في ذوي التوحيد من أهل القبلة وعن جابر بن عبد الله أو أبي سعيد الخدري قال: هذه الآية قاضية على القرآن كله يقول حيث كان في القرآن خالدين فيها تأتي عليه، وعن ابن عباس في قوله (إلا ما شاء ربك) قال: فقد شاء ربك أن يخلد هؤلاء في النار، وأن يخلد هؤلاء في الجنة.
وعنه قال: استثنى الله من النار أن تأكلهم، وعن السدي في الآية قال: فجاء بعد ذلك من مشيئة الله ما نسخها، فأنزل بالمدينة (إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقاً) إلى آخر الآية، فذهب الرجاء لأهل النار أن يخرجوا منها وأوجب لهم خلود الأبد.
وقوله: وأما الذين سعدوا؛ الآية، فجاء بعد ذلك من مشيئة الله ما نسخها، فأنزل بالمدينة (والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات) -إلى قوله- (ظلاًّ ظليلاًّ)، فأوجب لهم خلود الأبد.
وعن أبي نضرة قال: ينتهي القرآن كله إلى هذه الآية، يعني (إن ربك فعال لما يريد) وفي المناوي الكبير على الجامع الصغير ما نصه:
تنبيه: ما ذكرته آنفا من أن عذاب الكفار في جهنم دائم أبداً هو ما دلت عليه الآيات والأخبار وأطبق عليه جمهور الأمة سلفاً وخلفاً، ووراء ذلك أقوال يجب تأويلها، فمنها ما ذهب إليه الشيخ محيي الدين بن عربي أنهم
وقال في موضع آخر: أن أهل النار إذا أدخلوها لا يزالون خائفين مترقبين أن يخرجوا منها فإذا أغلقت عليهم أبوابها اطمأنوا لأنها خلقت على وفق طباعهم قال الحافظ آبن القيم: وهذا في طرف أي جهة، والمعتزلة القائلون بأنه يجب على الله تعذيب من توعده بالعذاب في طرف آخر، فأولئك عندهم لا ينجو من النار من دخلها أبداً، والقولان مخالفان لما علم بالاضطرار أن الرسول جاء به وأخبر به عن الله.
ومنها قولُ جمع: النارُ تفنى فإنه تعالى جعل لها أمداً تنتهي إليه ثم يزول عذابها لهذه الآية، وقوله تعالى (لابثين فيها أحقاباً) قال هؤلاء: وليس في القرآن دلالة على بقاء النار وعدم فنائها، إنما الذي فيه أن الكفار خالدون فيها وأنهم غير خارجين منها وأنه لا يفتر عنهم عذابها وأنهم لا يموتون، وأن عذابهم فيها مقيم وأنه غرام لازم، وهذا لا نزاع فيه من الصحابة والتابعين، إنما النزاع في أمر آخر وهو أن النار أبدية أو مما كتب عليه الفناء، وأما كون الكفار لا يخرجون منها ولا يدخلون الجنة فلم يختلف فيه أحد من أهل السنة.
وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله القول بفنائها عن جمع من الصحابة والتابعين، وقد نصر هذا القول ابن القيم كشيخه ابن تيمية وهو مذهب متروك وقول مهجور لا يصار إليه ولا يعول عليه، وقد أول ذلك كله الجمهور، وأجابوا عن الآيات المذكورة بنحو عشرين وجهاً وعما نقل أولئك الصحب بأن معناه ليس فيها أحد من عصاة المؤمنين، أما مواضع الكفار فهي ممتلئة منهم لا يخرجون عنها أبداً كما ذكر الله في آيات كثيرة، انتهى كلامه.
وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن إبراهيم قال: ما في القرآن آية أرجى لأهل النار من هذه الآية (خالدين فيها) الخ. قال: وقال ابن مسعود: ليأتين عليها زمان تخفق أبوابها، وروى أحمد عن ابن عمرو بن العاص: ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد، وحكاه البغوى وغيره عن أبي هريرة وغيره وأخرج ابن جرير عن الشعبي قال: جهنم أسرع الدارين عمراناً وأسرعهما خراباً، وعن قتادة قال: الله أعلم بتثنيته على ما وقعت. وقد روى عن جماعة من السلف مثل ما ذكره ابن مسعود وعمر وأبو هريرة كابن عباس وابن عمر وجابر وأبي سعيد من الصحابة. وعن أبي مجلز وعبد الرحمن بن زيد ابن أسلم وغيرهما من التابعين، وورد في ذلك حديث في معجم الطبراني الكبير عن أبي أمامة صدى بن عجلان الباهلي وإسناده ضعيف.
وقد ثبت بذلك صحة ما نقله شيخ الإسلام ابن تيمية عن هؤلاء وانتصره الحافظ ابن القيم، ووضح وهن ما قاله ابن حجر والمناوي عليهما وإن كان لا شك في أن الراجح هو الأول. ولقد تكلم صاحب الكشاف في هذا الموضع بما كان له في تركه سعة وفي السكوت: عنه غنى فقال:
ولا يخدعنك قول المجبرة أن المراد بالاستثناء خروج أهل الكبائر من النار، فإن الاستثناء الثاني ينادي على تكذيبهم ويسجل بافترائهم، وما ظنك بقوم نبذوا كتاب الله لما روى لهم بعض النوابت عن ابن عمرو: ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد.
ثم قال: وأقول ما كان لابن عمرو في سيفيه ومقاتلته بهما علي بن أبي
قال الشوكاني: وأقول أما الطعن على من قال بخروج أهل الكبائر من النار فالقائل بذلك يا مسكين رسول الله (- ﷺ -) كما صح عنه في دواوين الإسلام التي هي دفاتر السنة المطهرة وكما صح عنه في غيرها من طريق جماعة من الصحابة يبلغون عدد التواتر، فما لك والطعن على قوم عرفوا ما جهلته وعملوا بما أنت عنه في مسافة بعيدة، وأي مانع من حمل الاستثناء على هذا الذي جاءت به الأدلة الصحيحة الكثيرة كما ذهب إلى ذلك وقال به جمهور العلماء من السلف والخلف.
وأما ما ظننته من أن الاستثناء الثاني ينادي على تكذيبهم ويسجل بافترائهم فلا مناداة ولا مخالفة، وأي مانع من حمل الاستثناء في الموضعين على العصاة من هذه الأمة فالاستثناء الأول يحمل على معنى إلا ما شاء ربك من خروج العصاة من هذه الأمة من النار والاستثناء الثاني يحمل على معنى إلا ما شاء ربك من عدم خلودهم في الجنة كما يخلد غيرهم، وذلك لتأخر دخولهم إليها مقدار المدة التي لبثوا فيها في النار وقد قال بهذا من أهل العلم من قدمنا ذكره، وبه قال ابن عباس حبر الأمة.
وأما الطعن على صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحافظ سنته وعابد الصحابة عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنه فإلى أين يا محمود أتدري. ما صنعت، وفي أي واد وقعت، وعلى أي جنب سقطت، ومن أنت حتى تصعد إلى هذا المكان وتتناول نجوم السماء بيدك القصيرة ورجلك العرجاء، أما كان لك في مِكسَرَي طِلبَتك من أهل النحو واللغة ما يردك عن الدخول فيما لا تعرف والتكلم بما لا تدري، فيالله العجب ما يفعل القصور في علم الرواية والبعد عن معرفتها إلى أبعد مكان من الفضيحة لمن لم يعرف قدر نفسه ولا أوقفها حيث أوقفها الله سبحانه.
قال السمين: قرأ الأخوان وحفص بضم السين والباقون بفتحها فالأولى من قولهم سعده الله أي أسعده حكى الفراء عن هذيل أنها تقول كذلك، قال الأزهري: سعد فهو سعيد كسلم فهو سليم وسعد فهو مسعود، وقال أبو عمرو بن العلاء: يقال سعد الرجل كما يقال حسن، وقيل سعده لغة مهجورة وقد ضعف جماعة قراءة الأخوين، وفي المصباح: سعد فلان يسعد من باب تعب في دين أو دنيا سعداً وبالمصدر سمى ومنه سعد بن عبادة والفاعل سعيد والجمع سعداء ويعدى بالحركة في لغة فيقال سعده الله يسعده بفتحتين فهو مسعود، وقرئ في السبعة بهذه اللغة في هذه الآية بالبناء للمفعول والأكثر أن يتعدى بالهمزة فيقال أسعده الله وسعد بالضم خلاف شقي.
(ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض) معنى الآية كما مر في قوله، وأما الذين شقوا (إلا ما شاء ربك) من الزيادة التي لا منتهى لها فالمعنى خالدين فيها أبداً وقد عرف من الأقوال المتقدمة ما يصلح لحمل هذا الاستثناء عليه ولا يستقيم إلا على التأويل المذكور في الوجه الخامس والسابع وما بعده (عطاء) اسم مصدر والمصدر في الحقيقة الإعطاء أو يكون مصدراً
قال القاضي: وهو تصريح بأن الثواب لا ينقطع وتنبيه على أن المراد من الاستثناء في الثواب ليس الانقطاع ولأجله فرق بين الثواب والعقاب في التأبيد انتهى، قال الخفاجي: وقع لبعضهم هنا أن النار ينقطع عذابها بخلاف نعيم أهل الجنة وأورد فيه حديثاً عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وقد تقدم، قال ابن الجوزي: أنه موضوع وأشار لنحو منه الزمخشري إلا أنه تكلم في ابن عمرو كلاماً لا ينبغي ذكره انتهى.
وقد ثبت بالنصوص القاطعة أن لا وجود لذلك فيقدر الخلود، ولا يتوهم جواز التعارض بين هذه وبين النصوص الدالة على عدم الخلود لأن المحتمل لا يعارض القطعي.
ولما فرغ الله سبحانه من أقاصيص الكفرة وبيان حال السعداء والأشقياء سلّى رسول الله ﷺ بشرح أحوال الكفرة من قومه في ضمن النهي عن الامتراء فقال
وقيل المعنى لا تك في شك من بطلان ما يعبد هؤلاء من الأصنام، وقيل لا تك في شك من سوء عاقبتهم ولا مانع من الحمل على جميع هذه المعاني
ثم بين له سبحانه بقوله (ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم) أن معبودات هؤلاء كمعبودات آبائهم وأن عبادتهم كعبادة آبائهم (من قبل) وفي هذا الاستئناف تعليل للنهي عن الشك والمعنى أنهم سواء في الشرك بالله وعبادة غيره فلا يكن في صدرك حرج مما تراه من قومك فهم كمن قبلهم من طوائف البشر وفي الخازن يعني أنه ليس لهم في عبادة هذه الأصنام مستند إلا تقليد آبائهم انتهى. وجاء بالمضارع في كما يعبد لاستحضار الصورة.
ثم بين له أنه مجازيهم بأعمالهم فقال (وإنا لموفوهم نصيبهم) من العذاب (غير منقوص) لا ينقص ذلك شيء وانتصاب غير على الحالى والتوفية لا تستلزم عدم النقص فقد يجوز أن يوفى وهو ناقص كما يجوز أن يوفى وهو كامل، قال القاضي كالزمخشري: فإنك تقول وفيته حقه وتريد به وفاء بعضه ولو مجازاً انتهى.
وأنت خبير بأنه إذا لم تكن قرينة المجاز قائمة كما في هذا المقام لا تكون الحال إلا للتأكيد لأن التوفية تقتضي الإكمال فقد استفيد معناها من عاملها وهو شأن المؤكدة وفائدته دفع توهم التجوز، قال بعضهم: وجعلها مقيدة له لدفع احتمال كونه منقوصاً في حد نفسه مبني على الذهول عن كون العامل هو التوفية تأمل قاله الكرخي، وقيل المراد نصيبهم من الرزق وقيل ما هو أعم من الخير والشر.
(ولولا كلمة) الإنظار إلى يوم القيامة أي الحكم الأزلي بتأخير عذابهم (سبقت من ربك) لما علم في ذلك من الصلاح (لقضي بينهم) أي بين قومك أو بين قوم موسى فيما كانوا فيه مختلفين فأثيب المحق وعذب المبطل وعذبوا في الحال وفرغ من عذابهم وإهلاكهم والكلمة هي أن رحمته سبحانه سبقت غضبه فأمهلهم ولم يعاجلهم لذلك وقيل أن الكلمة هي أنهم لا يعذبون بعذاب الاستئصال وهذا من جملة التسلية له صلى الله عليه وسلم.
ثم وصفهم بأنهم في شك من الكتاب فقال (وإنهم لفي شك منه) أي من القرآن أن حمل على قوم محمد ﷺ أو من التوراة أن حمل على قوم موسى (مريب) موقع في الريبة من أراب إذا حصل الريب لغيره أو صار هو في نفسه ذا ريب ثم جمع الأولين والآخرين في حكم توفية العذاب لهم أو هو والثواب فقال:
قرأ بعضهم إن ولما مخففتين وبعضهم خفف إن وثقل لما وبعضهم شددهما وبعضهم شدد إن وخفف لما فهذه أربع قراءات في هذين الحرفين وكلها متواترة سبعية قال: والرابعة وهي تشديد إن وتخفيف لما فواضحة جداً وقرئ شاذاً وإن كل بتخفيف إن ورفع كل ولما بالتشديد، وهي قراءة الحسن البصري وعليها فلما بمعنى إلا انتهى ملخصاً وقرئ أيضاً شاذاً قراءات أخر فلتراجع في السمين وغيره.
(إنه بما تعملون) أيها المختلفون (خبير) لا يخفي عليه منه شيء والجملة تعليل لما قبلها وفيه وعد للمحسنين المصدقين ووعيد للمكذبين الكافرين.
ثم أمر سبحانه رسوله ﷺ بكلمة جامعة لأنواع الطاعة له سبحانه فقال
قال قتادة: أمره أن يستقيم على أمره ولا يطغى في نعمته، وقال سفيان: استقم على القرآن، وعن الحسن قال: لما نزلت هذه الآية قال: شمروا شمروا فما رئي ضاحكاً قال أبو السعود: وبالجملة فهذا الأمر منتظم لجميع محاسن الأحكام الأصلية والفرعية والكمالات النظرية والعملية والخروج عن عهدته في غاية ما يكون من الصعوبة ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: شيبتني سورة هود (١).
(و) ليستقم (من تاب معك) أي آمن ورجع عن الكفر إلى الإسلام
_________
(١) الترمذي، تفسير سورة، ٥٦/ ٦.
وعن سفيان الثقفي قال: قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك قال: قل آمنت بالله ثم استقم (١) أخرجه مسلم أقول هي تشمل العقائد والأعمال والأخلاق فإنها في العقائد اجتناب التشبيه والتأويل والتعطيل والصرف عن الظاهر وفي الأعمال الاحتراز عن الزيادة والنقصان والبدع والمحدثات والتغيير للكتاب والتبديل للسنن والتقليد للرجال وللآراء وفي الأخلاق التباعد عن طرفي الإفراط والتفريط وهذا في غاية العسر وبالله التوفيق وهو المستعان.
(ولا تطغوا) الطغيان مجاوزة الحد لما أمر الله سبحانه بالاستقامة المذكورة بين أن الغلو في العبادة والإفراط في الطاعة على وجه يخرج به عن الحد الذي حده والمقدار الذي قدره ممنوع منه منهى عنه وذلك كمن يصوم ولا يفطر ويقوم الليل ولا ينام ويترك الحلال الذي أذن الله به ورغب فيه ولهذا يقول الصادق المصدوق فيما صح عنه: " أما أنا فأصوم وأفطر وأقوم وأنام وأنكح النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني " (٢)، والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولأمته تغليباً لحالهم على حاله أو النهي عن الطغيان خاص بالأمة.
قال ابن عباس: لا تطغوا لا تظلموا، وقال العلاء بن عبد الله: لم يرد أصحاب النبي ﷺ إنما عنى الذين يجيئون من بعدهم، وعن ابن زيد الطغيان خلاف أمره وارتكاب معصيته (إنه بما تعملون بصير) يجازيكم على حسب ما تستحقون، والجملة تعليل لما قبلها، قيل ما نزلت آية على رسول الله صلّى الله عليه وسلم هي أشد عليه من هذه الآية.
_________
(١) مسلم، ٣٨.
(٢) النسائي، كتاب النكاح، باب ٤.
(ولا تركنوا إلى الذين ظلموا) قرئ بفتح الكاف وضمها وهي لغة تميم وقيس والأول لغة أهل الحجاز، قال أبو عمرو: ولغة تميم بكسر التاء وفتح الكاف، وهم يكسرون حرف المضارعة في كل ما كان من باب علم يعلم، قال الأزهري: وليست بالفصيحة وركن يركن بفتحتين وليست بالأصل، بل من تداخل اللغتين.
وقال الراغب: والصحيح إنه يقال بالفتح فيهما وبالكسر في الماضي والفتح في المضارع؛ وبالفتح في الماضي والضم في المضارع، وقرئ على البناء للمفعول من أركنه، وقال في الصحاح: ركن إليه يركن بالضم، وحكى أبو زيد: ركن إليه بالكسر يركن ركوناً فيهما، أي مال إليه وسكن، قال الله تعالى (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا) وأما بالفتح فيهما فإنما هو على الجمع بين اللغتين. اهـ.
وقال في شمس العلوم: الركون السكون، وقال في القاموس: ركن إليه كنصر وعلم ومنع ركوناً مال وسكن. اهـ، فهؤلاء الأئمة من رواة اللغة فسروا الركون بمطلق الميل والسكون من غير تقييد بما فيده به صاحب الكشاف حيث قال: فإن الركون هو الميل اليسير.
وهكذا فسره المفسرون بمطلق الميل والسكون من غير تقييد إلا من كان من المتقيدين بما ينقله صاحب الكشاف، ومن المفسرين من ذكر في تفسير الركون قيوداً لم يذكرها أئمة اللغة.
قال القرطبي في تفسيره: الركون حقيقة الاستناد والاعتماد والسكون إلى الشيء والرضا به، ومن أئمة التابعين من فسر الركون بما هو أخص من معناه
وقال عبد الرحمن بن زيد: الركون هنا الادهان، وذلك أن لا ينكر عليهم كفرهم، وقال أبو العالية: معناه لا ترضوا أعمالهم، وقال ابن عباس: الركون إلى الشرك ولا تركنوا لا تميلوا ولا تدهنوا. وعن عكرمة: لا تصطنعوهم.
وقد اختلف أيضا الأئمة من المفسرين في هذه الآية هل هي خاصة بالمشركين أو عامة، فقيل خاصة وإن معنى الآية النهي عن الركون إلى المشركين وإنهم المرادون بالذين ظلموا. وقد روي ذلك عن ابن عباس، وقيل إنها عامة في الظلمة من غير فرق بين كافر ومسلم، وهذا هو الظاهر من الآية، ولو فرضنا أن سبب النزول هم المشركون لكان الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
فإن قلت وقد وردت الأدلة الصحيحة البالغة عدد التواتر الثابتة عن رسول الله ﷺ ثبوتاً لا يخفى على من له أدنى تمسك بالسنة المطهرة بوجوب طاعة الأئمة والسلاطين والأمراء حتى ورد في بعض ألفاظ الصحيح أطيعوا السلطان وإن كان عبداً حبشياً رأسه كالزبيبة، وورد وجوب طاعتهم ما أقاموا الصلاة وما لم يظهر منهم الكفر البواح وما لم يأمروا بمعصية الله.
وظاهر ذلك أنهم وإن بلغوا في الظلم إلى أعلى مراتبه وفعلوا أعظم أنواعه مما لم يخرجوا به إلى الكفر البواح فإن طاعتهم واجبة حيث لم يكن ما أمروا به من معصية الله، ومن جملة ما يأمرون به تولي الأعمال لهم والدخول في المناصب الدينية التي ليس الدخول فيها من معصية الله، ومن جملة ما يأمرون به الجهاد وأخذ الحقوق الواجبة من الرعايا، وإقامة الشريعة بين المتخاصمين منهم وإقامة الحدود على من وجبت عليه.
بل ورد أنهم يعطون الذي لهم من الطاعة وإن منعوا ما هو عليهم للرعايا، كما في بعض الأحاديث الصحيحة: " أعطوهم الذي لهم واسألوا الله الذي لكم " بل ورد الأمر بطاعة السلطان وبالغ في ذلك النبي (- ﷺ -) حتى قال: " وإن أخذ مالك وضرب ظهرك " (١).
فإن اعتبرنا مطلق الميل والسكون فمجرد هذه الطاعة المأمور بها مع ما تستلزمه من المخالطة هي ميل وسكون، وإن اعتبرنا الميل والسكون ظاهراً وباطناً فلا يتناول النهي في هذه الآية من مال إليهم في الظاهر لأمر يقتضى ذلك شرعاً كالطاعة أو للتقية ومخافة الضرر منهم، أو لجلب مصلحة عامة أو خاصة أو دفع مفسدة عامة أو خاصة إذا لم يكن له ميل إليهم في الباطن ولا محبة ولا رضى بأفعالهم.
قلت: أما الطاعة على عمومها بجميع أقسامها حيث لم تكن في معصية الله فهي على فرض صدق مسمى الركون عليها مخصصة لعموم النهي عنه بأدلتها التي قدمنا الإشارة إليها ولا شك في هذا ولا ريب، فكل من أمروه ابتداء أن يدخل في شيء من الأعمال التي أمرها إليهم مما لم يكن من معصية الله كالمناصب الدينية ونحوها إذا وثق من نفسه بالقيام بما وكل إليه فذلك واجب عليه، فضلاً عن أن يقال جائز له.
وأما ما ورد من النهي عن الدخول في الإمارة فذلك مقيد بعدم وقوع الأمر ممن تجب طاعته من الأئمة والسلاطين والأمراء جمعاً بين الأدلة أو مع
_________
(١) مسلم ١٨٤٧ بلفظ: " تسمع وتطيع للأمير. وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع واطع ".
وأما مخالطتهم والدخول عليهم لجلب مصلحة عامة أو خاصة أو دفع مفسدة عامة أو خاصة مع كراهة ما هم عليه من الظلم وعدم ميل النفس إليهم ومحبتها لهم وكراهة المواصلة لهم لولا جلب تلك المصلحة أو دفع تلك المفسدة، فعلى فرض صدق مسمى الركون على هذا فهو مخصص بالأدلة الدالة على مشروعية جلب المصالح ودفع المفاسد، والأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، ولا تخفى على الله خافية.
وبالجملة فمن ابتلى بمخالطة من فيه ظلم فعليه أن يزن أقواله وأفعاله وما يأتي وما يذر بميزان الشرع، فإن زاغ عن ذلك فعلى نفسها براقش تجني، ومن قدر على الفرار منهم قبل أن يؤمر من جهتهم بأمر يجب عليه طاعته فهو الأولى له والأليق به. يا مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين اجعلنا من عبادك الصالحين الأمرين بالمعروف والناهين عن المنكر الذين لا يخافون فيك لومة لائم وقونا على ذلك ويسره لنا وأعنا عليه.
قال القرطبي في تفسيره: وصحبة الظالم على التقية مستثناة من النهي بحال الاضطرار انتهى. وقال النيسابوري في تفسيره: قال المحققون: الركون المنهي، عنه هو الرضا بما عليه الظلمة أو تحسين الطريقة وتزيينها عند غيرهم ومشاركتهم في شيء من تلك الأبواب، فأما مداخلتهم لدفع شيء من الضرر واجتلاب منفعة عاجلة فغير داخلة في الركون.
قال: وأقول هذا من طريق المعاش والرخصة ومقتضى التقوى هو الاجتناب عنهم بالكلية، أليس الله بكاف عبده. اهـ.
(فتمسكم النار) بحرها بسبب الركون إليهم، وفيه إشارة إلى أن
والآية أبلغ ما يتصور في النهي عن الظلم والتهديد عليه، وخطاب الرسول ﷺ ومن معه من المؤمنين تثبيت على الاستقامة التي هي العدل، فإن الميل إلى أحد طرفي الإفراط والتفريط ظلم على نفسه أو غيره انتهى.
(وما لكم من دون الله من أولياء) إن ركنتم إليهم، والمعنى أنها تمسكم النار حال عدم وجود من ينصركم وينقذكم منها، ونفى الأولياء ليس بطريق نفي أن يكون لكل واحد منهم أولياء حتى يصدق أن يكون له ولي بل لمكان لكم بطريق انقسام الآحاد على الأحاد لكن لا على معنى نفي استقلال كل منهم بنصير بل على معنى نفي أن يكون لواحد منهم نصير بقرينة المقام.
(ثم لا تنصرون) من جهة الله سبحانه إذ قد سبق في علمه أنه يعذبكم بسبب ركونكم الذي نهيتم عنه فلم تنتهوا عناداً وتمرداً والجملة حالية أو مستأنفة معترضة وأتى بثم هنا تنبيهاً على تراخي رتبة كونهم غير منصورين من جهة الله بعدما أوعدهم بالعذاب وأوجبه عليهم، ويجوز أن يكون منزلاً منزلة الفاء بمعنى الاستبعاد فإنه لما بين أن الله تعالى معذبهم وأن غيره لا ينقذهم أنتج أنهم لا ينصرون أصلاً.
قال: والدليل عليه إجماع الجميع على أن أحد الطرفين الصبح، فدل على أن الطرف الآخر المغرب.
قال الرازي: كثرت المذاهب في تفسير طرفي النهار والأشهر أنهما الفجر والعصر لأن أحد طرفي النهار هو طلوع الشمس والثاني هو غروبها، فالطرف الأول هو صلاة الفجر، والطرف الثاني لا يجوز أن يكون صلاة المغرب لأنها داخلة تحت قوله وزلفاً من الليل فوجب حمل الطرف الثاني على صلاة العصر. (وزلفاً) أي في زلف (من الليل) والزلف الساعات القريبة بعضها من بعض ومنه سميت المزدلفة لأنها منزل بعد عرفة بقرب مكة، وقرئ زلفاً بضم اللام جمع زليف، ويجوز أن يكون واحده زلفة، وقرئ بإسكان اللام، وقرأ مجاهد: زلفى على وزن فعلى، وقرأ الباقون: زلفا بفتح اللام كغرفة وغرف، قال ابن الأعرابي: الزلف الساعات واحدتها زلفة.
(إن الحسنات) أي الواجبة والمندوبة وغيرها على العموم ومن جملتها بل عمادها الصلوات. عن ابن مسعود قال: هي الصلوات الخمس. وزاد ابن عباس والباقيات الصالحات (يذهبن السيئات) على العموم، وقيل المراد بها الصغائر ومعنى يذهبن يكفرنها حتى كأنها لم تكن.
أخرج البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم عن ابن مسعود أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة، فأتى النبي ﷺ فذكر ذلك له كأنه يسأل عن كفارتها، فأنزلت عليه (وأقم الصلاة طرفي النهار) الآية، فقال الرجل يا رسول الله ألي هذه؟ قال: هي لمن عمل بها من أمتي.
وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود وغيرهم عن أبي أمامة أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله أقم في حد الله، مرة أو مرتين، فأعرض عنه؛ ثم أقيمت الصلاة فلما فرغ قال أين الرجل؟ قال أنا ذا، قال أتممت الوضوء وصليت معنا آنفا؟ قال نعم، قال فإنك من خطيئتك كيوم ولدتك أمك فلا تعد وأنزل الله حينئذ على رسوله (وأقم الصلاة طرفي النهار) وفي الباب أحاديث كثيرة بألفاظ مختلفة.
ووردت أحاديث صحيحة أيضاً أن الصلوات الخمس كفارات لما بينهن. وقال مجاهد: الحسنات قول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، والأول أولى، وبه قال ابن المسيب والقرطبي والضحاك وجمهور المفسرين: أي الصلوات الخمس وله تدل الأحاديث.
وقيل معناه أولو بقية من خير يقال فلان على بقية من الخير إذا كان على خصلة محمودة ومنه قولهم في الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا؛ وقيل أنها مصدر بمعنى البقوى، كالتقية بمعنى التقوى أي فهلا كان منهم ذووا بقاء على أنفسهم وصيانة لها من سخط الله وعقابه، وقرئ بتخفيف الياء وهي اسم فاعل من بقي، والتقدير أولو طائفة بقية أي باقية.
(ينهون) قومهم (عن الفساد في الأرض) ويمنعونهم من ذلك لكونهم ممن جمع الله له بين جودة العقل وقوة الدين، وفي هذا من التوبيخ للكفار ما لا يخفى والاستثناء في قوله (إلا قليلاً) منقطع أي لكن قليلاً (ممن أنجبنا منهم) أي من الأمم الماضية وهم أتباع الأنبياء نهوا عن الفساد في الأرض وسائرهم تركوا النهي، وقيل هو متصل لأن في حرف التحضيض معنى النفي فكأنه قال ما كان في القرون أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم إلا أنه يؤدي إلى النصب في غير الموجب وإن كان غير النصب أولى.
قال الزمخشري: إن جعلته متصلاً كان المعنى فاسداً لأن الكلام يؤول إلى أن الناجين لا يحضون على النهي ومن في ممن بيانية لأنه لم ينج إلا الناهون قيل هؤلاء القليل هم قوم يونس لقوله فيما مر إلا قوم يونس، وقيل هم أتباع الأنبياء أهل الحق من الأمم على العموم.
(واتبع الذين ظلموا) أنفسهم بسبب مباشرتهم للفساد وتركهم للنهي عنه (ما أترفوا فيه) أي أنعموا من الشهوات فاهتموا بتحصيل أسبابها وأعرضوا عما وراء ذلك والمترف الذي أبطرته النعمة يقال صبي مترف منعم البدن.
وفي القاموس الترفة بالضم النعمة والطعام والشيء الظريف تخص به صاحبك وترف كفرح تنعم وأترفته النعمة أطغته وأترف فلان أصر على المكر والمترف كمكرم المتروك يصنع ما يشاء ولا يمنع والمتنعم لا يمنع من تنعمه أي صاروا تابعين للنعم التي صاروا بها مترفين من خصب العيش ورفاهية الحال
وقبل المراد بالذين ظلموا، تاركوا النهي ورد بأنه يستلزم خروج مباشري الفساد عن الذين ظلموا وهم أشد ظلماً ممن لم يباشر وكان ذنبه ترك النهي وقرئ واتبع على البناء للمفعول ومعناه اتبعوا جزاء ما أترفوا فيه، قال مجاهد: واتبع الذين ظلموا أي في ملكهم وتجبرهم وتركهم للحق، وقال ابن عباس: أترفوا وأبطروا.
وجملة (وكانوا مجرمين) متضمنة لبيان سبب إهلاكهم أي وكان هؤلاء الذين اتبعوا ما أترفوا فيه مجرمين كافرين والإجرام الآثام والمعنى أنهم أهل إجرام بسبب اتباعهم للشهوات واشتغالهم بها عن الأمور التي يحق الاشتغال بها ويجوز أن تكون معطوفة على واتبع الذين أي اتبعوا شهواتهم وكانوا بسبب ذلك الاتباع مجرمين.
قال الزجاج: يجوز أن يكون المعنى وما كان ربك ليهلك أحداً وهو يظلمه وإن كان على نهاية الصلاح لأن تصرفه في ملكه دليله قوله تعالى (إن الله لا يظلم الناس شيئاً) وقوله: وإن الله ليس بظلام للعبيد (وأهلها
وقيل المراد بالظلم الشرك والباء للسببية أي لا يهلك القرى بسبب إشراك أهلها أي بمجرد الشرك وحده حتى ينضم إليه الفساد في الأرض ومتابعة الهوى كما أهلك قوم شعيب بنقص المكيال والميزان وبخس الناس أشياءهم وأهلك قوم لوط بسبب ارتكابهم للفاحشة الشنعاء وهم مصلحون يتعاطون الحق فيما بينهم لا يظلمون الناس شيئاً وذلك لفرط رحمته ومسامحته في حقوقه تعالى.
ومن ذلك قدم الفقهاء عند تزاحم الحقوق حقوق العباد الفقراء على حقوق الله الغني الحميد وقيل الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم وأنت تدري أن مقام النهي عن المنكرات التي أقبحها الإشراك بالله لا يلائمه فإن الشرك داخل في الفساد في الأرض دخولاً أولياً ولذلك ينهى كل من الرسل الذين قصت أنباؤهم أمته أولاً عن الإشراك ثم عن سائر المعاصي التي كانوا يتعاطونها فالوجه حمل الظلم على مطلق الفساد الشامل للشرك وغيره من أصناف المعاصي وحمل الإصلاح على إصلاحه والإقلاع عنه يكون بعضهم متصدين للنهي عنه وبصنعهم متوجهين إلى الاتعاظ غير مصرين على ما هم عليه من الشرك وغيره من أنواع الفساد.
وقيل المعنى وما كان يهلكهم بذنوبهم وهم مخلصون في الإيمان فالظلم المعاصي على هذا، أخرج الطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والديلمي عن جرير قال: سمعت رسول الله ﷺ يسأل عن تفسير هذه الآية فقال: وأهلها ينصف بعضهم بعضاً، وروي موقوفاً على جرير، قيل والمراد بالهلاك عذاب الاستئصال في الدنيا وأما عذاب الآخرة فهو لازم لهم.
(ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة) أي أهل دين واحد إما أهل ضلالة أو أهل هدى، وقيل معناه جعلهم مجتمعين على الحق غير مختلفين فيه أو مجتمعين على دين الإسلام دون سائر الأديان ولكنه لم يشأ ذلك فلم يكن ولهذا قال:
(ولا يزالون مختلفين) في ذات بينهم على أديان شتى ما بين يهودي ونصراني ومجوسي ومشرك ومسلم فكل هؤلاء قد اختلفوا في أديانهم اختلافاً كثيراً لا ينضبط، وقيل مختلفين في الحق أو دين الإسلام وقيل مختلفين في الرزق فهذا غني وهذا فقير، وعن ابن عباس في الآية قال: أهل الحق وأهل الباطل. عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: " افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة أو اثنتين وسبعين والنصارى كذلك وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة " (١).
أخرجه أبو داود والترمذي بنحوه عن معاوية قال: قام فينا رسول الله (- ﷺ -) فقال: " ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثتتين وسبعين فرقة وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة " (٢)، أخرجه أبو داود.
قال الخطابي: فيه دلالة على أن هذه الفرق غير خارجة عن الملة والدين إذ جعلهم من أمته، وقال غيره: المراد بها أهل البدع والأهواء الذين تفرقوا واختلفوا وظهروا بعده كالخوارج والقدرية والمعتزلة والرافضة وغيرهم والمراد بالواحدة هي فرقة السنة والجماعة الذين اتبعوا الرسول في قوله وفعله ولم يقلدوا أحداً في خلافه.
_________
(١) أبو داود كتاب السنة باب ١.
(٢) أبو داود كتاب السنة باب ١.
(إلا من رحم ربك) أي إلا أهل رحمته فإنهم لا يختلفون وعن عطاء ابن أبي رباح قال: لا يزالون مختلفين أي اليهود والنصارى والمجوس والحنيفية وهم الذين رحم ربك. وقال الحسن: الناس مختلفون على أديان شتى إلا من رحم ربك فمن رحم ربك غير مختلف.
وعن مجاهد قال: من اختلف أهل الباطل ومن رحم أهل الحق فمن الله عليهم بالتوفيق والهداية إلى الدين الحق، فإنهم لم يختلفوا أو إلا من رحم ربك من المختلفين في الحق أو دين الإسلام بهدايته إلى الصواب الذي هو حكم الله وهو الحق الذي لا حق غيره أو إلا من رحم ربك بالقناعة والأولى تفسير لجعل الناس أمة واحدة بالمجتمعة على الحق حتى يكون معنى الاستثناء في إلا من رحم واضحاً غير محتاج إلى تكلف.
(ولذلك) أي ولما ذكر من الاختلاف أو ولرحمته وصح تذكير الإشارة إلى الرحمة لكون تأنيثها غير حقيقي، والضمير في (خلقهم) إن كان راجعاً إلى الناس فالإشارة إلى الاختلاف واللام للعاقبة أو إليه وإلى الرحمة، وإن كان إلى من فإلى الرحمة، وقيل الإشارة بذلك إلى مجموع الاختلاف والرحمة ولا مانع من الإشارة بها إلى شيئين كما في قوله (عوان بين ذلك) وقوله (وابتغ بين ذلك سبيلاً) وقوله (فبذلك فليفرحوا) قال مجاهد: خلقهم للرحمة وعن عكرمة نحوه وقال ابن عباس: خلقهم فريقين، فريقاً يرحم فلا يختلف، وفريقاً لا يرحم فيختلف فذلك قوله فمنهم شقي وسعيد.
وقال الحسن وعطاء: خلقهم للاختلاف، وقال أشهب: سألت مالك بن أنس عن هذه الآية فقال: خلقهم ليكون فريق في الجنة وفريق في السعير. وقال الفراء: خلق أهل الرحمة للرحمة وأهل الاختلاف للاختلاف.
وقد أخبر أن أهل الرحمة لا يختلفون فقال تعالى (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك) ولذلك يوجد أتبع الناس للرسول أقلهم اختلافاً كأهل الحديث والسنة فإنهم أقل اختلافاً من جميع الطوائف، ثم من كان إليهم أقرب كان من الاختلاف أبعد، فأما من بعد عن السنة كالمعتزلة والرافضة فتجدهم أكثر الطوائف اختلافاً، وأما اختلاف الفلاسفة فلا يحصره أحد.
وقد ذكر أبو الحسن الأشعري في كتاب المقالات مقالات غير الإسلاميين عنهم من المقالات ما لم يذكره الفارابي وابن سينا وأمثالهما، وكذلك القاضي أبو بكر بن الطيب في كتاب الدقائق الذي رد فيه على الفلاسفة والمنجمين، ورجح فيه منطق المتكلمين من العرب على منطق اليونان.
وكذلك متكلمة المعتزلة والشيعة وغيرهم في ردهم على الفلاسفة ذكروا أنواعاً من المقالات وردوها ولكن مذهب الفلاسفة الذي نصره الفارابي وابن سينا وأمثالهما كالسهروردي المقتول على الزندقة وكأبي بكر بن الصائغ وابن رشد الحفيد هو مذهب المشائين أتباع ارسطو صاحب المنطق وهو الذي يذكره الغزالي في كتاب مقاصد الفلاسفة، وعليه رد في التهافت، وهو الذي يذكره الرازي في الملخص والمباحث المشرقية ويذكره الآمدي في دقائق الحقائق ورموز الكنوز وغير ذلك.
وعلى طريقتهم مشى أبو البركات صاحب المعتبر لكن لم يقلدهم تقليد غيره بل اعتبر ما ذكروه بحسب نظره وعقله، وكذلك الرازي والآمدي
والفلاسفة طوائف كثيرون وبينهم اختلاف كثير في الطبيعيات والإلهيات وفي الهيئة أيضاً وأول من خلط منطقهم بأصول المسلمين أبو حامد الغزالي وتكلم فيه علماء المسلمين بما يطول ذكره، وهذا الرد عليهم مذكور في كثير من كتب أهل الكلام.
والفلاسفة ليسو أمة واحدة لها مقالة في العلم الآلهي والطبيعي وغيرهما بل هم أصناف متفرقون وبينهم من التفرق والاختلاف ما لا يحصيه إلا الله أعظم مما بين الملة الواحدة كاليهود والنصارى أضعافا مضاعفة.
والمقصود أن نظار المسلمين ما زالوا يصنفون في الرد عليهم في المنطق وغير المنطق ويثبتون خطأهم فيما ذكروه جميعاً إذ لا يحكم بين الناس فيما تنازعوا فيه إلا كتاب منزل ونبي مرسل كما قال تعالى (وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) ولهذا قال تعالى (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً) انتهى المقصود بتصرف في العبارة.
وحاصل الآية إن الله خلق أهل الباطل وجعلهم مختلفين، وخلق أهل الحق وجعلهم متفقين وحكم على بعضهم بالاختلاف ومصيرهم إلى النار وحكم على بعضهم بالرحمة ومصيرهم إلى الجنة وهم أهل الاتفاق.
ويدل لصحة هذا قوله (وتمت كلمة ربك) أي ثبتت كما قدره في أزله وإذا تمت وحقت ووجبت وامتنعت من التغيير والتبديل وقيل الكلمة هي قوله للملائكة (لأملأن جهنم من الجنة) أي الجن والتاء للمبالغة (والناس أجمعين) أي ممن يستحقها من الطائفتين.
(وجاءك في هذه) أي السورة قاله ابن عباس وأبو موسى الأشعري وسعيد بن جبير والحسن وعليه الأكثر: أو في هذه الدنيا قاله قتادة وفيه بعد لأنه لم يجر للدنيا ذكر، وقيل في هذه الآية أو في هذه الأنباء (الحق) أي البراهين القاطعة الدالة على صحة المبدأ والمعاد.
وقيل النبوة وعلى الأول يكون تخصيص هذه السورة بمجيء الحق فيها مع كونه قد جاء في غيرها من السور لقصد بيان اشتمالها على ذلك لا بيان كونه موجوداً فيها دون غيرها.
وقيل لأنها جمعت من إهلاك الأمم وشرح حالهم ما لم يجمع غيرها، وقيل خصها بالذكر تشريفاً لها والتعريف في الحق اما للجنس أو للعهد وإنما عرفه
(وموعظة) يتعظ بها الواقف عليها إذا تذكر أحوال الأمم الماضية (وذكرى للمؤمنين) أي يتذكر بها من تفكر فيها منهم، وخص المؤمنين لكونهم المتأهلين للاتعاظ والتذكر.
وقال قتادة: على منازلكم (إنا عاملون) على مكانتنا وحالنا وجهتنا من الإيمان بالحق والاتعاظ والتذكر وفي هذا تشديد للوعيد وتهديد لهم.
وقيل أن غيب السماوات والأرض نزول العذاب من السماء وطلوعه من الأرض، والأول أولى؛ وبه قال أبو علي الفارسي وغيره وأضاف الغيب إلى المفعول توسعاً.
(وإليه يرجع) بالبناء للفاعل يعود وللمفعول يرد (الأمر كله) أي أمر الخلق كلهم في الدنيا والآخرة فيجازي كُلاًّ بعمله فينتقم ممن عصى ويثيب من أطاع.
وقال ابن جريج: فيقضي بينهم بحكم العدل (فاعبده وتوكل عليه) فإنه كافيك كل ما تكره ومعطيك كل ما تحب والفاء لترتيب الأمر بالعبادة
(وما ربك بغافل عما تعملون) بل عالم بجميع ذلك ومجاز عليه إن خيراً فخيراً وإن شراً فشراً، وقرأ أهل المدينة والشام وحفص بالفوقية على الخطاب وهي سبعية والباقون بالتحتية وهم الجمهور:
وأخرج عبد الله بن أحمد وابن الدريس وابن جرير وأبو الشيخ عن كعب الأحبار قال: فاتحة التوراة فاتحة الأنعام وخاتمة التوراة خاتمة هود (ولله غيب السماوات والأرض) إلى آخر الآية.
فاتنا أن نعلق على الآيات التي مرت في سورة هود الواردة في بيان وظيفة الرسل بأوسع مما كتبه المؤلف فرأينا أن نستدركه هنا:
وظيفة الرسل الأساسية هي ما بعثهم الله لأجله من تبليغ رسالته بإنذار من تولى عن الإيمان وعمى، وتبشير من أجاب الدعوة فآمن واهتدى، والشواهد عليها من هذه السورة قوله تعالى في دعوة رسوله خاتم النبيين (إنني لكم منه نذير مبين) وقوله حكاية عن رسوله هود ﷺ فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم.
وموضوع التبليغ هو الدعوة إلى أركان الدين، وعليها مدار سعادة المكلفين في الدنيا والآخرة، وكلها مبطلة لما كان عليه أقوامهم المشركون من أن بينهم وبين الله تعالى وسائط منهم أو من غيرهم من خلقه يقربونهم إليه بجاههم الشخصي ويقضون حوائجهم من جلب نفع أو دفع ضر بشفاعتهم لهم عنده، أو بتصرفهم في خلقه بما خصهم به من خوارق العادات، إلا ما جعله من آياته دليلاً على صدقهم في دعوى الرسالة.
والرسل بشر بمعنى أنهم لا يملكون من أمور العالم شيئاً مما هو فوق كسب البشر، غير ما خصهم الله به من الرسالة دون شؤون ربوبيته، حتى أنهم لا يملكون هداية أحد إلى الدين بالفعل لأن هدايتهم خاصة بالتبليغ والتعليم، وحكاية نوح مع ابنه الكافر حجة في هذا الموضوع واضحة.
والشواهد على هذا في القرآن كثيرة، ومنها في هذه السورة ما علمت من آيات توحيد الربوبية، والرد على مشركي مكه في اقتراحهم مجيء الملك بقوله تعالى (فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل)
ومنها في احتجاج المشركين على رسلهم بأنهم بشر في قصة نوح (فقال الملأ الذين كفروا من قومه: ما نراك إلا بشراً مثلنا) وقد قال مثل هذا سائر أقوام الرسل بعده إلى خاتمهم محمد صلوات الله عليهم أجمعين.
ولو كان أولئك الرسل في عصرهم على غير ما يعهد أقوامهم من البشر بأن كانوا يتصرفون في الكون بالضر والنفع وعلم الغيب لما احتجوا عليهم بأنهم بشر مثلهم كما يدير الذين ضلوا من أقوامهم من بعدهم عما جاءوا به مع دعوى اتباعهم فزعموا أنهم وبعض من وصفوا بالصلاح والولاية من أتباعهم يضرون وينفعون: أحياؤهم وأمواتهم في هذا سواء.
بل يزعمون أنهم أحياء في قبورهم حياة مادية بدنية، يأكلون فيها ويشربون ويسمعون كلام من يدعوهم ويستغيث بهم، ويستجيبون دعاءهم فيها: يخالفون بهذه الدعاوي مئات من آيات القرآن المحكمات في صفات الأنبياء، وكونهم بشراً لا يقدرون على شيء مما لا يقدر عليه البشر.
وقد يحتجون بما ورد فيه من بعض أنباء الغيب في حياة الشهداء البرزخية فيقيسون عليها بأهوائهم حياة أوليائهم رجماً بالغيب وافتراء على الله.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة يوسف علية السلامقيل هي مائة وإحدى عشرة آية وهي مكية كلها وقيل نزلت ما بين مكة والمدنية وقت الهجرة وقال ابن عباس وقتادة: إلا أربع آيات قال القرطبي: قال العلماء: ذكر الله أقاصيص الأنبياء في القرآن وكررها بمعنى واحد في وجوه مختلفة بألفاظ متباينة على درجات البلاغة وقد ذكر قصة يوسف ولم يكررها فلم يقدر فخالف على معارضة ما تكرر ولا على معارضة ما لم يتكرر.
بسم الله الرحمن الرحيم