تفسير سورة هود

حدائق الروح والريحان
تفسير سورة سورة هود من كتاب حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن المعروف بـحدائق الروح والريحان .
لمؤلفه محمد الأمين الهرري . المتوفي سنة 1441 هـ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤) أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٥)﴾.
المناسبة
قوله تعالى في سورة هود: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر أنهم إن أعرضوا، حاق بهم عذاب يوم كبير.. بين في هذه الآية حالهم وصفتهم العجيبة الدالة على إعراض الحيرة والعجز ومنتهى الجهل.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ...﴾ سبب نزولها ما أخرجه البخاري عن ابن عباس قال: كان أناس يستحيون أن ينخلوا فيفضوا بفروجهم إلى السماء، وأن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء، فنزل ذلك فيهم.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿الر﴾ قيل: إنها حروف مقطعة من أوائل الأسماء، فمعناها: أنا الله الرحمن، وقيل: إنها اسم للسورة، وقيل (١): إنها حرف تنبيه، كألا، وتقرأ (٢) كأسمائها ساكنةً فيقال: ﴿ألف لام راء﴾ وقيل معناه: أنا الله أرى. والراجح الأسلم من الأقوال الجارية في أمثال هذه، تفويض علمها إلى الله تعالى. هذا
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
396
القرآن ﴿كِتَابٌ﴾ عظيم الشأن جليل القدر ﴿أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ﴾؛ أي (١): صارت آياته محكمة متقنةً لا نقص فيها ولا نقض لها، كالبناء المحكم من الإحكام، أي: الإتقان ففعله متعد، والمعنى أتقنت آياته لفظًا ومعنى، فلا يحيط بمعنى آيات القرآن غيره تعالى ولم يوجد تركيب بديع الصنع، عديم النظير، نظير القرآن. وقيل معناه: إنها لم تنسخ، بخلاف التوراة والإنجيل، وعلى هذا فيكون هذا الوصف للكتاب باعتبار الغالب، وهو المحكم الذي لم ينسخ. وقيل معناه: أحكمت آياته بالأمر والنهي ﴿ثُمَّ فُصِّلَتْ﴾ بالوعد والوعيد والثواب والعقاب. وقيل: أحكمها الله من الباطل، ثم فصلها بالحلال والحرام. وقيل: أحكمت جملته ثم فصلت آياته. وقيل: ﴿أُحْكِمَتْ﴾ وجمعت في اللوح المحفوظ ﴿ثُمَّ فُصِّلَتْ﴾ بالوحي. وقيل: أحكمها الله تعالى، فليس فيها تناقض، ثم فصلها وبينها. وقيل: أحكمت آياته لفظًا ونظمت نظمًا رائقًا بليغًا، ثم فصلت معنى، وبينت وفسرت.
فإن قلت (٢): كيف عم الآيات هنا بالإحكام، وخص بعضها بالإحكام في قوله: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ﴾؟
قلتُ: إن الأحكام الذي عم به هنا، غير الذي خص به هناك، فمعنى الإحكام العام هنا أنه لا يتطرق إلى آياته التناقض والفساد، كإحكام البناء، فإن هذا الكتاب نسخ جميع الكتب المتقدمة عليه. والمراد بالإحكام الخاص المذكور في قوله: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ﴾ أن بعض آياته منسوخة؛ نسخها بآيات منه أيضًا لم ينسخها غيره. وقيل: أحكمت آياته؛ أي: معظم آياته محكمة، وإن كان قد دخل النسخ على البعض، فأجري الكل على البعض؛ لأن الحكم للغالب وإجراء الكل على البعض مستعمل في كلامه، تقول: أكلت طعام زيد، وإنما أكلت بعضه. والتراخي المستفاد من ﴿ثُمَّ﴾ إما زماني إن فسر التفصيل بالتنجيم بحسب النزول؛ لأنها أحكمت أولًا حين نزلت جملة واحدة، ثم فصلت ثانيًا على حسب المصالح والوقائع، وإما رتبي إن فسر بغيره مما تقدم.
(١) الشوكاني.
(٢) الخازن.
397
قال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى ثُمَّ؟
قلتُ: ليس معناها التراخي في الوقت، ولكن معناها التراخي في الأخبار، كما تقول: هي محكمة أحسن الإحكام، ثم مفصلة أحسن التفصيل، وفلان كريم الأصل، ثم كريم الفعل، انتهى. يعني: إن ثم جاءت لترتيب الأخبار، لا لترتيب الوقوع في الزمان، والمعنى: أخبرنا الله بأن القرآن محكم أحسن الأحكام، مفصل أحسن التفصيل. وقرأ (١) عكرمة والضحاك والجحدري وزيد بن علي وابن كثير في رواية: ﴿ثم فصلت﴾ بفتحتين خفيفة على لزوم الفعل للآيات. قال صاحب "اللوامح": يعني انفصلت وصدرت. وقال ابن عطية فصلت بين المحق والمبطل من الناس. قال الزمخشري وقرىء ﴿أحكمت آياته ثم فصلت﴾، على بناء الفعل للمتكلم المعلوم؛ أي: أحكمتها أنا ثم فصلتها.
وقوله: ﴿مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ لف ونشر مرتب؛ أي: كتاب أحكمت آياته من عند حكيم في جميع أفعاله، ثم فصلت من عند خبير بأحوال عباده وما يصلحهم، عالم بمواقع الأمور، والمعنى: أحكمها حكيم وفصلها خبير؛ أي: شرحها وبينها.
ومعنى الآية (٢): أي هذا كتاب عظيم الشأن، جليل القدر، جعلت آياته محكمة النظم والتأليف، واضحة المعاني، لا تقبل شكًّا ولا تأويلًا ولا تبديلًا، كأنها الحصن المنيع الذي لا يتطرق إليه خلل، وجعلت فصولا متفرقة في سورة تبين حقائق العقائد والأحكام والمواعظ، وجميع ما أنزل له الكتاب من الحكم والفوائد، فكأنها العقد المفصل بالفرائد، ولا عجب فقد أنزلت من لدن حكيم يقدر حاجة عباده، ويعطيهم ما فيه الخير لهم، خبير بعواقب ذلك ومصادره وموارده.
٢ - والأحسن (٣) في قوله: ﴿أَنْ لَا تَعْبُدُوا﴾ أن تكون أن تفسيرية لوجود ضابطها، وهو تقدم جملة فيها معنى القول دون حروفه، وهو قوله: ﴿ثُمَّ فُصِّلَتْ﴾ ويصح أن تكون مصدرية بتقدير الجار؛ أي: هذا كتاب أحكمت آياته وفصلت بأن
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
(٣) الشوكاني.
لا تعبدوا إلا الله؛ أي: نزل هذا القرآن المحكم المفصل لعبادة الله تعالى وحده لا شريك له. والمراد بالعبادة، التوحيد وخلع الأنداد والأصنام وما كانوا يعبدون والرجوع إلى الله تعالى وإلى عبادته، والدخول في دين الإِسلام وهذا كقوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥)﴾. وقل يا محمَّد للناس ﴿إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ﴾؛ أي: من جهة الحكيم الخبير ﴿نَذِيرٌ﴾؛ أي: بعذابه إن عبدتم غير الله تعالى ﴿وَبَشِيرٌ﴾ بثوابه إن تمحضتم في عبادته؛ أي: قل لهم إنني لكم نذير من جهة الله تعالى، أنذركم عقابه إن ثبتم على كفركم ولم ترجعوا عنه ﴿وَبَشِيرٌ﴾ منه أبشر بالثواب الجزيل لمن آمن بالله ورسوله وأطاع وأخلص العمل لله وحده، وهذا بيان لوظيفة الرسالة، ومبين لدعوة الرسول، - ﷺ -.
٣ - وقوله: ﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ﴾ معطوف على ﴿أَنْ لَا تَعْبُدُوا﴾ والكلام في ﴿أَن﴾ هذه كالكلام في التي قبلها. وقوله: ﴿ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ﴾ معطوف على ﴿اسْتَغْفِرُوا﴾ وقدم الإرشاد إلى الاستغفار على التوبة، لكونه وسيلة إليها؛ أي: اطلبوا من ربكم ستر ما سلف منكم من الشرك، ثم أقبلوا إليه بالطاعة والإخلاص: لأن الاستغفار هو طلب الغفر، وهو الستر، والتوبة: الرجوع عما كان فيه من شرك أو معصية إلى خلاف ذلك، فلهذا السبب قدم الاستغفار على التوبة. وقيل معناه: استغفروا لسالف ذنوبكم ثم توبوا إليه في المستقبل. وقيل: استغفروا في الصغائر ثم توبوا إليه في الكبائر. وقال الفراء: ثم هنا بمعنى الواو؛ لأن الاستغفار والتوبة بمعنى واحد فذكرهما للتأكيد.
والمعنى (١): واسألوه أن يغفر لكم ما كان منكم من أعمال الشرك والكفر والإجرام، ثم ارجعوا إليه بإخلاص العبادة له دون غيره، مما تعبدون من دونه من الأصنام والأوثان.
فإن فعلتم ذلك، واستغفرتم من كل ذنب، وتبتم من الإعراض عن هدايته، وتنكب سننه.. ﴿يُمَتِّعْكُمْ﴾ في دنياكم ﴿مَتَاعًا حَسَنًا﴾؛ أي: يطول نفعكم في الدنيا
(١) المراغي.
399
بمنافع حسنة مرضية من سعة الرزق وسعة العيش، فيرزقكم من زينة الدنيا، وينسأ لكم في آجالكم ﴿إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾؛ أي: إلى الوقت الذي قضى عليكم فيه الموت، وهو العمر المقدر لكم في علمه المكتوب في نظام الخليقة، وسنن الاجتماع البشري في عباده، ولا يقطعه بعذاب الاستئصال، ولا بفساد العمران ولا ينقصه ما ينقص من أدمن على الشرك والمعاصي.
وهذه (١) سنة مطردة في ذنوب الأمم، وهي فيها أظهر من ذنوب الأفراد، فالمشاهد أن الأمم التي تصر على الظلم والفسوق والعصيان يهلكها الله تعالى في الدنيا بالضعف والشقاق وخراب العمران، حتى تزول منعتها وتتمزق وحدتها.
ومعنى ﴿يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا﴾؛ أي: يعشكم (٢) عيشًا مرضيًّا إلى وقت مقدر عند الله تعالى، وهو آخر أعماركم، فمن أخلص لله في القول والعمل.. عاش في أمنٍ من العذاب وراحةٍ مما يخشاه، ومن اشتغل بمحبة الله.. كان انقطاعه عن الخلق أكمل، وسروره أتم؛ لأنه أمن من زوال محبوبه، ومن كان مشتغلًا بحب غير الله.. كان أبدًا في ألم الخوف من فوات المحبوب. وقرأ الحسن وابن هرمز وزيد بن علي وابن محيصن ﴿يمتعكم﴾ بالتخفيف من أمتع.
﴿وَيُؤْتِ﴾؛ أي: يعط في الدنيا والآخرة ﴿كُلَّ ذِي فَضْلٍ﴾ في الإِسلام والطاعة ﴿فَضْلَهُ﴾؛ أي: ثواب فضله وجزاءه؛ أي: وإن (٣) تجتنبوا الشرك، وتؤمنوا بالله وتستغفروه.. يمتعكم متاعًا حسنًا، تكونون به خير الأمم نعمة وقوة وعزة، ويعط كل ذي فضل من علم وعمل جزاء فضله، أما في الآخرة فهو مطرد دائمًا، وأما في الدنيا فقد يكون ناقصًا مشوبًا بأكدارٍ، ولا يكون مطردًا لقصر أعمار الأفراد.
فإن قلت (٤): قد ورد في الحديث، أن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، وقد يضيق على الرجل في بعض أوقاته حتى لا يجد ما ينفقه على نفسه وعياله، فكيف الجمع بين هذا وبين قوله سبحانه وتعالى: {يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ
(١) المراغي.
(٢) المراح.
(٣) المراغي.
(٤) الخازن.
400
مُسَمًّى}.
قلتُ: أما قوله - ﷺ -: "الدنيا سجن المؤمن" فهو بالنسبة إلى ما أعد الله له في الآخرة من الثواب الجزيل والنعيم المقيم، فإنه في سجن في الدنيا، حتى يفضي إلى ذلك المعد له، وأما كون الدنيا جنة الكافر فهو بالنسبة إلى ما أعد الله له في الآخرة من العذاب الأليم الدائم، الذي لا ينقطع، فهو في الدنيا في جنة حتى يفضي إلى ما أعد الله له في الآخرة. وأما ما يضيق على الرجل المؤمن في بعض الأوقات، فإنما ذلك لرفع الدرجات وتكفير السيئات وبيان الصبر عند المصيبات، فعلى هذا يكون المؤمن في جميع أحواله في عيشةٍ حسنة، لأنه راضٍ عن الله في جميع أحواله. ثم توعدهم سبحانه على مخالفة الأمر فقال: ﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا﴾؛ أي: وإن تتولوا وتعرضوا عن الإخلاص في العبادة والاستغفار والتوبة ﴿فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ﴾ بموجب الشفقة ﴿عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ﴾؛ أي: شديد عذابه، وهو يوم القيامة، ووصفه بالكبر لما فيه من الأهوال. وقيل: اليوم الكبير يوم بدر.
والمعنى: وإن توليتم وأعرضتم عما دعوتكم إليه، من عبادة الله وحده، وعدم عبادة غيره فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير الهول شديد البأس، فيصيبكم مثل ما أصاب أقوام الرسل الذين عاندوهم، وأصروا على تكذيبهم وعصيانهم، أو قريب منه بعد الرسول والمؤمنين. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وأبو مجلز وأبو رجاء ﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ بضم التاء واللام وفتح الواو مضارع ولّى. والقراءة الأولى مضارع تولّى. وفي كتاب "اللوامح": وقرأ اليماني وعيسى البصري: ﴿وإن تولوا﴾ بثلاث ضمات مبنيًّا للمفعول. وقرأ الأعرج: ﴿تولوا﴾ بضم التاء واللام وسكون الواو مضارع أولى.
٤ - ثم بين سبحانه عذاب اليوم الكبير بقوله: ﴿إِلَى اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى لا إلى غيره ﴿مَرْجِعُكُمْ﴾؛ أي: رجوعكم بالموت ثم البعث ثم الجزاء ﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾ شاءه ﴿قَدِيرٌ﴾، ومن جملة ذلك تعذيبكم على عدم الامتثال؛ أي (١): إليه تعالى رجوعكم بعد موتكم
(١) المراغي.
جميعًا أممًا وأفرادًا، لا يتخلف منكم أحد، وحينئذٍ تلقون جزاءكم بالعدل والقسطاس، وهو سبحانه قدير على كل شيء، من إيصال الرزق إليكم في الدنيا، وثوابكم وعقابكم في الآخرة، وهذه الجملة مقررة لما قبلها.
٥ - ثم أخبر (١) الله سبحانه بأن هذا الإنذار والتحذير والتوعد لم ينجح فيهم، ولا لانت له قلوبهم، بل هم مصرون على العناد مصممون على الكفر، فقال مصدرًا لهذا الإخبار بكلمة التنبيه الدالة على التعجب من حالهم، وأنه ينبغي أن يتنبه له العقلاء ويفهموه: ﴿أَلاَ﴾؛ أي: انتبه يا محمَّد ﴿إِنَّهُمْ﴾؛ أي: إن هؤلاء الكفار الكارهين لدعوة التوحيد ﴿يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ﴾؛ أي: يعطفون صدورهم على ما فيها من الكفر والإعراض عن الحق، فيكون في الكلام كناية عن الإخفاء لما يعتقدونه من الكفر، كما هو دأب المنافقين ﴿لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ﴾؛ أي: ليختفوا من الله سبحانه وتعالى فلا يطلع عليه رسوله ولا المؤمنين، أو ليستخفوا من رسول الله، - ﷺ -، ثم كرر كلمة التنبيه مبينًا للوقت الذي يثنون فيه صدورهم فقال: ﴿أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ﴾؛ أي: انتبه يا محمَّد إنهم يستخفون منه في وقت استغشاء الثياب والتغطية بها، وقد كانوا يقولون: إذا أغلقنا أبوابنا واستغشينا ثيابنا وثنينا صدورنا على عداوة محمَّد.. فمن يعلم بنا. وقيل معنى: حين يستغشون: حين يأوون إلى فراشهم ويتدثرون ثيابهم. وقيل: إنه حقيقة، وذلك إن بعض الكفار كان إذا مر به رسول الله، - ﷺ -، ثنى صدره وولى ظهره واستغشى ثيابه، لئلا يسمع كلام رسول الله، - ﷺ -. والعامل في قوله: ﴿حِينَ يَسْتَغْشُونَ﴾ مقدر وهو يستخفون، ويجوز أن يكون ظرفًا ليعلم؛ أي: ألا يعلم سرهم وعلنهم حين يفعلون كذا، وهذا معنى واضح ذكره في "الفتوحات"؛ أي: تنبه (٢) يا محمَّد إن الكفار يضمرون خلاف ما يظهرون ليستخفوا من الله تعالى حين يغطون رؤوسهم بثيابهم للاستخفاء. عن ابن عباس إن هذه الآية نزلت في الأخنس بن شريق وأصحابه، من منافقي مكة، وكان رجلًا حلو المنطق، حسن المنظر، يظهر لرسول الله، - ﷺ -، المحبة، ويضمر في قلبه العداوة.
(١) الشوكاني.
(٢) المراح.
402
ومعنى الآية (١): أي إن هؤلاء الكافرين الكارهين لدعوة التوحيد يحنون ظهورهم وينكسون رؤوسهم، كأنهم يحاولون طي صدورهم على بطونهم حين سماع القرآن، ليستخفوا منه، - ﷺ -، حين تلاوته فلا يراهم حين نزول هذه القوارع على رؤوسهم. روى ابن جرير وغيره أن ابن شداد، قال: كان أحدهم إذا مر بالنبي، - ﷺ -، ثنى صدره كيلا يراه أحد.
وجملة ﴿يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ مستأنفة لبيان أنه لا فائدة لهم في الاستخفاء؛ لأن الله تعالى يعلم ما يسرونه في قلوبهم، أو في ذات بينهم وما يظهرونه بأفواههم، فالظاهر والباطن عنده سواء، والسر والجهر سيان. وجملة ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ تعليل لما قبلها وذات الصدور هي الضمائر التي تشتمل عليها الصدور. وقيل: هي القلوب، والمعنى: إنه عليم بجميع الضمائر، أو عليم بالقلوب وأحوالها في الإظهار والإسرار، فلا يخفى عليه شيء من ذلك. والأوضح كما مر، أن يكون الظرف متعلقًا بـ ﴿يَعْلَمُ﴾؛ أي (٢): إن ثني صدورهم وتنكيس رؤوسهم، ليستخفوا من الداعي لهم إلى توحيد ربهم، لا يغني عنهم شيئًا، فإن ربهم يعلم ما يسرون ليلًا، حين يستغشون ثيابهم فيغطون بها جميع أبدانهم، ثم ما يلعنون نهارًا، إنه سبحانه وتعالى عليم بأسرار الصدور وخواطر القلوب، فاحذروا أن يطلع عليكم ربكم وأنتم مضمرون في صدوركم الشك في شيء من توحيده أو أمره أو نهيه.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿يَثْنوُنَ﴾ بفتح الياء وضم النون، من ثنى يثني من باب رمى. وقرأ سعيد بن جبير: ﴿يثنون﴾ بضم الياء، مضارع أثنى الرباعي ﴿صُدُورَهُم﴾ بالنصب ولا يعرف في اللغة إلا أن يقال معناه: عرضوها للإثناء، كما تقول: أبعت الفرس إذا عرضته للبيع. وقرأ ابن عباس وعلي بن الحسين وابناه، زيد ومحمد، وابنه جعفر ومجاهد وابن يعمر ونصر بن عاصم وعبد الرحمن بن أبزى والجحدري وابن أبي إسحاق وأبو الأسود الدؤلي وأبو رزين والضحاك؛
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط والعكبري.
403
﴿تثنوني﴾ بالتاء، مضارع اثنوني، على وزن افعوعل نحو: اعشوشب المكان صدورهم، بالرفع بمعنى: تنطوي صدورهم. وقرأ أيضًا ابن عباس ومجاهد وابن يعمر وابن أبي إسحاق: ﴿يثنوني﴾ بالياء، ﴿صدورهم﴾ بالرفع ذكر على معنى الجمع دون الجماعة. وقرأ ابن عباس أيضًا: ﴿ليثنون﴾ بلام التأكيد في خبر إن وحذف الياء تخفيفًا لطول الكلمة، ﴿وصدورهم﴾ بالرفع. وقرأ ابن عباس أيضًا وعروة وابن أبي أبزى والأعشى ﴿يثنون﴾ بياء مفتوحة وسكون الثاء ونون مفتوحة، بوزن يفعوعل من أأثن بني منه افعوعل، وهو ماهش وضعف من الكلأ، وأصله يثنونن، يريد: مطاوعة نفوسهم للشيء كما ينثني الهش من النبات، أو أراد ضعف إيمانهم ومرض قلوبهم، ﴿صدورهم﴾ بالرفع. وقرأ عروة ومجاهد أيضًا كذلك إلا أنه همز فقرأ: ﴿يثنئن﴾ بوزن يطمئن، ﴿وصدورهم﴾ بالرفع. وقرأ الأعشى؛ ﴿يثنؤن﴾ بوزن يفعلون مهموز اللام، ﴿صدورهم﴾ بالنصب. قال صاحب "اللوامح": ولا أعرف له وجهًا؛ لأنه يقال: ثنيت، ولم أسمع ثنأت، ويجوز أنه قلب الياء ألفًا، على لغة من يقول أعطأت في أعطيت، ثم همز على لغة من يقول ولا الضألين. وقرأ ابن عباس: ﴿يثنوي﴾ بتقديم الثاء على النون وبغير نون بعد الواو على وزن ترعوى. قال أبو حاتم: وهذه القراءة غلط لا تتجه، انتهى. وقرأ نصر بن عاصم وابن يعمر وابن أبي إسحاق: ﴿ينثون﴾ بتقديم النون على الثاء، فهذه عشر قراءات في هذه الكلمة. وقرأ ابن عباس: ﴿على حين يستغشون﴾. قال ابن عطية: ومن هذا الاستعمال قول النابغة:
عَلَى حِيْنَ عَاتَبْتُ اَلْمَشِيْبَ عَلَى الصِّبَا وَقُلْتُ أَلَمَّا أَصْحُ وَالشَّيْبُ وَازعُ؟!
الإعراب
﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾.
﴿الر﴾: إن كان مسرودًا على سبيل التعديد كما في سائر فواتح السور.. فلا محل له، وإن كان اسمًا للسورة فهو في محل رفع على أنه مبتدأ، خبره ما بعده، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذا الآتي سورة الر، وعلة بنائه شبهه بالحرف شبهًا وضعيًّا و ﴿كِتَابٌ﴾ يكون على هذا الوجه خبرًا لمبتدأ محذوف،
404
أي: هذا كتاب وكذا على تقدير أن ﴿الر﴾ لا محل له. ويجوز أن يكون ﴿الر﴾ في محل نصب بتقدير فعل يناسب المقام، نحو: اذكر أو اقرأ فيكون ﴿كِتَابٌ﴾ على هذا الوجه خبر مبتدإِ محذوف، تقديره: هذا كتاب والإشارة في المبتدأ المقدر، إما إلى بعض القرآن، أو إلى مجموع القرآن، والجملة من المبتدأ المقدر وخبره مستأنفة. ﴿أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ﴾ فعل ونائب فاعل، والجملة في محل الرفع صفة لـ ﴿كِتَابٌ﴾. ﴿ثم﴾ حرف عطف. ﴿فُصِّلَتْ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿آيَاتُهُ﴾ والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿أُحْكِمَتْ﴾ على كونها صفة لـ ﴿كِتَابٌ﴾. ﴿مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿فُصِّلَتْ﴾ أو هو من باب التنازع، أو صفة ثانية لـ ﴿كِتَابٌ﴾ أو خبر ثان للمبتدأ المحذوف. ﴿خَبِيرٍ﴾ صفة ﴿حَكِيمٍ﴾.
﴿أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ﴾.
﴿أَن﴾: مصدرية. ﴿لَّا﴾ ناهية ﴿تَعْبُدُوا﴾ فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لَّا﴾ الناهية. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿اللَّهَ﴾: مفعول به منصوب، والجملة الفعلية في محل النصب بـ ﴿أَن﴾ المصدرية وجملة ﴿أَن﴾ المصدرية في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: فصلت آياته لترك عبادة غير الله تعالى، أو فصلت بترك عبادة غير الله، ويجوز أن تكون ﴿أَن﴾ تفسيرية؛ لأن في تفصيل الكتاب معنى القول، فكأنه قيل: قال لا تعبدوا إلا الله، أو أمركم أن لا تعبدوا، إلخ وهذا أظهر الأوجه الجارية فيها؛ لأنه لا يحتاج إلى إضمار ذكره في "الفتوحات" ﴿إِنَّنِي﴾ ﴿إنَّ﴾ حرف نصب والنون نون الوقاية؛ لأنها تقي حركة بناء الحرف والياء ضمير المتكلم اسمها. ﴿لَكُمْ﴾: جار ومجرور متعلق بكل من ﴿نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ﴾ ﴿مِنْهُ﴾: جار ومجرور حال منهما؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. ﴿نَذِيرٌ﴾ خبر ﴿إنَّ﴾. ﴿وَبَشِيرٌ﴾ معطوف عليه وجملة ﴿إنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣)﴾.
405
﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ﴾: ناصب وفعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة ﴿أَنْ لَا تَعْبُدُوا﴾ عطف علة على أخرى. ﴿ثُمَّ تُوبُوا﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿اسْتَغْفِرُوا﴾ فهو علة ثالثة. ﴿إِلَيْهِ﴾: متعلق به ﴿ثُمَّ﴾ هنا على بابها من التراخي؛ لأنه يستغفر أولًا، ثم يتوب ويرجع إلى طاعته، ويتجرد من ذلك الذنب المستغفر منه ﴿يُمَتِّعْكُمْ﴾: فعل ومفعول مجزوم بالطلب السابق، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهَ﴾. ﴿مَتَاعًا﴾ منصوب على المفعولية المطلقة. ﴿حَسَنًا﴾: صفة له وهذا مرتب على قوله: ﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا﴾ والجملة الفعلية جواب الطلب، لا محل لها من الإعراب. ﴿إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾: جار ومجرور وصفة متعلق بـ ﴿يمتع﴾ ﴿وَيُؤْتِ﴾: فعل مضارع معطوف على ﴿يمتع﴾ وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهَ﴾ وهذا مرتب على قوله: ﴿ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ﴾ كما في "الجمل". ﴿كُلَّ ذِي فَضْلٍ﴾: مفعول أول، ومضاف إليه. ﴿فَضْلَهُ﴾: مفعول ثانٍ، لأن آتى هنا بمعنى: أعطى. ﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿إن﴾ حرف شرط. ﴿تَوَلَّوْا﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿إن﴾ الشرطية؛ لأن أصله تتولوا بتاءين، والواو فاعله. ﴿فَإِنِّي﴾ الفاء رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية وجوبًا. ﴿إِنِّي﴾ ناصب واسمه ﴿أَخَافُ﴾: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على محمَّد. ﴿عَلَيْكُمْ﴾: متعلق به. ﴿عَذَابَ يَوْمٍ﴾: مفعول به، ومضاف إليه. ﴿كبَير﴾ صفة لـ ﴿يَوْمٍ﴾ وقيل: صفة لـ ﴿عَذَابَ﴾ فهو منصوب، وإنما خفض على الجوار، كقولهم: هذا جحر ضب خرب، بجر خرب، وهو صفة لجحر، اهـ "سمين". وجملة ﴿أَخَافُ﴾ في محل الرفع خبر ﴿إنَّ﴾ وجملة ﴿إنَّ﴾ في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها وجملة ﴿إن﴾ الشرطية مستأنفة.
﴿إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤)﴾.
﴿إِلَى اللَّهِ﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿مَرْجِعُكُمْ﴾: مبتدأ مؤخر والجملة مستأنفة. ﴿وَهُوَ﴾ مبتدأ. ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿قَدِيرٌ﴾ ﴿قَدِيرٌ﴾: خبر المبتدأ والجملة في محل النصب حال من الجلالة، والعامل فيه الاستقرار الذي تعلق به الخبر.
{أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ
406
وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٥)}.
﴿أَلَاَ﴾: حرف تنبيه ﴿إِنَّهُمْ﴾ ناصب واسمه. ﴿يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول، وجملة ﴿يَثْنُونَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿إنَّ﴾ وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة ﴿لِيَسْتَخْفُوا﴾ اللام: حرف جر وتعليل ﴿يستخفوا﴾: فعل وفاعل منصوب بـ ﴿أَن﴾ مضمرة جوازًا بعد لام كي. ﴿مِنْهُ﴾ متعلق به، والجملة الفعلية مع ﴿أَن﴾ المصدرية في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: لاستخفائهم منه الجار والمجرور متعلق بـ ﴿يَثْنُونَ﴾. ﴿ألاَ﴾: حرف تنبيه كررت للتأكيد. ﴿حِينَ﴾ منصوب على الظرفية، والظرف متعلق بـ ﴿يستخفوا﴾ أو متعلق بـ ﴿يَعْلَمُ﴾ الآتي، وهو أوضح كما مر ﴿يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿حِينَ﴾ ﴿يَعْلَمُ مَا﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّه﴾ والجملة مستأنفة. ﴿يُسِرُّونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: يعلم ما يسرونه. ﴿وَمَا يُعْلِنُونَ﴾: معطوف على ﴿مَا يُسِرُّونَ﴾. ﴿إِنَّهُ﴾ ناصب واسمه ﴿عَلِيمٌ﴾ خبره ﴿بِذَاتِ﴾ ﴿الصُّدُور﴾ متعلق بعليم وجملة ﴿إنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. والله أعلم.
التصريف ومفردات اللغة
﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ﴾ ماض مبني للمجهول، من أحكم الرباعي يحكم إحكامًا، إذا أتقنه، وإحكام البناء كالقصر والحصن: إتقانه حتى لا يقع فيه خلل. ﴿ثُمَّ فُصِّلَتْ﴾ مبني للمجهول أيضًا، من فصّل المضعف، يفصل تفصيلًا، وتفصيل العقد بالفرائد: جعل خرزة أو مرجانة بلون بين كل خرزتين من لون آخر، وفي "السمين" قوله: ﴿أُحْكِمَتْ﴾ الهمزة فيه يجوز أن تكون للنقل من حكم بضم الكاف؛ أي: صار حكيمًا بمعنى: جعلت حكيمة كقوله تعالى: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ﴾ ويجوز أن يكون من قولهم: أحكمت الدابة: إذا وضعت عليها الحكمة لمنعها من الجماح، فالمعنى: إنها منعت من الفساد، ويجوز أن تكون لغير النقل من الإحكام، وهو الإتقان، كالبناء المحكم المرصف والمعنى: إنها نظمت نظمًا رصيفًا متقنًا، اهـ.
407
﴿أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ﴾ ﴿أَلَّا﴾ هذه (١) تكتب موصولة: أي: لا يفصل بين الألف ولا النافية بالنون، كما ذكره ابن الجزري، فصنيع الشارح السيوطي معترض حيث أنه أثبت نونًا حمراء، حيث قال: أن فأثبت الألف والنون بالحمرة، فيقتضي أن النون من رسم القرآن، فكان عليه أن يقول: ﴿ألا﴾ بقلم الحمرة ثم يقول؛ أي: بأن لا بإثبات النون في التفسير. وعبارة ابن الجزري مع شرحها لشيخ الإِسلام: فاقطع بعشر كلمات يعني فاقطع كلمة ﴿أَن﴾ الناصبة للاسم أو للفعل، بأن ترسمها مقطوعة عن لا النافية في عشرة مواضع وهي: ﴿أَن لَّا﴾ مع ملجأ في سورة التوبة و ﴿أن لا إله إلا هو﴾ في سورة هود و ﴿أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ﴾ في الموضع الثاني من سورة هود، بخلافه في أولها وهو ما هنا فإنه موصول، اهـ.
﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ والظاهر أن ﴿تَوَلَّوْا﴾ مضارع حذف منه التاء أي: وإن تتولوا؛ لأنه من باب، تفعل الخماسي. ﴿يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا﴾ مضارع، متع المضعف يمتع تمتيعًا إذا أنعم، والمتاع اسم مصدر لمتع، والمتاع كل ما ينتفع به في المعيشة، وحاجة البيوت ومواعينه، والإمتاع أصله: الإطالة ومنه: أمتع الله بك؛ أي: يعيشكم معيشة طيبة ﴿إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ والأجل المسمى: هو العمر المقدر ﴿وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ﴾ من آتى الرباعي يؤتي إئتاءً، إذا أعطى، فهو يتعدى إلى مفعولين. ﴿إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ﴾ والمرجع مصدر ميمي؛ من رجع فهو بمعنى الرجوع ﴿أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ﴾ ثنى الشيء: عطف بعضه على بعض، فطواه وإثناء الثوب إطواؤه، وثناه عنه: لواه وحوله؛ وثناه عليه: أطبقه وطواه، ليخفيه فيه، وثنى عنانه عنّي: تحول وأعرض، وأصل ﴿يَثْنُونَ﴾ يثنيون (٢)؛ لأنه من ثنى يثني ثنيًا من باب رمى يرمي رميًا، فالمصدر الثني نقلت ضمة الياء إلى النون قبلها، ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين، فوزنه يفعون كيرمون؛ لأن الياء المحذوفة هي لام الكلمة. ﴿لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ﴾ والاستخفاء محاولة الخفاء، والمعنى: أنهم يفعلون ثني الصدر لهذه العلة، اهـ "سمين". {حِينَ يَسْتَغْشُونَ
(١) الفتوحات.
(٢) الفتوحات.
408
ثِيَابَهُمْ} واستغشى الثوب: إذا تغطى به، كما قال حكايةً عن نوح، عليه السلام: ﴿وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا﴾ والمعنى: يتغطون بها للاستخفاء. وفي "القاموس": واستغشى ثوبه: تغطى به كي لا يسمع ولا يرى.
البلاغة
تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة:
منها: جناس الاشتقاق بين قوله: ﴿أُحْكِمَتْ﴾ وقوله: ﴿حَكِيمٍ﴾.
ومنها: اللف والنشر المرتب في قوله: ﴿أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾؛ لأن المعنى أحكمها وفصلها خبير، كما في "الشوكاني".
ومنها: الكناية في قوله: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ﴾؛ لأن ثني الصدور كناية عن الإعراض.
ومنها: إضافة العذاب إلى اليوم الكبير للتهويل والتفظيع.
ومنها: الطباق بين ﴿مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع (١).
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(١) انتهى المجلد الثاني عشر ويليه المجلد الثالث عشر بإذن الله تعالى.
409
شعر
العَبْدُ ذُو ضجَرٍ والربُّ ذُو قدَرٍ والدَّهْرُ ذُو دُوَلٍ والعِلْمُ مَقْسُوم
والخَيْرُ أجْمعُ فيما اخْتار خالِقُنَا وفي اختيار سواه اللُّومُ والشُّوم
آخر
فَلَيْتَكَ تَحْلُو والحياةُ مَرِيْرَةٌ وَلَيْتَكَ تَرْضَى والأنامُ غِضَابُ
ولَيْتَ الذي بَيْنِي وبَيْنَكَ عَامِرٌ وبَيْني وبَيْنَ العَالَمِين خَرَابُ
آخر
410
تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن
تأليف
الشيخ العلامة محمد الأمين بن عبد الله الأرمي العلوي الهرري الشافعي
المدرس بدار الحديث الخيرية في مكة المكرمة
إشراف ومراجعة
الدكتور هاشم محمد علي بن حسين مهدي
خبير الدراسات برابطة العالم الإسلامي - مكة المكرمة
«المجلد الثالث عشر»
حقوق الطبع محفوظة للناشر
الطبعة الأولى
١٤٢١ هـ - ٢٠٠١ م
دار طوق النجاة
بيروت - لبنان
2
تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن
[١٣]
3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

4
شعرٌ
فَزادِي قَلِيلٌ ما أُراه مُبلِّغي على الزادِ أبكي أم لِبُعْدِ مَسافَتي
أتَيْتُ بأعمالٍ قِبَاحٍ رَدِيئَةٍ وَمَا في الوَرى خَلْقٌ جَنَى كَجِنَايتي
جَزَى اللَّة خَيْرًا مَنْ تَأَمَّلَ صَنْعَتِيْ وَقَابَلَ مَا فِيْهَا مِنَ السَّهْوِ بِالْعَفْوِ
وَأصْلَحَ مَا أَخْطَأْتُ فِيْهِ بِفَضْلِهِ وَفِطْنَتِهِ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْ سَهْوِيْ
آخرُ
الصَّبْرُ مِفْتَاحُ مَا يُرَجَّى وَكُلُّ خَيْرٍ بِهِ يَكُوْنُ
وَرُبَّمَا نِيْلَ بِاصْطِبَارٍ مَا قِيْلَ هَيْهَاتَ لاَ يَكُوْنُ
وَإِنْ تَجِدْ عَيْبًا فَسُدَّ الْخَلَلاَ وَجَلَّ مَنْ لاَ عَيْبَ فِيْهِ وَعَلاَ
آخرُ
5

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمدُ لله على نواله، والصلاة والسلام على نبيه وآله، ما سطرت الأقلام وتعاقبت الأيام والليالي.
أمَّا بعد: فلما فرغنا من تفسير الجزء الحادي عشر.. أخذنا في تفسير الجزء الثاني عشر مستمدًا منه الهداية وكل التوفيق في تفسير كتابه لأقوم الطريق، وها أنا أقول: وقولي هذا:
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (٦) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (٨) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (٩) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١١) فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٣) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٦) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ
7
﴿يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (١٧)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى (١) لما بيَّنَ في الآيات السالفة شمولَ قدرته تعالى لكلِّ شيء، وإحاطةَ علمه بما يسرُّون وما يعلنون، وبما في الصدور.. أردفَ ذلك بذكر ما يهم الناسَ من آثار قدرته، ومتعلَّقاتِ علمه، وهوَ ما يتعلَّق بحياتهم، وشؤونهم المختلفة، ثمَّ بذِكْر خَلْقِهِ للعالَمِ كلِّه، ومكانِ عرشه قبلَ هذا من ملكه وبلاءِ البشر بذلك، لِيظهِرَ أيّهم أحسنُ عَمَلًا، ثم بعثه إيَّاهُم بعد الموت لينالوا جزاءَ أعمالهم مع إنكار الكفار لذلك، وطلب استعجال العذاب الذي أوعدهم به، مع بيانِ أنه واقع بهم لا محالةَ، إنْ أصرُّوا على كفرهم.
قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ...﴾ الآية، مناسبةُ هذه الآية لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لما ذكر (٢) ما يدل على كونه تعالى عالمًا.. ذَكَرَ ما يدل على كونه تَعالى قَادِرًا.
قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قَبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لمَّا ذكر (٣) أنَّ عذابَ الكفار، وإن تأخَّرَ لا بدَّ أن يحيقَ بهم.. ذكَرَ ما يدلُّ على كفرهم، وكونهم مستحقينَ العذابَ، لِمَا جبلوا عليه من كفر نعماءِ الله وما يترتبُ على إحسانه تعالى إليهم مما لا يلِيقُ بهم من فخرِهم على عباد الله تعالى.
وعبارةُ المراغي: مناسبةُ هذه الآية لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى: لَمَّا ذَكَرَ (٤) أنه خَلَق السمواتِ والأرضَ ليبلو الإنسانَ أيشكرُ أم يكفرُ.. قَفى على
(١) المراغي.
(٢) و (٣) البحر المحيط.
(٤) المراغي.
8
ذلك بذكر طبيعة الإنسان في ذلك، وهي: أنه إذا أصابته نعماء، ثم نزعت منه، قَنَطَ من روح الله، وكفر بها، وإذا أَذاقه نِعْمَةً بعد بؤس، بَطرَ وفَخَرَ، هكذا شأن الإنسان، إلا من صبرَ، وشكر، وعمِلَ صالحًا.
قوله تعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ...﴾ الآيات، مناسبةُ هذه الآيات لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لمَّا ذَكَرَ في بَدْءِ السورة قولهم في القرآن: ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ وأنهم ﴿يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ﴾ كي لا يسمعوه.. أردفَ ذلك بذكر تكذيبهم للرسول - ﷺ - والقرآن، وبيان أنَّ همه وحزنَه - ﷺ - مِنْ كلامهم، قد بلغ كل مبلَغ، ثمَّ أعقبَه بتحديه لهم بالقرآن، كي يأتوا بعشر سور مثله، حتَّى إذا ما عجزوا، عُلِمَ أنَّه وحيٌ من عند الله تعالى.
قوله تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (١): أنها لا تتعلق أطماعُهم بأن يَتْرُك بعضَ ما يوحي إليه، إلا لدَعْوَاهم أنه ليس من عند الله، وأنه الذي افتراه، وإنَّما تَحدَّاهم أولًا بعشر سور مفتريَاتٍ قبل تحديهم بسورة؛ إذْ كانَت هذه السورة مكيةً، والبقرة مدنيةً، وسورةُ يونسَ أيضًا مكيةً، ومقتضى التحدي بعشر: أن يكونَ قبل طلب المعارضَةِ بسورة، فلَمَّا نسبوه إلى الافتراء طلبَ منهم أن يأتوا بعشر سور مثله مفترياتٍ إرخاء لعنانهم، وكأنه يقول: هبوا أنِّي اختلقته، ولم يوحَ إلَيَّ فأتوا أنتم بكلام مثلِهِ مختلَق من عند أنفسكم، فأنتم عَرَبٌ فصحاء مثلي، لا تَعجزُون عن مثلِ ما أقدِر عليه من الكلام.
قوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها؛ أنه تعالى لما ذكر شيئًا من أحوال المنافقينَ في القرآن.. ذَكَرَ شيئًا من أحوالهم الدنيوية، وما يؤولون إليه في الآخرة.
وعبارة المراغي هنا: مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما
(١) البحر المحيط.
9
أقام الحجة على حَقِّيَةِ دعوة الإِسلام، وعلى أنَّ القرآنَ من عند الله، وليس بالمفترَى من عند محمَّد - ﷺ - كما يدعيه المشركون.. أَرْدف ذَلِك ببيَانِ أنَّ البَاعِثَ لهم على المعارضة، والتكذيب، ليس إلا شهواتُهم، وحظوظُهم الدنيوية، والإِسلام يدعو إلى إيثار الآخرة على الأولى.
قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لِمَا قبلَها: أنَّ اللَّهَ سبحانَه وتعالى لما ذكر (١) مآلَ مَنْ كانَ يريد الدنيا وزينتها، ولا يهتم بالآخرَةِ وأعمالِها.. أردَفَ ذلِكَ بذكر مَنْ كَانَ يريد الآخرةَ، ويعمل لها، وكان على بينة من ربه في كلِّ ما يعملُ، ومعه شاهِدٌ يدل على صدقه، وهو القرآن، ومآل من أنكر صِحَّتَه، وكفرَ بِه.
وعبارة أبي حيان: مناسبةُ هذه الآية لما قبلَها: أنه تعالى لما ذكر حال مَن يريد الحياةَ الدنيا.. ذَكَرَ حَالَ من يريد وجهَ الله تعالى بأعماله الصالحة.
التفسير وأوجه القراءة
٦ - ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ﴾، أي: وما دابة، من أي نوع من أنواع الدوابِّ في الأرض ﴿إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا﴾ وغذاؤها الذي تحتاج إليه اللائق بها على اختلاف أنواعها، تفضلًا منه، وإحسانًا، وإنما جيء به على طريق الوجوب، كما تشعر به كلمة: ﴿عَلَى﴾ اعتبارًا بِسَبْقِ الوعد به منه، وتحقيقًا لوصوله، وحملًا على التوكل فيه، وقيل: ﴿عَلَى﴾ بمعنى: من؛ أي: من الله رزقُها، لا فرق (٢) في ذلك بَيْنَ الجِنَة - المكروبات - التي لا ترى بالأبصار، وبين ضِخَامِ الأجسام، والوسطى بَيْنَ هذه وتلكَ، وقد أعطى كلًّا خلقَهُ المناسبَ لمعيشته إلى تحصيل غِذَائِهِ بالغريزة، والفطرة، ولله تَعالى حِكَمٌ في خلق كل نوع منها، فإنْ خفيَ علينَا أمرُ خلق الحيات والسنانير ونحوها فلَنَا أن نَقولَ مثلًا: إنه لولاها لَضَاقَت الأَرض بكثرةِ أحيائها أو لأنتنت من كثرة أمواتها.
(١) و (٢) المراغي.
10
ومعنى كفالته تعالى لرِزْقِها أنه سخَّره لها، وهدَاها إلى طلبه، وتحصيله كما قال: ﴿رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ وقد عُلِمَ بنصوص القرآن، وسُنَنِ الله في الخلقَ وأسبابِ الرزق، أنَّ مشيئته تعالى لا تكون إلا بمقتضَى سُنَنِهِ في ارتباط الأسباب بالمسببات مع الحكمةِ في ذلك، إلَّا أنه يأتيها بمحض قدرتهِ، سواء طلبته أمْ لا.
و ﴿مِن﴾ زائدة للتأكيد، والدابَّةُ كُلَّ حيوان يَدِبُّ في الأرض.
رُوي (١) أن موسى عليه السلام تَعَلَّق قلبُه بأحوال أهله، فأمرَه الله تعالى أن يضرب بعصاه علَى صخرة، فانشقَّتْ وخرَجَت صخرةٌ ثمَّ ضَرَبَ بعصاه عليها، فانشقت وخرجَت صخرةٌ ثانية، ثُمَّ ضَرَبَ بعصاه عليهَا فانْشَقَّتْ وخرجت صخرةٌ ثالثةٌ ثُمَّ ضَرَبها بعصاه فانشقت فخَرَجَتْ منها دُودةٌ كالذَّرَّةِ، وفي فيها شيء يجري مجرى الغذاء لها، ورفع الله الحجابَ عن سمع موسى عليه السلام فسَمِعَ الدودةَ تقولُ: سبحان من يراني، ويسمع كلامي، ويعرف مكاني، وَيذْكرُني ولا ينساني.
﴿وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا﴾؛ أي: محلَّ استقرارها في الأرض، أو محل قرَارِها في الأصلاب ﴿وَمُسْتَوْدَعَهَا﴾ أي: موضِعَها في الأرحام، وما يَجْرِي مَجْرَاها كالبيضة ونحوها، وقال الفراء: ﴿مُسْتَقَرَّهَا﴾ حيث تأوي إليه ليلًا ونهارًا، ﴿ومستودعها﴾ موضِعَها الذي تموت فيه.
ووجه تقدُّمِ المستقر على المستودع على قول الفراء ظاهرٌ (٢)؛ وأما على القول الأول، فلعلَّ وجهَ ذلك أنَّ المستقرَّ أنْسَبُ باعتبار ما هي عليه حالَ كونها دابةً.
والمعنى (٣): وما من دابة في الأرض إلا يَرْزقُها اللهُ حيث كَانت من أَماكنها بعد كونها دابةً، وقبل كونها دابةً، وذلك حيثُ تكون في الرحم، ونحوه، ثم خَتَمَ الآية بقوله: ﴿كُلٌّ﴾؛ أي: كُلٌّ من الدواب وأرزاقها، ومستقَرّها، ومستودعِها ثابتٌ
(١) المراح.
(٢) الشوكاني.
(٣) الشوكاني.
11
مَرْقُومٌ ﴿فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾؛ أي: في لوح محفوظ، كَتَبَ الله تعالى فيه مقاديرَ الخَلْقِ كلِّها؛ أي: كلَّ ذلك مذكور في اللوح المحفوظ قبلَ خلقِها، وثابتٌ في عِلْم الله تعالى.
وكأنه أريد بهده الآية ببيان كونه عالمًا بالمعلومات كلها (١)، وبما بعدَها بيانُ كونه قادرًا على الممكنات بأسرها، تقريرًا للتوحيد، ولما سبَقَ من الوعد والوعيد،
٧ - ثُمَّ أكَّدَ دلائلَ قدرته بالتعرض لذِكْر خلق السموات والأرض، وكيف كان الحالُ قبلها، فقال: ﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى الإلهُ ﴿الَّذِي خَلَقَ﴾ وأوجد ﴿السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ وأنشأهما على غير مثال سبق، أي: خلقهما وما فيهما ﴿فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ من أيام الله في الخلق والتكوين، وما شاء من الأطوار، لا مِنْ أيَّامِنا في هذه الدار التي وجدت بهذا الخلق، لا قَبْلَه، فلا يصح أنْ تُقدَّر أيامُ الله بأيامِنا المعروفَةِ، وهي المقابلة للَّيالي؛ لأنه لم يكُنْ حينئذ لا أرْضٌ ولا سماء، ويؤيِّد هذا قَوْلُه تعالى: ﴿وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾، وقوله: ﴿تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤)﴾.
وكانَ خَلْقُ السموات في يومين والأرضين في يومين، وما عليهما من أنواع الحيوان، والنبات، والجماد في يومين، كما سيأتي في ﴿حم (١)﴾ السجدة.
﴿وَكَانَ عَرْشُهُ﴾ سبحانَه وتعالى؛ أي: كَانَ عَرْشُه قبل خَلْقِهما ﴿عَلَى الْمَاءِ﴾ الذي تحت الأرضين السبع، لم يكن حائل بَيْنَهُما، لا أنه كان موضوعًا على مَتْن الماءِ، بَل هُو في مكانه الذي كان فيه الآن، وهو ما فوقَ السمواتِ السبع، والماءُ في المكان الذي هو فيه الآن، وهو ما تَحْتَ الأرضينَ السبع، وفيه بيانُ تقدم خَلْقِ العرش والماء على السموات والأرضين، وقال - ﷺ -: "كان الله، وما كان معه شيءٌ ثُمَّ كان عَرْشه على الماء"؛ أي: والعرش الذي هو أعظمُ المخلوقات قد أمْسَكَهُ الله تعالى فَوْقَ سبع سموات من غير دِعامةٍ تحته، ولا عِلاقة فوقه، وذلك يَدُلُّ على كمال قدرته تعالى.
(١) البيضاوي.
12
وقال سعيد بن جبير (١): سُئِلَ ابن عباس عن قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ﴾ على أيِّ شيءٍ كان الماء، قال: على مَتْن الريح، وقال وَهْبُ بنْ منبه: إنَّ العرْشَ كَانَ قبل أن يَخْلُق الله السموات والأرض، ثُم قَبَضَ اللَّهُ قَبْضةً من صفاءِ الماء، ثم فتح القبضة، فارتفع دخان، ثُمَّ قضاهن سبع سموات في يومين، ثم أَخَذَ سبحانه وتعالى طينة من الماء، فوضعها مكانَ البيت، ثُمَّ دَحَا الأَرْضَ منها، ثُمَّ خَلَقَ الأقواتَ في يومين، والسموات في يومين، والأرض في يومين، ثم فرغ آخر الخلق في اليوم السابع.
قال بعض العلماء: وفي خلق جميع الأشياء، وجعلها على الماء ما يدلُّ على كمالِ القدرة؛ لأنَّ البناءَ الضعيفَ إذا لم يكن له أساسٌ على أرض صُلبة.. لم يَثْبُتْ، فكيف بهذا الخلق العظيم، وهو العرش والسموات، والأرض على الماء! فهذا يدل على كمال قدرة الله سبحانه وتعالى.
وعن عمرانَ بن حصين رضي الله عنه، قال: دخلتُ على النبي - ﷺ - وعقلْتُ ناقتي بالباب، فأتى ناسٌ من بني تميم، فقال: "اقْبَلُوا البشرى يا بني تميم" فقالوا: بَشَّرْتَنا فأعطنا، مرتين، فَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ، ثُمَّ دخل عليه ناس من أهل اليمن، فقال: "اقْبَلُوا البُشْرى يا أهلَ اليمن، إذْ لم يَقْبَلْهَا بنو تميم" قالوا: قَبِلْنَا يا رسول الله! ثم قالوا: جِئْنَا لِنَتَفَقَّه في الدين، ولنسأَلك عن أَوَّلِ هذا الأمر، ما كان؟ قال: "كان الله سبحانه وتعالى، ولم يكن معه شيءٌ قَبْله، وكان عَرْشُه على الماء، ثُمَّ خلق السموات والأرض، وكتب في الذكر كُلَّ شيء"، ثم أتاني رجل فقال: يا عمران أَدْرِكْ نَاقَتَكَ؛ فقد ذهبَت، فانطَقَتُ أطْلبُها، فإذا السَّرَاب يقطع دُونها، وايْمُ الله لَوَدِدْت أنَّها ذهبَتْ، ولم أَقُمْ. أخرجه البخاري.
وعن أبي رُزَين العقيليِّ رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله! أين كان ربنا قبلَ أن يَخْلُق خَلْقَه؟ قال: "كان في عماء، ما فوقه هواء، وما تحته هواء، وخَلَق عرشه على الماء" أخرجه الترمذي، وقال: قال أحمد: يريدُ بالعماء أنه
(١) الخازن.
13
ليسَ معه شيءٌ.
قال أبو بكر البيهقيُّ في كتاب "الأسماء والصفات" (١) له: قولُه - ﷺ -: "كانَ الله ولم يكن شيء قبله" يعني لا الماءَ ولا العرشَ، ولا غَيْرهُما، قوله: ﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ﴾ يعني: وخَلَقَ الماء، وخلق العرشَ على الماء، ثم كتَبَ في الذكر كلَّ شيء، وقوله: "في عماء" العَماء بالمدِّ: السحابُ الرقيقُ، ويريدُ بقوله: "في عماء"؛ أي: فوقَ سحاب مدبِّرًا له، وعاليًا عليه، وقوله: "وما فوقه هواء"؛ أي: ما فوق السحاب هواءٌ، وكذلك قوله: "وما تحته هواء"؛ أي: ما تَحتَ السحابِ هواء، وقال الأزهري: قال أبو عبيد: إنما تأوَّلْنَا هذا الحديثَ على كلام العرب المعقولِ عَنْهُم وإلا فلا نَدْري كيف كان ذلك العماءُ؟ قال الأزهري: فنحنُ نُؤْمِنُ به ولا نكيِّفُ صِفَتَهُ.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعتُ رسولَ الله - ﷺ - يقول: "كتب الله مقاديرَ الخلق قَبْلَ أن يَخْلُق السموات والأرضَ بخمسين ألف سنةٍ، وكان عرشه على الماء"، وفي روايةٍ: "فَرَغَ الله من المقادير، وأمورِ الدنيا قبل أن يَخْلُقَ السموات والأرضَ، وكان عرشُه على الماء بخمسينَ ألْفَ سنة". أخرجه مسلم.
قوله: فَرغ: يريد إتْمامَ خَلْقِ المقادير، لا أنه كان مشغولًا، ففَرَغَ منه، لأنَّ الله تعالى لا يشغَلُه شأنٌ عن شأن، فإنما أمره إذا أرادَ شيئًا أن يقولَ له: كن فيكون.
وعرش الرحمن من عالم الغيب الذي لا ندركه بحواسِّنا، ولا نستطيع تصويرَهُ بأفكارنا، فلا نَعلمُ كُنْهَ استوائِه عليه، ولا صُدُورَ تدبيره، لأمر هذا الملك العظيم، ومِن ثمَّ رُوي عن أمِّ سلمة، رضي الله عنها، وعن مالك، وربيعةَ قولهم: الاستواءُ معلومٌ، والكيفُ مجهولٌ.
ومن الآية نَعْلَم أنَّ الذي كانَ دونَ العرش من مادَّةِ الخَلْقِ قبل تكوين السموات والأرض هو الماء الذي جَعَلَهُ الله أصْلًا لخلق جميع الأحياءِ، كما
(١) الخازن.
14
قال: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (٣٠)﴾.
ثم عَلَّلَ خَلْقَهُ بما ذكر ببعض حِكَمِهِ الخاصَّة بالمكلفين المخاطبين بالقرآن، فقال: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ و (اللام) فيه متعلقة بـ ﴿خَلَقَ﴾ أي: خلق (١) السموات والأرض، وما فيهما، ورتب فيهما جميع ما تحتاجون إليه من مبادئ وجودكم، وأسباب معايشكم، وأودعَ فيهما ما تستدلون به على مطالِبكم الدينية، ليعامِلَكم معاملةَ من يختبركم، فيُظْهِر أيُّكُم أحسنُ عملًا؛ أي: عقلًا، وأورع عن محارم الله، وأسْرَع في طاعة الله، فإنَّ لكل من القلب والقالب عملًا مخصوصًا به.
أيْ (٢): خَلَقَ هذه المخلوقات ليبتليَ عِبَادَهُ بالاعتبار، والتفكر، والاستدلال على كمال قدرته، وعلى البعث، والجزاء أيهم أحسنُ عملًا، فيما أُمِر به، ونهي عنه، فيجازي المحسنَ بإحسانه، والمسيءَ بإساءته، ويُوفِّر الجزاءَ لِمَنْ كان أَحْسن عملًا من غيره، وَيدْخُل في العمل الاعتقاد؛ لأنه من أعمال القلب، وقيل: المراد بالأحسن عملًا الأتمُّ عقلًا، وقيل: الأزْهَدُ في الدنيا، وقيل: الأكثر شكرًا، وقيل: الأتْقَى لله.
أي: ليجعلَ ذلك ابتلاءً واختبارًا لكم فيظهرَ أيكم أحسنُ إتقانًا لما يعمله لنفسه، وللناس، ذاك أنه تعالى سَخَّر لنا ما في الأرض، وجعلنا مستعدينَ لإبرازِ ما أَوْدَعَه فيها من منافعَ وفوائدَ ماديةٍ ومعنويةٍ، ومستعدِّين للإفساد، والضرر ليجزيَ كل عامل بما يعمل، ثمَّ لما كان الابتلاء يتضمَّن حديثَ البعث، أَتْبَعَ ذلك بذكره، فقال: ﴿وَلَئِنْ قُلْتَ﴾؛ أي: وعزتي وجَلالي، لئن قُلْتَ: يا محمَّد لهؤلاء الكفار من قومك على ما توجبه قضيَّة الابتلاء ﴿إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ﴾ للحساب، والجزاء، فيُجَازَى المحسنُ بإحسانه، والمسيءُ بإساءته، وقرأ (٣) عيسى
(١) المراح.
(٢) الشوكاني.
(٣) البحر المحيط.
15
الثقفي: ﴿ولئن قُلتُ﴾ بضم التاء إخبارًا عنه تعالى، والمعنى عليه: ولئن قلتُ مستدلًا على البعث من بعد الموت إذ في قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ﴾ دلالةٌ على القدرة العظيمةِ فمَنْ أخْبَر بوقوع ممكنٍ وَقَعَ لا محالةَ، وقد أَخْبَرَ بالبعث، فوجب قبولُهُ وتيقُّنُ وقوعه.
وكسرت (١) إن مِنْ قوله: ﴿إِنَّكُمْ﴾ لأنها وقعت بعد القول، وحكى سيبويه الفتحَ على تضمينِ قُلْتَ بمعنى: ذكرتَ أو على أنَّ (إن) بمعنى لعلَّ؛ أي: ولئن قلت: لعلكم مبعوثون على أن الرَّجاء باعتبار حال المخاطبين؛ أي: توقَّعوا ذلك، ولا تَبتُّوا القولَ بإنكاره.
﴿لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ منهم ﴿إِنْ هَذَا﴾؛ أي: ما هذا القرآنُ الذي تضمَّن البعث، والحسابَ، والجزاءَ ﴿إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾؛ أي: إلَّا سحر بَيِّنٌ ظاهر تُسْحَرُ به العقول وتُسَخَّرُ به الضمائر، والقلوب، أو المعنى: ما هذا القولُ الذي تقولونه لنا من البعث، والجزاء إلَّا خديعةٌ منكم، وضَعْتُمُوها لمنع الناس عن لذات الدنيا، وإحرازًا لهم إلى الانقياد لكم، والدخول تحت طاعَتِكم.
وقرأ الحسن والأعرج، وأبو جعفر، وشيبةُ، وفرقةٌ من السبعة (٢): ﴿سِحْرٌ﴾، وقَرَأ حمزة، والكسائي: ﴿إن هذا إلا ساحر﴾ فاسم الإشارة حينئذ، عائد على النبي - ﷺ -؛ أي: ما هذا الرجل الذي يَدَّعي البعثَ، والجزاءَ إلا كاذبٌ مُبْطِلٌ، والمعنى؛ أي: ولئن أخبرت يا محمدُ هؤلاء المشركين أنَّ اللَّهَ سيبعثهم بعد مماتهم كما بَدَأهم ليجزِيَهم فيما بَلاَهم به كما قال: ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى﴾ ليُجِيبَنَّك الذين كذَّبوا بلقاء الله قائلينَ: ما هذا الذي جئتَنا به مِن هذا القرآن لتسخِّرَنَا لطاعتك، وتَمْنَعَنا عن لَذَّاتِ الدنيا إلَّا سحرٌ بَيِّنٌ ظاهرٌ تَسْحَرُ به العقولَ وتُسخِّرُ به الضمائر والقلوب.
٨ - وبعد أنْ ذَكَرَ سبحانَه ما يقوله المنكرونَ للبعث.. ذَكَرَ ما يقوله المنكرونَ لإنذار الرسول - ﷺ - إيَّاهم عذابَ الدنيا، والآخرةِ بتكذيبهم له فقال: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا
(١) الشوكاني.
(٢) البحر المحيط.
عَنْهُمُ}؛ أي: عن هؤلاء المشركين مِنْ قومك ﴿الْعَذَابَ﴾ الذي تَقَدَّم ذِكْرُه في قوله: ﴿عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ﴾، وقيل: عذاب يومِ القيامة، وما بعده، وقيل: يوم بدر ﴿إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ﴾؛ أي: إلى طائفة من الأيام قليلة، لأن ما يحصره العدُّ قليلٌ.
﴿لَيَقُولُنَّ﴾ بطريق الاستعجال استهزاءً ﴿مَا يَحْبِسُهُ﴾؛ أي: أيُّ شيء يَمْنَعُ العذابَ من المجيء إلينا، والنزولِ علينَا، والمعنى: وعزتي، وجلالي، لئن أخَّرْنَا عنهم عذابَنا الذي توعدهم به الرسول - ﷺ - إلى حين من الزمن مقدَّر في علمنا، وهو مقتضى سنتنا في خَلْقِنا وبَيَّناه في كتابنا بقولنا: ﴿لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ﴾ ليقولُن استهزاءً، أيُّ شيء من الأشياء يمنع هذا العذاب، ويحبسهُ من الوقوع، إن كان حقًّا، والاستفهامُ فيه للإنكار، المضمَّنِ للاستهزاء، والسخرية، ثُمَّ توعَّدَهم بنزوله، وأجابَهم بقوله: ﴿ألا﴾؛ أي: أنتبهوا أيُّها المخاطبون ﴿يَوْمَ يَأْتِيهِمْ﴾؛ أي: العذابُ ﴿لَيْسَ مَصْرُوفًا﴾، ولا مدفوعًا، ولا محبوسًا ﴿عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ﴾ عبر بلفظ الماضي تنبيهًا على تحقُّق وقوعه، فكأنَّه قد حاق بهم ﴿مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾؛ أي: ويَحِيقُ ويُحيط بهم العذاب الذي كانوا يستعجلُونه استهزاءً منهم، ووَضَع يستهزئون مكانَ يستعجلون؛ لأنَّ استعجالَهم كانَ استهزاءً منهم.
والمعنى: انتبهوا أنَّ له يومًا يأتيهم فيه حين تنتهي المدَّة المضروبةُ دُونَهُ، ويومئذ لا يصرِفه صارفٌ، ولا يحبسه حابسٌ، وسيحيط بهم يومَئذ مِن كل جانب ما كانوا يستهزئون به من العذاب قبل وقوعه، فلا هو يصرف عَنْهُم، ولا ينجَونَ مِنه.
٩ - ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ﴾ و (اللام) فيه موطئة للقسم، والمراد: الجنسُ فشَمَلَ المؤمنَ والكافرَ بدليل الاستثناء بقوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا﴾؛ أي: وعزتي وجلالي: لَئِن أذقنا الإنسان وأعطيناه ﴿مِنَّا رَحْمَةً﴾؛ أي: رحمةً كائنةً منا، ورحمةً صادرةً من جهَتِنا كغِنًى، وصِحَّةٍ ﴿ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ﴾؛ أي: سلبناه إياها ﴿إِنَّهُ لَيَئُوسٌ﴾؛ أي: لقاطع رجاءه من عود أمثالها لقِلَّةِ صبره وعدم ثقته بالله ﴿كَفُورٌ﴾؛ أي: عظيم الكفران لما سَلَفَ من النعم، وقيل: المرادُ بالإنسان جنس الكفار، ويؤيده أنَّ اليأسَ والكفرانَ، والفرحَ، والفخرَ، هي: أوصافُ أهل الكفر، لا أهل
الإِسلام غالبًا، وقيل: المرادُ بالإنسان الوليدُ بن المغيرة، وقيل: عبد الله بن أبي أُميةَ المخزوميّ، والمرادُ بالرحمة هنا: النعمةُ من توفير الرِزق والصحة والسلامة من المِحَنِ.
والمعنى (١): والله لئن أعطينا الإنسانَ نوعًا من أنواع النِّعَم كرخَاءِ العيش وبَسْطةِ الرزق، وصحةٍ وأمن وولدٍ بارٍّ رحمةً مبتدأةً منا، أذقناهُ لَذَّتها، فكانَ شديدَ الاغتباط بِهَا ثم سلبنا ذلك بما يحدث من الأسباب التي قَدَّرها الله تعالى في الخليقة، كالمرض، والموت، والعسْر، إنّه لَيَظُلُّ في هذه الحال شديدَ اليأس من الرحمة، قاطعًا للرجاء من عود تلك النعمة، كثيرَ الكفران لغيرها من النِّعَمِ التي لا يزالُ يتمتَّع بها فضلًا عمَّا سَلَفَ مِنها.
١٠ - والخلاصةُ: أنَّهُ يجمع بَيْنَ اليأس بعودة ما نُزع منه، والكفر بما بقي له، لحرمانه من فضيلتي الصَّبْرِ والشكر ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ﴾؛ أي: وعزتي، وجلالي: لئن أَعْطينَا الإنسَانَ ﴿نَعْمَاءَ﴾؛ أي: سعةَ رزق، وعافية، وفي التعبير (٢) بالذوق ما يدلُّ على أنه يكون منه ذلكَ عند سلب أدنى نعمةٍ ينعم الله بها عليه؛ لأن الإذاقَةَ والذوق أقل ما يُوجَد به الطعم ﴿بَعْدَ﴾ كشف ﴿ضَرَّاءَ﴾ وشدة ﴿مَسَّتْهُ﴾؛ أي: أصابته كصحَّةٍ بعد سقم، وفرَجٍ بعد شدَّةٍ ﴿لَيَقُولَنَّ﴾ ذلك الإنسان ﴿ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ﴾؛ أي: المصائب التي أساءتني ﴿عَنِّي﴾ من الضرِّ والفقر.
والمعنى: أنه إن أذاق الله سبحانه العبدَ نعماءَه من الصحة، والسلامة، والغنى بعد أن كانَ في ضر من فقر، أو مرض، أو خوف، لم يقابِلْ ذلك بما يليقُ به من الشكر لله سبحانه، بل يقول: ذهبت السيئات؛ أي: المصائِبُ التي ساءَتْهُ من الضر والفقر، والخوف، والمرض عنه، وزال أثَرُهَا غَيْرَ شاكرٍ لله، ولا مثن عليه بنعمة ﴿إِنَّهُ﴾؛ أي: إنَّ ذلك الإنسانَ ﴿لَفَرِحٌ﴾؛ أي: كثير الفرحِ، بَطَرًا وأَشرًا ﴿فَخُورٌ﴾؛ أي: كثيرُ الفخر على الناس، والتطاول عليهم بما يتفضل الله به عليه من النعم، وفي التعبير عن ملابسة الضر له بالمس مناسبةٌ للتعبير في جَانِب
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
النعماء بالإذاقة، فإنَ كِلَيْهِمَا لأدنى ما يُطْلَقُ عليه اسمُ الملاقاة، وقرأ الجمهور: ﴿لَفَرِحٌ﴾ بكسرِ الراء، وهو قياسُ اسم الفاعل من فعل اللازم، وقرأتْ فرقةٌ: ﴿لَفَرُحَ﴾ بضم الراء وهي كما تقول: دنس وطمس ذكره أبو حيان.
وحاصل المعنى: ولئن (١) كشفنا عنه الضراء التي أصابَتهُ، وحَلَّ محلَّها نعماءُ كشِفاءٍ من مرض، وزيادة قوة، وخروج من عسر إلى يُسْرٍ ونَجَاةٍ من خوف، وذلٍّ إنه ليقولن ذَهَبَ ما كان يَسُوءُني من المصائب والضراء، ولن يعودَ، وما هي إلا سحابة صيف قد تقشَّعَتْ، وعليَّ أنْ أنسَاها وأتمتَّعَ بتلك اللذَّاتِ، وإنه حينئذ لشديدُ الفرح بما يهيِّجُهُ البَطَرُ بتلك النعمة، وإنَّه ليُغالِي في الفَخْرِ والتَّعَالِي على الناس، والاحتقارِ لِمَنْ دُونَهُ فِيهَا.
والخلاصة: أنَّا إذا مَنَحْنَا هذا الإنسانَ اليؤوسَ الكَفورَ، نَعْماءَ أذقْنَاه لَذَّتَها، بَعدَ ضرَّاء مسَّتْه باقترافه أسبابَها، لم يُقابِلْهَا بشكر الله عليها، بل يَبْطَرُ ويفخَرُ على الناس، ولا يقومُ بما يَجِبُ عليه من مُواساة البائِسينَ، الفقراءِ، وعملِ الخير لبني آدَمَ كفاء ما هو متمتع به من تلك النِّعَمِ،
١١ - ثمَّ استثنى سبحانه من جنس الإنسان فيما ذَكر من حالتَيْه السَّالِفَتَيْنِ قَبْلُ الصابرينَ الذينَ يعملون الصالحاتِ فقال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا﴾ على ما أصابهم من الضراء إيمانًا بالله، واحتسابًا للأَجْرِ عنده ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ حينما يكشِفُها ويبدِّلُ النعماءَ بِهَا، ويشكرهُ باستعمالها فيما يرضيه من عمل البر، والخير لعباده ﴿أُولَئِكَ﴾ الموصوفون بما ذُكِر ﴿لَهُمْ مَغْفِرَةٌ﴾ من ربهم تَمْحُو ما عَلِقَ بأنفسهم من ذَنْبٍ أو تقصير ﴿وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾؛ أي: ثوابٌ جسيمٌ في الآخرة على ما وفِّقوا لعمله من برّ، وخير كثير.
والخلاصةُ (٢): أنَّ الإنسانَ وإن كانَ مؤمنًا حقَّ الإيمان، لا يسلم من ضيق صَدْر حينَ حُلُول الضراءِ والمصائب، وذلك مِمَّا ينافي كمالَ الرضا كما لا يسلم حين النعماء من شيءٍ من الزُّهْوِ والتقصيرِ في الشكر، فيُغْفَرُ له كلٌّ منهما بصبره وشكره، وإنابته إلى ربه، وقد جاءَ بمعنى الآية قولُه تعالى: {وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (٣)} ووصفُ الأجر بالكبير لِمَا حَواهُ من نعيم سَرْمديٍّ وأمْن من العذاب، ورضىً من الله عز وجل، ونظَرٍ إلى وجهه الكريم ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾، واختيارُهُ على العظيم لرعاية الفواصل كما ذكره الكرخي،
١٢ - ثم سلَّى اللَّهُ سبحانه وتعالى رسولَه - ﷺ - فقال: ﴿فَلَعَلَّكَ﴾ يا محمَّد ﴿تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ﴾؛ أي؛ فلعلك يا محمدٌ تاركٌ تبليغَ بعض ما يوحي إليك ربُّك، أنْ تبلغه إلى مَنْ أمَرَكَ أن تبلِّغ ذلك إليه، ﴿و﴾ لعلَّك ﴿ضائق به صدرك﴾؛ أي: ولعلك (١) يضِيق صَدْرُك بما يوحى إليك، فلا تبلغه إيَّاهم، وذلك أنَّ كفَّارَ مكةَ قالوا: إئت بقرآنٍ غير هذا، ليس فيه سَبُّ آلهتنا، فهَمَّ النبيُّ - ﷺ - أن يَترُكَ ذِكْر آلهتهم ظاهرًا، فأنزل الله عز وجل، ﴿فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ﴾ يعني مِنْ ذكر آلهتهم، هذا ما ذكره المفسرون في معنى الآية، قيل (٢): وهذا الكلام خارجٌ مَخْرَجَ الاستفهام، فلعلَّ هنا للاستفهام الإنكاري، كقوله - ﷺ -: "لَعَلَّنا أعْجلنَاك"؛ أي: هل أنت تاركٌ، وقيل: هو في معنى النفي مع الاستبعاد؛ أي: لا يكونُ منك ذلك بل تبلغهم جميعَ ما أنزلَ اللَّهُ عليك أحَبُّوا ذَلِك أم كرهوه، شاؤوا أم أَبَوا.
والمعنى على الاستفهام: أي أفتاركٌ (٣) أنت أيها الرسول بعضَ ما يوحى إليكَ مما يشُقُّ سماعه على المشركين من الأمر بالتوحيد، والنهي عن الشرك، والإنذارِ والوعيد لهم، والنَّعْيِ على معبوداتِهم وتَسْفِيهِ أحلامهم، وضائقٌ به صَدْرُك أن تبلغَهم إياه، كما أُنزل ذاك أنهم كانوا يَتَهَاوَنُون به، فيَضِيقُ صَدْرُه أنْ يلقي إليهم ما لا يَقْبَلُون، وما يضحكون منه، فاستحثه سبحانه على أداء الرسالة، وعدم المبالاة باستهزائهم، وطرح مقالاتهم الساخرة وراءَه ظهريًّا.
والخلاصة: تحمل أخف الضرَرَيْنِ، وهو تحمل سَفَاهَتِهم على ترك بعض الوحي، والوقوع في الخيانة فيه.
(١) الخازن.
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
20
وعبر بـ ﴿ضائق﴾ دونَ ضيق، لأن اسم الفاعل فيه معنى الحدوث، والعروض، والصفة المشبهة فيها معنى اللزوم؛ أي: لا تَتْرُك تبليغَ بَعْضَ ما يُوحى إليك من البينات الدالَّة على حقيقة نبوتك، ولا يَضِيْق صدرك بتلاوته عليهم في أثناء الدعوة، والمحاجةِ، مخافةَ ﴿أَنْ يَقُولُوا﴾ لك ﴿لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ﴾؛ أي: هلَّا أُنْزِل على محمد ﴿كَنْزٌ﴾؛ أي: مالٌ كثير مكنوز مخزون ينتفع به، ويَسْتَغْنِي به، ويُنْفِقُه ﴿أَوْ﴾ هلَّا ﴿جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ﴾ يشهدُ بصدقه، وقائل (١) هذه المقالةِ هو: عبدُ الله بن أبي أمية المخزومي.
والمعنى: أنهم قالوا لرسول الله - ﷺ -: إن كنتَ صادقًا في قولِك بأنَّكَ رسولُ الله، الذي تصفه بالقدرة على كل شيء، وأنت عزيزٌ عنده، مع أنك فقيرٌ، فهلَّا أنزلَ ما تستغني به، أنت وأصحابُك، وهلَّا أَنْزلَ عليك مَلَكًا يشهد لك بالرسالة، فتزولَ الشبهة في أمرك، فأخْبَرَ الله تعالى عَزّ وجلّ أنه - ﷺ - نذيرٌ بقوله عز وجل: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ﴾ يا محمَّد ﴿نَذِيرٌ﴾ تُنذِر الناسَ بالعقاب على أعمالهم التي عَمِلُوها لِطلبِ الدنيا، وذلك أنَّ اللهَ سبحانه وتعالى، يوسِّع عليهم الرزق، ويدفع عنهم المكارهَ في الدنيا ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ وليسَ عليكَ من أعمالهم شيءٌ.
وحاصل المعنى: أنَّ عِنَادَهم وجحودَهم، وإعراضَهم عن الإيمان، وشدَّةَ اهتمامِك بأمرِهم، ممَّا شأنه أن يَقْتضِي ضَيْقَ الصدر بحسب الطباع البشرية، أو أن يخطرَ على البال، ترك بعضِ الوحي، ولولاَ عِصْمَتُنا إيَّاك، وتثبيتُنا لك، لاجْترَحت ذلك، واستَسْلَمْتَ لما لمثله جَرَت العادة، ولكنَّ الله تعالى حَفِظكَ حتى تؤدِّي رِسالتَه، وترحَمَ العالمين بنور نبوتك، كما قال: ﴿وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (٧٤)﴾.
وقد جَاء بمعنى الآية قولُه تعالى؛ ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (٦)﴾، وقولُه: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا
(١) الخازن.
21
يَمْكُرُونَ (٧٠)}، وقوله: ﴿المص (١) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢)﴾، ﴿إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾؛ أي: ليس عليك إلا إنذارُهم بما أوحيَ إليك، غيرَ مبال بما يَصْدُر منهم، ويطلق ألسنتَهم، والله هو الرقيب على عباده، وليسَ عليكَ من أعمالهم شيء.

فصل


وأجمع المسلمون على أنه - ﷺ - فيما (١) كَانَ طريقه البلاغ فإنه معصوم فيه من الإخبار عن شيء منه، بخلافِ ما هو به، لا خطأً، ولا عمدًا، ولا سهوًا، ولا غلطًا، وأنه - ﷺ - بلغَ جميعَ ما أنزلَ الله عليه إلى أمَّته، ولم يكتم منه شيئًا، وأجمعوا على أنَّه لا يجوز على رسول الله - ﷺ - خيانةٌ في الوَحْي، والإنذار، ولا يترك بَعض ما أوحي إليه لقولِ أحدٍ؛ لأنَّ تجويزَ ذلك يؤدي إلى الشك في آداء الشرائع، والتكاليف؛ لأنَّ المقصودَ من إرسال الرسول التبليغ إلى من أرسل إليه، فإذا لم يحصل ذلك، فقد فاتَتْ فَائدة الرسالة، والنبيُّ - ﷺ - معصوم من ذلك كله، وإذا ثَبَتَ هذا وجب أن يكون المرادُ بقوله تعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ﴾ شيئًا آخرَ سوى ما ذكره المفسرون، وللعلماء في ذلك أجوبةٌ:
أحدُها: قال ابن الأنباري: قد علمَ الله سبحانه وتعالى أنَّ النبي - ﷺ - لا يترك شيئًا مِما يوحى إليه إشفاقًا من مَوْجِدَةِ أحد، وغَضَبِه، ولكنَّ اللَّهَ تعالَى أكَّدَ على رسوله - ﷺ - متابَعَة الإبلاغ من الله سبحانه وتعالى كما قال: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ...﴾ الآية.
الثاني: أنَّ هذا من حثه سبحانه وتعالى لنبيه - ﷺ - وتحريضه على أداءِ ما أنزله إليه، والله سبحانه وتعالى مِن وراء ذلك في عِصْمتِهِ مما يخافه ويَخْشاه.
الثالث: أنَّ الكفار كانوا يستهزئون بالقرآن، ويَضْحَكُون منه، ويتهاوَنون به، وكانَ رسولُ الله - ﷺ - يضيق صَدْرُهُ لذلك، وأن يُلْقِي إليهم ما لا يقبلونه، ويستهزئونَ به، فأمَرَهُ الله سبحانَه يتبليغ ما أوحِي إليه، وأن لا يَلْتَفِتَ إلى
(١) الخازن.
22
استهزائهم، وأنَّ تحمُّلَ هذا الضَّرَرَ أهون من كتم شيء من الوحي، والمقصود من هذا الكلام: التنبيهُ على هذه الدقيقة، لأن الإنسان إذا عَلم أنَّ كلَّ واحد من طَرَفَي الفعلِ والترك مشتملٌ على ضَرَرٍ عظيم، ثمَّ عَلِمَ أنَّ الضَّرَرَ في بابِ الترك أعْظَمُ، سَهُلَ عليه الإقدامُ على الفعل، وقيل: إن الله سبحانه وتعالى مع علمه بأن رسولَ الله - ﷺ - لا يتركُ شيئًا من الوحي، هَيَّجَه لأداء الرسالة، وطرح المبالاةِ باستهزائهم، ورَدِّهم إلى قبول قوله بقوله: ﴿فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ﴾؛ أي: لعَلَّكَ تتركُ أن تلقِيَه إليهم مخافةَ رَدِّهِم، واستهزائهم به، وضائقٌ به صَدْرُكَ؛ أي: بأنْ تَتْلُوَهُ عليهم، والله أعلم.
١٣ - و ﴿أَمْ﴾ في قوله: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ...﴾ (١) هي: المنقطعة التي تقدَّرُ بمعنى بَلْ الإضرابية، وهمزة الاستفهام التوبيخي، والتقريعي، والضميرُ المستتر في ﴿افْتَرَاهُ﴾ للنبي - ﷺ -، والبارزُ إلى ما يُوحى إليه.
أي: بل أيقول هؤلاء المشركون من أهل مكَّة: إنَّ محمدًا - ﷺ - قد افترَى هذا القرآن واختلقَه من عند نفسه، ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمَّد في جواب مقَالَتِهم هذه، ورَدِّها إن كانَ الأَمْرُ كما تزعمون ﴿فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ﴾؛ أي: مثل القرآن في البلاغة، وحُسْنِ النَّظْمِ، وجزالة اللفظ، وفَخامةِ المعاني، ووصَفَ السُّورَ بما يوصف به المفرد، فقال: ﴿مِثْلِهِ﴾ ولم يقل: أمثالِه؛ لأنَّ المرادَ: مماثَلَة كلِّ واحد من السور، أو لقصد الإيماء إلى وَجْه الشبه، ومدارةِ المماثلة في شيء واحد، وهو البلاغة البالغة إلى حد الإعجاز، وهذا: إنما هو على القول بأنَّ المطابقةَ في الجمع، والتثنية، والإفراد، شرطٌ، ذَكَرَه الشوكاني، أي: بعشر سور مماثلة للقرآن في ذلك ﴿مُفْتَرَيَاتٍ﴾؛ أي: مختلفات من عند أنفسكم، لا تدَّعُون أنها من عند الله تعالى، فإنكم أهلُ اللَّسَنِ والبيان، والمران على المفاخرة بالفصاحة، والبلاغة، وفنون الشعر، والخَطابة، ولَم يسبِقْ لي مع العمر الطويل الذي عشته بينكم أنْ أُزاوِل شيئًا من ذلك، فإن كَانَ من كلام البشر، فأنتم على مثله أقْدَرُ، وإنكم لتعلمون أني لم أكذب على بشر قط، فكيف أَفْتَرِى على الله؟
(١) الشوكاني.
﴿و﴾ إنْ زعمتم أنَّ لي من يعينني على تأليفِهِ ووصْفِه، فـ ﴿ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ﴾ ممن تعبدون ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ تعالى، ومِنْ سَائِرِ خلقه لِيُسَاعدوكم على الإتيان بهذه السور العشر، ولتكن مِثلَه مفترياتٍ تشملُ على مثل ما فيه من تشريع دينيٍّ، ومَدَنيٍّ، وحكم ومواعظ، وآداب، وأَنْباء غيبية إخبارًا عن ماض، وأنباء غيبية. إخبارًا عن مستقبل بمثل هذا النظام البديع، والأسلوب البالغ حَدَّ الإعجاز، والبلاغَةِ الساحِرَة للألباب، والسلطان الحَاكِم على الأنفس والأرواح ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ في ادعاءِ كونِ القرآن مفترًى على الله تعالى.
والخلاصة (١): أنّ مشركي مكَّةَ المعانِدِينَ، لم يجدوا شبهةً في القرآن بعد شبهة السحر التي لم تَجِد أُذنًا صاغيةً عند العرب؛ لأنهم أربابُ الفصاحة، واللسن، فعرفوا فضله على سائر الكلام، إلا زَعْمَهُمْ أنَّ محمدًا قد افتراه جملةً، وليس بوحي من عند الله، فتحداهم بالإتيان بعشر سور مثله، في النظم والأسلوب محتويةٍ على التشريع القيم من دينيٍّ ومدَنيٍّ، وسياسيّ، وحكم، ومواعظ، وآداب، وكلَّفهم دعوةَ مَن استطاعوا من دون الله، لِيُظاهِرُوهم، ويُعَاوِنُوهم على ذلك، فعَجَزُوا، ولم يجدوا من فصحائهم من يستجيب لهم، فقامت الحُجَّةُ عليهم، وعلى غيرهم إلى يوم الدين، وهذا معنى قوله:
١٤ - ﴿فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ﴾؛ أي: فإن لم يستجب لكم مَنْ تَدْعونهم من دونِ الله ليعاونوكم على الإتيان بالعشر السور المُمَاثلةِ للقرآن من فحول الكتَّاب، ومَصَاقِع الخطباء، وعلماء أهلِ الكتاب العارفين أخْبارَ الأنبياء ﴿فَاعْلَمُوا﴾ أيها المشركون ﴿أَنَّمَا أُنْزِلَ﴾ هذا القرآنُ على محمَّد - ﷺ - ﴿بِعِلْمِ اللَّهِ﴾؛ أي: بمقتضَى علم الله وإرادتِه أن يبلِّغَه لعباده على لسان رسوله، ولا يقدرُ عليه محمَّد ولا غيره ممن تدعونه زورًا أنهم أعانُوه، لأنه من علم الغيب الذي لا يَعْلَمُه إلا مَنْ أعلمه الله به.
﴿وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾؛ أي: واعلموا أيها المشركونَ، أنه لا معبودَ بحق في
(١) المراغي.
24
الوجود إلا اللهُ سبحانَه وتعالى، إذ من خصائص الإلَه أن يَعْلَمَ ما لا يعلمه غيره، وأن يُعْجِزَ مَن عداه عن مثلِ ما يقدر عليه، والاستفهام، في قوله: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ للتوبيخ المضَمَّنِ للأمر؛ أي: فهل أنتم أيها المشركون بعد أن قامت عليكم الحجة، داخلون في الإِسلام الذي أدعوكم إليه، بهذا القرآن، مؤمنون بما فيه من عقائدَ، ووعد، ووعيد، وأحكام، وحِكم وآداب؛ أي: أسْلِمُوا، وأخْلِصُوا لله العبادةَ.
والخلاصة: أنه لم يَبْقَ لكم بَعْدَ أنْ دُحِضَتْ شبهتَكم، وانقطعَتْ مَعَاذِيركُم إلَّا جُحودَ العناد، وإعراض الاستكبار، والعاقل المنصِفُ لا يرضَى لنفسه بمِثْل هذا.
والمعنى (١): فإن لم يستجِب لكم آلهتكم، وسائرُ مَنْ إليه تجأرُونَ في مُلِمَّاتِكم إلى المعاونة، فاعلموا أنَّ القرآنَ خارج عن دائرة قدرة البشر، وأنه منزل من خالق القِوَى والقُدَرِ، واعلموا أيضًا أنَّ آلِهَتَكُم بمعزل عن رتبة الشركة في الألوهية، فهل أنتم داخلون في الإِسلام بعد قيام هذه الحجة القاطعة؟.
وقرأ زيد بن علي (٢): ﴿أنَّما نَزَّل﴾ بفتح النون والزاي وتشديدها، ويحتملُ أن تكونَ ﴿ما﴾ مصدرية، أي: ﴿أنَّ﴾ التنزيلَ، ويحتمل أن تكونَ بمعنى الذي؛ أي: أن الذي نزَّله، وحذف الضمير المنصوب لوجود شرط جواز الحذف. فإن قلت: (٣) قد تحدَّاهم بأن يأتوا بسورة مثله، فلم يقدروا على ذلك، وعجزوا عنه، فكيف قال: ﴿فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ﴾، ومَنْ عجزَ عن سورة واحدة، فهُو عن العشرة أعْجَز؟
قلتُ: قد قال بعضهم: إن سورة هود نزلَتْ قبل سورة يونس، وأنه تحدَّاهم أوَّلًا بعشر سور، فلما عجزوا تحداهم بسورة يونس، وأنكر المُبرِّد هذا القول، وقال: إن سورةَ يُونُسَ نَزَلَتْ أوَّلًا. قالَ: ومعنى قولِه في سورة يونس: {فَأْتُوا
(١) المراح.
(٢) البحر المحيط.
(٣) الخازن.
25
بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} يعني مثله في الإخبار عن الغيب، والأحكام، والوعد، والوعيد، وقولُه في سورة هود: ﴿فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ﴾ يعني مجرَّدَ الفصاحة، والبلاغة من غير إخبارٍ عن غيبٍ، ولا ذِكرِ حكم، ولا وعد، ولا وعيد،
١٥ - ثم إنَّ اللَّهَ سبحانَه وتعالى توعَّدَ مَنْ كَانَ مقصورَ الهمة على الدنيا، لا يطلُب غَيْرَها، ولا يريد سِوَاها فقال: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ﴾ بعمله الذي يَعْمَلَهُ من أعمال البر والخير من العبادات، وإيصال المنفعة إلى الحيوانات ﴿الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾؛ أي: التمتعَ بلذاتها من طعام وشراب ﴿وَزِينَتَهَا﴾؛ أي: ما يَتَزَيَّن به فيها من اللباس والأثاث، والرياش، والأموال، والأولاد دُونَ استعدادٍ للحياة الآخرة ﴿نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا﴾؛ أي: نُؤدِّ إليهم جزاءَ أعمالهم، وثمراتها فيها، وافيةً تامَّةً بحسب إرادتنا، وسُنَّتِنَا في الأسباب؛ أي: نوصل إليهم ثمرات أعمالهم في الحياة الدنيا، كاملةً ﴿وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ﴾؛ أي: والحال أنهم في الحياة الدنيا: لا يُنْقَصون من جزاءِ أعمالهم نقصًا كليًّا، ولا يحرمون من ذلك حرمانًا كليًّا، لأجل كفرهم إذ مدار الأرزاق فيها على الأعمال، لا على النيات، والمقاصد، وإن كانَ لهداية الدينِ أثر في ذلكَ كالاستقامة، والصدقِ واجتنابِ الخيانةِ والزور، والغش، وغير ذلك، وذلكَ الجزاء هو: ما يرزقون فيها من الصّحَّةِ، والرياسة، وسعة الرّزق، وكثرة الأولاد ونحو ذلك.
والخلاصة: أَنَّ جزاءَ الأعمال في الدنيا مَنُوطٌ بأمرَين: كسب الإنسان، وقضاءِ الله، وقدره به، وأمَّا جزاءُ الآخرة فهو بفعلِ الله تعالى بلا وساطةِ أحد، ﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾.
﴿وَهُمْ﴾؛ أي: هؤلاء المريدون بأعمالهم الدنيا هم ﴿فِيهَا﴾؛ أي: في الدنيا ﴿لَا يُبْخَسُونَ﴾؛ أي: لا ينقصون منْ جزائهم فيها بحسب أعمالهم لها، وذلك في الغالب، وليس بمطرد، بل إن قَضَتْ به مشيئتُهُ سبحانه ورجَّحَتْهُ حكمتُه البالغةُ، وقال (١) القاضي: معنى الآية مَنْ كانَ يريد بعمل الخيرِ الحياةَ الدنيا، وزينتَهَا نوف إليهم أعمالهم، وافيةً كاملةً من غير بخس في الدنيا، وهو ما ينالون فيها من
(١) الشوكاني.
الصحة، والكفاف، وسائر اللذات، والمنافع، فخص الجزاءَ بمثل ما ذكره، وهو حاصلٌ لكل عامل للدنيا، ولو كانَ قليلًا يسيرًا
١٦ - ﴿أُولَئِكَ﴾ الذين لا هَمَّ لهم إلا الدنيا، وزينتَها الموفون فيها جزاءَ أعمالهم هم ﴿الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ﴾ بسبب هذه الأعمال الفاسدة المقرونةِ بالرياء؛ لأنَّ الجزاءَ فيها على الأعمالِ كالجزاءِ في الدنيا، وهم لم يعملوا للآخرة شيئًا، فإنَّ العمل لَهَا يكون بتزكية النفس بالإيمان، وعمل الفضائل، وبالتقوى باجتناب المعاصي، والرذائل، وما صَنَعُوه فيها مِمَّا ظاهِرُه البرُّ والإحسان كالصدقة، وصلة الرحم، ونحو ذلك، لم يكن تزكيةً لأنفسهم تُقربُهم إلى ربهم بَلْ كانَ لأغراض نفسية من شهواتهم كالرياء، والسمعة، والاعتزاز بذوي القرابة على الأعداء، ولو بالباطل فلا أجْرَ له فيها، وقد انقطع أثرهُ الدنيويُّ.
﴿وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا﴾؛ أي: ظهر حُبوطُ ما صنعوه من الأعمال التي كانت صُورَتُها صورةَ الطاعات الموجبة للجزاء الأخروي، لولا أنهم أفسَدُوها بفساد مقاصدهم، وعدم الخلوص فيها، وعدم إرادة ما عند الله في دار الجزاء، بل قَصَرُوا ذَلك على الدنيا وزينتها؛ أي: ظَهَر حبوطُه وبُطْلانهُ ﴿فِيهَا﴾؛ أي: في الآخرة، إن قلنا: إن الجار والمجرور متعلق بـ ﴿حبط﴾ فالضميرُ عائد إلى ﴿الْآخِرَةِ﴾ وإن تعلق بـ ﴿صَنَعُوا﴾ فهو عائد إلى ﴿الدُّنْيَا﴾ ﴿وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾؛ أي: إنه كان عملهم في نفسه باطلًا غيرَ معتد به، لأنه لم يعمل لوجه صحيح يوجب الجزاءَ ويترتَّبَ عليه ما يترتَّبُ على العمل الصحيح.

فصل


ويندرج في عموم الآية (١) المُراؤون من أهل القبلة، كما ترى أحدَهم إذا صلّى إمامًا يتنغم بألفاظ القرآن، ويُرتِّلِهُ أحسنَ ترتيل، ويُطيل ركوعَه وسجُودَه، ويتباكَى في قراءته، وإذا صَلّى وَحْدَهُ اختلسها اختلاسًا، وإذا تصدَّقَ أظهَرَ صدقتَه أمَامَ مَنْ يثني عليه، ودَفَعها لمن لا يستحقها، حتى يُثْنِي عليه الناسُ، وأهلُ
(١) البحر المحيط.
27
الرباط المتصدق عليهم، وأين هذا من رجل يتصدَّقُ خفيةً، وعلى مَنْ لا يعرفه، كما جاء في السبعة الذين يُظلهم الله في ظله يوم لا ظِلَّ إلّا ظِلُّه "ورجلٌ تصدَّق بصدقة، فأخفاها حتى لا تَعلم شماله ما تنفق يمينه"، وهذه مبالغة في إخفاء الصدقة جدًّا، وإذا تعلَّم علمًا راءى به، وتبجَّح، وطلَبَ بمعظمه يسيرَ حطام من عرض الدنيا، وقد فَشَا الرياء في هذه الأمة فشوًا كثيرًا، حتى لا تكادُ تَرَى مخلصًا لله لا في قول، ولا في فعل، فهؤلاء من أولِ من تسعَّر بهم النار يوم القيامة، والعياذُ بالله تعالى، والرياءُ هو أن يُظْهِرَ الإنسانُ الأعمالَ الصالحةَ ليحمده الناس عليها، أو ليَعْتَقِدُوا فيه الصلاحَ، أو ليقصدوه بالعطاءِ، فهذا العملُ هو الذي لغير الله تعالى، نعوذ بالله تعالى من الخذلان، اهـ من "الخازن".
وقرأ الجمهور (١): ﴿نُوَفِّ﴾ بنون العظمة، وقرأ طلحة بن ميمون: ﴿يُوفِّ﴾ بالياء على الغيبة، وقرأ زيد بن علي: ﴿يُوفِ﴾ مخففًا مضارعُ أوفى، وقرىء: ﴿تُوف﴾ بالتاء مبنيًّا للمفعول، و ﴿أعمالهم﴾ بالرفع، وهو على هذه القراءات مجزوم جوابَ الشرط كما انجزم في قوله: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ﴾.
وقرأ الحسن: ﴿نُوفي﴾ بالتخفيف وإثبات الياء، فاحتمل أن يكون مجزومًا بحذف الحركة المقدرة على لغة مَنْ قال:
أَلَمْ يَأتِيكَ وَالأَنْبَاءُ تَنْمِيْ
وهي لغةٌ لبعض العرب، واحتملَ أن يكونَ مرفوعًا.
وقرأ زيد بن علي: ﴿وَبَطَلَ﴾ جعلَه فعلًا ماضيًا، وقرأ أُبيٌّ وابن مسعود، و ﴿باطلًا﴾ بالنصب، وخرَّجه صاحب "اللوامح" على أنه مفعول لـ ﴿يَعْمَلُونَ﴾ فهو معمولُ خبر ﴿كَانَ﴾ متقدمًا، و ﴿ما﴾ زائدة؛ أي: وكانوا يعملون باطلًا، وفي جواز هذا التركيب خلافٌ بَيْنَ النحويين، وهو أن يتقدَّم معمول الخبر على الجملة بأسرها مِنْ كَانَ واسمها وخبرها، ويشهد للجواز قوله تعالى: {أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا
(١) البحر المحيط.
28
يَعْبُدُونَ} ومَنْ مَنَعَ تأَوَّل، ذكره أبو حيان.
١٧ - ثُمَّ ذكر الله سبحانه وتعالى أنَّ بين مَنْ كان طالبًا للدنيا فقط، ومن كانَ طالبًا لِلآخرة تفاوتًا عظيمًا، وتباينًا بعيدًا فقال: ﴿أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ﴾ و (الهمزة) فيه للاستفهام الإنكاري داخلةٌ على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أجَهِلتُم وتَعَامَيْتُم عن الحق فَمَنْ كان على بينة ومعجزة، وبيان وبرهان من ربه، والمراد بالبينة: القرآن، وهو النبي - ﷺ - والمؤمنون فـ ﴿مَن﴾ مبتدأ خبره محذوف تقديره؛ أي: أفمن كان على برهان من ربه، كمن هو في كفر وضلالة، وجواب الاستفهام محذوف أيضًا، تقديره: لا يستويان، وقد صرَّحَ بهذين المحذوفين في قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (١٨)﴾ وقوله: ﴿وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ﴾ معطوف على جملة الصلة، والضميرُ في ﴿يتلوه﴾ عائد على ﴿مَن﴾ وكذلك الضمير في قوله الآتي ﴿من قبله﴾ كما في "الصاوي"، أي أفمن كانَ على بيان وبرهان من ربه ويتلوه؛ أي: ويتبعه ويصدِّقه، ويقَوِّيه شاهد منه؛ أي: من الله تعالى، وهو جبريل كمن ليس كذلك وقوله: ﴿وَمِنْ قَبْلِهِ﴾ حال من ﴿كِتَابُ مُوسَى﴾ وهو معطوف على ﴿شَاهِدٌ﴾ وقوله: ﴿إِمَامًا وَرَحْمَةً﴾ حالانِ أيضًا من ﴿كِتَابُ مُوسَى﴾ والتقدير: أفمَن كانَ على بيان وبرهان وحجة من ربه، ويتلوه ويتبَعُه ويصدِّقُه، ويقويه شاهد منه تعالى، يشهدُ بصدقه، وهو جبريل، ويتلوه ويتبعه، ويُوافقه كتاب موسى، فيما يدَّعِيه من التوحيد حالَ كون كتاب موسَى كائنًا من قبله، وحالةَ كَوْن كتابه إمامًا يقتدَى به في الدين، وحالةَ كونه رحمةً لمن آمن به من بني إسرائيل؛ لأنه يهدي إلى الحق في الدين والدنيا، كمَنْ ليسَ كذلك لا يستويان فبينهما بون بائن وفرق فارق.
وقرأ محمَّد بن السائب الكلبيُّ وغيره (١): ﴿كتابَ موسى﴾ بالنصب عطفًا على مفعول ﴿يتلوه﴾ أو بإضمار فعل، فالضمير في ﴿يتلوه﴾ حينئذ عائدٌ على بينة، بمعنى القرآن؛ أي: ويتلو القرآن، وكتاب موسى شاهدٌ منه تعالى، وإنما خَصَّ كتاب موسى بالذكر دونَ كتاب عيسى؛ لأنَّ أهلَ الملتين اليهودَ،
(١) البحر المحيط.
29
والنصارى، متوافقان على أنَّ التوراةَ مِن عند الله تعالى بخلاف الإنجيل؛ لأنَّ اليهودَ تُخالِفُ فيه، فكان الاستشهادُ بما تَقُومُ به الحجة على الفريقين أولى.
وأعرب البيضاوي ﴿وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى﴾ مبتدأ والجار والمجرور خبرًا.
والمعنى (١): أفمن كان على نور، وبصيرة في دينهِ، ويؤيده نُورٌ غيبيٌّ يشهدُ بصحته، وهو القرآن المشرِق النور والهدي ويؤيده شاهدٌ آخرَ جاء مِنْ قبله، وهو الكتاب الذي أنزل على موسى عليه السلام، حالَ كونه إمامًا متَّبعًا في الهدى والتشريع، ورحمةً لِمَنْ آمن، وعَمِلَ به مِن بني إسرائيل وشهادةُ موسى لهذا النبي الكريم شهادةُ مقال بالبشارة بنبوته، وشهادة حال، وهي التشابه بين رسالتَيْهما؛ أي: أفمن كان على هذه الأوصاف كمَنْ يريد الحياة الدنيا الفانيةَ وزينتَها الموقوتة ويظل محرومًا من الحياة العقلية، والروحية التي تُوصِل إلى سعادة الآخرة الباقية ونحو الآية قوله: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ﴾.
وإجمالُ المعنى (٢): أفمن كانَ كاملَ الفطرة، والعقل، وعَرَفَ حقيقةَ الوحي، وهو القرآن، وما فيه من نور وهداية وعرَف تأييدَه بالوحي السابق الذي اهتدى به بنو إسرائيل، فتظاهرت لدَيْه الحججُ الثلاثُ في الهداية كمال الفطرة، ونور القرآن، والوحي الذي أنزل على موسى كمَنْ حُرِم من ذلك، وكان هَمُّه مقصورًا على الحياة الفانية ولذاتِها.
والإشارةُ بقوله (٣): ﴿أُولَئِكَ﴾ إلى المتصفينَ بتلكَ الصِّفَةِ الفاضلةِ، وهو الكون على البينة من الله، واسم الإشارة مبتدأ، وخبره ﴿يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾؛ أي: يصدقون بالقرآن، أو بالنبي - ﷺ -؛ أي (٤): أولئك الذين جمعوا بين البينة الوهبية، والبينة الكسبية النقلية، يؤمنون بهذا القرآن إيمان يقين، وإذعان على علم بما فيه من الهدى، والفرقان، فيجزمون بأنه ليس بالمفترى من دون الله، ولم يكن من شأنه أن يكون كذلك.
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
(٣) الشوكاني.
(٤) المراغي.
30
﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ﴾؛ أي: ومن يكفر بهذا القرآن فيَجْحَدُ أنه من عند الله ﴿مِنَ الْأَحْزَابِ﴾؛ أي: ممن تحزّبوا، وتجمَّعوا من أهل مكة، وزُعماء قريش للصدِّ عنه، قال مقاتل: هم بَنُو أمية، وبنو المغيرة بن عبد الله المخزومي، وآلُ طلحة بن عُبيد الله، وقيل: من (١) جميع الكفار وأصحاب الأديان المختلفة، فتدخلُ فيه اليهودُ والنصارَى، والمجوس وعبدة الأوثان، وغيرهم، والأحزاب هم الفرق الذين تحزَّبوا، وتجمَّعوا، واتفقُوا على مخالفة الأنبياء ﴿فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ﴾؛ أي: مكان وعده في الآخرة، ومصيرُهُ وموردُه يَرِدُها لا محالةَ، وهي التي فيها ما لا يوصف من أفانين العذاب، فإنه يصير إلى جهنم من جَرَّاء تكذيبه لوعيده الذي جاء في نحو قوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ﴾.
روى البغوي بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "والذي نفسُ محمَّد بيده، لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة، ولا يهودي، ولا نصراني، ومات، ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار". قال سعيد بن جبير: ما بلغني حديث عن رسول الله - ﷺ - على وجهه إلَّا وجدت مصداقه في كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ حتى بَلَغني هذا الحديث: "لا يسمع بي أحد من هذه الأمة" الحديثَ، قال سعيد: فقلت: أيْنَ هذا في كتاب الله؟ حتَّى أتيت على هذه الآية: ﴿وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى﴾ إلى قوله عز وجل: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ﴾ قال: فالأحزاب أهلُ الملل كلها ﴿فَلَا تَكُ﴾ يا محمَّد ﴿فِي مِرْيَةٍ﴾؛ أي: في شك ﴿مِنْهُ﴾؛ أي: من القرآن ﴿إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ نَزَل به جبريل إن قلنا: إنه متعلق بما قبله من قوله: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ﴾ أو المعنى: فلا تكن في شك من أنَّ مصيرَ من كفر بالقرآن النار، إنَّ هذا الوعدَ هو الحق الثابتُ مِمَّن يربيك في دينك ودنياك، إن قلنا: إنه راجع إلى قوله: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ﴾ والخطاب في قوله: ﴿فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ﴾ للنبي - ﷺ -، والمراد به غيره؛ لأنَّ النبيّ - ﷺ - لم يشُك قط، وقيل: الخطابُ لكل مكلف؛ أي: فلا تكن (٢) أيها المكلف في شك من أمر هذا القرآن، إنه الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين
(١) الخازن.
(٢) المراغي.
31
يديه، ولا من خلفه، آتيًا من ربك، وخالقِك الذي يربيك بما تكملُ به فطرتُك، ويُوصِلُك إلى سعادَتِك في دنياك، وآخرَتِك، وقرأ الجمهور (١): ﴿في مِرية﴾ بكسر الميم، وهي لغة الحجاز، وقرأ السلمي، وأبو رجاء، وأبو الخطاب السدوسي، والحسن بضمها، وهي: لغة أسد، وتميم.
﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ بذلك مع وجوب الإيمان به، وظهور الدلائل الموجبة له، ولكنهم يعاندون مع علمهم بكونه حقًّا، أو قد طبع على قلوبهم، فلا يفهمون أنه الحقّ أصلًا.
أي: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ هذا الإيمانَ الكامِل، أمَّا المشركون منهم، فلاستكبار زُعمائهم، ورؤسائهم وتقليد مرؤوسيهم، وعامتهم لهم وأما أهل الكتاب.. فلتحريفِهم دينَ أنبيائهم، وابتداعهم فيه.
الإعراب
﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾.
﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية، ﴿مَا﴾ نافية ﴿مِن﴾ زائدة ﴿دَابَّةٍ﴾ مبتدأ أول ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ جار ومجرور صفة لـ ﴿دَابَّةٍ﴾، ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ ﴿عَلَى اللَّهِ﴾ جار ومجرور خبر مقدم ﴿رِزْقُهَا﴾ مبتدأ ثان مؤخر، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر للأول، والجملة من المبتدأ الأول، وخبره مستأنفة ﴿وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا﴾ فعل ومفعول ﴿وَمُسْتَوْدَعَهَا﴾ معطوف عليه وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهِ﴾ والجملة الفعلية في محل الرفع معطوفة على جملة المبتدأ الثاني على كونَها خبرًا للأول، ﴿كُلٌّ﴾ مبتدأ، وسوَّغ الابتداء بالنكرة نِيَّةُ الإضافة فيه، والمضاف إليه محذوف، تقديره: كل ما ذكر من الدابة، ورزقها، ومستقرها، ومستودعها ﴿فِي كِتَابٍ﴾ خبر المبتدأ ﴿مُبِينٍ﴾ صفة لـ ﴿كِتَابٍ﴾، والجملة الاسمية مستأنفة مقررة لما قبلها.
(١) البحر المحيط.
32
﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧)﴾.
﴿وَهُوَ الَّذِي﴾ مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة، ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ﴾ فعل ومفعول ﴿وَالْأَرْضَ﴾ معطوف عليه وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول ﴿فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿خَلَقَ﴾ ﴿وَكَانَ عَرْشُهُ﴾ فعل ناقص واسمه ﴿عَلَى الْمَاءِ﴾ خبره، وجملة ﴿كَانَ﴾ معطوفة على جملة ﴿خَلَقَ﴾ على كونها صلةَ الموصول ﴿لِيَبْلُوَكُمْ﴾ ﴿اللام﴾ حرف جر وتعليل ﴿يبلوكم﴾ فعل ومفعول منصوب بأن مضمرةً جوازًا بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لبلائكم، واختباركم الجار والمجرور متعلق بـ ﴿خَلَقَ﴾ ﴿أَيُّكُمْ أَحْسَنُ﴾ مبتدأ، وخبر ﴿عَمَلًا﴾ تمييز محول عن المبتدأ منصوب باسم التفضيل، والجملة (١) الاسمية في محل النصب معمولة لـ ﴿يبلوكم﴾ علق عنها باسم الاستفهام. قال الزمخشري: فإن قلت: كيف جاز تعليق فعل البلوى؟ قلت: لما في الاختبار من معنى العلم، لأنه طريق إليه، فهو ملابس له، اهـ "سمين" ﴿وَلَئِنْ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية ﴿اللام﴾ موطئة للقسم ﴿إن﴾ حرف شرط ﴿قُلْتَ﴾ فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونه فعلَ شرط لها ﴿إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ﴾ ناصب واسمه وخبره والجملة في محل النصب مقول لـ ﴿قل﴾. ﴿مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿مَبْعُوثُونَ﴾. ﴿لَيَقُولَنَّ﴾ ﴿اللام﴾ موطئة للقسم مؤكدة للام القسم الأولى ﴿يقولن الذين﴾ فعل وفاعل، والجملة جواب القسم لا محلَّ لها من الإعراب، وجواب الشرط محذوف دلَّ عليه جواب القسم تقديره، وإن قلت: إنكم مبعوثون يقول الذين كفروا، وجملة الشرط مع جوابه، وكذلك جملة القسم مع جوابه مستأنفة، ﴿كَفَرُوا﴾ فعل وفاعل صلةُ الموصول ﴿إِنْ﴾ نافية لا عمل لها لانتقاض نفيها بـ ﴿إلا﴾. ﴿هَذَا﴾ مبتدأ ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ ﴿سِحْرٌ﴾ خبر المبتدأ
(١) الفتوحات.
33
﴿مُبِينٌ﴾ صفة لـ ﴿سِحْرٌ﴾، والجملة الاسمية في محل النصب مقول القول.
﴿وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾.
﴿وَلَئِنْ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة، ﴿اللام﴾ موطئة للقسم ﴿إن﴾ حرف شرط ﴿أَخَّرْنَا﴾ فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونِه فعلَ شرط لها ﴿عَنْهُمُ﴾ متعلق به ﴿الْعَذَابَ﴾ مفعول به ﴿إِلَى أُمَّةٍ﴾ متعلق بـ ﴿أَخَّرْنَا﴾ ﴿مَعْدُودَةٍ﴾ صفة لـ ﴿أُمَّةٍ﴾ ﴿لَيَقُولُنَّ﴾ ﴿اللام﴾ موطئة للقسم، مؤكدة للأولى ﴿يقولن﴾ فعل مضارع مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم، وعلامة رفعه ثبات النون المحذوفة لتوالي الأمثال؛ لأن أصلَه ليقولونن، وواو الجماعة المحذوفة، لالتقاء الساكنين في محل الرفع فاعل، والجملة الفعلية جوابُ القسم لا محلَّ لها من الإعراب، وجوابُ الشرط محذوف لِدلالةِ جواب القسم عليه، تقديره: وإن أخرنا عنهم العذاب.. يقولون ما يحبسه، وجملة الشرط مع جوابه، وكذلك جملة القسم معطوفة على جملة قوله: ﴿وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ﴾ و ﴿يقولن﴾ بضم اللام هنا معرب بالنون المحذوفة لالتقاء الساكنين، وإنما أعرب مع نون التوكيد لانفصالها بالواو في التقدير، وإن بَاشَرَتْ في اللفظ، وشرط بناء الفعل معها مباشرتها فيهما، وهذا بخلاف ﴿لَيَقُولَنَّ﴾ المتقدم فإنه مبني لمباشرة النون في اللفظ والتقدير كما سيأتي بيان إعلاله في مباحث الصرف، ﴿مَا﴾ استفهامية في محل الرفع مبتدأ ﴿يَحْبِسُهُ﴾ فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على ما الاستفهامية، والضمير المنصوب يعود على ﴿الْعَذَابَ﴾ والمعنى: أي شيء من الأشياء يحبس العذاب، ويمنعه من الوقوع؟ وهذا الاستفهام على سبيل الاستهزاء، والسخرية، وجملة ﴿يَحْبِسُهُ﴾ في محل الرفع خبر ﴿مَا﴾ الاستفهامية، والجملة الاسمية في محل النصب مقول القول ﴿أَلَا﴾ حرف استفتاح داخلة على ﴿لَيْسَ﴾ في المعنى ﴿يَوْمَ﴾ منصوب على الظرفية الزمانية، متعلق بـ ﴿مَصْرُوفًا﴾ ﴿يَأْتِيهِمْ﴾ فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على ﴿الْعَذَابَ﴾، والجملة في محل الجر، مضاف إليه لـ ﴿يَوْمَ﴾. ﴿لَيْسَ﴾ فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على ﴿الْعَذَابَ﴾. ﴿مَصْرُوفًا﴾ خبر ﴿لَيْسَ﴾ والتقدير:
34
ألا ليس هو؛ أي: العذاب مصروفًا عنهم يوم يأتيهم العذاب، وجملة ﴿لَيْسَ﴾. مستأنفة ﴿عَنْهُمْ﴾ متعلقان بـ ﴿مصروفا﴾ ﴿وَحَاقَ﴾ فعل ماض ﴿بِهِم﴾ متعلق به ﴿مَا﴾ موصولة، أو موصوفة في محل الرفع فاعل، والجملة الفعلية معطوفة على جملة ﴿لَيْسَ﴾ ﴿كَانُوا﴾ فعل ناقص، واسمه ﴿بِهِ﴾ متعلق بـ ﴿يَسْتَهْزِئُونَ﴾ وجملة ﴿يَسْتَهْزِئُونَ﴾ في محل النصب خبر ﴿كان﴾ وجملة ﴿كان﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد، أو الرابط ضمير ﴿بِهِ﴾.
﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (٩)﴾.
﴿وَلَئِنْ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية (اللام) موطئة للقسم (إن) حرف شرط ﴿أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ﴾ فعل وفاعل ومفعول أول في محل الجزم بـ (إن) على كونه فعلَ شرط لها ﴿مِنَّا﴾ حال من ﴿رَحْمَةً﴾ لأنه صفة نكرة، قدمت عليها ﴿رَحْمَةً﴾ مفعول ثان ﴿ثُمَّ﴾ حرف عطف ﴿نَزَعْنَاهَا﴾ فعل وفاعل ومفعول ﴿مِنْهُ﴾ متعلق به، والجملة معطوفة على جملة ﴿أَذَقْنَا﴾ ﴿إِنَّهُ﴾ ناصب واسمه ﴿لَيَئُوسٌ﴾ (اللام) حرف ابتداء ﴿يئوس﴾ خبره ﴿كَفُورٌ﴾ صفة ﴿يئوس﴾ أو خبر ثان لـ (إن) وجملة (إن) جواب القسم لا محلَّ لها من الإعراب، وجواب الشرط محذوف، دلّ عليه جواب القسم، تقديره: فهو يؤوس كفور، وجملة الشرط مع جوابه، وجملة القسم مع جوابه مستأنفة، لا محلَّ لها من الإعراب.
﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ﴾.
﴿وَلَئِنْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة (اللام) موطئة للقسم (إن) حرف شرط ﴿أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ﴾ فعل وفاعل ومفعولان في محل الجزم بـ (إن) الشرطية ﴿بَعْدَ ضَرَّاءَ﴾ ظرف، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿أَذَقْنَاهُ﴾. ﴿مَسَّتْهُ﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿ضَرَّاءَ﴾، والجملة في محل الجر صفة لـ ﴿ضَرَّاءَ﴾ ﴿لَيَقُولَنَّ﴾ (اللام) موطئة للقسم مؤكدة للأولى، ﴿يقولن﴾ فعل مضارع في محل الرفع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد، وفاعله ضمير يعود على الإنسان، والجملة جوابُ
35
القسم لا محلَّ لها من الإعراب، وجواب الشرط محذوف تقديره: وإن أذقناه نعماء.. يقول: وجملة الشرط مع جوابه، وكذا القسم مع جوابه معطوفة على جملة، قوله: ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ﴾، ﴿ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ﴾ فعل وفاعل ﴿عَنِّي﴾ متعلق به، والجملة في محل النصب مقول القول ﴿إِنَّهُ﴾ ناصب واسمه، ﴿لَفَرِحٌ﴾ خبره ﴿فَخُورٌ﴾ صفة ﴿فرح﴾ أو خبر ثان، وجملة (إنَّ) مستأنفة مسوقة لتعليل القول.
﴿إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١١)﴾.
﴿إِلَّا﴾ أداةُ استثناء ﴿الَّذِينَ﴾ مستثنًى (١) متصل في محل النصب، والمستثنى منه الإنسان، وقيل: الاستثناء منقطع، و ﴿إِلَّا﴾ بمعنى (لكن) الاستدراكية ﴿الَّذِينَ﴾ في محل الرفع مبتدأ أول، ﴿صَبَرُوا﴾ فعل وفاعل، صلة الموصول ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ فعل وفاعل، ومفعول معطوف على ﴿صَبَرُوا﴾، ﴿أُولَئِكَ﴾ مبتدأ ثان، ﴿لَهُمْ﴾ خبر مقدم ﴿مَغْفِرَةٌ﴾ مبتدأ ثالث ﴿وَأَجْرٌ﴾ معطوف على ﴿مَغْفِرَةٌ﴾، ﴿كَبِيرٌ﴾ صفة ﴿أَجْرٌ﴾ والجملة من المبتدأ الثالث، وخبره خبر للمبتدأ الثاني، والجملة من الثاني وخبره خبر للأول، والجملة من الأول، وخبره جملة استدراكية لا محلَّ لها من الإعراب، وفي "السمين" قوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا﴾ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه منصوب على الاستثناء المتصل، إذ المراد بالإنسان الجنس، لا واحد بعينه.
والثاني: أنه منقطع، إذ المراد بالإنسان شخص معين، وهو على هذين الوجهين، منصوب المحل.
والثالث: أنه مبتدأ، والخبر الجملة من قوله ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ﴾ وهو منقطع أيضًا اهـ.
(١) العكبري.
36
﴿فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢)﴾.
﴿فَلَعَلَّكَ﴾ ﴿الفاء﴾: استئنافية، ﴿لعل﴾ حرف ترج ونصب ﴿والكاف﴾ في محل النصب اسمها ﴿تَارِكٌ﴾ خبرها، وجملة ﴿لعل﴾ مستأنفة، و ﴿تَارِكٌ﴾ اسم فاعل يعمل عمل الفعل الصحيح، وفاعله ضمير مستتر فيه يعود على محمَّد، ﴿بَعْضَ مَا﴾ مفعول، ومضاف إليه ﴿يُوحَى﴾ فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿مَا﴾، ﴿إِلَيْكَ﴾ متعلق به، وجملة ﴿يُوحَى﴾ صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها، ﴿وَضَائِقٌ﴾ معطوف على ﴿تَارِكٌ﴾، ﴿بِهِ﴾ متعلق به ﴿صَدْرُكَ﴾ فاعل ﴿ضائق﴾، ﴿أَنْ يَقُولُوا﴾ ناصب وفعل وفاعل، والجملة في تأويل مصدر مجرور بإضافة المصدر المقدر إليه، تقديره: مخافةَ قولهم، أو كراهيةَ قولهم، والمصدر المقدر معلل لـ ﴿تَارِكٌ﴾، و ﴿ضائق﴾، ﴿لَوْلَا أُنْزِلَ﴾ إلى قوله: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿لَوْلَا﴾ حرف تحضيض بمعنى هلا ﴿أُنْزِلَ﴾ فعل ماض مغير الصيغة، ﴿عَلَيْهِ﴾ متعلق به ﴿كَنْزٌ﴾ نائب فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول القول، ﴿أَوْ﴾ حرف عطف ﴿جَاءَ﴾ فعل ماض ﴿مَعَهُ﴾ متعلق به ﴿مَلَكٌ﴾ فاعل، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿أُنزِلَ﴾، ﴿إِنَّمَا﴾ أداة حصر ﴿أَنْتَ نَذِيرٌ﴾ مبتدأ وخبر والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، ﴿وَاللَّهُ﴾ مبتدأ ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿وَكِيلٌ﴾، ﴿وَكِيلٌ﴾ خبر عن الجلالة، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها.
﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٣)﴾.
﴿أَمْ﴾ منقطعة مقدرة بمعنى بل الإضرابية، وهمزة الإنكار ﴿يَقُولُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿افْتَرَاهُ﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضير يعود على محمد، والجملة في محل النصب مقول القول ﴿قُلْ﴾ فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على
37
محمَّد، والجملة مستأنفة ﴿فَأْتُوا﴾ إلى آخر الآية، مقول محكي، وإن شئت قلت: (الفاء) رابطة لجواب شرط محذوف، تقديره: إن كان الأمر كذلك ﴿ائتوا﴾ فعل وفاعل ﴿بِعَشْرِ سُوَرٍ﴾ متعلق به، والجملة الفعلية في محل الجزم بالشرط المحذوف، وجملة الشرط المحذوف في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾، ﴿مِثْلِهِ﴾ صفة أولى لـ ﴿عشر﴾ لأنه في تأويل مماثلة إياها ﴿مُفْتَرَيَاتٍ﴾ صفة ثانية ﴿وَادْعُوا﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿فَأْتُوا﴾، ﴿مَن﴾ اسم موصول في محل النصب مفعول ﴿وَادْعُوا﴾، ﴿اسْتَطَعْتُمْ﴾ فعل وفاعل والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: من استطعتموه ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه حال من ﴿من﴾ الموصولة ﴿إِنْ كُنْتُمْ﴾ جازم وفعل ناقص واسمه ﴿صَادِقِينَ﴾ خبره، وجملة ﴿كان﴾ في محل الجزم بـ (إن) الشرطية، وجوابها محذوف معلوم مما قبلها، تقديره: إن كنتم صادقين في دعواكم فادعوهم، وجملة إن الشرطية في محل النصب مقول القول.
﴿فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤)﴾.
﴿فَإِلَّمْ﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم، ما قلت لكم من دعوة من يساعدكم، وأردتم بيان ما هو الأصلَح، إن لم يجيبوا لكم.. فأقول لكم: إن لم يستجيبوا لكم ﴿إن﴾ حرف شرط ﴿لَّمْ﴾ حرف جزم ﴿يَسْتَجِيبُوا﴾ فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لَّمْ﴾، ﴿لَكُمْ﴾ متعلق به، والجملة في محل الجزم بـ (إن) الشرطية على كونها فعل شرط لها ﴿فَاعْلَمُوا﴾ (الفاء) رابطة لجواب (إن) الشرطية وجوبًا ﴿اعلموا﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل الجزم بـ (إن) الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة (إن) الشرطية في محل النصب مقول لجواب (إذا) المقدرة ﴿أَنَّمَا﴾ (أنَّ) حرف نصب ومصدر، ولكن بطل عملها لدخول (ما) الكافة عليها، ولذلك دخلت على الجملة الفعلية (ما) كافة لكفها ما قبلها عن العمل فيما بعدها، ﴿أُنْزِلَ﴾ فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على القرآن ﴿بِعِلْمِ اللَّهِ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه حال من
38
الضمير المستتر في ﴿أُنْزِلَ﴾؛ أي: حالةَ كونه ملتبسًا بعلم الله وقضائه، والجملة الفعلية في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي علم؛ أي: فاعلموا إنزالَ الله إياه بعلمه، ﴿وَأَنْ لَا﴾ (الواو) عاطفة (أن) مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن أي وأنه (لا) نافية تعمل عمل (إنَّ)، ﴿إِلَهَ﴾ في محل النصب اسمها، وخبر (لا) محذوف تقديره: وأنه لا إله موجود ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ ﴿هُوَ﴾ ضمير للمفرد المنزه في محل الرفع بدل من الضمير المستكن في خبر (لا) وجملة (لا) في محل الرفع خبر لـ (أن) المخففة، وجملة (أن) المخففة في تأويل مصدر معطوف على مصدر منسبك من الجملة التي قبلها، تقديره: واعلموا عدمَ وجودِ إله إلا هو ﴿فَهَلْ﴾ (الفاء) حرف عطف وتفريع (هل) حرف للاستفهام الطلبي المضمن للأمر ﴿أَنْتُمْ﴾ مبتدأ ﴿مُسْلِمُونَ﴾ خبره، والجملة الاسمية معطوفة مفرعة على جملة ﴿فَاعْلَمُوا﴾.
﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٦)﴾.
﴿مَن﴾ اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما على الخلاف في محله ﴿كاَنَ﴾ فعل ماض ناقص في محل الجزم بـ ﴿مَن﴾ على كونها فِعل شرط لها، واسمها ضمير يعود على ﴿مَن﴾، ﴿يُرِيدُ الْحَيَاةَ﴾ فعل ومفعول ﴿الدُّنْيَا﴾ صفة لـ ﴿الْحَيَاةَ﴾ وفاعله ضمير يعود على ﴿مَن﴾ وجملة ﴿يُرِيدُ﴾ في محل النصب خبر ﴿كَانَ﴾؛ أي: من كان مريدًا الحياةَ الدنيا ﴿وَزِينَتَهَا﴾ معطوف على ﴿الْحَيَاةَ﴾، ﴿نُوَفِّ﴾ فعل مضارع مجزوم بـ ﴿مَن﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وفاعله ضمير يعود على الله ﴿إِلَيْهِمْ﴾ متعلق به ﴿أَعْمَالَهُمْ﴾ مفعول به ﴿فِيهَا﴾ متعلق به أيضًا، وجملة (من) الشرطية مستأنفة، ﴿وَهُمْ﴾ مبتدأ ﴿فِيهَا﴾ متعلق بما بعده، وجملة ﴿لَا يُبْخَسُونَ﴾ خبر المبتدأ والجملة الاسمية في محل النصب حال من ضمير ﴿أَعْمَالَهُمْ﴾، ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة، ﴿لَيْسَ﴾ فعل ماض ناقص ﴿لَهُمْ﴾ جار ومجرور خبر مقدم
39
لـ ﴿لَيْسَ﴾، ﴿فِي الْآخِرَةِ﴾ متعلق بالاستقرار، الذي تعلق به الخبر ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ ﴿النَّارُ﴾ اسم ﴿لَيْسَ﴾ مؤخر، والتقدير ﴿لَيْسَ﴾ كائنًا لهم في الآخرة إلا النار، وجملة ﴿لَيْسَ﴾ صلة الموصول، ﴿وَحَبِطَ﴾ فعل ماض ﴿مَا﴾ موصولة أو موصوفة في محل الرفع فاعل لـ (حبط) والجملة معطوفة على جملة ﴿لَيْسَ﴾، ﴿صَنَعُوا﴾ فعل وفاعل ﴿فِيهَا﴾ متعلق به، والجملة صلة لـ (ما) أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف، تقديره: ما صنعوه فيها، ﴿وَبَاطِلٌ﴾ خبر مقدم ﴿مَا﴾ موصولة في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة معطوفة على جملة ﴿لَيْسَ﴾، ﴿كَانُوا﴾ فعل ناقص، واسمه، وجملة ﴿يَعْمَلُونَ﴾ خبره، وجملة ﴿كَانَ﴾ صلة (ما) الموصولة، والعائد محذوف تقديره ما يعملونه.
﴿أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ﴾.
﴿أَفَمَنْ﴾ الهمزة: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، و (الفاء) عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أجهلتم أيها المشركون حَقِيَّةَ ما عليه محمَّد وأصحابه، فمن كان على بينة من ربه، كمن ليس على ذلك (من) اسم موصول، في محل الرفع مبتدأ ﴿كَانَ﴾ فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على (من) ﴿عَلَى بَيِّنَةٍ﴾ جار ومجرور خبر ﴿كاَنَ﴾، ﴿مِنْ رَبِّهِ﴾ صفة لـ ﴿بَيِّنَةٍ﴾ وجملة ﴿كَانَ﴾ صلة الموصول، وخبر المبتدأ محذوف تقديره: كمن ليس على ذلك، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة المحذوفة، وجواب الاستفهام محذوف أيضًا، تقديره: لا يستويان كما مر في مبحث التفسير، ﴿وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ﴾ فعل ومفعول وفاعل معطوف على جملة ﴿كَانَ﴾، ﴿مِنْهُ﴾ جار ومجرور صفة لـ ﴿شَاهِدٌ﴾، ﴿وَمِنْ قَبْلِهِ﴾ جار ومجرور حال من ﴿كِتَابُ مُوسَى﴾، ﴿كِتَابُ مُوسَى﴾ معطوف على ﴿شَاهِدٌ﴾، والتقدير: ويتلوه كتاب موسى حالةَ كونِه كائِنًا قبلَه ﴿إِمَامًا﴾ حال ثانية من ﴿كِتَابُ مُوسَى﴾، ﴿وَرَحْمَةً﴾ معطوف على ﴿إِمَامًا﴾، ﴿أُولَئِكَ﴾ مبتدأ، وجملة ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ خبره، ﴿بِهِ﴾ جار ومجرور متعلق به، والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿وَمَن﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية ﴿مَن﴾ اسم شرط في
40
محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب ﴿يَكْفُرْ﴾ فعل مضارع مجزوم على كونه فِعْلَ شرط لـ ﴿مَن﴾. ﴿بِهِ﴾ متعلق به، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾ ﴿مِنَ الْأَحْزَابِ﴾: جار ومجرور حال من فاعل ﴿يَكْفُرْ﴾. ﴿فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ﴾ مبتدأ وخبر، و ﴿الفاء﴾ رابطة الجواب، والجملة الاسمية في محل الجزم جواب مَن الشرطية، وجملة مَن الشرطية مستأنفة.
﴿فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ﴾.
﴿فَلَا﴾ (الفاء) فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت ما قلته وأردت بيان ما هو الأصلح اللازمُ لك.. فأقول لك ﴿لا تك في مرية منه﴾ ﴿لاَ﴾ ناهية جازمة ﴿تَكُ﴾ فعل مضارع ناقص مجزوم بـ (لا) الناهية، واسمها ضمير يعود على محمَّد، أو على أيِّ مخاطب ﴿فِي مِرْيَةٍ﴾ جار ومجرور خبرها ﴿مِنْهُ﴾ متعلق بـ ﴿مِرْيَةٍ﴾، وجملة تكون في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، ﴿إِنَّهُ الْحَقُّ﴾ ناصب، واسمه، وخبره، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾ جار ومجرور، حال من ﴿الْحَقُّ﴾، ﴿وَلَكِنَّ﴾ (الواو) عاطفة ﴿لكنَّ﴾ حرف نصب واستدراك ﴿أَكْثَرَ النَّاسِ﴾ اسم ﴿لكنَّ﴾ ومضاف إليه، وجملة ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾ خبر ﴿لكنَّ﴾، وجملة ﴿لكنَّ﴾ معطوفة على جملة ﴿إن﴾ على كونها مستأنفة.
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ﴾ والدابة (١) اسم لكلِّ نسمة حية تدب على الأرض، زحفًا أو على قوائم اثنين فأكثر، وغلبَ عُرْفًا على ما يركب من الخيل، والبغال، والحمير، والدبُّ، والدبيب الانتقال الخفيف البطيء، كدبيب الطفل، والشيخ المسن، والعقرب. وفي "المصباح": دَبَّ الصغيرُ يدبُّ من باب: ضَرَب إذا مشى ودَبَّ الجيشُ دبيبًا أيضًا إذا سارُوا سيرًا لينًا، وكل حيوان في الأرض دابَّةً. اهـ ﴿إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا﴾ والمرادُ به ما يقوم به رَمقُها وتَعِيش به. "الكرخي".
(١) المراغي.
41
﴿وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا﴾ والمستقر مكانُ الاستقرار من الأرض، والمستودع حيث كانَ مودَعًا قبل الاستقرار في صلب أو رَحم أو بيضة، ويجوز (١) أن يكونَا مصدرين؛ أي: استقرارَها واستيداعَها، ويجوز أن يكونَ مستودَعها اسم مفعول ليتَعدَّى فعله، ولا يجوز ذلك في مستقر لأنَّ فعله لازمٌ، اهـ "سمين". وفي "البيضاوي": ﴿وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا﴾ أي: أماكنها في الحياة، وفي الممات، أو الأصلاب والأرحام، أو مساكنها من الأرض، حيث وجدَت بالفعل، ومُودَعَها من الموادِّ، والمقار حيث كانَت بعد بالقوة، اهـ. وقوله: من المواد كالمني والعَلقَةِ، والمَقارُّ كالصلب، والرحم، وقولُه: بعد؛ أي: بعد أنْ لم تكن شيئًا، اهـ "زكريا".
﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ﴾ والعرش مركز نظام الملك، ومصدرُ التدبير، والبلاء: الاختبار، والامتحان من بلاه يَبْلوه بلوى كدَعَا يدعو دَعْوَى وهو ناقص وَاوِيٌّ.
﴿إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ﴾ الأمَّةُ في الأصل الجماعة، والطائفة من الناس من نوع واحد، أو دين واحد، أو ملة واحد، والمراد بها هنا: الطائفة، أو المدة من الزمن، قال القرطبي: الأمة: اسم مشترك يطلق على ثمانية أوجه: الجماعة، والملة، والرجل الجامع للخير، والحين، والزمن، وأتباع الأنبياء... الخ. ﴿مَعْدُودَةٍ﴾؛ أي: قليلة، إذ الحصر بالعد يشعر بالقلة ﴿مَصْرُوفًا عَنْهُمْ﴾؛ أي: مدفوعًا ومحبوسًا ﴿وَحَاقَ﴾ نزَلَ وأحاطَ.
﴿لَيَقُولُنَّ﴾ وفي "السمين" قولُه ﴿لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ﴾ هذا الفعلُ معرب على المشهور لأنَّ النون مفصولة تقديرًا إذ الأصلُ ليقولونن (النون) الأولى للرفع وبعدها نون مشددة، فاستثقل توالي الأمثال، فحذفت نون الرفع، لأنها لا تدل من المعنى على ما تدل عليه نُونُ التوكيد، فالتقى ساكنان، فحذفت الواو التي هي ضمير الفعل، لالتقائها ساكنة مع النون، اهـ.
(١) الفتوحات.
42
﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (٩) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠)﴾ الإذاقة هنا: الإعطاء القليل، والنزع، والسلب، والحرمان، واليؤوس: شديدُ اليأس من عود تلك النعمة، والكفور، كثيرُ الكفران، والجحود لما سلف عليه من النعم، والنعماء، والنعمةُ والنعمى الخير، والمنفعة، ويقابلها الضراء، والضر ﴿فرح﴾ بطر مغتر بهذه النعمة، ﴿فَخُورٌ﴾ أي: متعاظم على الناس بما أوتي من النعم، مشغولُ بذلك عن القيام بشكرها.
وفي "الشوكاني": والنعماء: إنعام يظهر أثَرَهُ على صاحبه، والضراءُ ظهورُ أثر الإضرار على من أصيب به، اهـ.
﴿فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ﴾ لعل هنا: للاستفهام الإنكاري الذي يفيد النهي مع الاستبعاد، ؛ أي: لا تترك تبليغَ بعض ما أوحي إليك، ولا يَضِقْ به صدرُك، والتركُ، والضيقُ مستبعدان منك، وضيقُ الصدر يراد به الغم والحزن وعبر (١) بـ ﴿ضائق﴾ دون ضيِّق للمناسبة في اللفظ مع ﴿تَارِكٌ﴾ وإن كان ضيقٌ أكثرَ استعمالًا، لأنه وصف لازم، ﴿وَضَائِقٌ﴾ وصف عارض، وقال الزمخشري: فإن قلت: لِمَ عدَل عن ضيق إلى ﴿ضائق﴾؟
قلتُ: ليدل على أنه ضيقٌ عارض غيرُ ثابت، لأنه - ﷺ - كان أفسَحَ الناس صدرًا ومثله قولك: سيدٌ، وجوادُ تريد السيادةَ والجُود الثابتَين المستقرين، فإذا أردتَ الحدوثَ، قلت: سائدُ وجائدُ. انتهى ذكره أبو حيان. ﴿كَنْزٌ﴾ والكنزُ ما يدخر من المال في الأرض، وفي "زاده" ﴿كَنْزٌ﴾ أي: مال كثير من شأنه أن يكنز؛ أي: يدفن، اهـ. ﴿بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ﴾ نعت لـ ﴿سُوَرٍ﴾ و ﴿مثل﴾ وإن كانت بلفظ الإفراد فإنها يوصف بها المثنَّى، والجمع، والمؤنث كقوله تعالى: ﴿أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا﴾ وتجوز المطابقة قال تعالى: ﴿وَحُورٌ عِينٌ (٢٢) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ﴾، وقال تعالى: ﴿ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾، و (الهاء) في ﴿مِثْلِهِ﴾ تعود لـ ﴿مَا يُوحَى﴾ و ﴿مُفْتَرَيَاتٍ﴾ صفة لـ ﴿سُوَرٍ﴾ أيضًا، وهي جمع مفتراة كمصطفيات في
(١) البحر المحيط.
43
جمع مصطفَاة، فانقلبت الألفُ ياءً كالتثنية، اهـ "سمين".
﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ والوكيل: الرقيب الحفيظ للأمور، الموكل بحراستها ﴿فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ﴾ والاستجابة للداعي إجابته إلى ما يريد، فالسين والتاء، فيه زائدتان ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ الإسلام، الإذعان، والخضوع، والانقياد ﴿نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا..﴾؛ أي: نُوصل إليهم من وفَّى يوفي توفية ووفاء كزكى يزكي تزكيةً وزكاةً وهو من المضعف الناقص الذي قياس مصدره التفعلة، وهو مجزوم بحذف الياء ﴿لَا يُبْخَسُونَ﴾ لا ينقصون، وإنما (١) عبر عن عدم نقص أعمالهم، بنفي البخس الذي هو نقص الحق مع أنه ليس لهم شائبة حق فيما أوتوه كما عبر عن إعطائه بالتوفية، التي هي إعطاءَ الحقوق مع أن أعمالَهم بمعزل عن كَوْنِها مستوجبةً لذلك، بناءً للأمر على ظاهر الحال، مبالغة في نفي النقص؛ أي: إن كان ذلك ناقصًا لِحُقوقهم فلا يدخل تحت الوقوع، والصدور عن الكريم أصلًا، اهـ "أبو السعود".
﴿وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا﴾؛ أي: فسد وبطل، ولم ينتفعوا به ﴿أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ﴾ والبينة (٢) ما يتبين به الحق كالبرهان في الأمور العقلية، والنصوص في الأمور النقلية، والتجارب في الأمور الحسية، والشهادة في القضاء ﴿وَيَتْلُوهُ﴾؛ أي: يتبعه ويصدقه ويقويه والشاهد جبريل أو القرآن ﴿إِمَامًا﴾ والإمامُ (٣) هو الذي يُؤتم به في الدين، ويُقتدى به ﴿وَرَحْمَةً﴾ والرحمة النعمة العظيمة التي أنعم الله بها على مَنْ أنزله عليهم، وعلى مَنْ بعدهم باعتبار ما اشتملَ عليه من الأحكام الشرعيةِ المُوافِقَة لحكم القرآن ﴿مِنَ الْأَحْزَابِ﴾ والأحزاب قبائلُ الكفار الذين تحزبوا، واجتمعوا على معاداة النبي - ﷺ - ومعاندته ﴿مَوْعِدُهُ﴾ اسم مكان من وَعد يعد وعدًا وموعدًا؛ أي: مكان وعده الذي يَصِير إليه، ﴿فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ﴾ المِرية بكسر الميم، وضمها: الشكُّ، ففيها لغتان: أشهرُهما: الكسرُ، وهي: لغة الحجاز، وبها قرأ جماهيرُ الناس، الثانية: الضم لغةُ أسد وتميم، وبها قرأ
(١) أبو السعود.
(٢) المراغي.
(٣) الشوكاني.
44
السلميُّ وأبو رجاء وأبو الخطَّاب والسدوسيّ، اهـ "سمين".
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآياتُ ضروبًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الحصر في قوله ﴿إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا﴾.
ومنها: إفادة العموم بحذف المضاف في قوله: ﴿كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾؛ أي: كل من الدابة ومستقرها، ومستودعها، ورزقها.
ومنها: الإضافةُ للتشريف في قوله: ﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ﴾.
ومنها: تكريرُ القسم في قوله: ﴿وَلَئِنْ قُلْتَ﴾، ﴿وَلَئِنْ أَخَّرْنَا﴾، ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَا﴾، ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ﴾.
ومنها: الطباق بين: ﴿نَعْمَاءَ﴾ و ﴿ضَرَّاءَ﴾.
ومنها: صيغة المبالغة في قوله: ﴿لَيَئُوسٌ كَفُورٌ﴾.
ومنها: التشبيه البليغ في قوله: ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾؛ أي: كالسحر، فالكلام من باب التشبيه البليغ، حيث شَبَّهوا نَفْسَ البعث أو القرآن المتضمن لذكره بالسحر في الخديعة، حيث زعموا أنه إنما ذكر ذلكَ لمنع الناس عن لذات الدنيا، وصَرفِهم إلى الانقياد له، ودخولهم تحت طاعته، أو في البطلان، فإنَّ السحرَ لا شكَّ أنه تمويه، وتخييلٌ بَاطِل، فشبهوا الأمورَ المذكورة من البعث، والحساب، والجزاء في البطلان بالسحر، اهـ "زاده".
ومنها: الاستعارة التصريحيةُ التبعيةُ في قوله: ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ﴾ لأنّ الذوقَ حقيقة في معرفة طَعْمِ المطعوم باللسان، فهو هنا كناية عن الإعطاء.
ومنها: وصف الأجر بالكبر في قوله: ﴿وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ للتفخيم، والتعظيم لما احتوى عليه من النعيم السرمدي، ودفع التكاليف، والأمن من عذاب الله، والنظر إلى وجهه الكريم، وفيه أيضًا رعاية الفواصل حيث أتى به، ولم يَقُلْ أجر عظيم.
45
ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: ﴿فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ﴾.
ومنها: الكنايةُ في قوله: ﴿وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ﴾؛ لأن الضِّيقَ هنا كناية عن الهمِّ والحزن.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿صَدْرُكَ﴾؛ أي: قلبك حيث أطلق المحل، وأراد الحال.
تنبيه: التحدي بعشر سور، جاء بعد التحدي بالقرآن الكريم كله، فلما عجزوا عن الإتيان بمثل القرآن تحدَّاهم بعشر سور، ثُمَّ لما عجزوا تحداهم بالإتيان بسورة مثله في البلاغة، والفصاحة، والاشتمال على المغيبات، والأحكام التشريعية، وأمثالها، وهي الأنواعُ التسعةُ، وقد نظَمَها بعضُهم بقوله:
وَالنَّاسُ أَلْفٌ مِنْهُمُ كَوَاحِدِ وَوَاحِدٌ كَالأَلْفِ إِنْ أَمْرٌ عَرَا
يَا مَنْ مَلَكُوْتُ كُلِّ شَيْءٍ بِيَدِهْ طُوْبَى لمَنِ ارْتَضَاكَ ذُخْرًا لِغَدِهْ
أُطْلُبُوْا الأرْزَاقَ مِنْ أَسْبَابِهَا أُدْخُلُوْا الأَبْيَاتَ مِنْ أَبْوَابِهَا
أَلاَ إِنَّمْا الْقُرْآنُ تِسْعَةُ أَحْرُفٍ سَأُنْبِيْكَهَا فِيْ بَيْتِ شِعْرٍ بَلا مَلَلْ
حَلاَلٌ حَرَامٌ مُحْكمٌ مُتَشَابِهٌ بَشِيْرٌ نَذِيْرٌ قِصَّةٌ عِظَةٌ مَثَلْ
ومنها: الحذفُ والزيادة في عدّةِ مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
46
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (١٩) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (٢٠) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٢١) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٢٢) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٣) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (٢٤) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (٢٧) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (٢٨) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (٢٩) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (٣٠) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٣١) قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٣) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٣٤)﴾.
المناسبة
قوله تعالى ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا...﴾ الآية، مناسبةُ هذه الآية لما قبلها: أنَّه لمَّا سبَق (١) قوله تعالى ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ﴾.. ذَكر هنا أنه لا
(١) البحر المحيط.
47
أحدَ أظلمُ ممن افترى على الله كذبًا، وهم المفترون الذين نسبوا إلى الله سبحانَه وتعالى الولدَ، واتخذوا معه آلهةً وحرَّموا وحلَّلوا من غير شرع الله تعالى.
قولُه تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ...﴾ الآيات، مناسبتُها لِما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لما ذكر ما يَؤُول إليه الكفار من النار.. ذَكَرَ ما يَؤُول إليه المؤمنون من الجنة، والفريقان هنا: المؤمنُ والكافرُ، ولمَّا كان قدَّم ذِكرَ الكفار، وأَعْقبَ بذكر المؤمنينَ جاء التمثيلُ هنا مبتدأً بالكافر، فقال: ﴿كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ﴾.
وعبارةُ المراغي هنا: مناسبتُها لما قبلها: أنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى لمَّا بيَّن فيما سبق أنَّ الناس فريقانِ: فريقٌ يريدُ الدنيا وزينتَها، وفريق على بَيِّنَةٍ من ربه.. أرْدفَ ذلك ببيانِ حالِ كلِّ من الفريقين في الدنيا، وما يكون عليه في الآخرة.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ...﴾ الآيات، مناسبتُها لِمَا قبلها: أنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى لَمَّا ذَكَرَ (١) بَعثة النبيّ الكريم، وأثْبتَ بالبرهان أنه رسول من رب العالمين، وأنَّ القرآنَ وَحْيٌ من الرحمن الرحيم.. أرْدفَ ذلك بقصص الأنبياء قبله ليبينَ لقومه: أنَّ محمدًا - ﷺ - ليس بدعًا من الرسل، وإنه إنما بُعِثَ بمثلِ ما بعث به مَن قبله من الدعوةِ إلى عبادة الله تعالى وحده، والإيمان بالبعث والجزاء، فحالُه معهم كحال مَنْ قبله من الرسل عليهم السلام، مع أقوامهم جملةً وتفصيلًا، كما قال: ﴿سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (٧٧)﴾.
قوله تعالى: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قَبْلَها: أن الله سبحانه وتعالى لَمَّا ذَكَر مقالتَهم وطَعْنَهم في نوح عليه السلام بتلك الشُّبه السالفة.. قَفَّى على ذلك بدَحْضِ نوح عليه السلام لها، وردِّ شبهات أخرى، قد تكون صَدَرَتْ منهم، ولم يَحْكِها لعِلْمِها من الرد عليها، ورُبَّما لم
(١) المراغي.
48
يقولوها، وإن كان كلامهم يستلزمُهَا، وهذا من خواص أسلوب الكتاب الكريم، وسرٌّ من أسرار بلاغته.
قوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا...﴾ الآيات، مناسبتها لِمَا قَبْلَها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لمَّا ذَكَرَ شُبهَاتِهم في رَفْضِ نبوة نوح عليه السلام، ورَد نوحٍ عليهم بما فيه مقنع لهم لو كانوا يعقلون.. ذَكَرَ هنا مقالتَهم التي تَدُلُّ على العجز والإفحام، وأنَّ الحِيَلَ قد ضَاقَتْ عليهم، فلم يَجِدُوا للردِّ سبيلًا في ذلك إيماءً إلى أنَّ الجدال في تقرير أدلة التوحيد، والنبوة والمعاد، وفي إزالة الشبهات عنها هيَ وظيفة الأنبياء، والتقليد، والجهلُ والإصرار على الباطل والإنكار والجحودُ هو دَيْدَنُ الكفار المعاندين.
التفسير وأوجه القراءة
١٨ - والاستفهام في قوله: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ للإنكار؛ أي: لا أحَدَ أشدُّ ظلمًا لنفسه ولغيره ممن افترى واخْتَلَق على الله كذبًا في أقواله، أو أفعاله، أو أحكامه، أو صفاته، أو في اتخاذ الشفعاء والأولياء له بدون إذنه، أو في زعم أنه اتخذ له ولدًا من الملائكة كالعرب الذين قالوا: الملائكة بنات الله، والنصارى الذين قالوا: المسيح ابن الله، أو في تكذيب ما جاء به رُسُلُه من دينه، لصد الناس عن سلوك سبيله.
واللفظ (١) وإن كان لا يقتضي إلا نفيَ وجود من هو أظلم منهم كما يفيده الاستفهام الإنكاري، فالمقامُ يفيدُ نَفْيَ المساوي لهم في الظلم، فالمعنى على هذا لا أحد مِثْلَهم في الظلم فَضْلًا عن أن يُوجَد من هو أظلم منهم، والإشارةُ بقوله ﴿أُولَئِكَ﴾ إلى الموصوفين بالظلم المتبالغ؛ أي: أولئك المُفتَرُونَ على الله الكذبَ ﴿يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ﴾ يوم القيامة للمحاسبة عرضًا تظهرُ به فضيحَتُهم؛ أي: يساقون إلى الأماكن المعدَّة للحساب، والسؤال، أو المعنى تعْرَضُ أعمالُ هؤلاء، وأقوالُهم على ربهم لمحاسبتهم ﴿وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ﴾ الذين يقومون للشهادة
(١) الشوكاني.
عليهم الذين هم الملائكة الحَفَظَةُ، وقيل: المرسلون، وقيل: الملائكة والمرسلون والعلماء الذين بلغوا ما أمَرَهم الله تعالى بإبلاغه، وقيل: جميع الخلائق.
أي: يقولُ الأشهادُ عند العَرْضِ ﴿هَؤُلَاءِ﴾ المُعرِضُون أو المعروضة أعمالُهم هم ﴿الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ﴾ بما نسبوه إليه، ولم يصرِّحوا بما كَذَبوا به كأنهُ كان أمرًا معلومًا عند أهلِ ذلك الموقف، وقولُهُ: ﴿أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ هذا من تمام كلام الأشهاد، أي: يقولون هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ويقولون: ألا لعنة الله، وطرده على الظالمين الذين ظَلَمُوا أنفُسَهم بالافتراء على الله، وغيرهم بالصدِّ عن سبيل الله، يفضحونهم بهذه الشهادة المقرونة، باللعنة الدالَّة على خروجهم من مُحيط الرحمة؛ ويجوز أن يكونَ من كلام الله سبحانَه قَالَه بعد ما قال الأشهاد ﴿هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ﴾.
وقد جاء في معنى هذه الآية قوله تعالى: ﴿إنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (٥١) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢)﴾.
وفي حديث ابن عُمر في "الصحيحين" وغيرهما، سمعت رسولَ الله - ﷺ - يقول: "إن الله يدنِي المؤمنَ حتى يضَعَ كَنَفَه عليه ويَسْترُهُ من الناس، ويقرره بذنوبه، ويقول له: أتَعْرِفُ ذَنْبَ كذا؟ أتعرَف ذَنْبَ كذا؟ فيقول: رَبّ أعْرِفُ، حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه قد هَلَكَ؟ قال: فإني سَتَرْتُها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، ثُمَّ يُعْطيَ كتابَ حسناته، وأما الكافرُ، والمنافق فيقول: ﴿الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ ".
١٩ - ثمَّ وصفَ هؤلاء الظالمينَ الذينَ لعنوا بأنهم هم ﴿الَّذِينَ يَصُدُّونَ﴾؛ أي: يمنعون مَن قَدَرُوا على مَنْعِه ويصرفونهم ﴿عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾؛ أي: عن دينه القيم وصراطه المستقيم، والدخول فيه ﴿وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾؛ أي: يصِفُونَها بالاعوجاج، والالتواءِ والميل عن الحق لينفروا منها أو يَبْغُون أَهلها أن يكونوا معَوَّجِينَ بالخروج عنها إلى الكفر ﴿و﴾ الحال أنَّ ﴿وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ﴾ لا يؤمنون ببعث، ولا جزاء؛ أي: يصفونها بالعِوَج، والحال أنهم بالآخرة غير مصدقين،
فكيف يَصُدُّون الناس عن طريق الحق، وهم على الباطل البَحْتِ؟ وتكريرُ الضمير لتأكيد كفرهم، واختصاصهم به، حتى كان كفر غيرهم غيرَ مُعتدٍّ به، بالنسبة إلى عَظيم كفرهم
٢٠ - ﴿أُولَئِكَ﴾ الموصوفون بتلك الصفات السابقة يعني المفترينَ على الله الصادينَ عن سبيل الله ﴿لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ﴾ الله ﴿فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: ما كانوا يعجزون اللَّهَ في الدنيا، إن أرادَ عقوبتهم؛ أي: إن هؤلاء الذين يصُدون عن سبيل اللَّهِ لم يكونوا بالذين يعجزون رَبهم، بهربهم منه في الأرض، إذا أراد عِقَابَهم بل هم في قبضته وملكه لا يمتنعون منه إذا أرادهم، ولا يفوتونه هربًا إذا طلبهم ﴿وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ﴾ يدفعون عنهم ما يريده الله سبحانه من عقوبتهم، وإنزالِ بأسِه بهم؛ أي: ولم يكن لهم أنصار ينصرونهم من دونه، وَيحُولُون بَيْنَهم وبَيْنَه إذا هو عذَّبهم، وجملة قوله: ﴿يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ﴾ من أجل ضلالهم وإضلالهم، مستأنفة لبيان أنّ تأخير العذاب والتراخيَ عن تعجيله لهم، ليكون عذابًا مضاعفًا يعني الرؤساءَ الصَّادِّين عن سبيل الله، وذلك لإضلالهم أتباعَهم، واقتداء غيرهم بهم؛ أي: إنَّ عدمَ (١) نزول العذاب ليسَ لأجْلِ أنهم قَدَرُوا على منع الله من إنزال العذاب بالفرار وغيره، ولا لأجل أن لهم ناصرًا يمنع العذابَ عنهم، كما زعموا أنَّ الأصْنَامَ شفعاؤُهُم عند الله، بل لأنه تعالى أمهلَهم كي يتوبوا عن كفرهم، فإذا أبوا إلَّا الثباتَ عليه، فلا بد من مضاعفة العذاب في الآخرة كما قال تعالى: ﴿يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ﴾؛ أي: يُزَاد عذابهم بسبب صدِّهم عن سبيل الله، وإنكارهم البعثَ بعد الموت، فيعذبون في الآخرة على ضلالهم في أنفسهم، وعلى إضلالهم غيرَهم، وهذا غيرُ خارج عن قوله تعالى: ﴿وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا﴾.
وقرأ ابن كثير، وابن عامر، ويزيد، ويعقوب (٢): ﴿يُضعَّف﴾ بلا ألف مع تشديد العين. ثمَّ بين علّةَ هذه المضاعفة بقوله: ﴿مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ﴾؛ أي: ما كانوا يستطيعون إلقاء أسماعهم إلى القرآن إصغاءً لدعوة الحق، لاسْتحواذ الباطل على أنفسِهم، ورَيْنِ الكفر، والظلم على قلوبهم، كما حَكى الله عنهم
(١) المراح.
(٢) الشوكاني.
بقوله: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٢٦)﴾، ﴿وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ﴾ ما يدُلُّ على صِدقه في الأنفس والآفاق.
وإجمال المعنى (١): أنهم لشدة انهماكهم في الكفر، واتباع الهوى والشهوات، صاروا يكرهون الحقَّ والهدى فيثقل عليهم سماع ما يبيِّنه من الآيات السَّمعية، وما يثبته من الآيات البصرية، فهم قد خَتَم الله على سمعهم، وعلى أبصارهم، فلا يسمعون الحقَّ سماعَ منتفع، ولاَ يبصرون حُجَجَ الله إبصارَ مهتد.
والخلاصة: أنهم أفرطوا في إعراضهم عن الحق، وبغضهم له حَتّى كأنَّهم لا يقدرون على الاستماع، ولا يقدرون على الإبصار، لِفرط تَعَامِيهم عن الصواب والحق.
٢١ - ﴿أُولَئِكَ﴾ المتصفون بتلك الصفات هم ﴿الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ بعبادة غير الله تعالى؛ أي: اشتَروا عبادةَ الآلهة بعبادة الله، فكان خسرانهم في تجارتهم، أعظم خسران ﴿وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾؛ أي: ذَهب وضاع ما كانوا يفترون من الآلهة التي يدعون أنها تشفع لهم، ولم يبقَ بأيديهم إلا الخسران. والمعنى: أي: أولئك الذين هذه صفتهم هم الذين غبَنُوا أنفسَهم حظوظَها من رحمة الله بافترائهم عليه، واشتراء الضلالة بالهدى، وبطل كذبهُم بادعاء أنَّ له شركَاءَ وشفعاء، يُقربونهم إليه زلفى ثم سلك بما كانوا يدعونه من دون الله غيرَ مسلكهم، إذ سلك بهم إلى جهنم، وصارت آلهتهم عَدَمًا؛ لأنها كانت في الدنيا أحجارًا أو خشبًا أو نحاسًا، وذلك هو ضلالهم وبعدُهم عنهم.
٢٢ - والخلاصة: وبَطَل كذبهم وإفكهم وفريتهم على الله، وادعاؤهم أنَّ الملائكةَ والأصنامَ تشفع لهم، وكلمة لا في قوله ﴿لَا جَرَمَ﴾ زائدة كما في "الإتقان"، وجَرَم فعل ماض بمعنى: حق، وثَبَتَ، وجملةُ قوله ﴿أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ﴾ في تأويل مصدر مرفوع على كونه فاعلًا لجرم؛ أي: حقَّ وثبَتَ كونهم في الآخرة أشدَّ الناس خسرانًا إذ هم قد اعتاضوا عن نعيم الجنان بحميم آن، وعن شرب
(١) المراغي.
الرحيق المختوم بسموم وحميم، وظلٍّ من يحموم، وعن الحور العين بطعام من غسلين، وعن قربِ الرحمن بعقوبة الملك الديان.
وفي "الفتوحات": كلمةُ ﴿لَا جَرَمَ﴾ ورَدَتْ (١) في القرآن في خمسة مواضع متلوةً بأنَّ واسمها، ولم يجيء بعدها فعل، واختلف فيها، فقيل: ﴿لا﴾ نافية لما تقدمَ، وقيل: زائدةٌ، قاله في "الإتقان"، اهـ "كرخي".
وعبارة "أبي السعود" ﴿لَا جَرَمَ﴾ فيها ثلاثة أوجه:
الأول: أن (لا) نافية لما سبق، و (جرم) فعل ماض بمعنى حقَّ وثَبَتَ، و (أنَّ) وما في حيزها فاعله؛ أي: حقَّ وثبَتَ كونُهم في الآخرة هم الأخسرين، وهذا مذهب سيبويه.
والثاني: أنَّ ﴿جَرَمَ﴾ بمعنى كَسَبَ وما بعده مفعولُه، وفاعله ما دلَّ عليه الكلام؛ أي: كَسَب ذلكَ خسرانهم، والمعنى ما حَصَل من ذلك إلا ظهورُ خسرانهم.
والثالث: أنَّ (لا جرم) بمعنى لا بدَّ؛ أي: لا بدَّ أنهم في الآخرة هم الأخسرون، اهـ.
وفي "الخطيب" ما نصه: قال الفراء: إن ﴿لَا جَرَمَ﴾ بمنزلة قولنا: لا بُدَّ ولا محالةَ ثم كَثُرَ استعمالُها حتى صارت بمنزلة حقًّا، تقول العرب: لا جَرمَ أنك مُحْسِنُ، على معنى حقًّا أنك محسن، اهـ وسيأتي بقية مباحثها في مبحث الإعراب إن شاء الله تعالى.
٢٣ - وبعد أن بيَّنَ حالَ الكافرينَ وأعمالَهم ومآلهم.. بيَّنَ حالَ المؤمنين، وعاقبةَ أمرهم، فقال ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وصدقوا الله ورسوله ﴿وَعَمِلُوا﴾ في الدنيا ﴿الصَّالِحَاتِ﴾ أي الأعمال الصالحة فأتوا بالطاعات وتركوا المنكرات ﴿وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ﴾؛ أي: خشعت نفوسُهُم واطمأنت إلى ربهم؛ أي (٢): إنَّ الذين آمنوا بكل ما يجب الإيمانُ به، وأتَوا بالأعمال الصالحات، بامتثال المأمورات، واجتناب المنهيات، واطمأنَّتْ قلوبُهُم عند أداء الأعمال إلى ذكر الله، فارغةً عن الالتفات
(١) الفتوحات.
(٢) المراح.
إلى ما سوى الله تعالى، واطمأنت إلى صِدْقِ وعْدِ الله بالثواب على تلك الأعمال، وخافَتْ قُلوبُهم أنْ يكونوا أتَوا بتلك الأعمال مع وجود الإخلال، ومن أنْ لا تكون مقبولةً ﴿أُولَئِكَ﴾ الموصوفون بتلك الصفات الجميلة هم ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ﴾؛ أي: قُطَّان الجنة الذين لا يخرجون منها، ولا يموتون بل ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾؛ أي: ماكثون فيها مكثًا مؤبَّدًا دائمون فيها أبدًا.
والإخْبَاتُ (١) في اللغة هو: الخشوع، والخضوع، وطمأنينة القلب، ولفظ الإخبات يتعدى بإلَى، وباللام فإذا قُلتَ: أَخْبَتَ فلان إلى كذا، فمعناه: اطمأنَّ إليه، وإذا قلتَ: أخبت له، فمعناه: خَشَعَ وخَضَعَ له، فقوله ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ إشارة إلى جميع أعمال الجوارح، وقوله ﴿وَأَخْبَتُوا﴾ إشارة إلى أعمال القلوب، وهي الخضوع، والخشوع لله عز وجل، يعني: أنَّ هذه الأعمال الصالحة لا تنفعُ في الآخرة إلا بحصول أعمال القلب، وهي الخشوع، والخضوع، وإذا فسَّرْنَا الإخبات بالطمأنينة، كان معنى الكلام أنهم يأتون بالأعمال الصالحة، مطمئِنّين إلى صدق وعد الله بالثواب، والجزاء على تلك الأعمال، أو يكونون مطمئنين إلى ذكره سبحانه وتعالى، وإذا فسَّرنا الإخباتَ بالخشوع، والخضوع.. كان معناه: أنهم يأتون بالأعمال الصالحة خائفينَ وَجِلينَ، أنْ لا تكونَ مقبولة، وهو الخشوع والخضوع،
٢٤ - وقولُه: ﴿مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ﴾ ضَرَب (٢) به مثلًا للفريقين، وهو تشبيهُ فريق الكافرينَ بالأعمى، والأصم، وتشبيهُ فريق المؤمنين بالبصير والسميع، على أنَّ كلَّ فريق شُبِّه بشيئَين أو شبِّه بمَنْ جَمَع بين الشيئين، فالكافر شُبِّه بمنْ جمَعَ بين العَمَى والصمم، والمؤمن شبِّه بمَنْ جَمَعَ بين السمع والبصر، وعلى هذا تكونُ (الواو) في ﴿وَالْأَصَمِّ﴾ وفي ﴿وَالسَّمِيعِ﴾ لعطف الصفة على الصفة، كما في قول الشاعر:
إِلَى الْمَلِكِ الْقِرْمِ وَابْنِ اَلْهُمَامْ وَلَيْثِ الْكَرِيْهَةِ فيْ الْمُزْدَحَمْ
(١) الخازن.
(٢) الشوكاني.
أي (١): صفة الكافر كصفةِ شخصٍ متصفٍ بالعمى، والصمم، فلا يهتَدي لمقصوده، وصفَةُ المؤمن كصفة شخص متصف بالبصر والسمع فاهتدى لمطلوبه.
والمعنى: مَثَلُ (٢) فريقَيْ الكافرين والمؤمنين، وصفتهما الحِسيَّةُ التي تطابق حالَهما كمثل الأعمى الفاقدِ لحاسَّةِ البصر في خِلْقَتِهِ والأصم الفاقد لحاسةِ السمع الذي حُرِمَ وَسَائِلَ العلم والمعرفة الإنسانية والحيوانية، ومَنْ هو كاملُ حَاستَي السمع والبصر، فهو يستمد العِلْمَ من آيات الله في خَلقِهِ بما يسمعُ من القرآن، وبما يَرَى في الأكوان، وهما وسيلتا العلم والهدى لعقل الإنسان.
والاستفهام في قوله ﴿هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا﴾ للإنكار، وهذه الجملة مقررةُ لِمَا تقدم من قوله: ﴿أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ﴾؛ أي: هل يستوي الفريقان صفةً وحالًا ومآلًا؟ كلَّا، إنهما لا يَستويان، و (الهمزةُ) في قوله: ﴿أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (١٥٥)﴾ للتوبيخ داخلةٌ على محذوف، و (الفاءُ) عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أتَغْفُلُون عن ذلك المَثَلِ الجَليِّ الواضح وتَشكُّون في عدم الاستواء، فلا تَتَذكَّرون ما بينهما من التَّباين والاختلاف، فتعتبرُوا به؛ أي أفلا تذكرون في عدم استوائهما، وفيما بينهما من التفاوت الظاهر الذي لا يَخْفى على مَنْ له تذكُرٌ وعنده تأمُّلٌ، والهمزةُ لإنكارِ عدم التذكر، وابتعاد صدورِه من المخاطبين.
وإجمالُ المعنى: أنه شَبَّهَ الكافرين بالعُمْي الذين لا يستعملون أبْصَارهم فيما يفضلون به الحيوانَ الأعجم من فَهْمِ آيات الله التي تزيدُهم عِلْمًا وهُدًى وبالصم الذين لا يَسْمَعون داعِيَ الله إلى الرشاد والهدى فيجيبونه، ويهتدون به، وشبه المؤمنين الذين انْتَفَعُوا بأسماعهم وأبصارهم، واهتدوا إلى الجنة، وتركوا مَا كَانوا خابطينَ فيه من كفر وضلال، بحال مَنْ هو سميع بصير، فيهتدي بِسَمْعِهِ إلى ما يبعدُه من مواضع الهلاك، ويهتدي ببصرِه بواسطة النور حين السير في الظلام، وقرأ الجمهور: ﴿أَفَلَا تَذَّكَّرُونَ﴾ بإدغام التاء الثانية في الأصل في الذال، وفي قراءة سبعية: ﴿تَذَكَّرُون﴾ بحذف إحدى التائَين تخفيفًا.
٢٥ - ولمّا أورد سبحانه على
(١) المراح.
(٢) المراغي.
55
الكفار المعاصِرينَ لمحمد - ﷺ - أنواعَ الدلائل التي هي أوْضَحُ من الشمس.. أكَّد ذلك بذكر القصص طريقةِ التَّفَنُّنِ في الكلام، ونَقْلِه من أسلُوب إلى أسلوب لِتكونَ الموعظةُ أظْهَر، والحجةُ أبْينَ، والقبولُ أتمَّ، فقال: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ﴾.

فصل فيما حوته قصص القرآن


إنَّ في قصص (١) القرآن لأَشِعَّةٌ من ضياء العلم والهدى، جاءَتْ على لسان رَجْلٍ أمّيّ لم يكن منشئًا، ولا راويةً، ولا حافظًا، ويمكن أن نَجْعَلَ أغراضَها فيما يلي:
١ - بيان أُصول الدين المشتركة بين جميع الأنبياء من الإيمان بالله، وتوحيده، وعلمه، وحكمته، وعدله، ورحمته، والإيمان بالبعث والجزاء.
٢ - بيانُ أنَّ وظيفة الرسل تَبْليغُ وَحْيِ الله تعالى لعباده فحَسْبُ، ولا يملكون وَراءَ ذلِكَ نَفْعًا، ولا ضَرًّا.
٣ - بيانُ سُنن الله في استعدادِ الإنسان النفسيّ والعقليّ لكلّ من الإيمان، والكفر، والخير، والشر.
٤ - بيان سُنَنِ الله في الاجتماع، وطباع البشر، وما في خلقه للعالم من الحكمة.
٥ - آياتُ الله وحججه على خلقه في تأييد رسله.
٦ - نصائح الأنبياء ومواعظُهم الخاصَّة بكل قوم بحسَبِ حَالِهم كَقَوْمِ نوح في غِوَايتهم، وغرورهم، وقوم فرعون، ومَلَئِهِ في ثَرْوَتِهم، وعُتوِّهم، وقوم عاد في قُوَّتِهم وبطشهم، وقوم لوط في فحشهم.
٧ - تسلية للنبي - ﷺ - حيث يَعْلَمُ ما وقع لغيره من الأنبياء.
(١) المراغي.
56
وجملة ما ذكره في هذه السورة من القصص سبعةٌ (١):
القصة الأولى: قصة نوح عليه السلام، المذكورة في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ﴾ إلخ.
القصة الثانية: قصة هود عليه السلام، المذكورة في قوله تعالى: ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا﴾.
القصة الثالثة: قصة صالح عليه السلام، المذكورة في قوله تعالى: ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا﴾ إلخ.
القصة الرابعة: قصة إبراهيم عليه السلام، مع الملائكة، المذكورة في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى﴾.
القصة الخامسة: قصة لوط عليه السلام، المذكورة في قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ﴾ إلخ.
القصة السادسة: قصة شعيب المذكورة في قوله تعالى: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا﴾ إلخ.
القصة السابعة: قصة موسى المذكورة في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا﴾ إلخ، وهي آخر القصص.
وتقدَّم أنَّ نوحًا اسمه عَبْدُ الغفار، ونوحُ لقبه، قال ابن عباس (٢): بُعث نوح بعد أربعينَ سنةً، ولبِثَ يدعو قومَه تسع مئة سنة وخمسين عامًا، وعاش بعد الطوفان ستين سنةً، فكان عُمْرُه ألف سنة وخمسين سنة، وقال مقاتل: بُعِثَ، وهو ابن مئة سَنَةٍ، وقيل: وهو ابن خمسين سنة، وقيل: وهو ابنُ مئتين وخمسين سنة، ومكَثَ يَدْعُو قَوْمَه تسع مئة سنةٍ وخمسين سنةً، وعاش بعد الطوفان مئتين وخمسين سنةً، فكان عمره ألفَ سنة وأربع مئة سنة وخمسين سنة، اهـ "خازن".
(١) الفتوحات.
(٢) الخازن.
57
أي: وعزتي وجلالي.. لقد أرسلنا وبعثنا نوحًا عليه السلام إلى قومه قائلًا لهم: يا قوم ﴿إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ أي: مخوف لكم من عذاب الله تعالى، وبأسه إن خالفتم أمر الله سبحانه وعبدتُم غَيرَه ﴿مبِينٌ﴾؛ أي: بَيّن الإنذار، أبيِّن لكم موجبات العذاب، ووجه الخلاص منه.
أي: ولقد أرسلنا نوحًا إلى قومه قائلًا لهم: إني لكم نذير من الله أنْذركم بأْسَه على كفركم به فآمنوا به، وأطيعوا أمْرَه.
وقرأ النحويان (١) أبو عَمرو، والكسائي، وابن كثير: (أَنَّي) بفتح (الهمزة)؛ أي: بأني وباقي السبعة بكسرها على إضمار القول
٢٦ - ثم فسَّر هذا الإنذار بقوله: ﴿أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ﴾ بدل (٢) من ﴿إني لكم..﴾ إلخ. على قراءة الفتح ومجرور بالباء المقدرة التي للتعدية المتعلِّقة بـ ﴿أَرْسَلْنَا﴾؛ أي: ولقد أرسلنا نوحًا إلى قومه بأن لا تعبدوا إلا الله، ولا تشركوا به شيئًا، وكانوا أولَ مَنْ أشْركَ بالله، واتخذوا الأندادَ، وكان هو أوَّل رسول أرسله الله إلى أهل الأرض، ثم علل هذا بقوله: ﴿إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ﴾؛ أي: إن لم تخصوه بالعبادة، وتفردوه بالتوحيد، وتخلعوا ما دونه من الأنداد، والأوثان.. أخَف عليكم من الله عذابَ يوم مؤلم عِقَابُه وعذابه، لمن عذب فيه، وهو يوم القيامة أو يوم الطوفان، ووصفَه بالأليم من باب الإسناد المجازي مبالغةً، وقد أجابوه عن مقالته بأربع حجج داحضةٍ ظنًّا منهم أنها تكفي في رد دعوته، وهذا الجواب يتضمَّن الطعنَ منهم في نبوته من ثلاثِ جهات:
٢٧ - الجهة الأولى: ما ذكره بقوله ﴿فَقَالَ الْمَلَأُ﴾؛ أي: الأشراف، والرؤساء الذين كفروا من قومه؛ أي: من قوم نوح، ووصفهم بالكفر ذمًّا لهم، وفيه دليلٌ على أنَّ بعضَ أشرافِ قومه لم يكونوا كفرةً ﴿مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا﴾؛ أي: ما نعلمك إلا آدمِيًّا مثلنا، ليس فيك مزية تخصك بوجوب الطاعة علينا؛ أي: نحن وأنت مشتركون في البشرية، فلم يكن لك علينا مزيةٌ تستحق بها النبوةَ دُوننا؟
(١) البحر المحيط.
(٢) المراح.
58
وهذه هي الجهة الأولى من جهات طعنهم.
والجهة الثانية: ما ذكره بقوله ﴿وَمَا نَرَاكَ﴾ يا نوح ﴿اتَّبَعَكَ﴾، وأطاعك في دعوتك ﴿إِلَّا﴾ الأقوام ﴿الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا﴾ وأخساؤنا كالحجَّامين والنساجين والأساكفة، ولم يَتْبَعْكَ أحد من الأشراف، فليس لك علينا مزية باتباع هؤلاء الأراذل لك، وانتصاب ﴿بَادِيَ الرَّأْيِ﴾ على الظرفية، والعامل فيه اتبعك؛ أي: اتبعوك في ظاهر رأيهم، وابتداء فكرهم من غير تعمق، ولا تأمل فيه، ولو احتاطُوا في الكفر ما اتبعوك؛ أي: وإنَّا لم نَرَ متبعيك إلّا الأَخساء والفقراء كالزراع والصناع، ومن في حكمهم في المكَانَة الاجتماعية باديَ الرأي قبل التأمل في عواقبه، والنظر في مستنده، وترجيح العقل له، وهذا مما يرجِّح ردَّ الدَّعوة، والتولي عنها.
والجهة الثالثة من جهات طعنهم في نبوته: ما ذكره بقوله: ﴿وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ﴾؛ أي: لا نرى لك، ولمن اتَّبعك من الأراذل فضْلًا علينا لا في العقل، ولا في رعاية المصالح العاجلة، ولا في قوة الجَدَل تتميزون به عنا، وتستحقون به ما تدعونه، خاطبوه في الوجهَين الأولَين منفردًا، وفي هذا الوجه خاطبوه مع متبعيه.
والمعنى: وما نَرى لك، ولمن اتبعك أدْنَى امتياز عنا من قوة أو كثرة علم، أو أصالة رَأي يَحْمِلُنا على اتباعكم، ويَجْعَلُنا ننزِل عن جاهِنا ومالِنا، ونكون نحنُ وأنتم سواءَ، ثم أضرَبوا عن الثلاثةِ المَطَاعن، وانتقلوا إلى ظنهم المجرد عن البرهان، الذي لا مستندَ له إلا مجردَ العصبية، والحسد، واستبقاءَ ما هم فيه من الرياسة الدنيوية، وهذا هو الجوابُ الرابعُ فقالوا ﴿بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ﴾ فيما تدَّعُون؛ أي: بل إنَّا نُرَجِّحُ الحكم عليك، وعليهم بالكذب، فأنت كاذب في دعوى النبوة، وهم كاذبون في تَصْدِيقك؛ أي: بل نَظَنُّك يا نوح كاذبًا في دعوى النبوة، ونظن أصحابكَ كَاذِبينَ في تصديق نبوتك.
وقرأ أبو عمرو، وعيسى الثقفي (١): ﴿بادئ الرأي﴾ من بَدأ يبدأ، ومعناه:
(١) البحر المحيط.
59
أولَ الرأي، وقرأ باقي السبعة ﴿بادِيَ﴾ بالياء من بَدا يَبْدُو، ومعناه ظاهرَ الرأي، وقيل: ﴿بادي﴾ (بالياء) معناه بادِىءَ بالهمز فسهِّلت الهمزة، بإبدالها ياءٌ لكسر ما قبلها، والعامل فيه نراك، أو اتبعك، أو أراذلنا؛ أي: وما نراك فيما يَظهرُ لنا من الرأي، أو في أول رأينا، أو وما نراك اتبعك أوَّل رأيهم، أو ظاهرَ رأيهم، واحتملَ هذا الوَجْهُ معنيين:
أحدُهما: أنْ يريد: اتبعوك في ظاهرِ أمرهم، وعسى أن تكونَ بواطنهم ليسَتْ معك.
والمعنى الثاني: أن يُريد: اتبعوكَ بأوَّلِ نظر، وبالرأي البادىء دون تثبت، ولو تثبتوا.. لم يتبعوك، وإذا كان العاملُ أراذلنا فمعناه الذين هم أراذِلنا بأدل نظر فيهم، وببادىء الرأي يُعْلَمُ ذلك منهم. ذكره أبو حيان.
٢٨ - ثمَّ ذَكَر سبحانه ما أجاب به نوحٌ عليهم فقال ﴿قَالَ﴾ نوحٌ ﴿يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ﴾؛ أي؛ أَخْبِرُوني ﴿إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي﴾؛ أي: على برهان من ربي في النبوة، يدل على صحتها، ويُوجب عليكم قبولَها مع كون ما جعلتموه قادحًا ليس بقادح في الحقيقة، فإنَّ المساواةَ في صفة البشرية لا تمنعُ المفارقةَ في صفة النبوة، واتباعُ الأراذل كما تزعمون ليس ما يمنع من النبوة، فإنهم مثلكم في البشرية، والعقل، والفهم، فاتباعهم لي حجةٌ عليكم لا لكم، ويجوز أنْ يُرِيدَ بالبينة المعجزةَ ﴿وَآتَانِي﴾؛ أي: أعطاني ﴿رَحْمَةً﴾؛ أي: نبوَّة ﴿مِنْ عِنْدِهِ﴾؛ أي: من فضله سبحانه وتعالى وقيَّدَ الرحمة بكونها من عنده تأكيدًا، وفائدتُهُ رَفْعُ الاشتراك، ولو بالاستعارةِ. ذكره أبو حيان. وقيل: الرحمةُ المعجزةُ، والبينةُ النبوةُ ﴿فَعُمِّيَتْ﴾؛ أي: خَفِيَتْ كُلُّ واحدة من البينة، والرحمة ﴿عَلَيْكُمْ﴾ وصار ذلك البرهانُ مشكوكًا في عقولكم، والإفرادُ في ﴿عميت﴾ على إرادة كلّ واحدة منهما، أو على إرادة البينة، لأنَّها هي التي تَظْهَر لِمَنْ تَفَكَّر، وتَخْفى على مَنْ لم يَتَفَكَّرْ.
وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم (١): ﴿فَعُمِّيَتْ﴾ بضم العين،
(١) البحر المحيط.
60
وتشديد الميم، مبنيًّا للمفعول؛ أي: أبهمت عليكم، وأُخْفِيَت، وقرأ باقي السبعة ﴿فعميت﴾ بفتح العين، وتخفيف الميم مبنيًّا للفاعل، وقرأ أبيٌّ وعليٌّ السلميُّ، والحسَن، والأعمش، فعَمَّاهَا عليكم، وروى الأعمش عن أُبيٍّ ووَثَّاب ﴿وعميت﴾ بالواو خفيفةً.
والمعنى (١): أي قال نوحُ ﴿يَا قَوْمِ﴾ أخْبِرُوني ماذا تَرون، وماذا تقولون، إن كنتُ على حجة فيما جئتكم به من ربي يَتَبيَّن لي بها أنه الحق من عنده لا من عندي، ومن كسبي البشري الذي تُشاركُونني فيه، وآتاني رحمةً من عنده، وهي النبوةُ وتعاليمُ الوحي التي هي سبَبُ رحمةٍ خاصَّةٍ لِمن يَهتدِي بِهَا، فحَجَبَها عنكم جهلكم، وغروركم بالمال والجاه، فلم تتبينوا منها ما تَدُلُّ عليه من التفرقة بيني وبينكم، فمنعتم فَضْلَ الله عني بحرماني من النبوة، والاستفهامُ في قوله ﴿أَنُلْزِمُكُمُوهَا﴾ للإنكار؛ أي: أنُكْرِهُكُم على قبولها، والاهتداء بها، والمرادُ إلزام الجبر بالقَتْلِ ونحوه لا إلزام الإيجاب، إذ هو حاصلٌ كما في "البيضاوي" ﴿وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ﴾؛ أي: وأنتم عنها معرضون غير متدبرين لها، كلّا إنَّا لا نفعل ذلك بل نَكِلُ أمركم إلى الله، حتى يقْضي في أمركم ما يَرى ويشاء، وما عليَّ إلا البلاغُ وهذا أوّلُ نصٍّ في دين الله على أنه لا ينبغي أن يكون الإيمانُ بالإكراه.
والخلاصة: أخبروني إن كنتُ على حجة ظاهرة الدلالة على صحة نبوتي، إلّا أنها خَافِيةٌ عليكم أيُمْكِنُنَا أن نَضْطَرَّكم إلى العلم بها، والحال أنكم كارهون لها غير متدبرين فيها، فإنَّ ذلك لا يَقْدِرُ عليه إلا اللَّهُ عزَّ وجلَّ؛ أي: أخْبِروني بجواب هذا الاستفهام، وهو أني لا أقْدِر على إجْباركم.
وحَكى الكِسَائي (٢)، والفراء إسكان الميم الأولى في ﴿أَنُلْزِمُكُمُوهَا﴾ تخفيفًا كما في قول امرئ القيس:
فَالْيَوْمَ أَشْرَبْ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ إِثْمًا مِنَ اللَّهِ وَلاَ وَاغِلِ
فإنَّ إسكانَ الباء في أشْرَبْ للتخفيف، وقد قرأ أبو عمرو كذلك.
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
61
قال ابن عطية (١): وفي قراءة أبيّ بن كعب ﴿أنلزمكموها من شطر أنفسنا﴾ ومعناه: مِن تلقاء أنفسنا، ورُوي عن ابن عباس: أنه قرأ ذلك ﴿من شطر قلوبنا﴾ انتهى، ومعنى شطر نحو، وهذا على جهة التفسير لا على أنه قرآن، لمخالفته سوادَ المصحف.
وفي هذه الآية (٢) إثباتٌ لنبوته عليه السلام، وردٌّ لإنكارهم لها، وتكذيبِه ومن معه فيها، وإبطالُ لشبهتهم في أنه بشرٌ مثلهم، وقد فاتهم أنَّ المساواة في البشرية لا تقتضي استواءَ أفرادِ الجنس في الكمالات، والفضائل، فالمشاهدَةُ والتجاربُ، تدل على التفاوت العظيم بين أفراد البشر في العقل والفكر والرَّأي، والأخلاق والأعمال حتى إنّ الواحِدَ منهم ليأتي بضروب من الإصلاح لقومه بالعلم والعمل، يَعْجزُ عن مثلها الأُلُوفُ من الناس في أَجْيالٍ كثيرة:
وَالنَّاسُ أَلْفٌ مِنْهُمُ كَوَاحِدِ وَوَاحِدٌ كَالأَلْفِ إِنْ أمْرٌ عَرَا
فما بَالُكَ بِمَنْ يَخْتَصُّهم الله تعالى من عباده بما شاء مما لا كسب لهم فيه، كالأنبياء والرسل الكرام،
٢٩ - وقال نُوحٌ أيضًا ﴿وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا﴾؛ أي: لا أطْلُب مِنكم مالًا، وجُعْلًا على تبليغي دَعْوةَ الرِّسالةِ، وعلى نصيحتي لكم، ودعوتي إياكم إلى توحيد الله، وإلى إخلاص العبادة له، فأكُونُ مُتَّهَمًا فيه عندكم، لمكانة حبِّ المال من أنفسكم، واعتزازكم به عليَّ، وعلى الفقراء من أتباعي، وما أريد بذلك إلا خَيْرَكم، ومصلحتكم، ﴿إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ﴾؛ أي: فما أَجْرِي على ذلك إلَّا على الله، الذي أرْسَلَنِي، فهو الذي يجازيني، ويثيبُني عليه، وإن ظننتم أنّي إنما اشتغلت بهذا التبليغ لأجل أخذ أموالكم، فهذا الظنُّ منكم خَطأٌ، وإنما أسْعَى في طلب الدين، لا في طلب الدنيا، وهذا يوجب فضلي عليكم، فلا تحرموا أنفسكم من سعادة الدين بسبب هذا الظن الفاسد.
ومثْل هذه المقالة قد صدَرَتْ من جميع الأنبياء بعده، فجَاءت على لسان هُود، وصالح، وشعيب، ومحمد صلوات الله عليهم أجمعين، كما ترى ذلك في
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
سورة الشعراء مَحْكِيًّا عنهم.
﴿وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ باللهِ وحده، وصدَّقوا برسالتي عن مجلسي بسبب قولكم اطْرُدهم عنك نتبعك؛ أي: ليس من شأني، ولا بالذي يكون مني أن أبعد من يؤمن بي، وأنحيه عني احتقارًا له على أيِّ حال كانَتْ صفتُه، وفي هذا إيماءٌ إلى الجواب عن قولهم: ﴿وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا﴾ وقد روي أنهم قالوا له: يا نوح! إن أحبَبْتَ أن نتبعك، فاطردْ هؤلاء، فإنَّا لن نَرْضَى أن نكون نحن وهم في الأمر سواءً، وقرىء ﴿بطاردٍ﴾ بالتنوين، قال الزمخشري: على الأصل، يعني أن اسمَ الفاعل إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال أصله: أن يَعْمَلَ، ولا يُضَافُ وهذا ظاهر كلام سيبويه، ذكره أبو حيان ثُمَّ علَّل الامتِناع من طردهم بقوله:
﴿إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾؛ أي: إنَّ هؤلاء الذين تسألونَني طردَهم صائرون إلى ربهم، وهو سائلهم عمَّا كانوا يعملون في الدنيا، ولا يسألهم عن حَسَبهم وشَرَفهم؛ أي: إنهم فائِزون في الآخرة بلقاء الله تعالى، فإنْ طردتهم.. استَخْصَمُوني في الآخرة عنده، فأُعاقبُ على طَرْدِهِم.
والمعنى: لا أطردهم فإنَّهم ملاقونَ يومَ القيامة ربَّهم، فهو يجازيهم على إيمانهم، لأنهم طلبوا بإيمانهم ما عندَه سبحانه، وكأنَّه قال هذا على وَجْه الإعظام لَهم، ويحتمل أنَّه قاله خوفًا من مخاصمتهم له عند ربهم، بسببِ طرده لهم، ثمَّ بيَّنَ لهم ما هم عليه في هذه المطالب التي طَلَبُوها منه، والعلل التي اعتلُّوا بها عن إجابته، فقال ﴿وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ﴾ كل ما ينبغي أن يُعْلَمَ، ومن ذلك استرذالُهم للذين اتبعوه، وسؤالُهُم له أن يطردَهم، أي: تجهلون ما يَمْتَازُ به البشر بعضُهم عن بعض من اتباع الحقِّ، والتَحلِّي بالفضائل، وعملِ البر، والخير، وتظنون أنَّ الميزةَ إنما تكون بالمال والجاه.
وقد جاءَ هذا المعنى في قصته من سورة الشعراء: ﴿قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (١١١) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١١٢) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (١١٣) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٤) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (١١٥)﴾.
٣٠ - ثم أكد عدمَ جوازِ طردِهم
بقوله: ﴿وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي﴾، ويمنعني ﴿مِن﴾ عذاب ﴿اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى، وانتقامه ﴿إِنْ طَرَدْتُهُمْ﴾؛ أي: إن طرَدت الذينَ آمنوا عن حَضْرَتِي، وأبْعَدْتُهم عن مجلسي بسبب قَوْلِكُم، فإنَّ طردَهم بسبب سبقهم إلى الإيمان، والإجابة إلى الدعوة التي أرسَلَ الله رسولَه لأجلها.. ظلم عظيم، لا يَقَعُ من أنبياء الله المؤيدينَ بالعصمة، ولو وقَعَ ذلك منهم فرضًا وتقديرًا.. لكان فيه من الظلم ما لا يكون، لو فَعَلَه غَيْرُهم من سائر الناس، والاستفهام في قوله: ﴿مَنْ يَنْصُرُنِي﴾ للإنكار و (الهمزة) في قوله: ﴿أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (١٥٥)﴾ للتوبيخ داخلةٌ على محذوف، و (الفاء) عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أتستمرون عَلى ما أنتم عليه مِنَ الجهل بما ذكر، فلا تذكرون من أحوالهم ما ينبغي تذكره، وتتفكرون فيه حتَّى تعرفوا ما أنتم عليه من الخطأ، فَتَنْتَهُوا عنه، وما هم عليه من الصواب، فإنَّ لهم ربًّا ينصرهم، وينتقم لهم.
٣١ - ﴿وَلَا أَقُولُ لَكُمْ﴾ بادّعائي للنبوة والرسالة ﴿عِنْدِي خَزَائِنُ﴾ رزق ﴿اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى أي أنواع (١) رزقه التي يَحْتَاجُ إليها عبادُهُ للإنفاق منها، أتصرف فيها بغير وسائل الأسباب المسخَّرة لسائر الناس، فأنفق على نفسي، وعلى من تَبِعَني بالتصرف فيها بخوارق العادات، بل أنا وغيري في الكسب سواء، إذ ذلك ليس من موضوع الرسالة، ولا من خصائص النبيّ، ولو كَانَ كذلك لاتبع الناس الرُّسلَ لأجلها، بل الغاية من بعْثِ الرسل تزكية الأنْفُس بمعرفة الله وعبادته، وتأهيلها لِمَثُوبتِهِ في دَارِ كرامته، ورضاه عنها يومَ لا ينفعُ مالُ ولا بنون.
وقال ابن الأنباري (٢): أراد بالخزائن: عِلْمَ الغيب المَطْوِيِّ عن الخَلْق لأنهم قالوا له: إنما اتَّبَعَكَ هؤلاء في الظَّاهِر، وليسوا مَعَك فقال لهم: ليس عندي خزائن غيوب الله، فأعلمَ ما تَنْطوِي عليه الضمائر، وإنما قيل للغيوب خزائنُ لِغُموضها عن الناس، واستتارها عنهم. قال سفيان بن عيينة: إنما آيات القرآن خزائن، فإذا دَخَلْتَ خزانة.. فاجْتَهد أن لا تَخْرُجَ منها حتى تعرف ما فيها.
(١) المراغي.
(٢) زاد المسير.
64
﴿وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾؛ أي: ولا أدَّعي أنِّي أعلَمُ بغيب الله، فلا أمْتَازُ عن سائر البشر، بعلم ما لا يصل إليه علمهم الكسبيُّ من مصالحهم، ومنافعهم، ومضارِّهم في معايشهم، وكسبهم، فأخْبَرُ بها أتباعي، لِيَفْضُلوا عليكم، ومن ثمَّ أمَرَ الله تعالى نبِيَّه أن يقول لقومه: ﴿قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ﴾.
قيل: إنما قالَ لهم هذا، لأنَّ أرضَهم أجْدَبَتْ فسألوه متى يَجِىءُ المطر، وقيل: بل سألوه متى يجيء العذابُ، وقوله: ﴿وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ﴾ جوابُ لقولهم: ﴿مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا﴾؛ أي: ولا أقول لكم إني مَلَكُ من الملائكة، أُرْسِلْتَ إليكم، فَأكون كاذبًا فيما أدَّعِي، بل أنا بشر مثلكم، أمرتُ بدعائكم إلى الله، وقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم.
وفي هذا (١): دحض لشبهَتهم إذ زعموا أنَّ الرَّسولَ من الله إلى البشر، يجب أن يفضُلَهم، ويمتازَ عنهم، ولا سبيلَ إلى ذلك إلا بأن يكون مَلَكًا يَعلمُ ما لا يعلمه البشر، ويقدر على ما لا يقدر عليه البشر.
والحاصلُ: أنكم (٢) اتخذتم فقدانَ هذه الأمور الثلاثة ذريعةً إلى تكذِيبي، والحالُ أنِّي لا أدَّعي شيئًا من ذلك، والذي أدَّعِيه لا يتعلق بشيء منها، وإنما يتعلَّقُ بالفضائل النفسانية التي بها تتَفاوَتُ مقاديرُ البشرِ.

فصل في الاستدلال على تفضيل الملائكة على الأنبياء


استدلَّ بعضُهم بهذه الآية (٣) على تفضيل الملائكة على الأنبياء، قال: لأن نوحًا عليه السلام قال: ﴿وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ﴾ لأنَّ الإنسان إذا قَالَ: أنا لا أدَّعِي كذا وكذا، لا يحسن إلا إذا كَانَ ذلك الشيء أشرف وأفضل من أحوال ذلك القائل، فلَمَّا قال نوح عليه السلام هذه المقالة، وجب أن يكون ذلكَ المَلَكُ
(١) المراغي.
(٢) المراح.
(٣) الخازن.
65
أفضَلَ منه، والجواب أن نوحًا عليه السلام إنما قال هذه المقالةَ في مقابلة قولهم: ما نراك إلا بشرًا مثلَنا لِما كان في ظنِّهم أنَّ الرُّسُلَ لا يكونون من البشر، إنما يكونون من الملائكة، فأعلمهم أن هذا ظن باطل، وأن الرسل إلى البشر إنما يكونون من البشر، فلهذا قال سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ﴾ ولم يُرِدْ أنَّ دَرَجَةَ الملائكة أفضلُ من درجة الأنبياء، والله أعلم.
وقال الشوكاني: وقد استدلَّ بهذا مَنْ قال: إنَّ الملائكةَ أفضل من الأنبياء، والأدلَّة في هذه المسألة مختلفة، وليس لطالب الحق إلى تحقيقها حاجةً، فليست مما كلَّفنا الله سبحانه وتعالى بعلمه.
﴿وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي﴾ ـهم وتحتقِرُهم ﴿أَعْيُنُكُمْ﴾ وتنظرهم نَظْرَةَ احتقار ﴿لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى، ولن يعطِيَهم ﴿خَيْرًا﴾؛ أي: هدايةً وأجْرًا، بل آتاهم الخير العظيم، بالإيمان به، واتباع نبيه، فهو مجازيهم بالجزاء العظيم في الآخرة، ورافِعُهم في الدنيا إلى أعلى محل، ولا يضرهم احتقارُكم لهم شيئًا.
أي: ولا أقولُ للذين اتبعوني، وآمنوا باللهِ وحده، وأنتم تنظرون إليهم نَظْرةَ استصغارٍ، واحتقارٍ، فتزدريهم أعينُكم لفقرهم، ورَثَاثَةِ حالهم: لن يؤتيهم الله خيرًا، وهو ما وعدوه على الإيمان والهُدى من سعادة الدنيا والآخرة، ولا يُبْطِلُ احتقَارُكم إيَّاهُمْ أجْرَهم، وليس لي أن أطَّلِعَ على ما في نفوسهم فأقْطَعَ عليهم بشيء.
﴿اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ﴾ من الإيمان به، والإخلاص له فَيُجازِيهم على ذلك، ليس لي ولا لكم من أمرهم شيء؛ أي: بل الله سبحانه وتعالى أعْلَمُ بما في قلوبهم، وبما آتاهم من الإيمان على بصيرة، ومن اتباع رسوله بإخلاصٍ وصدق سريرة، لا كَمَا زَعمتم من اتباعهم إيايَ باديَ الرأي، بلا بصيرة ولا علم.
﴿إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ لهم: إن فعلْتُ بهم ما تُريدونه أو من الظالمينَ لأنفسهم إن فعلتُ ذلك بهم؛ أي: إنّي إذا قَضَيْتُ على سرائرهم، بخلاف ما أبْدَتْه لي ألسنتهم على غير علم مني بما في نفوسهم، أكُونَ ظالمًا لهم بهضم
66
حقوقهم.
٣٢ - ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال قومُ نوح له؛ أي: جاوبوه بغير ما تقدم مِنْ كلامهم وكلامِه عجزًا عن القيام بالحجة، وقصورًا عن رتبة المناظرة، وانْقِطاعًا عن المباراة بقولهم: ﴿يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا﴾؛ أي: خاصَمْتَنَا بأنواع الخصام، وحاجَجْتَنَا بضروب الحجج، ﴿فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا﴾؛ أي: خصومَتَنا، ودفاعنا بكل حجة لها مدخل في المقام، واستقصيت فيه، فلم تدع حجة إلا ذكرتها حتى مللنا وسئمنا، ولم يَبْقَ لنا في هذا الباب شيءٌ من الجواب، فقد ضاقَتْ علينا المسالك، وانسدَّتْ أبوابُ الحِيَلِ، ولم يَبْقَ لدَيْنا شيء نَقُولُه كما قال في سورة نوح حكايةً عنه: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (٦)﴾ قال أبو السعود: فَأكْثَرْتَ جِدَالنا؛ أي: شَرَعْتَ في الجدال، فأكثرت، أو جادلْتَنا؛ أي: أرَدتَ جِدالَنا فأكثرتَ جِدَالَنا، فلا بُدَّ من أحد هذين التأويلين لِيَصِحَّ العطف، انتهى. ﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا﴾؛ أي: بالذي تعدناه، وتُخْبِرَنا به من عذاب الله الدنيوي الذي تَخَافُه علينا، وهو الذي أراده بقوله: ﴿إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ﴾، ﴿إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ فيما تقولُه لنا؛ أي: إن كنتَ صادقًا في دَعْواكَ أنَّ اللَّهَ يعاقبنا على عصيانه في الدنيا قبلَ عقابِ الآخرة.
وإنَّما كثرت مُجَادَلتُهُ لهم؛ لأنه أقام فيهم ما أخبر الله به ألْفَ سنة إلا خمسينَ عامًا، وهو كل وقت يدعوهم إلى الله، وهم يجيبونه بعبادتهم أصنامهم، وقرأ (١) ابن عباس: ﴿فأكثرت جدلنا﴾ كقوله: ﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا﴾. قال أبو البقاء: قوله تعالى: ﴿قَدْ جَادَلْتَنَا﴾ الجمهور على إثبات الألف، وكذلك: ﴿جدلتنا﴾ فأكثرتَ جدلنا بغير ألف فيهما، وهو بمعنى غلبتنا بالجَدَل، انتهى.
٣٣ - ﴿قال﴾ نوح لقومه حين استعجلُوه بإنزال العذاب يا قوم ﴿إِنَّمَا﴾ ذلكم العذاب بيد الله لا أملكه، وهو الذي ﴿يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ﴾؛ أي: إن تعلقت مشيئته به في الوقت الذي تَقتضيه حكمتُه، فإن قضَتْ مشيئته، وحكمته بتعجيله.. عَجَّلَهُ لكم،
(١) البحر المحيط.
وإن قَضَتْ مشيئته، وحكمته بتأخِيرِه.. أخَّره ﴿وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾؛ أي: بفائتين عمَّا أراده الله بِكُم بهربٍ، أو مدافعة؛ أي: لستم بفائتيه هربًا منه إن أخَّره لحكمة يعلمها، وهو واقع لا محالةَ متى شاء، لأنكم في ملكه وسلطانه، وقدرتُه نافذة عليكم لا يمكن أن تفلِتوا منه، ولا أنْ تَمْتَنِعُوا.
٣٤ - ولمّا قالوا (١) قَدْ جَادَلْتَنَا، وطلبوا تعجيلَ العذابِ، وكانَ مجادلَتُهُ لهم، إنما هو على سبيل النصح، والإنقاذ من عذاب الله قال: ﴿وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي﴾ وقرأ عيسى بن عُمَر الثقفي: (نَصْحِي) بفتح النون، وهو مصدر، وقرأه الجمهور بضمها، فاحتملَ أن يكونَ مصدرًا كالشكر، واحتمل أن يكونَ اسمًا.
أي: ولا ينفعكم، ولا يفيدكم إنذاري، وتحذيري إياكم عقوبتَه، ونزولَ العذاب بكم ﴿إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ﴾ وجوابُ هذا الشرط محذوف، دَلَّ عليه ما قبله، تقديره: إن أردت أن أنصح لكم لا ينفعكم نصحي الذي أبذُلُه لكم، وأستكثر منه قيامًا مني بحقِّ النصيحة لله، بإبلاغ رسالته، ولكم بإيضاح الحق، وبيان بطلان ما أنتم عليه ﴿إِنْ كَانَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ﴾ ويضلكم عن طريق الهدى والتوحيد، فلا ينفعكم نصحي بمجرد إرادتي له فيما أدْعُوكم إليه، بل يتوقف نَفْعُه على إرادة الله تعالى له، وقد مضت سنته كما دلَّت عليه التجارب، أنَّ النُّصْحَ إنما يقبله المستعد للرشاد، ويرفضه مَنْ غَلَبَ عليه الغيُّ والفسادُ باجتراحه أسْبَابَه من غُرور بِغنًى أو جاهٍ، أو باتباع هَوًى وحبِّ شهوات تمنع من طاعة الله تعالى.
فمعنى الآية (٢): لا ينفعكم نصحي، إن كان الله يريد أنْ يُضِلَّكُم عن سبيل الرشاد، ويَخْذلكم عن طريق الحق.
والخلاصة (٣): أنَّ معنى إرادة الله إغواءَهم: اقتضاءُ سننه فيهم أن يكونوا من
(١) البحر المحيط.
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
68
الغاوينَ لا خَلْقه للغواية فيهم ابتداء من غير عمل منهم، ولا كسب لأسبابها، فإن الحَوادثَ مرتبطة بأسبابها، والنتائجَ متوقفة على مقدماتها ﴿هُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿رَبُّكُمْ﴾؛ أي: مالك أمُوركم، ومُدبِّرُها بحسب سُنَنِه المطردة في الدنيا، فإليه الإغواء، وإليه الهدايةُ، ولكل شيء عنده قدر، ولكل قدر أَجَل ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ في الآخرة، فيجازيكم بما كنتم تعملون، إن خيرًا.. فخيرًا، وإن شرًّا.. فشر، ولا تظلمون نقيرًا.
الإعراب
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾.
﴿وَمَنْ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية ﴿مَن﴾ اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ ﴿أَظْلَمُ﴾ خبره، والجملة مستأنفة، ﴿مِمَّنِ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَظْلَمُ﴾، ﴿افْتَرَى﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾، والجملة صلة الموصول ﴿عَلَى اللَّهِ﴾ متعلق بـ ﴿افْتَرَى﴾، ﴿كَذِبًا﴾ مفعول به ﴿أُولَئِكَ﴾ مبتدأ ﴿يُعْرَضُونَ﴾ فعل ونائب فاعل ﴿عَلَى رَبِّهِمْ﴾ متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبرُ المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. ﴿وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ﴾ فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿يُعْرَضُونَ﴾، ﴿هَؤُلَاءِ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي وإن شئت: قلتَ: ﴿هَؤُلَاءِ الَّذِينَ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول لـ ﴿يقول﴾، ﴿كَذَبُوا﴾ فعل وفاعل صلة الموصول ﴿عَلَى رَبِّهِمْ﴾ متعلق به ﴿أَلَا﴾ حرف تنبيه ﴿لَعْنَةُ اللَّهِ﴾ مبتدأ ومضاف إليه ﴿عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ خبره، والجملة في محل النصب مقول القول.
﴿الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (١٩)﴾.
﴿الَّذِينَ﴾ صفة لـ ﴿الظَّالِمِينَ﴾، ﴿يَصُدُّونَ﴾ فعل وفاعل صلةُ الموصول ﴿عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ متعلق به، ﴿وَيَبْغُونَهَا﴾ فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿يَصُدُّونَ﴾، ﴿عِوَجًا﴾ حال من (الهاء) في ﴿يبغونها﴾، ﴿وَهُمْ﴾ مبتدأ ﴿بِالْآخِرَةِ﴾ متعلق
69
بـ ﴿كَافِرُونَ﴾، ﴿وَهُم﴾ توكيد لفظي ﴿كَافِرُونَ﴾ خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب حال من (واو) يصدون.
﴿أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (٢٠)﴾.
﴿أُولَئِكَ﴾ مبتدأ، ﴿لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ﴾ فعل ناقص واسمه وخبره، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ متعلق بـ ﴿مُعْجِزِينَ﴾ ﴿وَمَا﴾ الواو: عاطفة (ما) نافية ﴿كَانَ﴾ فعل ماض ناقص ﴿لَهُمْ﴾ جار ومجرور خبر ﴿كَانَ﴾ مقدم على اسمها ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه، حال ﴿مِنْ أَوْلِيَاءَ﴾ أو متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر ﴿مِن﴾ زائدة ﴿أَوْلِيَاءَ﴾ اسم ﴿كاَنَ﴾ مؤخر؛ أي: وما كان أولياء كائِنينَ لهم من دون الله، وجملة ﴿كاَنَ﴾ في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿لَمْ يَكُونُوا﴾، ﴿يُضَاعَفُ﴾ فعل مضارع مغير الصيغة ﴿لَهُمُ﴾ متعلق به ﴿الْعَذَابُ﴾ نائب فاعل، والجملة مستأنفة أو معطوفة بعاطف مقدر على جملة ﴿لَمْ يَكُونُوا﴾، ﴿ما﴾ نافية ﴿كَانُوا﴾ فعل ناقص واسمه ﴿يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في محل النصب خبر ﴿كاَنَ﴾، والجملة مستأنفة مسوقةٌ لتعليل مضاعفة العذاب، ﴿وَمَا﴾ (الواو) عاطفة (ما) نافية ﴿كَانُوا﴾ فعل ناقص، واسمه، وجملة ﴿يُبْصِرُونَ﴾ خبره، وجملة (كان) معطوفة على جملة ﴿مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ﴾.
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٢١) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٢٢)﴾.
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ﴾: مبتدأ وخبر والجملة مستأنفة ﴿خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول. ﴿وَضَلَّ﴾: فعل ماض. ﴿عَنْهُمْ﴾: جار ومجرور متعلقان بالفعل ﴿ضل﴾ ﴿ما﴾ موصولة أو موصوفة في محل رفع فاعل ﴿ضل﴾. ﴿كَانُوا﴾: فعل ماض ناقص، والواو: اسمها في محل رفع ﴿يَفْتَرُونَ﴾: فعل مضارع والجملة في محل نصب خبر كان، والجملة الاسمية صلة ﴿ما﴾ الموصولة، والعائد محذوف تقديره: ما يفترونه. ﴿لَا﴾: زائدة ﴿جَرَمَ﴾
70
فعل ماض بمعنى حق، وثبت مبني على الفتح، ﴿أَنَّهُمْ﴾ ناصب واسمه ﴿فِي الْآخِرَةِ﴾ متعلق بـ ﴿الْأَخْسَرُونَ﴾، ﴿هُمُ﴾ ضمير فصل ﴿الْأَخْسَرُونَ﴾ خبر (أنّ)، وجملة (أنّ) المصدرية في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية لـ ﴿جَرَمَ﴾، والجملة مستأنفة، والمعنى حَقَّ، وثبت كَوْنُهم الأخْسرين.

فصل في لا جرم


وقد مر لك بعض المباحث في جرم في مبحث التفسير، وفي "السمين": وفي هذه اللفظة خلاف بين النحويين، وتلخَّص من ذلك وجوه.
أحدُها: وهو مذهب الخليل، وسيبويه، أنهما مركَّبتان من ﴿لا﴾ النافية و ﴿جَرَمَ﴾ وبُنِيَتا على تركيبهما تركيبَ خمسة عشر، وصار معناهما معنى فعل، وهو حقَّ، فعلى هذا يرتفع ما بعدهما بالفاعلية، فقوله تعالى: ﴿لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ﴾؛ أي: حقَّ وثَبَت كون النار لهم، أو استقرارُها لهم.
الوجه الثاني: أنَّ ﴿لَا جَرَمَ﴾ بمعنى لا رَجُل في كون ﴿لا﴾ نافية للجنس، وجرمَ اسمها مبني معها على الفتح، وهي واسمها في محلّ رفع بالابتداءِ، وما بعدهما خبر ﴿لا﴾ النافية للجنس، وصار معناها، لا محالةَ في أنهم في الآخرة هم الأخسرون؛ أي: في خسرانهم.
الوجه الثالث: أنَّ ﴿لا﴾ نافية لكلام قد تقدم تكلم به الكفرةُ، فردَّ الله عليهم ذلك بقوله: ﴿لا﴾ كما ترد لا هذه قبلَ القسم في قوله لا أُقسِمُ وقوله: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ وقد تقدَّم تَحْقِيقُه، ثم أتى بعدها بجملة فعلية، وهي جرم أنَّ لهم كذا وجَرَم فعل ماض معناه كسب وفاعله مستتر يعود على فعلهم المدلول عليه بسياق الكلام، وأنَّ وما في حيزها في موضع المفعول به؛ لأنَّ ﴿جَرَمَ﴾ يتعدى إذا كان بمعنى كسَبَ، وعلى هذا فالوَقْف على قوله: ﴿لا﴾ ثم يبتدىءُ بـ ﴿جَرَمَ﴾ بخلاف ما تقدَّم.
الوجه الرابع: أنَّ معناه لا حَدَّ، ولا منعَ، ويكون ﴿جَرَمَ﴾ بمعنى القَطْعِ
71
تقول: جرمت؛ أي: قطعت فيكون ﴿جَرَمَ﴾ اسمَ لا مبنيٌّ معها على الفتح كما تقدَّم، وخبرها ﴿أنَّ﴾ وما في حيزها على حذف حرف الجر، أي: لا منع من خسرانهم فيعود فيه الخلاف المشهور، وفي هذا اللفظ لغاتٌ: يقال: لا جِرْمَ، بكسر الجيم، ولا جُرْم بضمها، ولا جَر بحذف الميم، ولا ذا جَرم، ولا أنَّ ذا جَرم، ولا ذُو جرم، وغير ذلك انتهى.
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٣)﴾.
﴿إِنَّ﴾ حرف نصب ﴿الَّذِينَ﴾ اسمها ﴿آمَنُوا﴾ فعل وفاعل صلة الموصول، ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿آمَنُوا﴾، ﴿وَأَخْبَتُوا﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿آمَنُوا﴾ إلى ﴿إِلَى رَبِّهِمْ﴾ متعلق به ﴿أُولَئِكَ﴾ مبتدأ ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ﴾ خبره، والجملة الاسمية في محل الرفع خبر ﴿إِن﴾ وجملة ﴿إِن﴾ مستأنفة ﴿هُمْ﴾ مبتدأ ﴿فِيهَا﴾ متعلق بـ ﴿خَالِدُونَ﴾، ﴿خَالِدُونَ﴾ خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة مؤكِّدة لما قَبْلَها.
﴿مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (٢٤)﴾.
﴿مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ﴾ مبتدأ ومضاف إليه، ﴿كَالْأَعْمَى﴾ جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة، ﴿وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ﴾ معطوفات على ﴿الأعمى﴾، ﴿هَلْ﴾ حرف للاستفهام الإنكاري ﴿يَسْتَوِيَانِ﴾ فعل وفاعل ﴿مَثَلًا﴾ تمييز محول عن الفاعل، والأصل هل يستوي مثَلُها، والجملة مستأنفة ﴿أَفَلَا﴾ (الهمزة) للاستفهام التوبيخي داخلة على محذوف، و (الفاء) عاطفة على ذلك المحذوف، (لا) نافية ﴿تَذَكَّرُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة معطوفةٌ على ذلك المحذوف، والتقدير: أتشكون في عدم الاستواء، فلا تذكَّرون ما بَيْنَهما من التباين.
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ الواو: استئنافية واللام موطئة للقسم ﴿قد﴾ حرف تحقيق {أَرْسَلْنَا
72
نُوحًا} فعل وفاعل ومفعول ﴿إِلَى قَوْمِهِ﴾: متعلق به، والجملة جواب للقسم المحذوف وجملة القسم المحذوف مستأنفة. ﴿إِنِّي﴾ بالكسر ناصب واسمه ﴿لَكُمْ﴾ متعلق بـ ﴿نَذِيرٌ﴾، ﴿نَذِيرٌ﴾ خبر إن ﴿مُبِينٌ﴾ صفة نذير، وجملة إن المكسورة في محل النصب مقول لقول محذوف تقديره قائلًا: إني لكم نذير مبين، وأما قراءة فتح همزة أنَّ فعلى تقدير حرف الجر.
﴿أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦)﴾.
﴿أَن﴾ حرف نصب ومصدر ﴿لَا﴾ ناهية جازمة ﴿تَعْبُدُوا﴾ فعل وفاعل في محل نصب بـ ﴿أن﴾ المصدرية مجزوم بـ ﴿لَا﴾ الناهية ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ ﴿اللَّهَ﴾ مفعول به، والجملة الفعلية صلة أن المصدرية، أن مع صلتها في تأويل مصدر ومجرور بحرف جر محذوف تقديره: ولقد أرسلنا نوحًا إلى قومه بعدم عبادة غير الله تعالى، ويصح كونُ أنْ مخففة، وكونُها تفسيرية ﴿إِنِّي﴾ ناصب واسمه ﴿أَخَافُ﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على نوح ﴿عَلَيْكُمْ﴾ متعلق به ﴿عَذَابَ يَوْمٍ﴾ مفعول به ومضاف إليه ﴿أَلِيمٍ﴾ صفة ﴿يَوْمٍ﴾ على سبيل التجوز، أو صفة ﴿عَذَابَ﴾ مجرور بالجوار نظير هذا جحر ضب خرب، وجملة ﴿أَخَافُ﴾ في محل الرفع خبر إن، وجملة إن مستأنفة مسوقة لتعليل قوله: ﴿إِنِّي لَكُمْ﴾ ولقوله: ﴿أَنْ لَا تَعْبُدُوا﴾ إلخ كما في "الجمل".
﴿فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ﴾.
﴿فَقَالَ﴾ الفاء: عاطفة، ﴿قَالَ الْمَلَأُ﴾ فعل وفاعل معطوف على جملة ﴿أَرْسَلْنَا﴾، ﴿الَّذِينَ﴾ صفة ﴿الْمَلَأُ﴾، ﴿كَفَرُوا﴾ فعل وفاعل صلة الموصول ﴿مِنْ قَوْمِهِ﴾ جار ومجرور حال من فاعل ﴿كَفَرُوا﴾، ﴿مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا﴾ مقول محكي لـ ﴿قال﴾، وإن شئتَ قلت: ﴿ما﴾ نافية ﴿نَرَاكَ﴾ فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على ﴿الْمَلَأُ﴾، ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ ﴿بَشَرًا﴾ مفعول ثان لـ ﴿نَرَاكَ﴾ إن كانت علمية أو حال من الكاف إن كانت بصرية ﴿مِثْلَنَا﴾ صفة لـ ﴿بَشَرًا﴾ والجملة الفعلية في محل النصب مقول القول ﴿وَمَا﴾ الواو: عاطفة.
73
ما نافية ﴿نَرَاكَ﴾ فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على ﴿الْمَلَأُ﴾، ﴿اتَّبَعَكَ﴾ فعل ومفعول به ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ ﴿الَّذِينَ﴾ فاعل ﴿اتبع﴾، وجملة ﴿اتَّبَعَكَ﴾ في محل النصب مفعول ثان لـ ﴿نَرَاكَ﴾ إن كانت علمية، أو حال من الكاف إن كانت بصرية، والجملةُ الفعلية في محل النصب معطوفة على جملة ﴿نَرَاكَ﴾ الأول ﴿هُمْ أَرَاذِلُنَا﴾ مبتدأ وخبر، والجملة صلة الموصول، ﴿بَادِيَ الرَّأْيِ﴾ ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿اتَّبَعَكَ﴾، ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، (ما): نافية ﴿نَرَى﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿الْمَلَأُ﴾، ﴿لَكُمْ﴾ جار ومجرور متعلق به، وهو في محل المفعول الثاني، إن كانت علمية ﴿عَلَيْنَا﴾ متعلق بـ ﴿فَضْلٍ﴾ ﴿مِنْ﴾ زائدة ﴿فَضْلٍ﴾ مفعول أول لـ ﴿نَرَى﴾، والجملةُ في محل النصب معطوفة على جملة ﴿مَا نَرَاكَ﴾، ﴿بَلْ﴾ حرف إضراب ﴿نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ﴾ فعل ومفعولان، وفاعله ضمير يعود على ﴿الْمَلَأُ﴾ والجملة في محل النصب معطوفة على الجمل التي قبلَها على كونِهَا مقولًا لـ ﴿قَالَ﴾.
﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (٢٨)﴾.
﴿قَالَ﴾ فعل وفاعله ضمير يعود على نوحٍ، والجملة مستأنفة ﴿يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ﴾ إلى قوله: ﴿إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ مقول محكي، وإن شئت قلتَ: ﴿يَا قَوْمِ﴾ منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول قال ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾ فعل وفاعل، وهو: يتعدى إلى مفعولين، والأول محذوف، لدلالة ما بعده عليه، تقديره: أرأيتم البَيِّنة من ربي إن كنتُ عليها أنلزمكموها، والمفعولُ الثاني: جملة الاستفهام الآتية ﴿إن﴾ حرف شرط ﴿كُنْتُ﴾ فعل ناقص، واسمه في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونه فعلَ شرط لها ﴿عَلَى بَيِّنَةٍ﴾ جار ومجرور خبر ﴿كان﴾، ﴿مِنْ رَبِّي﴾ صفة لـ ﴿بَيِّنَةٍ﴾، ﴿وَآتَانِي﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله ﴿رَحْمَةً﴾ مفعول ثان لـ ﴿آتَانِي﴾ لأنه بمعنى أعْطَى ﴿مِنْ عِنْدِهِ﴾ جار ومجرور صفة لـ ﴿رَحْمَةً﴾، وجملة ﴿آتاني﴾ في محل الجزم معطوفة على جملة ﴿كان﴾، ﴿فَعُمِّيَتْ﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة ﴿عميت﴾ فعل ماض مغير الصيغة في محل الجزم معطوف على ﴿آتاني﴾ ونائب
74
فاعله ضمير يعود على كل من البينة والرحمة ﴿عَلَيْكُمْ﴾ متعلق به، وجواب الشرط محذوف، تقديره: إن كنت على بينة من ربي، أأقدر على إلزامكم إياها، وجملة الشرط معترضة بينَ ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾ وبين مفعولها الثاني في محل النصب، مقول لـ ﴿قَالَ﴾، ﴿أَنُلْزِمُكُمُوهَا﴾ ﴿الهمزة﴾ للاستفهام الأنكاري ﴿نلزم﴾ فعل مضارع مرفوع، وقرىء بإسكان الميم الأول فرارًا من توالي الحركات، وهو متعد إلى مفعولين، وفاعله ضمير يعود على نوح ومَنْ معه، (الكاف) ضمير المخاطبين في محل النصب مفعول أول، و (الميمُ) حرفُ دال على الجمع، مبني بسكونٍ مقدر، مَنَعَ من ظهوره حركة إتباع الكاف، و ﴿الواو﴾ حرف متولد من إشباع ضمة الميم، و ﴿الهاء﴾ في محل النصب مفعول ثان لـ ﴿ألزم﴾ والجملة الفعلية في محل النصب مفعول ثان لـ ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾ كما مرَّ آنفًا، ﴿وَأَنْتُمْ﴾ مبتدأ ﴿لَهَا﴾ متعلق بما بعده ﴿كَارِهُونَ﴾ خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب حال من كاف المخاطبين في ﴿أَنُلْزِمُكُمُوهَا﴾.
﴿وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (٢٩)﴾.
﴿وَيَا قَوْمِ﴾ منادى مضاف معطوف على ﴿وَيَا قَوْمِ﴾ الأول ﴿لَا﴾ نافية ﴿أَسْأَلُكُمْ﴾ فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على نوح ﴿عَلَيْهِ﴾ متعلق به ﴿مَالًا﴾ مفعول ثان، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونه جوابَ النداء ﴿إن﴾ نافية ﴿أَجْرِيَ﴾ مبتدأ، ومضاف إليه ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ ﴿عَلَى اللَّهِ﴾ جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة ﴿ما﴾ نافية ﴿أَنَا﴾ مبتدأ ﴿بِطَارِدِ الَّذِينَ﴾ خبر، ومضاف إليه و ﴿الباء﴾ زائدة، والجملة في محل النصب معطوفة على الجملة التي قبلها ﴿آمَنُوا﴾ فعل وفاعل صلة الموصول ﴿إِنَّهُمْ﴾ ناصب واسمه ﴿مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾ خبره ومضاف إليه، وجملة إن في محل النصب مقول لـ ﴿قَالَ﴾ على كونها معلّلةً لما قبلها ﴿وَلَكِنِّي﴾ ناصب واسمه ﴿أَرَاكُمْ﴾ فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على نوح ﴿قَوْمًا﴾ مفعول ثان، وجملة ﴿تَجْهَلُونَ﴾ صفة ﴿قَوْمًا﴾ وجملة ﴿أَرَاكُمْ﴾
75
في محل الرفع خبر ﴿لكنَّ﴾ وجملة الاستدراك معطوفة على ما قبلَها على كَوْنِها مقولَ القول.
﴿وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (٣٠) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ﴾.
﴿وَيَا قَوْمِ﴾ منادى مضاف معطوف على ﴿وَيَا قَوْمِ﴾ الأول. ﴿مَن﴾ اسم للاستفهام الإنكاري في محل الرفع مبتدأ ﴿يَنْصُرُنِي﴾ فعل ومفعول ونون وقاية وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾ ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿من﴾ الاستفهامية، والجملة الاسمية جواب النداء على كَوْنِهَا مقول القول، ﴿إن﴾ حرف شرط ﴿طَرَدْتُهُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونه فعل شرط لها، وجواب ﴿إن﴾ الشرطية معلوم مما قَبْلَهَا، والتقدير: إن طردتهم فمن ينصرني، وجملة إن الشرطية في محل النصب مقول لـ ﴿قال﴾ ﴿أَفَلَا﴾ ﴿الهمزة﴾ للاستفهام التوبيخي داخلةٌ على محذوف، و ﴿الفاء﴾ عاطفة على ذلك المحذوف ﴿لا﴾ نافية ﴿تَذَكَّرُونَ﴾ فعل وفاعل ومفعوله محذوف تقديره: ما ينبغي تذكره من أحوالهم، والجملة الفعلية معطوفة على ذلك المحذوف، تقديره: أتستمرون على ما أنتم عليه من الجهل فلا تذكرون؟ والجملة المحذوفة مع ما عُطِفَ عليهَا مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَلَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿لا﴾ نافية ﴿أَقُولُ﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على نوح، والجملة معطوفة على جملة قوله ﴿لَا أَسْأَلُكُمْ﴾ على كونهَا جوابَ النداءِ ﴿لَكُم﴾ متعلق بـ ﴿أَقُولُ﴾ ﴿عِنْدِي﴾ خبر مقدم ﴿خَزَائِنُ اللَّهِ﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل النصب مقول لـ ﴿أقول﴾.
﴿وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾.
﴿وَلَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿لا﴾ نافية ﴿أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾ فعل ومفعولٌ به، لأنَّ عَلِم هنا بمعنى عَرَفَ، وفاعله ضمير يعود على نوح، والجملةُ الفعلية معطوفة على جملة ﴿عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ﴾ على كَوْنِهَا مقولَ أقول؛ أي: ولا أقول لكم إني أعلم
76
الغيبَ، ﴿وَلَا أَقُولُ﴾ معطوف على ولا أقول الأول ﴿إِنِّي مَلَكٌ﴾ ناصب واسمه وخبره، والجملة في محل النصب مقول أقول، ﴿وَلَا أَقُولُ﴾ معطوف على ﴿وَلَا أَقُولُ﴾ الأول ﴿لِلَّذِينَ﴾ متعلق به ﴿تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعوله محذوف تقديره: تزدريهم وهو العائد على الموصول، والجملة الفعلية صلةُ الموصول ﴿لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا﴾ ناصب وفعل ومفعول أول وفاعل ومفعول ثان، والجملةُ في محل النصب مقول ﴿أَقُولُ﴾، ﴿اللَّهُ﴾ مبتدأ ﴿أَعْلَمُ﴾ خبره ﴿بِمَا﴾ متعلق بـ ﴿أَعْلَمُ﴾، ﴿فِي أَنْفُسِهِمْ﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ والجملةُ الاسمية مستأنفة مسوقة لتعليل قوله: ﴿وَلَا أَقُولُ﴾ ﴿إِنِّي﴾ ناصب واسمه ﴿إِذًا﴾ حرف جواب لا عمل لها لعدم دخولها على الفعل ﴿لَمِنَ﴾ ﴿اللام﴾ حرف ابتداء ﴿مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ خبر ﴿إن﴾ وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل قوله ﴿وَلَا أَقُولُ﴾.
﴿قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢)﴾.
﴿قَالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿يَا نُوحُ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿يَا نُوحُ﴾ منادى مفرد العلم، وجملة النداءِ في محل النصب مقول ﴿قال﴾. ﴿قَدْ جَادَلْتَنَا﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محلِّ النصب مقول ﴿قَالُوا﴾ على كونهَا جوابَ النداء، ﴿فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة ﴿جَادَلْتَنَا﴾، ﴿فَأْتِنَا﴾ فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على نوح، والجملة معطوفة على جملة ﴿فَأَكْثَرْتَ﴾، ﴿بِمَا﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿أتنا﴾، ﴿تَعِدُنَا﴾ فعل ومفعول أول، والمفعول الثاني محذوف، تقديره: تعدناه، وهو العائد على الموصول، والجملة الفعلية صلة لـ ﴿ما﴾ ﴿إن﴾ حرف شرط ﴿كُنْتَ﴾ فعل ناقص واسمه في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كَوْنِهِ فعلَ شرط لها ﴿مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ خبره، وجواب ﴿إِن﴾ معلوم مما قبلها تقديره: إن كنتَ من الصادقين.. فأتنا بما تعدنا، وجملةُ ﴿إن﴾ الشرطية في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾.
﴿قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٣)﴾.
77
﴿قَالَ﴾ فعل ماض وفاعله ضمير يعود على نوح، والجملة مستأنفة ﴿إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾ إلى قوله: ﴿تُرْجَعُونَ﴾ مقول محكي، وإن شئتَ قلت: ﴿إِنَّمَا﴾ أداة حصر، ﴿يَأْتِيكُمْ﴾ فعل ومفعول ﴿بِهِ﴾ متعلق به ﴿اللَّهُ﴾ فاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿إِن﴾ حرف شرط ﴿شَاءَ﴾ فعل ماض في محل الجزم، بـ ﴿إِنْ﴾ على كونه فِعلَ شرط لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾ وجواب إن معلوم مما قبلها تقديره: إن شاء يأتيكم به، وجملة ﴿إِن﴾ الشرطية في محل النصب، مقولُ ﴿قَالَ﴾، ﴿وَمَا﴾ حجازية، أو تميمية لعدم ظهور الإعراب في الخبر، ﴿أَنْتُمْ﴾ اسمها أو مبتدأ ﴿بِمُعْجِزِينَ﴾ خبرها أو خبر المبتدأ، و (الباء) زائدة، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾.
﴿وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٣٤)﴾.
﴿وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾ على كونها مقول ﴿قَالَ﴾: ﴿إن﴾ حرف شرط ﴿أَرَدْتُ﴾ فعل وفاعل في محل الجزم على كونه فعلَ شرطِ لها ﴿أَنْ أَنْصَحَ﴾ ناصب وفعل منصوب ﴿لَكُمْ﴾ متعلق به، وفاعله ضمير يعود على نوح، والجملة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: إن أردت النصح لكم، وجوابُ ﴿إن﴾ معلوم مما قبلها تقديره: إن أردت النصحَ لكم لا ينفعكم نصحي، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية في محل النصب مقول ﴿قال﴾. ﴿إِنْ﴾ حرف شرط ﴿كَانَ اللَّهُ﴾ فعل ناقص واسمه في محل الجزم بـ (إنْ) على كونه فِعْلَ شرط لها، ﴿يُرِيدُ﴾ فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾، والجملة في محل النصب خبرُ ﴿كَانَ﴾، ﴿أَنْ يُغْوِيَكُمْ﴾ ناصب وفعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾ والجملة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، لـ ﴿يُرِيدُ﴾ تقديره: يريد إغواءه إياكم، وجواب هذا الشرط الثاني: هو الشرط الأول، وجوابه تقديره: إن كان الله يريد أن يُغْويكم.. فإن أردتُ أن أنْصَحَ لكم.. فلا ينفعكم نصحي، وذلك لأنه إذا اجتمع في الكلام شرطان وجواب، يُجعل الشرط الثاني
78
شرطًا في الأول؛ لأنَّ الشرطَ مقدَّم على المشروط في الخارج، ذكَرَه في "الفتوحات" ﴿هُوَ رَبُّكُمْ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب، مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها تَعْلِيلًا لِما قبلها، ﴿وَإِلَيْهِ﴾ متعلق بما بعده ﴿تُرْجَعُونَ﴾ فعل ونائب فاعل، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿هُوَ رَبُّكُمْ﴾ على كونهَا تَعْلِيلًا لما قبلها، والله أعلم.
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ ﴿أَظْلَمُ﴾ اسم تفضيل من ظلم يظلم، من باب: ضرب: ظلمًا، والظلم وضع الشيء في غير محله، وهو ضد العدل، والافتراءُ: اختلاق الشيء من عند نفسه، من غير أن يكون له أساس ﴿يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ﴾؛ أي: للمحاكمة عرضًا تظهر به فضيحتهم على ربهم؛ أي: على من يحسن إليهم، ويَمْلِكُ نواصِيَهم وكانوا جَديرينَ أن لا يكذبوا عليه ﴿وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ﴾، والأشهاد: جمع شاهد، كصاحب وأصحاب، أو جمع شهيد كشريف وأشراف، والأشهادُ الملائكة الذين يحفظون عليهم أعمالَهم في الدنيا أو الأنبياءُ أو هما والمؤمنون، أو ما يشهد عليهم من أعضائهم، أقوالٌ، واللعنة الطرد من الرحمة، والصدُّ عن سبيل الله الصرف عن دينه، والمنع من الدخول فيه ﴿يبغونها عوجًا﴾؛ أي: يصفونها بالاعوجاج تنفيرًا للناس عنها، والعِوج: الالتِواءُ، وعدمُ الاستِواء يقال: بَغَيْتُك شرًّا؛ أي: طلبته لك.
وفي "المختار": عوج - من باب طرب - فهو أعوج، والاسمُ العِوَجُ بكسر العين، فما كان في حائط أو عُود أو نحوهما، مما ينتصب فهو عَوَج بفتح العين، وما كان في أرض أو دين أو معاش فهو عِوَجٌ بكسر العين، واعوجَّ الشيء اعوجاجًا، فهو معوَّج بوزن محمَّد، وعصا معوجة أيضًا؛ أي: غيرَ مستقيمة. اهـ.
﴿مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: لا يمكنهم أنْ يهربوا مِنْ عذابه ﴿وَضَلَّ﴾؛ أي: غابَ ﴿لَا جَرَمَ﴾ قال الفراء: هي كلمة كانت في الأصل بمنزلة لا بُدَّ، ولا محالةَ
79
فَجَرَتْ على ذلك، وكثُرَتْ حتى تحولت إلى معنى القسم، وصارت بمنزلة حقًّا، فلذلك يجاب عنها باللام، كما يجاب بها عن القسم، ألا تراهم يقولون: لا جرم لآتينك. اهـ "مختار". وقد مر البحث عن ﴿لَا جَرَمَ﴾ في مبحثِ التفسير، وفي مبحثِ الإعراب، فلا حاجةَ إلى إطالة المبحث عنه هنا.
﴿وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ﴾ والإخبات في اللُّغة هو: الخشوعُ، والخضوع، وطمأنينة القلب، ولفظُ الإخبات يتعدَّى بإلى وباللام، فإذا قُلْتَ: أخْبَت فلان إلى كذا، فمعناه اطمأنَّ إليه، وإذا قلتَ: أخْبَتَ له فمعناه: خَشَعَ، وخضع له، ﴿وَأَخْبَتُوا﴾ بمعنى: خشعوا، وخضعوا، وأصْلُه من الخبت، وهو الأرضُ المطمئنة ﴿كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ﴾، و ﴿الأعمى﴾ هو من قام به العَمَى، والعَمى بفتحتين ذهابُ البصر، خِلْقةً أوْ لاَ يقال: عَمِيَ من باب صَدِي فهو أعمى، وقوم عُمْيٌ ﴿وَالْأَصَمِّ﴾ هو من قام به الصمم، والصمم ذَهابُ السمع خِلقة أَوْ لا، يقال: أصمّه الله فصم يصم بالفتح صممًا، وأصمَّ أيضًا بمعنى صَمَّ؛ أي: حَصَلَ له الصممُ، ورَجب شهر الله الأصمُّ، قال الخليل: إنما سمى بذلك؛ لأنه كان لا يسمع فيه صوت مستغيث، ولا حركة قتال، ولا قعقعةُ سِلاح، لأنه من الأشهر الحُرُم. اهـ "مختار".
﴿أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ فيه إدغامُ التاء الثانية في الأصل، في الذال على قراءة التشديد، وقرىء في السبعة: تذكرون بتخفيف الذال وتشديد الكاف بحذف إحدى التائين على حدِّ قول ابن مالك - وما بتاءين ابتدى قَدْ يُقْتَصَرُ - إلخ.
﴿فَقَالَ الْمَلَأُ﴾ الملأُ: الأشرافُ، والرؤساءُ، والزعماء ﴿هُمْ أَرَاذِلُنَا﴾، وفي "السمين": الأراذل فيه وجهان:
أحدهما: أنه جمع الجمع، فهو جمع أرذل بضم الذال، جمع رذل، بسكونها مثل أكالب، وأكلب، وكلب.
ثانيهما: أنه جمع مفرد، فالأراذل جمع الأرذل، كأكابر وأكبر، وأساود وأسود، وأباطح وأبطح، وأبارق وأبرق، وجمع على هذه الزنة، وإن كان وصفًا؛ لأنه غلبت عليه الاسمية، فصارَ كالأسماء، ومعنى غَلَبَتِهِ أنّه لا يكاد يذكر الموصوف معه، وهو مثل الأبطَح، والأبرق. ذَكَره أبو البقاء، والأرذل: الخسيس
80
الدنيء المرغوب عنه لدناءته والسفلة، قال النحاس: الأراذِلُ الفقراء الذينَ لا حسَبَ لهم، والحسَبُ الصِّناعاتُ. قال الزجاج: نسبوهم إلى الحياكة، ولم يعلموا أنَّ الصناعات لا أثرَ لها في الديانة، وقال ثعلب عن ابن الأعرابي: السفلة هو الذي يُصْلِحُ الدنيا بدينه، قيل له: فمن سَفَلةُ السَّفلةِ قال: الذي يُصْلِحُ دنيا غيرهِ بفساد دينه، والظاهر من كلام أهل اللغة أنَّ السفلة هو الذي يدخل في الحِرَفِ الدنية. ذكره الشوكاني.
﴿بَادِيَ الرَّأْيِ﴾ يقرأ (١) بهمزة بعد الدال، وهو من بَدَأَ يبدأُ إذا فَعَلَ الشيءَ أولًا، ويقرأ بياءِ مفتوحة، وفيه وجهان:
أحدهما: أنَّ الهمزةَ أبدِلَتْ ياءً لانكسار ما قبلها.
والثاني: أنه من بدا يبدو إذا ظَهَرَ وبادِيَ هُنَا ظَرفُ، وجاء على فاعل كما جاءَ على فعيل نَحْو: قريب، وبعيد، وهو مصدرُ مِثْلُ العافية، والعاقبة، وفي العامل فيه أربعةُ أوجه:
أحدها: نراك أي فيما يظهر لنا من الرأي، أو في أول رأينا فإن قيل ما قبل إلّا إذا تمَّ لا يعمل فيما بعدها كقولك، ما أعطيتُ أحدًا إلا زيدًا دينارًا، لأنَّ إلّا تُعدِّي الفعلَ ولا تعديه إلا إلى واحد كالواو في باب المفعول معه قيل جاز ذلك هنا، لأنَّ بادِيَ ظرف أو كالظرف، مثل جَهْد رأيي إنك ذاهب؛ أي: في جهدِ رأيي، والظروف يتوسع فيها.
والوجه الثاني: إن العاملَ فيه: أتبعكَ؛ أي: اتبعوك في أول الرّأي، أو فيما ظهَر منه من غير أن يبحثوا.
والوجه الثالث: أنه من تمام أراذلنا؛ أي: الأراذل في رَأينا.
والرابعُ: أنَّ العاملَ فيه محذوف؛ أي: يقول ذاك في بادي الرأي به، والرأي مهموز، وغير مهموز، ﴿تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ﴾ والازدراء مأخوذٌ من أزرى عليه إذا عَابه،
(١) (٢) العكبري.
81
وزَرَى عليه إذا احتقره، وأنشَدَ الفراء:
يُبَاعِدُهُ الصَّدِيْقُ وَتَزْدَريهِ حَلِيْلَتُهُ وَيَنْهَرُهُ الصَّغِيْرُ
وقال الآخر:
تَرَى الرَّجُلَ النَّحِيْفَ فتَزْدَرِيهِ وَفِيْ أثْوَابِهِ أسَدٌ هَصُوْرُ
وقال أبو البقاء: ﴿تَزْدَرِي﴾ (١) الدال فيه بدل من تاء الإفعالِ، وأصْلُ تزدري تزتري بوزن تفتعِلُ من زَرَيت، وأبدِلت دالًا لتجانس الزاي في الجهر والتَّاء مهموسةٌ، فلم تجتمع مع الزاي. انتهى.
﴿فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ﴾ يقال: عُمِّي عن كذا، وعمِّي عليه كذا بمعنى التبسَ عليه، ولم يَفْهَمْهُ، وخفيَ عليه أمرُهُ.
﴿قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا﴾ أصل الجدال، هو: الصراعُ، وإسقاطُ المرء صَاحِبَه على الجدالة، وهي الأرضُ الصلبة، ثم استُعمل في المخاصمة، والمنازعة بما يشغل عن ظهور الحق، ووضوح الصواب.
﴿وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي﴾ والنصحُ بضم النون، وفتحها مع سكون الصاد فيهما، مصدر نَصَح من بابَ فَتَحَ، والنصحُ معناه: تحري الخير، والصلاح للمنصوح له، والإخلاص فيه قولًا وعملًا. ﴿أَنْ يُغْوِيَكُمْ﴾ من أغوى الرباعي يُغْوِي إغواءً بمعنى أضله، والإغواء الإيقاع في الغي، وهو الفسادُ الحِسيُّ والمعنويُّ ثلاثيُّهُ غوى الرجل يَغْوِي إذا ضَلَّ وأَخطأ.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الاستفهامُ الإنكاريُّ في قوله: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى﴾.
ومنها: التحقيرُ في قوله: ﴿هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ﴾ إشارةٌ إلى تحقيرهم، وإصْغَارِهم بسوء مرتكبهم، وفي قوله ﴿عَلَى رَبِّهِمْ﴾؛ أي: على مَنْ
82
يُحْسِنُ إليهم، ويَمْلِكُ نَوَاصِيَهم ذكره في "البحر".
ومنها: تكريرُ الضمير في قوله: ﴿وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ﴾ لتأكيد كفرهم واختصاصهم به حتى كان كفر غيرهم غير معتد به بالنسبة إلى عظيم كفرهم.
ومنها: التشبيه المرسلُ المجمل في قوله: ﴿كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ﴾ لوجود أداة التشبيه، وحذف وَجْهِ الشبه؛ أي: مَثَلُ الفريق الكافر ﴿كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ﴾ في عدم البصر والسمع. ومثلُ الفريق المؤمن كالسميع والبصير، وهذا التشبيه تشبيه معقول بمحسوس فأعمى البصيرة أصمها، شبِّهَ بأَعْمى البصرِ أصم السَّمْعَ ذلك في ظلمات الضلالات متردد تَائِهٌ، وهذا في الطرقاتِ متحيِّرٌ لا يهتدي إليها.
ومنها: التنبيه بقوله: ﴿أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ على أنه يُمْكِنُ زوالُ هذا العَمَى وهذا الصممُ المعقولُ فيجب على العاقل أن يتذكَّر ما هو فيه، ويَسْعَى في هداية نفسه، ويمكن أن يكونَ من باب تشبيه اثنين باثنين، فقُوبِل الأعمى بالبصير وهو طباق، وقوبل الأصمُّ بالسميع وهو طباق أيضًا، والعمى والصمم، آفتان تمنعان من البصر والسمع، ولَيْسَتَا بِضِدَّين لأنه لا تَعاقُبَ بينهما، ويحتمل أن يكون من تشبيه واحد بوصفيه بواحد بوصفيه، فيكون من عطف الصفات، كما قال الشاعر:
إِلى الْمَلِكِ الْقِرْمِ وَابْنِ الْهُمَامْ وَلَيْثِ الْكَرِيْهَةِ في الْمُزْدَحَمْ
ولم يجيء التركيب كالأعمى والبصير والأصم والسميع فيكون مقابلة في لفظ الأَعمى وضِدِّه، وفي لَفْظِهِ الأصَمِّ وضدهِ، لأنه تعالى لَمَّا ذكر انسدادَ العين أَتْبَعَه بانسداد السمع، ولَمَّا ذَكَرَ انفتاحَ البصر أتبعه بانفتاح السمع، وذلك هو الأُسلوب في المقابلةِ والأتَم في الإعجازِ، ذَكَرَه في "البحر".
ومنها: المجازُ العقليُّ في قوله: ﴿إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيم﴾ لأنَّ نسبة الإيلام إلى اليوم مجاز عقلي نظير قولهم: نَهَارُه صائم.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ﴾ شبه خَفَاءَ الدليل بالعَمى في أنَّ كُلًّا يمنع الوصولَ إلى المقاصد، فاشتقَّ من العمى بمعنى الخفاء، ﴿عميت﴾ بمعنى خفيت على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية، ويمكن أن يكون
83
استعارةً تمثيليةً بأن شَبَّهَ الذي لا يهتدي بالحجة لخفائها عليه، بمَنْ سَلَكَ مفازة لا يعرف طُرُقَها، ومسلكها، واتبع دليلًا أعمى فيها على سبيل الاستعارة التمثيلية.
ومنها: الاستفهامُ التوبيخيٌّ المضمن للإنكار في قوله: ﴿أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾.
ومنها: التهكمُ والاستهزاء في قوله: ﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا﴾.
ومنها: الحذفُ والزيادة في عِدَّةِ مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
84
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (٣٥) وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (٣٨) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (٣٩) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (٤٠) وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (٤٢) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (٤٣) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٤) وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (٤٥) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (٤٦) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٤٧) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (٤٨) تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (٤٩)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ...﴾ الآية، قال مقاتل وغيره: هذه الآية معترضة في قصة نوح عليه السلام حكايةً لقول مشركي مكة في تكذيب هذه القصص، وللجمل والآيات المعترضة في القرآن حكم وفوائد:
منها: تنبيهُ الأذهان، ومنعُ السآمة، وتجديد النشاط بالانتقال من غرض إلى آخر، والتشويقُ إلى سماع بقية الكلام، ومن المتوقع هنا أن يَخْطُرَ في بال
85
المشركين حينَ سماع ما تقدم من هذه القصة، أنها مفتراةٌ لاستغرابهم هذا السبك في الجدال والقُوَّةَ في الاحتجاج؛ فكان إيراد هذه الآية تجديدًا للردِّ عليهم، وتجديدًا لِنشاطِهم.
قوله تعالى: ﴿وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها؛ أن الله سبحانه وتعالى لَمَّا أخبر أنَّ نوحًا قد أكثرَ في حجاجهم وجدالهم، وأنه كلما ازدادَ في ذلكَ زَادُوا عتوًّا وطغيانًا حين تعجَّلوا منه العذابَ، وقالوا له: ائتنا بما تَعِدُنا إن كنتَ من الصادقين.. أرْدَفَ ذلك بذكر ما أَيْأسَه من إيمانهم، وأعلمه بأنَّ ذلك كالمحال الذي لا يكون، فالجدالُ والحجاجُ معهم عبث ضائع؛ فلن يؤمن إلا من قد حَصَلَ منه إيمان من قبل، فإِيَّاك أن تَغْتَمَّ على ما كان منهم من تكذيب في تلك الحقبة الطويلة، فقد حَانَ حِينُهُم، وأزِفَ وقت الانتقام منهم.
قولُه تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ...﴾ الآيات، هذه الآيات غايةٌ لما ذكر قبلها من الاستعدادِ لهلاكهم، ومقابلةِ السخرية بغير ابتئاسٍ ولا ضجرٍ.
قوله تعالى ﴿وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ...﴾ الآيات الثلاث الأُولى تبيِّنُ أنَّ حُكْمَ الله في خلقه العدل بلا محاباة لولي ولا نبيٍّ وأنَّ الأنبياء قد يجوز عليهم الخطأ في الاجتهاد، ويعد ذلك ذنبًا بالنظر إلى مقامهم الرفيع، ومعرفتهم بربهم، وذلك مَا عرض له نوحُ عليه السلام من الاجتهاد في أمر ابنه الذي تخلَّف عن السفينة فَكَانَ من المغرقين، كما أنَّ في الآية الأخيرةِ استدلالًا على نبوة محمدِ - ﷺ - وطلب صبره على أذى قومه.
التفسير وأوجه القراءة
٣٥ - و ﴿أَمْ﴾ في قوله: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ﴾ منقطعة تقدر ببَلْ الإضرابية، وبهمزة الاستفهام الإنكاري؛ أي: بل أيقول مشركو مكة: إنَّ محمدًا - ﷺ - افتراه؛ أي: اختلق خبر قوم نوح عليه السلام، وجاءَ به من عند نفسه، أو اختلقَ القرآنَ، وافتراه من عندِ نفسه، فأمره الله سبحانه وتعالى أنْ يجيبهم بقوله: ﴿قُلْ﴾ لهم
يا محمَّد في الجواب: ﴿إِنِ افْتَرَيْتُهُ﴾؛ أي: أنِ افتريت خبرَ قوم نوحٍ، أو افتريتُ هذا القرآنَ على الله من عند نفسي كما تزعمون ﴿فـ﴾ ـما عليكم بأس، ولا ضَرَرَ في ذلك إنما ﴿علي إجرامي﴾؛ أي: إنما عليَّ لا على غيري، ولا عليكم عقوبة إجرامي وذنبي ﴿و﴾ أنتم بريئون من إجرامي كما ﴿أنا بريء مما تجرمون﴾؛ أي: من عقوبة إجرامكم، وذنبكم، فحكم الله العدل: أن يجزى كل امرئ بعمله، كما قال: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ والإجرامُ والجرم اكتساب الذنب كما سيأتي في مبحث الصرف، وفي الآية حذف، والتقدير إن كنت افتريته فعليَّ عقاب جرمي، وإن كنتُ صَادِقًا وكذبتموني فعليكم عقابُ ذلك التكذيب، إلَّا أنه حذِفَت هذه البقية لدلالة الكَلام عليهَا.
فعلى هذا التفسير تكون هذه الآيةُ (١): دَخيلة في أثناء قصة نوح ومعترضة بين أجزائها؛ لأجل تنشيط السامع لسماع بقية القصة، وأكثر المفسرين على أن هذه الآية من جملة قصة نوح، كما هو ظاهرُ السِّياق والمعنى عليه ﴿أَمْ يَقُولُونَ﴾؛ أي (٢): بل أيقول قوم نوح ﴿افْتَرَاهُ﴾؛ أي: إن نوحًا افترى بما أتانا به من عند نفسه مسندًا إلى الله تعالى ﴿قُلْ﴾ لهم يا نوح ﴿إِنِ افْتَرَيْتُهُ﴾؛ أي: إن اختلقت الوحيَ الذي بلغته إليكم من تلقاء نفسي.. ﴿فَعَلَيَّ إِجْرَامِي﴾؛ أي: فعليَّ عقاب اكتسابي للذنب، وإن كنتُ صادقًا، وكذبتموني.. فعليكم عقاب ذلك التكذيب ﴿وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ﴾؛ أي: من عقاب كسبكم الذنبَ بإسناد الافتراء إليَّ، وقرأ الجمهور ﴿إجرامي﴾ بكسر الهمزة، وهو مصدر أجرم، وهو الفاشي في الاستعمال، ويجوز (جرم) ثلاثيًّا، وقرىء شاذًا: (أجرامي) بفتح (الهمزة) جمع جرم كأقفال جمع قفل، اهـ "سمين".
٣٦ - ﴿وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ﴾؛ أي: أوحى الله سبحانه وتعالى إلى نوح بعد أن استعجلَ قومه بالعذاب، ودعا عليهم دعوتَه التي حَكَاهَا الله سبحانه وتعالى عنه بقوله: ﴿رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾؛ أي: أَوْحَى الله تعالى إليه
(١) الفتوحات.
(٢) المراح.
﴿أَنَّهُ﴾؛ أي: أنَّ الشأنَ، والحال ﴿لَنْ يُؤْمِنَ﴾ أحدٌ ﴿مِنْ قَوْمِكَ﴾ المصرينَ على الكفر فيتبَعُك على ما تدعوه إليه من التوحيد ﴿إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ﴾ من قبل، فيَظلُّ على إيمانه، ﴿فَلَا تَبْتَئِسْ﴾ ولا تحْزَنْ ﴿بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾؛ أي: بما كانوا يتعاطونه من التكذيب والإيذاء في هذه المدة الطويلة، فقد انتهى أفعالهم، وحانَ وقت الانتقامِ منهم والبؤس والحزن، والابتئاس الحزن مع الاستكانة والتذلل.
والمعنى (١): فلا يشتدَّ عليكَ البؤس والحزن بعد اليوم بما كانوا يفعلون في السنين الطوال، من العناد والإيذاء، والتكذيب لك، ولمَنْ آمن مَعَكَ فَأَرِحْ نَفْسَكَ بعد الآن من جِدَالِهم، ومن إِعراضِهِم، واحْتِقارِهم فَقَد آنَ زَمَن الانتقام، وحَانَ حين العذاب.
قال ابن عباس (٢): إنَّ قومَ نوح كانوا يضربونَ نوحًا حتى يَسْقُطَ فيلفُّونَه في لبد، ويلقونه في بيت يظنون أنه قد مَاتَ، فيخرج في اليوم الثاني، ويدعوهم إلى الله، ويروى أنَّ شيخًا منهم جَاءَ متكئًا على عصاه، ومعه ابنه فقال: يا بنيَّ لا يَغُرنك هذا الشيخُ المجنون، فقال: يا أبت أمكنّي مِن العَصا فأَخَذَها من أبيه، وضرب بها نوحًا عليه السلام، حتى شجَّه شجَّةً منكرةً فأوحى الله إليه إنه لن يُؤْمِنَ مِن قومك إلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ.
وحكى محمَّد بن إسحاق عن عبد الله بن عُمير الليثي أنه بلغه أنهم كانوا يَبْسطون نُوحًا فيخنِقُونه حتى يغْشَى عليه، فإذا أفاق قال: رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون، حتى تمادَوا في المعصية، واشتدَّ عليه منهم البلاء، وهو ينتظر الجيلَ بعد الجيل، فلا يأتي قرن إلا كان أنحس مِنَ الذي قبله، ولقد يأتي القرنُ الآخِر منهم فيقول: قد كان هذا الشيخ مع آبائنا وأجْدادِنا هكذا مجنونًا، فلا يقبلون منه شيئًا فشكا نوحٌ إلى الله عَزَّ وَجَلَّ فقال: ﴿رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا﴾ الآيات حتى بلغ: ﴿رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾.
٣٧ - ثم إنَّ الله سبحانه وتعالى لما أخبره أَنهم لا يؤمنونَ ألبتة عرفه وجهَ
(١) المراغي.
(٢) الخازن.
إهلاكهم، وألهَمَهُ الأمرَ الذي يكون به خلاصُه وخلاص من آمن معه فقال: ﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ﴾؛ أي: واعْمَلْ السفينة التي سننجيك ومن آمن معك فيها حالة كونك محفوظًا محروسًا ﴿بِأَعْيُنِنَا﴾؛ أي: بحفظنا لك، وحراسَتنَا لك ﴿و﴾ معلمًا كيفيةَ صنعتها بـ ﴿وحينا﴾ وتعليمنَا لك؛ أي: إنَّنا حافظوك في كل آن، فلا يمنعك مِن حفظنا مانعٌ، وملهموك ومعلموك بوحينا كيف تصنعه، فلا يعرضَنَّ لك خَطَأٌ في صنعتها، ولا في وصفها، والظاهر: أنه أمر إيجاب لأنه لا سبيلَ إلى صون نفس وأرواح غيره من الهلاك إلا بهذَا الطريقِ، وصَوْنُ النفس من الهلاك واجبٌ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجبٌ، اهـ "كرخي".
والمراد بقوله (١): ﴿بِأَعْيُنِنَا﴾؛ أي: بحِراسَتِنَا لك، وحفظِنَا لك، وعَبَّر عن ذلك بالأَعْيُن لأنها آلةُ الرؤية، والرؤية هي التي تكونُ بها الحراسةُ والحفظ في الغالب، وجَمَع الأعْيُنَ للتعظيم لا للتكثير، لئلا يناقض قولَه تعالى: ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾، وقيل: المعنى: ﴿بِأَعْيُنِنَا﴾؛ أي: بأعين ملائكتنا الذين جعَلْناهم عُيونًا على حفظك، وقيل: ﴿بِأَعْيُنِنَا﴾ بِعِلمنا، وقيل: بأمرنا، ومعنى بِوَحْيِنا؛ أي: بما أوْحَيْنا إليك من كيفية صنعتها.
﴿وَلَا تُخَاطِبْنِي﴾؛ أي: ولا تُراجعني ﴿فِي﴾ شيءٍ من أَمْر ﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ أنفسَهم بالإشراك بدفع العذاب عنهم، وطلبِ الرحمة لهم، فقد حقَّتْ كلمة العذاب عليهم؛ أي: لا تطلب إمهالَهم فقد حان وَقْتُ الانتقام منهم، وجملةُ قوله: ﴿إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ﴾ بالطوفان للتعليل؛ أي: لا تطلب منَّا إمهالَهم، فإنه محكوم منا عليهم بالإغراق، وقد مضى به القضاء، فلا سبيلَ إلى دَفْعِهِ، ولا إلى تأخيره، وقيل: المعنى: ولا تخاطبني في تعجيل عقابهم، فإنَّهم مغرقون في الوقتِ المضروب، لذلك لا يتأخر إغراقُهم عنه، وقيل: المراد بالذين ظلموا: امرأتُهُ وابنُه.
والخلاصة: لا تأخذنَّك بهم رأفةٌ ولا شفقةٌ، وقرأ (٢) طلحة بن مصرف: (بأعيُنَّا) مدغمةً
٣٨ - ﴿و﴾ شَرَعَ نوح عليه السلام ﴿يصنع﴾، ويعمل ﴿الْفُلْكَ﴾ والسفينةُ
(١) الشوكاني.
(٢) البحر المحيط.
89
﴿و﴾ الحال أنه ﴿كلما مر﴾ وجاوز ﴿عَلَيْهِ﴾؛ أي: على نوح ﴿مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ﴾؛ أي: جماعةٌ من كبراء قومه، ﴿سَخِرُوا مِنْهُ﴾؛ أي: سخر الملأ من نوح وعمله، واستهزؤوا به، وضَحِكُوا منه، وتنادَوْا عليه ظَنًّا منهم أنه أُصِيبَ بالهَوَسِ والجنون.
رُوي أنهم قالوا له: أتحولت نَجَّارًا بعد أنْ كُنْتَ نَبيًّا، وليس ذلك بالغريب منهم، فإنه ما من أحد يسبق أهل عصره بما فوق عقولهم من قول أو فعل إلا سخروا منه قبل أن يكْتبَ له النجاح.
وفي وجه سخريتهم منه قولان:
أحدُهما: أنهم كانوا يرونه يَعْمل السفينةَ، فيقولون: يا نوح صرت بعد النبوة نجارًا.
والثاني: أنهم لَمَّا شاهدوه يعمل السفينة، وكانوا لا يعرفونها قبل ذلك، قالوا: يا نوح ما تصنع بها؟ قال: أمشِي بها على الماء، فعجبوا من قوله، وسَخِرُوا به.
وقال ابن عباس (١): اتَّخذَ نُوحٌ السفينةَ في سنتين، فَكَانَ طولها ثلاث مئة ذراع، وعَرْضُها خمسينَ ذراعًا، وطُولُها في السماء ثلاثينَ ذراعًا، وكانت مِن خشب السَّاجِ وجَعَلَ لها ثلاثة بطون فَجَعَل في البطن الأسفل الوحوش، والسباع، والهوام، وفي البطن الأوسط الدواب، والأنعام، ورَكبَ هو ومن معه في البطن الأعلى، وجعل معه ما يحتاج إليه من الزاد وغيره، قال قتادة: وكان بابها في عَرْضِها. انتهى.
وقال كعب الأحبار (٢): عمل نوح عليه السلام السفينةَ في ثلاثين سنة، ورويَ أنها ثلاثة أطباق: الطبقة السفلى: للدواب والوحوش، والطبقة الوسطى: للإنس، والطبقة العليا: للطير، فلما كثرت أرواث الدواب: أوحى الله سبحانه وتعالى إلى نوح عليه السلام أن اغمز ذنبَ الفيل، فغَمَزَه فوَقَع منه خنزيرٌ وخنزيرة، ومَسَح على الخنزير فوقع منه الفأر والفأرة، فأقبلوا على الروث، فأكلوه فلما أفسد الفأر في
(١) الشوكاني.
(٢) الخازن.
90
السفينة، فجعل يقرضها، ويقرض حِبَالَها، أَوْحى الله سبحانه وتعالى إليه أن اضرب بين عَيْنَي الأسدِ فضربَ فخَرَج من منخره سنَّور وسِنّوَرة، وهي القطة والقط، فَأَقْبَلا على الفأر، فأَكلاه. ثُمَّ أجاب عليهم نوح بما ذكره بقوله: ﴿قَالَ﴾ نوح مجيبًا لهم عن سخريتهم ﴿إِنْ تَسْخَرُوا﴾ وتستهزؤوا ﴿مِنَّا﴾ اليومَ وتستجهلونا لرؤيتكم ما لا تتصوَّرون له فائدةً ﴿فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ﴾ اليومَ لجهلكم باللهِ، وشرككم به وغدًا حين ينزلُ بكم العذاب لكفركم ﴿كَمَا تَسْخَرُونَ﴾ مِنَّا جزاءً وفاقًا؛ أي: إن حكمتم علينا بالجهل فيما نصنعُ، فإنا نحكم عليكم بالجهل فيما أنتم عليه من الكفر، والتعرض لسخط الله، وعذابه،
٣٩ - ثم هدَّدَهم بقوله: ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ وتَرَون ﴿مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ﴾؛ أي: أينا يأتيه عذاب في الدنيا يهينه ويذله، وهو عذابُ الغرق، ومَنْ هو أحق بالسخرية، ومَنْ هو أَحْمَدُ عاقبةً ﴿و﴾ تعلمون من ﴿يحل﴾ وينزل ﴿عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ﴾؛ أي: دائم؛ أي: وسوفَ تعلمون أينا ينزل عليه النار الدائم في الآخرة.
والمعنى (١): فإن كنتم لا تعلمون اليومَ فائدةَ ما نعمل، وما له من عاقبة محمودة، فسوف تعلمون بعد تمامه من يأتيه عذاب يفضحه، ويَجْلِب له العارَ، والخِزيَ في الدنيا، وهو عذاب الغرق، ويحل عليه عذاب دائم في الآخرة بعد ذلك، وكل ما في الدنيا فهو هيِّن ليِّنٌ بالنسبة إلى ما يكون في الآخرة لانقضائه وزواله، وبقاء ذَاكَ ودَوامِهِ.
فإن قُلتَ (٢): السخريةُ لا تَلِيقُ بمنصب النبوة، فكيف قال نوح عليه السلام: ﴿إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ﴾.
قلتُ: إنما سَمَّى هذا الفعلَ سخريةً على سبيل الازدواج في مشاكلة الكلام، كما في قوله ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ والمعنى: إنا نَرى غِبَّ سخريتكم بِنا إذا نزل بكم العذاب.
والتشبيه في قوله (٣): ﴿كَمَا تَسْخَرُونَ﴾ لمجرد التحقق، والوقوع، أو التجدد
(١) المراغي.
(٢) الخازن.
(٣) الشوكاني.
والتكرر، والمعنى: إنَّا نَسْخَرُ منكم سخريةً متحققة واقعةً كما تسخرون منَّا كذلك، أو متجددة متكررة كما تسخرون منا كذلك.
٤٠ - وحكى الزهراويُّ أنه يقرأ (١): (وَيحُلُّ) بضم الحاء، ويَحِل بكسرها بمعنى ويَجِبُ، وحتى في قوله ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا﴾ ابتدائية، دخلَتْ على الجملة الشرطية، وجُعلت غايةً لقوله ﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ﴾؛ أي: وكان يَصْنَعُ الفلكَ حتى إذا جاء وَقْتُ أمْرِنا وقضائنا بهلاكهم، ووَقْتُ عذابنا الموعود به ﴿وَفَارَ التَّنُّورُ﴾؛ أي: نَبَعَ الماءُ من التنور؛ أي: من وَجْه الأرض أو من تنور الخُبْز، وارتفعَ بشدة، كما تَفُور القدر بغليانها، وكانَ ذلِكَ علامةً لنوح عليه السلام، رُوي (٢) أنه قيل لنوح عليه السلام: إذا رأيتَ الماء يفور من التنور، فَارْكَب ومن مَعَك في السفينة، فلما نَبَعَ الماء أخبرته امْرَأته.. فرَكِبَ، وقيل: كانَ التنور لآدم، وكانت حواء تقمر فيه الخبز، فصار إلى نوح، وكانَ من حجارةٍ وهو بالكوفة على يمين الداخل، مِمَّا يلي باب كندة في المسجد، والأقرب أن يكونَ المراد من التنور وجه الأرض، ويكون المعنى حتى إذا نَبَع الماء من وجه الأرض ﴿قلنا﴾ لنوح آنئذ: ﴿احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ﴾؛ أي: احمل في السفينة من كل نوع من أنواع الحيوان زوجين اثنين، ذكرًا وأنثى، لِيبقى ذلك النوع بعد غرق سائر الأحياء، فيتناسل وَيبْقَى على الأرض.
وقرأ حفص (٣): ﴿مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ﴾ بتنوين ﴿كلٍ﴾، ﴿زوجين﴾ مفعول به و ﴿اثنين﴾ نعت توكيد؛ أي: احمل من كل حيوان، زوجين اثنين كل منهما زوج للآخر، وقرأ باقي السبعة بالإضافة؛ أي: احمل من كل فردين متزاوجين اثنين، بأن تحمل من الطير ذكرًا وأنثى، ومن الغنم ذكرًا وأنثى، وهكذا، وتترك الباقي، والمرادُ من الحيوانات التي تنفعُ، والتي تلد وتبيض، فتخرج المضرات، والتي تَنْشَأ من العفونات والتراب كالدود، والقمل، والبق، والبعوض. قال البغوي: وروي عن بعضهم: أنَّ الحيَّة والعقربَ أَتيَا نوحًا عليه السلام، فَقَالتا: إحمِلنا معَك،
(١) البحر المحيط.
(٢) المراح.
(٣) البحر المحيط.
فقال: إنكما سبب البلاء، فلا أحْمِلُكما، فقالتا: إحملنا معك، فنحن نَضْمَنُ لك أن لا نَضُرَّ أحدًا ذَكَرَك، فَمَنْ قرأ حين يخاف مضرَّتُهما ﴿سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ﴾، لم تضرَّاهُ، ذكره في "الخازن".
وقوله: ﴿وَأَهْلَكَ﴾ معطوف على زوجين على قراءة حفص، وعلى اثنين على قراءة غيره؛ أي: واحمل فيها أهلَ بيتك ذكرانًا وإناثًا ﴿إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ﴾، والقضاءُ بأنهم من المغْرَقِين بسبب ظلمهم، كما قال: ﴿وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ﴾ والمرادُ (١) به: ابنه كَنعَان، وأمه واعلة أم كنعان، فإنهما كَانَا كافرين، فحَمَل في السفينة زوجتَه المؤمِنةَ وأولادَها الثلاثةَ مع نسائهم: سامًا، وحامًا، ويافثًا، فسامُ أبو العرب، وحام أبو السودان، ويافث أبو الترك، وإفرادُ الأهلِ منهم لمزيد العناية بهم، أو للاستثناء منهم، وقوله: ﴿وَمَنْ آمَنَ﴾ معطوف على زوجين، أو على اثنين على اختلاف القراءة؛ أي: واحمِل معك مَنْ آمن، وصَدَّقَكَ واتبعك من غير أهلك.
﴿وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ من قومه، قيل: إنهم كانوا ثمانية: نوحًا عليه السلام، وأبناءه الثلاثة، وأزواجهم. وعن ابن عباس (٢) قال: كان في سفينة نوح ثمانون إنسانًا، نصفهم رجال، ونصفُهم نساءٌ. وقال مقاتل: في ناحية الموصل قريةٌ يقال لها: قرية الثمانين، سميت بذلك؛ لأنَّ هؤلاء لَما خرجوا من السفينةِ بَنَوْها فسُمِّيَتْ بهذا الاسم.
ولكن لم يبين (٣) الله سبحانه وتعالى لَنَا ورَسولُه - ﷺ - عَدَدَهم فحصره في عدد معين من قبيل الحدس والتخمين، كما لَمْ يبيَّنِ لنا أنواعَ الحيوان التي حملها، ولا كيف حَمَلها، وأدْخلها السفينة، وقد فصل ذلك في سفر التكوين من التوراة.
٤١ - وقوله: ﴿وَقَالَ﴾ معطوف على محذوف تقديره، فحَمَلهم نوحٌ، وقال: ﴿ارْكَبُوا فِيهَا﴾؛ أي: في جوف السفينة، والخطابُ فيه للإنس، وأما غيرهم من
(١) المراح.
(٢) المراح.
(٣) المراغي.
93
الحيوانات أخَذه بيده، وألقاه فيها ﴿بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا﴾؛ أي: باسم الله سبحانه وتعالى جريانُ السفينة على الماء وإرساؤها؛ أي: وقوفها، فهو الذي يتولَّى ذلك بحوله وقوته، وحفظه وعنايته، وروي (١) أنه كان إذا أراد أنْ تجري قال: بسم الله، فَجَرَتْ، وإذا أراد أن تَرْسُو قَالَ: بسم الله، فرَسَتْ؛ أي: وقفت، ويجوز أن يكون الاسمُ مُقْحمًا كقوله:
إِلَى الْحَوَلِ ثُمَّ اسْم السَّلاَمِ عَلَيْكُمَا
وهذا تعليم من الله لعباده أنه ينبغي لهم أن يستعينوا بالله تعالى، وقد يكون المعنى أنَّ نوحًا أمرهم بأن يقولُوها كما يقولُها على تقدير اركبوا فيها قائلينَ باسم الله؛ أي: بتسخيره، وقدرته، مجْراها حين تَجْرِي ومرساها حين يرسيها، لا بحولنا ولا بقوتنا، ويحتمل أن يكونَ مجْريها ومُرْسَاهَا اسمي مكان أو زمان، أي: اركبوا فيها ذاكرينَ اسمَ الله، وقتَ جريانها أو إرسائِهَا، أو مكانهما.
وقرأ مجاهدٌ والحسنُ وأبو رجاء، والأعرج، وشيبة، ونافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر (٢): ﴿مُجراها﴾ بضم الميم، وقَرأ حمزةُ والكسائِيّ وحَفْصٌ بفتحها، وكلهم ضمَّ ميم ﴿مُرساها﴾، وقرأ ابن مسعود، وعيسى الثقفيَّ وزيد بن علي والأعمش: ﴿مجراها ومرساها﴾ بفتح الميمين ظرفيْ زمان، أو مكان، أو مصدرين على التقارير السابقة، وقرأ الضَّحاك، والنخعيُّ، وابن وثاب، وأبو رجاء، ومجاهد، وابن جندب، والكلبيُّ، والجحدري: ﴿مجريها، ومرسيها﴾ سمي فاعل من أجرى وأَرْسى على البدل من اسم الله، ولا يكونان صفتين لكونهما نكرتَين.
﴿إِنَّ رَبِّي﴾ سبحانه وتعالى ﴿لَغَفُورٌ﴾؛ أي: سَتُورٌ عليكم ذنوبَكم، بتوبتكم وإيمانكم ﴿رَحِيمٌ﴾ لكم إذ نَجَّاكم من الغرق، ولولا مغفرتُه تعالى ورحمته إياكم، لما نجَّاكم لأنكم لا تنفكون عن أنواع الزَّلَّات؛ أي: إنَّ ربِّي لواسع المغفرة لعباده حيثُ لم يهلكهم بذنوبهم، بل يهلك الكافرينَ الظالمينَ منهم، رحيم بهم إذ
(١) البيضاوي.
(٢) البحر المحيط.
94
سخَّر لهم هذه السفينةَ لنجاة بقيَّةِ الإنسان والحيوان من هذا الطوفان الذي اقتضته مشيئته، ورُوي في الحديث: "أنَّ نوحًا رَكِبَ في السفينة، أوَّل يوم من رجب، وصام الشهر أجْمَعَ - وعن عكرمة لعشر خلون من رجب - ونَزَلَ عنها عَاشِرَ المحرم، فصَامَ ذلك اليوم، وأمَرَ مَنْ معه بصيامه شكرًا لله تعالى" وكانَتْ مدة مُكْثِه على السفينة سِتَّةَ أشهر تقريبًا.
وأخرج الطبرانيُّ (١) وغيره عن الحسن بن علي رضي الله عنه أنَّه قَالَ: قال رسول الله - ﷺ -: "أمان لأمتي من الغرق إذا ركبوا الفلك أن يقولوا: باسم الله الملك الرحمن الرحيم بسم الله مجريها" الآية.
٤٢ - قوله: ﴿وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ﴾ هذه الجملة (٢) متصلة بجملة محذوفة دلَّ عليها الأمر بالركوب، والتقدير فركبوا مُسَمِّينَ وهي تَجْري بهم، والموج جمع مَوْجَةٍ وهي ما ارتفعَ مِن جملةِ الماء الكثير عند اشتدادِ الريح، وشبَّهَها بالجبال المرتفعة على الأرض.
أي: فركبوها، والحال أنها تَجْرِي بهم في موج يشبه الجبالَ، في عُلُوهِ وارتفاعه وامتداده، ومَنْ كابد ما يحدث في البحار العظيمة من الأمواج حين ما تهيجها الرياحُ الشديدة.. عَرَفَ أنَّ المبالغةَ في هذا التشبيه غير بعيدة، فإنَّ السفينة لترى كأنها تهبط في غور عميق كَوادٍ سحيق يُرَى البحر من جانبيه كجبلين عظيمين يكادان يطبقان عليهَا، وبعد هنيهة يرى أنَّها قد اندفعت إلى أعلى الموج كأنَّها في شاهق جبلٍ تُريدُ أن تنقضَّ منه، والملَّاحُون يَرْبِطُون أنْفُسُهم بالحبال على ظهرها وجوانبها لئلا يجرفهم ما يفيضُ من الموج عليها.
وهذه الجملةُ تدُلُّ على وجود الرياح الشديدة في ذلك الوقت، قال علماءُ (٣) السير: أرسلَ الله تعالى المطَرَ أربعين يومًا وليلةً، وخرج الماء من الأرض، وارتفع الماء على أعلى جبل وأطوله أربعين ذراعًا، وقيل: خَمْسَةَ عَشَر ذِراعًا حتى أغرَق كل شيء.
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
(٣) المراح.
95
ورُوي (١) أنه لما كَثُر المَاءُ في السكك خَافَتَ أم صبيٍّ على ولدها من الغرق، وكانت تحبه حبًّا شديدًا، فخرجت به إلى الجبل حتى بَلغت ثلثه، فلَحِقَهَا الماء، فارتفعَتْ حتى بلغت ثلثَيه فلَمّا لَحِقَها الماء ذهبَتْ حتى استوت على الجبل، فلما بلغ الماء إلى رقبتها رفعت الصبيَّ. بِيَدَيْها حتى ذَهَبَ بهِمَا الماءُ فأغرقهما، فلَوْ رحم الله منهم أحدًا.. لرَحِمَ أمُّ الصبِيّ ثم بَيَّنَ أنَّ نوحًا دَعَته الشفقة على ابنه، فناداه كما أشار إلى ذلك بقوله: ﴿وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ﴾ هو كنعانُ (٢)، وقيل: يَام، قيل: وكان كَافِرًا، واستبعِدَ كون نوح ينادي مَنْ كان كافرًا مع قوله: ﴿رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾ وأُجيب بأنه كان منافقًا، فظنَّ نوح أنه مؤمن، وقيل: حملته شَفَقةُ الأُبُوَّة على ذلك، وقيل: إنه كان ابنَ امرأته، ولم يكن بابنه، ويؤيِّده ما روى أنّ علّيًا قرأ: ﴿ونادى نوح ابنها﴾، وقيل: إنَّه كان لغير رشدة، وولدَ على فراش نوح، ورُدَّ بأن قوله: ﴿وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ﴾، وقوله: ﴿إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي﴾ يَدْفَعُ ذلك على ما فيه من عدم صيانةِ مَنْصِبِ النبوة.
أي: ونادى نوح ابنه كنعانَ قَبْلَ سَيْرِ السَّفينَةِ ﴿و﴾ الحال أنه ﴿كان في معزل﴾؛ أي: في مكان بعيد عزل وبعد وفصل فيه نفسه عن أبيه وإخوته وقرابته وقومه، بحيث لم يَبْلُغه الخطاب بارْكَبُوا؛ أي: قول نوح لمَنْ آمَن ﴿اركبوا﴾ وقيل: ﴿في معزل﴾ عن دين أبيه، وقيل: من السفينة، قيل: وكان هذا النداء قبل أنْ يَسْتَيْقِنَ الناسُ الغرَقَ بل كان في أوَّلِ فور التنور.
وقرأ الجمهورُ (٣): بكسر تنوين ﴿نوحٍ﴾، وقرأ وكيع بن الجراح بضمه أتبع حركتَه حركةَ الإعراب في الحاء، قال أبو حاتم: هي لغة سوء لا تُعْرَف، وقرأ الجمهور بوصل (هَاءِ) الكناية، بواو، وقرأ ابن عباس: ﴿ابنَهْ﴾ بسكون الهاء، قال ابن عطية وأبو الفضل، وأبو الفضل الرازي، وهذا على لغة الأزد الشراة يسكنون هاء الكناية من المذكر، ومنه قول الشاعر:
(١) الخازن.
(٢) الشوكاني.
(٣) البحر المحيط.
96
وَنَضْوَايَ مُشْتَاقَانِ لَهْ أَرِقَانِ
وذكر غيره أنها لغة لبني كلاب، وعُقيل، وقرأ السدي: ﴿ابناهْ﴾ بألف وهاء السكت، قال أبو الفتح: ذلك على النداء، وذهبَتْ فرقة إلى أنه على الندبة والرثاءِ.
وقرأ علي وعروة وعلي بن الحسين وابنه أبو جعفر وابنُه جعفر (١): ﴿ابنه﴾ بفتح الهاء من غير ألف، أي: ابنها مضافًا لضمير امرأته، فاكتفي بالفتحة عن الألف، قال ابن عطية: وهي لغةٌ ومنه قول الشاعر:
إِمَّا تَقُوْدُ بِهَا شَاةً فَتَأْكُلُهَا أَوْ أنْ تَبِيْعَهَ فِيْ بَعْضِ الأَرَاكِيْبِ
يريد تَبِيعَها، وقرأ أيضًا علي وعروة: ﴿ابنها﴾ بفتح الهاء وألف.
وقرأ عاصم: ﴿يا بنيَّ اركب معنا﴾ بفتح الياء، ووجه على أنه اجتزأَ بالفتحة عن الألف، وأصله يا بُنيا، كيا غلامًا ثُمَّ حذفت، وبقيت الفتحة لِتَدُلَّ عليه، أو على أنَّ الألِفَ انحذفت لالتقائها مع راءِ اركب، وقرأ باقي السبعة بكسر الياء اجتزاءً بالكسرة عن ياء الإضافة، أو حذِفَت لالتقاء الساكنين.
وقرأ أبو عمرو والكسائي وحفص (٢): ﴿ارْكَبْ مَعَنَا﴾ بإدغام الباء في الميم لتقاربهما في المخرج، وقَرأَ الباقون بعدم الإدغام.
والمعنى: ونادَى نوحٌ ابنه حينَ الركوب في السفينة، وقبل أنْ تجرِيَ بهم، وكان في مكان منعزل بعيد عن أبيه وإخوته ومَنْ آمن من قومه يا بنيَّ اركب معنا الفلك، ولا تكن مع الكافرين الذين قضي عليهم بالهلاك، نَهَاه عن الكون مع الكافرين؛ أي: خَارجَ السفينةِ، ويُمْكِنُ أنْ يُرادَ بالكون معهم الكونَ على دينهم.
٤٣ - ثمَّ حكى الله سبحانه وتعالى ما أجاب به ابن نوح على أبيه، فقال: ﴿قَالَ﴾ ابن نوح جوابًا لأبيه، ظانًّا أنَّ ذلك المطرَ والتَّفْجِيرَ على العادة ﴿سَآوِي﴾ وألتجىء من وصول الماء إليَّ ﴿إِلَى جَبَلٍ﴾ أتحصن به من الماء ﴿يَعْصِمُنِي﴾ أي
(١) البحر المحيط.
(٢) الشوكاني.
97
فيحفظني ذلك الجبل ﴿مِن﴾ الغرق بـ ﴿الْمَاءِ﴾ وهذا يدل على عادته في الكفر، وعدم وثوقه بأبيه فيما أخبر به، قيل: والجبل الذي عَناه طُورُ زيتا، فلم يمنعه فَأجَابه نوح مبينًا له خطأَه بما ذكره الله سبحانه وتعالى ﴿قال﴾ نوح لابنه ﴿لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ﴾؛ أي: لا شيء يعصِم أحدًا في هذا اليوم العصيب، زاد اليومَ تنبيهًا على أنه ليس كسائر الأيام التي تقع فيها الوقائع التي ربما يخلص منها بالالتجاء إلى بعض الأسباب، اهـ "روح البيان".
﴿مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى؛ أي: مِن عذاب الله الذي قضاه على الكافرين، فليس الأمر أمر ماء يتقى بالأسباب العادية، وإنما هو انتقامٌ من أشرار العباد الذين أشركوا بالله، وظلموا أنْفُسَهم، وظلموا الناسَ بطغيانهم في البلاد. والاستثناء في قوله: ﴿إِلَّا مَنْ رَحِمَ﴾ منقطع بمعنى لكن؛ أي: لا عاصم اليومَ من أمر الله لكن من رحمه الله تعالى فهو المعصوم، لأنَّ المستثنى هو المعصوم، والمستثنى منه هو العاصم؛ أي: لكن مَنْ عصمه الله سبحانه وتعالى ورحمه، فهو المعصومُ المرحوم، وقد اختص بهذه الرحمة والعصمةِ مَنْ حَمَلَهُم في السفينة.
والمعنى: لا مانِعَ (١) من أمر الله وعذابه اليومَ فإنه يوم قد حق فيه العذاب، وجف القلم بما هو كائن فيه، نفى جنسَ العاصم، فيندرج تحته العاصم من الغرق في ذلك اليوم اندراجًا أوليًّا، وعبر عن الماء أو عن الغرق بأمر الله سبحانه تفخيمًا لشأنه، وتهويلًا لأمره، والاستثناء هنا قال الزجاج: هو منقطعٌ؛ أي: لكن مَنْ رَحِمَهُ الله فهو يعصمه فيكون ﴿مَنْ رَحِمَ﴾ في مَوْضع نصب، ويجوز أن يكونَ الاستثناء متصلًا على أن يكون عاصم بمعنى معصوم؛ أي: لا مَعْصُومَ اليومَ من أمر الله إلّا مَنْ رحمه الله مثل: ﴿مَاءٍ دَافِقٍ﴾ بمعنى مدفوق و ﴿عيشة راضية﴾ بمعنى مَرْضِيَّةٍ، وقول الشاعر:
بَطِيْءُ الْقِيَامِ رَخِيْمُ الْكَلاَمْ أَمْسَى فُؤَادِيْ بِهِ فَاتِنَا
أي مفتونًا، واختارَ هذا الوجه ابن جرير، وقيل: العاصم بمعنى ذي
(١) الشوكاني.
98
العصمة كَلاَبِنٍ وتامر، والتقديرُ: لا عَاصمَ قط؛ أي: لا مكانَ ذا عصمةٍ إلا مكانَ مَنْ رحم الله، وهو السفينةَ.
وذكر صاحب "الانتصاف" (١): أنَّ الاحتمالات الممكنة هنا أربعةٌ: لا عَاصمَ إلّا راحم، لا معصومَ إلا مرحوم، لا عاصمَ إلا مرحوم، لا معصومَ إلا راحم. فالأولان استثناء من الجنس، والآخران استثناء من غير الجنس، فيكون منقطعًا؛ أي: لكنِ المرحومُ يُعْصمُ على الأول ولكن الراجح يَعْصِمُ مَنْ أراد على الثاني، اهـ "زاده" و"شهاب".
وقُرِىءَ (٢): ﴿إِلَّا مَنْ رُحِمَ﴾ بضم الراء، بالبناء للمفعول، وهذا يدل على أنَّ المراد بِمَنْ في قرَاءة الجمهور الذين فتحوا الراءَ هو المرحومُ لا الراحمُ.
﴿و﴾ كان الماء يتزايدَ ويرتفع أثناء المحادثةِ والمراجعة بينهما حتى ﴿حال بينهما﴾؛ أي: بين الولد ووالده ﴿الْمَوْجُ فَكَانَ﴾ الولدُ ﴿مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾ بالفعل الهالكين بالطوفان، فتعذَّر خَلاصُه مِن الغرق، قيل كَانَا يتَراجَعَانِ الكلامَ فما استتمَّت المراجعةُ حتى جاءت موجة عظيمةٌ، وكان راكبًا على فرس قد بَطِرَ وأعجب بنفسه، فالتقمته وفرسه، وحيل بينه وبين نوح فغرق وقال الفراء (٣): بَيْنَهُما؛ أي: بين نوح والجبل الذي ظنَّ أنه يعصمه، والأول أولى لأن تَفَرُّعَ ﴿فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾ عليه يدل على الأول لا على الثاني، لأنَّ الجبلَ ليس بعاصم.
٤٤ - ثُمَّ ذَكَر ما حدث بعد هلاكهم مبيِّنًا قُدْرَتَه تعالى فقال: ﴿وَقِيلَ﴾؛ أي: قال الله سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ﴾؛ أي: أنشفي ما على وَجْهك من ماء الطوفان، ﴿وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي﴾؛ أي: أمسكي عن إرسال المطر، وقدَّم نداء الأرض على السماء لكون ابتداءِ الطوفان منها ﴿وَغِيضَ الْمَاءُ﴾؛ أي: ونقَصَ ما بين السماء والأرض من الماء، وفي "القرطبي"، وقيل: ميز الله بين الماءين فَمَا كَانَ من ماء
(١) الفتوحات.
(٢) البحر المحيط.
(٣) البحر المحيط.
99
الأرض أمرَهَا فبلعته، وصَارَ مَاء السماء بِحارًا، اهـ. ﴿وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾؛ أي: أتم الله الأمر من هلاك قوم نوح؛ أي: أحكم وأمضى وفرغ منه ﴿وَاسْتَوَتْ﴾ الفلك؛ أي: واستقرت السفينة رَاسِيةً واقفة ﴿عَلَى الْجُودِيِّ﴾؛ أي: على جبل بالجزيرة، مدينة بالعراق قريب من الموصل، يقال له: الجوديُّ، وكان ذلك الجبل منخَفِضًا، ويقال: إنَّه مِن جبال الجنة، فلذا اسْتَوَتْ عليه.
وفي "القرطبي": رُوِيَ أنْ الله تعالى أُوحى إلى الجبال أنَّ السفينةَ تُرْسَى إلى واحد منها، فتطاولت وبقي الجودي لم يتطاول تواضعًا لله تعالى، فَاسْتَوَتْ السفينة عليه، وبقيت على أعوادها، وفي الحديث: أنَّ النبي - ﷺ - قال: "لقد بقي منها شيء أدركه أوائل هذه الأمة". اهـ.
رُوي (١) أنه عليه السلام رَكِبَ في الفلك في عاشر رجب، ومرَّتْ بالبيت الحرام، فطافَتْ به سبعًا، ونَزَل عن الفلك عَاشِرَ المحرم، فصام ذَلِك اليومَ وأمر من معه بصيامه شكرًا لله تعالى، وبَنَوا قريةً بقُربِ ذلك الجبلِ فسمَّوها قريةَ الثَّمانِين، فهي أوَّل قرية عمِّرت على الأرض بعد الطوفان، وقَرأ الأعمش، وابن أبي عَبْلَةَ على ﴿الجوديْ﴾ بسكون الياء مخففةً، قال ابن عطية: وهما لغتان، وقال صاحب "اللَّوامح": هو تخفيفُ ياء النسب، وهذا التخفيفُ بابُهُ الشعرُ لشذوذه ذَكَرَه أبو حيان. ومعنى الآيةِ وجاء نداء (٢) من الملأ الأعلى خُوطِبَتْ به الأرضُ والسماء: ﴿يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ﴾ الذي عليك، والذي تفجرَ من باطنِك، ويا سماء كُفِّي عن المطر، فلم يلبث أن غاض الماء امتثالًا للأمر، وقضي الأمر بإهلاك الظالمين، واستقرت السفينة راسية على جبل الجودي، ﴿وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾؛ أي: قال الله سبحانه وتعالى: بعدًا من رحمتي، وهَلاكًا بعذابِي قضيت وأثبت للقوم الظالمين بما كَانَ من ظلمهم، وفقدهم الاستعدادَ للتوبة والرجوع إلى الله عز وجل، والقائل هو سبحانه وتعالى كما فسَّرنا ليناسب صَدْرَ الآية، وقيل: هو نوحٌ وأصحابه.
(١) المراح.
(٢) المراغي.
100
والمعنى: أي قال نوح وأصحابه: بَعِدُوا بُعْدًا من رحمة الله للقوم المشركين، بحيث لا يرجَى عودهم، وهذا الكلام جار مجرى الدعاء عليهم، لأنَّ الغالبَ ممن يسلم من الأمر الهائل بسبب اجتماع قوم من الظلمة إذا هلكوا ونجا منهم قالَ مثْلَ هذا الكلام، وهذا من الكلمات التي تختص بدعاء السوء، ووَصَفهم بالظلم، للإشعار بأنه علة الهلاك، وللإيماء إلى قوله: ﴿وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾.
فإنْ قلتَ (١): كيف اقتضَتْ الحكمة الإلهية، والكرمُ العظيم إِغراقَ مَنْ لم يبلغوا الحلم من الأطفال، ولم يَدْخلوا تحت التكليف بذنوبِ غيرهم؟
قلت: الجواب الشافي عن هذا أنْ يقال: إنَّ الله سبحانه وتعالى متصرِّف في خَلْقِهِ، وهو المالك المطلقُ، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا يُسْألُ عما يفعل، وهم يسألون، لا ما قيل: من أن الله عَزَّ وَجَلَّ أعْقَمَ أَرْحَامَ نسائهم أربعين سنة، فلَمْ يُولد لهم ولد في تلك المدَّة، لأنَّ هذا الجواب ليس بقويٍّ لأنه يَرِدُ عليه إغراقَ جميع الدواب والهوام والطير.
قال العلماء بالسير (٢): لمَّا استقرت السفينةُ بَعَثَ نوحٌ الغرابَ ليأتِيَه بخبر الأرض، فوقع على جيفة، فلم يرجع إليه، فبَعَثَ الحمامة فجاءت بورق زيتون في منقارها، ولطخت رجليها بالطين، فعلم نوحٌ أن الماءَ قد ذهَبَ، فدعا على الغراب بالخوفِ فلذلك لا يألف البيوتَ، وطوق الحمامة بالخضرة التي في عنقها، ودعا لها بالأمان فمن ثم تَأْلَفُ البيوت.
٤٥ - ﴿وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ﴾ إثر ندائه لابنه الذي تخلف عن السفينة، ودَعاهُ إليها فلم يستجب، ﴿فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي﴾ هذا ﴿مِنْ أَهْلِي﴾ الذي وعدَتنِي بنجاتهم، إذ أمرتني بحَمْلهم في السفينة ﴿وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ﴾ الذي لا خلف فيه ﴿وَأَنْتَ﴾ يا إلهي ﴿أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ﴾؛ أي: خير الحاكمينَ بالحق، وأفضلُهم كما قلتَ: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ فحكمك يصدر عن كمال العلم والحكمة، فلا يعرض له الخطأ، ولا الحَيف، ولا الظلم.
(١) الخازن.
(٢) الخازن.
والمعنى: وأنت أعلم الحكَّام وأَعْدَلُهم إذ لا فَضْلَ لحاكم على غيرِه إلَّا بالعلم، والعدل، ورُبَّ جاهل ظالم من متقلدي الحكومة في زمانك لقد لقِّبَ بأقضى القُضاة، وقال جَارُ الله:
قُضَاةُ زَمَانِنَا صَارُوْا لُصُوْصَا عُمُوْمًا فيْ الْقَضَايَا لاَ خُصُوْصَا
خَشِيْنَا مِنْهُمُ لَوْ صَافَحُوْنَا لَلَصُّوْا مِنْ خَواتِمِنَا فُصُوْصَا
اهـ "روح البيان".
وهذا الدعاء من نوح عليه السلام في غاية التلطُّف، وهو مِثْلُ دعاءِ أيوب عليه السلام ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾.
والخلاصة: أن نوحًا كانَ يريد أن ينجوَ ابنه الذي تخلَّفَ عن السفينة من الغرق، بعد أَن دعاهُ إليهَا، ومن البَيِّنِ أنَّ هذا الدّعاءَ لا بُدَّ أنْ يَكُونَ بعد المحاورة مَعَ ابنِه قبل أن يَحُولَ بينهما الموج، ومعنى: ﴿وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ﴾؛ أي: أراد أن يناديه، ولذلك أَدْخَلَ الفاء؛ إذ لو كان أراد حقيقةَ النداءِ والإخبار عن وقوعه منه لم تَدْخُل (الفاء) في ﴿فقال﴾ ولسقَطَتْ كما لم تَدْخُل في قوله: ﴿إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (٣) قَالَ رَبِّ﴾ و (الواو) في هذه الجملة لا ترتب أيْضًا، وذلك أنَّ هذه القِصَّةَ كانت أوَّلَ ما ركب نوحُ السفينةَ، ويظهر من كلام الطبري أنَّ ذلك مِنْ بعدِ غَرْق الابن
٤٦ - ﴿قال﴾ الله سبحانه وتعالى: ﴿يَا نُوحُ إِنَّهُ﴾؛ أي: إنَّ ابْنَكَ هَذَا ﴿لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ الذين أمرتك أنْ تحملهم في الفلك لإنجائهم، وقد بَيَّن سبحانه سبَبَ ذلك بقوله: ﴿إِنَّهُ﴾؛ أي: إنَّ ابْنك هذا ﴿عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾؛ أي: ذو عمل غير صالح؛ لأنه عَمِلَ عملًا غير مرضيٍّ، وهو الشركُ والفسادُ والتكذيب.
قال الزَّمخشري (١): فإنْ قُلْتَ: فَهَلَّا قيل: إنه عمل فاسد؟
قلتُ: لمَّا نفاه من أهله نَفَى عنه صِفَتَهم بكلمة النفي التي يُستنفى بها معها لفظ المنفي، وأذن بذلك أنه إنما أنجى من أنجى من أهله بصلاحهم لا لأنهم
(١) البحر المحيط.
102
أهلك وأقاربك، وإنَّ هذا لمَّا انتفى عنه الصَّلاحُ لم تنفعه أُبُوَّتُكَ.
والظاهر (١): أن الضمير في أنه عائد على ابن نوح، لا على النداءِ المفهوم من قوله: ﴿وَنَادَى﴾ المتضمّن سؤالَ ربَّهِ، وجعَلَه نفس العمل مبالغة في ذمِّهِ هذا على قراءة جمهور السبعة عمل بلفظ المصدر، وقرأ الكسائي: ﴿عَمِلَ غَيْرَ صالحٍ﴾ على جعله فعلًا ناصبًا ﴿غير صالح﴾ وهي قراءة عليّ وأنس، وابن عباس، وعكرمة، ويعقوب، وعائشة، وروتها عائشة وأم سلمة عن النبي - ﷺ - وهذا يُرَجِّحُ أن الضميرَ يعود على ابن نوح، قيل: ويرجِّح كونَ الضمير في أنه عائدًا على نداءِ نوح المتضمن السؤالَ أنَّ في مصحف ابن مسعود: ﴿إنه عملٌ غيرُ صالح أن تسألني ما ليس لك به علم﴾ وقيل: يعودُ الضمير في هذه القراءةِ على ركوب ولد نوح معهم الذي تضمَّنه سؤالُ نوح.
المعنى: أن كونَه مع الكافرين، وتركَه الركوبَ مع المؤمنين، عمل غيرُ صالح، وكون الضمير في أنه عائدًا على غير ابن نوح عليه السلام تكلفٌ وتعسفٌ لا يليق بالقرآن، ذكره أبو حيان.
﴿فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾؛ أي: إذا وقَفْتَ على جَلِيَّةِ الحال، فلا تَطْلُب مني مطلبًا لا تَعْلَمُ يقينًا أن حصولَه صوابٌ وموافقٌ للحكمة، ولمَّا بيَّنَ له بطلان ما اعتقده من كونه من أهله، فرَّع على ذلك النهي عَنِ السؤال، وهو وإنْ كان نَهْيًا عامًّا بحيث يشمل كُلَّ سؤال لا يعلمُ صاحبه أنَّ حصولَ مطلوبه منه صواب، فهو يَدْخُلُ تحته سؤاله هذا دُخولًا أوليًّا.
أي: فلا تسألني يا نوح في شيء ليس لك به علم صحيح، وقد سمَّى دعاءَه سؤالًا لتضمنه معنى السؤال؛ لأنه تضمَّن ذكر الوعد بنجاة أهله، وما رتَّبه عليه من طلب نجاة ولده.
وفي الآية (٢): إيماء إلى أنه لا يجوز الدعاء بطلب ما هو مخالف لسنن الله في خلقه، بإرادة قلب نظام الكون لأجل الداعي، ولا بطلب ما هو محرَّمٌ شرعًا،
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
103
وإنما يجوز الدعاء بتسخير الأسباب، والتوفيق فيها، والهداية إلى العلم بالمجهول، من السنن والنظام لنكثر من عمل الخير، ونزيدَ من عمل البر والإحسان ﴿إِنِّي أَعِظُكَ﴾؛ أي: أُخَوِّفكَ وأحذرك وأنهاك عن ﴿أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ بالسؤال، سَمَّى سؤالَه عليه السلام جهلًا؛ لأنَّ حُبَّ الولد شَغَلَه عن تذكرِ استثناءِ مَنْ سبق عليه القول منهم بالإهلاك.
أي: إني أنهَاكَ أن تكون من زُمرةِ مَنْ يجهلون فيسألونَه تعالى أن يبطِلَ حكمتَه، وتقديرَه في خلقه إجابة لشهواتهم، وأهْوائِهم في أنفسهم، أو أهليهم، أو مُحِبِّيهم، وفي ذلك (١) دليلٌ على أنَّ منْ أكبر الجهالات أنْ تسأل بعضَ الصَّالحِينَ والأولياء ما نهى الله عنه نَبِيًّا من أولي العزم مِنْ رسله أن يَسْألَهُ إيَّاه، فإنَّ ذَلِك يقتضي بأن الله يعطيهم ما لم يعط مثله لرسله.
قال ابن العربي: وهذه زيادة من الله، وموعظة يرفع بها نوحًا عن مقام الجاهلين، ويُعْلِيه بها إلى مقام العلماء العاملين.
وقرأ الصاحبان (٢) - نافع وابن عامر -: ﴿تَسْألنِّ﴾ بتشديد النون مكسورةً، وقرَأ أبو جعفر، وشيبة، وزيد بن عليّ كذلكَ إلا أنهم أثبتوا (الياء) بعد (النون)، وابنُ كثير بتشديدها مفتوحةً، وهي قراءة ابن عباس، وقرأ الحسن، وابن أبي مليكة ﴿تسالنِي﴾ من غير همز من سال يسال، وهما يتساولان، وهي لغة سائرة، وقَرأ باقي السبعة بالهمز وإسكان اللام، وكسر النون، وتخفيفِها وأثْبتَ الياء في الوصل وَرْشٌ، وأبو عمرو، وحَذَفَها الباقون.
٤٧ - قال الزمخشري: المعنى فلا تلتمس ملتمسًا أو التماسًا لا تعلمُ أصَواب هو أم غير صواب؟ حتى تَقِفَ على كنهه، ثمَّ لمَا عَلِمَ نوح بأنَّ سؤاله لم يطابق الواقع، وأنَّ دعاءَه ناشيء عن وهم كانَ يتوهمه، بادَرَ إلى الاعتراف بالخَطَأ، وطلب المغفرة والرحمة فـ ﴿قال﴾ نوح ﴿رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ﴾ وألتجِىءُ إليكَ وأحتمي بك من ﴿أَنْ أَسْأَلَكَ﴾ بعد الآن ﴿مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ﴾؛ أي: شَيئًا لا
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
104
أعْلَمُ أنَّ حْصُولَهُ على مقتضى الحكمة ﴿وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي﴾؛ أي: وإن لم تغفر لي ذَنْبَ هذا السؤال الذي سولته لي الرحمة الأبوية، وطمعي في الرحمة الربانية ﴿وَتَرْحَمْنِي﴾ بقبول توبتي، برحمتك التي وَسِعَت كُلَّ شيء ﴿أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ في أعمالي، فلا أربح فيها؛ أي: أكنْ من الخاسرين فيما حاولته من الربح بنجاة أولادي كلِّهم، وسعادتِهم بطاعتك، وأنت أعلم بها مني، وقد استدلّ بهذه الآيات من لا يرى عِصْمَة الأنبياءِ، والخاسرون هم المغبونون حُظُوظَهم من الخير، ونَسَب النَّقْصَ والذَّنْبَ إلى نفسه، تأدبًا مع ربه، فقال: ﴿وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي﴾، أي: ما فرط من سؤالي، وترحمني بفضلك، وهذا كما قال آدم عليه السلام.
والعبرة في الآية من وُجوهٍ (١):
١ - أنَّ ما سأله نوح لابنه لم يكن معصيةً لله تعالى، خَالَفَ فيها أمْرَه أو نَهْيَهُ، وإنما كَانَ خَطأً في اجتهاد بنية صالحةٍ، وعَدَّ هذا ذَنْبًا لأنه ما كان ينبغي لِمِثْلِهِ من أرباب العلم الصحيح اللائق بمنزلته من ربه، ومِثلُ هذا الاجتهاد لم يُعْصَم منه الأنبياء، فهم يقعون فيه أحيانًا ليشعروا بحاجتهم إلى تأديب ربهم، وتكميله إياهم حينًا بعد حين.
٢ - أنه لا علاقةَ للصلاح بالوراثةِ والأنساب، بل يختلفُ ذلك باختلاف استعداد الأفراد، وما يحيط بهم من البيئة والآراء والمعتقدات، ولو كَانَ للوراثة تأثير كبيرٌ.. لكان جميع أولاد آدم سواء، ولكان سلائل أبناء نوح المؤمنين الذين نجوا معه في السفينة كلهم مؤمنين.
٣ - أنه تعالى يجزي الناسَ في الدنيا والآخرة بإيمانهم وأعمالهم لا بأنسابهم، ولا يحابِي أحدًا منهم لأجل الآباء والأجداد، وإن كانوا من الأنبياء والمرسلين.
٤ - أنه من يغتر بنسبه، ولا يعمل ما يرضي ربَّه، ويزعم أنه أفضلُ من العلماء العاملين، والأولياءِ الصالحين فهو جاهل بكتاب ربِّه الذي لا يأتيه الباطل
(١) المراغي.
105
من بين يديه ولا من خلفه
٤٨ - ﴿قِيلَ﴾؛ أي: قال الذي (١) بيده ملكوت كل شيء ومدبر أمر العالم كلّه لنوح بعد أن انتهى الطوفان، وأقلعت السماء عن المطر، وابْتَلَعَت الأرْضُ ماءَها، وصَارَت السكنى على الأرض، والعملُ عليها سَهْلًا مُمْكِنًا، ﴿يَا نُوحُ اهْبِطْ﴾ وانزل من الجودي الذي استوَتْ عليه السفينة، وقرىء ﴿اهبط﴾ بضم الباء ممتعًا ﴿بِسَلَامٍ﴾؛ أي: بسلامةٍ وتحية وأمن ﴿مِنَّا﴾ كما قال تعالى ﴿سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (٧٩)﴾، وذلك أنَّ الغَرَق لما كان عَامًّا في جميع الأرض، فعندما خَرَجَ نوح عليه السلام من السفينة عَلِمَ أنه ليس في الأرض شيءٌ مما ينتفع به من النبات والحيوانات، وقيل: فكان كالخائف في أنه كيف يَعِيش، وكيف يدفع جهات الحاجات عن نفسه من المأكول والمشروب، فلَمَّا قَالَ الله له: اهبط بسلام مِنَّا زَالَ عَنْهُ الخَوْفُ؛ لأن ذلك يَدُلُّ على حصول السلامة، وأن لا يكون إلا مع الأمن وسعة الرزق ﴿وَبَرَكَاتٍ﴾ في المعايش والأرزاق، وقيل: أي: ونعم ثابتة، وفي هذا الخطاب له دليل على قبول توبته، ومغفرة زلته، وحَكَى عبد العزيز بن يحيى ﴿وبركة﴾ على التوحيد عن الكسائي؛ أي: وبركات فائضة ﴿عَلَيْكَ﴾ وعلى مَن مَعَكَ في السفينة، ﴿وَعَلَى أُمَمٍ﴾ مؤمنة ناشئة ﴿مِمَّنْ مَعَكَ﴾ في السفينة؛ أي: وعلى ذريات يتناسلون منهم، ويتفرقون في الأرض، فيكونون أُمَمًا مستقلًا بعضها من بعض، يعني بهؤلاء المؤمنين من ذرياتهم، ولم يُعْقِبْ أحدٌ منهم إلَّا أولادَ نوح الثلاثةَ، فانحصر النوع الإنسانيُّ بعد نوح في ذريته، ﴿وَأُمَمٌ﴾ كافرة متناسلة ممن معك ﴿سَنُمَتِّعُهُمْ﴾ في الدنيا بالأرزاق، والبركات، ولا يصيبهم لطفٌ من ربهم ورحمة كما يصيب المؤمنين، فإنَّ الشَّيْطانَ سيغويهم، ويزين لهم الشرك، والظلمَ، والبغْيَ ﴿ثُمَّ﴾ بعد رجوعهم إلى ربهم ﴿يَمَسُّهُمْ مِنَّا﴾ في الآخرة ﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾؛ أي: وَجيع، فيكون جزاؤُهم فيها دارَ البوار، وبئس القرار.
٤٩ - ثم ذكر الله سبحانه وتعالى لنبيه - ﷺ - أنَّ هذا قصَصٌ من عالم الغيب لا يعرفه هو، ولا قوْمُه من قبل، فقال: ﴿تِلْكَ﴾؛ أي: هذا القصص الذي قصصته عليك من خبر نوح وقومه ﴿مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ﴾؛ أي: من أخبار الغيب التي لم تشهدها حتى
(١) المراغي.
106
تَعْلَمَها ﴿نُوحِيهَا إِلَيْكَ﴾؛ أي: نُخْبِرُها لك فنعرفكها تفصيلًا، و ﴿مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا﴾ الوحي الذي نَزَل مبينًا لها تفصيلًا، وربما كَانَ يعلمها هو، وقومه على سبيل الإجمال ﴿فَاصْبِرْ﴾ يا محمَّد على أَذَى هؤلاء الكفار كما صبر نوح على أذى أولئك الكفار؛ أي: فاصبرْ على القيام بأمر الله، وتبليغ رسالته، وما تَلْقى مِنْ قومك من أذًى، كما صَبَرَ نوح على قومه، ﴿إِنَّ الْعَاقِبَةَ﴾ المحمودة؛ أي: آخِرَ الأمر بالظفر في الدنيا، وبالفوز في الآخرة ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ لله المؤمنين بما جاءَتْ به رسله؛ أي: فإنَّ سُنَّة الله سبحانه وتعالى في رسله، وأقوامهم أن تكونَ العاقبة بالفوز، والنجاة للمتقينَ الذين يتجنبون المعاصيَ، ويعملونَ الطاعاتِ، فأنتم الفائزون المفلحون، والمصرُّون على عُداونكم هم الخاسرون الهالكون، وفي هذا تسلِيةٌ لرسول الله - ﷺ - وتبشير له بأن الظفر للمتقين في عاقبة الأمر ولا اعتبار بمباديه. وفي مصحف ابن مسعود (١): ﴿مِنْ قبلِ هذا القرآن﴾.
الإعراب
﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (٣٥)﴾.
﴿أَمْ﴾ منقطعة مقدرة ببل الإضرابية وهمزة الاستفهام الإنكاري، ﴿يَقُولُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، ﴿افْتَرَاهُ﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، أو على نوح على الخلاف في معنى الآية، كما سبق، والجملة في محل النصب مقول القول ﴿قُلْ﴾ فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، أو على نوح، والجملة مستأنفة ﴿إِنِ افْتَرَيْتُهُ﴾ إلى آخر الآية، مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿إِنِ افْتَرَيْتُهُ﴾ فعل وفاعل ومفعول في محل الجزم، بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها ﴿فَعَلَيَّ﴾ ﴿الفاء﴾ رابطة ﴿عليَّ﴾ خبر مقدم ﴿إِجْرَامِي﴾ مبتدأ مؤخر والجملة الإسمية في محل الجزم بـ (إن) على كونها جوابًا لها، وجملة إن الشرطية في محل النصب، مقول القول ﴿وَأَنَا بَرِيءٌ﴾ مبتدأ وخبرٌ، والجملة
(١) البحر المحيط.
107
الاسمية في محل النصب حال من الضمير المستكن في الخبر، ﴿مِمَّا﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿بَرِيءٌ﴾، ﴿تُجْرِمُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: مما تجرمونه.
﴿وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦)﴾.
﴿وَأُوحِيَ﴾ الواو: استئنافية ﴿أوحي﴾ فعل ماض مغير الصيغة ﴿إِلَى نُوحٍ﴾ متعلق به، ﴿أَنَّهُ﴾ ناصب واسمه ﴿لَنْ يُؤْمِنَ﴾ ناصب وفعل منصوب ﴿مِنْ قَوْمِكَ﴾ متعلق به ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ ﴿مَن﴾ اسم موصول في محل الرفع فاعل ﴿يُؤْمِنَ﴾، ﴿قَدْ آمَنَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَن﴾ الموصولة، والجملة الفعلية صلة ﴿مَن﴾ الموصولة، وجملة قوله: ﴿لَنْ يُؤْمِنَ﴾ في محل الرفع خبر أنَّ وجملة أنَّ في تأويل مصدر مرفوع على كونه نائِبَ فاعل لأُوحي تقديره وأُوحي إلى نوح عدمُ إيمان قومه، وجملة أوحي مستأنفة ﴿فَلَا﴾ الفاء: حرف عطف وتفريع، لا: ناهية جازمة ﴿تَبْتَئِسْ﴾ فعل مضارع مجزوم بـ (لا) الناهية، وفاعله ضمير يعود على نوح، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة قوله: ﴿لَنْ يُؤْمِنَ﴾، ﴿بِمَا﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَبْتَئِسْ﴾، ﴿كَانُوا﴾ فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يَفْعَلُونَ﴾ خبر ﴿كان﴾ وجملة ﴿كان﴾ صلةٌ لما أو صفة لها.
﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧)﴾.
﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على نوح، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ﴾ والتقدير: أوحي إلى نوح أن اصنع الفلك، ﴿بِأَعْيُنِنَا﴾ جار ومجرور حال من فاعل ﴿اصنع﴾ ﴿وَوَحْيِنَا﴾ معطوف عليه، والتقدير: واصنع الفلكَ حالةَ كونك محروسًا بأعيننا، ومعلمًا بوحينا ﴿وَلَا﴾ (الواو) عاطفة (لا) ناهية جازمة ﴿تُخَاطِبْنِي﴾ فعل ومفعول ونون وقاية مجزوم بـ (لا) الناهية، وفاعله ضمير يعود على نوح ﴿فِي الَّذِينَ﴾ جار ومجرور متعلق به، والجملة معطوفة على جملة ﴿اصنع﴾ ﴿ظَلَمُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول ﴿إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ﴾ ناصب واسمه، وخبره، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل النهي.
108
﴿وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ﴾.
﴿وَيَصْنَعُ الْفُلْك﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على نوح، والجملة مستأنفة ﴿وَكُلَّمَا﴾ (الواو) حالية ﴿كلما﴾ اسم شرط غير جازم في محل النصب على الظرفية الزمانية مبني على السكون، والظرف متعلق بـ ﴿سَخِرُوا﴾، ﴿مَرَّ﴾ فعل ماض ﴿عَلَيْهِ﴾ متعلق به ﴿مَلَأٌ﴾ فاعل ﴿مَرَّ﴾، ﴿مِنْ قَوْمِهِ﴾ صفة لـ ﴿ملأ﴾ والجملة الفعلية فعلُ شرط لـ ﴿كلما﴾ لا محلَّ لها من الإعراب. ﴿سَخِرُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة جواب ﴿كلما﴾، ﴿مِنْهُ﴾ متعلق به وجملة ﴿كلما﴾ في محل النصب حال من فاعل ﴿يصنع﴾.
﴿قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ﴾.
﴿قَالَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على نوح، والجملة مستأنفة ﴿إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا﴾ إلى قوله: ﴿عَذَابٌ مُقِيمٌ﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿إِنْ تَسْخَرُوا﴾ جازم وفعل وفاعل ﴿مِنَّا﴾ متعلق به ﴿فَإِنَّا﴾ (الفاء) رابطة ﴿إِنَّا﴾ ناصب واسمه ﴿نَسْخَرُ﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على نوح ومن معه ﴿مِنْكُمْ﴾ متعلق به، والجملة في محل الرفع خبر (إنَّ) وجملة (إنَّ) في محل الجزم بـ (إن) الشرطيةِ على كونها جوابًا لها، وجملة (إن) الشرطية في محل النصب مقول (قال) ﴿كَمَا﴾ و ﴿الكاف﴾ حرف جر وتشبيه (ما) مصدرية ﴿تَسْخَرُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة (ما) المصدرية (ما) مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالكاف تقديره: كسخريتكم ﴿مِنَّا﴾ الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: نسخر منكم سخريةً كسخريتكم منا.
﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (٣٩)﴾.
﴿فَسَوْفَ﴾ الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم ما قلت لكم، وأردتم بيانَ عاقبتِنا، وعاقبتكم.. فأقول لكم ﴿سوف تعلمون﴾ ﴿سوف﴾ حرفُ تنفيس للاستقبال البعيد، ﴿تَعْلَمُونَ﴾ فعل
109
وفاعل ﴿مَن﴾ اسم موصول في محل النصب مفعول به؛ لأنَّ (عَلِم) هنا بمعنى عرف يتعدَّى لمفعول واحد، أو (مَن) استفهامية في محل الرفع، وجملة ﴿يَأْتِيهِ﴾ خبر (مَن) الاستفهامية، وجملة (من) الاستفهامية سادة مسدَّ مفعول (علم)، وجملة ﴿تَعْلَمُونَ﴾ في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة ﴿يَأْتِيهِ﴾ فعل ومفعول ﴿عَذَابٌ﴾ فاعل، والجملة صلة (مَن) الموصولة ﴿يُخْزِيهِ﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿عَذَابٌ﴾ والجملة في محل الرفع صفة لـ ﴿عَذَابٌ﴾. ﴿وَيَحِلُّ﴾ فعل مضارع ﴿عَلَيْهِ﴾ متعلق به ﴿عَذَابٌ﴾ فاعل ﴿مُقِيمٌ﴾ صفة ﴿عَذَابٌ﴾ وجملة ﴿يحل﴾ معطوفة على جملة ﴿يَأْتِيهِ﴾ على كونها صلة (من) الموصولة.
﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (٤٠)﴾.
﴿حَتَّى﴾ حرف جر وغاية، وابتداء ﴿إِذَا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان ﴿جَاءَ أَمْرُنَا﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إِذَا﴾ إليها على كونها فعلَ شرط لها، والظرف متعلق بالجواب، ﴿وَفَارَ التَّنُّورُ﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿جَاءَ﴾، ﴿قُلْنَا﴾ فعل وفاعل، والجملة جواب ﴿إِذَا﴾ لا مَحَلَّ لها منَ الإعراب ﴿احْمِلْ فِيهَا﴾ إلى قوله: ﴿وَقَالَ﴾ مقول محكي، والجملة الفعلية جواب ﴿إِذَا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إِذَا﴾ من فعل شرطها وجوابها في محل الجر بـ ﴿حَتَّى﴾ الغائية، والتقدير: ويصنع الفلك إلى قولنا: احمل فيها وَقْتَ مجيء أمرنا وفوران التنور، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿يصنع﴾ وسميت ﴿حَتَّى﴾ غائية لكونها غاية لما قبلها، أعني قوله: ﴿وَيَصْنَعُ﴾ وما بينهما اعتراض، وابتدائية، لدخولها على الجملة، وإن شئت قلت: ﴿احْمِلْ﴾ فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على نوح، والجملة في محل النصب مقول لـ ﴿قُلْنَا﴾. ﴿فِيهَا﴾ متعلق بـ ﴿احْمِلْ﴾، ﴿مِنْ كُلٍّ﴾ بالتنوين جار ومجرور حال من ﴿زَوْجَيْنِ﴾ لأنه صفة نكرة قُدمت عليها، ﴿زَوْجَيْنِ﴾ مفعول به لـ ﴿احْمِلْ﴾، ﴿اثْنَيْنِ﴾ صفة مؤكدة لـ ﴿زَوْجَيْنِ﴾؛ أي: احمل فيها زوجين اثنين حالةَ كونهما مِنْ كل حيوان، وعلى قراءة الإضافة الجار
110
والمجرور حالٌ من ﴿اثْنَيْنِ﴾ و ﴿اثْنَيْنِ﴾ مفعول به لـ ﴿احْمِلْ﴾، ﴿وَأَهْلَكَ﴾ معطوف على المفعول على كلا القراءتين ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء ﴿مَن﴾ اسم موصول في محل النصب على الاستثناء ﴿سَبَقَ﴾ فعل ماض ﴿عَلَيْهِ﴾ متعلق به، ﴿الْقَوْلُ﴾ فاعل، والجملة صلة من الموصولة، ﴿وَمَنْ﴾ الواو: عاطفة ﴿مَن﴾ اسم موصول في محل النصب معطوف على المفعول ﴿آمَنَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿مِن﴾ والجملة صلة ﴿مَن﴾ الموصولة ﴿وَمَا﴾ (الواو) استئنافية (ما) نافية ﴿آمَنَ﴾ فعل ماض ﴿مَعَهُ﴾ متعلق به ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ ﴿قَلِيلٌ﴾ فاعل ﴿آمَنَ﴾، والجملةُ مستأنفةٌ.
﴿وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١)﴾.
﴿وَقَالَ﴾ فعل ماض وفاعله ضمير يعود على نوح، والجملة معطوفة على محذوف تقديره: فحمل غير الإنس، وقال للإنس: اركبوا. ﴿ارْكَبُوا فِيهَا﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئتَ قلت: ﴿ارْكَبُوا﴾ فعل وفاعل ﴿فِيهَا﴾ متعلق به، والجملة في محل النصب، مقول ﴿قَالَ﴾، ﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾ جار ومجرور خبر مقدم ﴿مَجْرَاهَا﴾ مبتدأ مؤخر ﴿وَمُرْسَاهَا﴾ معطوف عليه، والجملة في محل النصب حال مقدرة من (الواو) في ﴿ارْكَبُوا﴾ تقديره: اركبوا فيها حالةَ كونكم مُسمين اللهَ أو قائلينَ بسم الله، وَقْتَ جَرَيَانِها وإرْسَائِها، أو حال مقدرة مِن (الهاء) في ﴿فِيهَا﴾ كما ذكره أبو البقاء، ﴿إِنَّ رَبِّي﴾ ناصب واسمه ﴿لَغَفُورٌ﴾ خبره ﴿رَحِيمٌ﴾ صفة ﴿غَفُورٌ﴾ أو خبر ثان، وجملة (إنَّ) في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها تعليلةً.
﴿وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (٤٢)﴾.
﴿وَهِيَ﴾ الواو: حالية ﴿هِيَ﴾ مبتدأ ﴿تَجْرِي﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على السفينة ﴿بِهِمْ﴾ متعلق به، وكذا قوله: ﴿فِي مَوْجٍ﴾ يتعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب حال من شيء محذوف، تضمنته جملة محذوفة، دلَّ عليها سياق الكلام، تقديره: فركبوا فيها
111
حالَ كونها تجري بهم أو مستأنفة ﴿كَالْجِبَالِ﴾ جار ومجرور صفة لـ ﴿مَوْجٍ﴾ ﴿وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة، ﴿وَكَانَ﴾ فعل ماض ناقص، واسمه ضمير يعود على الابن ﴿فِي مَعْزِلٍ﴾ خبر ﴿كَانَ﴾ وجملة ﴿كَانَ﴾ في محل النصب حال من ﴿ابْنَهُ﴾، ﴿يَا بُنَيَّ﴾ ﴿يا﴾ حرف نداء ﴿بني﴾ منادى مضاف منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياءِ المتكلم المنقلبة ألِفًا محذوفة اجتزاءً بالفتحة، وياء المتكلم المنقلبة ألِفًا محذوفة في محل الجر مضاف إليه، وجملة النداء في محل النصب مقول لقول محذوف تقديره: قائلًا: ﴿يا بنيّ اركب معنا﴾ ﴿ارْكَبْ﴾ فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على الابن ﴿مَعَنَا﴾ ظرف ومضاف إليه متعلق به، والجملة جواب النداءِ ﴿وَلَا تَكُنْ﴾ جازم وفعل ناقص، واسمها ضمير يعود على الابن ﴿مَعَ الْكَافِرِينَ﴾ خبرها، والجملة معطوفة على جملة ﴿ارْكَبْ﴾.
﴿قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ﴾.
﴿قَالَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الابن والجملة مستأنفة ﴿سَآوِي﴾ فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على الابن، والجملة في محل النصب مقول (قال) ﴿إِلَى جَبَلٍ﴾ متعلق به ﴿يَعْصِمُنِي﴾ فعل مفعول ونون وقاية، وفاعله ضمير يعود على ﴿جَبَلٍ﴾، ﴿مِنَ الْمَاءِ﴾ متعلق به، والجملة في محل الرفع خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هو يعصمني، والجملة الاسمية في محل الجر صفة لـ ﴿جَبَلٍ﴾.
﴿قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾.
﴿قَالَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على نوح، والجملة مستأنفة ﴿لاَ﴾ نافية تعمل عمل إنَّ ﴿عَاصِمَ﴾ في محل النصب اسمها ﴿الْيَوْمَ﴾ ظرف متعلق بـ ﴿أَمْرِ اللَّهِ﴾، ﴿مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ جار ومجرور خبر ﴿لَا﴾، والتقدير: لا عاصم كائن من أمر الله اليوم، كما ذكره أبو البقاء. وجملة ﴿لَا﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء ﴿مَن﴾ اسم موصول، في محل النصب على الاستثناء، والاستثناء متصل إن كان ﴿عَاصِمَ﴾ بمعنى معصوم، ومنقطع إن كان على معناه،
112
﴿رَحِمَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهِ﴾ والجملة صلة من الموصولة، والعائد محذوف تقديره إلا من رحمه الله ﴿وَحَالَ﴾ فعل ماض ﴿بَيْنَهُمَا﴾ متعلق به ﴿الْمَوْجُ﴾ فاعل، والجملة مستأنفة ﴿فَكَانَ﴾ (الفاء) عاطفة (كان) فعل ماض ناقص، واسمه ضمير يعود على الابن، ﴿مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾ خبرها، والجملة معطوفة على جملة ﴿حال﴾.
﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٤)﴾.
﴿وَقِيلَ﴾ الواو: استئنافية ﴿قيل﴾ فعل ماض مغير الصيغة ﴿يَا أَرْضُ ابْلَعِي﴾ إلى ﴿وَغِيضَ الْمَاءُ﴾ نائب فاعل محكي، والجملة مستأنفة، وإن شئت قلت: ﴿يَا أَرْضُ﴾ منادى نكرة مقصودة، وجملة النداء في محل الرفع نائِبُ فاعل ﴿ابْلَعِي مَاءَكِ﴾ فعل أمر، وفاعل ومفعول، والجملة في محل الرفع نائب فاعل على كونها جوابَ النداء، ﴿وَيَا سَمَاءُ﴾ منادى نكرة مقصودة معطوف على قوله: ﴿يَا أَرْضُ﴾. ﴿أَقْلِعِي﴾ فعل وفاعل جواب لنداء ﴿يا سماء﴾، ﴿وَغِيضَ الْمَاءُ﴾ فعل ونائب فاعل معطوف على ﴿وَقِيلَ﴾، ﴿وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾ فعل ونائب فاعل معطوف على ﴿وَغِيضَ﴾، ﴿وَاسْتَوَتْ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿الْفُلْكَ﴾ بمعنى السفينة، والجملة معطوفة على جملة ﴿قضي﴾. ﴿عَلَى الْجُودِيِّ﴾ متعلق بـ ﴿استوت﴾. ﴿وَقِيلَ﴾ فعل ماض مغير الصيغة، ﴿بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ نائب فاعل محكي، والجملة معطوفة على وقيل الأول، وإن شئت قلت: ﴿بُعْدًا﴾ مفعول مطلق لفعل محذوف تقديره أبعد بعدًا، وفاعله ضمير يعود على الله ﴿لِلْقَوْمِ﴾ متعلق بالفعل المحذوف ﴿الظَّالِمِينَ﴾ صفة ﴿لِلْقَوْمِ﴾.
﴿وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (٤٥)﴾.
﴿وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة ﴿فَقَالَ﴾ (الفاء) عاطفة ﴿قال﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على نوح، والجملة معطوفة على جملة ﴿نادى﴾، ﴿رَبِّ إِنَّ ابْنِي﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت:
113
ناصب واسمه ﴿مِنْ أَهْلِي﴾ خبر (إن) وجملة (إن) في محل النصب مقول (قال) على كونها جوابَ النداء ﴿وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ﴾ ناصب واسمه وخبره، والجملة معطوفة على (إن) الأولى ﴿وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ﴾ مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة في محل النصب حال من كاف ﴿وَعْدَكَ﴾.
﴿قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾.
﴿قَالَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّه﴾ والجملة مستأنفة ﴿يَا نُوحُ﴾ إلى آخر الآية، مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿يَا نُوحُ﴾ منادى مفرد العلم ﴿إِنَّهُ﴾ ناصب واسمه ﴿لَيْسَ﴾ فعل ماض ناقص، واسمه ضمير يعود على الابن ﴿مِنْ أَهْلِكَ﴾ جار ومجرور خبر ﴿لَيْسَ﴾، وجملة ﴿لَيْسَ﴾ في محل الرفع خبر (إنَّ)، وجملة (إن) في محل النصب مقول (قال) على كونها جَوَابَ النداء ﴿إِنَّهُ﴾ ناصب واسمه ﴿عَمَلٌ﴾ خبره، ولكنه على حذف مضاف، تقديره: ذو عمل ﴿غَيْرُ﴾ صفة لـ ﴿عَمَلٌ﴾ ﴿صَالِحٍ﴾ مضاف إليه، وجملة (إن) في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها مُعلّلةً لما قبلها، ﴿فَلَا﴾ (الفاء) حرف عطف وتفريع (لا) ناهية جازمة ﴿تَسْأَلْنِ﴾ فعل مضارع مجزوم بـ (لا) الناهية، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبًا تقديره: أنت و (النون) نون الوقاية، وياء المتكلم المحذوفة اجتزاءً عنها بكسرة نون الوقاية في محل النصب مفعول أول ﴿مَا﴾ موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول ثان لـ (سأل)، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على جملة (إن) على كونها مفرعةً عليها ﴿لَيْسَ﴾ فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على ﴿مَا﴾، ﴿لك﴾ خبر مقدم لـ ﴿لَيْسَ﴾ ﴿به﴾ متعلق بـ ﴿عِلْمٌ﴾، ﴿عِلْمٌ﴾ اسم ﴿لَيْسَ﴾ مؤخر، وجملة ﴿لَيْسَ﴾ صلة لـ (ما) أو صفة لها ﴿إِنِّي﴾ ناصب واسمه ﴿أَعِظُكَ﴾ فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر (إن)، وجملة (إن) في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كَوْنِها مُعَلَّلَةً لما قبلها ﴿أَنْ تَكُونَ﴾ ناصب وفعل ناقص، واسمه ضمير يعود على نوح
114
﴿مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ خبر ﴿تَكُونَ﴾، وجملة ﴿تَكُونَ﴾ في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: إني أعظك من كونك من الجاهلين.
﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٤٧)﴾.
﴿قَالَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على نوح، والجملة مستأنفة، ﴿رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ﴾ إلى آخر الآية، مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿رَبِّ﴾ منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول (قال)، ﴿إِنِّي﴾ ناصب، واسمه ﴿أَعُوذُ﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على نوح ﴿بِكَ﴾ متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع، خبر (إن)، وجملة (إن) في محل النصب مقول (قال) على كونها جَوَاب النداء ﴿أَنْ أَسْأَلَكَ﴾ ناصب وفعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على نوح ﴿مَا﴾ موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول ثان لـ (سأل) ﴿لَيْسَ﴾ فعل ماض ناقص ﴿لِي﴾ خبر ﴿لَيْسَ﴾ مقدم ﴿بِهِ﴾ متعلق بـ ﴿عِلْمٌ﴾، ﴿عِلْمٌ﴾ اسم ﴿لَيْسَ﴾ مؤخر، وجملة ﴿لَيْسَ﴾ صلة لـ (ما) أو صفة لها، وجملة ﴿سأل﴾ في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: إني أعوذ بك من سؤالي إياك ما ليس لي به علم، ﴿وإلا﴾ (الواو) عاطفة (إلا) (إن) حرف شرط جازم مبني بسكون على النون المدغمة في (لام) (لا)، (لا) نافية ﴿تَغْفِرْ﴾ فعل مضارع مجزوم بـ (إن) الشرطية، وفاعله ضمير يعود على اللَّه ﴿لِي﴾ متعلق به، ﴿وَتَرْحَمْنِي﴾ فعل ومفعول ونون وقاية معطوف على ﴿تَغْفِرْ﴾ وفاعله ضمير يعود على الله ﴿أَكُنْ﴾ فعل مضارع ناقص مجزوم بـ (إن) الشرطية على كونه جوابًا لها، واسمها ضمير يعود على نوح ﴿مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ خبرها، وجملة (إن) الشرطية في محل النصب معطوفة على جملة (إن) على كونها مقول (قال).
﴿قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (٤٨)﴾.
﴿قِيلَ﴾ فعل ماض ﴿يَا نُوحُ﴾ إلى آخر الآية نائب فاعل محكي، والجملة
115
مستأنفة، وإن شئت قلت: ﴿يَا نُوحُ﴾ منادى مفرد العلم، وجملة النداء في محل الرفع، نائب فاعل لـ ﴿قِيلَ﴾ ﴿اهْبِطْ﴾ فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على نوح ﴿بِسَلَامٍ﴾ جار ومجرور، حال من فاعل ﴿اهْبِطْ﴾؛ أي: متلبسًا بسلام، ﴿مِنَّا﴾ صفة لـ (سلام)، وجملة ﴿اهْبِطْ﴾ في محل الرفع، نائب فاعل، لـ (قيل) على كونها جَوَابَ النداء، ﴿وَبَرَكَاتٍ﴾ معطوف على (سلام)، ﴿عَلَيْكَ﴾ صفة لـ ﴿بركات﴾، ﴿وَعَلَى أُمَمٍ﴾ جار ومجرور، معطوف على الجار والمجرور قبله، ﴿مِمَّنْ﴾ جار ومجرور صفة لـ ﴿أُمَمٌ﴾ تقديره: وعلى أمم متناسلين ممن معك، أو كائنينَ ممن معك ﴿مَعَكَ﴾ ظرف ومضاف إليه متعلق بمحذوف صلة (من) الموصولة ﴿وَأُمَمٌ﴾ مبتدأ سوغ الابتداء بالنكرة، وقوعه في معرض التقسيم، ﴿سَنُمَتِّعُهُمْ﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل الرفع نائب فاعل لـ (قيل) ﴿ثُمَّ يَمَسُّهُمْ﴾ فعل ومفعول معطوف على سنمتعهم ﴿مِنَّا﴾ حال من ﴿عَذَابٌ﴾ لأنه صفة نكرةِ قُدَّمَت عليها ﴿عَذَابٌ﴾ فاعل ﴿أَلِيمٌ﴾ صفة له.
﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (٤٩)﴾.
﴿تِلْكَ﴾ مبتدأ ﴿مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة ﴿نُوحِيهَا﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله ﴿إِلَيْكَ﴾ متعلق به، والجملة في محل النصب حال ﴿مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ﴾ والعامل فيه ما في الإشارة من معنى الفعل، ﴿مَا﴾ نافية ﴿كُنتَ﴾ فعل ناقص واسمه ﴿تَعْلَمُهَا﴾ فعل ومفعول به، لأن علم هنا: بمعنى عرف، وفاعله ضمير يعود على محمَّد ﴿أَنْتَ﴾ تأكيد للضمير المستتر في الفعل ليعطف عليه ﴿وَلَا قَوْمُكَ﴾ معطوف على ضمير الفاعل ﴿مِنْ قَبْلِ هَذَا﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ (تعلم) وجملة ﴿تعلم﴾ في محل النصب خبر (كان) وجملة (كان) مستأنفة ﴿فَاصْبِرْ﴾ (الفاء) فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت ما أوحينا إليك من قصة قوم نوح، وإذايتهم له، وأردت بيانَ ما هو الأصلحُ لك.. فأقول لك: اصبر إن العاقبة للمتقين ﴿اصبر﴾ فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد،
116
والجملة الفعلية في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، ﴿إِنَّ الْعَاقِبَةَ﴾ ناصب واسمه ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ خبره، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة على كونها مُعَلّلةً لما قبلها.
التصريف ومفردات اللغة
﴿فَعَلَيَّ إِجْرَامِي﴾ الإجرام والجرم بمعنى، وهو اكتساب الذنب، وفي "المصباح" جرم جرمًا من باب: ضرب إذا أذنب، واكتسب الإثم، وبالمصدر سُمِّيَ الرجلُ، والاسم منه الجُرم بالضم، والجريمة مثله، وأجرمَ إجرامًا كذلك، اهـ.
﴿فَلَا تَبْتَئِسْ﴾ يقال: ابتأس فلانُ إذا بَلَغَه ما يَكْرَه، اهـ "سمين"، وفي "المختار": فلا تبتئس؛ أي: لا تَحْزَن ولا تشتك، والمبتئسُ: الكَارِهُ الحزينُ، اهـ. ويقال: ابْتَأَس إذا اشتد بُؤْسُه وحُزْنُه ﴿الْفُلْكَ﴾ السفينةُ، ويطلق على الجمع كما في قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ﴾ وعلى المفرد كما هنا، ويذكر بمعنى المركب، ويؤنَّث بمعنى السفينة ﴿بِأَعْيُنِنَا﴾، والمرادُ بالأعين هنا شدة الحِفاظ والحراسة، وفي "الكرخي": قوله: ﴿بِأَعْيُنِنَا﴾؛ أي: بمرأى منَّا، وحفِظَنا، فلا يمكن إجراؤُه على ظاهره، لوجوه:
منها: أنَّه يقتضي أن يكونَ لله أعين كثيرة، وهذا يناقض قولَهُ تعالى: ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾.
ومنها: أنه يقتضي أن يُصْنَعَ الفلك بتلك الأعين كقولك: قطعتُ بالسكين، وكتبت بالقلم، ومعلوم أنَّ ذلك باطلٌ إلى غير ذلك ﴿سَخِرُوا مِنْهُ﴾ يقال: سَخِرَ منه إذا استهزأ به، ﴿وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ﴾؛ أي: يذله ويفضحه، ويَحِلُّ التلاوةُ بكسر الحاء، ويجوزُ لغةً ضَمُّها. ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا﴾؛ أي: عذابُنا أو وقته، اهـ "زاده". فهو واحد الأمور، لا الأوامر، ويصح أن يُرادَ الثاني على معنى: جاء أمْرُنا بركوب السفينة، اهـ "شهاب".
﴿وَفَارَ التَّنُّورُ﴾ الفور والفَوران: الارتفاع القويُّ يقال في الماء إذا نَبَعَ وجرى، وإذا غلا وارتفع، والمرادُ منه هنا اشتداد غضب الله على أولئك المشركين الظالمين لأنفسهم وللناس وحلول وقت انتقامه منهم، والتنور ما يُخْبَزُ
117
فيه الخبز، اتَّفقَتْ فيه لغة العرب والعجم، كان من حجارة، وكانت حواء تَخْبِزُ فيه، وصار إلى نوح، وكان ذلك التنُّور في الكوفة على يمين الداخل مما يلي باب كندة، اهـ "خازن". وفي "السمين": والتنور قيل: وزنه تفعول فقلبت الواو الأولَى همزةً لانضمامها، ثمَّ حُذِفَت ثمَّ شُدِّدَت النون للعوض عن المحذوف، ويُعْزَى هذا لِثَعْلب، وقيل: وَزْنُه فعول، ويعزَى لأبي علي الفارسي، وقيل: هو أعجميُّ، وعلى هذا فلا اشتقاقَ له، والمشهور أنه مما اتفق فيه لغةُ العرب والعجم كالصابون ﴿مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ﴾ والزوجان: هما الاثنان اللذان لا يستغني أحدهما عن الآخر، ويطلق على كل واحد منهما زوجٌ، كما يقال للرجل: زوج، وللمرأة: زوجة، ويطلق الزوج على الاثنين، إذا استعمل مقابلًا للفرد، ويُطلق الزوج على الضرب والصنف، ومثلُه قولُه تعالى: ﴿مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ والمعنى: من كل صنف زوجين اثنين.
﴿وَأَهْلَكَ﴾؛ أي: واحمل أهلك، وأهلُ بيتِ الرجل: نساؤه وأولاده وأزواجَهم، ﴿وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا﴾، والركوبُ: العلو على شيء متحرك، ويتعدَّى بنفسه، واستعماله هنا بكلمة (في) ليس لأجل أنَّ المأمورَ به كونهم في جوفها، لا فوقَها؛ كما ظنَّ فإنَّ أَظْهَرَ الروايات أنه عليه السلام جَعَلَ الوُحُوشَ ونظائِرَها في البطن الأسفل، والأنعام في الأوسط، ورَكِبَ هو ومن معه في الأعلى، بل لرعاية جانب المحلية، والمكانية في الفلك، والسر فيه أنَّ معنى الركوب العلو على شيءٍ له حركة إمَّا إراديَّةٌ كالحيوان، أو قسرِيَّةٌ كالسفينةِ، والعَجَلَة ونحوهما، فإذا استعمل في الأول توفر له حظ الأصل، فيقال: ركبت الفرس، وعليه قوله تعالى: ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا﴾، وإن استعمل في الثاني يلوح بمحلية المفعول بكلمة (في) فيقال: ركبتُ في السفينة، وعليه الآية الكريمة وقوله: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ﴾، وقوله: ﴿فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا﴾ اهـ، "أبو السعود".
﴿مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا﴾ بفتح الميم فيهما إما مصدران، الأول من جَرَتْ تَجْري جَرْيًا، والثاني: من رَسَتْ تَرْسُو رسُوًّا من باب سما أو رَسْوًا من باب عدا ومرسىً إذا ثبتَتْ؛ أي: جَرَيانُهَا ورسُوّها، أو اسمَا زمان؛ أي: زمان جَرْيها ورُسوها، أو مكان؛ أي: مكان جريها ورسوها.
118
﴿يَا بُنَيَّ﴾ أصله بثلاث ياءات الأولى: ياء التصغير، والثانية: لاَمُ الكلمة، وأصلُها واو عند قوم، وياءٌ عند آخرين، والياءُ الثالثةِ ياء المتكلم، ولكنَّها حذفت لدلالة الكسرة عليها فرارًا من توالي الياءين، ولأنَّ النداءَ موضع تخفيف، وقيل: حذفت من اللفظ لالتقائها مع الراء في ﴿ارْكَبْ﴾ ويقرأ بالفتح، وفيه وجهان:
أحدهما: أنه أبْدلَ الكسرةَ فتحةً فانقلبت ياءُ الإضافة ألِفًا، ثُمَّ حذفت الألِفُ كما حُذفت الياءُ مع الكسرة؛ لأنها أصلُها.
والثاني: أنَّ الألِفَ حذفت من اللفظ لالتقاء الساكنين ﴿وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ﴾ والموج جمع موجة، وهي ما ارتفعَ عن جملة الماء الكثير عند اشتداد الريح، وشبهها بالجبال المرتفعة على الأرض ﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي﴾ يقال: بَلَعَ الماءَ يبلعه مثل مَنَعَ يمنَع وبلع يَبلَع مثل حَمِدَ يَحْمَدَ لغتان؛ حكاهما الكسائِي، والفراء، والبَلَعُ الشرب، ومنه البَالُوعَةُ: وهي الموضع الذي يُشْرَب منه الماء، وبئر ضيِّقُ الرأس، يجري إليها مَاءُ الغُسَالة ﴿وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي﴾ الإقلاع الإمساك، يقال: أقلع المطر إذا انقطع، ومنه أقْلَعَت الحُمَّى، وقيل: أقلع عن الشيء إذا تركه، وهو قريب من الأوّل ﴿وَغِيضَ الْمَاءُ﴾؛ أي: نقص يقال: غاض الماء وغضته، وهو هنا مبنيٌّ للمجهول إذ يستعمل لازمًا ومتعديًا، وعبارة "السمين": الغَيْضُ: النقصانُ، وفعله لازمٌ ومتعد، فمن اللازم قوله تعالى: ﴿وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ﴾؛ أي: تَنْقُص، وقيل: بل هو هنا متعدٍ أيضًا؛ لأنه لا يبنى للمفعول من غير واسطة حرف جر إلا المتعدي بنفسه، اهـ "سمين". وفي "المختار": غاض الماء إذا قَلَّ ونَضَبَ؛ أي: ذَهَب في الأرض، وبابه بَاعَ وانغَاضَ مثله وغيضَ الماء: فعِل به ذلك، وغَاضَ الله يتعدَّى وَيلْزَمُ، وأغَاضَه الله أيضًا، وغيض الماء تَغْيِيضًا نَقَصه، وحبَسَه ويقال: غَاض الكرام؛ أي: قلوا، وفَاضَ اللئَامُ؛ أي: كَثُرُوا، اهـ. ﴿وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾؛ أي: أحكم، وفرغ منه يعني أهلك قومُ نوح علَى تَمَامِ، وإحكام اهـ "قرطبي" ﴿بُعْدًا﴾ يقال: بَعِدَ بكسر العين بُعْدًا بضم فسكون، وبَعَدًا بفتحتين: إذا بَعُدَ بُعْدًا بعيدًا بحيث لا يُرجى عوده، اهـ "بيضاوي".
﴿فَلَا تَسْأَلْنِ﴾ يقرأ بتشديد النون مع فتح اللام قبلَها، فالنون المشددة للتوكيد،
119
والفعل مبني على الفتح لاتصاله بها، وحينئذ فيقرأ بثبوت الياء، وحذفها وهذا عند كسر نون التوكيد، ويُقرَأ أيضًا بفتحها، وبلا ياءٍ أصلًا، فالقراءات السبعية في التشديد ثلاثة، ويقرأ بتخفيفها؛ أي: تخفيف النون مع سكون اللام قَبْلَها، وعليه فالنون للوقاية، ويقرأ بثبوت الياء، وحذفها في الوصل، فالقراءات السبعية في هذا المقام خمسة، وثبوت الياء في بعض هذه القراءات سواء مع التخفيف والتشديد؛ إنما هو عند الوصل، وأمَّا عند الوقف فلا تثبت في شيء من هذه القراءات كُلِّها، بل ولا تثبُتُ في الرسم؛ لأنها من ياءات الزوائد، وهي تثبتُ في الوصل دون الوقف، ودون الرسم اهـ "جمل" ﴿وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي﴾ هذه إن الشرطية، و (لا) النافية كما مَرَّ في بحث الإعراب أُدْغِمَتْ نونَ إن في لاَم (لا) ولا تُرْسَمُ النونُ كما ترى.
﴿وَبَرَكَاتٍ﴾ وهي عبارة عن بقاء النعمة ودَوامِها، وثَباتِها مشتق من بروك الجَمَل، وهو ثبوته، ومنه البُرْكَةُ لثبوت الماءِ فيها ﴿مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ﴾ والأنباءُ جمع نبأ وهو الخبر الذي له شَأن.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة، وضروبًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: مجاز بالحذف في قوله: ﴿فَعَلَيَّ إِجْرَامِي﴾؛ أي: عقوبةُ إجرامي.
ومنها: جناس الاشتقاق بين إجرامي، وتجرمون.
ومنها: الإتيان، بـ (إن) الدالة على الشك في قوله: ﴿إِنِ افْتَرَيْتُهُ﴾ لبيان أنه على سبيل الفرض بخلاف إجرامهم، فإنه محقق.
ومنها: الجناسُ المماثل بين قوله: ﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ﴾، وقوله: ﴿وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ﴾.
ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: ﴿وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ﴾، لأنَّ حقَّ العبارة أنْ يقال: ويصنعها.
120
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿بِأَعْيُنِنَا﴾؛ لأنَّ المراد به بحراستنا، وحفظنا ففيه إطلاق السبب الذي هو الأعين، وإرادةُ المسبب الذي هو الحراسةُ والحفظ لأنَّ الأعين آلة للحراسة مبالغةً في الحفظ.
ومنها: حكاية الحال الماضية لاستحضار الصورة في قوله: ﴿وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ﴾ فالمضارع بمعنى الماضي، أي وصَنَعَها.
ومنها: المشاكلة في قوله: ﴿فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ﴾ إذ السخرية لا تليق بمقام الأنبياء، وقيل: لجزائهم من جنس صنيعهم، فلا يَقْبُحُ كما في "الشهاب".
ومنها: الطباق بين الأرض والسماء، والجناس الناقص بين ﴿ابْلَعِي﴾ و ﴿أَقْلِعِي﴾ في قوله: ﴿يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي﴾ وكلاهما من المحسنات البديعية.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿ابْلَعِي﴾ شبَّهَ تغويرَ الماء وشُرْبَه في بطنها ببلع الحيوان؛ أي: إزدراده لطعامه وشرابه في جوفه بجامع الوصول إلى الجوف في كلٍّ، فاشتق منه ابلعي بمعنى غوري على طريق الاستعارة التصريحية التبعية، واستُعير البلع الذي هو من فعلِ الحيوانَ للنَّشَفِ دلالةً على أنَّ ذلك ليس كالنَّشَفِ المعتاد الكائن على سبيل التدريج.
ومنها: التفخيم في قوله: ﴿لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ عَبَّر عن الغرق بأمر الله تفخيمًا لشأنه وتهويلًا لأمره.
ومنها: الإبهام ثُمَّ التفسيرُ في قوله: ﴿إِلَّا مَنْ رَحِمَ﴾؛ أي: إلا الراحمَ، وهو الله تعالى تفخيمًا لشأنه الجليل بالإبهام ثمّ التفسير، وبالإجمال ثُمَّ التفصيل، وإشعارًا بعلية رحمته في ذلك بموجب سبقها على غضبه.
ومنها: حكاية الحال الماضية استحضارًا لصورتها، في قوله: ﴿وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ﴾، وحقُّ العبارة أن يقال، وهي جَرَت بهم.
ومنها: التشبيهُ في قوله: ﴿فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ﴾ شبَّه كلَّ موجة من ذلك بالجبل في عِظَمِها وارْتِفاعِها على الماء وتراكمها.
121
ومنها: الاستعارة التصريحيةُ الأصلية في قوله: ﴿بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ لأنَّ البُعْدَ هنا مستعارٌ للهلاك.
ومنها: التعرُّض لوَصف الظلم في قوله: ﴿لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ للإشعار بعِلِّيَّتِهِ للهلاك، ولتذكير ما سَبَق مِنْ قوله تعالى: ﴿وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ﴾.
ومنها: الحذف والزيادة في عِدَّة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
122
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (٥٠) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٥١) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (٥٢) قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٥٧) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (٥٨) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (٦٠) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (٦١) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٦٢) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (٦٣) وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (٦٤) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (٦٥) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (٦٧) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (٦٨)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا...﴾ الآيات، هذا القصصُ ذكِرَ في سورة الأعراف بأسلوب ونظم يخالف ما هنا، وفي كل منهما من العظة والعبرة ما
123
ليسَ في الآخر، وسيأتي في السور التالية بسياق آخر، وقد جاء في بعض الروايات، أنَّ هودًا أوَّلَ مَنْ تكلم بالعربية، فهو أول رسول عربيٍ من ذرية نوح، وآخِرُ رسول هو محمدٌ - ﷺ -، وهو عربي أيضًا.
قوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ...﴾ الآية، مناسبتُها لما قبلها: لَمَّا ذَكَرَ تبليغَ هود عليه السلام قومَه دعوةَ ربه.. ذَكَر هنا رَدَّ قومه لتلك الدعوة في جحودهم للبينة، ثم إنذاره لهم.
قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا...﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها: لما ذكر سبحانه وتعالى إصرارَ قوم هود على العنادِ، والعتو وتكذيب هود فيما جاء به من الآيات... ذكَرَ هنا عاقبةَ أمْرِه وأمْرِهِم، وأنه تعالى أصابَه برحمة مِن لدنه، وأنْزلَ بهم العذابَ الغليظَ كِفاءَ كفرِهم بآياتِه وعصيان رسله.
قولُه تعالى: ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا...﴾ الآيات، جاء هذا القصص في بيان دعوة صالح لقومه ثمود وردِّهم لها بعد احتجاجه عليهم، وصالحُ هو الرسول الثاني من العرب، ومساكن قبيلته - الحجر - وهي بين الحجاز والشام، وسيأتي ذِكْرُ قصصهم في سورة الشعراء، والنمل، والقمر، والحجر، وغيرها، وفي كل منها من الموعظة والعبرة ما لا يُغني عنه غيره.
قوله تعالى: ﴿وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ...﴾ الآيات، مناسبتُها لِمَا قبلها: أنه تعالى لَمَّا ذَكَر أن قومه قالوا له: إننا لفي شك مما تدعونَا إليه، وسألُوه الآية على ما دعاهم إليه.. ذَكر هنا أنه قال لهم: إنَّ آيتَه على رسالته هي الناقة، وأنَّ مَنْ يَمَسُّها بسوء يُصيبه عذابٌ أليم.
التفسير وأوجه القراءة
٥٠ - قوله: ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا﴾ معطوف على ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا﴾؛ أي: وأرسلنا إلى عاد الأُولى أخاهم في النسب، والوَطنِ لا في الدين. هودًا أي واحدًا منهم يسمى هودًا، وقوم عاد كانوا عبدة أوثان، وقيل: هم عاد الأُولى وعاد الأخرى، فهؤلاء عاد الأولى، وعادُ الأخرى هم: شدادٌ ولقمانُ وقومُهما
المذكورون في قوله: ﴿إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (٧)﴾ وأصل عادٍ اسم رجل ثُمَّ صار اسمًا للقبيلة، كتَمِيمِ وبكر ونحوهما، والمرادُ بعاد هنا: اسم قبيلة تُنسب إلى أبيها عاد من ذرية سام بن نوح، فعاد أبو القبيلة، وسمِّيت باسمه، وهودٌ من تلك القبيلة، فينتسب إلى عاد أيضًا، وبَيْنَ هود ونوح ثمان مئة سنة، وعاش أربع مئة سنة، وأربعًا وستينَ سنةً فـ ﴿قَالَ﴾ لهم هود عليه السلام، ﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ﴾؛ أي: أفردُوا الله سبحانَه وتعالى بالعبادة ﴿مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾؛ أي: ليس لكم إلهٌ غيره تعالى، فلا تعبدوا من دونه وَثَنًا ولا صنمًا، وقرأ غيره بالجر على اللفظ، وبالرفع على محلِّ ﴿مِنْ إِلَهٍ﴾ وقرِىء بالنصب على الاستثناء ذكره الشوكاني ﴿إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ﴾؛ أي: ما أنتم باتخاذ إله غير الله، إلا كاذبون على الله عز وجل؛ أي: فما أنتم في عبادتكم غَيْرَه تعالى من الأنداد والشركاء، إلا مختلقون الكذبَ عليه تعالى، بتسميتكم إياهم شُفَعَاءَ تتقرَّبون بهم أو بقبُورهم، أو بصورهم وتماثيلهم، وتَرْجُون النَّفْعَ وكَشْفَ الضر عنكم بجاههم عنده تعالى
٥١ - و ﴿يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ﴾؛ أي: على تبليغ ما أدْعوكم إليه من إخلاص العبادة لله وحده، والبراءة من الأوثان ﴿أَجْرًا﴾؛ أي: مالًا مَجْعولًا لي في مقابلة التبليغ، فتَتَّهموني بأني أريد المنفعةَ لنفسي، خاطب بهذا كل نبي قَوْمَه إزاحة للتهْمةِ، وتمحيضًا للنصيحة، فإنها لا تنجع ما دامَتْ مَشُوبةً بالمطامع، وقرأ ابن محيصن: (يا قوم) بضم الميم كقراءة حفص ﴿وقل رب احكُم﴾ بالضم، وهي لغةٌ في المنادى المضاف حكاها سيبويه وغيره، ذكره أبو حيان ﴿إِنْ أَجْرِيَ﴾؛ أي: ما ثوابي الذي أرْجُوهُ على تبليغي إياكم ﴿إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي﴾؛ أي: إلا على الله الذي خلقني على الفطرة السليمة مبرأً من هذه البدَعِ الوثنيَّةِ التي ابتدعها قوم نوح حين صنعوا التماثيلَ لحفظِ ذِكرى الصالحين، فزَيَّن لهم الشيطانُ تعظيمَ هذه التماثيل، فَعَبَدُوها، وإنما جعل (١) الصلةَ فِعلَ الفطرة لكونه أقدمَ النعم الفائضة من جناب الله تعالى المستوجبة للشكر.
وإنما قال (٢) فيما تقدم في قصة نوح: ﴿مَالًا﴾، وهنا قال: ﴿أَجْرًا﴾ لذكر
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
الخزائن بَعْدَه في قصة نوح، ولفظُ المال بها ألْيَق، وفي "الجمل" قوله: ﴿أَجْرًا﴾ قال في نوح مالًا، وهنا أجرًا تَفنُّنًا، اهـ.
و (الهمزة) في قوله: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ للتوبيخ داخلة على محذوف، و (الفاء) عاطفةٌ على ذلك المحذوف، والتقدير: أي أتغفلون عن هذه القصة فلا تعقلونَها أو أفلا تعقلونَ أنّ أجْرَ الناصحين، إنما هو من رب العالمين، أو أفلا تعقلون ما يقال لكم: فتميزوا بين ما يضرُّ وما ينفع، وإني لكم ناصح أمين، فلا أغشكم فيما أدعوكم إليه.
٥٢ - ثمَّ أرشدهم إلى الاستغفار والتوبة فقال: ﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ﴾؛ أي: سَلُوهُ أن يغفرَ لكم ما تقدَّم من شرككم ﴿ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ﴾ من بعد التوحيد بالندم على ما مضى، وبالعزم على أن لا تعودوا لمثله، وفي "الخازن": ﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ﴾؛ أي: آمنوا (١) به، فالاستغفار هنا بمعنى الإيمان؛ لأنه هو المطلوب أولًا ﴿ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ﴾ يعني من شرككم، وعبادتكم غيره، ومن سالف ذنوبِكم، انتهى. وفي "روح البيان" واللَّائِحُ (٢) للبال أن المعنى: اطْلُبُوا مغفرةَ الله تعالى لذنوبكم السالفةِ من الشرك، والمعاصي بأنْ تُؤمنوا به، فإنَّ الإيمانَ يَجُبُّ ما قَبْلَهُ أي يقطع، ثم ارْجِعُوا إليه بالطاعة؛ فإنَّ التحليةَ - بالمهملة - بعد التخلية - بالمعجمة -، فتكون ثُمَّ على بابها في التراخي، انتهى.
﴿يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ﴾؛ أي: يُنْزِل المطرَ عليكم حالةَ كونه ﴿مِدْرَارًا﴾؛ أي: كثيرَ الدرور والنزول مُتَتابعًا مرة بعد مرة في أوقات الحاجة إليه، وذلك (٣) أنَّ بِلاَدَهم كانت مخصبةً كثيرة الخير والنعم، فأمسك الله عنهم المطر مُدَّةَ ثلاث سنين، فأجْدَبَتْ بلادهم وقحطت بسبب كفرهم، فأخبرهم هود عليه السلام أنهم إنْ آمنوا باللهِ وصدقوا رسوله أَرْسَلَ اللَّه إليهم المطرَ فأحيا به بلادهم كما كانت أولَ مرَّةٍ.
(١) الخازن.
(٢) روح البيان.
(٣) الخازن.
﴿وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً﴾؛ أي: شِدَّة ﴿إِلَى قُوَّتِكُمْ﴾؛ أي: مع شدتكم، ويضاعفها لكم، وقيل معناه: إنكم إن آمنتم.. يُقوِّكم بالأموال والأولاد، وقَصَدَ (١) هودُ بذلك استمالَتَهم إلى الإيمان بكثرة المطر، وزيادة القوة، وذلك أنَّ الله سبحانه وتعالى أعْقَمَ أرحامَ نسائهم، فلم تَلِدُ فقال لهم هود عليه السلام: إن آمنتم أرْسَل الله المطرَ فتزدادون مالًا ويعيد أرحام النساء إلى ما كانت عليه، فيَلِدْنَ فتزدادون قُوَّةً بالأموال، والأولاد، وقد كانوا يَهْتَمُّون بذلك، ويَفْخَرُون على الناس، وقيل معناه: تزدادُون قوةً في الدين إلى قوة الأبدان ﴿وَلَا تَتَوَلَّوْا﴾؛ أي: ولا تعرضوا عن قبول قولي ونصحي، حال كونكم ﴿مُجْرِمِينَ﴾؛ أي: مصرِّينَ على الإجرام والإشراك والآثام، والإجرامُ كَسْبُ الجُرْمِ كالإذناب بكسر (الهمزة) كَسْبُ الذنب.
وعن الحسن (٢) بن علي رضي الله عنهما أنه وَفَد على معاويةَ فلَمَّا خَرَجَ قال لَهُ بَعضُ حُجّابه: إنّي رَجلٌ ذُو مال ولا يُولد لي، علِّمني شيئًا لَعَلَّ الله يرزقني ولدًا، فقال الحسنُ: عليك بالاستغفار، فكان يكثر الاستغفار حتى رَبَّما استغفر في يوم واحد سبع مئة مرة، فوُلد له عشر بنين فبلغ ذلك معاويةَ فقال: هلَّا سأَلْتَه مِمَّن قال ذلك، فوَفَدَ وَفْدةً أخرى فسأله الرجلُ فقال: ألَم تَسْمَعْ قولَ هود: ﴿وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ﴾ وقول نوح: ﴿وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ﴾.
٥٣ - ثم أجابه قومه بما يَدُل على فَرْطِ جهالتهم، وعظيم غباوتهم، فـ ﴿قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ﴾؛ أي: ببرهان وحجة واضحة على صحة ما تقول، ﴿وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي﴾ عبادة ﴿آلِهَتِنَا﴾ وأصْنَامنا التي نَعْبُدُها، وأصله تاركينَ سقطت النونُ للإضافة، وقولُه: ﴿عَنْ قَوْلِكَ﴾ حال مِنَ الضمير في ﴿تاركي﴾ (٣) كأنه قِيلَ: وما نَتْرُكُ آلهتنا صَادِرينَ عن قولك؛ أي: صادرًا تركنا عن قولك بإسناد حال الوصف إلى الموصوف، ومعناه: التعليل، على أَبْلِغ وَجْهٍ لدلالته على كونه عِلَّةً فاعليَّةً،
(١) النسفي.
(٢) النسفي.
(٣) روح البيان.
ولا يفيده الباء واللام. قال السعديُّ: قد يقال: (عَنْ) للسببية فيتعلَّقُ بـ ﴿تاركي﴾؛ أي: بسبب قولك: المجرَّدِ عن حُجَّةٍ.
﴿وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: بمصدَقين فيما تَدعُونا إليه من التوحيد، وتركِ عبادةِ الآلهة وهو إقناطٌ له من الإجابة والتصديق.
٥٤ - ﴿إِنْ نَقُولُ﴾؛ أي: ما نقول في شأنك شيئًا ﴿إِلَّا﴾ قولَنا ﴿اعْتَرَاكَ﴾ وأصَابَك ﴿بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ﴾؛ أي: بجُنون فقوله: ﴿اعْتَرَاكَ﴾ جملة (١) مفسِّرة لمصدر محذوف، تقديره: ما نقولُ في شأنك إلّا قَوْلَنا اعتراك؛ أي: أصَابَكَ، من عراه يعروه إذا أصابه ﴿بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ﴾؛ أي: بجنون لسبك إياها، وصدِّك عنها، وعداوتك مكافأةً لك منها على سوء فعلك بسوء الجزاء، فمن ثم تتكلم بكلام المجانين، وتهذي بهذيان المرسمين.
والخلاصة (٢): أنَّ ما تقولُه لا يصدر إلا عَمَّنْ أصيب بشيءٍ اقتضى خروجه عن قانون العقل، فلا يُعْتَدُّ به؛ لأنه مِنْ قبيل الخرافات، والهذيانات التي لا تصدر إلا عَن المجانين، فكيف نؤمن بك، فأجابهم بما يَدُلُّ على عدم مبالاته بهم، وعلى وثوقه بربه، وتوكله عليه، وأنَّهم لا يقدرون على شيءٍ مما يريده الكفار، بل الله سبحانه وتعالى هو الضار النافع، فـ ﴿قَالَ﴾ لهم هودٌ ﴿إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ﴾ سبحانَه وتعالَى على براءتي من إشراككم ﴿وَاشْهَدُوا﴾ أنتم؛ أي: وأقولُ اشْهَدُوا؛ لئلا يلزم عطف الإنشاء على الخبر ﴿أَنِّي بَرِيءٌ﴾ تنازع فيه أُشْهِدُ اللَّهَ واشهدوا؛ أي: واشهدوا أنتم على أنّي بريء ﴿مِمَّا تُشْرِكُونَ﴾؛ أي: من إشراككم
٥٥ - ﴿مِنْ دُونِهِ﴾ سبحانَه وتعالَى أو ﴿مِمَّا﴾ تشركونه به من آلهة غير الله، فـ (ما) إما مصدرية أو موصولة وإشهادُ الله تعالى حقيقةٌ وإشهادهم استهزاءٌ بهم، واستهانةٌ؛ إذ لا يقولُ أحد لِمَنْ يعاديه أُشْهِدُكَ على أنِّي بريء منك إلّا وهو يريد عَدَم المبالاة ببراءته، والاستهانةَ بعداوته. واعلم: أنهم لمَّا سموا أصنامَهم آلِهةً وأثبتوا لها الضررَ.. نفى هود بقوله: ﴿إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ﴾ الآيةَ كونَهم آلهةً رأسًا ثُمَّ نَفى
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
الضررَ بقوله: ﴿فَكِيدُونِي جَمِيعًا﴾ أنتم وآلهتكم، واحتالوا في إضراري إن كانت كما تَزْعمون، أنها تقدر على الإضرار بي، وأنها اعترتني بسوء، ﴿ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ﴾؛ أي: لا تمهلوني ولا تؤخِّرُوني حتى آتِيَ بشيءٍ يحفظني من قراة وسلام، بل عاجلوني واصنعوا ما بَدا لكم، وفي هذا من إظهار عدم المبالاة بهم وبأصنامهم التي يعبدونها ما يصك مسَامِعَهم، ويوضحُ عَجْزَهم وعدمَ قدرتهم على شيءٍ قوله: ﴿فَكِيدُونِي﴾ بثبوت الياء وصلًا، ووقفًا لكلهم، والتي في المرسلات بحَذْفها، كذلك لكلهم، وأمَّا التي في الأعراف فمِنْ ياءات الزوائد فتحذف وقفًا لا غيرُ وتثبت وتحذَفُ في الوصل. ذكره "الجمل".
والكيد (١) إرادةُ مضرة الغير خفيةً، وهو من الخَلْقِ: الحِيلةُ السيئةُ، ومن الله التدبيرُ بالحقِّ، لمجازاة أعمال الخلق؛ أي: إن صحَّ ما تفوهتم به من كون آلهتكم مما تَقْدِر على إضرار من يَسُبُّها، ويَصُدُّ عن عبادتها، فإنِّي بَريءٌ منها، فكونوا أنتم وآلهتكم ﴿جَمِيعًا﴾ حال من ضمير ﴿كيدوني﴾ على قصد إهلاكي، بكل طريق ﴿ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ﴾؛ أي: لا تمهلوني ولا تسامحوني في ذلك، (فالفاء) لتفريع الأمر على زعمهم في قدرة آلهتهم على ما قالوا، وعلى البراءة كليهما.
قال الزمخشري (٢): فإن قلت: هلَّا قيل: إني أُشهدُ الله وأشهدكم؟
قلت: لأن إشهاد الله على البراءة من الشرك إشهادٌ صحيح، ثابت في معنى تثبيت التوحيد، وأما إشهادهم فما هو إلا تَهاونٌ بدِينهم، ودَلالة على قلة المبالاة بهم فحَسْبُ، فَعَدَلَ به عن لفظ الأول لاختلاف ما بينهما، وجيءَ به على لفظ الأمر بالشهادة، انتهى. وقولُه: ﴿ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ﴾ هذا من (٣) معجزاته الباهرة؛ لأنَّ الرَّجُلَ الواحدَ إذا أَقْبَل على القوم العظام، وقال لهم: بَالِغُوا في عداوتي، وفي إيذائي، ولا تؤجِّلوني، فإنه لا يقول هذا إلا إذا كان واثقًا من الله بأنه يحفظه، ويصونه عن كيد الأعداء،
٥٦ - وهذا هو المُرادُ بقوله: ﴿إِنِّي تَوَكَّلْتُ﴾، واعتمدتُ {عَلَى
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
(٣) الفتوحات.
129
اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ}؛ أي: مالكي، ومالككم، يعني: أنكم وآلهتكم لا تقدرون على ضرري، فإني متوكل على الله القادر القوي، وهو مالكي ومالككم ومالك كل شيء إذ ﴿مَا مِنْ دَابَّةٍ﴾ ونسمة تَدبُّ وتتحرك على الأرض ﴿إِلَّا هُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا﴾؛ أي: إلا وهو مالك لها، قَادر عليها، يصرفها على ما يريد بها، والناصية عند العرب (١): مَنْبَتُ الشعر في مقدم الرأس، ويُسمّى الشَّعْرُ النابت هناك أيضًا ناصية، تسميةً له باسم منبته، والأَخذ بناصية الإنسان عبارةٌ عن قهره، والغلبة عليه، وكونه في قبضة الآخذ بحيثُ يَقْدِرُ على التصرف فيه كيف يشاء، والعربُ إذا وَصفوا إنسانًا بالذلة والخُضوع لرجل.. قالوا: ما ناصيته إلا بيدِ فلان؛ أي: إنه مُطيع له؛ لأنَّ كل من أخذْتَ بناصيته فقد قهَرْتَه، وأَخْذُ الله سبحانه وتعالى بناصية الخلائق استعارة تمثيليةٌ لنفاذ قدرته فيهم.
والغرض من هذا الكلام: الدلالة على عظمته تعالى وجَلالة شأنه وكبرياء سلطانه، وباهر قدرته، وأنَّ كُلَّ مقدور، وإن عَظُم وجَلَّ في قوته وجثته، فهو مستصغرٌ إلى جنب قدرته، مقهور تحت قهره وسلطانه، منقاد لتكوينه فيه ما يشاء غَيْرُ ممتنع عليه ﴿إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾؛ أي: إنه سبحانه وتعالى، وإن كان قادرًا على عباده، لكنَّه لا يظلمهم، ولا يفعلُ بهم إلا ما هو الحق والعدل في ملكه، لا يفوته ظالم، ولا يضيع عنده معتصم به.
وقولُ هود عليه السلام: ﴿إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا﴾ إلى قوله: ﴿إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ يتضمَّن جملةَ أُمورٍ (٢):
١ - البراءة من إشراكهم الذي اقْتَرَفُوه، ولا حقيقةَ له.
٢ - إشهاد الله على ذلك ثِقَةً منه بأنه على بينةٍ من ربه.
٣ - إشهادهم أيضًا على ذلك إعلامًا منه بعدم مبالاته بهم وبما يزعمون من قدرة شركائهم على إيذائه وضرره.
٤ - طَلَبهُ منهم أن يجمعوا كُلُّهم على الكيد له، والإيقاع به بلا إمهال، ولا
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
130
تأخير إن استطاعوا.
وفي هذا دليل واضح على أنه لا يخافُهم، ولا يخافُ آلهتهم.
٥ - عدم الخوف منهم ومن آلهتهم إذ وكل أمْر حفظه وخِذْلانِهم إلى ربه وربهم، ومالك أمره وأمرهم المتصرف في كل ما دبَّ على وجه الأرض، والمسخِّر له، وهو سبحانه وتعالى مطلع على أمور العبادة، مجازٍ لهم بالثواب والعقاب، كافٍ لمَن اعتصَمَ به، وهو لا يسلط أهل الباطل من أعدائه على أهل الحق مِنْ رسله، ولا يفوته ظالم.
٥٧ - ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾؛ أي: فإن تتولَّوا، بحذف إحدى التائين؛ أي: وإن تستمروا على التولي، والإعراض عن الإيمان، والتوبة، فلا تفريطَ مِنّي في الإبلاغ ﴿فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ﴾؛ أي: لأنَّي قد أدَّيْتُ ما عليَّ من الإبلاغ، وإلزام الحجة، وكنتم محجوجينَ، بأن بلغكم الحقُّ فأَبَيْتُم إلا التكذيب، والجحود، فالمذكور دليل الجواب المحذوف.
وقال الزمخشري (١): فإن قلتَ: الإبلاع كان قبل التولي، فكيف وَقَعَ جزاءً للشرط؟
قلت: معناه: فإن تَولَّوا لم أُعاقَبْ على تفريط في الإبلاع، فإنَّ ما أرسلت به قد بَلَغَكُم فأبيتم إلا تكذيب الرسالة، وعداوة الرسول.
وقرأ الجمهور فإن ﴿تَوَلَّوْا﴾؛ أي: تتولوا مضارع تولَّى، وقرأ الأعرج، وعيسى الثقفي، ﴿تَوَلَّوْا﴾ بضم التاء واللام مضارع ولَّى قوله: ﴿وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ﴾ كلام مستأنف، أي: ويهلككم الله، ويجيء بقوم آخرين، يَخْلُفونكم في دياركم وأموالكم.
وقرأ الجمهورُ: ﴿وَيَسْتَخْلِفُ﴾ بضم الفاء على معنى الخبر المستأنف، وقرأ حفص في رواية هبيرة بجزمها عطفًا على موضع الجزاء، وقرأَ عبد الله كذلك، ويجزمُ ﴿ولا تضرُّوه﴾ وقرأ الجمهورُ ﴿وَلَا تَضُرُّونَهُ﴾ سبحانه وتعالى بتوليكم
(١) البحر المحيط.
وإعراضكم ﴿شَيْئًا﴾ من الضرر، لأنه غني عنكم، وعن إيمانكم لا يجوز عليه المضارُّ والمنافِع، وإنما تضرون أنفسَكم.
﴿إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ﴾؛ أي: رقيب مهيمن عليه، يحفظه من كل شيء، فلا يَخْفى عليه أعمالكم، ولا يَغْفَلُ عن مجازاتكم، قيل: (وعلى) بمعنى اللام فيكون المعنى: إنَّ ربي لكل شيء حفيظ فهو يحفظني من أن تنالوني بسوء قرأ عبد الله: (ولا تنقصونه شيئًا).
٥٨ - ﴿وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا﴾؛ أي: عذابنا، فيكون مصدرَ أمر ﴿نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ من قومه، وكانوا أربعةَ آلاف ﴿بِرَحْمَةٍ﴾ عظيمة كائنةٍ ﴿مِنَّا﴾ لهم؛ أي: نجَّيْنَاهم بمجرد رحمة وفضل لا بأعمالهم؛ لأنه لا يَنْجُو أحدٌ، وإن اجتهد في الأعمال، والعمل الصالح، إلا برحمة الله تعالى كما هو مذهبُ أهل السنة، وذلك أنَّ العذابَ إذا نزل قدْ يَعُمُّ المؤمنَ والكافرَ، فلما أَنْجَى الله المؤمنينَ مِنْ ذلك العذابِ كان برحمته وفضله وكرمه، وقيل: الرحمة هي الإيمان.
﴿وَنَجَّيْنَاهُمْ﴾؛ أي: ونجينا هودًا والذين آمنوا معه ﴿مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾؛ أي: شديد، وهو تكرير لبيان ما نجيناهم منه؛ أي: كانت تلك التنجية من عذاب غليظ، وهي السموم التي كانت تدخل أنوفَ الكفرة، وتخرج من أدبارهم، فتقطعهم إرَبًا إربًا، وفيه (١) إشارة إلى أنَّ العذاب نوعان: خفيف، وغليظ؛ فالخفيفُ هو: عذاب الشَّقَاوةِ المقدَّرة قبل خلق الخلق، والغليظ هو عذابُ الشقيّ بشقاوة معاملات الأشقياء، التي تَجْرِي عليه مع شقاوته المقدرة له قبل الوجود، وقيل (٢): المراد بالعذاب الغليظ هو عذابُ الآخرة، وهذا هو الصحيح ليحصل الفرقُ بين العذابين.
رُوي (٣): أنَّ الله تعالى لما أهلك عادًا، ونجَّى هودًا، والمؤمنين معه، أتَوا مكة، وعبدوا الله تعالى فيها حتى ماتوا، قال في "إنْسان العيون"، كُلُّ نبيّ من
(١) الخازن.
(٢) روح البيان.
(٣) الخازن.
(٤) روح البيان.
الأنبياء كان إذا كَذَّبه قومه خَرجَ من بين أظهرهم، وأتى مكة يَعْبُدُ اللَّهَ تعالى حتى يموتَ وقد وَرَد "ما بين الركن اليماني، والركن الأسود رَوْضَةٌ مِنْ رياض الجنة، وإنَّ قَبْرَ هود وشعيبٌ وصالح وإسماعيل عليهم السلام في تلك البقعة".
٥٩ - ﴿وَتِلْكَ﴾ القَبِيلَة التي كذبت هودًا فأهلكْناهم، والخطابُ لقوم محمَّد - ﷺ - ﴿عاد﴾؛ أي: قبيلة تسمَّى عادًا بالصرف، قال الكسائي؛ إنَّ من العرب من لا يصرف عادًا، ويجعلُه اسمًا للقبيلة ﴿جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ﴾؛ أي: كفروا بها، وكذَّبوها، وأنكروا المعجزات ﴿وَعَصَوْا رُسُلَهُ﴾ تعالى، هودًا وَحْدَه؛ لأنه لم يكن في عصره رسول سواه، وإنما جَمَع هنا؛ لأنَّ مَنْ كَذَّب رسولًا فقد كَذَّب جميعَ الرسل، لاتفاق كلمتهم على التوحيد، وأُصول الشرائع، وقيل: إنهم عصوا هودًا ومَنْ كان قَبْلَه من الرسل أو كانوا بحيثُ لو بَعَث الله إليهم رُسُلًا متعددين.. لكذَّبُوهم.
وهذا الجحودُ والعصيانُ شامل لكل فرد منهم؛ أي: لرؤسائهم وأسافلتهم، ﴿وَاتَّبَعُوا﴾؛ أي: الأسافِلُ ﴿أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ﴾؛ أي: أمر كل شخص متعظم في نفسه، متكبر على العباد ﴿عَنِيدٍ﴾؛ أي: كثير العناد، والمعارضة للحق، أي: واتبع السفلة أمْرَ رؤسائهم الدُّعاةِ إلى الضلال، وإلى تكذيب الرسل، والمعنى: عَصَوْا مَنْ دعاهم إلى الإيمان، وما يُنْجِيهم، وأطاعُوا مَنْ دعاهم إلى الكفر، وما يُرْدِيهم، وقال في "التبيان": الجبار المتعظم في نفسه، المتكبر على العباد، والعنيد الذي لا يقول الحقَّ، ولا يقبَله
٦٠ - ﴿وَاتَّبَعُوا﴾؛ أي: أتبع الرؤساءُ والمرؤوسون منهم، وأرْدِفوا ﴿فِي هَذِهِ﴾ الدار ﴿الدُّنْيَا لَعْنَةً﴾ تَتْبَعُهم، وتلحقهم وتنصرف معهم؛ أي: أتبعوا كلهم في الدنيا إبعادًا، وطردًا عن الرحمة، وعن كل خير على لسان الأنبياء، فما جاء نَبِيٌّ بَعْدَهم إلَّا لعنهم؛ أي: جُعلت (١) اللعنة من الناس تابعةً لهم، ولازمة تكبهم في العذاب كَمَنْ يأتي خَلْفَ شخص فيدفعه من خلف، فيكبُّهَ، وإنما عبَّر عن لزوم اللعنة لهم بالتبعية للمَبَالغَةِ، فكأنها لا تفارقهم، وإن ذَهَبوا كلّ
(١) روح البيان.
مذهب، بل تَدُورُ معهم حيث دَارُوا، ولوقوع صحبة أتباعهم رؤَسائهم، يعني: أنَّهم لما اتبعوا.. أتبعوا ذلك جزاءً لصنيعهم، جزاءً وفاقًا، ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾؛ أي: وأتبعوا في يَوْم القيامة أيضًا لعنةً، وهي عذابُ النار المخلَّد، حذفت لدلالة الأولى عليها، يعني وفي يوم القيامة أيضًا تتبعهم اللعنة كما تتبعهم في الدنيا، ثمَّ ذَكَر سبحانه وتعالى السببَ الذي استحقُّوا به هذه اللعنة، فقال سبحانه: ﴿أَلَا إِنَّ عَادًا﴾؛ أي: انْتَبَهوا! إنَّ عادًا ﴿كَفَرُوا رَبَّهُمْ﴾؛ أي: كفروا بربهم، وجحدوه كأنَّهم كانوا من الدهرية، وهم الذين يَرَوْنَ مَحْسُوسًا، ولا يرون معقولًا، وينسبون كل حادث إلى الدهر؛ أي: إنَّ عادًا كفروا نعمه عليهم، بجحودهم بآياته، وتكذيبهم لِرسُلِه كِبْرًا وعنادًا ﴿أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ﴾؛ أي: انتبهوا! إنَّ اللهَ سبحانه وتعالى أَبْعَدَ عادًا منْ رحمته فبَعُدوا عنها بعدًا، والمرادُ منه تحقيرهم، وقولُه: ﴿قَوْمِ هُودٍ﴾ عطف بيان لعاد قُيِّدَ به، لأن عادًا عَادانَ: عادُ هود القديمةُ، وعادُ إرم الحديثةُ التي هي قوم صالح المسماة بثمود، فقومُ هود عادُ الأولى، وقومُ صالح عاد الثانية.
وإنما كرَّر ألا ودعاءَه عليهم، وأعادَ ذِكرهم تهويلًا لأمرهم، وتفظيعًا له، وحثًّا على الاعتبار بهم، والحَذَرِ من مثل حالهم، وفي "الخازن" فإنَّ (١) قلت: اللعنة معناها الإبعادُ والهلاكُ، فما الفائدة في قوله: ﴿أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ﴾؛ لأنَّ الثانيَ هو الأولُ بعينه؟ قلتُ: الفائدةُ فيه: أنَّ التكرارَ بعبارتين مختلفتين، يدُلُّ على نهاية التأكيد، وأنَّهم كانوا مستحقّين له.
٦١ - وقولُه: ﴿وَإِلَى ثَمُودَ﴾ متعلق بمحذوف كما مَرَّ نظيره أي: وأرسلنا إلى ثمود، وهي قبيلةٌ من العرب، سُمُّوا باسم أبيهم الأكبر، ثمودَ بن عاد بن إرم بن سام، وقيل: إنما سُمُّوا بذلك لقلةِ مائهم من الثَّمد، وهو الماءُ القليلُ، وقرأ ابن وثاب، والأعمش (٢) ﴿وإلى ثمودٍ﴾ بالصرف على إرادة الحيّ، والجمهورُ على منع الصرف ذهابًا إلى القبيلة، وفي "تفسير أبي الليث": إنما لم ينصرفْ لأنه اسمُ قبيلة، وفي الموضع الذي ينصرف جعله اسمًا للقوم ﴿أَخَاهُمْ﴾؛ أي: واحدًا منهم
(١) الخازن.
(٢) البحر المحيط.
134
في النسب ﴿صَالِحًا﴾ عطف بيان، لأخاهم، وهو صالح بن عبيد بن أسف بن ماسخ بن عبيد بن خاور بن ثمود، وعاش صالحٌ مئتي سنة وثمانين سنةً، وبينه وبين هود مئةُ سنة، وثمود هم سكَّانُ الحِجْر، مكانُ بين الشام والمدينة ﴿قَالَ﴾ استئنافٌ بيانيٌّ كأنَّ قائِلًا قال: فما قال لهم صالحٌ حين أرسل إليهم؟ فقيل: قال: ﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ وحده، أي: وَحَّدُوا الله وخُصّوه بالعبادةِ، ﴿مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ يعني هو إلهكم المستحق للعبادة، لا هذه الأصنام، ثُمَّ ذَكَرَ سبحانه وتعالى الدَّلائِلُ الدالَّةَ على وحدانيته، وكمال قدرته، فقال: ﴿هو﴾ سبحانه وتعالى الإله الذي ﴿أَنْشَأَكُمْ﴾، وابتدأ خَلْقَكُم ﴿مِنَ الْأَرْضِ﴾، وذلك أنهم من بني آدم، وآدم خُلق من الأرض، فمن لابتداء الغاية (١)؛ أي: ابتدأ إنشاءَكم منها؛ فإنَّه خَلَق آدمَ من التراب، وهو أنموذج منطو على جميع ذرياته التي ستوجد إلى يوم القيامة، انطواءً إجماليًّا؛ لأنَّ كل واحد منهم مخلوق من المني، ومن دم الطَّمثِ، والمنيُّ إنما يتولد من الدم، والدمُ إنما يتولد من الأغذية، وهي إما حيوانية أو نباتية، والنباتية، إنما تتولد من الأرض، والأغذية الحيوانية لا بُدَّ أن تَنتَهي إلى الأغذية النباتية المتولدة من الأرض، فثبَتَ أنه تعالى أنشأَ الكل من الأرض، ﴿وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾؛ أي: جَعَلَكم سُكَّانَ الأرض، وصيركم عامرين لها، أو جَعَلَكم معمِّرين ديارَكم تسكنونَها مدة أعماركم، ثمَّ تتركونها لغيركم، وقال الضحاك (٢): أطال أعمارَكم فيها، حتى كان الواحدُ منهم يعيشُ ثلاثَ مئة سنة إلى ألف سنة، وكذلك كان قوم عاد، وقال مجاهد: أعْمَركم من العمرى؛ أي: جَعَلَها لكم ما عشتم ﴿فَاسْتَغْفِرُوهُ﴾؛ أي: فاطلبوا مغفرةَ الله بالإيمان، أي آمِنُوا بالله وحده ﴿ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ﴾؛ أي: ارْجِعُوا إلى عبادته تعالى من عبادة غيره، لأنَّ التوبةَ لا تصح إلا بعد الإيمان ﴿إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ﴾ إلى عباده بالعلم، والسمع، والرحمة، ﴿مُجِيبٌ﴾ دعاءَ المحتاجين بفضله ورحمته، والذي (٣) يَلُوحُ للخاطر أنَّ قوله تعالى: ﴿قَرِيبٌ﴾ راجع لـ ﴿تُوبُوا﴾ و ﴿مُجِيبٌ﴾ لـ ﴿اسْتَغْفِرُوا﴾؛ أي: ارجعوا إلى الله، فإنه قريب ما هو
(١) روح البيان.
(٢) الخازن.
(٣) روح البيان.
135
ببعيد، واسألوا منه المغفرةَ، فإنه مجيبٌ لسائله
٦٢ - ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال قومُ صالح بعد دعوتهم إلى الله تعالى، وعبادته ﴿يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا﴾؛ أي: مأمولًا؛ أي: كُنَّا نرجوا أن تكونَ فِينَا سَيِّدًا مطاعًا ننتفع برأيك، ونَسْعَدُ بسيادتك ﴿قَبْلَ هَذَا﴾ الذي أظهرته لنا من ادعائك النُّبوَّةَ ودعوتك إلى التوحيد، أو قَبْلَ (١) هذا الوقت، وهو وقت الدعوة، كانَتْ تلوح فيك مخايل الخير، وأمارات الرشد والسداد، فإنَّكَ كنت تعطفُ على فقرائنا، وتعِينَ ضُعَفَاءنا، وتعود مَرْضَانَا فقَوِيَ رجاؤُنا فيك، فكنَّا نَرْجوك أنْ تكون لنا سَيِّدًا ننتفع بك ومستشارًا في الأمور، ومسترشدًا في التدابير، فلما سَمِعْنَا منك هذا القَول انقطع رجاؤُنا عنك، وعَلِمْنا أن لا خَيْرَ فيك.
والخلاصة (٢): أي قَدْ كنت عِندنا موضعَ الرجاءِ لِمَهامِّ أمورِنا؛ لمَا لَكَ من رجاحة عقل، وأصالَة رأي، ولحسبك ونَسبِك قبل هذه الدعوة، التي تَطلُب بها إلينا أن نبدل ديننا، زَعْمًا منك أنه باطل، فالآن قد انقطع رجاؤنا منك، ثُمَّ ذَكَروا أسباب انْقِطَاع رَجائِهم بقولهم متعجِّبين تعجّبًا شديدًا ﴿أَتَنْهَانَا﴾، و (الهمزة) فيه للاستفهام الإنكاري التعجبي؛ أي: أتمنعنا من ﴿أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾؛ أي: ما عَبَدُوه من الأوثان، والعدول فيه إلى صيغة المضارع لحكاية الحال الماضية.
أي: عجيب منك أن تَنْهانا عن عبادة ما كان يعبدُ آباؤنا من قبلنا، وقد سِرْنا نحن على نهجهم، ولم ينكره أحدٌ علينا، ولم يستقبحه فكيف تُنْكِرُه؟ ﴿وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ﴾ من التوحيد، وترك عبادة الأوثان ﴿مُرِيبٍ﴾؛ أي: موقع في الريبة، أي: في اضطراب القلوب، وانتفاء الطمأنينة من أرابَه إذا أوقعه في الريبة، وإسنادُ الإرابة إلى الشك، وهو أن يبقى الإنسانُ متوقِّفًا بين النفي والإثبات مجازي لأنَّ الريبَ هو انتفاء ما يرجح أحد طرفي النسبة، أو تعارض الأدلة لا نفس الشك.
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
والمعنى: أي وإنا لفي شك من دعوتك إلى عبادته تعالى وحده، دونَ أن نتوسَّل إليه بأحد من الشفعاء، المقربين عنده تعالى، ولا أن نُعَظِّم ما وضَعه آباؤنا لهم من صور وتماثيل، تذكّرُنا بهم، فكل هذا يوجب الريبَ والتهمةَ، وسوء الظن، وعدمَ الطمأنينة إلى دعوتك.
والخلاصة: إننا لفي شك مِمَّا تدعونا إليه من عبادة الله وحده، وترك عبادة الأوثان موقع في الريب، و (إنا) و (إننا) (١) لغتان لقريش قال الفراء: مَنْ قال إنَّنا أَخْرج الحرفَ على أصله؛ لأنَّ كناية المتكلمين (نا) فاجتمعت ثلاث نونات، ومن قال: (إنا) استثقل اجتماعَها فأسقط الثالثةَ، وأبْقَى الأولتين، انتهى. والذي أختاره أنَّ (نا) ضمير المتكلمين، لا تكون المحذوفة؛ لأنَّ في حذفها حَذْف بَعْضِ اسم، وبقي منه حرف ساكن، وإنما المحذوفة النون الثانية من (إنَّ) فحذفت لاجتماع الأمْثال، وبقي من الحرف (الهمزة) والنون الساكنة، وهذا أولى من حذف ما بقي منه حرف، وأيضًا فقد عهد حذف هذه النون مع غير ضمير المتكلمينَ، ولم يُعْهَدْ حذف نون (نا) فكان حَذْفُها من إنَّ أوْلَى،
٦٣ - فأجابهم صالح فـ ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ﴾؛ أي: أخْبِرُوني عن حالي معكم، ﴿إِن كُنْتُ﴾ في الحقيقة ﴿عَلَى بَيِّنَةٍ﴾؛ أي: على بصيرة، وبرهان صادر ﴿مِنْ رَبِّي﴾ ومالك أمري ﴿وَآتَانِي﴾؛ أي: أعطاني ﴿مِنْهُ رَحْمَةً﴾ تعالى؛ أي: من قِبَله رِحمةً خاصةً من عنده، جَعَلني بها نبيًّا مرسلًا إليكم، وهذه الأُمورُ (٢)، وإن كانت متحققةَ الوقوع، لكنَّها صدرت بكلمة الشك، اعتبارًا بحال المخاطبين؛ لأنهم في شك من ذلك، كما وَصَفوه عن أنفسهم، والاستفهام في قوله: ﴿فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ﴾ استفهام إنكار بمعنى النفي؛ أي: فمن يمنعني، ويُنْجِيني ويحفظني من عذاب الله ﴿إِنْ عَصَيْتُهُ﴾ تعالى، وخالَفْتُه بالمساهلة في تبليغ الرسالة، وفي المَجاراة معكم؛ أي: فَمَنْ يَنصُرَني منجيًا من عذابه تعالى، أي لا ناصرَ لي يمنعني من عذاب الله ﴿إِنْ عَصَيْتُهُ﴾، وخالفته في تبليغ الرسالة، وراقبتكم، وفترت عما يجِبُ عليّ من البلاغ ﴿فَمَا تَزِيدُونَنِي﴾ بتثبيطكم إياي {غَيْرَ
(١) البحر المحيط.
(٢) الشوكاني.
تَخْسِيرٍ}؛ أي: غير إيقاعكم لي في الخسارة بأن تجعلوني خاسرًا بإبطال عملي، والتعرض لعقوبة الله تعالى، والمعنى: أخبروني إن كنتُ على بينة ونبوة من ربي، فلا أحد يمنعني من عذاب الله إن اتبعتكم، وعصيتُه، وحينئذ أكون خاسرًا مضيِّعًا لما أعطاني الله من الحق، وهَلْ رأيتم نبيًّا صار كافرًا؟ وكلُّ هذا منه لهم، اهـ "صاوي". قال الفراء: غَيْر تضليل، وإبعاد من الخير، أو فما تزيدونني بما تقولون غير بَصيرة في خسارتكم؛ أي: وما زادني قولُكم إلَّا قولي لكم: إنكم لخاسرون، أو المعنى: فما تفيدونني غير تَخسير إذْ لم يكن فيه أصلُ الخسران حتى يزيدوه، وحاصل المعنى: أي: فمن يمنعني من عذابه، إذا أنا كَتَمْتُ الرسالةَ أو كتمت ما يسوؤكم من بُطلان عبادةِ الأصنام، والأوثان تقليدًا لآباءكم؛ أي: لا أحَدَ يدفع ذلك عني في هذه الحال، فلا أُبالي إذا انقطع رجاؤكم فيَّ، ولا بما أنتم فيه من شك وريب في أمري، ثم ذكر مآل أمره إذا هو اتبعهم فقال: ﴿فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ﴾؛ أي: فما تزيدونني باتقاء سوء ظنكم وارتيابكم غير إيقاعي في الخسران بإيثار ما عندكم على ما عند الله تعالى، واشتراءِ رضاكم بسخطه تعالى
٦٤ - ﴿وَيَا قَوْمِ﴾؛ أي: ويا قومي ﴿هَذِهِ﴾ البهيمةُ التي خَرَجَتْ من الصخرة ﴿نَاقَةُ اللَّهِ﴾ الإضافة فيه للتشريف، كبيت الله؛ لأنه أخرجها لهم من صخرة في جوف الجبل حاملًا من ذكر على تلك الصورة دفعة واحدة وقد حصل منها لبنٌ كثيرٌ يكفي الخلقَ العظيمَ؛ أي: هذه ناقة ممتازة عن سائر الإبل بما ترَوْن من أكْلِها وشربها، وجميع شؤونِها، قد جعلها الله سبحانه وتعالى ﴿لَكُمْ آيَةً﴾ بينة منه، ومعجزةً باهرةً تدل على صدقي، وعلى إهلاككم إن أنتم خالفتم أمره فيها ﴿فَذَرُوهَا﴾؛ أي: فاتركوها، وخلوها ﴿تَأْكُلْ﴾ وتَشْرَبُ فهو من باب الاكتفاء نظيرَ قوله: ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾؛ أي: والبردَ مِمَّا ﴿فِي أَرْضِ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى، من المراعِي والمياه، تَرْعَ نباتَها وتشرب ماءها، فليس عليكم كلفة في مؤونتها، وكانت هي تنفعهم، ولا تَضُرُّهم، لأنهم كانوا ينتفعون بلبنها، وقرأَتْ (١) فرقة (تأكُلُ) بالرفع على الاستئناف أو على الحال ﴿وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ﴾؛
(١) البحر المحيط.
أي: ولا يمسَّها، ولا يصبها أحدٌ منكم بأذى من ضرب وعقر وقتل ﴿فَيَأْخُذَكُمْ﴾؛ أي: فيهلككم ﴿عَذَابٌ قَرِيبٌ﴾ النزول والوقوع لا يَتَراخى عن مسكم لها بالسوء إلا بيسير، وهو ثلاثةُ أيام، وكانت تصيفُ بظَهْرِ الوادِي فتهربُ منها أنعامُهم إلى بطنه، وتشتو ببطنه فتَهْرُب مواشِيهم إلى ظهره،
٦٥ - فشَقَّ عليهم ذلك ﴿فَعَقَرُوهَا﴾؛ أي: عَقَرها، وقَتلَها قُدارُ بن سالف بأمرهم، ورضاهم فَضرَبها في رجليها، فأوقَعها، فذَبَحُوها، وقسَمُوا لَحْمَها على جميع القرية على ألْفٍ وخمس مئةٍ دارٍ ﴿فَقَالَ﴾ لهم صالح بعد قتلهم لها ﴿تَمَتَّعُوا﴾؛ أي: استمتعوا بحياتكم، وعِيشُوا ﴿فِي دَارِكُمْ﴾؛ أي: في بلادِكم ﴿ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ﴾ من العَقْر: الأربعاءَ، والخميسَ، والجمعةَ، ثم يأتيكم العذابُ في اليوم الرابع، يوم السبت، وإنما أقاموا ثلاثةَ أيام؛ لأنَّ الفَصِيلَ بَقِيَ يَنُوح على أمه ثلاثةَ أيام، وانفجَرتْ له الصخرة بعد تلك المدَّة فدَخَلها، ولما عقروا الناقَةَ.. أنذرهم صالح بنزول العذابِ، ورَغَّبَهم في الإيمان، فقالوا: يا صالحُ، وما علامةُ العذاب؟ فقال: تصبح وجوهكم في اليوم الأول مصفرة، وفي الثاني محمرةً، وفي الثالث مسودةً، وفي الرابع يأتيكم العذاب صَبِيحَتُه ﴿ذَلِكَ﴾؛ أي: نزولُ العذاب عقبَ ثلاثَةِ أيام ﴿وَعْدٌ﴾ من الله سبحانه وتعالى وَعَدكم حين انقضائِها بالهلاك ﴿غَيْرُ مَكْذُوبٍ﴾ فهو لم يكذبكم فيه مَنْ أعلمكم ذلك، أو وعد غَيْرُ كذبٍ كالمجلود بمعنى الجلد الذي هو الصلابة، والمفتون بمعنى الفتنة.
رُوي عن النبي - ﷺ - أنه قال (١): "إنَّ صَالِحًا لمَّا دعا قومَه إلى الله تعالى كذَّبوه، فضاق صدره، فسأل ربَّه أنْ يأذن له في الخروج من عندهم، فأذن له فَخَرَج، وانتهى إلى ساحل البحر، فإذا رجل يمشِي على الماء، فقال له صالح: ويْحَكَ من أنت؟ فقال: أنا من عباد الله، كنت في سفينة كانَ قومها كفَرة غيري، فأهلكهم الله تعالى، ونجاني منهم، فخَرَجْتُ إلى جزيرة أتعَبَّدُ هناكَ فأَخْرُجُ أحيانًا، وأطلب شيئًا من رزق الله، ثم أرجع إلى مكاني فمضى صالح، فانتهى إلى تل عظيمٍ، فرَأى رجلًا فانتهى إليه، وسَلَّم عليه، فردَّ عليه السلام، فقال له صالِحٌ: مَنْ أنتَ؟ قال: كانت ههنا قريةٌ، كان أهلها كفارًا غيري، فأهلكهم الله
(١) روح البيان.
تعالى، ونجَّاني منها، فجعَلْتُ على نفسي أنْ أعبد الله تعالى ههنا إلى الموت، وقد أنْبَتَ اللَّهُ لي شجَرةُ رُمَّانٍ، وأَظْهَرَ عَيْنَ ماء، آكُل من الرمان وأشرب من ماء العَينِ، وأتوضَّأ منه، فذهب صالح، وانتهى إلى قريةٍ كان أهلها كفارًا كُلُّهم غَيْر أخَوين مُسْلِمَين، يعملان عملَ الخَوص - فضَرَبَ النبيّ - ﷺ - مثَلًا فقال: لو أن مؤمنًا دَخَلَ قريةً فيها ألف رجل، كلهم كفارٌ، وفيهم مؤمنٌ واحد، فلا يسكن قلبه مع أحدٍ حتى يجد المؤمنَ، ولو أنَّ منافقًا دَخَل قرية فيها ألفُ رجل كلهم مؤمنون، وفيهم منافق واحد.. فلا يسكُن قَلْبُ المنافق مع أحد ما لم يجد المنافقَ - فدَخَل صالح، وانتهى إلى الأَخوين، فَمَكَثَ عِندهما أيامًا، وسألَ عن حالهما فأخبرا أنهما يصبران على أذى المشركين، وأنهما يعملان عملَ الخوص، ويمسكان قُوتَهُما، ويتصدَّقان بالفَضْلِ، فقال صالح: الحمد لله الذي أرَاني في الأرض منْ عبادِهِ الصالحين، الذين صَبَرُوا على أذَى الكفار، فأنا أرْجِعُ إلى قومي، وأصبرُ على أذاهم، فرجع إليهم، وقد كانوا خرجوا إلى عيد لهم، فدَعَاهم إلى الإيمان، فسألوه آيةً، فقال: أَيَّة آية تريدون؟ فأشارَ سيِّدهم جندع بن عَمرو إلى صخرة منفردة، يقال لها: الكَاثِبةُ، وقال له: أخْرِجْ من هذه الصخرة ناقةً واسعةَ الجوف كثيرةَ الوبر عشراء؛ أي: أتت عليها من يوم أرْسَل الفحل عليها عشرة أشهر، فإن فَعَلْتَ صَدَّقْنَاكَ، فأخذ عليهم مواثقَهم لئنْ فعلت ذلك لتؤمِنُنَّ فقالوا: نَعَمْ فصَلَّى، ودَعا ربه، فتمخضت الصخرةُ تمخض النتوج بولدها، فانشقَّتْ عن ناقة عشراء جَوْفَاء، وبراء كما وصفوا فقال: ﴿وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ﴾ فكانت تَرْعَى الشجرةَ، وتشرب الماءَ ثم تفرِّج بين رجليها، فيحلبون ما شاؤوا، حتى تَمْتَلِىءَ أوانيهم، فيشربون ويَدَّخِرُون، وهم تسع مئة أهل بيت، وقيل: ألْفٌ وخَمسُ مئة، ثُمَّ إنه عليه السلام لمَّا خَافَ عليها منهم قال: ولا تمسُّوها بسوء، فيأخُذَكم عذاب قريب، فعقروها، أي: عقرها قُدَارُ - بوزن غراب - بن سالف فقال: تمتَّعُوا في داركم ثَلاثَةَ أيام ذلك وَعْدُ غيرُ مكذوب.
٦٦ - ثُمَّ ذَكَرَ وقوعَ ما أوعِدوا به، فقال: ﴿فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا﴾؛ أي: جَاءَ ثمودَ
140
عذابنَا، ﴿نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ والظرف (١) متعلق بـ ﴿نَجَّيْنَا﴾ أو بـ ﴿آمَنُوا﴾، وهو الأظهر؛ إذ المراد ﴿آمَنُوا﴾ كما ﴿آمن﴾ صالحٌ، واتبعوه في ذلك، لا أنَّ أزمانَ إيمانهم مقارن لزمان إيمانه، فإن إيمان الرسول مقدَّم على إيمان من اتبعه من المؤمنين ﴿بِرَحْمَةٍ﴾؛ أي: متلبسينَ بمجرد رحمة عظيمة ﴿مِنَّا﴾، وفضل لا بأعمالهم، كما هو مذهبُ أهل السنة، وهِيَ بالنسبة إلى صالح: النبوة، وبالنسبة إلى المؤمنين الإيمان ﴿وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ﴾ عطف على ﴿نجينا﴾؛ أي: ونجيناهم من خزي يومئذ؛ أي: من ذلته ومَهَانته وفَضِيحَته، ولا خِزْيَ أعظم من خزي من كان هلاكه بغضب الله وانتقامه وكرر نَجَّيْنَا لبيان مَا نَجَّاهُم منه، وهو هلاكُهم يومئذ؛ أي: يَوْم، إذ جاء أمرنا فإنَّ إذ مضافة إلى جملة محذوفة، عوِّض عنها التنوين؛ أي: ونجيناهم من عذاب يوم إذ جاء أمرنا وعذابُنا. قيل (٢): الواوُ زائدة في ﴿وَمِنْ خِزْيِ﴾؛ أي: من خزي يومئذ فيتعلَّق من بِنَجَّيْنا، وهذا لا يجوز عند البصريين، لأن الواو لا تزاد عندهم، بل تتعلق (من) بمحذوف؛ أي: ونجيناهم من خِزْيِ؛ أي: وكانت التنجية من خزي يومئذ، ولكون الإخبار بتنجية الأولياء، لا سيما عند الإنباء بحُلول العذاب أهم ذَكَرَها أولًا، ثم أخْبَر بهلاك الأعداء، وقَرَأ طلحةُ وَأبانُ بن تغلب، ﴿ومن خزيٍ﴾ بالتنوين، ونصب (يومَئذ) على الظرف معمولًا لخزي، وقرأ الجمهور بالإضافة، وفَتَح المِيمَ الكسائي ونافع في رواية ورش وقالون هنا وفي المعارج، وهيَ فتحة بناءٍ لإضافته إلى إذ، وهو غيرُ متمكن، وقرأ باقي السبعة بكسر الميم فيهما، وهي حركة إعراب، والتنوين في إذ تنوين عوض من الجملة المحذوفة المتقدمة الذكر؛ أي: ومن فضيحة يوم إذ جاء الأمر، وحَلَّ بهم، فلما قطِعَ المضاف إليه عن إذْ نُوِّنَ؛ ليدلَّ التنوين على ذلك، ثم كسرت الذال لسكونها، وسكون التنوين، ولم يلزم من إضافة يوم إلى المبني، أن يكون مبنيًّا؛ لأنَّ هذه الإضافة غيرُ لازمة.
ثم بين عظيم قدرته على التنكيل بأمثالهم من المشركين، فقال: ﴿إِنَّ رَبَّكَ﴾ يا محمَّد الذي فَعَلَ هذا بقوم صالح، ﴿هُوَ الْقَوِيُّ﴾؛ أي: القادر على أنْ
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط والمراح.
141
يفعلَ مِثْلَ ذلك بقومك إن أصَرُّوا على الجحود وهو ﴿الْعَزِيزُ﴾؛ أي: الغالب الذي لا يعجزه شيء، فإنه أوْصَلَ ذلك العذاب إلى الكفار، وصان أهلَ الإيمان عنه، وهذا التمييز لا يصح إلّا من القادر الذي يقدر على قهر طبائع الأشياء، فيجعل الشيءَ الواحد بالنسبة إلى إنسان بلاءً وعذابًا وبالنسبة إلى إنسان آخرَ راحةً ورَيْحانًا.
٦٧ - ثمَّ ذَكَر مآلَ أمرهم وشديدَ عقابه بهم فقال: ﴿وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ أنفُسَهم بالكفر والتكذيب؛ أي: أهلكتهم ﴿الصَّيْحَةُ﴾؛ أي: صيحةُ جبريل مع الزلزلة في اليوم الرابع من عَقر الناقة، وذكَّر الفعلَ لأنَّ الصيحة، والصياح، واحد مع كون التأنيث غير حقيقي، وللفصل بينهما بالمفعول، والصيحة فعلةٌ تدل على المرة من الصياح، وهو الصوت الشديد، يقال: صاح يَصِيح صياحًا؛ أي صوت بقوة قيل: هي صيحة جبريل، فقد صاح عليهم، وقيل: صيحة من السماء، فيها صوتُ كل صاعقة، وصوت كل شيء في الأرض، فتقطَّعَتْ قلوبهم في صدورهم، فماتوا جميعًا، وتقدَّم في الأعراف، فأخذَتْهم الرجفةُ قيل: ولعلَّها وقعت عَقِبَ الصيحة، ﴿فَأَصْبَحُوا﴾؛ أي: صاروا ﴿فِي دِيَارِهِمْ﴾ وبلادهم، وفي مساكنهم: ﴿جَاثِمِينَ﴾؛ أي: ساقطينَ على وجوههم ميتين، لا يتحركون، ولا يضطربون عند نزول العذاب، قد لَصِقُوا بالتراب كالطير، إذا جثمت حَالةَ كَوْنِهِم
٦٨ - ﴿كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا﴾؛ أي: كأنهم لم يقيموا في بلادهم، فإنهم صاروا رمادًا، أي: أصْبَحُوا جاثمين، حالَ كونهم مماثلينَ لمن لم يوجد، ولم يقم في مكان قط، ولا يَخْفَى ما فيه من الدلالة على شدة الأخذ، وسرعته. اللهم إنَّا نعوذ بك من حلول غضبك.
وقوله: ﴿أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ﴾ فيه وضع الظاهر موضع المضمر، لزيادة البيان، وصرَّح بكفرهم مع كونه معلومًا تعليلًا للدعاء عليهم بقوله: ﴿أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ﴾ ﴿أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ﴾؛ أي: جَحَدُوا بوحدانية الله تعالى، فهذا تَنْبِيه وتخويفٌ لِمَنْ بَعْدَهم، وقوله: ﴿أَلَا بُعْدًا﴾ مَصْدَرُ (١) وُضعَ موضع فِعْلِه،
(١) روح البيان.
142
فإِنَّ معناه بَعُدُوا؛ أي: هلكوا، واللام لبيان مَنْ دعي عليهم، وفائدة الدعاء عليهم: بعد هلاكهم: الدلالةُ على استحقاقهم عذابَ الاستئصال بسبب كفرهم، وتكذيبهم، وعقرهم، ناقةَ الله تعالى، والمعنى، أي كأنَّهم (١) لسرعة زوالهم، وعدم بقاء أحد منهم لم يقيموا في ديارهم ألبتةَ، وما سبب هذا إلا أنْ كفروا بآيات ربهم، فجحدوها ألا بُعْدًا، وهلاكًا لهم، ﴿أَلَا إِنَّ ثَمُودا﴾ مَنَع حمزة وحفصُ صَرْفَهُ وصَرفَه الباقون ﴿أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ﴾ صرفه الكسائي، ومَنْعه باقي السبعة، والصرفُ على إرادة معنى الحي، ومَنْعُه على إرادة معنى القبيلة، وعن جابر (٢) رضي الله عنه: أنَّ رسولَ الله - ﷺ - لَمَا نَزَلَ الحجرَ في غزوة تبوك قَامَ فخَطَبَ النَّاسَ فقال: "يا أيها الناس لا تسألوا نبيكم الآيات، هؤلاء قومُ صالح، سَأَلُوا نَبِيَّهم أن يَبْعَثَ لهم الناقةَ فكانت تَرِدَ من هذا الفجِّ فَتَشْرَبُ ماءَهم يوم وردها، ويَحْلُبون مِنْ لبنها، مِثْلَ الذي كانوا يشربون من مائها يَوْمَ غبّها، فعتوا عن أمر ربهم، فقال: ﴿تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ﴾ وكان وعدًا من الله غير مكذوب، ثم جاءَتْهم الصيحة فأهلك الله مَنْ كان في مشارق الأرض ومغاربها منهم، إلَّا رجلًا كان في حرم الله، فَمَنَعه حَرم الله من عذابِ الله، يقال له: أبو رِغَال"، قيل له: يا رسول الله، مَنْ أبو رِغَال قال: "أبُو ثَقِيفٍ".
الإعراب
﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (٥٠)﴾.
﴿وَإِلَى عَادٍ﴾ جار ومجرور متعلق بمحذوف تقديره: وأرسلنا إلى عاد، والجملة المحذوفة معطوفةً على جملة قوله: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ﴾ عطفَ قصة على قصة، ﴿أَخَاهُمْ﴾ مفعول به لـ ﴿أَرْسَلْنَا﴾ المحذوف ﴿هُودًا﴾ عطف بيان له، أو بدل منه، ﴿قَالَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على هود، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، كأنَّ سائلًا قال: ماذا قال لهم؟ فأجابه بقوله، قال: يا قوم اعبدوا اللَّه. ﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ إلى آخرِ الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت:
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
143
﴿يَا قَوْمِ﴾ منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قال﴾ ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب النداء على كَوْنِها مقول ﴿قال﴾ ﴿مَا﴾ نافية أو حجازية ﴿لَكُمْ﴾ خبر مقدم ﴿مِنْ﴾ زائدة ﴿إِلَهٍ﴾ مبتدأ مؤخر ﴿غَيْرُهُ﴾ صفة لـ ﴿إِلَهٍ﴾ والتقدير: ما إله غيره تعالى كائنٌ أو كائنًا لكم، والجملة الاسمية مسوقة لتعليل ما قبلها، على كونها مقول ﴿قال﴾ ﴿إن﴾ نافية ﴿أَنْتُمْ﴾ مبتدأ ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ ﴿مُفْتَرُونَ﴾ خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول (قال).
﴿يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٥١)﴾.
﴿يَا قَوْمِ﴾ إلى قوله ﴿قَالُوا﴾ مقول محكي، وإنْ شئتَ قلتَ: ﴿يَا قَوْمِ﴾ منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول (قال) ﴿لا﴾ نافية ﴿أَسْأَلُكُمْ﴾ فعل ومفعول أول ﴿عَلَيْهِ﴾ متعلق به ﴿أَجْرًا﴾ مفعول ثان، وفاعله ضمير يعود على هود، والجملة الفعلية في محل النصب مقول (قال) على كَوْنِهَا جوابَ النداء ﴿إِنْ﴾ نافية ﴿أَجْرِيَ﴾ مبتدأ، ومضاف إليه ﴿إِلَّا﴾، أداة استثناء مفرغ ﴿عَلَى الَّذِي﴾ جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قال﴾ ﴿فَطَرَنِي﴾ فعل ومفعول ونون وقاية وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملةُ صلة الموصول ﴿أَفَلَا﴾ (الهمزة) للاستفهام التوبيخي، داخلة على محذوف تقديره: أتغفلون عن هذه القصة و (الفاء) عاطفة على ذلك المحذوف ﴿لا﴾ نافية ﴿تَعْقِلُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملةُ معطوفة على ذلك المحذوف، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول ﴿قال﴾.
﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (٥٢)﴾.
﴿وَيَا قَوْمِ﴾ منادى مضاف معطوف على المنادى الأول ﴿اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول ﴿قال﴾ على كَوْنِها جَوابَ النداء، ﴿ثُمَّ تُوبُوا﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿اسْتَغْفِرُوا﴾، ﴿إِلَيْهِ﴾ متعلق به ﴿يُرْسِلِ السَّمَاءَ﴾ فعل ومفعول مجزوم بالطلب السابق، وفاعله ضمير يعود على
144
الله ﴿عَلَيْكُمْ﴾ متعلق به، والجملة في محل النصب مقول ﴿قال﴾ على كونها جوابَ الطلب السابق ﴿مِدْرَارًا﴾ حال من ﴿السَّمَاءَ﴾ ولم يؤنثه مع كون صاحب الحال مؤنثًا لثلاثة أوجه (١):
أحدها: أن المراد بـ ﴿السَّمَاءَ﴾ السحاب أو المطر، فذكَّر الحال على المعنى.
والثاني: أنَّ مِفعالًا للمبالغة، فيستوي فيه المذكر والمؤنث، مثل فَعُولٍ كصبور، وشكور، وفعيل كجريح.
والثالث: أنَّ الهاءَ حُذِفَتْ عن مفعال على طريق النسب قاله مكي، اهـ "سمين". ﴿وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً﴾ فعل ومفعولان، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿يُرْسِلِ السَّمَاءَ﴾، ﴿إِلَى قُوَّتِكُمْ﴾ جار ومجرور صفة لـ ﴿قُوَّةً﴾ تقديره: قوة مضافة إلى قوتكم، ﴿وَلَا تَتَوَلَّوْا﴾ فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية ﴿مُجْرِمِينَ﴾ حال من ﴿الواو﴾، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ﴾ على كونها مقول القول.
﴿قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣)﴾.
﴿قَالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا﴾ إلى قوله: ﴿قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿يَا هُودُ﴾ منادى مفرد العلم، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قال﴾ ﴿مَا﴾ نافية ﴿جِئْتَنَا﴾ فعل وفاعل ومفعول ﴿بِبَيِّنَةٍ﴾ متعلق بـ ﴿جِئْتَنَا﴾ والجملة في محل النصب، مقول ﴿قال﴾ على كونها جوابَ النداء، ﴿وَمَا﴾ (الواو) عاطفة (ما) نافية أو حجازية، ﴿نَحْنُ﴾ مبتدأ أو في محل الرفع اسم (ما) ﴿بِتَارِكِي آلِهَتِنَا﴾ خبر المبتدأ، أو خبر (ما) ومضاف إليه، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾، ﴿عَنْ قَوْلِكَ﴾ متعلق ﴿بِتَارِكِي﴾ فـ ﴿عَن﴾ للتعليل، وهذا هو الأولى، أو حال من الضمير في
(١) الفتوحات.
145
﴿تاركي﴾؛ أي: وما نترك آلهتنا تركًا صادرًا عن ﴿قَوْلِكَ﴾، ﴿وَمَا﴾ (الواو) عاطفة (ما) حجازية، أو تميمية ﴿نَحْنُ﴾ اسمها أو مبتدأ ﴿لَكَ﴾ متعلق ﴿بِمُؤْمِنِينَ﴾، ﴿بِمُؤْمِنِينَ﴾ خبر (ما) أو خبر المبتدأ و (الباء) زائدة، والجملة في محل النصب معطوفة على ما قبلها على كونها مقولَ ﴿قَالُوا﴾.
﴿إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (٥٥)﴾.
﴿إن﴾ نافية ﴿نَقُولُ﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على قوم هود، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾، ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ، ﴿اعْتَرَاكَ﴾ فعل ماض، ومفعول ﴿بَعْضُ آلِهَتِنَا﴾ فاعل ومضاف إليه ﴿بِسُوءٍ﴾ متعلق بـ ﴿اعْتَرَاكَ﴾ وجملة ﴿اعْتَرَاكَ﴾ في محل النصب مقول لقول محذوف، تقديره: ما نقول في شأنك إلا قولَنا اعتراك بعض آلهتنا بسوء. ﴿قَالَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على هود، والجملة مستأنفة ﴿إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ﴾ إلى قوله: ﴿وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿إِنِّي﴾ ناصب واسمه ﴿أُشْهِدُ اللَّهَ﴾ فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على هود، والجملة في محل الرفع خبر ﴿إن﴾ وجملة إنَّ في محل النصب مقول ﴿قال﴾ ﴿وَاشْهَدُوا﴾ فعل وفاعل معطوف على جملة (إن) على كونها مقول ﴿قال﴾، ﴿أَنِّي بَرِيءٌ﴾ ناصب واسمه وخبره ﴿مِمَّا﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿بريء﴾ وجملة (أن) في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تنازع فيه الفعلان قبله، ولكن أعمل فيه الثاني؛ أي: واشهدوا براءتي مما تشركون ﴿تُشْرِكُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة صلةُ لـ (ما) أو صفة لها، والعائدُ أو الرابط محذوف تقديره: مما تشركونه، ويحتمل كونُ (ما) مصدرية ﴿مِنْ دُونِهِ﴾ جار ومجرور حال من الضمير المحذوف من ﴿تُشْرِكُونَ﴾ ﴿فَكِيدُونِي﴾. الفاء: رابطة لجواب شرط محذوف، تقديره: إن كانت آلهتكم كما قلتم من أنها تنفع، وتضر.. فكيدوني ﴿كيدوني﴾ فعل وفاعل ومفعول ونون وقاية ﴿جَمِيعًا﴾ حال من (واو) الفاعل، والجملة الفعلية في محل الجزم على كونها جوابًا للشرط المحذوف، والشرط المحذوف في محل النصب مقول القول، ﴿ثُمَّ﴾ حرف عطف ﴿لا﴾ ناهية
146
جازمة ﴿تُنْظِرُونِ﴾ فعل وفاعل مجزوم بـ (لا) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون، والنونُ المذكورة نونُ الوقاية لأنَّ أصْلَه، ولا تنظرونني وياء المتكلم المحذوفة في محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية في محل الجزم، معطوفة على الجملة التي قبلها.
﴿إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦)﴾.
﴿إِنِّي﴾ ناصب واسمه ﴿تَوَكَّلْتُ﴾ فعل وفاعل ﴿عَلَى اللَّهِ﴾ متعلق به ﴿رَبِّي﴾ بدل من الجلالة، ﴿وَرَبِّكُمْ﴾ معطوف على ﴿رَبِّي﴾، وجملة ﴿تَوَكَّلْتُ﴾ في محل الرفع خبر، (إن)، وجملة (إن) في محل النصب مقولُ القول على كَوْنِها مَسُوقة لتعليل مَا قَبلها ﴿مَا﴾ نافية ﴿مِن﴾ زائدة ﴿دَابَّةٍ﴾ مبتدأ أول، ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ ﴿هُوَ﴾ مبتدأ ثان ﴿آخِذٌ﴾ خبرٌ للمبتدأ الثاني ﴿بِنَاصِيَتِهَا﴾ متعلق بـ ﴿آخذ﴾ وجملة الثاني في محل الرفع خبر للأول، وجملة الأول مع خبره في محل النصب مقول القول على كونها مسوقةً لتعليل ما قبلها ﴿إِنَّ رَبِّي﴾ ناصب واسمه ﴿عَلَى صِرَاطٍ﴾ خبره ﴿مُسْتَقِيمٍ﴾ صفة ﴿صِرَاطٍ﴾ وجملة (إن) مستأنفة في محل النصب مقول القول.
﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٥٧)﴾.
﴿فَإِنْ﴾ الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم ما قلت لكم، وأردتم بيانَ حُكم ما إذا توليتم.. فأقول لكم ﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ (إن) حرف شرط جازم ﴿تَوَلَّوْا﴾ فعل مضارع وفاعل مجزوم وعلامة جزمه حذف النون، أصله (تتولوا) حذفت إحدى التاءين لتوالي الأمثال، وجواب الشرط محذوف تقديره: فلا أبالي بكم، ولا مؤاخذةَ عليّ، وجملة الشرط في محل النصب مقولٌ لجوَابِ إذا المقدَّرة ﴿فَقَدْ﴾ (الفاء) تعليلية (قد) حرف تحقيق ﴿أَبْلَغْتُكُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول أول ﴿مَا﴾ موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول ثان، والجملة الفعلية في محل الجر بلام التعليل المقدرة المدلول عليها
147
(بالفاء) التعليلية؛ لأنها تعليل للجواب المحذوف، تقديره: فلا أُبالي بكم لإبْلاغي إياكم ﴿ما أرسلت به﴾، ﴿أُرْسِلْتُ﴾ فعل ونائب فاعل ﴿بِهِ﴾ متعلق به، وكذلك ﴿إِلَيْكُمْ﴾ يتعلق به، والجملة صلة لـ (ما) أو صفة لها ﴿وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي﴾ فعل وفاعل ﴿قَوْمًا﴾ مفعول به ﴿غَيْرَكُمْ﴾ صفة له، والجملة مستأنفة على كونها مقولَ القول، أو معطوفةٌ على جملة الجواب، ﴿وَلَا تَضُرُّونَهُ﴾ فعل وفاعل ومفعول به ﴿شَيْئًا﴾ منصوب على المفعولية المطلقة، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَيَسْتَخْلِفُ﴾، ﴿إِنَّ رَبِّي﴾ ناصب واسمه ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾ متعلق بـ ﴿حَفِيظٌ﴾، ﴿حَفِيظٌ﴾ خبر (إن) وجملة (إن) مستأنفة على كونها مقولَ القول.
﴿وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (٥٨)﴾.
﴿وَلَمَّا﴾ (الواو): استئنافية (لما) حرف شرط غير جازم ﴿جَاءَ أَمْرُنَا﴾ فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ (لمّا)، ﴿نَجَّيْنَا هُودًا﴾ فعل وفاعل ومفعول به، ﴿وَالَّذِينَ﴾ معطوف على ﴿هُودًا﴾ والجملة الفعلية جواب (لما)، وجملة (لمَّا)، مستأنفة ﴿آمَنُوا﴾ فعل وفاعل صلة الموصول ﴿مَعَهُ﴾ ظرف، ومضاف إليه حال من فاعل ﴿آمَنُوا﴾ ﴿بِرَحْمَةٍ﴾ متعلق بـ ﴿نَجَّيْنَا﴾، ﴿مِنَّا﴾ صفة لـ ﴿بِرَحْمَةٍ﴾، ﴿وَنَجَّيْنَاهُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول ﴿مِنْ عَذَابٍ﴾ متعلق به ﴿غَلِيظٍ﴾ صفة لـ ﴿عَذَابٍ﴾ والجملة الفعلية مستأنفة لا معطوفة على ﴿نَجَّيْنَا﴾ الأول لأنَّ الأول مقيد بقوله: ﴿فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا﴾ إلخ، والثاني لا يتقيد به، اهـ "فتوحات".
﴿وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ﴾.
﴿وَتِلْكَ عَادٌ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة ﴿جَحَدُوا﴾ فعل وفاعل ﴿بِآيَاتِ رَبِّهِمْ﴾ متعلق به، والجملة مستأنفة سيقت للإخبار عن حالهم، وليسَتْ حالًا ممَّا قبلها كما في "الجمل" ﴿وَعَصَوْا رُسُلَهُ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة ﴿جَحَدُوا﴾، ﴿وَاتَّبَعُوا﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿جَحَدُوا﴾ {أَمْرَ كُلِّ
148
جَبَّارٍ} مفعول به، ومضاف إليه ﴿عَنِيدٍ﴾ صفة ﴿جَبَّارٍ﴾، ﴿وَأُتْبِعُوا﴾ فعل ونائب فاعل ﴿فِي هَذِهِ﴾ في هذه متعلق به ﴿الدُّنْيَا﴾ بدلُ من اسم الإشارة أو عطف بيان ﴿لَعْنَةً﴾ مفعول ثان، والجملة معطوفة على جملة ﴿جَحَدُوا﴾، ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ ظرف، ومضاف إليه متعلق بمحذوف معلوم مما قبله تقديره: وأتبعوا يوم القيامة لعنة على رؤوس الخلائق، ﴿ألا﴾ حرف تنبيه ﴿إِنَّ عَادًا﴾ ناصب واسمه ﴿كَفَرُوا رَبَّهُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الرفع خبر (إن) وجملة (إن) مستأنفة ﴿ألا﴾ حرف تنبيه ﴿بُعْدًا﴾ مصدر نائب عن التلفظ بفعله تقديره بعدوا أي هلكوا ﴿لِعَادٍ﴾ اللام لبيان مَنْ دُعِي عليهم متعلقة بالمصدر كـ (لام) سقيًا لك ورعْيًا لك ﴿قَوْمِ هُودٍ﴾ بدل من ﴿عَادٍ﴾ أو عطف بيان له.
﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾.
﴿وَإِلَى ثَمُودَ﴾ متعلق بمحذوف معطوف على قوله: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا﴾، ﴿أَخَاهُمْ﴾ مفعول ﴿أَرْسَلْنَا﴾ المحذوف ﴿صَالِحًا﴾ عطف بيان له ﴿قَالَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على صالح، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا ﴿يَا قَوْمِ﴾ إلى قوله: ﴿قَالُوا﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿يَا قَوْمِ﴾ منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول القول ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول القول على كَوْنِهَا جَوابَ النداء ﴿ما﴾ نافية، ﴿لَكُمْ﴾ خبر مقدم ﴿مِنْ إِلَهٍ﴾ مبتدأ مؤخر و ﴿من﴾ زائدة ﴿غَيْرُهُ﴾ صفة لـ ﴿إِلَهٍ﴾ والجملة في محل النصب مقول ﴿قال﴾.
﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ﴾.
﴿هُوَ﴾ مبتدأ ﴿أَنْشَأَكُمْ﴾ فعل ومفعول ﴿مِنَ الْأَرْضِ﴾ متعلق به، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، ﴿وَاسْتَعْمَرَكُمْ﴾ فعل ومفعول معطوف على ﴿أَنْشَأَكُمْ﴾، ﴿فِيهَا﴾ متعلق به، وفاعله ضمير يعود على الله، ﴿فَاسْتَغْفِرُوهُ﴾ (الفاء) عاطفة تفريعية، ﴿استغفروه﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية معطوفةٌ مفرعة على الجملة الاسمية في قوله: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ﴾، ﴿ثُمَّ تُوبُوا﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿فَاسْتَغْفِرُوهُ﴾؛ ﴿إِلَيْهِ﴾
149
متعلق به، ﴿إِنَّ رَبِّي﴾ ناصب واسمه ﴿قَرِيبٌ﴾ خبره ﴿مُجِيبٌ﴾ خبر ثان، أو صفة له، وجملة (إن) مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٦٢)﴾.
﴿قَالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، ﴿يَا صَالِحُ﴾ إلى آخر الآية، مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿يَا صَالِحُ﴾ منادى مفرد العلم، وجملةُ النداء في محل النصب مقول ﴿قال﴾، ﴿قَدْ كُنْتَ﴾ فعل ناقص واسمه ﴿فِينَا﴾ متعلق بـ ﴿مَرْجُوًّا﴾، ﴿مَرْجُوًّا﴾ خبر كان ﴿قَبْلَ هَذَا﴾ ظرف، ومضاف إليه متعلق بـ (كان)، وجملة ﴿كاَنَ﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾ على كونها جوابَ النداء، ﴿أَتَنْهَانَا﴾ (الهمزة) للاستفهام الإنكاري ﴿تنهانا﴾، فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على صالح، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿أَنْ نَعْبُدَ﴾ ناصب وفعل منصوب، وفاعله ضمير يعود على قوم صالح، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، تقديره أتنهانا عن عبادة ما يعبد آباؤنا ﴿مَا﴾ موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول ﴿نَعْبُدَ﴾، ﴿يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما يعبده آباؤنا ﴿وَإِنَّنَا﴾ ناصب واسمه ﴿لَفِي شَكٍّ﴾ جار ومجرور خبر (إن) و (اللام) حرف ابتداء، وجملة (إن) معطوفة على جملة ﴿كان﴾ على كونها جوابَ النداء، ﴿مِمَّا﴾ جار ومجرور متعلق بـ (شك)، ﴿تَدْعُونَا﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على صالح ﴿إِلَيْهِ﴾ متعلق به، ﴿مُرِيبٍ﴾ صفة ﴿شَكٍّ﴾ والجملة الفعلية صلة لـ (ما)، أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير ﴿إِلَيْهِ﴾.
﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (٦٣)﴾.
﴿قَالَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على صالح، والجملة مستأنفة ﴿يَا قَوْمِ﴾ إلى قوله: ﴿فَعَقَرُوهَا﴾ مقول محكي لـ ﴿قال﴾، وإن شئت قلت: ﴿يَا قَوْمِ﴾ منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب، مقول ﴿قال﴾، ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾ فعل
150
وفاعل ﴿إن﴾ حرف شرط ﴿كُنْتُ﴾ فعل ناقص واسمه في محل الجزم بـ (إن) ﴿عَلَى بَيِّنَةٍ﴾ خبر (كان)، ﴿مِنْ رَبِّي﴾ صفة لـ ﴿بَيِّنَةٍ﴾، ﴿وَآتَانِي﴾ فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل الجزم، معطوفة على جملة (كان) ﴿مِنْهُ﴾ جار ومجرور حال من ﴿رَحْمَةً﴾ لأنه صفة نكرة قدمت عليها، ﴿رَحْمَةً﴾ مفعول ثان لـ ﴿آتى﴾ ﴿فَمَن﴾ (الفاء) رابطة لجواب (إن) الشرطية ﴿من﴾ اسم استفهام إنكاري في محل الرفع مبتدأ ﴿يَنْصُرُنِي﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَن﴾ والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ والجملة الاسمية في محل الجزم بـ (إن) على كونها جَواب (إن) الشرطية، وجملة (إن) الشرطية في محل النصب سادةً مسد مفعولي ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾، ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ متعلق بـ ﴿يَنْصُرُنِي﴾. ﴿إِنْ﴾ حرف شرط ﴿عَصَيْتُهُ﴾ فعل وفاعل ومفعول في محل الجزم بـ (إن) الشرطية على كونه فِعْلَ شرط لها، وجواب (إن) معلوم مما قبلها، تقديره: إن عصيته.. فمَنْ ينصرني، وجملة (إن) الشرطية في محل النصب، مقولُ ﴿قال﴾. ﴿فَمَا﴾ (الفاء) عاطفة (ما) نافية ﴿تَزِيدُونَنِي﴾ فعل وفاعل، ومفعول أول ﴿غَيْرَ تَخْسِيرٍ﴾ مفعول ثان، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾ على كونها مقولًا لـ ﴿قال﴾.
﴿وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (٦٤)﴾.
﴿وَيَا قَوْمِ﴾ منادى مضاف معطوف على ﴿يَا قَوْمِ﴾ الأول ﴿هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية في محل النصب مقول (قال) على كونها جوابَ النداء، ﴿لَكُمْ﴾ جار ومجرور حال من ﴿آيَةً﴾ لأنه نعت نكرة قدمت عليها ﴿آيَةً﴾ حال من ﴿نَاقَةُ﴾، ﴿فَذَرُوهَا﴾ (الفاء) فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم هذه ناقةَ الله، وأردتم بيانَ ما هو الأصلح لكم، فأقول لكم ﴿ذروها﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب، مقول ﴿قال﴾، ﴿تَأْكُلْ﴾ فعل مضارع مجزوم بالطلب السابق، وفاعله ضمير يعود على الناقة ﴿فِي أَرْضِ اللَّهِ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿تَأْكُلْ﴾، ﴿وَلَا تَمَسُّوهَا﴾
151
فعل وفاعل، ومفعول مجزوم بـ (لا) الناهية ﴿بِسُوءٍ﴾ متعلق به، والجملة معطوفة على جملة ﴿فَذَرُوهَا﴾، ﴿فَيَأْخُذَكُمْ﴾ (الفاء) عاطفة سببية ﴿يأخذكم﴾ فعل، ومفعول منصوب بأن مضمرةً وجوبًا بعد الفاء السببية ﴿عَذَابٌ﴾ فاعل ﴿قَرِيبٌ﴾ صفة له، والجملة في تأويل مصدر معطوف على مصدر مقيد من الجملة التي قبلها، من غير سابك لإصلاح المعنى، تقديره: لا يكن مسكم إياها بسوء فأخذُ عذاب قريب إياكم.
﴿فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (٦٥)﴾.
الفاء: عاطفة ﴿عقروها﴾: فعل وفاعل ومفعول والجملة معطوفة على جملة ﴿قال﴾ ﴿فَقَالَ﴾ الفاء عاطفة، (قال) فعل ماض وفاعله ضمير يعود على صالح، والجملة معطوفة على جملة (عقروها). ﴿تَمَتَّعُوا﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿تَمَتَّعُوا﴾ فعل وفاعل والجملة في محل النصب مقول (قال) ﴿فِي دَارِكُمْ﴾ متعلق به. ﴿ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ﴾ منصوب على الظرفية متعلق بـ ﴿تَمَتَّعُوا﴾ ﴿ذَلِكَ وَعْدٌ﴾ مبتدأ وخبر. ﴿غَيْرُ مَكْذُوبٍ﴾ صفة ﴿وَعْدٌ﴾ والجملة الاسمية في محل النصب مقول (قال).
﴿فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦)﴾.
﴿فَلَمَّا﴾ (الفاء): فاء الفصيحة، لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت ما قال لهم صالح، وأردتَ بيانَ حال المؤمِنينَ بهِ، وحال المكذبين له بعد ما جاء العذابُ فأقول لك: ﴿لما﴾ حرف شرط. ﴿جَاءَ أَمْرُنَا﴾ فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ (لما). ﴿نَجَّيْنَا صَالِحًا﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب (لما) وجملة (لما) في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة ﴿وَالَّذِينَ﴾ معطوف على ﴿صَالِحًا﴾. ﴿آمَنُوا﴾ فعل وفاعل صلة الموصول ﴿مَعَهُ﴾ متعلق بـ ﴿آمَنُوا﴾ أو بـ ﴿نَجَّيْنَا﴾. ﴿بِرَحْمَةٍ﴾ متعلق بـ ﴿نَجَّيْنَا﴾. ﴿مِنَّا﴾ صفة لـ (رحمة). ﴿وَمِنْ خِزْيِ﴾ متعلق بمحذوف تقديره ونجيناهم وذلك المحذوف معطوف على ﴿نَجَّيْنَا﴾ وقال بعضهم: إنه متعلق بـ ﴿نَجَّيْنَا﴾ الأول، و (الواو)
152
زائدة، وهذا لا يجوز عند البصريين غير الأخفش، لأن زيادة (الواو) غير ثابتة ﴿خِزْيِ﴾ مضاف ﴿يَوْمِئِذٍ﴾ (يوم) مضاف إليه (يوم) مضاف (إذ) مضاف إليه ﴿إِنَّ رَبَّكَ﴾ ناصب واسمه ﴿هُوَ﴾ ضمير فصل ﴿الْقَوِيُّ﴾ خبر ﴿إن﴾ ﴿الْعَزِيزُ﴾ صفة القوي، وجملة (إن) مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (٦٧) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (٦٨)﴾.
﴿وَأَخَذَ الَّذِينَ﴾ فعل ومفعول. ﴿ظَلَمُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿الصَّيْحَةُ﴾ فاعل لـ (أخذ)، والجملة معطوفة على ﴿نَجَّيْنَا﴾ على كونها جواب (لما). ﴿فَأَصْبَحُوا﴾ (الفاء) عاطفة، ﴿أصبحوا﴾ فعل ناقص واسمه. ﴿فِي دِيَارِهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿جَاثِمِينَ﴾ ﴿جَاثِمِينَ﴾ خبر ﴿أصبحوا﴾ وجملة ﴿أصبح﴾ معطوفة على جملة ﴿أخذ﴾ ﴿كَأَنْ﴾ مخففة من الثقيلة، واسمها محذوف تقديره: كأنهم ﴿لَمْ يَغْنَوْا﴾ جازم وفعل وفاعل ﴿فِيهَا﴾ متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿كَأَنْ﴾ وجملة ﴿كَأَنْ﴾ في محل النصب حال من واو ﴿أصبحوا﴾ تقديره: فأصبحوا جاثمينَ، حالَ كونهم مماثلينَ لمن لم يوجد، ولم يقم في مكان قط ﴿أَلَا﴾ حرف تنبيه ﴿إِنَّ ثَمُودَ﴾ ناصب واسمه ﴿كَفَرُوا رَبَّهُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في محل الرفع، خبر (إن) وجملة (إن) مستأنفة ﴿أَلَا﴾ حرف تنبيه ﴿بُعْدًا﴾ مصدر نائب مناب فعله منصوبٌ بفعله المحذوف تقديره: ألا بعدوا بعدًا ﴿لِثَمُودَ﴾ متعلق بـ ﴿بُعْدًا﴾ وزيدت اللام لبيان المدعو عليهم كـ (لام) سُقيًا لك.
التصريف ومفردات اللغة
﴿لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾؛ أي: جعلًا، ورشوة، ومعناه: لست بطامع في أموالكم. ﴿مِدْرَارًا﴾ من (١) أبنية مبالغة الفاعل، يستوي فيه المذكر والمؤنث،
(١) روح البيان.
153
وأصله من دَرَّ اللبن دُرورًا، وهو كثرةُ وروده على الحالب، يقال: سحاب مِدْرَارٌ ومطر مدرارٌ إذا تتابع منه المطر في وقت الاحتياج إليه، والمعنى: حالَ كونه مُتَتَابِعًا دائمًا، كلما تحتاجون إليه ويقال: درَّ يدرُّ كردَّ يرُدُّ. وفي "المصباح": درَّ اللبن وغيره درًا من بابي ضرب وقتل إذا كثر دَرهُ، اهـ. وفي "القاموس": ودرَّت السماء بالمطر درًّا ودرورًا فهي مدرار، اهـ. ﴿إِلَّا اعْتَرَاكَ﴾ يقال: عراه الأمر يعروه واعتَرَاهُ إذا ألمّ به وأصابه. ﴿فَكِيدُونِي﴾ والكيد: إرادة مضرَّة الغير خُفيةً، وهو من الخلق الحيلة السيئة، ومن الله التدبير بالحق لمجازاةِ أعمالِ الخلق. ﴿إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا﴾، وفي "السمين": الناصية: منبت الشعر من مقدم الرأس، ويسمَّى الشعر النابت أيضًا ناصيةً، تسميةً له باسم محلِّه، ويقال: نصوت الرجل إذا أخَذت بناصيته، فلامها واوٌ، يقال له: ناصاه، فقلبت ياؤُها ألفًا، فالأخذ بالناصية عبارة عن الغلبة والقهر، وإن لم يكن أخذ بناصية، ولذا كانوا إذا منوا على أسير، جزُّوا نَاصِيَتَه، اهـ. ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ أصله: تَتولُّوا فحذفت إحدى التاءين لتوالي الأمثال، لأنه مضارع تولى من باب تفعل.
﴿جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ﴾ وجَحَد يتعدى (١) بنفسه، ولكنه ضمِّن معنى كَفَرَ، فتعدى بحرف الجر، كما ضمِّن كفر معنى جحد، فتعدى بنفسه في قوله: ﴿بعد ذلك﴾ ﴿كفروا ربَّهم﴾. وقيل: إن كَفَرَ كشكر في تعديته بنفسه تارةً، وبحرف الجر أخرى، اهـ "سمين". ﴿وَعَصَوْا رُسُلَهُ﴾ أصله عصيوا؛ لأنه من عَصَى يَعْصِي كرمى يرمي، تحركت الياء وانفتحَ ما قبلها، قلبت ألفًا، فالتقى ساكنان، فحذفت الألِفُ لبقاءِ دَالها فصار عَصَوا بوزن رَمَوا.
﴿وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ﴾ الجبار: المتكبر الذي لا يرى لأحد عليه حقًّا. والعنيد: الطاغي المتجاوز في الظلم، من قولهم: عَنَدَ يعند، من باب: جَلَسَ إذا حادَ عن الحق من جانب إلى جانب، ومنه عند الذي هو ظرف لأنه في معنى جانب في قولك: عندي كذا؛ أي: في جانبي، وعند أبي عبيد: العنيد، والعنود،
(١) الفتوحات.
154
والعاند، والمعاند كله بمعنى المعارض والمُخَالِف، اهـ "سمين". والعنيد: الطاغي الذي لا يقبل الحقَّ، ولا يذعن له، ومنه قيل للعِرق الذي ينفجر بالدم عَانِد. قال الراجز:
إِنِّيْ كَبِيْرٌ لاَ أُطِيْقُ الْعَنَدْ
وفي "المختار" عند من باب جلس؛ أي: خَالفَ ورد الحقّ، وهو يعرفه فهو عنيد، وعاند، اهـ. ﴿لَعْنَةً﴾؛ أي: طردًا وبعدًا عن كل خير.
﴿أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ﴾ أي: لا زالوا (١) مبعدينَ من رحمة الله تعالى. والبعد: الهلاك، والبعدُ التباعد من الخير، يقال: بَعُدَ يبعد من باب: كرم بعدًا، إذا تأخر، وتَبَاعد، وبَعِدَ يبعد، من باب: طَرِب، بعدًا إذا هلكَ. ومنه قول الشاعر:
لاَ يَبْعُدَنْ قَوْمِي الَّذِيْنَ هُمُ سُمُّ الْعُدَاةِ وَآفةُ الْجُزُرِ
وقال النابغة:
فَلاَ تَبْعُدَنْ إِنَّ الْمَنِيَّةَ مَنْهَلٌ وَكُلُّ امْرِىءٍ يَوْمًا بِهِ الْحَالُ زَائِلُ
ومنه قول الشاعر:
مَا كَانَ يَنْفَعُنِيْ مَقَالُ نِسَائِهِمْ وَقتلتُ دُوْنَ رِجَالِهِمْ لاَ تَبْعَدِ
﴿وَإِلَى ثَمُودَ﴾، وهي قبيلة من العرب، سموا باسم أبيهم الأكبر، ثمودَ بن عاد بن إرم بن سام بن نوح. سمُّوا بذلك لقِلَّة مائهم من الثمد، وهو الماءُ القليلُ. ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ﴾؛ أي: كونكم وخَلَقَكم. ﴿وَاسْتَعْمَرَكُمْ﴾؛ أي: عمركم وأسكنكم (٢) فالسين والتاء زائدتان، أو صيَّركم عامرينَ لها، فهما للصيرورة. وفي "البيضاوي": ﴿وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾؛ أي: عمَّركم فيهَا واستبقاكم من العمر، يقال: عمر الرجل يَعْمُرُ عَمْرًا بفتح العين وسكون الميم؛ أي: عاش زمانًا طويلًا، واستعمره الله؛ أي: أطال بقاءه، ونظيره بَقِي الرجلُ، واستبقاه الله من البقاء،
(١) الشوكاني.
(٢) الفتوحات وروح البيان.
155
أي: إبقاء الله، فبِناءِ استفعل للتعدية. والمعنى: عَمَّرَكُم واستبقاكم في الأرض، أو أقدركم على عمارتها، وأمرَكم بها، وقيل: هو من العمرى بمعنى أعمركم فيها دياركم، ويَرِثها منكم بعد انصرام أعماركم، أو جعلكم معمرينَ ديارَكم، تسكنونها مدةَ عمركم، ثم تتركونها لغيركم، اهـ. ويقال: أعمرتُه الأرضَ، واستعمرته إياها، إذَا فوضت إليه عِمَارَتَها. ﴿مُرِيبٍ﴾؛ أي: مُوقِعٌ في الريب، اسم فاعل من أَرَابَ المتعدي بمعنى أوقعه في الريب، أو مِن أَرَابَ اللازم بمعنى صارَ ذَا ريب وشك، وذو الريب وصاحبه من قام به، لا نفس الشك، فالإسناد مجازي للمبالغة كجد جده. والرَّيْبُ: الظن والشك، يقال: رابني الشيءُ يَريبني، إذا جَعَلَك شاكًّا. ﴿نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً﴾ الآية المعجزة الدالة على صدق نبوته. ﴿ذروها﴾ اتركوها وخلوها وشأنَها. ﴿فَعَقَرُوهَا﴾ يقال: عَقرَ الناقة بالسيف، إذا قطع قَوائِمَها به أو نَحَرَها. ﴿تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ﴾ التمتع: التلذذ بالمنافع والدار البلد كما يقال: ديار بكر؛ أي: بلادهم. ﴿وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ﴾؛ أي: غير مكذوب فيه؛ لأن المكذوبَ وصف الإنسان لا الوعد؛ لأنه يقال: كَذَبَ زيد عمرًا في مقالته، فزيد كاذب، وعمرو مكذوب، والمقالةُ مكذوب فيها. فالكلامُ على الحَذْفِ والإيصال، فلمَّا حذف الجار صار المجرورُ مفعولًا على التوسع، فأقيم مقام الفاعل، اهـ "شهاب". وفي "السمين": قولُه: ﴿غَيْرُ مَكْذُوبٍ﴾ يجوز أن يكونَ مَصدرًا على وزن مفعول، وقد جاء منه ألفاظ: نَحْوُ: المجلود، والمعقول، والمنشور، والمغبون، والمفتون، ويجوز أن يكونَ اسمَ مفعول على بابه، وفيه تأويلان:
أحدهما: غير مكذوب فيه، ثُمَّ حذف حرف الجر، فاتصل الضمير مرفوعًا مستترًا في الصفة، ومثله يوم مشهود.
والثاني: أنه جَعَلَ هو نفسَه غير مكذوب؛ لأنه قد وَفَى به، وإذا وَفى به.. فقد صَدَقَ، اهـ. والوعد خبر موقوت كأنَّ الواعدَ قال للموعود: إنّني أفِي به في وقته، فإنْ وفى.. فقد صَدَقَ، ولم يكذبه. ﴿وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ﴾، وأصلُ الأخذ: التناولُ باليد، ثم استعمل في الأشياء المعنوية، كأخذ الميثاق، والعهد، وفي الإهلاك، وحُذفت تاء التأنيث من الفعل إما لكون المؤنث مجازيًّا، أو للفصل بالمفعول، أو لأن الصيحةَ بمعنى الصياح، والصيحةُ فعلة تَدُلُّ على المرة
156
من الصياح، وهو الصوت الشديد. يقال: صاح يصيح صياحًا؛ أي: صوَّت بقوة، اهـ "سمين". ﴿جَاثِمِينَ﴾؛ أي: ساقطينَ على وجوههم مصعوقينَ لم يَنْجُ منهم أحدٌ، وجثومهم سُقُوطُهم على وجوههم، أو الجُثُوم: السكونُ: يقال للطير: إذا باتت في أوكارها.. جَثَمَتْ، ثم إن العرَبَ أطلقوا هذا اللفظَ على مَا لا يتحرك من الموت. قال في "بحر العلوم" يقال: الناسُ جثم أي قعود لا حرَاكَ بهم. وفي "المصباح": جثم الطائر، والأرنب يجثمُ من بابي دَخل، وجلس جُثُومًا، وهو كالبروك من البعير، والفاعل جَاثِم وجثام مبالغة، اهـ. ﴿كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا﴾ يقال: غنيت بالمكان إذا أتيتَه وأقمتَ فيه. وفي "المختار": وغَنِي بالمكان إذا أَقَام به، وبابه صَدِيَ، اهـ. والمَعنى: المنزلُ، والمقام الذي يقيم فيه الحي، يقال: غني الرجلُ بمكان كذا؛ أي: أقام به، وغَنيَ أي عاش.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة، وضروبًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: المجازُ المرسل في قوله: ﴿يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا﴾؛ لأنَّ المرادَ بالسماءِ المطر، فهو من إطلاق المحل، وإرادة الحال؛ لأنَّ المطر ينزل من السماء.
ومنها: المبالغة في ﴿مِدْرَارًا﴾ لأن مفعالَ من صيغ المبالغة؛ ومنها: الجناس المماثل في قوله: ﴿إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا﴾.
ومنها: التعجيز في قوله: ﴿فَكِيدُونِي﴾ لأنَّ المرادَ من هذا الأمر التعجيز.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا﴾؛ لأنَّ الأخذَ بالناصية عبارة عن الغلبة والقهر، أو فيه استعارة تمثيليَّة، شبَّهَ الخلقَ، وهم في قبضة الله، وملكه وتحت قهره وسلطانه، بالمالك الذي يقودَ المقدورَ عليه بناصيته، كما يقاد الأسيرُ والفرس بناصيته.
157
ومنها: الاستعارة اللطيفة في قوله: ﴿إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾؛ لأنه عبارة عن كمال العدل في ملكه تعالى، فهو مطلع على أمور العباد، لا يفوته ظالم، ولا يضيع عنده معتصم به.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا﴾؛ لأن الأمرَ كناية عن العذاب.
ومنها: الإطناب في قوله: ﴿نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾ لبيان أنَّ الأمرَ شديد عظيم، لا سهلٌ يسيرٌ.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿وَعَصَوْا رُسُلَهُ﴾؛ أي: عصَوا رَسولَهم هودًا من باب إطلاق الكل وإرادة البعض، وفيه: تفظيع لحالهم، وبيان أنَّ عصيانَهم له، عصيانٌ لجميع الرسل، السابقين، واللاحقين.
ومنها: المبالغة في التهويل والتفظيع في قوله: ﴿أَلَا إِنَّ عَادًا﴾، ﴿أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ﴾ لأنَّ في تكرير حرف التنبيه، وتكرير لفظ عاد من المبالغة في التهويل من حالهم ما لا يخفى.
ومنها: القصر في قوله: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ﴾؛ أي: هو سبحانه لا غيره أنشأكم وخلَقَكم؛ لأنه فاعل معنوي، وتقديمه يدل على القصر ذكره في "روح البيان".
ومنها: الإسناد المجازي في قوله ﴿لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ﴾، فإسناد الريب إلى الشك مجاز، لأن الموقع في الريب بمعنى القلق والاضطراب، هو الله سبحانه وتعالى لا الشك، ولكن أسنده إليه للمبالغة كجد جده.
ومنها: المجاز في قوله: ﴿فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ﴾؛ أي: من يمنعني، ويحفظني من عذاب الله؛ لأن النصرةَ هنا مستعملة في لازم معناها، وهو المنع والحفظ.
ومنها: الإضافة للتشريف في قوله: ﴿نَاقَةُ اللَّهِ﴾ كبيت الله بمعنى أنها لا اختصاصَ لأحد بها.
ومنها: الاكتفاء في قوله: ﴿تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ﴾؛ أي: ترع نباتَهَا وتشرب
158
ماءَها فهو من قَبيل الاكتفاء، نحو: ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾.
ومنها: المجاز المرسل، في قوله: ﴿فَعَقَرُوهَا﴾ لأنَّ العاقرَ واحد منهم، وهو قدار بن سالف، فأطْلَقَ ما للبعض على الكل، لرضاهم بفعله، وأمرهم له.
ومنها: حكاية الحال الماضيةِ استحضارًا لها في قوله: ﴿مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾؛ أي: ما عَبَد آباؤنا.
ومنها: الإظهار في مقام الإضمار، في قوله: ﴿أَلَا إِنَّ ثَمُودَ﴾ لزيادة البيان.
ومنها: تكرار حرف التنبيه، ولفظ ثمود مبالغةً في التهويل مِنْ حالهم.
ومنها: التشبيه في قوله: ﴿كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا﴾.
ومنها: الطباقُ بين ﴿نَجَّيْنَا﴾ ﴿وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ لأن معنى أَخَذَ أهلك.
ومنها: الزيادة، والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
159
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (٧١) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (٧٣) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (٧٥) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (٧٦) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (٧٩) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (٨٠) قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (٨١) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (٨٣) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦)﴾.
المناسبة
قوله تعالى ﴿وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى...﴾ الآيات، وأعلم أنَّ ترتيب (١) قصص هذه السورة كترتيب قصص الأعراف، وإنما أدرج شيئًا من أخبار
(١) البحر المحيط.
160
إبراهيم عليه السلام بين قصة صالح ولوط؛ لأن له مَدْخَلًا في قصة لوط، وكان إبراهيمُ ابنَ خالةِ لوط.
قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (١) ذَكَرَ بَعضَ ما جرى بين إبراهيم والملائكة، وَصَل به بعضًا آخر كالتتمة له.
قوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ...﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بيَّن ما يدل على أن لوطًا كان قلقًا على أضيافه مما يوجب الفضيحة لهم، وذلك قوله: ﴿لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾ ذَكَرَ هنا أنَّ الرُّسلَ بشروه بأن قومَه لن يصلوا إلى ما هموا به، وأنَّ اللَّهَ تعالى مهلِكُهُم ومنجيه مع أهله من العذاب.
قوله تعالى: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا...﴾ الآية، تقدم ذكر قصة شعيب في سورة الأعراف، وذكرت هنا مرة أخرى، وقد جاء في كل منهما من العظات والأحكام والحكم ما ليس في الآخر، مع الإحكام في السبك، وحسن الرصف، والسلامة من التعارض والاختلاف والتفاوت.
التفسير وأوجه القراءة
٦٩ - ﴿وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى﴾؛ أي: وعزتي وجلالي، لقد جاءت رسلُنَا من الملائكة جبريلَ وميكائيلَ وإسرافيلَ، على ما قاله ابن عباس وعطاء في صورة الغلمان، الذين يكونون في غاية الحُسنِ والبهاءِ والجمالِ، إلى إبراهيم عليه السلام حالةَ كونهِم متلبسينَ بالبشارة له بالولد من سارةَ بدليل ذكره في سورة أخرى، ولأنه أطلق البشرَى هنا، وقيَّد في قوله: ﴿فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ﴾ والمطلق محمول على المقيد، وهذا شروع (٢) في قصة إبراهيم الخليل عليه السلام، لكنها مذكورة هنا توطئةً لقصة لوط لا استقلالًا، ولذا لم يذكرهما على أسلوب ما قبلها وما بعدها، فلم يقل وأَرْسَلنا إبراهيمَ إلى كذا كما قال ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ﴾، {وَإِلَى
(١) المراغي.
(٢) الفتوحات.
161
ثَمُودَ}، ﴿وَإِلَى عَادٍ﴾ مثلًا وعاش إبراهيم من العمر مئة وخمسًا وسبعينَ سنةً، وبينه وبين نوح ألفًا وست مئة وأربعون سنة. وابنه إسحاق عاش مئةً وثمانين سنةً. ويعقوب بن إسحاق عاش مئةَ وخمسًا وأربعين سنةً.
و ﴿رُسُلَنَا﴾ يقرأ بسكون السين وضمها حيثما وقع مضافًا للضمير بخلاف ما إذا أضيف إلى مظهر، فليس فيه إلا ضمها، والرسل: هم الملائكة كما مر، واختلفوا في عددهم. فقال ابن عباس، وعطاء، كانوا: ثلاثةً جبريلُ وميكائيلُ وإسرافيلُ. وقال الضحاك: كانوا تسعةً. وقال مقاتل: كانُوا اثني عشر مَلَكًا. وقال محمَّد بن كعب القرظي كان جبريلُ، ومعه سبعة أملاك. وقال السدي: كانوا أحَدَ عَشَرَ مَلَكًا على صور الغلمان الحسان الوجوه.
وقول ابن عباس هو الأولى؛ لأن أقلَّ الجمع ثلاثةٌ. وقوله: ﴿رُسُلَنَا﴾ جمع فيحمل على الأقل، وما بعده غير مقطوع به، ومثل هذا لا يعلم إلا بتوقيف من الوحي، ولم يثبت شيء منه في عددهم. والبشرى هي: البشارة بإسحاقَ ويعقوبَ. وقيل: بإهلاك قوم لوط وإنجائه. والأول أظهر. وقوله: ﴿قَالُوا﴾ استئناف بياني؛ أي: قالت الرسلُ لإبراهيم. ﴿سَلَامًا﴾؛ أي: سلمنا عليك سلامًا أو نسلم عليك سلامًا، هذه تحيتهم التي وَقَعَتْ منهم، وهي لفظ سلامًا، وهو مصدر معمول لفعل محذوف وجوبًا؛ أي: سلمنا سلامًا ﴿قَالَ﴾ إبراهيم عليكم ﴿سَلَامٌ﴾ هذه تحيته الواقعةُ منه جوابًا، وهي لفظ سلام، وهو مبتدأ خبره محذوف كما قَدَّرنا، فقد حيَّاهم بالجملة الاسمية في جواب تحيتهم بالفعلية، ومن المعلوم أنَّ الاسمية أبلغُ من الفعلية؛ لأن الجملةَ الاسمية دالة على الثبات والاستمرار، والفعليةَ دالة على التجدد والحدوث، فكانَتْ تحيتُه أحسنَ من تحيتهم كما قال: ﴿فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا﴾.
وفي "السمين": ﴿قَالُوا سَلَامًا﴾ في نصبه وجهان:
أحدهما: أنه مفعول به، ثمَّ هو محتمل لأمرين:
١ - أن يُرادَ: قالوا هذا اللفظَ بعينه، وجاز ذلك؛ لأنه يتضمن معنى الكلام.
162
٢ - أنه أرادَ قالوا معنى هذا، وقد تقدم ذلك في نحو قوله تعالى: ﴿وَقُولُوا حِطَّةٌ﴾.
وثاني الوجهين: أن يكونَ منصوبًا على المصدر بفعل محذوف، وذلك الفعل في محل نصبٍ بالقول، تقديره: قالوا: سلمنا سلامًا، وهو من باب: ما نابَ فيه المصدر عن العامل فيه، وهو واجبُ الإضمار، وقوله: ﴿قَالَ سَلَامٌ﴾ في رفعه وجهان:
١ - أنه مبتدأ، وخبره محذوف؛ أي: سلام عليكم.
٢ - أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: أمري، أو قولي سلام، وقد تَقَدَّم أول هذا الموضوع، أن الرفعَ أدل على الثبوت من النصب، والجملةُ بأسرها، وإن كان أحدُ جزأيها محذوفًا في محل نصب بالقول. وقرأ الأخوان حَمزةُ والكسائيّ: ﴿قال سلم﴾ هنا، وفي سورة الذاريات: بكسر السين، وسكون اللام، ويلزم بالضرورة سقوطُ الألف. فقيل: هما لغتان كحِرْم، وحرام، وحِلٍ وحَلاَل. وقيل: السِّلْمُ، بالكسر، ضدُّ الحرب، وناسبَ ذلك، لأنه نكرهم فكأنه قال: أنَّا مُسَالِمكم غيرُ محارب لكم، اهـ.
ولفظةُ (ما) في قوله: ﴿فَمَا لَبِثَ﴾ نافية، و ﴿لبث﴾ فعل ماض بمعنى أَبْطأَ، وجملة: ﴿أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ﴾ فاعله؛ أي: فما أبطأ (١) وتأخَّر عنهم مجيء إبراهيم بعجل حنيذ؛ أي: بولد بقر مشويّ بحجارة محماة في حفرة من الأرض من غير أن تمسه النار، فوضَعَه بين أيديهم، وكان مِنْ فعلِ أهل البادية، وكان سَمينًا يسيل منه الوَدَكُ. قال قتادة: وإنما جاءهم بعجل؛ لأنه كان عامَّة مال إبراهيم البقر، وقيل: مُكَثَ إبراهيم عليه السلام خَمَسَ عشرة ليلةً لم يأته ضيف، فاغتم لذلك، وكان يحب الضيف، ولا يأكل إلا معه، فلما جاءت الملائكة رأى أَضيافًا لم يرَ مِثْلُهُم قطُّ فَعَجَّلَ قراهم، فجاءهم بعجل سمينٍ مشويٍّ.
وقال أكثر النحويينَ (٢): (أنْ) هنا بمعنى حتى. والمعنى: فما لَبِث إبراهيم
(١) الخازن.
(٢) الشوكاني.
163
حَتّى جاءَ بعجل حنيذ، وقيل: إنها في محل نصب بسقوط حرف الجر، والتقدير: فما لبث إبراهيم عن أن جاء؛ أي: فما أَبْطَأَ إبراهيم عن مجيئه بعجل حنيذ. و (ما) نافية قاله سيبويه. وقال الفراء: فما لبث مجيئه؛ أي: ما أبطأ وتأخر مجيئه بعجل حنيذ. وقيل: إن (ما) موصولة، وهي مبتدأ، والخبر أَنْ جاءَ بعجل حنيذ، والتقدير: فالذي لَبث إبراهيم هو مجيئه بعجل حنيذ؛ أي: قدر زمان مجيئه به. والحنيذ: المشويُّ مُطْلقًا. وقيل: المشوي بحَرِّ الحجارة من غير أن تمَسَّه النار، يقال: حَنِذَ الشاةَ يحنذها جعلها فَوْقَ حجارة محماةٍ لتنضجها فهي حنيذ. وقيل: معنى (حنيذ): سمين. وقيل: الحَنِيذُ: السَّمِيطُ. وقيل: النَّضيجُ، وهو فعيل يمعنى مفعول كما سيأتي في مباحث الصرف.
وقد (١) اهتدى البشر إلى شَيِّ اللحم مِنْ صيدٍ وغيره على الحجارة المُحَمَّاة بِحَرِّ الشمس قديمًا قبل الاهتداء إلى إنضَاجِه بالنار. وجاء في سورة الذاريات: ﴿فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (٢٧)﴾. وفي هذا دليل على أنه كان مَشْوِيًّا مُعَدًّا لِمَنْ يجيء من الضُّيوف، وربما كان قد شَوِيَ عند وصولهم بلا إبْطاءٍ.
٧٠ - فلما قرب إليهم، ووضع بين أيديهم كفوا عنه ﴿فَلَمَّا رَأَى﴾ إبراهيم ﴿أَيْدِيَهُمْ﴾؛ أي: أيدي الرسل ﴿لَا تَصِلُ إِلَيْهِ﴾؛ أي: لا تمتد إلى الطعام الذي قَدَّم إليهم ﴿نَكِرَهُمْ﴾؛ أي: أنكر إبراهيم ذلك منهم، ووجده على غير ما يعهد من الضيوف، ولم يعرف سبب عدم تناولهم منه، وامتناعهم عنه، فالعادة قد جرت أنَّ الضيفَ إذا لم يطعم مما قدم إليه.. ظنَّ أنه لم يَجِىء بخير، وأنه يُحْدِّثَ نَفْسُه بشرٍّ، ﴿وَأَوْجَسَ﴾ إبراهيم؛ أي: أحس وأدرك إبراهيم ﴿مِنْهُمْ﴾؛ أي: من جهتهم ﴿خِيفَةً﴾؛ أي: خوفًا في نفسه؛ أي: أحسَّ وعلم في نفسه فزعًا وخوفًا منهم حين شعر أنهم ليسوا بشرًا، ووقع في نفسه أنهم ملائكة، وأنَّ نزولَهم لأمر أنكره الله عليه، أو لتعذيب قومه.
والوجس رعب القلب (٢)، وإنما خاف إبراهيمُ عليه السلام منهم؛ لأنه كان
(١) المراغي.
(٢) الخازن.
ينزل ناحيةً من الناس، فخاف أن ينزلوا به مكروهًا لامتناعهم من طعامه، ولم يعرف أنهم ملائكة. وقيل: إن إبراهيمَ عرف أنهم ملائكة، وإنما خَافَ أَنْ يكونوا نزلوا بعذاب قومه، فخاف من ذلك. والأقرب: أَنَّ إبراهيمَ عليه السلام لم يعرف أنهم ملائكةً في أول الأمر، ويدل على صحة هذا أنه عليه السلام قدمَ إليهم الطعام، ولو عرف أنهم ملائكة لما قدمه إليهم، لعلمه أن الملائكةَ لا يأكلونَ ولا يشربون، ولأنه خافهم، ولو عرف أنهم ملائكة.. لما خافهم، فلما عرف الملائكة خَوفَ إبراهيم منهم بأمارات تدل عليه كظهور أثره على وجهه، أو بكلام من إبراهيم يدل على خوفه كما قال في سورة الحجر: ﴿إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ﴾. فلا يقال: الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى، فمن أينَ علمت الملائكة إخفاءه للخيفة. ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قالتَ الملائكة لإبراهيم ﴿لَا تَخَفْ﴾ منَّا يا إبراهيم فنحن لا نريد بك سوءًا ﴿إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ﴾ بالعذاب؛ أي: وإنما نحنُ ملائكة الله أرسلنا إلى قوم لوط خاصة لإهلاكهم، وكانت دِيارهم قريبةً من دياره، وما أرسلنا إلى قومك، فكُنْ طيبَ النفس، وكان لوط أخا سارة، أو ابنَ أخي إبراهيم عليهما السلام،
٧١ - ﴿وَامْرَأَتُهُ﴾ سارة بنت هاران بن ناخور، وهي ابنة عمه ﴿قَائِمَةٌ﴾ وراءَ الستر بحيث تسمع محاوراتهم، أو على رؤوسهم للخدمة، وكانت نساؤهم لا تحجب كعادة الأعراب، ونازلة البوادي والصحراء، ولم يكن التبرج مكروهًا، وكانت عجوزًا، وخدمة الضيفان مما يعدُّ من مكارم الأخلاق.
وجاء في شريعتنا مثل هذا في حديث أبي أسيد الساعدي، وكانت امرأته عروسًا فكانت خَادِمَة الرسول - ﷺ -، ومن حضر معه من أصحابه. والجملة الاسمية حال من ضمير قالوا: أي: قالوا لإبراهيم لا تخف في حال قيام امرأته. ﴿فَضَحِكَتْ﴾ امرأة إبراهيم سرورًا بالأمن من الخوف، أو لقرب عذاب قوم لوط لكراهتها لسيرتهم الخبيثة. قال الجمهور: هو الضحك المعروف، فقيل: هو مجاز معبر به عن طلاقة الوجه، وسرورها بنجاة أخيها وهلاك قومه. وقال مجاهد، وعكرمة، فضحكت، حَاضَتْ عند فرحها بالسلامة من الخوف، فلما ظهر حيضها بشرت بحصول الولد. قال الزمخشري (١): وفي مصحف عبد الله:
(١) البحر المحيط.
165
﴿وامرأته قائمة وهو قاعد﴾. وقال ابن عطية: وفي قراءة ابن مسعود: ﴿وهي قائمة وهو جالس﴾ ولم يتقدم ذِكرُ امرأة إبراهيم، فيُضْمَرُ لكنه يفسره سياق الكلام. وقرأ محمَّد بن زياد الأعرابي، رجل من قراء مكة ﴿فضحكت﴾ بفتح الحاء. قال المهدوي، وفتح الحاء غير معروف. ﴿فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ﴾؛ أي: فعقبنا سرورها بسرور أتم منه على ألسنة رسلنا، وإسحاق بالعبرانية الضحاك، وولد إسحاق بعد البشارة بسنة، وكانت ولادته بعد إسماعيل بأربع عشرةَ سنةً. ﴿وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ﴾؛ أي: ووهبنا لها من بعد إسحاق ﴿يَعْقُوبَ﴾ ولدَ إسحاق، فهو من عطف جملة على جملة، ولا يكون يعقوب على هذا مبشَّرًا به، وبشِّرَت من بين أولاد إسحاق بيعقوب؛ لأنها رأَتْهُ، ولم تَرَ غَيْرَه، وهذه البشارة لسارة كانت وهي بنت تسعٍ وتسعينَ سنةً، وإبراهيم ابن مئة سنة.
واعلم: أنه لما ولد لإبراهيم إسماعيل من هاجر، تمَنَّتْ سَارةُ أن يكون لها ابن، وأيست لكبر سنها، فبُشِّرَت بولد يكون نبيًّا، ويلد نبيًّا، فكان هذا بشارة لها بأن ترى ولدَ ولدها، وإنما بشروها دونَه؛ لأن المرأَة أعجل فرحًا بالولد، ولأن إبراهيمَ بشروه، وأمنوه من خوفه، فأتبعوا بشارَتَه ببشارتها. وقال في "التبيان" (١): أي بشروها بأنها تلد إسحاق، وأنها تعيش إلى أن ترى وَلَد الولد، وهو يعقوب ابن إسحاق. والاسمان (٢) يحتمل وقوعهما في البشارة، كيحيى حيث سمي به في البشارة قال الله تعالى: ﴿إنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى﴾. ويحتمل وقوعهما في الحكاية بعد أن ولدا فسميا بإسحاق ويعقوب، وتوجيه البشارة إليها لا إليه، مع أنه الأصلُ في ذلك للدلالة على أنَّ الولدَ المبشرَ به يكون منها، ولأنها كانت عَقِيمَةً حريصةً على الولد، وكان لإبراهيم ولدُه إسماعيل من هاجر، ولأنَّ المرأةَ أشدُّ فرحًا بالولد.
وقال ابن عباس ووهب: فضحكت تعجبًا من أن يكون لها ولد على كبر سنها، وسن زوجها، وعلى هذا تكون الآية من التقديم والتأخير، تقديره: وامرأته قائمةٌ فبشرناها بإسحاق، ومِن وراءِ إسحاقَ يعقوب، فضحكت كما في "بحر
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
166
العلوم" وتفسير أبي الليث. قال ابن عطية: أضاف فعلَ الملائِكَةِ إلى ضمير اسم الله تعالى في قوله ﴿فَبَشَّرْنَاهَا﴾ إذ كَانَ ذلك بأمره ووحيه، وقد وَقَعَ التبشير هنا لها، ووقع لإبراهيم في قوله تعالى: ﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (١٠١)﴾، ﴿وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ﴾، لأن كل واحد منهما مستحق للبشارة لكونه منهما. وقرأ (١) الحرميان نافع، وابن كثير، والنحويان أبو عمرو، والكسائي، وأبو بكر ﴿يعقوبُ﴾ بالرفع على الابتداء ﴿وَمِنْ وَرَاءِ﴾ الخبر كأنه قيل، ومن وراء إسحاق يعقوب كائن. وقدره الزمخشري مولودٌ أو موجودٌ. قال النحاس: والجملة داخلة في البشارة، أي: فبشرناها بإسحاق متصلًا به يعقوب. وقرأ ابن عامر، وحمزة، وحفص، وزيد بن علي ﴿يَعْقُوبَ﴾ بالنصب. قال الزمخشري، كأنه قيل: ووهبنا لها إسحاقَ، ومن وراءِ إسحاقَ يعقوب، يعني أنه عطف على التوهم، والعطف على التوهم لا ينقاس، والأظهر أن يَنْتَصِبَ ﴿يَعْقُوبَ﴾ بإضمار فعل، تقديره: ومن وراء إسحاقَ وهبنَا لَهَا يعقوب، ودلَّ عليه قوله: ﴿فَبَشَّرْنَاهَا﴾ لأن البشارة بمعنى الهبة، ورجح هذا الوجه أبو علي، ومن ذهب إلى أنه مجرور معطوف على لفظ بـ ﴿إِسْحَاقَ﴾ أو على موضعه فقوله: ضعيف؛ لأنه لا يجوز الفصل بالظرف، أو المجرور بين حرف العطف، ومعطوفه المجرور، فلا يجوز مررت بزيد اليومَ وأمس عمرو.
٧٢ - وقوله: ﴿قَالَتْ﴾ استئناف بياني كأنه قيل: فماذا قالت إذ بشِّرت بذلك، فقيل: قالت سارة لما بشرت بإسحاق ﴿يَا وَيْلَتَى﴾ وقرأ الحسن: ﴿ياويلتي﴾ بالياء، وهي كلمة تقال عند التعجب؛ أي: يا عجبًا. وأصله (٢): ﴿يا ويلتي﴾ بالياء فأبدل من الياء الألف، ومن كسرة التاء الفتحة، لأنَّ الألفَ مع الفتحة أخفُّ من الياءَ مع الكسرة، وأصل هذه الكلمة في الشر؛ لأنَّ الشَّخْصَ ينادي ويلته، وهي هلكته يقول لها تعالي واحضري فهذا أوان حضورك، ثمَّ أطلق في كل أمر عجيب، كقولك: يا سبحانَ الله، وهو المراد هنا. قال سعدي المفتِي أصل الدعاء بالويل ونحوه في التفجع لشدة مكروه يدهم النفسَ، ثم استعمل في عَجَب يدهم النَّفْسَ، والاستفهام في قوله: ﴿أَأَلِدُ﴾ استفهام تعجب، أي: قالت سارة لما بشرت بإسحاق، يا
(١) البحر المحيط.
(٢) روح المعاني.
ويلتا، ويا عجبًا احضري إليَّ لأتعجب منك، فهذا أوان التعجب منك كيف ألِدُ وَلدًا ﴿وَأَنَا عَجُوزٌ﴾؛ أي: والحال أني عجوز قد بلغت السن التي لا يلد مَنْ كان قد بَلغها من الرجال والنساءِ، بلغت تسعينَ سنةً أو تسعًا وتسعينَ سنةً لم ألد قط، ومثلي لا يلد، بل الغالب أن ينقطع حيضُ المرأة. في سن الخمسين، فيبطل استعدادها للحمل، والولادة، على أنها كانت عقيمًا ﴿وَهَذَا بَعْلِي﴾؛ أي: والحال أن هذا الرجلَ الذي تشاهدونه بعلي أو زوجي حالة كونه ﴿شَيْخًا﴾ كبيرًا لا يولد لمثله ابن مئة سنة، أو مئة وعشرين سنةً. وأصل معنى البعل: هو المستعلي على غيره، ولما كان زوج المرأة مستعليًا عليها قائمًا بأمرها سَمِيَّ بعلًا، اهـ "خازنٍ". ﴿إِنَّ هَذَا﴾ الذي بشرتمونا به ﴿لَشَيْءٌ عَجِيبٌ﴾ مخالف لسنن الله تعالى التي سلكها في عباده، وقرأ ابن مسعود وهو في مصحفه والأعمش (١): ﴿شيخ﴾ بالرفع، وجوَّزوا فيه، وفي ﴿بعلي﴾ أن يكونا خبرين كقولهم هذا حلو حامض، وأن يكونَ بعلي الخبر، وشيخ خبر مبتدأ محذوف، أو بدل من بعلي، وأن يكون بعلي بدلًا، أو عطف بيان وشيخ الخبر.
والإشارة بهذا إلى الولادة، أو البشارة بها تعجبتْ من حدوث ولد بين شيخين هرمين، واستغربت ذلك من حيث العادة، لا إنكارًا لقدرة الله تعالى. ﴿إِنَّ هَذَا﴾؛ أي (٢): حصولَ الولد من هرمين مثلنا، ﴿لَشَيْءٌ عَجِيبٌ﴾ بالنسبة إلى سنة الله المسلوكة فيما بين عباده، ومقصدها استعظام نعمة الله عليها في ضمن الاستعجاب العاديّ، لا استبعاد ذلك بالنسبة إلى قدرة الله تعالى؛ لأن التعجبَ من قدرة الله يوجب الكفرَ، لكونه مستلزمًا للجهل بقدرة الله تعالى.
وقدَّمَتْ بيانَ حالها على بيان حال بعلها؛ لأن مُباينة حَالها لِمَا ذُكر من الولادة أكثر، إذ رُبَّما يُولد للشيوخ من الشَّواب، ولا يولد للعجائز من الشبان.
٧٣ - والاستفهام في قوله: ﴿قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ للإنكار لعَجَبِهَا؛ أي: قالت الملائكة لسارة منكرينَ عليها لعجبها، أتعجبين يا سارة من أمر الله وشأنه،
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
وقدرته على إيجاد الولد من كَبيرَيْن. قال سعدي المفتي: أخذ جبريل عودًا من الأرض يابسًا، فدلكه بين أصبعيه، فإذا هي شجرة تهتزُّ، فعرفت أَنه من الله تعالى؛ أي: قالوا لها: لا ينبغي لك أن تعجبي من شيء يَصْدُر عن أمر الله الذي لا يُعجزه شيءٌ كما قال: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢)﴾ والله الخالق للسنن، والواضع لنظام الأسبابِ، هو الذي أرادَ أنْ يستثنيَ منها واقعةً بعينها، يجعلُها من آياته لحكمة من حِكَمِه أرادها لبعض عباده.
﴿رَحْمَتُ اللَّهِ﴾ التي وسعت كلَّ شيء، واستبقت كلَّ خير ﴿وَبَرَكَاتُهُ﴾؛ أي: خيراته النامية المتكاثرة في كل باب، التي من جملتها هبة الأولاد حالتان ﴿عَلَيْكُمْ﴾ لازمتان لكم لا تفارقكم. وحكى سيبويه ﴿عليكم﴾ بكسر الكاف، لمجاورة الياء كما في "القرطبي". يا ﴿أَهْلَ الْبَيْتِ﴾؛ أي: يا أهلَ بيت النبوة، ويراد بالبيت، بيت السكنى كما ذكره أبو حيان. أرادوا أنَّ هذه، وأمثالَها مما يكرمكم به ربّ العزة، ويخصكم بالإنعام يا أهل بيت النبوة، فليست بمكان عَجَبٍ.
والمعنى: رحمة (١) الله الواسعةُ لكل شيء، وخيراته الفائضة منه بواسِطَة تلكَ الرحمة، لازمة لكم لا تفارقكم يا أهلَ بيت إبراهيم، فإذا رأيتم أنَّ الله خَرَق العاداتِ في تخصيصكم بهذه الكرامات العالية، فكيفَ يليق به التعجبُ، وما تلك بأُولَى آية لإبراهيم، فقد نجَّاه الله من نار قومه الظالمين، وآواه إلى الأرض التي بَارَكَ فيها للعالمين، وهذه الجملة مستأنفة. فقيل: خبر، وهو الأظهر. وقيل: دعاء. وقيل: الرحمة: النبوة، والبركات: الأسباط من بني إسرائيل؛ لأنَّ الأنبياء منهم، وكُلُّهم من ولد إبراهيم عليه السلام. ﴿إِنَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿حَمِيدٌ﴾ الفعال؛ أي: فاعل ما يستوجب به الحمدَ من عباده، لا سيما في حقها، ﴿مَجِيدٌ﴾ الذات أو كثيرُ الخير والإحسان إلى عباده، خصوصًا، في أنْ جَعَلَ بيتَها مهبطَ البركات.
٧٤ - ﴿فَلَمَّا ذَهَبَ﴾ وزال ﴿عَنْ إِبْرَاهِيمَ﴾ عليه السلام ﴿الرَّوْعُ﴾؛ أي: الخوف والفزَعُ الذي أصابه لمَّا لم يأكلوا من العجل، واطمأنَّ قلبه بعرفانه
(١) المراح.
بحقيقتِهم المَلَكِيّةِ، وعرفانِ سببِ مجيئهم ﴿وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى﴾ بنجاة قومه كما قال: ﴿قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ﴾ أو بالولدِ إسحاقَ كما قال: ﴿فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ﴾ وإبراهيم أصل في التبشير، كما قال في سورة أخرى: ﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (١٠١)﴾. ﴿يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ﴾؛ أي: أخذ يجادل، ويخاصم رسلَنا فيما أرسلناهم به من عقاب قوم لوط، وجُعِلَتْ مجادلتهم مجادلةَ الله؛ لأنها مجادلة في تنفيذ أمره. وقد صرَّح في سورة العنكبوت بكون هذه المجادَلَةِ مع الرسل حيث قال: ﴿وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (٣١) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (٣٢)﴾.
وجيءَ بجواب (١) لَمَّا مضارعًا مع أنه ينبغي أن يكون ماضيًا لكونها موضوعة للدلالة على وقوع أمر في الماضي لوقوع غيره فيه على سبيل حكاية الحال الماضية، أي جَادَلَ، وخَاصَمَ رسلَنَا في شأن قوم لوط وحقِّهم لرفع العذاب عنهم جدالَ الضعيف مع القويِّ لا جِدَالَ القوي مع الضعيف بل جدالَ المحتاج الفقير مع الكريم الغني، وجدالَ الرحمة والمعاطفة وطلب النجاة للضعفاء، والمساكين الهالكين. وكان لوط ابنَ أخيه، وهو لوط بن هاران بن آزر، وإبراهيم بن آزر، ويقال: ابن عمه، وسارة كانت أختَ لوط. فلما سمعا بهلاك قوم لوط اغتما لأجل لوط، فطفق إبراهيم يجادل الرسلَ حينَ قالوا: إنا مهلكوا أهل هذه القرية، فقال: أرأيتم لو كانَ فيها خمسون رجلًا من المؤمنين أتهلكونها؟ قالوا: لا، قال: فأربعونَ؟ قالوا: لا، قال: فثلاثون؟ قالوا: لا، حتى بلغ خمسةً قالوا: لا، قال: أرأيتم إن كان فيها رجلٌ واحد مسلمٌ، أَتُهلكونها؟ قالوا: لا، فعند ذلك ﴿قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (٣٢)﴾.
٧٥ - ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ﴾ عليه السلام ﴿لَحَلِيمٌ﴾؛ أي: غير (٢) عجول على كل من أساءَ إليه، فلذلك طَلَبَ تأخيرَ العذاب عنهم، رَجَاءَ إقدامهم على الإيمان،
(١) روح البيان.
(٢) المراح.
والتوبة عن المعاصي ﴿أَوَّاهٌ﴾؛ أي: كثيرُ التضرع إلى الله عند وصول الشدائد إلى الغير ﴿مُنِيبٌ﴾؛ أي: رجاع إلى الله في إزالة ذلك العذاب عنهم.
والمعنى: أنه جَادَلَ الملائكةَ في عذاب قوم لوط؛ لأنه كان حليمًا لا يعجل بالانتقام من المسيء، كثير التأوه مما يَسُوء الناسَ، ويؤلمهم يَرْجِع إلى الله في كل أموره؛ أي: كَانَ جداله بحلم وتأوه عليهم، فإنَّ الذي لا يتعجل في مكافأة من يؤذيه يتأوه أي: يقول أوه وآه، إذَا شاهدَ وصولَ الشدائد إلى الغير، وأنه مع ذلك راجعٌ إلى الله في جميع أحواله؛ أي: ما كان بعض أحواله مشوبًا بعلة راجعةٍ إلى حَظِّ نفسه، بل كان كُله لله، فتبيَّنَ أنَّ رقَّةَ القلب حَمَلَتْهُ على المجادلة فيهم، رَجَاءَ أن يرفع عنهم العذاب، ويمهلوا لعلَّهم يحدثون التوبةَ والإنابَةَ، كما حملته على الاستغفار لأَبِيهِ.
٧٦ - وقوله: ﴿يَا إِبْرَاهِيمُ﴾ على تقدير القول؛ أي: قالت الملائكة يا إبراهيم ﴿أَعْرِضْ عَنْ هَذَا﴾ الجدال، والمحاورَة في شيء مفروغ منه، والأمر ما قضاه، وحكم به من عذابه الواقع بهم لا مَحالَةَ، ولا مردَّ له بجدال، ولا دعاءٍ، ولا غير ذلك ﴿إنه﴾؛ أي: إنَّ الشَّأنَ ﴿قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾ وقدره بمقتضَى قضائِه الأزليِّ بعذابهم، وهو أَعْلَمُ بحالهم، والقضاء (١) هو الإرادة الأزلية، والعناية الإلَهية المقتضية لنظام الموجودات على ترتيب خاص، والقدرُ تعلق الإرادة بالأشياء في أوقاتها ﴿وَإِنَّهُمْ﴾؛ أي: وإنَّ قوم لوط ﴿آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ﴾؛ أي: غير مصروف عنهم، ولا مدفوع بجدال، ولا دعاءٍ، ولا غيرهما، وإنك مأجور مثاب فيما جادلتْنَا لنجاتهم، وهذا كما كان النبي - ﷺ -، يقول: "اشفعوا تؤجَروا، وليقضينَّ اللَّهُ على لسان رسوله ما شاء".
والمعنى (٢): يا إبراهيم أعرض عن الجدال في أمر قوم لوط، والاسترحام لهم، إنه قد نَفَذَ فيهم القضاء وحقت عليهم الكلمة بالهلاك وحلول البأس الذي
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
لا يردُّ عن القوم المجرمينَ وإنهم آتيهم عذاب لا سبيل إلى دفعه ورده بِجَدَلٍ ولا شفاعة، ولا بغيرهما. وقرأ عمرو بن هرم (١): (وإنهم أتاهم) بلفظ الماضي، وعذاب فاعل به عبر بالماضي عن المضارع لتحقق وقوعه كقوله: ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ﴾.
والظاهر: أنَّ إتيان العذاب الغير المردود لإصرارهم على الكفر، والتكذيب بعد استبانة الحق، واللواطةُ من جملة أسباب الإتيان كالعَقْرِ لناقةِ الله بالنسبةِ إلى قوم صالح.
رُوي: أنَّ الرسلَ الذين بَشَّروا إبراهيمَ ذهبوا بعد هذه المجادلة من عنده، وانطلقوا إلى قرية لوط سدوم، وما بين القريتَين أربع فراسخ، فانتهوا إليها نصفَ النهار، فإذا هم بِجَوَارٍ يَسْتَقِيْنَ من الماء، فأبصَرَتْهُم ابنةُ لوط، وهي تستقي الماء، فقالت لهم: ما شأنكم؟ وأين تريدون؟ قالوا: أَقْبَلْنَا منْ مكان كذا، ونريد كذا، فأخبرتهم عن حال أهل المدينة، وخبثِهم، فأظهروا الغَمَّ مِنْ أنفسهم، فقالوا: هل أحد يضيفنا في هذه القرية؟ قالت: ليس فيها أحد يضيفكم إلا ذاك الشيخ، فأشارتِ إلى أبيها لوط، وهو قائم على بابه فأتَوا إليه. فلمَّا رآهم، وهيئتهم ساءه ذلك،
٧٧ - وهو قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا﴾؛ أي: ولما جاءت ملائكتُنا لوطًا ﴿سِيءَ بِهِمْ﴾؛ أي: حَزِنَ بسببهم؛ أي: سَاءَهُ مجيؤهم، وهو فعل مبني للمفعول، والقائم مقام الفاعل ضمير لوط من قولك: ساءني كذا؛ أي: حصل لي منه سوء وحزن، وغم وبهم متعلق به؛ أي: بسببهم. والمعنى: ساءَهُ وأَحْزَنَه مجيئهم. ﴿وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا﴾؛ أي: ضاق صدره بمجيئهم وكونهم عنده، وضيق الصدر كناية عن شدة الانقباض للعجز عن مدافعة المكروه والاحتيال فيه.
والمعنى: ساءه مجيؤهم، وضَاقَ بهم صَدْرُه، لا لأنهم جاؤوا مسافرين، وهو لا يُحِبُّ الضيفَ، فحاشا بيت النبوة عن ذلك، بل لأنهم جاؤوا في صورة غلمان حِسان الوجوه، فحَسِبَ أنهم أناس، فَخَافَ عليهم أن يَقْصِدَهُم قومُه، فيعجز عن مقاومتهم ومدافعتهم.
(١) البحر المحيط.
وفيه إشارة إلى عروض الهم والحزن له، لهلاك قومه بالعذاب، فَانْظُر إلى التفاوت بين إبراهيم، ولوط، وبين قومهما حيث كان مجيؤهم لإبراهيم للمسرة، وللوط للمساءة، مع تقديم المسرة، لأنَّ رحمةَ الله سابقة على غضبه. وروي أنَّ الله تعالى قال لهم: لا تهلكوهم حتى يشهدَ عليهم لوط أربعَ شهادات، فلما أَتَوْا إليه، قال لهم: أما بلغكم أمر هذه القرية، قالوا: وما أمرها؟ قال: أشهدُ بالله إنها لشر قرية في الأرض عملًا يقول ذلك أربع مرات، فدخلوا منزلَه، ولم يعلم بذلك أحَدٌ. ﴿وَقَالَ﴾ لوط ﴿هَذَا﴾ اليوم ﴿يَوْمٌ عَصِيبٌ﴾؛ أي: شديد عليّ، وهو لغة جرهم كما في "ربيع الأبرار"؛ أي: هذا يوم شديد شَرُّه عظيم بلاؤه. ثُم قال لوط لامرأته: ويحك قومِي فاخبِزِي للضيف، ولا تعلِمي أحدًا. وكانت امرأته كَافِرَةً منافِقَةً، فانطلقَتْ لطلب بعض حَاجَتِها، فجَعَلَت لا تدخل على أحد إلا أخبرَتْه، وقالت: إنَّ في بيت لوط رجالًا ما رأيت أحسنَ وُجوهًا منهم، ولا أنظَفَ ثيابًا، ولا أطيبَ رائحةً. فلمَّا علموا بذلك جاؤوا إلى باب لوط، مُسْرِعين،
٧٨ - فذلك قوله تعالى: ﴿وَجَاءَهُ﴾؛ أي: وجاءَ لوطًا، وهو في بيته مع أضيافه ﴿قَوْمُهُ﴾، والحال أنهم ﴿يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ﴾؛ أي: يُساقون إليه، ويسرعون إليه، ويَسُوقُ بعضهم بعضًا، كأنما يُدْفَعون دفعًا طلبًا للفاحشة من أضيافه، غافلينَ عن حالهم جاهلينَ بمآلهم. والإهراع: الإسراع يقال: أَهْرَعَ القَوْمُ، وهَرَعُوا. وقرأ الجمهور: ﴿يُهْرَعُونَ﴾ مبنيًّا للمفعول مِن أُهْرعَ، أي: يُهْرِعُهم الطَّمعُ وقرأت فرقة: (يهرعون) بفتح الياء من هرع الثلاثي. وجملة قوله: ﴿وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾ حال أيضًا من ﴿قومه﴾؛ أي: جاؤوا مسرعين، والحال أنهم كانوا من قبل هذا الوقت، وهو وقت مجيئهم إلى لوط منهمكين في عمل الفواحش واللواطِ، فتمرَّنوا بها؛ أي: تَعَوَّدوا، واستمروا عليها حتى لم تُعَبْ عندهم قباحتها، ولذلك لم يستحيوا مما فعلوا من مجيئهم مهرِعينَ مجاهرينَ. وقيل: ومن قبل لوط كانوا يعملونَ السيئات.
وفي "التأويلات النجمية" كانوا يعملون السيئات الموجبةَ للهلاك والعذابِ فجاؤوا مسرعينَ مستقبلي العذابِ، وطلبوا من بيت النبوة من أهل الطهارة معاملةً ساءتهم بخيانة نفوسهم، ليستحقوا بذلك كمالَ الشقاوة، وسرعةَ العذاب، انتهى.
173
ودلَّ ما ذكر على أنَّ جِهارَ الفسق فوقَ إخفائِه، ولذا رد شهادة الفاسق المعلن.
وفي الحديث: "كل أمتي معافى إلا المجاهرون"، أي: لكن المجاهرون بالمعاصي لا يعافَون، بل يؤخذون في الدنيا إن كانت مما يتعلَّق بالحدود، وأما في الآخرة فمطلقًا.
فلما جاؤوا إلى لوط، وقصدوا أضيافَهُ لذلك العمل، قام إليهم لوط مدافعًا و ﴿قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ﴾ مبتدأ خبره ﴿بَنَاتِي﴾ الصلبية، فتزوجوهن (١)، وكانوا يطلبونهن من قبلُ، ولا يجيبهم لخبثهم، وعدم كفاءتهم، لا لعدم مشروعيته، فإنَّ تزويجَ المسلمات من الكفار كان جائزًا في شريعته، وهكذا كان في أول الإِسلام بدليل أنه - ﷺ - زوج ابنتيه من أبي العاص بن وائل، وعتبة بن أبي لهب، قبل الوحي، وهما كافران، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: ﴿وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا﴾. وقيل: كان لهم سيدان مُطَاعَان، فأراد أن يُزَوّجَهما ابنتيه، وأيّا ما كَانَ فقد أراد به وقاية ضيفه، وذلك غايةٌ في الكرم. ﴿هُنَّ﴾ مبتدأ خبره قوله: ﴿أَطْهَرُ لَكُمْ﴾؛ أي: أحسن لكم فتزوجوهن، ودعوا ما تطلبونه من الفاحشة بأضيافي. وقد كان له ثلاث بَنَاتٍ. وقيل: اثنتان. وقيل: أراد بقوله: ﴿هَؤُلَاءِ بَنَاتِي﴾ النساءُ جملةً، لأنَّ نَبِيَّ القوم أبٌ لهم، كما قال ابن عباس: "ويدخل فيهن نساؤهم المدخول بهن وغيرهن من المعدات للزواج" ومراده أن الاستماع بهن بالزواج أطهر من التلوث برجس اللواط فإنه يَكْبَحُ جماح الشهوة مع الأمن من الفساد. وقال سعيد بن جبير، ومجاهد: أراد نساءَ قومه، وأضافهن إلى نفسه، لأن كل نبي أبو أمته من حيث الشفقة، والتربيةُ، وهذا القول أولى، لأن إقدامَ الإنسان على عَرْضِ بناته على الأوباش، والفجار مستبعد لا يليق بأهل المروءة، فكيف بالأنبياء وأيضًا فبناته لا تكفي الجمع العظيم، أمَّا بنات أمته، ففيهن كفاية للكل، اهـ "كرخي". والتطهر التنزه عما لا يحل، وليس في صيغة ﴿أَطْهَرُ﴾ دلالةَ على التفضيل بل هي مثل: "الله أكبر" فلا يدل على أن إتيان الذكور كان طاهرًا كما لا يدل قولك النكاح أطهر من الزنى على كون الزنا طاهرًا؛ لأنه خبث ليس فيه شيء
(١) روح المعاني.
174
من الطهارة. لكن هؤلاء القوم اعتقدوا ذلك طهارة، فبنى ذلك على زعمهم الفاسد واعتقادهم الباطل. وهو مثل ما قال النبي - ﷺ - لعمر رضي الله عنه: "الله أجلّ وأعلى" جوابًا لأبي سفيان حيث قال: "أعلُ هُبَل" اعْتَقَد علوَّ صنمه، وذلك اعتقاد فاسد لا شبهةَ فيه.
﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ بترك ما تريدون من الفاحشة بهم، أو بإيثارهن عليهم ﴿وَلَا تُخْزُونِ﴾؛ أي: ولا تذلوني، وتجلبوا عليَّ العارَ ﴿فِي ضَيْفِي﴾، والضيف يطلق على الواحد، والاثنين، والجماعة، لأنه في الأصل مصدر، ومعنى: ﴿فِي ضَيْفِي﴾؛ أي: في حقهم وشأنهم، فإن إخزاءَ ضيف الرجل إخزاؤه، كما أن إكرامَ من يتصل به إكرامُهُ. والمعنى (١): أي: فاخشوا الله، واحذروا عقابَهُ في إتيانكم الفاحشةَ التي تطلبونها، ولا تذِلوني وتمتهنوني بفضيحتي في ضيفي، فإن إهانة الضيوف إهانة للمضيف، وفضيحة له، والاستفهام في قوله: ﴿أَلَيْسَ مِنْكُمْ﴾ للتوبيخ والتقريع أي أليس منكم ﴿رَجُلٌ﴾ واحد ﴿رَشِيدٌ﴾؛ أي: ذو رشد، وحكمة يَهْتَدِي إلى الحق، وَيرْعَوِي عن القبيح، وينهى من أراد ركوب الفاحشة مِن ضيوفي، ويرد هؤلاء الأوباشَ عنهم ما يريدون، وفي ذلك توبيخٌ عظيم لهم حيث لم يكن منهم رشيد ألبتةَ يرشدهم إلى ترك هذا العمل القبيح، ويمنعهم منه.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿أَطْهَرُ﴾ بالرفع والأحسن في الإعراب أن يكون جملتين كل منهما مبتدأ وخبر، وجوِّز في بناتي أن يكونَ بدلًا، أو عطفَ بيان، وهُنَّ فصل وأطهر الخبر. وقرأ الحسنُ وزيد بن علي، وعيسى بن عمر، وسعيد بن جبير، ومحمد بن مروان السدي: (أطهرَ) بالنصب. وقال سيبويه: هو لَحْنٌ. وقال أبو عمرو بن العلاء: احْتَبَى فيه ابن مروان في لَحْنه، يعني تَرَبَّعَ. ورويت هذه القراءة عن مروان بن الحكم، وخُرّجت هذه القراءة على أن نصبَ (أطهر) على الحال. فقيل: (هؤلاء) مبتدأ، و (بناتي هن) مبتدأ وخبر في موضع خبر (هؤلاء) وروي هذا عن المبرد.
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
175
٧٩ - ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال قوم لوط مجيبينَ عليه معرضينَ عمَّا نَصَحَهم به، وأرشدهم إليه، والله ﴿لَقَدْ عَلِمْتَ﴾ يا لوط من قبل ﴿مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ﴾؛ أي: علمت (١) من قبل أنه ليس لنا في بناتك من حق؛ أي: من رغبة في تزوجهن، فَتَصْرَفنا بعرضهن علينا عما نريده، وقد يكون المعنى: لقد علمت الذي لنا في نسائنا اللواتي تسميهن بناتكَ من حق الاستمتاع، وما نحن عليه معهن، فلا ينبغي عَرْضُك إياهن علينا لتصرفنا عَمَّا نريده؛ أي: ما لنا فيهن من شهوة ولا حاجة، لأنَّ من احتاج إلى شيء، فكأنه حصل له فيه نوعٌ حق، ومعنى ما نسبوه إليه من العلم، أنه قد عَلِمَ منهم المكالَبَة على إتيان الذكور، وشدة الشهوة إليهم، فهم من هذه الحيثية كأنهم لا حَاجةَ لهم إلى النساء، ويُمكِن أن يريدوا أنه لا حَقَّ لنا في نكاحهن؛ لأنه لا ينكحهن، ولا يتزوج بهن إلا مؤمن، ونحن لا نؤمن أبدًا. ومقصودُهم أنَّ نكاح الإناث ليس من عادتنا ومذهبِنا، ولذا قالوا: (علمْتَ) فإنَّ لوطًا كان يعلم ذلك، ولا يعلم عدمَ رغبتهم في بناته بخصوصهن، ويؤيده قوله: ﴿وَإِنَّكَ﴾ يا لوط ﴿لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ﴾؛ أي: لتعرف حقَّ المعرفة ما نريد من الاستمتاع بالذُّكران، وإننا لا نؤثر عليه شيئًا.
والخلاصة: أنهم أجمعوا أمرهم على فعل ما يريدون، وهو في الحقيقة طلب ما أعد الله لهم في الأزل من قهره، يعني الهلاكَ بالعذاب.
٨٠ - ولما يئس من ارعوائهم عَمَّا هم عليه من الغيِّ ﴿قَالَ﴾ لوط لقومه: حينَ أَبَوا إلا المُضِيَّ لما قد جاؤوا له من طلب الفاحشة، وأيس من أن يستجيبوا له إلى شيء مما عرض عليهم. ﴿لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً﴾؛ أي: لو ثَبَتَ كون قوة لي بكم، وقدرة عليكم، ومنعة منكم بأنصار ينصروني، وأعوان يعينوني عليكم ﴿أو﴾ أنني ﴿آوِي﴾، وأنضمُّ ﴿إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾؛ أي: عشيرة قويَّة؛ أي: أوَ ثبَتَ لي كون عشيرة قوية تجيرني منكم لحلت بينكم وبين ما جئتم له، تريدونه مني في أضيافي، ولدافعتكم عنهم ومنعتكم منهم. وجواب لو محذوف كما قدرنا، والأنسب بمثل هذا المقام أن تكون (لو) للتمني. فكأنه قال: لو قَوِيَتْ على دَفْعكم، ومقاومتكم بنفسي، أو
(١) المراغي.
176
التجأت إلى ناصرٍ عزيز قويٍّ أَسْتَنِد إليه، وأتَمَنَّعُ به، فيحميني منكم. شبَّه بِرُكْن الجبل في الشدة والمَنعة. والرُّكْنُ بسكون الكاف، وضمِّها في الأصل: الناحية من الجبل، وغيره، ومرادُه بالركن الشديد العشيرةُ، والأقاربُ، وما يمتنعُ به عنهم هو ومَنْ معه. وقيل: أراد بالقوة الولد، وبالركن الشديد من ينصره من غير ولده. وقيل: أراد بالقوة قوته في نفسه. وكان لوط رجلًا غريبًا فيهم ليس له عشيرة وقبيلة يلتجيء إليهم في الأمور الملمة والغريب لا يعينه أحد غالبًا في أكثر البلدان، خُصُوصًا في هذا الزمان، لأنه كَانَ أوّلًا بالعراق مع إبراهيم، فلمَّا هاجر إلى الشام، أرسله الله تعالى إلى أهل سدوم، وهي قرية عند حِمْصَ. وفي "الخطيب" في سورة الشعراء: ﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ﴾؛ أي: في البلد لا في الدين، ولا في النسب، لأنه ابن أخي إبراهيم عليهما السلام، وهما من بلاد المشرق من أرض بابل، وقومُ لوط - أهلَ سدوم - من أرض الشام، وكأنه عبر بالأخوّة لاختياره لمجاورتهم، ومناسبتهم بمصاهرتهم، وإقامته بينهم في مدينتهم مدة مديدةً، وسنينَ عديدةً، وإتيانه بالأولاد من نسائهم. قال أبو هريرة: ما بعث الله نبيًّا بعده إلا في مَنَعةٍ من عشيرته. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "يرحم الله لوطًا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثتُ في السجن ما لَبِثَ يوسف ثم أتاني الداعي لأجبتُه". متفق عليه. قال النواوي رحمه الله: المرادُ بالركن الشديد، هو الله عز وجل، فإنه أشد الأركان، وأقواها وأمنعها. ومعنى الحديث: أنَّ لوطًا عليه السلام لما خَاف على أضيافه، ولم تكن له عشيرة تمنعهم من الظالمينَ ضاق ذَرْعُه، واشتدَّ حزنه عليهم، فغَلَب ذلك عليه، فقال في تلك الحال: لو أنَّ لي بكم قوة في الدفع بنفسي، أو آوي إلى عشيرة تمنع لمنعتكم، وقَصَدَ لوط إظهارَ العذرِ عند أضيافه، وأنه لو استطاع.. لَدَفع المكروهَ عنهم. وقرأ شيبة، وأبو جعفر (١): (أو آوِيَ) بنصب الياءِ بإضمار أنْ بعد أو، فتقدر بالمصدر عطفًا على قوله: ﴿قوة﴾ والتقدير: لو أنَّ لي بكم قوة أو إيواء إلى ركن شديد.
(١) البحر المحيط.
177
قال ابن عباس وأهل التفسير (١): أغلَق لوط بابَه، والملائكة معه في الدار، وجَعَلَ يناظر قَوْمَه ويناشدهم من وراء الباب، وقومه يعالجون سُوَر الدار،
٨١ - فلما رأت الملائكة ما لقي لوط بسببهم من الكرب ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قالت الملائكة للوط بعد أَنْ رأوا شديدَ الكرب الذي لحقه بسببهم، وتمنِّيهِ أن يَجِدَ قُوَّةً تدفعهم عن أضيافه ﴿يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ﴾ أرسلنا لإهلاكهم، وتنجيتك من شَرِّهم ﴿لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ﴾ وإلى من معك بضرر، ولا مكروه، ولن يخزوك فينا، وإنَّ ركنَك شديد، فهَوِّن عليك الأمر، وافتح الباب، ودَعْنا وإياهم. ففتح البابَ فدخلوا، فاستأذن جبريل ربَّه تعالى في عقوبتهم، فأَذِنَ له فتحول إلى صورته التي يكون فيها، ونشر جَنَاحَيْه وعليه وشاح من در منظوم، وهو براق الثَّنَايا أجلى الجبين، ورَأْسُه حبك مثل المرجان، كأنه الثلج بياضًا، وقدَماه إلى الحضرة، فضَرَبَ بجناحيه وجوههم، فطَمَسَ أعيُنَهم، وأعماهم فَصاروا لا يعرفون الطريقَ، ولا يهتدون إلى بيوتهم، وانصرفوا، وهم يقولون: النجاءَ، النَّجاءَ في بيتِ لوط أسْحَرُ قوم في الأرض، قد سَحَرونا، وجَعَلُوا يقولون يا لوط كما أنت حتى تصبحَ، وسترى ما تلقى مِنَّا غدًا، يوعدونه بذلك، ولكنه من الإسرائيليات لا أصلَ لها.
﴿فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ﴾؛ أي: فاخْرُج من هذه القرى أنت مع أهلك، يعني: بنتيه ريْثا وزَعُورا ﴿بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ﴾؛ أي: في طائفةٍ وبقيةٍ من الليلِ تكفي لتجاوز حدودها؛ أي: أُخرُجوا ليلًا لتستبقوا نُزولَ العذاب الذي موعده الصبح. وجاء في سورة الذاريات: ﴿فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦)﴾. وفي "القرطبي": فخرج لوط، وطَوَى الله له الأرض في وَقْتِهِ حتى نجا ووَصلَ إلى إبراهيمَ، اهـ. وقرأ (٢) الحرميان نافع، وابن كثير: ﴿فاسر بأهلك﴾ هنا، وفي الحجر، وفي الدخان: ﴿فاسر بعبادي﴾. وقوله: (أن اسر} في طه والشعراء قرأ جميع ذلك بهمزة الوصل تَسْقُط درجًا، وتثبت مكسورة ابتداءً. وقرأ الباقون: ﴿فأَسْر﴾ بهمزة القطع، تثبت مفتوحةً دَرَجًا وابتداءً.
(١) الخازن.
(٢) الفتوحات.
178
والقراءتان مأخوذتان من معنى هذا الفعل، فإنه يقال: سَرَى. ومنه: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (٤)﴾ وأسرى. ومنه: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾. وهل هما بمعنى واحد؛ أو بينهما فرق؟ خلاف مشهور. فقيل: هما بمعنى واحد، وهو قول أبي عبيد. وقيل: بل (أسرى) لأول الليل، وسَرَى لآخره، وهو قول الليث. وأمَّا سار فمختص بالنهار، وليس مقلوبًا مِنْ سرى، اهـ "سمين".
﴿وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ﴾؛ أي: لا تلتفت أنت، ولا تترك إحدى بِنْتَيْكَ، تلتفت؛ لئلا يَرَى عظيمَ ما يَنْزِلُ بهم فيحصل له كرب ربما لا يطيقه. وفي "المراح": وإنما نُهوا عن الالتفات (١) ليسرعوا في السير، فإنَّ مَنْ يَلْتَفِتُ إلى ما وراءه لا يخلو عن أدنى وَقْفَةٍ. وقوله: ﴿إِلَّا امْرَأَتَكَ﴾ قرأه ابن كثير، وأبو عمرو بالرفع؛ أي: لا يتأخر منكم أحدُ إلا امرأتك واعلة المنافقةُ. وعلى هذه القراءة يقتضي كونَ لوطٍ مأمورًا بالإسراء بها، وقرأ الباقون بالنصب، والمعنى: ولا ينظر أحد إلى وراءه منك، ومن أهلك إلا امرأتك. وهذه القراءة تقتضي كونَ لوط غير مأمور بالإسراء بها.
أي (٢): ولا ينظر أحدٌ إلى ما وراءه ليجدوا في السَّيْرِ، أو لئلا يروا ما ينزل بقومهم من العذاب، فيرقوا لهم. وجاء في سورة الحجر: ﴿وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ﴾، ﴿إِلَّا امْرَأَتَكَ﴾ فقد كان ضَلَعُها مع القوم، وكانت كافرةً خائِنةً. ﴿إِنَّهُ﴾؛ أي: إنَّ الشأن ﴿مُصِيبُهَا﴾؛ أي: امرأتك ﴿مَا أَصَابَهُمْ﴾ من العذاب؛ أي: إنه مصيبها ذلك العذاب الذي أصابهم، ومقضي عليها بذلك فهو واقع لا بُدَّ منه.
يعني (٣): وَقَعَتْ أهل بيتِ نُبُوَّتِه في الضلالة فهَلَكَتْ، فإنها مع تشرفها بالإضافة إلى بيت النبوة لِمَّا اتَّصَلَتْ بأهل الضلالة صارت ضالَّةً، وأدَّى ضلالها،
(١) المراح.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
179
وكفرها إلى الهلاك معهم. ففيه تنبيه إلى أنَّ لصحبة الأغيار ضررًا عظيمًا. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: ﴿إلا امرأتُك﴾ بالرفع، وباقي السبعة بالنصب. فوجه النصب على أنه استثناء من قوله: ﴿بِأَهْلِكَ﴾ إذ قبله أمر، والأمر عندهم كالواجب، ويتعيَّن النصبُ على الاستثناء من أهلكَ في قراءة عبد الله إذ سقط في قراءته وفي مصحفه: ﴿ولا يلتفت منكم أحد﴾ ووجه الرفع على أنه بدل من أحد، وهو استثناء متصل.
ثم علَّل الإسراءَ ببقية من الليل، فقال ﴿إِنَّ مَوْعِدَهُمُ﴾؛ أي: موعدَ عذابهم ﴿الصُّبْحُ﴾ ابتداءً من طلوع الفجر إلى الشروق، كما جاء في سورة الحجر: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣)﴾. وقرأ عيسى بن عمر: ﴿الصبُحُ﴾ بضم الباء. قيل: وهي لغةٌ فلا يكون ذلك اتباعًا، وإنما جعل الصبح ميقاتًا لهلاكهم؛ لأن النفوسَ فيه أودع، والراحةُ فيه أَجْمَعُ فيكون حُلولُ العذاب حينئذ أفْظَعَ؛ ولأنه أنسبُ بكونِ ذلك عبرةً للناظرين. رُوي أنَّ لوطًا قال للملائكة متى موعدهم؟ قالوا: الصبحُ، فقال: أُريد أسرعَ من ذلك، فقالوا: ﴿أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ﴾؛ أي: أليس موعد الصبح بموعد قريبٍ؟ لم يَبْقَ له إلا ليلة واحدةُ فَانْجُ فيها بأهلك. والاستفهامُ فيه تقريري. وفيه إشارة إلى أنَّ صبحَ يومِ الوفاة، قريبٌ لكل أحد، فإذا أدركَه فكأنَّه لم يَلْبَثْ في الدنيا إلا ساعةً من نهار. وفي "المراغي": وحكمة تخصيص هذا الوقت أنهم يكونونَ مجتمعينَ في مساكِنهم، فلا يفلت منهم أحدٌ، اهـ.
٨٢ - ﴿فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا﴾؛ أي: وقت أمرنا بالعذاب، وقضائنا فيهم بالهلاك، وهو الصبح ﴿جَعَلْنَا﴾ بقدرتنا الكاملة ﴿عَالِيَهَا﴾؛ أي: عاليَ قرى قوم لوط، وهي التي عبر عنها بالمؤتفكات، وهي أربعُ مدائنَ فيها أربع مئة ألف، وأربعة آلاف، وهي سدوم، وعامورا، وكَادُوما، ومذاويم. كانت على مسيرة ثلاثةِ أيام من بيت المقدس ﴿سَافِلَهَا﴾؛ أي: قلبناها على تلك الهيئات؛ أي: قَلَبْنَا قُراهم كُلَّها، وخَسَفْنا بها الأرض. روي أنَّ جبريلَ جعل جَنَاحَه في أسْفَلِها فاقتلعها من الماء الأسود، ثمَّ رَفَعَها إلى السماء حتى سمِعَ أهل السماء نباح الكلاب، وصياح الدِّيكة لم يكفأ إناء، ولم يَنتَبِه نائم، ثم قلبها عليهم، فأقبلت تَهْوي من السماء
إلى الأرض، ولكنَّه من الإسرائيليات التي لا مستندَ لها.
﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا﴾؛ أي: على أهل المدائن من فوقهم، قبل القلب، أو في أثنائه ﴿حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ﴾؛ أي: من طين متحجِّرٍ كما جاء في سورة الذاريات: ﴿لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣)﴾. ومثل هذا المطر يَحْدث بإرسال الله تعالى ريحًا شديدةً تحمل بعضَ الأحجار من المستنقعات أو الأنهار فتلقيها حيث يشاء الله تعالى، وكان حقَّ العبارة، وجعلوا عاليِا، وأمطروا؛ أي: الملائكة المأمورونَ بذلك، فأسند إلى نفسه من حيث إنه المسبِّبُ تعظيمًا للأمر، وتهويلًا للخطب؛ أي: وأمطرنا على أهل تلك القرى الخارجين عنها في الأسفار وغيرها، حجارةً من سجيل. ﴿مَنْضُودٍ﴾؛ أي: متتابع بعضه بعضًا في الإرسال، والنزول كقطار الأمطار، والنَّضَد: وضع الشيء بعضِه على بعضٍ، وهو نعتٌ لسجيل.
٨٣ - ﴿مُسَوَّمَةً﴾ نعت حجارة؛ أي: معلمة تلك الحجارة لا تُشْبِهُ حجارة الدنيا، أو باسم صاحبها الذي تصيبه وَيُرْمى بها ﴿عِنْدَ رَبِّكَ﴾ يا محمَّد؛ أي: كائنة في خزائنه التي لا يتصرف فيها أحد إلا الله. والمعنى: جاءت من عند ربك. وفي ذلك دليل على أنها ليسَتْ من حجارة الأرض، قاله الحسن، اهـ "قرطبي". وفي إمطار الحجارة قولانَ.
أحدهما: أنها أمطرَتْ على المدن حينَ رفعها جبريل، أو بعد القلب.
والثاني: أنها أمطرت على مَنْ لَمْ يكن في المُدُن من أهلها، وكان خارجًا عنها. رَوي أنَّ الحجر اتبع شذاذهم أينما كانوا في البلاد، ودخل رجل منهم الحرمَ، وكان الحجر معلقًا في السماء أربعين يومًا حتى خَرَج فأصابه فأهلكه. ولعل الإمطارَ على تلك القرى بعد القلب إنما هو لتكميل العقوبة، كالرجفة الواقعة بعد الصيحة لقوم صالح، ولتحصيل الهلاك لمسافريهم الخارجين من بلادهم لمصالحهم، وهو الظاهر، والله أعلم. والسجيل: الطين المتحجر بطبخ أو غيره. وقيل: هو الشديدُ الصلب من الحجارة. وقيل: السجيل: الكثير. وقيل غير ذلك. وهذا السجيل قد نضدَ، وتراكب بعضه في إثر بعضٍ بحيث يقع طائفة بعد طائفة، وقد وضع على تلك الأحجار سومة، أي: علامة خاصة في علم ربك، بحيث لا تصيب غير أهلها. وقد يكون المعنى: أنه سخَّرها عليهم،
وحكمها في إهلاكهم بحيث لا يمنعها شيء، من قولهم سَوَّمْتُ فلانًا في الأمر، إذا حكمته فيه، وخَلَّيْتَه وما يُريد لا تثني له يد في تصرفه.
ويَرى بَعْضُ المفسرينَ أنَّ التسْوِيم كانَ حِسيًّا بخطوط في ألوانها أو بأمثال الخواتيم عليها، أو بأسماء أهلها، وكل ذلك من أمور الغيب التي لا تثبت إلا بسلطان، ونص من خاتم الرسل، وأَنَّى هو. ﴿وَمَا هِيَ﴾؛ أي: وما هذه القرى التي حَلَّ بها العذابُ ﴿مِنَ الظَّالِمِينَ﴾؛ أي: منكم أيها المشركون من أهل مكة، الظالمون لأنفسهم بتكذيبك، والمماراة فيما تُنذرهم به ﴿بِبَعِيدٍ﴾؛ أي: بمكان بعيد عنكم، بل هي قريبة منكم على طريقكم في رحلة الصيف إلى الشام، كما قال في سورة الصافات: ﴿وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (١٣٨)﴾؛ أي: وإنكم لتمرون على آثارهم، ومنازلهم في أسفاركم وَقْتَ النهار، وبالليل أفلا تعتبرون بما حَلَّ بهم.
وفي هذه عبرة للظالمين في كل زمان، وإن اختلفَ العذابُ باختلاف الأحوال وأنواع الظلم كثرةً وقلةً، ومقدار أثره في الأمة من إفسادٍ عامٍّ أو خاصٍّ.
وقيل المعنى: ﴿وَمَا هِيَ﴾؛ أي: وما هذه الحجارة الموصوفة من كل ظالم ببعيد، فإنهم بسبب ظلمهم مستحقونَ لها؛ أي: فإن الظالمينَ حقيق بأن تمطر عليهم، ومنهم كفار قريش، ومن عاضَدَهم على الكفر بمحمد - ﷺ - أو من الظالمينَ من قوم لوط، وتذكيرُ البعيد على تأويل الحجارة بالحجر، أو إجراء له على موصوف مذكر؛ أي: شيء بعيد، أو مكان بعيد، أو لكونه مصدرًا كالزفير، والصهيل، والمصادرُ يستوي في الوصف بها المذكر والمؤنث.
٨٤ - وقوله: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ﴾ معطوف كسابقه على قوله: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا﴾ وهو اسم ابن إبراهيم الخليل عليه السلام، ثمَّ صَارَ اسمًا للقبيلة، أو اسْمُ مدينة بناها مَدْيَنَ، فسُمِّيت باسمه؛ أي: وأرسلنا إلى قبيلة مَدْيَنَ أو ساكني بلدةِ مدين ﴿أَخَاهُمْ﴾؛ أي: واحدًا منهم في النسب ﴿شُعَيْبًا﴾ عطف بيان له، وهو ابن مكيلِ بن يشجر بن مدين ﴿قَالَ﴾ استئناف بيانيٌّ ﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ﴾؛ أي: فلمَّا أتاهم قال: يا قوم اعبدوا الله،
182
وحده، ولا تشركوا به شيئًا من الأصنام فـ ﴿مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾؛ أي: لأنه ليس لكم إله سوى اللَّه تعالى، وقد جرَتْ سنة الأنبياءِ أن يَبْدؤوا بالدعوةِ إلى التوحيد؛ لأنه جِذْرُ شجرة الإيمان. ثمَّ يَتْبِعُونَه بالأهمِّ فالأهمِّ فيما يرون لدى أقوامهم، ومن ثم ثنى بالنهي عن نقص الكيل والميزان؛ لأنَّ أهْلَ مَدْينَ اعتادوا ذلك فقال: ﴿وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ﴾؛ أي: آلة (١) الوزن والكيل، وكان لهم مكيالان، وميزانان: أحدُهما أكبَرُ من الآخر، فإذا اكتالوا على الناس يستوفون بالأكبر، وإذا كالوهم أو وزنوهم يُخْسِرونَ بالأصغر، والمراد لا تنقصوا حَجْمَ المكيال عن المعهود، وكذا الصنجات كي تتوسلوا بذلك إلى بخس حقوق الناس. ويجوز أن يكونَ من ذكر المحل، وإرادة الحال، فإذا جاءهم البائع بالطعام أخذوا بكيل زائدٍ، وكذلك إذا وصل إليهم الموزونُ، أخذوا بوزن زائد، وإذا باعوا.. باعوا بكيل ناقص ووزن ناقص، وكل من البَخْسَين شائع في هذا الزمان أيضًا كأنه ميراث من الكفرة الخائنين. وجملة قوله: ﴿إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ﴾ تعليل للنهي؛ أي (٢): لا تنقصوا المكيالَ، والميزان لأني أراكم بخير؛ أي: متلبسين بثروة وسعة في الرزق تغنيكم عن التطفيف، فلا تغيروا نعمةَ الله عليكم بمعصيته، والإضرار بعباده. ففي هذه النعمة ما يغنيكم عن أخذ أموال الناس بغير حقها مما تنقصون لهم من المبيع في مكيل أو موزون، وكانوا تُجَّارًا مطففينَ إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم ينقصونَ المكيالَ والميزان. أَلاَ إنَّ في هذا كفرانًا لنعمة الله عليكم، إذ كان يجب عليكم شكرانها بالزيادة على سبيل الصدقة والإحسان.
ثمَّ ذكَرَ بعد هذه العلة، علَّةً أُخرى، فقال: ﴿وَإِنِّي أَخَافُ﴾ وأخشى ﴿عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ﴾؛ أي: يومًا يُحيط بكم عذابه، لا يشُذ منه أحدٌ منكم، إذا أنتم أصررتم على شرككم بالله بعبادة غيره، وكفرتم بنعمه بنقص المكيال والميزان. وهذا العذاب إما في الدنيا بعذاب الاستئصال، وإمَّا في يوم
(١) روح المعاني.
(٢) الشوكاني.
183
القيامة، ففي هذه العلة تذكير لهم بعذاب الآخرة، كما أنَّ العلة الأُولى فيها تذكير لهم بنعيم الدنيا، ووصف اليوم بالإحاطة، والمراد العذاب: لأنَّ العذابَ واقعٌ في اليوم ففيه إسناد مجازيٌّ. ومعنى إحاطة عذاب اليوم بهم أنه لا يُشُذُّ منهم أحد عنه، ولا يجدون منه مَلجأً ولا مهربًا. واليومُ هو يوم القيامة. وقيل: هو يوم الانتقام منهم في الدنيا بالصيحة. وأصل (١) العذاب في كلام العرب من العذب، وهو: المَنْعُ، وسمِّي الماء عذبًا؛ لأنه يمنع العطشَ. والعذابُ عذابًا؛ لأنه يمنع المعاقب عن معاودة مثل جرمه، ويمنع غيره عن مثل فعله.
٨٥ - ثم أكد النهي عن نقص الكيل والوزن بقوله: ﴿وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا﴾ وأتموا ﴿الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ﴾؛ أي: بالعدل بلا زيادة، ولا نقصان. ومعنى (٢): إيفاء الحق إعطاؤُه تامًّا كاملًا؛ أي اسْعوا في إعطاء الحق على وَجه التمام والكمال، بحيث يحصل لكم اليقينُ بالخروج عن العهدة وقوله: ﴿بِالْقِسْطِ﴾ حال من فاعل ﴿أَوْفُوا﴾ أي متلبسين بالعدل والتسوية من غير زيادة ولا نقصان، فإنَّ الزيادةَ في الكيل والوزن وإن كانت تفضلًا مندوبًا إليه، لكنها في الآلة محظورة كالنقص، فلعل الزائدَ للاستعمال عند الاكتيال، والناقص للاستعمال وقتَ الكيل، كذا في "الإرشاد". وصرَّح بالإيفاء بعد النهي عن ضده؛ لأن النهيَ عن نقص حَجْم المكيال، وصنجات الميزان، والأمر بإيفاء المكيال والميزان حقهما بأن لا ينقص في الكيل والوزن، وهذا الأمر بعد مساواة المكيال، والميزان للمعهود، فلا تكرار في الآية كما في "حواشي سعدي المفتي".
ثمَّ زاد ذلك تأكيدًا، فقال: ﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ﴾؛ أي: ولا تنقصوا النَّاسَ ﴿أَشْيَاءَهُمْ﴾؛ أي: حُقُوقَهم مطلقًا، ولا تأخذوها منهم ظلمًا؛ أي: سواء كانت من الموزونات أو المكيلات، أو المذروعات، أو المحدودات بحدود حسية، وسواء كانت من حقوق ماديَّة أو معنوية، وسواءٌ كانت للأفراد، أو الجماعات، وسواءٌ كانت جليلةً أو حقيرةً.
وفي هذا النهي عن البخس على العموم والأشياء أعمُّ مما يكال أو يوزن،
(١) روح المعاني.
(٢) روح المعاني.
فيَدْخُل فيه البَخْسُ بتطفيف الكيل والوزن دخولًا أوَّليًّا، وكانوا يأخذونَ من كلِّ شيء يباعُ شيئًا كما يفعل السماسرة، ويمكنون الناس وينقصون من أثمان ما يشترون من الأشياءِ، وقيل: البخس المكس خاصة. ثم قال: ﴿وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ العثي: أشدُّ الفساد؛ أي: ولا تفسدوا في الأرض؛ أي: ولا تفعلوا في الأرض ما ظاهِرُهُ الإِفْسَادُ حالةَ كونكم مفسدين؛ أي: قاصدينَ به الإفسادَ لا الإصلاحَ.
الإفساد: تعطيل يشمل مصالحَ الدنيا، وأمور الدين، وأخلاقَ النفس وصفاتها، وكلُّ ذلك فاش في عَصْرِنا، ومن الفساد: نقص الحُقُوق في المكيال والميزان. ومن الإفساد: قَصُّ الدراهم والدنانير، وترويج الزيوف ببعض الأسباب، وغير ذلك؛ أي: لا تفسِدوا في الأرض، وأنتم تتعمدون الإفسادَ، وإنما اشترط في النهي تعمد الإفسادِ؛ ليخرج بعضُ ما هو إفسادٌ في الظاهر، ويرادُ به الإصلاحُ، أو فعلُ أخفِّ الضرَرَين لدفع أثقلهما كما وقع من الخضر في السفينة، التي كانت لمساكين يعملون في البحر، لأجل منع الملك الظالم الذي وراءَهم من أخذها إذا أعجبته، وكما يقع في الحرب من قطع الأشجار، أو فَتحِ سُدَدِ الأنهار، أو إحراق بعض الغابات، أو قتل دواب أهل الحرب.
٨٦ - وهذا نَهْيٌ عام يشمل غير ما سَبَقَ كقطع الطرق، وتهديد الأمن وقطع الشجر، وقَتَل الحيوان، ونحو ذلك ﴿بَقِيَّتُ اللَّهِ﴾؛ أي: ما أبقاه الله تعالى لكم بعد إيفاء الكيل والميزان، وترك الحرام من الربح الحلال فهي فعيلة بمعنى المفعول، وإضافتها للتشريف كما في بيت الله، وناقة الله، فإنَّ ما بقي بعد إيفاء الكيل، والوزن من الرزق الحلال يستحق التشريفَ ﴿خَيْرٌ لَكُمْ﴾؛ أي: أكْثَرُ لكم بركةً، وأحمدُ عاقبةً مما تأخذونه بالتطفيف، وتجمعونه بالبخس من الحرام، فإن ذَلِكَ هبَاءٌ منثور، بل شر محض، وإن زعمتم أنَّ فيه خَيْرًا كما قال تعالى: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾. قال في "شرح الشرعة": ولا يَخون أحد في مبايعته بالحِيَل والتلبيس، فإنَّ الرزق لا يزيد بذلك، بل تزول بركته فمَنْ جمع المال بالحِيل حَبَّةً حَبَّةً يهلكه الله جملة قبة قبة، ويبقَى عليه وزره ذرة ذرة، كرجل
185
كان يخلط اللبنَ بالماء ليُرَى كثيرًا، فجاء السيل، وقَتَلَ بقَرَهُ، فقالَت صِبيته: يا أبت قد اجتمعت المياه الَّتي خلطتها في اللبن، وقتلتْ البقرَ. وقرأ (١) إسماعيل بن جعفر عن أهل المدينة: ﴿بَقِيَّةٍ﴾ بتخفيفِ الياء. قال ابن عطية: هي لغةٌ، انتهى. وذلك أنَّ قِياسَ فَعِلَ اللازم أن يكون على وزن فعِلٍ نحو: سَجِيَتِ المرأة فهي سَجِيَة، فإذا شدَّدت الياءَ.. كان على وزن فعيل للمبالغة. وقرأ الحسن: ﴿تَقِيَّة﴾ بالتاء، وهي تقواه، ومراقبته الصارفة عن المعاصي فقوله: ﴿بقيت الله﴾ يُرْسَم بالتاء المجرورة، وإذا وقفت عليه اضطرارًا يصح الوقف بالمجرورة، والمربوطة، وليس في القرآن غيرها، اهـ "فتوحات"؛ أي: المال الحلال الذي يبقى لكم خير من تلك الزيادة الحاصلة بطريق التطفيف ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: مصدقين لي في مقالتي لكم، أو إن كنتم مؤمنين به تعالى حقَّ الإيمان، فالإيمان يطهِّر النفسَ من رَذيلةِ الطمع، ويحلِّيها بفضيلة السَّخاءِ والكرم، وإنما شرط (٢) الإيمان في خيريَّة ما بقي بعد الإيفاءِ، لأنَّ فَائِدَتَهُ وهي حصول الثوابِ، والنجاةُ من العقاب إنما تَظْهَرُ مع الإيمان، فإنَّ الكَافِرَ مخلد في عذاب النيران، ومحروم مِن رضوانِ الله تعالى، وثواب الرحمنِ، سواء أوفى الكيلَ والميزانَ أو سلَكَ سبيل الخوان.
﴿وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ﴾؛ أي: برقيب (٣) أرقبُكم عند كيلكم، ووَزْنِكم؛ أي: لا يُمْكِنُني شهودُ كُلَّ معاملة تصدرُ منكم حتى أؤاخذكم بإيفاء الحق، وقيل: أي: لا يتهيَّأ لي أن أَحْفَظَكم من إزالة نعم الله عليكم بمعاصيكم، اهـ "قرطبي". وقيل (٤): أي: وما أنا بالذي أستطيع أن أحْفَظَكم من القبائِح، وإنَّما أنا ناصحٌ مبلِّغ، وقد أعْذَرَتُ إذ أنْذَرْتُ، ولم آل جهدًا في ذلك.
فائدة: واعلم (٥) أنَّ العدلَ ميزان الله في الأرض، سواء كان في الأحكام، أو في المعاملات، والعدول عنه يؤدِّي إلى مؤاخذة العباد، فينبغي أن يتجنَّب الظلم، والمرادُ بالظلم أن يتضرَّرَ به الغير، والعدل أن لا يتضرَّرَ منه أحدٌ بشيء ما. قال
(١) البحر المحيط.
(٢) روح المعاني.
(٣) قرطبي.
(٤) المراغي.
(٥) روح البيان.
186
عكرمة: أشهدُ أنَّ كُلَّ كيَّالَ، ووزان في النار. قيل له: فَمَنْ أوفى الكيلَ والميزانَ؟ قال: ليس رجل في المدينة يكيل كما يكتال، وَيزِن كما يَتَّزِنُ، والله تعالى يقول: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١)﴾. وقال سعيد بن المسيب: إذا أتيت أرضًا يوفون المكيالَ والميزانَ.. فأطل المقامَ فيها، وإذا أتيتَ أرضًا ينقصون المكيالَ والميزانَ.. فأقِلَّ المقامَ فيها. وفي الحديث: "ما ظهر الغُلولُ في قوم، إلا أَلْقَى اللَّهُ في قلوبِهِم الرعب، ولا فشا الزنى في قوم، إلا كثر فيهم الموت، ولا نَقَصَ في قوم المكيالُ والميزان إلا قَطَعَ الله عنهم الرزقَ، ولا حَكَم قومٌ بغير حق إلا فشا فيهم الدَّمُ، ولا خَتَرَ قومٌ بالعهد إلَّا سَلَّطَ الله عليهم العدو". قوله: ولا ختر؛ أي: غَدَر، ونقض العهد، كما في "الترغيب".
الإعراب
﴿وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ (الواو) استئنافية. (اللام) موطئة للقسم. (قد) حرف تحقيق. ﴿جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة جوابُ القسم لا محلَّ لها من الإعراب. ﴿بِالْبُشْرَى﴾ جار ومجرور حال من ﴿أَرْسَلْنَا﴾؛ أي: حالةَ كونهم متلبسينَ بالبشرى. ﴿قَالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. ﴿سَلَامًا﴾ مفعول مطلق لفعل محذوف وجوبًا، تقديره: نسلم عليك سلامًا، أو: سلمنا عليك سلامًا، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿قَالَ سَلَامٌ﴾ ﴿قَالَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على إبراهيم، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. ﴿سَلَامٌ﴾ مبتدأ خبره محذوف تقديره عليكم، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: أمري؛ أو قولي: ﴿سلام﴾ والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿فَمَا﴾ (الفاء) حرف عطف وتعقيب. (ما) نافية. ﴿لَبِثَ﴾ فعل ماض. ﴿أن﴾ حرف نصب ومصدر. ﴿جَاءَ﴾ فعل ماض في محل النصب بـ (أن) وفاعله ضمير يعود على إبراهيم. ﴿بِعِجْلٍ﴾ جار ومجرور حال من فاعل ﴿جَاءَ﴾. ﴿حَنِيذٍ﴾ صفة لعجل، وجملة ﴿جَاءَ﴾ صلة (أن) المصدرية، (أَن) مع صلتها في تأويل
187
مصدر مرفوع على الفاعلية، تقديره: فما تأخَّر مجيؤه بعجل حنيذ، والجملة الفعلية معطوفة على جملة قوله: ﴿وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ﴾. وفي المقام أوجه كثيرة من الإعراب ضَرَبْنا عنها صَفْحًا خَوفَ الإِطالة.
﴿فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠)﴾.
﴿فَلَمَّا﴾ (الفاء) عاطفة. (لما) حرف شرط. ﴿رَأَى﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على إبراهيم. ﴿أَيْدِيَهُمْ﴾ مفعول به؛ لأن رأى بصرية، والجملة فعل شرط لـ (لما). ﴿لَا﴾ نافية. ﴿تَصِلُ﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الأيدي. ﴿إِلَيْهِ﴾ متعلق به، والجملة في محل النصب حال من الأيدي. ﴿نَكِرَهُمْ﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على إبراهيم، والجملة الفعلية جواب (لمَّا)، وجملة (لمَّا) معطوفة على محذوف تقديره: فقرَّبه إليهم، فقال: ألا تأكلون، فلمَّا رأى أيديهم إلخ، كما سيأتي التصريح بهذا المقدر في الذاريات. ﴿وَأَوْجَسَ﴾ فعل ماض معطوف على ﴿نَكِرَهُمْ﴾ وفاعله ضمير يعود على إبراهيم. ﴿مِنْهُمْ﴾ متعلق بـ ﴿خِيفَةً﴾. ﴿خِيفَةً﴾ مفعول ﴿أَوجس﴾. ﴿قَالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿لَا﴾ ناهية. ﴿تَخَفْ﴾ فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، وفاعله ضمير يعود على ﴿إبراهيم﴾، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿إِنَّا﴾ ناصب واسمه. ﴿أُرْسِلْنَا﴾ فعل ونائب فاعل. ﴿إِلَى قَوْمِ لُوطٍ﴾ متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر (إن) وجملة (إن) مسوقة لتعليل النهي قبلها على كونها مقولَ القول.
﴿وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (٧١)﴾.
﴿وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة، أو في محل النصب حال من فاعل ﴿قَالُوا لَا تَخَفْ﴾؛ أي: ﴿قَالُوا﴾ ذلك في حال قيام امرأته. ﴿فَضَحِكَتْ﴾ (الفاء) عاطفة. ﴿ضحكت﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على امرأته، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَأَوْجَسَ﴾. ﴿فَبَشَّرْنَاهَا﴾ فعل وفاعل، ومفعول معطوف على ﴿ضحكت﴾. ﴿بِإِسْحَاقَ﴾ متعلق به. ﴿وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ﴾ جار ومجرور،
188
ومضاف إليه متعلق بمحذوف تقديره: ووهبناها من وراء إسحاق. ﴿يَعْقُوبَ﴾ مفعول ثان لذلك المحذوف، والجملة المحذوفة معطوفة على جملة ﴿بشرناها﴾ ويجوز أن يكون ﴿من وراء إسحاق﴾ خبرًا مقدمًا، و ﴿يعقوب﴾ بالرفع مبتدأ مؤخرًا، والجملة الاسمية في محل النصب حال من ﴿إسحاق﴾.
﴿قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ﴾.
﴿قَالَتْ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿امرأته﴾ والجملة مستأنفة. ﴿يَا وَيْلَتَى﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: (يا) حرف نداء. ﴿ويلتا﴾ منادى منصوب وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المنقلبة ألفًا للتخفيف بعد قلب الكسرة فتحةً لمناسبة الألف، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة؛ لأن ما قبل الياءِ لا يكون إلا مكسورًا، ﴿ويلة﴾ مضاف. وياء المتكلم المنقلبة ألفًا في محل الجر مضاف إليه، وجملة النداء في محل النصب مقول قال. وقد بيَّنَّا إعراب هذه الكلمة في ضمن نظائرها كـ (يا) (حسرتا) مع مسائلَ نفيسةٍ فيها في رسالتنا "هَدِية أولى الإنصاف في إعراب المنادى المضاف" فراجعها، وهي مطبوعة منتشرة. ﴿أَأَلِدُ﴾ (الهمزة) للاستفهام الإنكاري. ﴿ألد﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على سارة، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها جَوَاب النداء. ﴿وَأَنَا عَجُوزٌ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿ألد﴾. ﴿وَهَذَا بَعْلِي﴾ مبتدأ وخبر، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها على كونها حالًا من فاعل ﴿ألد﴾. ﴿شَيْخًا﴾ بالنصب حال من بعلي، والعامل فيه اسم الإشارة، لما فيه من معنى الفعل، وبالرفع بدل من بعلي أو عطفُ بيان له. ﴿إِنَّ هَذَا﴾ ناصب واسمه. ﴿لَشَيْءٌ﴾ خبره، واللام للابتداء. ﴿عَجِيبٌ﴾ صفة له، وجملة: إنَّ في محل النصب مقول (قال) على كونها مستأنفة.
﴿قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (٧٣)﴾.
﴿قَالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿أَتَعْجَبِينَ﴾ إلى آخر الآية مقول
189
محكي، وإن شئت قلت: (الهمزة) للاستفهام الإنكاري. ﴿تعجبين﴾ فعل مضارع مرفوع بالنون، و (الياء) فاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق به. ﴿رَحْمَتُ اللَّهِ﴾ مبتدأ. ﴿وَبَرَكَاتُهُ﴾ معطوف عليه. ﴿عَلَيْكُمْ﴾ خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿أَهْلَ الْبَيْتِ﴾ منادى مضاف، حذف منه حرف النداءِ، أو منصوب على الاختصاص، وجملة النداء، أو الاختصاص في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿إِنَّهُ﴾ ناصب واسمه. ﴿حَمِيدٌ﴾ خبر أول له. ﴿مَجِيدٌ﴾ خبر ثان، وجملة (إنَّ) في محل النصب مقول قال.
﴿فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (٧٥)﴾.
﴿فَلَمَّا﴾ (الفاء) استئنافية. (لما) حرف شرط. ﴿ذَهَبَ﴾ فعل ماض. ﴿عَنْ إِبْرَاهِيمَ﴾ متعلق به. ﴿الرَّوْعُ﴾ فاعل، والجملة فعل شرط لـ (لمَّا). ﴿وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى﴾ فعل ومفعول وفاعل معطوف على ﴿ذَهَبَ﴾. ﴿يُجَادِلُنَا﴾ فعل ومفعول. ﴿فِي قَوْمِ لُوطٍ﴾ متعلق به، وفاعله ضمير يعود على ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾، والجملة جواب (لما) لأنه بمعنى جَادَلَنا عَبَّرَ عنه بالمضارع حكايةً للحال الماضية. ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ﴾ ناصب واسمه. ﴿لَحَلِيمٌ﴾ خبر أول له. ﴿أَوَّاه﴾ خبر ثان. ﴿مُنِيبٌ﴾ خبر ثالث، وجملة (إن) مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (٧٦)﴾.
﴿يَا إِبْرَاهِيمُ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي لقول محذوف، تقديره: قالوا: يا إبراهيم أعرض عن هذا الجدال إلخ. وإن شئت قلت: ﴿يَا إِبْرَاهِيمُ﴾ منادى مفرد العلم، وجملة النداء في محل النصب، مقول لذلك القول المحذوف. ﴿أَعْرِضْ﴾ فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على ﴿إِبْرَاهِيمُ﴾. ﴿عَنْ هَذَا﴾ متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لذلك القول، على كونها جوابَ النداء. ﴿إِنَّهُ﴾ ناصب واسمه. ﴿قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل الرفع خبر (إنَّ) مستأنفة مسوقة لتعليل ما
190
قبلها على كونها مقولَ القول. ﴿وَإِنَّهُمْ﴾ ناصب واسمه. ﴿آتِيهِمْ﴾ خبر (إنَّ) ومضاف إليه. ﴿عَذَابٌ﴾ فاعل ﴿آتي﴾. ﴿غَيْرُ مَرْدُودٍ﴾ صفة عذاب، وجملة إن معطوفة على جملة (إن) الأولى على كونها مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧)﴾.
﴿وَلَمَّا﴾ (الواو) استئنافية. ﴿لما﴾ حرف شرط. ﴿جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا﴾ فعل وفاعل ومفعول والجملة فعل شرط لـ (لما). ﴿سِيءَ﴾ فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على (لوط). ﴿بِهِم﴾ متعلق به، والجملة جواب لمَّا، وجملة (لما) مستأنفة. ﴿وَضَاقَ﴾ فعل ماض معطوف على ﴿سِيءَ﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿لوط﴾. ﴿بِهِم﴾ متعلق به. ﴿ذَرْعًا﴾ تمييز محول عن الفاعل. ﴿وَقَالَ﴾ معطوف على ﴿سِيءَ﴾ وفاعله ضمير يعود على ﴿لوط﴾. ﴿هَذَا يَوْمٌ﴾ مبتدأ وخبر. ﴿عَصِيبٌ﴾ صفة ﴿يَوْمٌ﴾ والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾.
﴿وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨)﴾.
﴿وَجَاءَهُ﴾ فعل ومفعول. ﴿قَوْمُهُ﴾ فاعل والجملة مستأنفة. ﴿يُهْرَعُونَ﴾ فعل ونائب فاعل. ﴿إِلَيْهِ﴾ متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب حال من ﴿قَوْمُهُ﴾. ﴿وَمِنْ قَبْلُ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَعْمَلُونَ﴾. ﴿كَانُوا﴾ فعل ناقص واسمه. ﴿يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب خبر (كان) وجملة (كان) في محل النصب على الحال معطوفة على جملة ﴿يُهْرَعُونَ﴾. ﴿قَالَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على لوط، والجملة مستأنفة. ﴿يَا قَوْمِ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿يَا قَوْمِ﴾ منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿هَؤُلَاءِ بَنَاتِي﴾ مبتدأ وخبر، والجملة الإسمية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها جوابَ النداء. ﴿هُنَّ أَطْهَرُ﴾ مبتدأ وخبر. ﴿لَكُمْ﴾ متعلق بـ ﴿أَطْهَرُ﴾ والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ (الفاء) فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدرٍ، تقديره: إذا عرفتموهن أطهر وأردتُم بيانَ ما هو الأصلح لكم.. فأقول لكم. ﴿اتقوا اللَّه﴾
191
فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَلَا﴾ (الواو) عاطفة. (لا) ناهية جازمة. ﴿تُخْزُونِ﴾ فعل وفاعل مجزوم بـ (لا) الناهية، وعلامة جزمه حذفُ النون، و (النونُ) للوقاية و (ياء) المتكلم المحذوفة اجتزاءً عنها بالكسرة في محل النصب مفعول به، ﴿فِي ضَيْفِي﴾ متعلق به، والجملة معطوفة على جملة ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ﴾. ﴿أَلَيْسَ﴾ (الهمزة) للاستفهام التوبيخي. ﴿ليس﴾ فعل ماض ناقص. ﴿مِنْكُمْ﴾ خبر ﴿ليس﴾ مقدم. ﴿رَجُلٌ﴾ اسمها مؤخر. ﴿رَشِيدٌ﴾ صفة لـ ﴿رجل﴾، وجملة ﴿ليس﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾.
﴿قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (٧٩)﴾.
﴿قَالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿لَقَدْ عَلِمْتَ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: (اللام) موطئة للقسم. ﴿قد﴾ حرف تحقيق. ﴿علمت﴾ فعل وفاعل، والجملة الفعلية جوابُ القسم، وجملة القسم في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿مَا﴾ نافية. ﴿لَنَا﴾ جار ومجرور خبر مقدم للمبتدأ، أو لـ (ما) الحجازية. ﴿فِي بَنَاتِكَ﴾ متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر. ﴿مِنْ حَقٍّ﴾ مبتدأ مؤخر، أو اسم (ما) الحجازية و (من) زائدة، والجملة الاسمية سادة مسد مفعولي ﴿علم﴾. ﴿وَإِنَّكَ﴾ ناصب واسمه. ﴿لَتَعْلَمُ﴾ اللام حرف ابتداء، ﴿تعلم﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿لوط﴾. ﴿مَا﴾ موصولة أو موصوفة، أو مصدرية، أو استفهامية معلقة ما قبلها في محل النصب مفعول (تعلم)، لأنه بمعنى عرف. ﴿نُرِيدُ﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على قوم لوط، والجملة صلة ﴿لما﴾ أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: ما نريده، أو لتعرف إرادتنا، وجملة ﴿تعلم﴾ في محل الرفع خبر (إن)، وجملة (إن) في محل النصب معطوفة على جملة القسم، على كونها مقول ﴿قَالُوا﴾.
﴿قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (٨٠)﴾.
﴿قَالَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على لوط، والجملة مستأنفة. ﴿لَوْ أَنَّ لِي﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿لَوْ﴾ حرف تمن أو شرط.
192
﴿أَنَّ﴾ حرف نصب. ﴿لِي﴾ خبر مقدم، لأن ﴿بِكُمْ﴾ متعلق بمحذوف حال من ﴿قُوَّةً﴾ لأنه صفة نكرة قُدِّمت عليها. ﴿قُوَّةً﴾ اسم (أن) مؤخر، وجملة (أن) في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية، لفعل محذوف تقديره: لو ثبت كون قوة بكم لي.. لبطشت بكم أو أتمنى ثبوتَ قوة بكم لي، وجملة ﴿لو﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿أَوْ﴾ حرف عطف. ﴿آوِي﴾ فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على لوط. ﴿إِلَى رُكْنٍ﴾ متعلق به. ﴿شَدِيدٍ﴾ صفة ﴿رُكْنٍ﴾ والجملة الفعلية في محل الرفع خبر، لأن المحذوفة، تقديره: أو أني مؤوٍ إلى ركن شديد، وجملة أن المقدرة في محل الرفع معطوفة على جملة (أن) الأولى على كونها في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية، والتقديرُ: لو ثبَتَ كون قوة بكم لي، أو إيوائي إلى ركن شديد.. لبطشتُ بكم.
﴿قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ﴾.
﴿قَالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿يَا لُوطُ﴾ إلى آخر الآية، مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿يَا لُوطُ﴾ منادى مفرد العلم، وجملة النداء في محل النصب، مقول القول. ﴿إِنَّا﴾ ناصب واسمه. ﴿رُسُلُ رَبِّكَ﴾ خبره، ومضاف إليه، وجملة (إنَّ) في محل النصب مقولَ القول على كونها جوابَ النداء. ﴿لَنْ يَصِلُوا﴾ ناصب وفعل وفاعل. ﴿إِلَيْكَ﴾ متعلق به، والجملة الفعلية مفسرة للجملة التي قبلها على كونها مقول القول. وقال أبو حيان: والجملة من قوله: ﴿لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ﴾ موضحة للذي قبلها، لأنهم إذا كانوا رسل الله، لن يصلوا إليه، ولم يقدروا على ضرره، ثم أمروه بأنْ يَسْرِيَ بأهله، انتهى. ﴿فَأَسْرِ﴾ (الفاء) عاطفة. (أسر) فعل أمر مبني على حذف حرف العلة، وهي الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، وفاعله ضمير يعود على لوط. ﴿بِأَهْلِكَ﴾ جار ومجرور حال من فاعل (أسْر)؛ أي: متلبسًا بأهلك، والجملة في محل النصب بالقول معطوفة على الجملة التي قبلها. ﴿بِقِطْعٍ﴾ (الباء) حرف جر بمعنى (في). (قطع) مجرور به، الجار والمجرور متعلق (بأسر). ﴿مِنَ اللَّيْلِ﴾ صفه لـ (قطع).
{وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ
193
أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ}.
﴿وَلَا يَلْتَفِتْ﴾ جازم ومجزوم. ﴿مِنْكُمْ﴾ حال من ﴿أَحَدٌ﴾. ﴿أَحَدٌ﴾ فاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿فَأَسْرِ﴾. ﴿إِلَّا امْرَأَتَكَ﴾ بالنصب على الاستثناء من الأهل، أو من ﴿أَحَدٌ﴾ أو بالرفع على البدلية من ﴿أَحَدٌ﴾. ﴿إنه﴾ ناصب واسمه. ﴿مُصِيبُهَا﴾ خبره، وجملة (إن) مسوقة لتعليل الاستثناء على كونَها مقولَ القول. ﴿مَا أَصَابَهُمْ﴾ (ما) موصولة، أو موصوفة في حل الرفع فاعل لـ (مصيب). ﴿أَصَابَهُمْ﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على (ما)، والجملة صلة لـ (ما) أو صفة لها. وعبارة أبي حيان هنا: والضمير في ﴿إنه﴾ ضمير الشأن، و ﴿مُصِيبُهَا﴾ مبتدأ و ﴿مَا أَصَابَهُمْ﴾ الخبر. ويجوز على مذهب الكوفيينَ أن يكونَ ﴿مُصِيبُهَا﴾ خبر (إن) و ﴿مَا أَصَابَهُمْ﴾ فاعل به، لأنهم يجيزون إنه قائم أخواك. ومذهب البصريين أن ضميرَ الشأن لا يكون خبره إلا جملة مصرحًا بجزئيها، فلا يجوز هذا الإعراب عندهم، انتهت. ﴿إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ﴾ ناصب واسمه، وخبره، والجملة في محل النصب مقول القول. ﴿أَلَيْسَ﴾ (الهمزة) للاستفهام التقريري. ﴿ليس الصبح﴾ فعل ناقص واسمه. ﴿بِقَرِيبٍ﴾ خبره و (الباء) زائدة، والجملة في محل النصب مقول القول.
﴿فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (٨٣)﴾.
﴿فَلَمَّا﴾ (الفاء) فاء الفصيحة؛ لأنها أفصَحَتْ عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عَرفْتَ ما قالوا له، وأردتَ بيانَ عَاقِبَةِ أمرهم.. فأقول لك. ﴿لما جاء أمرنا﴾ ﴿لَمَّا﴾ حرف شرط. ﴿جَاءَ أَمْرُنَا﴾ فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ (لما). ﴿جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا﴾ فعل وفاعل، ومفعولان، والجملة جواب (لما) وجملة (لما) في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. ﴿وَأَمْطَرْنَا﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿جَعَلْنَا﴾. ﴿عَلَيْهَا﴾ متعلق به. ﴿حِجَارَةً﴾ مفعول ﴿أمطرنا﴾. ﴿مِنْ سِجِّيلٍ﴾ جار ومجرور صفة لـ ﴿حِجَارَةً﴾. ﴿مَنْضُودٍ﴾ صفة لـ ﴿سِجِّيلٍ﴾. ﴿مُسَوَّمَةً﴾ حال من ﴿حِجَارَةً﴾. ﴿عِنْدَ رَبِّكَ﴾ متعلق بـ ﴿مُسَوَّمَةً﴾. ﴿وَمَا﴾
194
(الواو) عاطفة، أو حالية، أو استئنافية. (ما) حجازية، أو تميمية. ﴿هِيَ﴾ اسمها، أو مبتدأ. ﴿مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ متعلق ﴿بِبَعِيدٍ﴾. ﴿بِبَعِيدٍ﴾ خبر (ما) أو خبر المبتدأ و (الباء) زائدة، والجملة الاسمية معطوفة على جملة ﴿أمطرنا﴾ أو حال من ﴿حِجَارَةً﴾ أو مستأنفة.
﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ﴾.
﴿وَإِلَى مَدْيَنَ﴾ جار ومجرور متعلق بمحذوف تقديره، ولقد أرسلنا إلى مدين، وعلامة جره الفتحة؛ لأنه اسم لا ينصرف للعلمية والعجمة، والجملة المحذوفة، معطوفة على جملة قوله: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا﴾. ﴿أَخَاهُمْ﴾ مفعول ﴿أَرْسَلْنَا﴾ المحذوف. ﴿شُعَيْبًا﴾ عطف بيان منه. ﴿قَالَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على شعيب والجملة مستأنفة. ﴿يَا قَوْمِ﴾ إلى قوله: ﴿قَالُوا يَا شُعَيْبُ﴾ مقول محكي، وإن شئت.. قلت: ﴿يَا قَوْمِ﴾ منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾.
﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ﴾.
﴿اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها جوابَ النداء. ﴿مَا﴾ نافية. ﴿لَكُمْ﴾ خبر مقدم. ﴿مِنْ إِلَهٍ﴾ مبتدأ مؤخر. ﴿غَيْرُهُ﴾ صفة ﴿إِلَهٍ﴾، والجملة الاسمية مسوقة لتعليل ما قَبلَها على كونَها مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ﴾ فعل وفاعل ومفعول. ﴿وَالْمِيزَانَ﴾ معطوف على ﴿الْمِكْيَالَ﴾ والجملة معطوفة على جملة ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ على كونها مَقُولَ ﴿قَالَ﴾. ﴿إِنِّي﴾ ناصب واسمه. ﴿أَرَاكُمْ﴾ فعل ومفعول به؛ لأنَّ رأى بصرية. ﴿بِخَيْرٍ﴾ حال من ضمير المخاطبين؛ أي: متلبسين ﴿بِخَيْرٍ﴾ وفاعله ضمير يعود على ﴿شعيب﴾، وجملة ﴿أَرى﴾ في محل الرفع خبر (إن)، وجملة إنَّ مسوقة لتعليل ما قبلها على كونِهَا مقولَ القول. ﴿وَإِنِّي﴾ ناصب واسمه. ﴿أَخَافُ﴾ فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على شعيب. ﴿عَلَيْكُمْ﴾ متعلق به. ﴿عَذَابَ يَوْمٍ﴾ مفعول به، ومضاف إليه. ﴿مُحِيطٍ﴾ صفة مجازية لـ ﴿يَوْمٍ﴾ وجملة ﴿أَخَافُ﴾ في محل
195
الرفع خبر (إنَّ) وجملة (إن) في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها عِلَّةً ثانيةً لما قبلها.
﴿وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥)﴾.
﴿وَيَا قَوْمِ﴾ منادى مضاف معطوف على المنادى الأول. ﴿أَوْفُوا الْمِكْيَالَ﴾ فعل وفاعل ومفعول. ﴿وَالْمِيزَانَ﴾ معطوف عليه. ﴿بِالْقِسْطِ﴾ حال من (واو) ﴿أَوْفُوا﴾؛ أي: متلبسين ﴿بِالْقِسْطِ﴾ وجملة ﴿أَوْفُوا﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها جوابَ النداء. ﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعولان مجزوم بـ (لا) الناهية، والجملة معطوفة على جملة ﴿أَوْفُوا﴾. ﴿وَلَا تَعْثَوْا﴾ فعل وفاعل مجزوم بـ (لا) الناهية. ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ متعلق به. ﴿مُفْسِدِينَ﴾ حال مؤكدة لفاعل ﴿تَعْثَوْا﴾ والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿أَوْفُوا﴾.
﴿بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦)﴾.
﴿بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ﴾ مبتدأ وخبر. ﴿لَكُمْ﴾ متعلق به، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿إن﴾ حرف شرط. ﴿كُنْتُمْ﴾ فعل ناقص، واسمه في محل الجزم بـ (إن) على كونه فِعلَ شرط لها. ﴿مُؤْمِنِينَ﴾ خبره، وجواب (إن) معلوم ما قبلها تقديره: فهي خير لكم، وجملة إن الشرطية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَمَا﴾ الواو عاطفة. (ما) نافية أو حجازية. ﴿أَنَا﴾ مبتدأ أو اسمها. ﴿عَلَيْكُمْ﴾ متعلق ﴿بِحَفِيظٍ﴾. ﴿حفيظ﴾ خبر المبتدأ أو خبر (ما) و (الباء) زائدة، والجملة الاسمية معطوفة على جملة قوله: ﴿بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ﴾. والله أعلم.
التصريف ومفردات اللغة
﴿فَمَا لَبِثَ﴾؛ أي: فما تأخر، وأَبْطَأَ مجيؤه. ﴿بِعِجْلٍ حَنِيذٍ﴾ والعجل، ولدُ البقر، والحنيذُ المشوي على الحجارة المحماة في حفرة في الأرض من غير تنور. وفي "المختار": حَنَذَ الشاة شَوَاها، وجعل فَوْقَها حجارة محماة لينضجها، فهو حنيذ، وبابه ضرب، اهـ. وقيل: هو المشويُّ بحر الحجار من غير أن تمسَّه
196
النار، وهو فعيل بمعنى مفعول كما مر. ﴿لَا تَصِلُ إِلَيْهِ﴾ لا تمتد للتناول. ﴿نَكِرَهُمْ﴾، وفي "المختار" نكره بالكسر نكرًا بضم النون، وأنكره واستنكره كله بمعنى، اهـ. ويقال: نكرته، وأنكرته، واستنكرته إذا وجدتَه على غير ما تعهَد، ومنه قول الشاعر:
فَأنْكَرَتْنِي ومَا كَانَ الَّذِيْ نَكرَتْ مِنَ الْحَوَادِثِ إِلَّا الشَّيْبَ وَالصَّلَعَا
فجمع بين اللغتين، ومما جمع فيه بين اللغتين قول الشاعر:
إِذَا أَنْكَرَتْنِيْ بَلْدَةٌ أَوْ نَكَرْتُهَا خَرَجْتُ مَعَ الْبَازِيْ عَلَيَّ سَوَادُ
وقيل: يقال: أنكرت لما تراه بعينك، ونَكِرْتَ لما تراه بقلبك. قيل: وإنما استنكر منهم ذلك؛ لأنَّ عادتهم أن الضيف إذا نزل بهم، ولم يأكل من طعامهم ظنوا أنه قد جاء بِشَر. ﴿وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً﴾ وأوجس القلبُ فَزَعًا إذا أحسَّ به. وفي "البيضاوي": الإيجاسُ: الإدراك. وقيل: الإضمار، اهـ. وفي "السمين": الإيجاس: حديث النفس، وأصله: من الدخول، كأنه دَاخله، والوجيس ما يَعْترِي النفسَ أوانَ الفزع، ووَجَسَ في نفسه كذا، أي: خَطَرَ بها يَجِسُ وَجْسًا، ووجُوسًا ووَجِيسًا، اهـ.
﴿فَضَحِكَتْ﴾ أصل الضحك: انبساط الوجه مِن سرُورَ يحصل للنفس، ولظُهُور الأسنان عنده سميت مقدمات الأسنان الضواحك، ويستعمل في السُّرور المجرد، وفي التعجب المجرد أيضًا. ثُم للعلماء في تفسير هذا الضحك قولان: أحدهما: أنه الضحك المعروف، وعليه أكثر المفسرين. والقول الثاني: أنه بمعنى حاضت في الوقت، كما قاله مجاهد، وعكرمة، وأنكر بعض أهل اللغة ذلك. قال الراغب: وقول مَنْ قال: حاضت، فليس ذلك تفسيرًا لقوله: فضحكت، كما تصوره بعض المفسرين، اهـ "خازن" بتصرف. ﴿وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ﴾ الوَراءُ فعالٌ، ولامه همزة عند سيبويه، وأبي علي الفارسي، وياء عند العامة، وهو من ظروف المكان بمعنى خلف، وقدام، فهو من الأضداد، وقد يستعار للزمان كما في هذا المكان، اهـ "روح المعاني". ﴿يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ﴾ أصلها: يا ويلى وهي كلمة تُقَال حين يَفْجَأُ الإنسان أمر مهم من بلية، أو فَجِيعَة، أو فضيحة على جهة التعجب منه، أَو
197
الاستنكار له، أو الشكوى، وإيضاحُه أنه أضاف الويلَ إلى ياء النفس، فاستثقلت الياءِ على هذه الصورة، وقبلَها كسرة ففُتِحَ ما قَبلَها، فانقلبت الياءُ ألفًا؛ لأنها أخف من الياء، والكسرة، ورسمت بالياء، اهـ "كرخي".
وفي "السمين" الظاهر كون الألفِ بدلًا من ياء المتكلم، ولذلك أمالَها أبو عمرو، وعاصم في رواية، وبها قرأ الحسن: (يا ويلتي) بصريح الياء. وقيل: هي ألف الندبة، ويوقف عليها بهاء السكت، اهـ. ﴿بَعْلِي﴾ البعل: الزوج، وجمعه بعولة، ومعناه في الأصل، المستعلي على غيره كما مر في مبحث التفسير. ﴿أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ أي: من قدرته وحكمته. ﴿حَمِيدٌ مَجِيدٌ﴾ الحميدُ: هو الذي يُحْمَد على كل أفعاله، وهو المستحق؛ لأن يحمد في السراء والضراء، والشدة والرخاء. والمجيد: الواسع الكريم، وأصل المجد في كلامهم: السعة، اهـ "خازن". وفي "القاموس": ومجد كنصر، وكرم، مجدًا، ومجادةً فهو ماجد، ومجيد، وأمجده، ومجده، وعظَّمه، وأثنى عليه، اهـ. وقال الغزالي، رحمه الله: المجيد الشريف ذَاتُهُ، الجميل أفعاله، الجزيل عطاؤه ونواله، فكانَ شريفَ الذات إذا قارنه حُسْن الفعالِ يسمَّى مَجِيدًا.
﴿فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ﴾ الروع بالفتح الخوف، والفزع، يقال: ارتاع من كذا إذا خاف منه، وبضم الراء القلبَ لكن القراءة بالفتح. ﴿لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ﴾ الحليمُ الذي لا يُحِبُّ المعاجلة بعقاب، والـ ﴿أَوَّاهٌ﴾ الكثير التأوه مما يسوء ويؤلم. والمنيب الذي يرجع إلى الله في كل أمر. ﴿سِيءَ بِهِمْ﴾؛ أي: وقع فيما ساءه وغمه بمجيئهم. ﴿ذَرْعًا﴾ الذرعُ، والذراع: منتهى الطاقَة، يقال: ما لي به ذرع، ولا ذراع؛ أي: ما لي به طاقة، ويقال: ضقت بالأمر ذرعًا، إذا صَعُبَ عليك احتماله. قال الأزهري: الذرعُ يوضع موضعَ الطاقة، والأصل فيه: أنَّ البعير يَذْرَعُ بيديه في سيره ذرعًا على قَدْرِ سعةِ خطوه، فإذا حُمِلَ عليه أكثر من طَوْقِه، ضاق ذرعه عن ذلك، وضَعُف، ومدَّ عُنُقَه، فجُعِلَ ضيق الذرع عبارة عن ضيق الوسع، والطاقة، فمعنى: وضاق بهم ذرعًا؛ أي: لم يجد من ذلك المكروه مَخْلَصًا. وقال غيره: معناه: وضَاقَ بهم قَلْبًا، وصدرًا، ولا يعرف أصله إلَّا أن يقال: إنّ الذرع كنايةٌ عن الوُسْعِ، والعرب تقول: ليس هذا في يدي يعنون ليس
198
هذا في وسعي، لأن الذِّرَاعَ من اليد، ويقال: ضَاق فلان ذرعًا بكذا، إذا وقع في مكروه، ولا يطيق الخروجَ منه، وذلك أن لوطًا عليه السلام، لمَّا نَظَرَ إلى حُسْنِ وجوههم، وطيب رائحتهم، أشفَقَ عليهم من قومه، وخَافَ أن يَقْصدُوهم بمكروه، أو فاحشة، وعلم أنه سيحتاج إلى المدافعة عنهم، اهـ "خازن". والـ ﴿عَصِيبٌ﴾ الشديد، الأذى، كأنه قد عُصِبَ به الشرُّ، والبلاء؛ أي: شُدَّ به مأخوذ من العصابة التي يشد بها الرأس، اهـ "خازن".
﴿يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ﴾ يقال: هرع وأُهرع بالبناء للمفعول إذا حمل على الإسراع، وأعجل، فمعنى: ﴿يُهْرَعُونَ﴾ المبني للمفعول يساقون، ويُدْفَعون. وقال الكسائي: لا يكون الإهراعُ إلا إسراعًا مع رِعْدةٍ مِنْ بَرْدٍ، أو غَضَبٍ، أو حمًّى أو شهوةً. وفي "القاموس" والهَرَعُ محَرَّكٌ، وكغراب، والإهراع مشي في اضطراب وسرعة، وأقْبَلَ يُهْرَعُ بالضم، وأُهرع بالبناء للمجهول، فهو مُهْرَعٌ مَن غَضَب، أو خوف، وقد هَرعَ كفرح، ورجل هَرِعٌ سريع البكاء، اهـ. ﴿هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ﴾ في الآية سؤال كما مرَّ، وهو أن يقال: إن قولَه: ﴿هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ﴾ أفعَل تفضيلٍ فيقتضي أن يكونَ الذي يطلبونه من الرجال طاهرًا، ومعلوم أنه محرَّمٌ فاسدٌ نَجِسٌ لا طهارةَ فيه ألبتةَ، فكيف قال هن أطهر لكم؟. والجواب عن هذا السؤال أنَّ هذا جارٍ مجرى قوله تعالى: ﴿أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢)﴾، ومعلوم أن شجرةَ الزقوم لا خَيْرَ فيها، اهـ "خازن".
﴿وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي﴾؛ أي: لا تخجلوني في شأن ضيفي، فإنه إذا خُزي ضَيفَ الرجل، أو جَارُه، فقد خزِيَ الرجُلُ، وذلك من عراقة الكرم وأصالة المروءة، اهـ "كرخي". والضيفُ في الأصل: مصدر، ثم أطلق على الطارق لَيْلًا إلى المضيف، ولذلك يَقَعُ على المفرد، والمذكر، وضِدَّيْهِما بلفظ واحد، وقد يثنَّى فيقال: ضيفان، ويجمع فيقال: أضياف، وضيوف، كأبيات، وبيوت، وضيفان كحوض وحيضان، اهـ "سمين". والـ ﴿رَشِيدٌ﴾ ذو الرُّشد والعقل. ﴿لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً﴾؛ أي: على الدفع بنفسي. ﴿أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾ من أرباب العصبيات القوية الذين يَحْمُونَ اللاجئين، ويُجِيرون المستجيرينَ. والـ ﴿رُكْنٍ﴾ بسكون الكاف وضمها: الناحيةُ مِن جبل وغيره، ويُجْمَعُ على أركان وأَرْكُن.
199
﴿فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ﴾ السري، بالضم، والإسراء في الليل كالسير في النهار. ﴿بِأَهْلِكَ﴾ وهم بنتاه فلم يخرج من القرية إلا هو وبنتاه فقط. والقطع من الليل الطائفة منه، والقطع هنا: نصف الليل؛ لأنه قطعة منه مساوية لباقيه.
والسِّجِّيلُ الطين المتحجّر كما جاء في الآية الأخرى.
﴿حِجَارَةً مِنْ طِينٍ﴾ قال الراغبُ: هو حجر وطين مختلط، أصله فارسي فعرب. ﴿مَنْضُودٍ﴾ صفة لـ ﴿سِجِّيلٍ﴾ أي وضع بعضه على بعض، وأُعِدَّ لعذابهم. والنضد جعل الشيء بعضه فوق بعض، ومنه: ﴿وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (٢٩)﴾ أي متراكب، والمرادُ: وصف الحجارة بالكثرة. ﴿مُسَوَّمَةً﴾؛ أي: لها سومة بالضم، أي علامة خاصَّة من التسويم، وهو العلامة. وفي "البيضاوي": مُسَوَّمة؛ أي: عليها اسم من يُرْمَى بها. وقيل: مُعَلَّمَة للعذاب. وقيل: مُعَلَّمة ببياض، أو حمرة، أو بسيما تتميز بها عن حجارة الأرض. ﴿عِنْدَ رَبِّكَ﴾؛ أَي: في علم ربك. ﴿وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ﴾ و (نقص) يتعدى لاثنين إلى أولهما بنفسه، وإلى ثانيهما بحرف الجر، وقد يحذف تقول: نقصت زيدًا حقه، ومن حقه، وهو هنا كذلك إذ المراد، ولا تنقصوا الناسَ من المكيال والميزان. ويجوز أن يكونَ متعديًا لواحد على معنَى لا تَقَالُّوا، وتطففوا، ويجوز أن يكونَ مفعولًا أول، والثاني: محذوف، وفي ذلك مبالغة، والتقديرُ: ولا تنقصوا المكيالَ والميزانَ حَقَّهما الذي وجب لهما، وهو أبلغ في الأمر بوفائهما، اهـ "سمين". والمكيال، والميزان: الآلة التي يوزن، أو يكال بهما، ﴿وَلَا تَعْثَوْا﴾ مِنْ عَثِيَ كفرح، فمصدره عِثي كعصي، وهو القياسي أو عثو كسمو، وهو سماعيٌّ.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ﴾ وفي قوله: ﴿لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ﴾.
ومنها: نداء غير العاقل في قوله: ﴿يَا وَيْلَتَى﴾ تنزيلًا لها منزلةَ العاقل.
200
ومنها: الاستفهام التعجبي في قوله: ﴿أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ﴾.
ومنها: الطباق بين الروع والبشرى في قوله: ﴿فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى﴾.
ومنها: جمع المؤكدات في قوله: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ﴾ إلخ، لبيان الحامل له على المجادلة، وهو رِقَّةُ قَلْبِه وفَرْطُ رحمته.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾ لأنه كنايةٌ عن العذاب الذي قضاه الله عليهم.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا﴾ لأنه كناية عن ضيق الوسع، والطاقة.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ﴾ شبه اليوم الذي اشتمل على الشر، والأذى بالرأس الذي عُصِب بالعصابة، بجامع الاشتمال في كل.
ومنها: الاستفهام التوبيخي التعجبي في قوله: ﴿أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ﴾.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾.
قال الشريف الرضي: وهذه استعارة، والمراد به قومه، وعشيرته، جعلهم ركنًا له؛ لأنَّ الإنسان يلجأ إلى قبيلته، ويَستند إلى أعوانه كما يستند إلى ركن البناء الرَّصين، وجاء جواب لو محذوفًا تقديره: لَحُلْتُ بينكم وبين ما هممتم به من الفساد، والحذفُ ههنا أبلغ؛ لأنه يوهم بعظيم الجزاء، وغليظ النكال.
ومنها: الجناس المغاير في قوله: ﴿إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ﴾.
ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: ﴿إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ﴾.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿عَالِيَهَا سَافِلَهَا﴾.
ومنها: حكاية الحال الماضية في قوله: ﴿يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ﴾ وحقُّ العبارة أن يقال: جَادَلنا.
201
ومنها: المجاز العقلي في قوله: ﴿عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ﴾ أُسند الإحاطةَ لليوم مع أنَّ اليَوْمَ ليس بِجِسْمٍ باعتبار أنَّ العذَابَ يكون فيه فهو من إسناد ما للحال إلى المحل: كنهاره صائم.
ومنها: الإضافة (١) للتشريف في قوله: ﴿بَقِيَّتُ اللَّهِ﴾ كما في بيتِ الله، و ﴿نَاقَةُ اللَّهِ﴾، فإنَّ ما بقي بعد إيفاء الكيل، والوزن من الرزق الحلال، يستحق التشريفَ، كما ذكره في "روح البيان".
ومنها: ذِكْرُ الخاصِّ ثم العام، ثم الأعَمَّ مبالغةً في النصح، ولطفًا في استدراجهم إلى طاعة الله تعالى في قوله: ﴿وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ﴾ إلى آخر الآية الثانية: حَيْثُ نُهوا (٢) أولًا عن القبيح الذي كانوا يتعاطونه، وهو نقص المكيال، والميزان، وفي التصريح بالنهي نعي على المنهي، وتعيير له، وأمروا ثانيًا بإيفائهما مصرَّحًا بلفظهما، ترغيبًا في الإيفاء، وبَعْثًا عليه، وجيء بالقسط، ليكون الإيفاء على جهة العدل والتسوية، وهو الواجب؛ لأنَّ ما جاوزَ العَدْلَ فضل، وأمر مندوب إليه، ونهوا ثَالِثًا عن نقص الناس أشياءهم، وهو عام في الناس، وفيما بأيديهم من الأشياء كانَتْ مما تكال وتوزن، أو غير ذلك، ونهوا رابعًا عن الفساد في الأرض، وهو أعم من أن يكون نقصًا، أو غيره فبَدَأَهم أولًا بالمعصية الشنيعة التي كانوا عليها بعد الأمر بعبادة الله تعالى، ثُمَّ ارتقى إلى عام، ثم إلى أعم منه، وذلك مبالغة في النصح لهم، ولُطْفٌ في استدراجهم إلى طاعة الله تعالى.
ومنها: الزيادة والحَذْفُ في عِدّةِ مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
202
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (٨٨) وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (٩٠) قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (٩١) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٩٢) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (٩٣) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (٩٤) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (٩٥) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (٩٩) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (١٠١) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ...﴾ الآيات، مناسبةُ هذه الآيات لما قبلها؛ أنَّ الله سبحانه وتعالى لما ذكر (١) أمر شعيب لقومه بعبادة الله
(١) المراغي.
203
وحدَه، وعدم النقص في الكيل والوزن.. ذكر هنا رَدَّهم على كلا الأمرين، فردوا على الأول، بأنهم إنما ساروا على منهج آبائهم، وأسلافهم، في التدين، والإيمان، ورَدُّوا على الثاني بأنهم أحرارٌ في أموالهم يتصرفون فيها بما يجلب لهم المصلحةَ فيها.
ثم أعاد النصحَ لهم بأنه لا يريد لهم إلا الإصلاح، وأنه يخشى أن يصيبَهم مثل ما أصابَ الأمم قبلَهم، كقوم نوح أو قوم هود، وما الأحداث التي اجتاحَتْ قوم لوط ببعيدَة عنكم، فعليكم أن تتوبوا إلى ربكم، عَلَّه أن يَرْحَمَكم فهو واسع الرحمة، محب لمن تَابَ وأناب إليه.
وعبارة أبي حيان هنا: مناسبتُها لما قَبْلَها: أنه لما أمرهم (١) شعيب بعبادة الله، وترك عبادة أوثانهم، وبإيفاء المكيال والميزان، رَدُّوا عليه على سبيل الاستهزاءِ والهُزْءِ بقولهم: ﴿أَصَلَاتُكَ﴾، وكانَ كثيرَ الصلاة، وكان إذا صلى تغامزوا، وتضاحكوا، ﴿تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾ مقابلُ لقوله: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ ﴿أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ﴾ أو أنْ نفعلَ في أموالنا ما نشاء مقابلٌ لقوله: ﴿وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ﴾.
قوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنهم (٢) لما جادلوه أولًا بالتي هي أحسن، وعميَت عليهم العلل، وضاقَت بهم الحِيل، ولم يجدوا للمحاورة ثمرةً، تحولوا إلى الإهانة، والتهديد، وجعلوا كَلامَهُ من الهذيان، والتخليط الذي لا يفهم معناه، ولا تُدْرَكُ فحواه، فقابلهم بالإنذار بقرب الوعيد، ونزول العذاب الشديد.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (٩٦)...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها، أن الله سبحانه وتعالى، لمّا فرغ من ذكر قصة شعيب، صهر موسى، مع قومه.. أرْدفَ بذكر قصص موسى مع فرعون، وملأه، للإعلام بأنَّ عاقبةَ فرعون وأشراف قومه اللعنةُ والهلاك، ككفار أولئك الأمم
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
204
الظالمين، وإن كان عذابُ الخزي وهو الغرق في البحر.. لم يعم جَمِيعَ قومه، بل لَحِقَ من اتبع موسى، وسار أثره للأسباب التي سلف ذكرها في سورة الأعراف.
قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ...﴾ الآيات، مناسبةُ هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (١) قصص الأمم الماضية، والقرون السالفة مع الرسل الذين أُرسِلوا إليهم.. نَبَّه إلى ما في ذكرها من عظة واعتبار بقوله: ﴿مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ﴾ فالسامعُ لها، والقارئ يلين قلبه، وتخضع نفسه، فيحمله ذلك على النظر فيها، والاعتبار بها، إلى ما في إخباره - ﷺ - بها من غير مطالعة كتب، ولا مُدَارَسَة مع معلم من عظيم الدلالة على نبوته - ﷺ -؛ إذ أنَّ هذا لا يكونُ إلا بوحي من العليّ الأعلى، أتاه به روح القدس الأمين.
التفسير وأوجه القراءة
٨٧ - وقوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ﴾ إلخ، مستأنفة (٢) واقعة في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قالوا لشعيب حين قال لهم ما قال؟ والاستفهام فيه للإنكار عليه، والاستهزاء؛ أي: قالوا: يا شعيب أصلاتك التي هي من نتاج الوسوسة، وفعل المجانين تأمرك بـ ﴿أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾؛ أي: بأن نترك ما سارَ عليه آباؤنا جيلًا إثرَ جيل من عبادة الأوثان والأصنام، وإنما جعلوه مأمورًا مع أن الصَّادِرَ عنه إنما هو الأمر بعبادة الله، وغيرها من الشرائع؛ لأنه عليه السلام لم يكن يأمرهم من تلقاء نفسه، بل بوحي من ربه، ويبلِّغهم أنه مأمور بذلك، وإسنادُ الأمر إلى الصلاة دون غيرها من العبادات؛ لأنه كانَ كثيرَ الصلاة معروفًا بذلك، حتى إنهم كانوا إذا رأوه يُصلِّي تغامزوا، وتضاحكوا، فكانت هي من بين الشعائر ضُحْكة لهم. فقوله: ﴿أَنْ نَتْرُكَ﴾ فيه أنَّ الترك فعلهم، لا فعل شعيب، وهو المأمور، والإنسان يؤمر بفعل نفسه، أجيب عنه: بأنَّ الكلامَ على حذف مضاف، تقديره: هل هي تأمرك بتكليفك إيانا تَرْك عبادة ما يعبد آباؤنا، إلخ، والتكليف إذًا من فعله، ذكره في "الجمل". أجابوا بذلك أمره عليه
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
205
السلام إيَّاهم بعبادة الله وحده المتضمن لنهيهم عن عبادة الأوثان، وقوله: ﴿أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ﴾ جواب عن أمره بإيفاء الحقوق، ونهيه عن البخس والنقص والعثي، معطوف على (ما) في قوله: ﴿مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾ و (أو) بمعنى (الواو) لأنَّ ما كَلَّفهم به شعيب، هو مجموع الأمرين: لا أحَدَهما. والمعنى: أي (١): أو أن نترك فِعلَنا ما نشاء في أموالِنا من التصرفات من التطفيف، وغيره من التنمية، والاستغلال، والتصرف في الكسب بما نستطيع من الحذق، والاحتيال، والخديعة، فما ذاك إلا حَجْزٌ على حريتنا، وتَحَكُّمٌ في إرادتنا، وذكائنا.
والخلاصة: أنهم رَدُّوا عليه الناحِيَتَيْنِ الدينية، والدنيوية بما رأوا مِنْ شُبَهٍ مزيفة، وحجج عفنةٍ، والمعنى: أصلاتك تَأمُرَكَ أن نتركَ ما يعبدُ آباؤنا، وتأمركَ أن نترُكَ فِعْلَنَا في أموالنا ما نشاء من الأخذ والإعطاء والنقص والزيادة. وقال بعضهم: كان (٢) يَنْهَاهم عن تقطيع أطراف الدراهم والدنانير، وقصها فأرادوا به ذلك، والمعنى ما نشاءُ من تقطيعها.
فائدة: واعلم أنَّ أوَّلَ من استخرج الحديد، والفضة، والذهب من الأرض (هَوشنَكُ) في عصر إدريس عليه السلام، وكان ملكًا صالحًا داعيًا إلى الإِسلام وأول مَنْ وضع السكَّةَ على النقدين. (الضحاك). وإفسادُ السكة بأيِّ وجهٍ كان إفسادًا في الأرض، وسئل الحجاج عما يرجو به النجاةَ فذكر أشياء، منها: ما أفسدت النقود على الناس.
وقرأ الجمهور: أصلواتك بالجمع. وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وحفص، وابن وثاب (٣): ﴿أَصَلَاتُكَ﴾ على التوحيد. وقرأ (٤) الجمهور: ﴿أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ﴾ بالنون فيهما كما فسرناه سابقًا. وقرأ الضحاك بن قيس
(١) المراغي.
(٢) روح المعاني.
(٣) البحر المحيط وزاد المسير.
(٤) البحر المحيط.
206
الفهري، وابن أبي عبلة، وزيد بن علي بالتاء فيهما على الخطاب. ورُويت عن أبي عبد الرحمن والمعنى: أصلاتك تأمرك أن تَفْعَلَ أنت في أموالنا ما تشاء. وقرأ أبو عبد الرحمن وطلحة: ﴿نفعل﴾ بالنون، ﴿ما تشاء﴾ بالتاء على الخطاب. ورُويت عن ابن عباسٍ، والمعنى: أصلاتك تأمرك أن نَفْعَلَ نحن في أموالنا ما تشاؤه أنت، وندع ما نشاؤه نحن، وما يجري به التراضي بيننا. والحاصل: أنَّ مَنْ قرأ بالنون فيهما فقَوْله: ﴿أَوْ أَنْ نَفْعَلَ﴾ معطوف على قوله: ﴿مَا يَعْبُدُ﴾؛ أي: أن نتركَ ما يعبد آباؤنا وفعْلنا في أموالنا ما نشاء. ومن قرأ بالتاء فيهما أو بالنون فيهما، فمعطوفٌ على ﴿أَنْ نَتْرُكَ﴾؛ أي: تأمرك بترك ما يعبد آباؤنا، وفعلِك في أموالنا ما تشاء أو فعلِنا في أموالنا ما نشاء، و (أو) للتنويع، أي: تأمرك مرَّةً بهذا، ومرَّةً بهذا. وقيل: بمعنى الواو كما مر، والظاهر أن الذي كانوا يفعلونه في أموالهم هو بخس الكيل والوزن المقدم ذكره، ذكره أبو حيان في "البحر". ثم أتبعوا ذَلِك بما يدلُّ على السخرية، والهَزْءِ به فقالوا: ﴿إِنَّكَ﴾ يا شعيب ﴿لَأَنْتَ الْحَلِيمُ﴾؛ أي: الأحمق ﴿الرَّشِيدُ﴾؛ أي: السفيه بلغة مدين كما في "ربيع الأبرار"؛ أي: أنت ذُو الجهالة والسفاهة في الرأي والغواية في الفعل، بهوس الصلاة، لكنهم عكسوا القضية، تهكمًا واستهزاءً، كما يقال للبخيل: لو رآك حاتم، لاقتدى بك حاتم في سخائك، وللمستجهل، والمستخف فيقال: يا عالم، يا حليم، فهو إذًا (١) من قبيل الاستعارة التبعية، نزلوا التضادَ منزلةَ التناسب على سبيل الهزء، فاستعاروا الحِلم والرشد للسفه والغواية، ثُمَّ سَرَتِ الاستعارة منهما إلى الحليم الرشيد. وقيل: إنهم قالوا ذلك، لا على طريقة الاستهزاء، بل هو عندهم كذلك، وأنكروا عليه الأمر والنهي منه لهم بما يخالف الحلم والرشد في اعتقادهم؛ أي: كنتُ عندنا مشهورًا بأنك حليم رشيد، فكيف تنهانا عن دين ألفيناه من آبائنا.
٨٨ - ﴿قَالَ﴾ شعيب ﴿يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ﴾؛ أي: أخبروني ﴿إِنْ كُنْتُ﴾ إيرادُ حرف الشك باعتبار حال المخاطبينَ ﴿عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي﴾؛ أي: حجة واضحة، وبرهان نير من
(١) روح المعاني.
207
مالك أمري، عَبَّر بها عما أتاه الله تعالى من النبوة والحكمة، ردًّا على مقالتهم الشنعاء في جعلهم أمرَهُ ونهيَه غير مستند إلى سند؛ أي: قال (١): يا قوم أخبروني عن شأني، وشأنكم إن كنت على حجة واضحة من ربي، ومالك أمري فيما دعوتكم إليه، وما أمرتكم به، ونهيتكم عنه، فكان وحيًا منه لا رأيًا مني. ﴿وَرَزَقَنِي مِنْهُ﴾؛ أي: من لدنه، ومن عنده تعالى، وبإعانته بلا كدّ مني، ولا تعب في تحصيله، اهـ "بيضاوي". ﴿رِزْقًا حَسَنًا﴾؛ أي: كثيرًا، واسعًا، حلالًا، طيبًا، وقد كان ذلك بالحلال بلا تطفيف مكيال، ولا ميزان، ولا بخس لِحقِّ أحد من الناس فما أَقُولُه لكم صادِرٌ عن تَجْرِبةٍ في الكسب الطيب، وما فيه من خير وبركة لا عَنْ آراء نظرية ممن ليسَتْ له خبرة، فماذا أقول لكم غير الذي قلت عن وحي من ربي، وعن تجربة في مالي؟ هل يسعني بعد هذا التقصير في التبليغ والكتمان لأوامر الله تعالى، وقيل: أراد (٢) بالرزق النبوةَ والحكمةَ عَبَّر عنهما بذلك تنبيهًا على أنهما مع كونهما بينة، رزق حسن، كيف لا، وذلك مناط الحياة الأبدية له، ولأمته، وجوابُ الشرط محذوف لأنَّ إثباته في قصة نوح ولوط دَلَّ على مكانه، ومعنى الكلام ينادي عليه.
والمعنى: أخبروني إن كنت على حجة واضحة، ويقين من ربي، وكنت نبيًّا على الحقيقة.. فهل يصح لي أن أتبعَكم، وأشوبَ الحلال بالحرام، ولا آمركم بتوحيد الله، وتركِ عِبَادَة الأصنام، والكفِّ عن المعاصي، والقيام بالقسط، والأنبياء لا يبعثونَ إلَّا لذلك؟.
﴿وَمَا أُرِيدُ﴾ بنهيي إياكم عن التطفيف ﴿أَنْ أُخَالِفَكُمْ﴾؛ أي: مخالفتكم حال كوني مائلًا ﴿إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ﴾ يقال (٣): خالَفْتُ زيدًا إلى كذا، إذا قصدته، وهو مول عنك، وخالفته عنه إذا كان الأمر بالعكس؛ أي: لا أنهى عن شيء وأرتكبه من نقصان الكيل، والوزن؛ أي: أختارُ لكم ما أختارَ لنفسي، فإنه ليس
(١) المراغي.
(٢) روح المعاني.
(٣) روح المعاني.
208
بواعظ يعظ الناسَ بلسانه دون عمله. قال في "الإحياء": أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام: يا ابن مريم عِظْ نَفْسَك، فإن اتعظَتْ.. فعظ الناس، وإلا فاستحيي مني.
والمعنى: أي وما أريد بنهيي إياكم عما أنهاكم عنه من البَخْس والتطفيف أنْ أقصده بعد ما ولَّيْتم عنه فأستبدَّ به دونكم، مؤثرًا لنفسي عليكم، بل أنا مُسْتَمْسِكٌ به قبلكم.
﴿إِنْ أُرِيدُ﴾؛ أي: ما أريد بما أباشره من الأمر والنهي ﴿إِلَّا الْإِصْلَاحَ﴾؛ أي: إلَّا أَنْ أصلحكم بالنصيحة والموعظة ﴿مَا اسْتَطَعْتُ﴾؛ أي: مِقْدَارَ ما استطعته من الإصلاح. قال في "بحر العلوم": (ما) مصدرية، واقعة موقع الظرف؛ أي: ما أريد بالأمر والنهي إلا الإصلاح لكم، ودَفْعُ الفساد في دينكم، ومعاملاتكم مدةَ استطاعتي الإصلاحَ، وما دمت متمكنًا منه لا أترك جهدي في بيان ما فيه مصلحة لكم. وفي ذلك (١) إيماءٌ إلى إثبات عقله، ورشده، وحكمته، وإبطال لتهكمهم، واستهزائهم بتلقيبهم إياه بـ ﴿الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ﴾. ﴿وَمَا تَوْفِيقِي﴾؛ أي: وما كوني موفَّقًا هاديًا نبيًّا مُرْشِدًا ﴿إِلَّا بِاللَّهِ﴾؛ أي: إلَّا بتأييد الله سبحانه، وإقداري عليه، ومَنحي إياه، وهو مصدر من المبني للمفعول؛ أي: وما كوني موفَّقًا لتحقيق ما أقصده من إِصلاحكم. ﴿إِلَّا بِاللَّهِ﴾؛ أي: إلا بتأييده ومعونته، بل الإصلاحُ من حيث الخلق مستندٌ إليه، وإنما أنا من مباديه الظاهرة، والتوفيق (٢) يتعدَّى بنفسه، وباللام وبالباء، وهو تسهيل سبل الخير، وأصله موافقةُ فعل الإنسان القدرَ في الخير، والاتفاق هو: موافقةُ فعل الإنسان خيرًا كان أو شرًّا القَدَر. وقال في "التأويلات النجمية": التوفيقُ: اختصاص العبد بعناية أزلية، ورعاية أبدية، انتهى.
والخلاصة (٣): وما توفيقي لإصابة الحق والصواب في كل ما آتي، وما أَذَرُ
(١) المراغي.
(٢) روح المعاني.
(٣) المراغي.
209
إلَّا بهداية الله تعالى ومعونته.
﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ﴾ في جميع أموري التي منها أمركم ونهيكم ﴿وَإِلَيْهِ﴾ سبحانه وتعالى لا إلى غيره ﴿أُنِيبُ﴾؛ أي: أرجع في كل ما نابني من الأمور، وأفوض جميعَ أموري إلى ما يختاره لي من قضائه وقدره. والمعنى عليه توكلت في أداء ما كلفني به من تبليغكم ما أرسلت به إليكم، لا على حولي ولا قوتي؟ وإليه أرجع في كل ما أهمَّني في الدنيا، وهو الذي يُجازيني على أعمالي في الآخرة.
والخلاصة: أنه لا يرجو منهم أجرًا، ولا يَخْشَى منهم ضيرًا. وقيل: المعنى: ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ﴾ واعتمدت في ذلك معرضًا عما عداه، فإنه القادر على كل مقدور، وما عداه عاجزٌ محض في حد ذاته، بل معدوم ساقط عن درجة الاعتبار، بمعزل عن رتبة الاستمداد به في الاستظهار ﴿وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ وأرجع فيما أنا بصدده، في جميع أموري. فقوله: ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ﴾ إشارة إلى محض التوحيد الذي هو أقصى مراتب العلم بالمبدأ ﴿وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ إشارةٌ إلى معرفة المعاد.
فعلى (١) العاقل أن يجتهدَ في طريق الحق بالأذكار النافعة، والأعمال الصالحة، إلى أن يصلَ إلى مقام التوحيد الحقيقي، ثم إذا وصل إليه اقتفى بأثر الأنبياء، وكمل الأولياء في طريق النصح، والدعوة، ولم يرد إلا الإصلاح، تكثيرًا للأتباع المحمدية، وتقويمًا لأركان العالَم بالعدل، ونَظْمًا للناس في سلك الرشاد، والله ولي الإرشاد، وهو المبدء، وإليه الرجوع والمعاد.
٨٩ - ﴿وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ﴾؛ أي: لا يكسبنكم، ولا يحملنكم. وقرأ يحيى بن وثاب: ﴿يُجرمنكم﴾ بضم الياء من أجرم الرباعي، اهـ "قرطبي". ﴿شِقَاقِي﴾؛ أي: شقاقكم وعداوتكم وبُغضكم إياي ﴿أَنْ يُصِيبَكُمْ﴾؛ أي: على أن ينالكم عذاب ﴿مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ﴾ من الغرق ﴿أَوْ قَوْمَ هُودٍ﴾ من الريح ﴿أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ﴾ من الصيحة ﴿وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ﴾ يعني: أنهم أُهلكوا بسبب الكفر، والمعاصي في عهد قريب من عهدكم، فهم أقرب الهالكين منكم، فإن لم تعتبروا
(١) روح المعاني.
بمَنْ قبلهم من الأمم المعدودة، فاعتبروا بهم، ولا تكونوا مِثلَهم كَيْلا يصيبكم مثل ما أصابهم من العذاب.
والمعنى: أي (١) لا تحملنكم عداوتي وبغضي وفراق الدين الذي أنا عليه على الإصرار على ما أنتم عليه من الكفر بالله، وعبادة الأوثان، وبَخْس الناس في المكيال والميزان، فيصِيبَكم مثل ما أصاب قوم نوح من الغرق، أو قوم هود من الصرصر، أو قوم صالح من الرجفة ﴿وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ﴾ زمانًا، ولا مكانًا؛ أي: إن لم تعتبروا بمن ذكرنَا قبلُ لقدم عهد، أو بُعْدِ مكان، فاعتبروا بهؤلاء فإنهم بمرأىً منكم، ومسمع، وذلك أنهم كانوا حديثي عهد بهلاكهم، وأنهم كانوا جيرانَ قوم لوط، وبلادهم قريبة من بلادهم، فإنَّ بلادَهم قريبة من مَدْيَن، وإهلاكهم أقربُ الإهلاكات التي عَرَفها الناس في زمان شعيب، وقد يكون المعنى: ليسوا ببعيد منكم في الكفر والمساوي فاحذروا أن يَحلَّ بكم مثل ما حَلَّ بهم من العذاب؛ أي: وما معاملة قوم لوط من معاملتكم، وذنوبهم من ذنوبكم ببعيد؛ لأن الكفرَ كله من جنس واحد، وصفات الكفر قريب بعضها من بعض، قال الجوهري: القومُ يذكَّر ويؤنث، والبعيد من المصادر التي يستوي فيها المذكر، والمؤنث، والجمع، والمفرد، كالزفير، والصهيل، ولذلك أخبرَ عنه ببعيد، ثمَّ بعدَ ترهيبهم بالعذاب، أمَرَهُم بالاستغفار، والتوبة فَقَال:
٩٠ - ﴿وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ﴾ من عبادة الأوثان، والأصنام ﴿ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ﴾ من البخس، والنقصان في الكيل، والوزن، أو استغفروا بالإيمان، ثمَّ ارجعوا إليه بالطاعة ﴿إِنَّ رَبِّي﴾ سبحانه وتعالى ﴿رَحِيمٌ﴾؛ أي: كثير الرحمة للتائبين، والمستغفرين ﴿وَدُودٌ﴾؛ أي: محب لهم؛ أي: فاعل بهم من اللطف، والإحسان كما يفعل البليغُ المودة بمن يوده. قال في "المفاتيح": الودود مبالغة الوَادّ، ومعناه: الذي يُحِبُّ الخيرَ لجميع الخلائِق، ويحسن إليهم في الأحوال كلها، وقيل: المحبُّ لأوليائه.
(١) المراغي.
والمعنى (١): واطلبوا من ربكم المغفرة مما أنتم عليه من عبادة الأوثان، وبَخْسِ الناسِ حُقُوقَهم في المكيال والميزان، ثم ارجعوا إلى طاعته، والانتهاء إلى أمره ونهيه، وقوله: ﴿إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ﴾ تعليل لما قبله من الأمر بالاستغفار، والتوبة؛ أي: إن ربّي رحيم بمَنْ تَابَ، وأناب إليه لا يعذّبه بعد التوبة، كثيرَ الود والمحبة، فيحب من يتوب ويرجع إليه. وفي الآية إرشاد إلى أنَّ النَدَمَ على فعل الفساد والظلم بالتوبة، واستغفار الرب سبحانه وتعالى من أسباب خير الدنيا وخَير الآخرة.
٩١ - وقوله: ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال قوم شعيب استئناف بياني ﴿يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ﴾ الفقه: معرفةُ غرضِ المتكلم من كلامه؛ أي: لا نعرفُ ولا نَفْهَمُ ﴿كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ﴾؛ أي: كُلّ ما تقول من التوحيد، ومن إيفاء الكيل والوزن، وغير ذلك؛ قالوا ذلك استهانةً بكلامه، واحتقارًا به، كما يقول الرجل لصاحبه إذا لم يَعْبَأ بحديثه: ما ندري ما تقول، وإلا فشعيب كان يخاطبهم بلسانهم، وهم يَفْهَمُونه كلامَهُ، لكن لمَّا كان دعاؤه إلى شيءٍ خلاف ما كانوا عليه وآباءهم قالوا ما قالوا.
والمعنى: أي ما نعلم (٢) حقيقة كثير مما تقول لنا وتخبرنا به من بطلان عبادة آلهتنا، وقبح حرية التصرف في أموالنا، ومجيء عذاب يحيط بنا، وإصابتنا بمثل الأحداث التي أصابَتْ مَنْ قَبْلَنَا كان أمرها بيدك يصيب بها ربك من يشاء لأجلك.
وقيل المعنى (٣): أنك تأتينا بما لا عَهْدَ لنا به من الإخبار بالأمور الغيبية، كالبعث والنشور، ولا نَفقه ذلك؛ أي: لا نَفْهَمُه، كما نفهم الأمور الحَاضِرَةَ المشاهدةَ فيكون نفي الفقه على هذا حقيقةً لا مجازًا، وقيل: قالوا ذلك إعراضًا عن سماعه، واحتقارًا لكلامه مع كونه مفهومًا لديهم معلومًا عندهم، فلا يكون نفي الفقه حقيقةً بل مجازًا كما مر.
﴿وَإِنَّا لَنَرَاكَ﴾ يا شعيب ﴿فِينَا﴾؛ أي: فيما بيننا ﴿ضَعِيفًا﴾؛ أي: لا قوةَ لكَ ولا قدرةَ على شيء من الضر والنفع، تقدر بها على أن تمنع نَفْسَكَ منا، وتتمكن بها من مخالفتنا، ولا تستطيع أن تمتنع منا، إن أردنا أن نَبْطِشَ بك،
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني
(٣) روح المعاني.
212
ومعنى ذلك أنه ليست لك قوَّةُ جسمانية، أو المعنى: كنتَ مَهِينًا ذليلًا فينا لا عِز لك، ولا شرفَ عندَنا، وهذا لا يتعلق بالقوة الجسمانية، فإن ضعيفَ الجسم قد يكون وافرَ الحرمة بين الناس، وهو الظاهر؛ لأنَّ الكفَرةَ كانوا يزدرون بالأنبياء، وبأتباعهم المؤمنين. وقيل: إنه كان مصابًا ببصره. قال النحاس: وحكى أهل اللغة أن حمير تقول للأعمى: ضعيف؛ أي: قد ضَعف بذهاب بصره، كما يقال له: ضرير، أي: قد ضر بذهاب بصره.
﴿وَلَوْلَا رَهْطُكَ﴾؛ أي: ولولا حرمة قومك، ومراعاةُ جانبهم، وقالوا: ذلك كرامةً لقومه، لأنهم كانوا على دِينهم لا خوفًا، لأن الرهط من الثلاثة إلى السبعة، أو التسعة، أو العشرة، وهم ألوفٌ فكيف يخافون منْ رهطه؛ أي: ولولا عشيرتك الأقربون ﴿لَرَجَمْنَاكَ﴾؛ أي: لقَتَلْناك برمي الحجارة، حتى تُدْفن فيها، وقد يُوضَع الرجم موضع القتل، وإن لم يكن بالحجارة من حيثُ إنه سببه، ولأنَّ أوَّلَ القتل لبني آدم، وهو قتلُ قابيلَ لهابيل، لمَّا كان بالحجارة سَمَّى كُلَّ قتلٍ رَجَمًا، وإن لم يكن بها.
وقال عمر رضي الله عنه (١): تَعلَّموا أنْسَابَكُم، تعرفوا بها أصولَكم، وتصلوا بها أرحامكم؛ قالوا: ولو لم يكن في معرفة الأنساب إلا الاحتراز بها من صولة الأعداء ومنازعة الأكفاء.. لكان تَعَلُّمها من أحزم الرأي، وأفضل الصواب، ألا ترى إلى قول قوم شعيب: ولولا رهطك.. لرجمناك فأبْقَوا عليه لرهطه، يقال: أبقيتُ لفلان إذا أرعيت عليه ورحمته.
ثم أكدوا ما وصفوه به من الضعف بقولهم: ﴿وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ﴾؛ أي: وما (٢) أنت بذي عزة، ومنعة تحول بيننا وبين رجمك، وإنما نعزُّ رَهطَك على قلتهم؛ لأنهم منَّا، وعلى ديننا الذي نبذتَه وَراء ظهرك، وأهَنْته ودعوتنا إلى تركه لبطلانه في زعمك. والمعنى: أي: وما أنت بمكرم محترم حتى تمنعنا عزتك من رجمك، بل رهطُك هم الأعزة علينا، لكونهم من أهل ديننا، فإنما نكف عنك
(١) روح المعاني.
(٢) المراغي.
213
للمحافظة على حُرمتهم، وهذا دَيْدَنُ السفيه المحجوج، يقابل الحجج والآيات بالسبِّ والتهديد، وتقديم الفاعل المعنوي لإفادة الحصر والاختصاص، وإن كان الخبر صفةً لا فعلًا، و ﴿علينا﴾ متعلق بـ ﴿عزيز﴾ وجاز لكون المعمول ظرفًا، والباء مزيدة.
وفي الآية إشارة (١) إلى أنَّ مَنْ كَانَ على الله ﴿بِعَزِيزٍ﴾ فإنه ليس على الجاهل بعزيز، وذلك؛ لأنَّ العزةَ والشرفَ عند الجهلاء خُصوصًا في هذا الزمان الفاسدِ بالجاه والمال، لا بالدين والكمال، وقد قال النبي - ﷺ -: "إن الله لا ينظر إلى صوركم، وأموالكم، بل ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"، يعني: إذا كانت لكم قلوب وأعمال صالحةٌ تكونون مقبولينَ مُطْلَقًا سواء كانت لكم صور حسنة، وأموال فاخرةً أم لا؟ وإلا فلا.
٩٢ - فوبَّخهم شعيب على سفاهتهم، كما حكى سبحانه عنه ﴿قَالَ﴾ شعيب في جوابهم، والهمزة في قوله: ﴿يَا قَوْمِ أَرَهْطِي﴾ للاستفهام الإنكاري التوبيخي ﴿أَعَزُّ عَلَيْكُمْ﴾ وأهيب وأكرم عندكم ﴿مِنَ اللَّه﴾ سبحانه وتعالى حتى كَانَ امتناعكم عن رجمي بسبب انتسابي إليهم، وأنهم رهطي لا بسبب انتسابي إلى الله تعالى الذي أدعوكم إليه بأمره، وكان (٢) الظاهرُ أن يقالَ مني إلا أنه قيل: من الله للإيذان بأنَّ تَهَاوُنَهُم به وهو نبي الله تهاوُنٌ بالله تعالى، وإنما أَنْكَر (٣) عليهم أعَزَّيَّةَ رهطه منه تعالى مع أنَّ ما أثبتوه، إنما هو مطلق عزة رهطه، لا أعزيتهم منه تعالى مع الاشتراك في أصل العزة، لتكرير التوبيخ، حيث أنْكَرَ عليهم أوَّلًا بترجيح جانب الله تعالى، وثانيًا بنفي العزة بالمرة، والمعنى: أرهطي أعز عليكم من اللَّهِ سبحانه وتعالى، فإنه مما لا يكاد يصح، والحال أنكم لم تجعلوا له حظًّا من العزة أصلًا.
﴿وَاتَّخَذْتُمُوهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿وَرَاءَكُمْ﴾؛ أي: وراءَ ظهركم ﴿ظِهْرِيًّا﴾؛ أي:
(١) روح المعاني.
(٢) روح المعاني.
(٣) روح البيان.
منبوذًا، أي: واستخفَفْتُم بربكم، فجعلتموه تعالى شيئًا منبوذًا وراءَ الظهر، منسيًّا لا يبالى به؛ أي: جعلتموه مِثْلَ الشيء المطروح وراء الظهر بإشراككم به، والإهانة برسوله، لا تأتمرون لأمره، ولا تخافون عِقَابَهُ، ولا تعظِّمُونه حقَّ التعظيم، فلا تُبْقُون على الله، وتبقون على رهطي؛ أي: فلا تحفظونني، ولا ترحمونني لله تعالى، وتُراعُون نسبة قرابتي إلى الرهط، وتضيّعون نسبتي إلى الله بالنبوة، فكأنكم زَعَمْتُم أنَّ القومَ أعزُّ من الله، حيث تزعمون أنكم تركتم قتلي إكرامًا لرهطي، والله أولى بأن يُتَّبَعَ أمره، كأنه يقول: حِفْظكُم إيَّاي في الله أولى منه في رهطي، وقيل: المعنى: واتخذتم أمْرَ الله الذي أمرني بإبلاغه إليكم، وهو ما جئتكم به وراء ظهوركم. والعربُ تقول لكل ما لا يُعْبَأُ بأمره: قد جَعَل فلانُ هَذَا الأمرَ بظهره، فالظهري منسوبٌ إلى الظهر، والكسر لتغيير النَّسب كقولهم في النسبة إلى أمس: إمسيُّ بكسر الهمزة، وإلى الدهر دُهْرِيُّ بضم الدال. ﴿إِنَّ رَبِّي﴾ سبحانه وتعالى ﴿بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ من الأعمال السيئة التي من جملتها عدم مراعاتكم لجانبه. ﴿مُحِيطٌ﴾ لا يخْفى عليه منها خافية، وإن جعلتموه منسيًّا، فيجازيَكم عليها، والإحاطة: إدراك الشيء بكماله، وإحاطةُ الله تعالى بالأعمال مَجَازٌ عن علمه.
والمعنى (١): أي إن ربي سبحانه وتعالى محيط علمه بعملكم، فلا يَخْفَى عليه شيء منه، وهو مجازيكم عليه، وأما رهطي فلا يستطيعون لكم ضرًّا ولا نفعًا، ولا يَخْفى ما في ذلك من التهديد والوعيد.
٩٣ - ثم هدَّدهم مرة أخرى فقال: ﴿وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا﴾ كل ما في وسعكم وطاقتكم من إيصال الشرور إلى حالة كونكم ﴿عَلَى مَكَانَتِكُمْ﴾؛ أي: موصوفين بغاية المكنة، والقدرة، والقوة؛ أي: على نهاية التمكن، وغايته في إيصال الضرر إليَّ، مِنْ مكن مكانةً فهو مكين، إذا تمكَّن من الشيء أبلغ التمكنِ، أو بمعنى المكان، كمقام، ومقامة، والمعنى: إعملوا ما شئتم على ناحيتكم، وجهتكم التي أنتم عليها من الشرك والعداوة لي؛ أي: ويا قوم (٢) اعملوا ما استطعتم على منتهى تمكنكم في قوتكم وعَصَبِيتكم.
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
215
وخلاصة ذلك: اثبتوا على ما أنتم عليه من الكفر والمشاقة، وسائر ما لا خَيرَ فيه. وهذا كلامٌ مِن واثقٍ بقوته بربه، وضَعْفِ قومه على كثرتهم، وإدلالهم عليه، وتهديدهم له بقوتهم. ﴿إِنِّي عَامِلٌ﴾ على مكانتي حذف للاختصار، والاكتفاء أي عامل بقدر ما آتاني الله من القدرة، وعلى حسب ما يؤتيني الله من النصرة والتأييد. فكأنهم قالوا: ماذا يكون إذا عملنا على قوتنا. فقال: ﴿سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ﴾ إما استفهامية؛ أي: أيُّنا، أو موصولة أيَّ تَعْرِفون الذي ﴿يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ﴾؛ أي: يذله ويُهينه أنا أم أنتم ﴿وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ﴾ في قوله، ومن هو صادق مني ومنكم. وفي "الفتوحات" فـ (من) موصولة في محل نصب؛ أي: سوفَ تعلمون الشقيَ الذي يأتيه عذاب يخزيه، والذي هو كاذب، وهذا أحسن من قول الفراء (من) استفهامية في موضع رفع بالابتداءِ على معنى: أيّنا لا يأتيه العذاب، وأيُّنا هو كاذب، وإنما كان أحسن لأنَّ (من) الثانية موصولة أيضًا، ولا توصل بالاستفهام، وعلم عرفانية، انتهى. وهذا تصريح منه بالوعيد بعد التلميح بالأمر بالعمل المستطاع تعجيزًا لهم. ولما أوعدوه (١)، وكذبوه.. أراد أن يَدفَع ذلك عن نفسه، ويَلْحَقه بهم، فسَلَك سبيل إرخاء العنان لهم وقال: ﴿سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ من المعذب والكاذب مني ومنكم، وأينا الجاني على نفسه، والمخطىءُ في فعله، يريد أنَّ المعذَّب والكاذبَ أنتم لا أنا. قال الفراء: إنما جاء بهو في ﴿من هو كاذب﴾ لأنهم لا يقولون من قائم إنما يقولون: من قام، ومن يقوم، ومن القائم فزَادوا (هو) ليكونَ جملة تقوم مقام فَعَل ويفعلُ، ذكره الشوكاني.
فائدة: قال الزمخشري (٢): فإن قلت: أي فرق بين إدخال الفاء في سورة الأنعام في قوله: ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ وحذفها هنا، حيث قال: ﴿سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾.
قلت: إدخال الفاء وَصلٌ ظاهر بحرف موضوع للوصل، وحذفها وصل خفي تقديريٌّ بالاستئناف الذي هو جواب لسؤال مقدر، كأنهم قالوا: فماذا يكون إذَا
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
216
عَمِلنا نحن على مكانتنا، وعملت أنت على مَكَانَتِكَ. فقال: سوف تعلمون، يوصَل تارةً بالفاء، وتارةً بالاستئناف كما هو عادةُ البلغاء من العرب، وأقوى الوصلَين وأبلغهما الاستئنافُ؛ لأنه أبلغ في باب الفصاحة، والتهويل، وهو بابٌ من أبواب علم البيان تتكاثر محاسنه.
﴿وَارْتَقِبُوا﴾؛ أي: انتظروا مآلَ ما أقولُ لكم من حلول ما أَعِدُكم به، سيظهر صِدْقُه ﴿إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ﴾؛ أي: منتظر لما يقضِي الله به بيننا، وهو فعيل بمعنى الراقب. وعبارة القرطبي: ﴿وَارْتَقِبُوا﴾؛ أي (١): انتظروا العذابَ والسخطةَ ﴿إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ﴾؛ أي: فإني منتظر النصر والرحمةَ. وكان شعيب عليه السلام يسمَّى خطيب الأنبياء، لحسن محاورته مع قومه، وكمال اقتداره في مراجعته جوابَهم، وكان كثيرَ البكاء حتى عَمِيَ ثم رَدَّ الله عليه بصرَهُ، فأوحى إليه يا شعيب: ما هذا البكاءُ أشوقًا إلى الجنة أم خوفًا من النار؟ فقال: إلهي وسيدي إنك تعلم أني ما أبكي شوقًا إلى الجنة، ولا خوفًا من النار، ولكن اعتقدت حبك بقلبي، فإذا نظرت إليك، فما أبالي ما الذي تصنع بي. فأوحى الله تعالى إليه: يا شعيب إن يكن ذلك حقًّا.. فهنيئًا لك لقائي، يا شعيب، لذلك أخْدَمْتُك موسَى ابنَ عِمرانَ كليمي.
وهذه حال المقربين، فإنهم جعلوا الله تعالى بين أعينهم، وجعلوا الخَلْقَ وراءَ ظهورهم، خِلافَ ما عليه أهل الغفلة، فلم يلتفتوا إلى شيء من الكَونين حُبًّا لله تعالى، وقصرًا للنظر عليه، وهم العبيد الأحرار، والناس في حَقِّهم على طبقات. فأما أهل الشقاءِ فلم يعرفوهم مَنْ هم، ولم يَرَوْهم أصلًا لانطماس بصيرتهم، وعدم استعدادهم لهذا الانكشاف، ألا ترى إلى قوم شعيب، كيف حَجَبهم كونه أَعمى في الصورة عن رؤية جمال نبوته، وظنُّوا أن لهم أبصارًا ولا بصرَ له، ولذا عدوه ضعيفًا، ولم يعرفوا أنهم عميٌ في الحقيقة، وأن أبصارهم الظاهرةَ لا تستجلب لهم شرفًا، وأنَّ الحقَّ مع أهل الحق، سواء ساعدته الأسباب
(١) القرطبي.
217
الصورية، والآلات الظاهرة أَوْ لا، فإن النَّاسَ مشتركون فيما يجري على ظواهرهم من أنواع الابتلاء، مفترقون فيما يَرِدُ على بواطنهم من أصناف النعماء، والله تعالى أرسلَ الأنبياء عليهم السلام إلى الناس الغافلين، ليفتحوا عيونَ بَوَاطِنَهم من نوم الغفلة، وَيدْعُوهم إلى الله تعالى ووصاله، ولقاءِ جماله، فمَنْ كان له منهم استعداد لهذا الانفتاح.. رضي بالتربيةِ والإرشاد، وقام في طريق الحق بالسعي والاجتهاد، ومَنْ لم يكن له منهم ذلك.. أبي واستكبر عن أخذ التلقين، وامتنع عن الوصول إلى حد اليقين، فبقي في الظلمات كالأعمى لا يَدْري أيْنَ يذهب، فيا أيها الأخوانُ ارجِعوا إلى رَبّكم مع القوافل الروحانية، فمِن قريب ينقطع الطريقُ، ولا يُوجد الرفيق.
٩٤ - ثُمَّ ذَكَرَ أنَّهُ كانَ صادقًا في وعيده لهم فَحَلَّ بهم سوء العذاب فقال: ﴿وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا﴾ الذي قَدّرناه في الأزل من العذاب، والهلاك لقوم شعيب، فالأمرُ: واحد الأمور ﴿نَجَّيْنَا﴾ رسولنا ﴿شُعَيْبًا﴾ قدم تنجيتَه إيذانًا بسبق الرحمة التي هي مقتضى الربوبية على الغضب الذي يظهر أثره بموجب الجرائم، ﴿و﴾ نجينا ﴿الذين آمنوا معه﴾، واتبعوا شعيبًا في الإيمان، وآمنوا كما آمنَ هو، فصدقوه على ما جاءهم به من عند ربهم، ﴿بِرَحْمَةٍ﴾ أزلية صَدَرَتْ ﴿مِنَّا﴾ في حقهم، ومجرد فضل خاصٍّ بهم لا بسبب أعمالهم كما هو مَذْهَبُ أهل السنة. وقال بعضهم: هي الإيمان الذي وفقناهم له، يقول الفقيرُ (١): وجه هذا القول أنَّ العذابَ والهلاكَ الذي هو من باب العدل قد أضيف إلى الكفر والظلم، فاقتضى أن يضافَ الخلاصُ والنجاة الذي هو من باب الفضل إلى الإيمان، ولمَّا كانَ الإيمانُ والعمل الصالح أمرًا موقوفًا على التوفيق.. كان مجردَ فضل ورحمة فافهم.
فائدة: قال الزمخشري (٢): فإن قلت: ما الحكمة في قوله: ﴿وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا﴾ بالواو في قصتي عاد ومدين، وقوله: ﴿فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا﴾ بالفاء في قصتي لوط وثمود؟
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
قلتُ: قد وقعت جملةُ: ﴿فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا﴾ في قصة قوم لوط، وقصة قوم ثمود بعد ذكر الوعد، وذلك قوله في الأولى: ﴿إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ﴾، وقوله في الثانية ﴿ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ﴾، فجِيءَ بالفاء التي للتسبب كما تقول: وعدته، فلما جاء الميعادُ كانَ كَيْتَ وكَيْتَ. وأما قصتا عاد ومدين، فلم تَقَعا بتلك المنزلة؛ وإنما وقَعَتا مبتدأتين، فكان حقهما أن يعطفا بحرف الجمع على ما قبلهما، كما تعطف قصة على قصة، انتهى.
﴿وَأَخَذَتِ﴾؛ أي: أهلكت ﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ أنفسَهم بالإباء والاستكبار، عن قبول دعوة شعيب وغيرهم بما أخذوا من أموالهم بغير وجه حلال ﴿الصَّيْحَةُ﴾ فاعل، أخذَت، وأنَّث (١) الفعل هنا على لفظ الصيحة، وقال في قصة صالح: ﴿وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ﴾ فذكّر على معنى الصياح؛ أي: أهلكَتْهم صيحةُ جبريل عليه السلام بقوله: (موتوا جميعًا)، وفي سورة الأعراف: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ﴾؛ أي: الزلزلة ولعلها من روادف الصيحة المستتبعة لتموج الهواء المفضي إليها، وهذا في أهل قرية شعيب، وأما أصحاب الأيكة فأهلكوا بعذاب الظلة، وهو نارٌ نزلت من السماء أحرقَتْهُم. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما أهلك الله أُمَّتَيْن بعذاب واحد، إلا قومَ صالح، وقومَ شعيب أهلكهم الله بالصيحة، غَيْرَ أنَّ قومَ صالح أخَذَتْهُم الصيحة من تحتهم، وقوم شعيب أخذتهم الصيحةُ من فوقهم.
وذلك أنهم أصابهم حر شديد، فخَرَجُوا إلى غيضة لهم فدخلوا فيها، فَظَهَرَتْ لهم سحابة كهيئة الظلة فأحدقَتْ بالأشجار، وأَخذَتْ فيها النار، وصاح بهم جبريل، ورجفَتْ بهم الأرض، فماتوا كلهم، واحترقُوا، فذلك قوله تعالى: ﴿فَأَصْبَحُوا﴾؛ أي: صاروا ﴿فِي دِيَارِهِمْ﴾؛ أي في بلادهم أو مساكنهم ﴿جَاثِمِينَ﴾؛ أي: ساقطينَ ميتينَ، لازمينَ لأماكنهم لا براحَ لهم منها؛ أي: لا زوالَ حالةَ كونهم
٩٥ - ﴿كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا﴾؛ أي: كأنهم لم يقيموا في ديارهم أحياء
(١) القرطبي.
219
متصرفين، في أطرافها مترددينَ متقلبينَ في أكنافها. ثم دعا عليهم فقال: ﴿أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ﴾؛ أي: هلاكًا لأهل مدين، وبعدًا من رحمة الله تعالى ﴿كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ﴾؛ أي: كما هلكت من قبلهم ثمود، وبعدت من رحمة الله تعالى بإنزال سَخَطِه بهِم، شَبَّه هلاكهم بهلاكهم، لأنهما أُهلِكَتَا بنوع من العذاب وهو الصيحة كما مرَّ آنفًا.
والخلاصة (١): أنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى أرسلَ على كل من ثمود ومدين صاعقةً ذاتَ صوت شديد، فرجَفَتْ أرضها، وزلزلت من شدتها، وخروا ميتين، وكانت صاعقتهما أشد من الصاعقة التي أخذَتْ بني إسرائيل حين قالوا: ﴿أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً﴾. وقد أحياهم الله تعالى عَقِبَها؛ لأنَّ هذه تربية لقوم بني إسرائيل في حضرته، وتلك صاعقة كانت عذابَ خزي لمشركينَ ظالمينَ معاندِينَ أنجى الله نبِيَّ كل منهما، ومؤمنيهما قبلها. وقرأ أبو (٢) عبد الرحمن السلمي، وأبو حيوة: ﴿كما بَعُدت﴾ بضم العين من البعد الذي هو ضد القرب. والجمهور بكسرها. أرادت العرب: التفرقةَ بين البعد من جهة الهلاك، وبين غَيره فغيَّروا البناءَ. وقرأه السلمي جاءت على الأصل اعتبارًا لمعنى البُعْدِ من غير تخصيص، كما يقال: ذَهَبَ فلان ومَضَى، في معنى القرب.
وفي الآية (٣) إشارة إلى أن الكفرةَ وأهلَ الهوى، أفسدوا الاستعدادَ الروحانيَّ الفطريَّ، في طلب الدنيا، واستيفاء شهواتها، والاستكبار عن قبول الحق والهدى، وأدَّى تمردهم عن الحق، وتماديهم في الباطل إلى الهلاك صورةً ومعنًى. وأما صورة فظاهرٌ. وأما معنى: فلأنهم أبعدوا عن جوار الله وطيب العيش معه إلى أسفلِ سافلي القطيعة فبَقَوا في نار الفرقة، لا يحيون، ولا يموتونَ، وما انتفعوا بحياتهم فَصاروا كالأموات، وكما أنَّ الصيحةَ من جِبْرِيلَ أهلكتهم فكذا النفخة من شعيب أحيَتْ المؤمنينِ لأنَّ أَنْفَاس الأنبياء، والأولياء كنفخ إسرافيل في الأحياء إذا كان المحلُّ صالحًا لطرح الروح فيه كجسد
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
220
الإكسير. وقد سبق أنَّ قومَ شعيب عدوه ضعيفًا فيما بينهم، وما عرفوا أنَّ اللَّهَ القويَّ معه، فعلى الصالحين أن يَعْتَبِرُوا بأحوال الصالحين، فإنهم قد أخَذُوا الدنيا، وآثَرُوها على الآخرة ثمَّ سلبهم الله أموالَهم، وديارَهم، كأن لم ينتفعوا بشيء، ولم يقيموا في دار.
٩٦ - ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا﴾؛ أي: وعزتي وجلالي لقد أرسلنا ﴿مُوسَى﴾ بن عمرانَ حالةَ كونه متلبسًا ﴿بِآيَاتِنَا﴾ التسع التي هي العصا، واليد البيضاء، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، ونقص الأموال والأنفس الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا. وقيل: المراد بالآيات التوراةُ، وبالسلطان، العصا، واليد؛ أي: ولقد أرسلنا موسى بالتوراة مع ما فيها من الأحكام، وأيدْناه بمعجزات قاهرة دالةٍ على صدق نبوته، ورسالته، وهذا القول ليس بسديد؛ لأنه قال:
٩٧ - ﴿إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ﴾، والتوراة إنما نزلت بعد هلاك فرعون وملأه، ذكره أبو حيان في "البحر". ﴿و﴾ متلبسًا بـ ﴿سلطان﴾؛ أي: برهان ﴿مُبِينٍ﴾؛ أي: واضح هو نفس تلك الآيات فهو من قبيل عطف الصفة مع اتحاد الموصوف؛ أي: ولقد أرسلنا موسى بالأمر الجامع بين كونه آياتنا، وبين كونه سلطانًا له على صِدْقِ نبوته واضحًا في نفسه، أو مُوضِّحًا إياها، فإنَّ أبان جاء لازمًا ومتعديًا، كقوله تعالى: ﴿وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ﴾؛ أي: التوراة الجامعةَ بين كونِهَا كِتَابًا وحجةً تفرق بين الحق والباطل، ويجوز أن يرادَ بسلطان مبين الغلبة والاستيلاء كقوله تعالى: ﴿وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا﴾. قال بعض المحققين: سميت الحجة سلطانًا؛ لأنَّ صاحب الحجة يَقْهَرُ مَنْ لا حجة معه كالسلطان يَقْهر غيره، اهـ "خازن".
﴿إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ﴾؛ أي: أشراف قومه، ورؤسائهم، وتخصيص ملأه بالذكر مع عموم رسالته لقومه كافَّة لأصالتهم في الرأي، وتدابير الأمور، واتباع غيرهم لهم في الورود والصدور. ﴿فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ﴾ في كل ما قَرَّره من الكفر بموسى، ورَدِّ ما جاءهم به من عند الله، وتشديد الظلم على بني إسرائيل بتقتيل أبنائهم، واستحياء نسائهم إلى نحو ذلك مما جاء في السور الأخرى مفصَّلًا؛ أي: فاتبع الملأ أَمْرَ فرعونَ وأطاعوا قولَه، حين قاله لهم: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾، وخالفوا أَمْر موسى بالتوحيد، وقبول الحق، وإنما لم يصرِّح بكفر
فرعون بآيات الله تعالى للإيذان بوضوح حاله، فكأنَّ كُفْرَه وأمرُ ملأه بذلك محقق الوجود، غير محتاج إلى الذكر صريحًا، وإنما المحتاج إلى ذلك شأن ملأه المترددين بين هاد إلى الحق، وداعٍ إلى الضلال فقوله: ﴿فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ﴾ معطوف على مقدر؛ أي: فكفَر بها فرعونُ، وأمرهم بالكفر، فاتبعوا أمر فرعون؛ أي: أطاعوه. وإيراد (الفاء) للإشعار بمسارعتهم إلى الاتباع، فكأنه لم يَتَراخَ من الإرسال، والتبليغ بل وَقَعَا في وقت واحد. ﴿وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ﴾؛ أي: وما شأنه وتصرفه ﴿بِرَشِيدٍ﴾؛ أي: بصالح حميد العاقبة، بل هو محض غيٍّ وضلالٍ، وظلم، وفساد، لغروره بنفسه، وكفرانه بربه، وطغيانه في حكمه، فإنه كان دهريًّا نافيًا للصانع والمعاد، وكان يقول: لا إله للعالم، وإنما يجب على أهل كل بلد أن يشتغلوا بطاعة سلطانهم، وعبوديته رعايةً لمصلحة العالَم.
٩٨ - ﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ﴾؛ أي: يتقدم فرعون قومه وأتباعه من الأشراف وغيرهم ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾، ويكونون تَبَعًا له كما كانوا تَابِعينَ له في الدنيا إلا مَنْ آمنَ ﴿فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ﴾؛ أي: فيوردهم النارَ معه، ويُدْخِلُهم جَهنَّمَ. وقد وَرَدَ أن آله يعرضون على النار منذ ماتوا صباحًا ومساءً من كل يوم كما قال تعالى: ﴿وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (٤٥) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (٤٦)﴾؛ أي: إن فرعونَ كان قُدوةً لقومه في الضلال، وفي دخول البحر، والغرق في الدنيا، فكذلك يتقدَّمهُم في الآخرة في دخول النار والحرق. وعَبَّر بصيغة الماضي في قوله: ﴿فَأَوْرَدَهُمُ﴾ للدلالة على تحقق الوقوع، لا محالةَ؛ لأنَّ الماضِيَ متيقن الوجود ﴿وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ﴾؛ أي: وبئس المَدْخَلُ المدخول فيه، والمَشْربُ الذي يشرب منه، والمخصوص بالذمِّ النارُ؛ لأنَّ واردَ الماء إنما يَرِدُه لِتبريد كبدِهِ، وإطفاء غُلَّتِهِ مِنْ حَرِّ الظمأ، ووارد النار يحترق فيها احتراقًا.
واعلم (١): أن الورودَ عبارة عن المجيء إلى الماء، والإيراد إحضار الغير، والمورود الماء فشبه فرعونَ بالفارط الذي يتقدم الواردَ إلى الماء، وأتباعَه بالواردة،
(١) روح البيان.
والنارَ بالماء الذي يَرِدُونَه.
٩٩ - ﴿وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ﴾ الدنيا ﴿لَعْنَةً﴾؛ أي: وأتبع الملأ الذين اتبعوا فرعونَ في هذه الدنيا طردًا وبُعْدًا عن الرحمة؛ أي: وألحقت بهم في هذه الدنيا لعنة عظيمة مِمَّنْ بَعْدَهم من الأمم ﴿و﴾ أتبعوا ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ لعنةً أخرى، أيضًا مع اللعنة التي حَصَلَتْ لهم في الدنيا يَلْعَنُهم أهل الموقف جميعًا، فهي تابعة لهم حيثما سارُوا، ودائرة أينما دَاروا. والآية بمعنى قوله تعالى: ﴿وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢)﴾. وفي "السمين" قوله: ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ معطوف على موضع في هذه، والمعنى: أنهم ألحقوا لعنةَ في الدنيا، وفي الآخرة، ويكون الوَقْفُ عليها تامًّا، ويبتدأُ بـ (بئس) اهـ.
أي (١): فَكَما اتبعوا أَمْرَ فِرْعَونَ، أتبعتهم اللعنة في الدارين جزاءً وفاقًا، أو يُلْعَنُون، ويُطردون من رحمة الله تعالى في الدنيا بالغرق، وفي الآخرة بما فيها من عذاب، فإن كُلَّ معذَّبٍ مَلْعونٌ مطرودٌ من الرحمة، كما أنَّ كلَّ مخذولٍ محرومٌ من التوفيق، والعناية كذلك، واكتفى ببيان حالهم الفظيع عن بيان حال فرعون. إذْ حِينَ كان حالُهم هكذا، فَمَا ظنك بحال من أغواهم، وألقاهم في هذا الضلال البعيد، وحيثُ كانَ شأنُ الأتباعِ أن تكون أعوانًا للمتبوع، جُعلت اللعنة رِفدًا لهم على طريقة التهكم. فقيل: ﴿بِئْسَ الرِّفْدُ﴾؛ أي (٢): العَونُ، والمرادُ به اللعنةُ الأولى ﴿الْمَرْفُودُ﴾؛ أي: المعانُ باللعنة الثانية؛ أي: بئس اللعنةُ الأولى المُعانُ باللعنة الثانية عونهم، وهي اللعنة في الدارين. فاللعنة الأولى: عَوْنٌ لهم معاونةٌ باللعنة الثانية، وهذا على سبيل التهكم بهم، وإلا فاللعنة إذْلالٌ لهم، وإنزِالٌ بهم إلى الحضيض الأسفل. وسمِّيت اللعنة عَوْنًا لأنها إذا تَبِعَتْهم في الدنيا أَبْعَدَتْهم عن رحمة الله تعالى، وأعانَتْهم على ما هم فيه من الضلال. وسمِّيت رفدًا؛ أي: عونًا لهذا المعنى على سبيل التهكم. وسميت مُعَانًا لأنها أُردفَت في الآخرة بلعنة أخرى ليكونا هَادِيَيْنِ إلى طريق الجحيم، اهـ "زاده". وقال الزجاج: كلُّ شيء جعلته عَوْنًا لشيء، وأسندْتَ به شيئًا، فقد رفدتَه، والمعنى: بئس العونَ المعان
(١) روح البيان.
(٢) الفتوحات.
رِفْدُهم، وهي اللعنة في الدارين، وذلك أن اللعنة في الدنيا رفدٌ للعذاب، ومددٌ له، وقد رفدت باللعنة في الآخرة. وفي الآية بيان شقاء فرعون، وأنه لم ينفعه إيمانه حين الغرق، ولو نفَعه لما كان قائدَ قومه إلى النار. وفي الآيات (١) من العبرة أنَّ في البشر فراعنة كثيرينَ يغوون الناس، ويستعبدونهم، فيطيعونهم، ويذلون لهم ذل العبيد، ولا تفيدهم هدَايةُ القرآن شيئًا، ومنهم من يدعون الإِسلام، ولا يفهمون قولَ الله تعالى لرسوله في آية مبايعة النساءِ: ﴿وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ﴾، وقوله - ﷺ -: "لا طاعةَ لأحد في معصية اللَّهِ إنما الطاعة في المعروف".
١٠٠ - ﴿ذَلِكَ﴾ الخبر الذي قصصناه عليك يا محمَّد ﴿مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى﴾، والمدن؛ أي: بعضُ أخبار أهل القرى المهلكة من الأمم الماضية بما جَنَتْ أيدي أهلها من قوم نوح، ومَنْ بعدهم ﴿نَقُصُّهُ عَلَيْكَ﴾ في هذا القرآن، ونخبره لك لتتلوه على الناس فيكون فيه دلائل نبوتك، ويتلوه المؤمنون آناءَ الليل وأطراف النهار، إنذارًا وتبليغًا عَنَّا ﴿مِنْهَا﴾؛ أي: من تلك القرى ﴿قَائِمٌ﴾؛ أي: باق أثره وجدرانه كالزرع القائم على ساقه كديار عاد وثمود. ﴿و﴾ منها ﴿حصِيد﴾؛ أي: عافي الأثر، وذاهبه كالزرع المحصود، كقُرى قوم لوط، وديار قوم نوح، فشَبَّه ما بقي من آثار القرى وجدرانها بالزرع القائم على ساقه، وما محي منها بالزرع المحصود.
١٠١ - ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ﴾؛ أي: وما ظلمنا أَهْلَ تلك القرى بإهلاكنا إياهم بغير جُرْمٍ استحقوا به الهلاك، فالضمير عائد إلى الأهل المحذوف المضاف إلى القرى ﴿وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ بارتكاب ما يُوجب الهلاكَ منْ شركِهِم، وإفسادهم وإصرارهم على ذلك حتى لم يبق فيهم استعداد لقبول الحق، ولو بَقَوا زَمانًا ما ازدادوا إلا ظلمًا وفجورًا وفسادًا في الأرض، كما قال نوح عليه السلام: ﴿إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (٢٧)﴾. فإنهم أَكلوا رِزْقَ الله؛ وعبدوا غَيْرَه وكذبوا رسله. وفيه إشارة إلى أَنه تعالى أعطاهم استعدادًا روحانيًّا، وآلةً لتحصيل كمالات لا يدركها الملائكة المقربون، فاستعملوا تلك الآلة على وَفْقِ الطبيعة لا على حكم الشريعة، فعبَدُوا طاغوت الهوى، ووثَنَ الدنيا،
(١) المراغي.
وأصنامَ شهواتها، فجاءهم الهلاك من أيدي الأسماء الجلالية. وقد بالغ رسلُهم في وعظهم وإرشادهم، فما زادهم ذلك إلا عتوًّا واستكبارًا، وأنذروهم بالنذر، فما زادهم ذلك إلّا إصرارًا وعنادًا، ثِقَةً منهم بأن آلهتهم تَدْفَعُ عنهم كُلَّ مُخوِّف وَتُبْعِدُ عنهم كل محذور جهلًا منهم بما كانوا يعملون. ومن ثَمَّ قال: ﴿فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ﴾؛ أي: فما دَفَعَتْ بأس الله عنهم، ولا نَفَعَتْهُم ﴿آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ﴾؛ أي: يعبدونها ففيه حكايةُ حال ماضية ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ تعالى؛ أي: حالَةَ كونهم متجاوزينَ عبادةَ الله، ويطلبون منها أن تَدْفَعَ عنهم الضرَّ بنفسها، أو بشفاعتها ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾ في موضع المصدر؛ أي: ما أغنت عنهم، ولا نفعَتْهُم شيئًا قليلًا من الإغناء ﴿لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾ منصوب بـ ﴿أغنت﴾؛ أي: ما أغنتهم شيئًا من الإغناء والنفع حين مجيء عذاب ربك، ونقمته، وهي المكافأة بالعقوبة. والمعنى: فما دفعَتْ عنهم أصنامهم التي يعبدونها من دون الله شيئًا من العذاب، حين جاء عذابُ ربك. ﴿وَمَا زَادُوهُمْ﴾ الضمير المرفوع للأصنام، والمنصوب لعبدتها، وعبَّر عن الأصنام بواو العقلاء؛ لأنَّهم نَزَّلُوها مَنْزِلَةَ العقلاء في عبادتهم إياها، واعتقادهم أنها تنفع وتضر؛ أي: وما زادت الأصنام لعابديها ﴿غَيْرَ تَتْبِيبٍ﴾؛ أي: غَيْرَ إهلاك وتخسير، فإنهم إنما هلكوا بسبب عبادتهم لها، وكانوا يعتقدون في الأصنام جَلْبَ المنافع، ودَفْعَ المضارِّ فَزَالَ عنهم بسبب ذلك الاعتقاد منافع الدنيا والآخرة، وجَلَب ذلك إليهم مضارَّ الدنيا والآخرة، وذلك من أعظم الهلاك، وأشد الخسران. والمعنى: وما زادَتْهم الأصنامُ التي يعبدونها إلا هَلاكًا، وخسرانًا، وقد كانوا يَعْتَقِدُون أنها تُعِينُهم على تحصيل المنافع.
ويقال: تببه تتبيبًا إذا أهلكه، وتبَّ فلانُ وتَبَّتْ يده خَسِرَ، أو هلك كما سيأتي في مباحث الصرف إن شاء الله تعالى. وقرىء (١): ﴿آلهتهم اللاتي﴾ بالجمع ﴿ويدعون﴾ بالبناء للمجهول.
١٠٢ - ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ﴾ قرأ (٢) أبو رجاء، والجحدري: ﴿وكذلك أخذَ ربُّك إذ أخذ﴾ على أَنَّ أَخْذَ ربك فعل وفاعل، و (إذ) ظرف لما مضى، وهو إخبار عما جرت به عادة الله في إهلاك من تقدم من الأمم.
(١) المراح.
(٢) البحر المحيط.
225
وقرأ طلحة بن مصرف ﴿وكذلك أخذ ربك إذا أخذ﴾. قال ابن علية: وهي قراءة متمكنة المعنى، ولكن قراءة الجماعة تعطي الوعيد، واستمراره في الزمان، وهو الباب في وضع المستقبل موضع الماضي. وقرأ غيرهما: ﴿أَخْذ﴾ على المصدر، والكاف في محل رفع على أنها خبر مقدم للمصدر المذكور بعدها؛ أي: ومثل ذلك الأخذ والإهلاك الذي مر بيانه في الأمم الماضية أخذ ربك، وإهلاكه القرية أي قرية كانت. ﴿إِذَا أَخَذَ﴾ وأهلك ﴿الْقُرَى﴾؛ أي: أهلها، وإنما أسندَ الإهلاك إلى القرى لِلأشعار بسريان أثره إليها. ﴿وَهِيَ ظَالِمَةٌ﴾ جملة حالية من القرى، وهي في الحقيقة لأهلها لكنها لما أُقيمت مقامهم في الأخذ أجريت عليها.
وفائدتها: الإشعارُ بأنهم أخذوا بظلمهم وكفرهم ليكونَ ذلك عبرةً لكل ظالم.
والمعنى: أي ومثل ذلك الأخذ المذكور بالعذاب، وعلى نَهجه وطريقِهِ أخذ ربك أهلَ القرى إذا أخَذَهم، وهم ظالمون أنفسَهم بالكفر، والإفساد؛ أي: إنَّ كُلَّ (١) من شارك أولئك المتقدمين في فعل ما لا ينبغي، فلا بد وأن يشاركَهم في ذلك الأخذ، فذلك عقابٌ لا مفرَّ منه، ولا مَهْرَب.
وفي هذا إنذارٌ وتحذير من سوء عاقبة الظلم لكل قرية ظالمة في كل زمان ومكان. ﴿إِنَّ أَخْذَهُ﴾ سبحانه وتعالى وإهلاكه للأمم ﴿أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾؛ أي: وجيع قاسي لا يُرجَى منه الخلاص؛ أي: إنَّ عقوبته سبحانه وتعالى لمن ظلم عقوبة مؤلمة شديدة صعبة على المأخوذ والمعاقَب، لا يُرْجى مِنها الخلاص.
روى البخاري ومسلم، وأحمد، والترمذي، وابن ماجه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله - ﷺ - قال: "إن الله تعالى ليملي للظالم حتى إذَا أخذه لم يفلته"، ثم قرأ: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾، فليعتبر (٢) الظالمون بهذا، ولا يغتروا بالدين الذي ينتسبون إليه دون أن يعملوا ما يرفع عنهم غَضَب ربهم، ونقمتَه، فربما كان ذلك إملاءً منه
(١) المراح.
(٢) المراغي.
226
تعالى، واستدراجًا لهم.
١٠٣ - ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾؛ أي: إنَّ فيما (١) نَزَل بالأمم الهالكة بذنوبهم، أو إنَّ فيما قصه الله سبحانه وتعالى من إهلاك تلك الأمم السبعة، وبيان سنته في عاقبة الظالمين. ﴿لَآيَةً﴾؛ أي: لعبرة بينة وموعظةً بالغةً، وحجةً ظاهرة. ﴿لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ﴾؛ أي: لمن (٢) أقر عذابَ الآخرة، وآمن به، وصدَّقه، وخافَ منه؛ لأنه يعتبر بتلك الأمم حيثُ يستدل بما حاق بهم من العذاب الشديد بسبب ما عملوا من السيئات على أحوال عذاب الآخرة، وذلك لأنَّ القَصَص المذكورة فيها عذاب الدنيا، وعذاب الآخرة، وقد حصَلَ الأول فيعلم العاقل أنَّ القادر على إنزال الأول قَادِرٌ على إنزال الثاني. وأمَّا مَنْ أنكر الآخرةَ، وأحال فَنَاءَ العالم، ولم يقل بالفاعل المختار، وجَعَلَ تِلك الوقائعَ لأسباب فَلَكِية اتفقت في تلك الأيام، لا لذنوب المهلكين فهو بمعزل من هذا الاعتبار، تبًّا لهم، ولما لهم من الأفكار. وعبارة أبي حيان هنا ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾؛ أي: فيما (٣) قصَّ اللَّهُ سبحانه وتعالى من أخبار الأمم الماضية، وإهلاكهم ﴿لَآيَةً﴾؛ أي: لعلامة ﴿لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ﴾؛ أي: أنهم إذا عذبوا في الدنيا لأجل تكذيبهم الأنبياءَ، وإشراكهم بالله، وهي دار العمل، فلأن يعذبوا على ذلك في الآخرة التي هي دار الجزاء أولى، وذلك أنَّ الأنبياء أخبروا باستئصال من كذبهم، وأشركوا بالله، ووقع ما أخبروا به وفق إخبارهم فدلَّ على أنَّ ما أخبروا به من البعث والجزاء صدق لا شكَّ فيه، انتهت.
والماديون في هذا العصر (٤)، وفي عصور سابقة كما حكاه البيضاوي عن بعض أهل عصره يقولون: إن الطوفانَ والصاعقةَ وخسفَ الأرض كل أولئك قد حَدَثَ بأسباب طبيعية لا بإرادة الله تعالى واختياره لتربية الأمم. ويكفي في الرد عليهم أن يقال: إنَّ حدوثَ هذه الأشياءِ وغيرها بالأسباب الموافقة لسنن الله في نظام العالم هو المراد بالقضاء والقدر في القرآن الكريم، والله تعالى أحدث هذه الأسبابَ في أوقات معينة بحكمته لعقاب تلك الأمم بها، ولم تكن من قبيل المصادفات.
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
(٤) المراغي.
227
والدليل على ذلك أن أولئك الرسلَ أنذروا أقوامَهم بحدوثها قبل أن لم تكن، ومنهم من ذكر وقتها على سبيل التعيين، والتحديد. وهكذا يفعل الله بالظالمين في كل زمان، وإن لم يكن فيهم من ينذرهم بوقوع ما يحل بهم اكتفاء بإنذار القرآن الكريم كما قال: ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾.
﴿ذَلِكَ﴾ إشارة إلى يوم القيامة المدلول عليه بذكر الآخرة؛ أي: ذلك اليوم الذي يقع فيه عذاب الآخرة ﴿يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ﴾؛ أي: يوم يجمع فيه الناس كلهم الأولون والآخرون ليحاسبوا على ما عملوا، ثم يوفوا جزاءهم بالعدل والقسطاس ﴿وَذَلِكَ﴾ اليوم الذي يجمع فيه الناس الذي هو يوم القيامة؛ لأن اسم الإشارة عائد إلى يوم القيامة مع ملاحظة عنوان جمع الناس له ﴿يَوْمٌ مَشْهُودٌ﴾ فيه؛ أي: يشهده الخلائق جميعًا من الإنس والجن، والملائكة، وغيرهم حيث (١) يشهد فيه أهل السموات والأرضين للموقف، لا يغيب عنه أحدٌ، فالمشهود هو الموقف، والشاهدون؛ أي: الحاضرون الخلائق، والمشهود فيه اليوم فاتسع فيه إجراءً للظرف مجْرَى المفعول به، بجعله مشهودًا، وإنما هو مشهود فيه، فاتسع فيه بأن وصل الفعل إلى ضميره، من غير واسطة، كما يصل إلى المفعول به، اهـ "سمين".
قال الزمخشري (٢): فإن قلت: أيُّ فائدة في أن أوثر اسمُ المفعول على فعله؟
قلت: أوثر اسم المفعول لما فيه من دلالته على ثبات معنى الجمع لليوم، وأنه لا بد أن يكون ميعادًا مضروبًا لجمع الناس له، وأنه هو الموصوف بذلك صفة لازمةً، وهو أثبت أيضًا لإسناد الجمع إلى الناس، وأنهم لا ينفكون منه، وفيه من تمكن الوصف وثباته ما ليس في الفعل. ومعنى: ﴿مَشْهُودٌ﴾ مشهود فيه، فاتسع في الجار والمجرور ووصل الفعل إلى الضمير إجراءً له مجرى المفعول به على السعة كقوله:
وَيَوْمًا شَهِدْنَاهُ سُلَيْمًا وَعَامِرًا
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
228
والمعنى: يشهد فيه الخلائق الموقفَ لا يغيب عنه أحد، ومنه قولهم: لفلان مجلس مشهود، وطعام محضور، وإنما لم يجعل اليومَ مشهودًا في نفسه كما قال: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ﴾ لأن الغرض وصف ذلك اليوم بالهول والعِظم وغيره من بين الأيام، وكونه مشهودًا في نفسه لا يميزه إذ هو موافق لسائر الأيام في كونها مشهودةً، انتهى.
١٠٤ - ﴿وَمَا نُؤَخِّرُهُ﴾؛ أي: وما نؤخِّر ذلك اليومَ ﴿إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ﴾؛ أي: إلا لأجل انقضاء أجل معلوم عدده. وانتهاء مدة معلومة في علمنا مضروبة بحسب ما تقتضيه الحكمة لا تزيد، ولا تنقض، وهي انتهاء مدة الدنيا، وكل شيء معدود محدود قريب، ولم يطلع الله سبحانه وتعالى أحدًا من خلقه على معرفة ذلك اليوم. وفي (١) الآيات تهديد وتخويفٌ من الله تعالى، وحث على تصحيح الحال، وتصفيةِ البال وتزكية الأعمال، ومحاسبة النفوس قبل بلوغ الآجال، فإن العبد لا يحصد إلا ما يزرع، ولا يشرب إلا بالكأس التي يَسْقي، فعلى العاقل أن يتداركَ ما فاتَ ولا يضيع الأوقاتَ.
١٠٥ - والظرف في قوله: ﴿يَوْمَ يَأْتِ﴾ منصوب بقوله: ﴿لَا تَكَلَّمُ﴾ وفاعل (يأت) ضمير يعود على (اليوم) أي: حين يأتي ذلك اليوم المؤخر بانقضاء أجله، وهو يوم القيامة، فلا يلزم أن يكونَ للزمان زمانٌ، وذلك لأن الحينَ مشتمل على ذلك اليوم، وغيره من الأوقات، ولا محذور في كون الزمان جزءًا من زمان آخر، ألا ترى أنَّ الساعةَ جزء من اليوم، واليوم من الأسبوع، والأسبوع من الشهر، والشهر من العام.
و ﴿يَأْتِ﴾ بحذف الياء اجتزاءً عنها بالكسرة، كما قالوا: لا أدر ولا أُبال، وهو كثير في لغة هذيل. روي عن عثمانَ رضي الله عنه أنه عرض عليه المصحف، فوجد فيه حروفًا من اللحن، فقال: لو كان الكاتب من ثقيف، والمملي من هذيل.. ما وجد فيه هذه الحروف. فكأنه مَدَح هذيْلًا بالفصاحة.
﴿لَا تَكَلَّمُ﴾ بحذف إحدى التاءين؛ أي: لا تتكلم ﴿نَفْسٌ﴾ من الأنفس
(١) روح البيان.
229
الناطقة بما ينفع، ويُنجي من جواب، أو شفاعة ﴿إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ سبحانه وتعالى إذ لا يملك أحد فيه قولًا، ولا فعلًا إلا بإذنه تعالى في التكلم. فالمأذون (١) من الكلام هو الجوابات الصحيحة، والممنوعُ منه هو ذكر الأعذار الباطلة كما قال تعالى: ﴿لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا﴾، وقوله: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾، وقوله: ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا﴾، ويوم القيامة يوم مقداره ألف سنة من سني الدنيا. ففيه مواقف، وأزمنة، وأحوال، مختلفة يتكلمون في بعضها، ويتساءلون كما قال: ﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا﴾. ولا يتكلمون في بعضها لشدة الهول، والفزع، وظهور آثار سطوة القهر، أو لعدم الإذن لهم في الكلام، كما قال تعالى: ﴿هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦)﴾، ويُختم في بعضها على أفواههم، وتتكلم أيديهم، وتشهد أرجلهم، وبهذا التفصيل يجمع بينَ الآيات المتعارضة ظَواهِرُها.
وقرأ الأعمش (٢): ﴿وما يؤخره﴾ بالياء. وقرأ النحويان أبو عمرو، والكسائي، ونافع: ﴿يأتي﴾ بإثبات الياء وصلًا، وحذفَها وقفًا. وقرأ ابن كثير بإثباتها وصلًا ووقفًا، وهي ثابتة في مصحف أُبيٍّ. وقرأ باقي السبعة بحذفها وصلًا ووقفًا. وسقطت في مصحف الإِمام عثمان رضي الله عنه. وقرأ الأعمش: ﴿يأتون﴾ وكذا في مصحف عبد الله، وإثباتها وقفًا ووصلًا هو الوجه. ووجه (٣) حذف الياء مع الوقف ما قاله الكسائي أن الفعلَ السالمَ يوقف عليه كالمجزوم، فحذفت الياء، كما تحذف الضمة، ووجه قراءة مَنْ قرأ بحذف الياء مع الوصل أنهم رأوا رَسْمَ المصحف كذلك. وَحَكى الخليل، وسيبويه: أن العرب تقول: لا أدر فتحذف الياء، وتجتزىء بالكسر. وأنشد الفراء في حذف الياء:
كَفَاكَ كَفٌّ مَا تَلِيْقُ دِرْهَمًا جُوْدًا وَأُخْرَى تُعْطِ بِالسَّيْفِ الدَّمَا
قال الزجاج: والأجود في النحو إثبات الياء، انتهى.
(١) المراح.
(٢) البحر المحيط.
(٣) الشوكاني.
230
﴿فَمِنْهُمْ﴾؛ أي: فممن يجمع في ذلك اليوم ﴿شَقِيٌّ﴾ وجبت له النار بموجب الوعيد، فهو مستحق للعذاب الأليم، الذي أوعدَ به الكافرون ﴿وَسَعِيدٌ﴾؛ أي: ومنهم سعيد، وجَبَت له الجنة بمقتضى الوعد، فهو مستحق لما وعد به المتقون من الثواب، والنعيم الدائم، وتقديم الشقي على السعيد؛ لأن المقامَ مقام التحذير والإنذار، والأطفال والمجانين لا يدخلون في هذا التقسيم لعدم التكليف، ويدخل فيه من استوت حَسَناتهم وسيئاتهم من المؤمنين، ومن تغلب سيئاتهم، ويعاقبون عليها إلى حين ثم يدخلون الجنةَ؛ لأنهم فريق السعداءِ باعتبار العاقبة، فالسعداء درجات، والأشقياء دركات، وتخصيص هذين القسمين بالذكر لا يدل على نفي القسم الثالث، كالأطفال والمجانين.
روى الترمذي وأبو يعلى وغيرهما عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما نزلت ﴿فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ﴾، قلت: يا رسول الله، فعلام نعمل على شيء قد فرغ منه، أو على شيء لم يفرغ منه، قال: "بل على شيء قد فرغ منه، وجَرَتْ به الأقلام يا عمر، ولكن كل ميسر لما خلق له". وروي عن علي كرم الله وجهه، عن النبي - ﷺ - أنه كان في جنازة فأخَذَ عودًا فجعل يَنْكتُ في الأرض، فقال: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له"، وقرأ: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (١٠)﴾.
والمراد أن الله يعلم الغيب، وأنه يعلم المستقبل كلَّه بجميع أجزائه، وأطرافه، ومنه عمل العاملين، وما يترتب على كل عمل من الجزاء بحسب وعده ووعيده في كتابه المنزل، وكتابته للمقادير، والنبي - ﷺ -، علَّمنا أنَّ الجزاء بالعمل، وأنَّ كُلًّا ميسر له، ومسهل عليه ما خلقه الله لأجله من سعادة الجنة، أو شقاوة النار، وأنَّ ما وَهَبه من الاستعداد والعزيمة يكون له تأثير في تربية النفس، وتوجيهها إلى ما تعتقد أنَّ فيه سعادتَها وخَيْرُها.
قال في "التبيان" (١): علامة الشقاوة خمسة أشياء: قساوة القلب، وجمود العين، والرغبة في الدنيا، وطول الأمل، وقلة الحياء. وعلامة السعادة خمسة
(١) روح المعاني.
231
أشياءٍ أيضًا: لين القلب، وكثرة البكاء، والزهد في الدنيا، وقصر الأمل، وكثرة الحياء. وفي "التأويلات النجمية" ﴿شَقِيٌّ﴾ محكوم عليه بالشقاوة في الأزل، ﴿وَسَعِيدٌ﴾ محكوم عليه بالسعادة في الأزل، وعلامة الشقاء الإعراض عن الحق، وطلبه، والإصرار على المعاصي من غير ندم عليها، والحرص على الدنيا، حلالها وحرامها، واتباع الهوى، والتقليد، والبدعة. وعلامة السعادة: الإقبال على الله وطلبه، والاستغفار من المعاصي، والتوبة إلى الله، والقناعة باليسير من الدنيا، وطلب الحلال منها، واتباع السنة، واجتناب البدعة، ومخالفة الهوى، انتهى.
الإعراب
﴿قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧)﴾.
﴿قَالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿يَا شُعَيْبُ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿يَا شُعَيْبُ﴾ منادى مفرد العلم، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿أَصَلَاتُكَ﴾ (الهمزة) للاستفهام الإنكاري الاستهزائي. (صلاتك) مبتدأ. ﴿تَأْمُرُكَ﴾ فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على (صلاتك) والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿أَنْ نَتْرُكَ﴾ ناصب ومنصوب، وفاعله ضمير يعود على قوم شعيب. ﴿مَا﴾ موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول الترك، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بحرف جر، محذوف تقديره: بترك عبادة ما يعبد آباؤنا، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿تأمر﴾. ﴿يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة لـ (ما) أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: ما يعبد آباؤنا. ﴿أَوْ﴾ حرف عطف بمعنى الواو، التي للجمع. ﴿أَنْ نَفْعَلَ﴾ ناصب وفعل، وفاعله ضمير يعود على قوم شعيب. ﴿فِي أَمْوَالِنَا﴾ متعلق به. ﴿مَا نَشَاءُ﴾ (ما) موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول به، وجملة ﴿نفعل﴾ في تأويل مصدر معطوف على ﴿ما﴾ في قوله: ﴿مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾ تقديره: أصلاتك تأمرك بترك عبَادة ما يعبد آباؤنا؛ أو بترك فعلنا في أموالنا ما نشاء. ﴿نَشَاءُ﴾ فعل مضارع،
232
وفاعله ضمير يعود على قوم شعيب، والجملة صلة لـ (ما) أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: ما نشاؤه. ﴿إِنَّكَ﴾ ناصب واسمه. ﴿لَأَنْتَ﴾ ﴿اللام﴾ حرف ابتداء. ﴿أنت﴾ تأكيد للكاف أو ضمير فصل. ﴿الْحَلِيمُ﴾ خبر إن. ﴿الرَّشِيدُ﴾ صفة للحليم، وجملة إن في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾ على كونها معلَّلةً لما قبلها.
﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (٨٨)﴾.
﴿قَالَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على شعيب، والجملةُ مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. ﴿يَا قَوْمِ﴾ إلى قوله: ﴿قَالُوا يَا شُعَيْبُ﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿يَا قَوْمِ﴾ منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾ فعل وفاعل، وهي هنا بمعنى: أخبروني فتنصب مفعولين، وقد حذفا معًا من النظم الكريم، وتقدير الأول أخبروني فياء المتكلم هي المفعول الأول، والثاني محذوف أيضًا تقديره: أرأيتم إن كنت على بينة من ربي، ورزقني منه رزقًا حسنًا أفأشوبه بالحرام، فالجملة الاستفهامية في محل النصب مفعول ثان، وجملة ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها جوابَ النداء. ﴿إِنْ كُنْتُ﴾ جازم، وفعل ناقص واسمه. ﴿عَلَى بَيِّنَةٍ﴾ خبره، وجملة ﴿كان﴾ في محل الجزم بـ (إن) على كونه فعلَ شرط لها. ﴿مِنْ رَبِّي﴾ صفة لـ ﴿بينة﴾. ﴿وَرَزَقَنِي﴾ فعل ومفعول أول و (نون) وقاية، وفاعله ضمير يعود على الرب، والجملة في محل الجزم معطوفة على جملة (كان). ﴿مِنْهُ﴾ جار ومجرور حال من ﴿رزقًا﴾ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. ﴿رِزْقًا﴾ مفعول ثان. ﴿حَسَنًا﴾ صفة له، وجواب (إن) الشرطية محذوف، تقديره: ﴿أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي﴾، ورزقني منه الرزقَ الحلالَ، والهداية، والنبوة، والمعرفة فهل يسعني مع هذه النعم العظيمة أن أخون في وجه أو أن أخالف أمره أو أتبع الضلال أو أبخس الناس أشياءَهم، وهذا الجواب شديد المطابقة لما تقدم، وذلك أنهم قالوا له: إنك لأنت الحليم الرشيد، والمعنى: فكيف يليق بالحليم الرشيد أن يخالف أمر ربه، وله عليه نعم
233
كثيرة، ذكره في "الخازن" وجملة (إن) الشرطية مَعَ جوابها المحذوف في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَمَا أُرِيدُ﴾ (الواو) عاطفة. (ما) نافية. ﴿أُرِيدُ﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على شعيب، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾ على كونها مقولَ قال. ﴿أَنْ أُخَالِفَكُمْ﴾ ناصب وفعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على شعيب. ﴿إِلَى مَا﴾ جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: وما أريد مخالفتَكَم إلى ما أنهاكم عنه. ﴿أَنْهَاكُمْ﴾ فعل ومفعول. ﴿عَنْهُ﴾ متعلق به، وفاعله ضمير يعود على شعيب، والجملة صلة لـ (ما) أو صفة لها. ﴿إِنْ أُرِيدُ﴾ (إن) نافية. ﴿أُرِيدُ﴾ فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على شعيب، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ. ﴿الْإِصْلَاحَ﴾ مفعول به. ﴿مَا اسْتَطَعْتُ﴾ ﴿ما﴾ مصدرية ظرفية. ﴿اسْتَطَعْتُ﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة ﴿ما﴾ المصدرية ﴿ما﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف المقدر إليه، تقديره: إن أريد إلَّا الإصلاحَ مدة استطاعتي. ﴿وَمَا تَوْفِيقِي﴾ (الواو) عاطفة. ﴿ما﴾ نافية. ﴿تَوْفِيقِي﴾ مبتدأ. ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ. ﴿بِاللَّهِ﴾ جار ومجرور خبر المبتدأ، تقديره: وما توفيقي إلا كائن بالله، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلَها على كونها مقولَ ﴿قَالَ﴾. ﴿عَلَيْهِ﴾ جار ومجرور متعلق بما بعده. ﴿تَوَكَّلْتُ﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَإِلَيْهِ﴾ جار ومجرور متعلق بما بعده. ﴿أُنِيبُ﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على شعيب، والجملة معطوفة على جملة ﴿تَوَكَّلْتُ﴾ على كونها مقول ﴿قَالَ﴾.
﴿وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (٩٠)﴾.
﴿وَيَا قَوْمِ﴾ منادى مضاف، وجملة النداء معطوف على المنادى الأولى على كونها مقولَ ﴿قَالَ﴾. ﴿لا﴾ ناهية. ﴿يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ فعل ومفعول و (نون) توكيد في محل الجزم بـ ﴿لا﴾. ﴿شِقَاقِي﴾ فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول
234
﴿قَالَ﴾ على كونها جوابَ النداءِ. ﴿أَنْ يُصِيبَكُمْ﴾ ناصب وفعل ومفعول أول. ﴿مِثْلُ﴾ فاعل وهو مضاف. ﴿مَا﴾ مضاف إليه، والجملة الفعلية في تأويل مصدر منصوب على كونه مفعولًا ثانيًا لجرم تقديره: ويا قوم لا يكسبنكم عداوتي إصابتكم عَذَاب مثل ما أصاب. ﴿أَصَابَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَا﴾. ﴿قَوْمَ نُوحٍ﴾ مفعول به، ومضاف إليه، والجملة الفعلية صلة لـ (ما) أو صفة لها. ﴿أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ﴾ معطوفان على ﴿قَوْمَ نُوحٍ﴾. ﴿وَمَا﴾ (الواو) عاطفة. ﴿ما﴾ نافية أو حجازية. ﴿قَوْمُ لُوطٍ﴾ مبتدأ أو اسم ﴿ما﴾. ﴿مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ﴾ (الباء) زائدة. ﴿بعيد﴾ خبر المبتدأ، أو خبر لـ (ما) منصوب بفتحة مقدرة، والجملة الاسمية في محل النصب مقولُ ﴿قَالَ﴾. وأتى ﴿بِبَعِيدٍ﴾ مفردًا، وإن كان خبرًا عن جمع لأحد أوجه: إما لحذف مضاف تقديره: وما إهلاك قوم لوط، وإما باعتبار زمان؛ أي بزمان بعيد، وإما باعتبار مكان؛ أي: بمكان بعيد، وإما باعتبار موصوف غيرهما؛ أي: بشيء بعيد، كذا قدره الزمخشري، وتبعه الشيخ، وفيه إشكال من حيث إنَّ تقدير زمان يلزم فيه الإخبار بالزمان عن الجثة، وقال الزمخشري أيضًا: ويجوز أن يستوي في بعيد، وقريب، وقليل، وكثير، بين المذكر والمؤنث لورودها على زنة المصادر التي هي كالصهيل، والنهيق، ونحوهما، اهـ "سمين". ﴿وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ على كونه مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿ثُمَّ تُوبُوا﴾ فعل وفاعل. ﴿إِلَيْهِ﴾ متعلق به، والجملة معطوفة على جملة ﴿اسْتَغْفِرُوا﴾. ﴿إِنَّ رَبِّي﴾ ناصب واسمه. ﴿رَحِيمٌ﴾ خبره. ﴿وَدُودٌ﴾ خبر ثان، وجملة (إن) مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها على كونها مقول ﴿قَالَ﴾.
﴿قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (٩١)﴾.
﴿قَالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿يَا شُعَيْبُ﴾ إلى قوله: ﴿قَالَ﴾ مقول محكي، وإن شئت قلتُ: ﴿يَا شُعَيْبُ﴾ منادى مفرد العلم، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿مَا﴾ نافية. ﴿نَفْقَهُ كَثِيرًا﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على قوم شعيب، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها
235
جوابَ النداء. ﴿مِمَّا﴾ جار ومجرور صفة لـ ﴿كَثِيرًا﴾، وجملة ﴿تَقُولُ﴾ صلة لـ (ما) أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: مما تقوله. ﴿وَإِنَّا﴾ ناصب واسمه. ﴿لَنَرَاكَ﴾ (اللام) حرف ابتداء. ﴿لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا﴾ فعل ومفعولان. ﴿فِينَا﴾ جار ومجرور حال من ﴿ضَعِيفًا﴾ لأنه صفة نكرة قدمت عليها، وفاعله ضمير يعود على قوم شعيب، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر إن، وجملة إن في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿مَا نَفْقَهُ﴾ على كونها مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَلَوْلَا﴾ (الواو) عاطفة. ﴿لولا﴾ حرف امتناع لوجود. ﴿رَهْطُكَ﴾ مبتدأ والخبر محذوف وجوبًا تقديره: ولولا رهطك موجود ﴿لَرَجَمْنَاكَ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب ﴿لولا﴾ وجملة ﴿لولا﴾ معطوفة على ما قبلَها على كونها مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَمَا أَنْتَ﴾ (ما) حجازية أو تميمية. ﴿أَنتَ﴾ اسمها أو مبتدأ. ﴿عَلَيْنَا﴾ متعلق ﴿بِعَزِيزٍ﴾. ﴿عزيز﴾ خبر (ما) أو خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾.
﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٩٢) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (٩٣)﴾.
﴿قَالَ﴾ فعل ماض وفاعله ضمير يعود على شعيب، والجملة مستأنفة. ﴿يَا قَوْمِ أَرَهْطِي﴾ إلى قوله: ﴿وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا﴾ مقول محكي، وإن شئت.. قلت: ﴿يَا قَوْمِ﴾ منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿أَرَهْطِي﴾ (الهمزة) للاستفهام الإنكاري المضمن للتوبيخ ﴿رهطي أعزُّ﴾ مبتدأ وخبر. ﴿عَلَيْكُمْ﴾ متعلق بـ ﴿أَعَزُّ﴾. وكذا يتعلق به ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها جوابَ النداء. ﴿وَاتَّخَذْتُمُوهُ﴾ فعل وفاعل، ومفعول أول. ﴿وَرَاءَكُمْ﴾ ظرف، ومضاف إليه حال من ﴿ظِهْرِيًّا﴾. ﴿ظِهْرِيًّا﴾ مفعول ثان، والجملة الفعلية في محل النصب، معطوفة على الجملة الاسمية على كونها مقولَ ﴿قَالَ﴾. ﴿إِنَّ رَبِّي﴾ ناصب واسمه. ﴿بِمَا﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿مُحِيطٌ﴾. وجملة ﴿تَعْمَلُونَ﴾ صلة لـ (ما) أو صفة لها. ﴿مُحِيطٌ﴾ خبر (إن) وجملة (إن) في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ ﴿وَيَا قَوْمِ﴾ منادى معطوف على المنادى الأول.
236
﴿اعْمَلُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها جوابَ النداء. ﴿عَلَى مَكَانَتِكُمْ﴾ جار ومجرور حال من (واو) ﴿اعْمَلُوا﴾ أي حالةَ كونكم موصوفينَ بغاية إمكاناتكم. ﴿إِنِّي عَامِلٌ﴾ ناصب واسمه وخبره والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿سَوْفَ﴾ حرف تنفيس. ﴿تَعْلَمُونَ﴾ فعل وفاعل. ﴿مَن﴾ اسم موصوف في محل النصب مفعول به، لأن علم هنا بمعنى عرف، والجملة الفعلية مستأنفة استئنافًا بيانيًّا على كَوْنِها مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿يَأْتِيهِ عَذَابٌ﴾ فعل ومفعول وفاعل، والجملة صلة (من) الموصولة. وجملة ﴿يُخْزِيهِ﴾ صفة ﴿عَذَابٌ﴾. ﴿وَمَن﴾ معطوف على ﴿مَن﴾ الأولى. وجملة ﴿هُوَ كَاذِبٌ﴾ صلة ﴿من﴾ الموصولة. ﴿وَارْتَقِبُوا﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿اعْمَلُوا﴾. ﴿إِنِّي﴾ ناصب واسمه. ﴿مَعَكُمْ﴾ متعلق بـ ﴿رَقِيبٌ﴾. ﴿رَقِيبٌ﴾ خبر (إن) وجملة (إن) في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾.
﴿وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (٩٤)﴾.
﴿وَلَمَّا﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. (لما) حرف شرط. ﴿جَاءَ أَمْرُنَا﴾ فعل وفاعل، والجملة فعل شرطًا لـ (لما). ﴿نَجَّيْنَا شُعَيْبًا﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب (لمَّا) وجملة (لمَّا) مستأنفة. ﴿وَالَّذِينَ﴾ معطوف على ﴿شعيب﴾. ﴿آمَنُوا﴾ فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿مَعَهُ﴾ ظرف، ومضاف إليه حال من (واو) ﴿آمَنُوا﴾. ﴿بِرَحْمَةٍ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿نَجَّيْنَا﴾. ﴿مِنَّا﴾ صفة لـ ﴿رَحْمَةٍ﴾. ﴿وَأَخَذَتِ الَّذِينَ﴾ فعل ومفعول. ﴿ظَلَمُوا﴾ فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿الصَّيْحَةُ﴾ فاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿نَجَّيْنَا﴾. ﴿فَأَصْبَحُوا﴾ (الفاء) عاطفة. ﴿أصبحوا﴾ فعل ناقص واسمه. ﴿فِي دِيَارِهِمْ﴾ متعلق بما بعده. ﴿جَاثِمِينَ﴾ خبر ﴿أصبحوا﴾، وجملة ﴿أصبحوا﴾ معطوفة على جملة ﴿أخذت﴾.
﴿كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (٩٥)﴾.
﴿كَأَنْ﴾ مخففة من الثقيلة واسمها محذوف تقديره: كأنهم. ﴿لَمْ يَغْنَوْا﴾ فعل وفاعل مجزوم بـ (لم). ﴿فِيهَا﴾ متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر
237
﴿كَأَنْ﴾ وجملة ﴿كَأَنْ﴾ في محل النصب حال من الضمير المستكن في ﴿جَاثِمِينَ﴾؛ أي: أصبحوا جاثمين حالَ كونهم مماثلينَ لِمَنْ لَمْ يوجد، ولم يقم في مكان قط. ﴿ألا﴾ حرف تنبيه. ﴿بُعْدًا﴾ منصوب على المصدرية بفعل محذوف وجوبًا تقديره: بعدت مدين بعدًا، والجملة مستأنفة. ﴿لِمَدْيَنَ﴾ متعلق بـ ﴿بُعْدًا﴾. ﴿كَمَا﴾ (الكاف) حرف جر. (ما) مصدرية. ﴿بَعِدَتْ ثَمُودُ﴾ فعل وفاعل صلة (ما) المصدرية (ما) مع صلتها في تأويل مصدر مجرور (بالكاف) الجار، والمجرور صفة لـ ﴿بُعْدًا﴾ تقديره: ألا بعدًا لمدينَ مثلَ بُعد ثَمودَ.
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ (الواو} استئنافية. (اللام) موطئة للقسم. ﴿قد﴾ حرف تحقيق. ﴿أَرْسَلْنَا مُوسَى﴾ فعل وفاعل، ومفعول، والجملة جواب القسم، وجملة القسم مستأنفة. ﴿بِآيَاتِنَا﴾ جار ومجرور حال من ﴿مُوسَى﴾؛ أي: حالَة كونه متَلبِسًا ﴿بِآيَاتِنَا﴾. ﴿وَسُلْطَانٍ﴾ معطوف على ﴿آياتنا﴾. ﴿مُبِينٍ﴾ صفة ﴿سلطان﴾. ﴿إِلَى فِرْعَوْنَ﴾ متعلق بـ ﴿أرسلنا﴾. ﴿وَمَلَئِهِ﴾ معطوف على ﴿فِرْعَوْنَ﴾. ﴿فَاتَّبَعُوا﴾ فعل وفاعل. ﴿أَمْرَ فِرْعَوْنَ﴾ مفعول به، ومضاف إليه، والجملة الفعلية معطوفة على مقدر تقديره: فكَفَر بها فرعون، وأمرهم بالكفر فاتَّبعوا أمر فرعون. ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾ حالية. (ما) حجازية. ﴿أَمْرَ فِرْعَوْنَ﴾ اسمها، ومضاف إليه. ﴿بِرَشِيدٍ﴾ (الباء) زائدة. ﴿رشيد﴾ خبرها، ويصح أن يكونَ مبتدأً، وخبرًا على إهمال (ما)، والجملة في محل النصب حال من فرعون، والتقدير: حال كون فرعون غيرَ رشيد.
﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (٩٩)﴾.
﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على فرعون، والجملة مستأنفة على كونها معلِّلَةٌ لِما قبلها. ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ متعلق بـ ﴿يقدم﴾. ﴿فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ﴾ فعل ومفعولان، وفاعله ضمير يعود إلى فرعون، والجملة معطوفة على جملة ﴿يَقْدُمُ﴾. ﴿وَبِئْسَ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿بئس الورد﴾ فعل وفاعل.
238
﴿الْمَوْرُودُ﴾ صفة لـ (الورد)، والمخصوص بالذم محذوف وجوبًا تقديره: وردهم هذا، وهو مبتدأ خبره جملة ﴿بِئْسَ﴾، والجملة الاسمية مستأنفة؛ لأنها إنشائية. ﴿وَأُتْبِعُوا﴾ فعل، ونائب فاعل، والجملة مستأنفة. ﴿فِي هَذِهِ﴾ متعلق بـ ﴿أتبعوا﴾. ﴿لَعْنَةً﴾ مفعول (ثان). ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ ظرف معطوف على الجار والمجرور في قوله: ﴿فِي هَذِهِ﴾ على كونه متعلقًا بـ ﴿أتبعوا﴾ مقدرًا؛ أي: وأتبعوا يوم القيامة لعنةً ثانيةً. ﴿بِئْسَ الرِّفْدُ﴾ فعل وفاعل. ﴿الْمَرْفُودُ﴾ صفة لـ ﴿الرفد﴾ والجملة الفعلية في محل الرفع خبر لمبتدأ محذوف وجوبًا هو المخصوص بالذم تقديره: رفدهم هذا.
﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠)﴾.
﴿ذَلِكَ﴾ مبتدأ. ﴿مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى﴾ خبر أول، والجملة مستأنفة. ﴿نَقُصُّهُ﴾ فعل ومفعول. ﴿عَلَيْكَ﴾ متعلق به، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ثان للمبتدأ. ﴿مِنْهَا﴾ خبر مقدم. ﴿قَائِمٌ﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا لوقوعها في جواب سؤال مقدر تقديره: ما حال هذه القرى أباقية آثارها أم لا؟ فأجاب بقوله: منها: قائم ومنها حصيد. ﴿وَحَصِيدٌ﴾ مبتدأ خبره محذوف تقديره: ومنها حصيد، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿مِنْهَا قَائِمٌ﴾.
﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (١٠١)﴾.
﴿وَمَا﴾ (ما) نافية. ﴿ظَلَمْنَاهُمْ﴾ فعل، وفاعل، ومفعول، والجملة مستأنفة. ﴿وَلَكِنْ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿لكن﴾ حرف استدراك. ﴿ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول معطوفة على جملة ﴿ظَلَمْنَاهُمْ﴾. ﴿فَمَا﴾ (الفاء) عاطفة. ﴿ما﴾ نافية. ﴿أَغْنَتْ﴾ فعل ماض. ﴿عَنْهُمْ﴾ متعلق به. ﴿آلِهَتُهُمُ﴾ فاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿ظَلَمُوا﴾. ﴿الَّتِي﴾ صفة لـ ﴿آلِهَتُهُمُ﴾. ﴿يَدْعُونَ﴾ فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: يدعونها. ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ جار ومجرور حال من (واو) ﴿يَدْعُونَ﴾؛ أي: حالةَ كونهم متجاوزينَ الله إلى غيره. ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾ (من) زائدة. ﴿شَيْءٍ﴾ منصوب على المفعولية المطلقة بـ ﴿أَغْنَتْ﴾. ﴿لَمَّا﴾ حينية في محل النصب
239
على الظرفية متعلق بـ ﴿أَغْنَتْ﴾. ﴿جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه للمَا الحينية. ﴿وَمَا زَادُوهُمْ﴾ فعل وفاعل، ومفعول معطوف على قوله: ﴿فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ﴾. ﴿غَيْرَ تَتْبِيبٍ﴾ مفعول به، ومضاف إليه.
﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥)﴾.
﴿وَكَذَلِكَ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿كذلك﴾ خبر مقدم. ﴿أَخْذُ رَبِّكَ﴾ مبتدأ مؤخر؛ أي: ومثل ذلك الإهلاك المذكور في الأمم الماضية أخذ ربك، والجملة مستأنفة. ﴿إِذَا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرطية في محل النصب على الظرفية الزمانية، والظرف متعلق بالأخذ الذي هو المصدر. ﴿أَخَذَ الْقُرَى﴾ فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل الجر مضاف لـ ﴿إِذَا﴾، وكل من المصدر والفعل تنازعا في ﴿الْقُرَى﴾ فأُعمل الفعل، وحذف الضمير من المصدر؛ لأنَّ الضمير هنا فضلة على حد قول ابن مالك:
وَلاَ تَجِىءْ مَعْ أَوَّلٍ قَدْ أُهْمِلاَ بِمُضْمَرٍ لِغَيْرِ رَفعٍ أُوْهِلاَ
والتقدير: وكذلك أخذ ربك إياها، إذا أخذ القرى، اهـ "جمل". ﴿وَهِيَ ظَالِمَةٌ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من ﴿الْقُرَى﴾. ﴿إِنَّ أَخْذَهُ﴾ ناصب واسمه. ﴿أَلِيمٌ﴾ خبره. ﴿شَدِيدٌ﴾ خبر بعد خبر، وجملة (إنَّ) مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. ﴿إنَّ﴾ حرف نصب. ﴿فِي ذَلِكَ﴾ خبر مقدم لها. ﴿لَآيَةً﴾ (اللام) حرف ابتداء. ﴿آيةً﴾ اسمها مؤخر، وجملة ﴿إنَّ﴾ مستأنفة. ﴿لِمَنْ﴾ جار ومجرور حال من الضمير المستكن في خبر (إنَّ). ﴿خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾ والجملة الفعلية صلة لـ ﴿مَنْ﴾ الموصولة. ﴿ذَلِكَ﴾ مبتدأ. ﴿يَوْمٌ﴾ خبره والجملة مستأنفة. ﴿مَجْمُوعٌ﴾ صفة لـ (يوم)، ولكنَّها سببية. ﴿لَهُ﴾ متعلق به. ﴿النَّاسُ﴾ نائب فاعل لـ ﴿مَجْمُوعٌ﴾ لأنه اسم مفعول يعمل عملَ الفعل المغير الصيغة. ﴿وَذَلِكَ يَوْمٌ﴾ مبتدأ وخبر.
240
﴿مَشْهُودٌ﴾ صفة ﴿يوم﴾، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها. ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾ مستأنفة. ﴿ما﴾ نافية. ﴿نُؤَخِّرُهُ﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ. ﴿لِأَجَلٍ﴾ متعلق بـ ﴿نؤخر﴾. ﴿مَعْدُودٍ﴾ صفة ﴿أَجَلٍ﴾. ﴿يَوْمَ﴾ منصوب على الظرفية متعلق بـ ﴿تكلم﴾ الآتي. ﴿يَأْتِ﴾ فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء المحذوفَةِ للتخفيف في اللفظ، واتباعًا لرسم المصحف العثماني في الخط منع من ظهورها الثقل، لأنه فعل معتل بالياء، وفاعله ضمير يعود على اليوم، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿يَوْمَ﴾. ﴿لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ. ﴿بِإِذْنِهِ﴾ متعلق بـ ﴿تَكَلَّمُ﴾. ﴿فَمِنْهُمْ﴾ (الفاء) فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أنه لا تكلم نفس في ذلك اليوم، وأردتم بيانَ طبقات الناس، وأحوالهم في ذلك اليوم، فأقول لكم. ﴿مِنْهُمْ﴾ خبر مقدم. ﴿شَقِيٌّ﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿وَسَعِيدٌ﴾ مبتدأ خبره محذوف تقديره: ومنهم سعيد، والجملة معطوفة على جملة ﴿فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ﴾.
التصريف ومفردات اللغة
﴿الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ﴾، ﴿الْحَلِيمُ﴾ ذو الأناة، والتروي الذي لا يتعجل بأمر قبل الثقة من فائدته، و ﴿الرَّشِيدُ﴾ الذي لا يأمر إلا بما استبانَ له من الخير والرشد. ﴿أَنْ أُخَالِفَكُمْ﴾ قال الزمخشري: يقال: خَالَفني فلان إلى كذا إذا قصده، وأنت مول عنه، وخالفني عنه إذا ولَّى عنه، وأنت قاصده، ويلقاكَ الرجلُ صادرًا عن الماء، فتسأله عن صاحبه فيقول لك: خالفني إلى الماء، يريد أنه ذَاهِب إليه واردًا، وأنا ذاهب عنه صادرًا، ومنه قوله تعالى: ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ﴾ يعني أن أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها لأستبد بها دونكم، اهـ "سمين". والمخالفة: أن يأخذ كل واحد طريقًا غير طريق الآخر في قوله، أو فعله، أو حاله.
﴿إِلَّا الْإِصْلَاحَ﴾ وهو الإبلاغ والإنذار فقط، وأما إجباركم على الطاعة فلا
241
أستطيعُه، اهـ "خازن". ﴿وَمَا تَوْفِيقِي﴾ المصدر هنا من المبني للمفعول؛ أي: وما كوني موفقًا، اهـ شهاب. وأناب إلى الله رَجَعَ إليه. ﴿لَا يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ بَابه ضرب كما في "المختار"، وينصب مفعولين كما مرَّ في مبحث الإعراب. وجَرمَ الذنبَ، أو المالَ كسبه. وفي "السمين" قوله: ﴿لَا يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ العامة على فتح ياء المضارعة من جَرَم ثلاثيًّا، وقرأ الأعمش بضمها من أجرم، وقد تقدَّم أنَّ جَرم يتعدى لواحد ولاثنين مثل كَسَب، فيقال: جَرَم زيد مالًا مثل كسبه، وجرمته دينًا؛ أي: كسبته إياه فهو مثل كَسَب، فتكون الكاف والميم المفعول الأول، والثاني: هو أن يصيبكم؛ أي: لا يكسبنكم عن عداوتي إصابة العذاب، وقد تقدم أنَّ جرم، وأجرم بمعنًى، أو بينهما فرق. ونسَبَ الزمخشري ضَمَّ الياء من يجرم لابن كثير كما مر في مبحث القراءة، اهـ. ﴿شِقَاقِي﴾ مصدر مضاف إلى المفعول؛ أي: شقاقكم إيَّايَ. ﴿رَحِيمٌ وَدُودٌ﴾، ﴿رَحِيمٌ﴾؛ أي: عظيم الرحمة للمستغفرين. ﴿وَدُودٌ﴾؛ أي: كثير اللطف والإحسان إليهم، وهو صيغة مبالغة من ود الشيء يود ودًّا وودادًا وودادة إذا أحبه وآثره، والمشهور: وددت بكسر العين، وسمع وددت بفتحها، والودود: بمعنى فاعل؛ أي: يود عبادَه ويَرْحَمُهُم. وقيل: بمعنى مفعول بِمعنى أنَّ عباده يحبونه، ويواددون أولياءه فهم بمنزلة الموادِّ مجازًا، اهـ "سمين".
﴿مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا﴾ الفقهُ: الفهمَ الدقيق المؤثر في النفس الباعث على العمل. ﴿وَلَوْلَا رَهْطُكَ﴾ الرهط: قال ابن عطية: جماعة الرجل. وقيل: الرهط، والراهط: اسم لما دون العشرة من الرجال، ولا يقع الرهط والعصبة والنفر إلا على الرِّجال. وقال الزمخشري: من الثلاثة إلى العشرة. وقيل: إلى التسعة، ويجمع على أرهط، ويجمع أرهط على أَراهِطَ فهو جمع جمع. قال الرماني: وأصل الرهط الشَّد، ومنه الرهيط شدَّة الأكل، والراهط: اسم لجحر اليربوع؛ لأنه يتوثق به، ويخبأ فيه ولده. اهـ "أبو حيان". ورهط الرجل عَشِيرَته الذين يستند إليهم، ويتقوى بهم. ﴿لَرَجَمْنَاكَ﴾؛ أي لقتلناك بالرمي بالحجارة، وكانوا إذا قتلوا إنسانًا رجموه بالحجارة، والرَّجم بالحجارة أسوأُ القَتلات، وأشرها. وقيل: معنى لرجمناك: لشَتَمْنَاكَ، وأَغْلَظنَا لك القول. ومنه قول الجعدي:
242
ويطلق الرجم على اللعن، ومنه: الشيطان الرجيم. ﴿بِعَزِيزٍ﴾؛ أي: ذي عزة، ومنعَة، واتخذه ﴿ظِهْرِيًّا﴾ بالكسر والتشديد؛ أي: جعله نسْيًا مَنْسِيًّا لا يذكر كأنه غير موجود. والظهري بكسر الظاء: هو المنسوب إلى الظهر بفتحها، وهو من تغييرات النسب، كما قالوا: في أمس إمسي بكسر الهمزة كما مرَّ. وقيل: الضمير يعود على العصيان؛ أي: واتخذتم العصيانَ عونًا على عداوتي، فالظهريُّ على هذا بمعنى المعين المقوي. ﴿عَلَى مَكَانَتِكُمْ﴾؛ أي: على غاية تمكنكم من أمركم، وأقصى استطاعتكم، وإمكانكم يقال: مكن مكانة إذا تَمَكن أبلغَ تمكن.
﴿وَارْتَقِبُوا﴾؛ أي: وانتظروا. ﴿الصَّيْحَةُ﴾ بوزن فعلة المرة؛ أي: صيحة العذاب. ﴿جَاثِمِينَ﴾؛ أي: باركين على ركبهم منكبين على وجوههم. ﴿كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا﴾ يقال غنِيَ بالمكان إذا أقام به. ﴿أَلَا بُعْدًا﴾ واعلم أن بُعَدًا وسحقًا، ونحوهما مصادر قد وضعت مواضعَ أَفْعَالِها التي لا يستعمل إظهارها، ومعنى (بُعْدًا) بعدوا؛ أي: هلكوا. وقوله: ﴿لِمَدْيَنَ﴾ بيان لمن نبه عليه بالبعد نحو: هيت لك، اهـ "روح البيان". ﴿كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ﴾ والجمهور على كسر العين من بعدت على أنها من بعد يبعد، من باب: طرب، بكسر العين، في الماضي وفتحها في المضارع، بمعنى هلك يهلك، أرادَتْ العرب أن تفرق بين البعد بمعنى الهلاك، وبين البعد الذي هو ضد القرب، ففرقوا بينهما بتغيير البناءِ، فقالوا: بَعُد بالضم من باب كرم، في ضد القرب، وبَعِدَ بالكسر من باب طرب، في ضد السلامة، والبعد بالضم، فالسكون مصدر لهما، والبَعَد بفتحتين، إنما يستعمل في مصدر مكسور العين. قال ابن الأنباري: ومن العرب من يسوي بين الهلاك، والبعد الذي هو ضد القرب فيقول فيهما: بَعِدَ يبعد، وبعد يبعد الأول من باب طرب، والثاني من باب شَرف، اهـ.
﴿بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾ الآيات هي الآيات التسع المعدودة في سورة الإسراء، والمفصلة في سورة الأعراف وغيرها، والسلطان المبين هو ما أتاه الله من الحجة البالغة في محاوراته مع فرعون وملئه. والملأ: أشراف القوم وزعماؤههم. ﴿وَمَاَ أَمرُ فِرْعَوْنَ﴾؛ أي: ما شأنه وتصرفه. ﴿بِرَشِيدٍ﴾؛ أي: بذي رُشد وهدى. ﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ﴾ في "المختار" قدم يقدم كنصر ينصر قُدْمًا بوزن قفل،
243
وقدومًا أيضًا أي: تقدَّم. قال تعالى: ﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾، اهـ. وفي "المصباح": وقدم الشيء بالضم قَدَمًا وزان عنب خلاف حدث فهو قديم، وقدم الرجل البلد يقدمه من باب تعب قدومًا، ومقدمًا بفتح الميم والدال، وقدمت القوم قدمًا من باب قتل مثل تقدمتهم، اهـ.
﴿فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ﴾؛ أي: أدخلهم إياها. ﴿وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ﴾، والوردُ: بلُوغُ الماء في مورده من نهر وغيره، والمورود الماءِ، والمرادُ به هنا النار. قال ابن السكيت: الوردُ هو ورودُ القوم الماءَ، والورد: الإبلُ الواردة، انتهى فيكون مصدرًا بمعنى الورود، واسم مفعول في المعنى كالطِحن بمعنى المطحون.
﴿بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ﴾ وفي "المختار": الرفد بالكسر العطاء، والصلة، والعونُ، وبفتحها المصدر فيقال: رَفَده إذا أعطاه، ورفده إذا أعانه، وبابهما ضَرَب، والإرفاد أيضًا الإعطاء والإعانة، اهـ. و (المرفود) المعطَى، ويقال: رفد الرجل يرفده رفدًا، ورفدًا إذا أعطاه، وأَعَانه من رَفَد الحائط إذا دَعَمَه. وذكر الماوردي: حكاية عن الأصمعي الرَّفد بالفتح القدح والرِّفْدُ بالكسر ما في القدح من الشراب، فكأنه ذم ما يستقونه في النار، وهذا أنسب بالمقام. وقال الليث: أصل الرِّفد العطاء، والمعونة، ومنه، رفادة قريش. ﴿وَحَصِيدٌ﴾ والحصيدُ: بمعنى المحصود، وجمعه حصدى وحصاد مثل مريض ومرضى ومراض، اهـ "سمين". ﴿غَيْرَ تَتْبِيبٍ﴾ وفي "السمين": التتبيب التخسير، يقال: تببه غيره، وتب هو بنفسه، فيستعمل لاَزِمًا ومتعدِّيًا، ومنه ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ﴾، اهـ. وفي "المصباح": التباب: الخسرانُ، وهو اسم من تببه بالتشديد، وتبَّتْ يده تتِب بالكسر خَسِرَتْ كناية عن الهلاك، وتبًّا له؛ أي: هَلاكًا واستتبَّ الأمرُ، إذا تَهَيَّأَ، اهـ. قال لبيد:
تَرَاجَمْنَا بِمُرِّ الْقَوْلِ حَتَّى نَصِيْرَ كَأنَّنَا فَرَسَا رِهَانِ
وَلَقَدْ بُلِيْتُ وَكُلُّ صَاحِبِ جِدَّةٍ يُبْلَى بعَوْدِ وَذَاكُمُ التَّتْبِيْبُ
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
244
فمنها: اللف والنشر المرتَّب في قوله: ﴿أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ﴾، فقولهم: ﴿أَنْ نَتْرُكَ﴾ رد لقوله: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ﴾، وقولهم: ﴿أَوْ أَنْ نَفْعَلَ﴾ إلخ، رد لقوله: ﴿وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ﴾ إلخ.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ﴾ إذا أريد به الأَحْمَقُ السفيه نَزَّلُوا التضاد منزلة التناسب على سبيل الهزء، فاستعاروا الحلم والرشد للسفه، والغواية، ثم سرت الاستعارة منهما إلى الحليم الرشيد، ذكره في "روح البيان".
ومنها: القصر في قوله: ﴿وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ﴾، وقوله: ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾.
ومنها: الجناس المماثل في قوله: ﴿أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ﴾.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿لَرَجَمْنَاكَ﴾؛ أي: لقتلناك من إطلاق السبب الذي هو الرجم بالحجارة، وإرادةِ المسبب الذي هو القتل، وإن لم يكن بالحجارة.
ومنها: تقديم الفاعل المعنوي لإفادة الحصر، والاختصاص في قوله: ﴿وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ﴾ وإن كان الخبر صفةً لا فعلًا.
ومنها: الاستفهام الإنكاري التوبيخي في قوله: ﴿أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ﴾.
ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: ﴿وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا﴾ شبَّه الله سبحانه وتعالى بالشيء المرميِّ وراء الظهر، ولا يكترث به بجامع الإعراض في كل، والعرب تقول: لكل ما لا يعبؤُ بأمره، قد جعل فلانٌ هذا الأمر بظهره.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿مُحِيطٌ﴾، لأنَّ الإحاطةَ حقيقة في الأجسام كإحاطة الجدران، فإحاطَةُ الله بالأعمال مجاز عن علمها، وإدراكها بكمالها.
ومنها: الإيجاز في قوله: ﴿إِنِّي عَامِلٌ﴾ لأنَّ الأصل عامل على مكانتي فَحَذَفَه للاختصار.
ومنها: ما يسمى بالاستئناف البياني عند البلغاء في قوله: ﴿سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾
245
لأنه واقع في جواب سؤال مقدر كما قررناه في مبحث الإعراب.
ومنها: إيراد المستقبل بلفظ الماضي في قوله: ﴿فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ﴾ مبالغة في تحققه. وفيه أيضًا: الاستعارة المكنية؛ لأن الورودَ في الأصل يقال: للمرور على الماء للاستقاء منه، فشبه النارَ بماء يورد، وترك ذكر المشبه به، ورمَزَ إليه بشيء من لوازمه، وهو الورود، وإثبات الورود لها تخييلٌ، وشبه فرعون في تقدمه على قومه إلى النار بـ (من) يتقدم على الواردين إلى الماء لِيَكْسِرَ العطش، فقَالَ في حق فرعونَ وأتباعه ﴿فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ﴾ على سبيل التهكم. وقوله: ﴿وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ﴾ تأكيد له لأن الوِرْدَ إنما يُورَدُ لتسكين العطش، وتبريد الأكباد، وفي النار إلهاب للعطش، وتقطيعٌ للأكباد.
ومنها: التشبيه البليغ في قوله: ﴿مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ﴾؛ أي: كالزرع القائم على ساقه، وكالزرع المحصود بالمناجل، فشبه ما بقي من آثار القرى وجدرانها بالزرع القائم على ساقه، وشبه ما عفى منها بالحصيد، اهـ "زاده" و"شهاب".
ومنها: طباق السلب في قوله: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾.
ومنها: حكاية حال ماضية في قوله: ﴿آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ﴾؛ أي: عبدوها، لأن المرادَ بالدعاء العبادة.
ومنها: المجاز المرسلُ ﴿إِذَا أَخَذَ الْقُرَى﴾؛ أي: أخذَ أهلَ القرى.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ﴾ وهو من المحسنات البديعية.
ومنها: الجمع في قوله: ﴿لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾، والتفريق في قوله: ﴿فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ﴾ والتقسيم في قوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا﴾ إلخ، وهذه الثلاثة أيضًا من المحسنات البديعية.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
246
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (١٠٧) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨) فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (١٠٩) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠) وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١١) فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (١١٣) وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١١٥) فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (١١٧) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١١٩) وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠) وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٢٣)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (١) ذكر العبرة في إهلاك الأمم الظالمة في الدنيا.. ذكر هنا العبرةَ بجزاءِ الآخرة للأشقياءِ والسعداء، فالأولون يصلون النار التي لهم فيها
(١) المراغي.
247
شهيق وزفير، والآخرون يمتعون بالجنة التي فيها ما تشتهيه الأنفسُ وتلذ الأعين، وهم فيها خالدون.
قوله تعالى: ﴿فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لما (١) ذكر قصص عبدة الأوثان من الأمم السالفة، وأتبع ذلك بذكر أحوال الأشقياء والسعداء، شرح للرسول - ﷺ - أحوالَ الكفار من قومه، وأنَّهُمْ مُتَّبِعُوا آبائهم كحال من تقدَّم من الأمم في اتباع آبائهم في الضلال والفساد، تسليةً له - ﷺ - في ضمن النهي له عن الامتراء في أنَّ ما يعبدونه غير نافع ولا ضار، ولا تأثيرَ له في شيء.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ...﴾ الآيتين، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (٢) ذكر مشركي مكة بأقوام غلب عليهم الكفرُ والجحود، ولم يؤمن إلا القليل منهم، فوفَّاهم جَزَاءَ أعمالهم في الدنيا، وسيوفيهم جزاءهم في الآخرة، ذكرهم في هاتين الآيتين بقوم موسى الذين آتاهم الكتابَ فاختلفوا فيه، وأن مثل الذين يختلفون من أمته في الكتاب مثل هؤلاء.
وعبارة أبي حيان: مناسبتها لما قبلها: أنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى لما بين إصرارَ كفارِ مكةَ على إنكار التوحيد ونبوة الرسول - ﷺ - والقرآن الذي أتى به، بيَّن أنَّ الكفار من الأمم السابقة كانوا على هذه السيرة الفاجرة مع أنبيائهم؛ فليس ذلك ببدع ممن عاصرَ الرسولَ - ﷺ -، وضَرَب لذلك مثلًا، وهو إنزال التوراة على موسى فاختلفوا فيها، والكتاب هنا هو: التوراة، فقبله بعض، وأنكره بعض كما اختلف هؤلاء في القرآن.
قوله تعالى: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ...﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لمَّا بينَ أمرَ المختلفينَ في التوحيد، والنبوة وأطنبَ في وعدهم، ووعيدهم.. أمرَ رسولَه - ﷺ -، ومَنْ تاب معه بالاستقامة، وهي كلمة جامعة لكل ما يتعلق بالعِلْم والعمل والأخلاق الفاضلة.
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
248
قوله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ...﴾ الآية، مناسبةُ هذه الآية لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لما أَمَر رسوله بالاستقامة، وعدم تجاوز ما رسمه الدين، وعدم الركون إلى أولي الظلم، أمره هنا بأفضلِ العبادات، وأجلِّ الفضائل التي يستعان بها على ما سلف.
قوله تعالى: ﴿فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ...﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها: أنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالَى لما (١) ذكر عاقبةَ الأمم المكذبةِ لرسلها في الدنيا والآخرة، وإنذارَ قومه - ﷺ - بهم، وبين ما يجب عليه، وعلى مَن آمن به، وتاب معه من الاستقامة والصلاح، واجتنابِ أهل الظلم والفساد.. ذكر هنا بيانَ السنن العامة في إهلاك الأمم الذين قص الله قصصهم، وأمثالهم ممن عصوا رسلَ ربهم، أن أنذَروهم عقابَه، ووَعَدهم إذا أطاعوهم ثوابَه.
قوله تعالى: ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لما (٢) قص قصص أشهر الأنبياء مع أممهم الماضين.. بيَّن هنا ما لذلك من فائدة لرسوله - ﷺ - وللمؤمنين، وهي تثْبِيت الفؤادِ، والعظةُ، والاعتبار ثم أمَرَ رسولَه بالعبادة، والتوكل عليه، وعدم المبالاة بعداوة المشركينَ، والكيدِ له.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ...﴾ الآية، سبب نزولها (٣): ما أخرجه البخاري ومسلم، وأحمد، والترمذي، وغيرهم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: أنَّ رجلًا أصاب من امرأة قبلة فأتى النبي - ﷺ - فأخبره فأنزل الله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ الآية، فقال الرجل: يا رسول الله ألي هذه؟ قال - ﷺ -: "لجميع أمتي كلهم".
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
(٣) لباب النقول.
249
وأخرج الترمذي وغيره عن أبي اليسر قال: أتتني امرأة تبتاع تمرًا، فقلت: إن في البيت أطيبَ منه، فدَخَلت معي البيت فأهويت إليها فقبلتها، فأتيت رسولَ الله - ﷺ -، فذكرتُ ذلك له، فقال: أخلفت غازيًا في سبيل الله في أهله بمثل هذا؟! وأطرق طويلًا حتى أوحى الله إليه: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ﴾ إلى قوله: ﴿لِلذَّاكِرِينَ﴾. ووَرَد نحوه من حديث أبي أمامة، ومعاذ بن جبل، وابن عباس، وبريدة، وغيرهم.
التفسير وأوجه القراءة
١٠٦ - ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا﴾؛ أي: سَبقتَ لهم الشقاوة، وقُضِيَ لهم بالنار. وقرىء: ﴿شَقُوا﴾ بفتح الشين باتِّفاق السبعة بالبناء للفاعل. وقرأ الحسنُ بضم الشين بالبناء للمفعول. ﴿فَفِي النَّارِ﴾؛ أي: فمستقرون في نار جهنم، وكأن سائلًا قال: ما شأنهم فيها؛ فقيل: ﴿لَهُمْ فِيهَا﴾؛ أي: في نار جهنم ﴿زَفِيرٌ﴾؛ أي: صوت شديد ﴿وَشَهِيقٌ﴾؛ أي: صوت ضعيف، فالجملة إما مستأنفة استئنافًا بيانيًّا كما قررنا، أو في محل النصب على الحال. قال الزجاج: الزفير من شدة الأنين، وهو المرتفع جدًّا قال: وزَعَم أهل اللغة من البصريين والكوفيينَ: أن الزفيرَ بمنزلة ابتداءِ صوت الحمير، والشهيقَ بمنزلة آخِره. وفيه (١): استعارة تصريحية كما سيأتي في مبحث البلاغة، فإن المرادَ تشبيه صراخهم بأصوات الحمير، فكما أنَّ الحميرَ لها أصوات منكرة، كذلك لهم أصوات منكرة في جهنم، كما يشاهد ذلك في الابتلاء في الدنيا، لا سِيّما عند الصلب أو الخنق أو ضرب العنق، أو قطع اليد، أو نحوها، فإن لبعض المجْرِمينَ حينئذ خوار كخوار البقر يتغير صوته، كما يتغير لونه، وحال الآخرة أشد من حال الدنيا ألْفَ مرَّةٍ. وقيل: الزفير إخراج النفس، والشهيق رَدُّ النفس. وقيل: الزفير من الصدر، والشهيق من الحلق. وقيل غير ذلك مما لا طائلَ تحته.
والمعنى (٢): أي فأما الذينَ شقوا في الدنيا بما كانوا يعملون من أعمال
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
الأشقياء، لفساد عقيدتهم الموروثة، وسوء القدوة في العمل حتّى أحاطت بهم خطيئاتُهم، وانطَفأَ نور الفطرة مِن أنفسهم، فلهم في النار التي هي مستقرهم، ومثواهم زفير، وشهيق من حَرَج صدورهم، وضيق أنفاسهم، وشدة كروبهم. ويكون الذين شَقُوا شاملًا للكفار، وعصاة المسلمين.
١٠٧ - وقوله: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾؛ أي: في النار حال من الضمير المستكن في الظرف أعني قوله: ﴿في النار﴾؛ أي: فأما الذين شقوا فمستقرون في النار، حالةَ كونهم ماكثينَ فيها مكث خلود، ودوام، ﴿مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾؛ أي: مُدةَ دوام السموات التي تظلهم، ودوام الأرض التي تقلهم. فالمراد (١) سمواتُ الآخرة، وأرضها، وهي دائمة مخلدة، ويَدُلُّ عليه قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ﴾. وأن أهل الآخرة لا بد لهم من مظل ومقلٍّ، إما سماء يخلقها الله فتظلهم، أو يظلهم العرش، وكل ما علاك فأظلك فهو سماء، وكل ما استقرت عليه قدمك فهو أرض، ولا فسادَ في التشبيه بما لا يعرِف أكثر الخلق وجودَه، ولا مانع، ونظيره تشبيه الشيء بالكيمياء، أو بمدينة إرَم وغير ذلك.
أو عبارة عن التأبيد ونفي الانقطاع كقول العرب: لا أفعلُه ما بدا كوكب، وما أضاءَ الفجر، وما تغنت حمامةٌ، والنصوص متظاهرة على تأبيدِ قرارهم فيها. وقوله: ﴿إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ﴾ هو (٢) استثناء من الخلود في عذاب النار، وذلك لأن أهل النار لا يخلدونَ في عذاب النار وحده، بل يعذَّبون بالزمهرير، وأنواع من العذاب سوى عذاب النار. والمعنى: خَالِدينَ فيها مدة دوام السموات والأرض، إلا الزمان الذي شاء ربك خروجهم فيه من النار إلى الزمهرير ونحوه، أو ما شاءَ بمعنى إلا من شاء ربك خروجهم من النار بعدما دخلوا، وهم قوم يخرجون من النار، ويدخلون الجنَّةَ فيقال لهم الجهنميون، وهو المستثنون من أهل الجنة أيضًا، لمفارقتهم إيَّاهَا بكونهم في النار أيّامًا فهؤلاء لم يشقوا شقاوةَ مَنْ يدخل النار على التأبيد، ولا سَعِدُوا سعادةَ مَنْ لا تمسه النار، وهو مروي عن ابن
(١) روح البيان.
(٢) النسفي.
251
عباس، والضحاك، وقتادةَ وغيرهم رضي الله عنهم. فعلى (١) هذا القول يكون معنى الآية: فأمّا الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق، خالدينَ فيها ما دامتِ السموات والأرض إلا من شاء ربك أن يخرجهم منها، فيدخلهم الجنةَ فـ (ما) بمعني مَنْ.
وقيل: إلا (٢) ههنا بمعنى سوى كقولك: عليَّ ألف إلا الألفان القديمان، والمعنى حينئذ خالدينَ فيها؛ أي: دائمين في النار، كدوام السموات والأرض، منذ خلقت إلى أن تفنَى سوى ما شاء ربك من الزيادةِ التي لا آخرَ لها على مدة بقاء السموات والأرض.
وحاصلُ هذا القول: أن إلَّا في المعنى، بمعنى حرف العطف، والاستثناء فكأنه قيل: خالدين فيها ما دامت السموات والأرض، وزيادة على هذه المدة لا منتهى لها، اهـ "جمل". وقيل (٣): هو استثناء من قوله: ﴿لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ﴾. وقيل: (إلا) بمعنى الواو؛ أي: وقد شاء ربك خلودَ هؤلاء في النار، وخلود هؤلاء في الجنة فهو كقوله تعالى: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾؛ أي: ولا للذين ظلموا. وقيل معناه: ولو شاء ربك لأخرجهم منها، ولكنه لم يشأْ لأنه حَكَم لهم بالخلود فيها، قاله الفراء. فهذه الأقوال في معنى الاستثناء ترجعُ إلى الفريقين، والصحيح هو القول الثاني الذي عليه ابن عباس رضي الله عنه، ويدل عليه قوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ﴾ يا محمَّد ﴿فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾ ويشاء من إخراج من أراد من النار، وإدخالِهم الجنة، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن. ومشيئته تعالى إنما تتعلق بما سبق به علمه، واقتضته حكمتُه، وما كان كذلك لم يكن إخلافًا لشيء مِنْ وعده، ولا من وعيده لخلود أهل النار فيها.
فهذا على الإجمال في الفريقين (٤)، فأما على التفصيل فقوله: إلا ما شاء
(١) الخازن.
(٢) البيضاوي.
(٣) الخازن.
(٤) الخازن.
252
ربك في جانب الأشقياء، يرجع إلى الزفير والشهيق، وتقريره: أن يفيدَ حصول الزفير والشهيق مع خلود؛ لأنه إذا دَخَل الاستثناء عليه، وجب أن يحصلَ فيه هذا المجموع، والاستثناء في جانب السعداء يكون بمعنى الزيادة يعني إلا ما شاء ربك من الزيادة لهم من النعيم بعد الخلود. وقيل: إن الاستثناء الأول في جانب الأشقياء، معناه إلا ما شاء ربك من أن يخرجهم من حر النار إلى البرد والزمهرير، وفي جانب السعداء معناه إلا ما شاء ربك أن يرفَعَ بعضَهم إلى منازلِ أعلَى منازلِ الجنان، ودرجاتها. والقول الثاني هو المختار.
١٠٨ - ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا﴾ قرأ ابن (١) مسعود، وطلحة بن مصرف، وابن وثاب، والأعمش، وحمزة، والكسائي، وحفص: ﴿سُعدوا﴾ بضم السين وباقي السبعة، والجمهور بفتحها. فالضم من قولهم: سعده الله أي: أسعده فهو حينئذ متعدّ، والفتح من قولهم: سعد الرجل بمعنى قامت به السعادة، فهو حينئذ لازم.
والمعنى (٢): إنَّ الذينَ سبقت لهم السعادة من الله بموتهم على الإيمانِ، وإن سبقَ منهم الكفر في الدنيا، والمراد بالسعادة رضا الله تعالى عن العبدِ.
وعلامة ذلك أن يكون العبد محبًّا لربه ساعيًا في مرضاته دائمَ الإقبال على طاعته راضيًا بأحكامه. ﴿فَفِي الْجَنَّةِ﴾؛ أي: فمستقرون في الجنة حالةَ كونهم ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾؛ أي: ماكثينَ في الجنة مكث خلود ﴿مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾؛ أي: مدة دوام السموات التي تظلهم والأرض التي تقلهم يعني سموات الجنة وأرضها ﴿إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ﴾ من مقدار موقفهم للحساب، أو مفارقتهم للجنة أيَّامَ عذابهم، فإن التأبِيدَ من مبدأ معين ينتقض باعتبار الابتداءِ، كما ينتقض باعتبار الانتهاء، أو المعنى خالدِينَ فيها مدةَ دوام السموات والأرض في الدنيا.
والمعنى: قدر مكث السموات والأرض من أول الدنيا إلى آخرها. ﴿إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ﴾؛ أي: غير ما شاء ربك من الزيادة التي لا منتهى لَها، فالمعنى خالدينَ
(١) البحر المحيط.
(٢) الصاوي.
فيها أبدًا. ويدل على ذلك قوله تعالى: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾. فالزيادة التي شاءها الله تعالى فسرت في آيات أخر بالخلود المؤبد. وقوله: ﴿عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾ مفعول مطلق لفعل محذوف وجوبًا تقديره: يعطيهم الله ذلك الجزاء عطاء غير مقطوع ولا ممنوع، والمعنى أنه ممتد إلى غير نهاية. مأخوذ من جذَّ إذَا قطعه أو كسره، وهو كقوله: ﴿لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾؛ أي: إن (١) هذا الجزاءَ هبة منه، وإحسانٌ دائم غَير مقطوع. وقد كثر وعد الله تعالى للمؤمنينَ المحسنينَ بأنه يزيدهم من فضله، وبأنه يُضاعِفُ لهم الحسنة بعشرة أمثالها، وبأكثر إلى سبع مئة ضعف، وبأنه يجزيهم بالحسنى، وبأحسنَ مما عملوا، ولم يُوعد بزيادة جزاء الكافرين والمجرمين على ما يستحقون، بل أوعدهم بأنه يجزيهم بما عملوا، وبأنَّ السيئة بمثلها، وهم لا يُظلمون، وبأنه لا يَظْلِم أحدًا، وهذا الجزاء، وهو الخلود في النار أثر طبيعي لتدسية النفس بالكفر والظلم والفساد.
١٠٩ - وبعد أن شرحَ سبحانه أقاصيصَ عَبدةِ الأوثان ثم أتبعه بأحوال الأشقياء والسعداء أَنْذرَ أعداء النبي - ﷺ - والمشركين من قومه، بما حَلَّ بالأمم المهلكة من العذاب فقال: ﴿فَلَا تَكُ﴾ يا محمَّد أصله: لا تكنْ، حذفت النون لكثرة الاستعمال؛ أي: إذا تبين عندك يا محمَّد ما قصصت عليك من قَصَصِ المتقدمينَ وسوءِ عاقبتهم فلا تكن ﴿فِي مِرْيَةٍ﴾؛ أي: في شك ﴿مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ﴾ المشركون من أهل مكةَ من الأصنام؛ أي: لا تكن في شك في أن ما يعبدونه من الأصنام غير نافع ولا ضار، ولا تأثير له في شيء أو لا تكن في شك في بطلان عبادتهم لها، أو لا تكن في شك من سوء عاقبتهم، وكن على يقين في أنها ضلال سيء العاقبة. وهذا النهي له - ﷺ - هو تعريض لغيره ممن يداخله شيء من الشك، فإنه - ﷺ - لا يشك في ذلك أبدًا. وكأنه قيل: لم لا أكون في شك؛ فأُحبيب لأنهم ﴿مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا﴾ كان ﴿يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ﴾؛ أي: إن معبودات هؤلاء كمعبودات آبائهم من قبل، في أنها لا تنفع ولا تضر، أو إن عبادتَهم لها كعبادةِ آبائهم من قبل في أنها ضلال باطلٌ؛ أي: فحالهم كحال آبائهم من غير تفاوت،
(١) المراغي.
254
فهم على الباطل، والتقليد لا على الحق والتحقيق.
وفيه (١): إشارةٌ على أنَّ أهلَ الفترة الذينَ عَبَدوا الأصنامَ من أهل النار، فإن الذَّم ينادي على ذلك. والمعنى (٢): أنهم سواء في الشرك بالله، وعبادة غيره، فلا يكن في صدرك حرج مما تراه من قومك فهم كمن قبلهم من طوائف الشرك، وجاء بالمضارع في ﴿كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ﴾ لحكاية الحال الماضية.
والخلاصة (٣): أي إذا كَانَ أمر الأمم المشركة الظالمة في الدنيا ثم في الآخرة كما قصصناه عليك، فلا تكن في أدنى ريب مما يعبد قومك هؤلاء في عاقبته بمقتضى تلك السنن التي لا تبديلَ لها. وفي ذلك تسلية له - ﷺ -، ووعيد لقومه كما لا يخفى. ثم بيَّن حالَهم في عبادتهم وجزاءهم عليها فقال: ﴿مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ﴾؛ أي: لأنهم أشبهوا آباءَهم في الجهل والتقليد، فهم مقلدون لهم ﴿وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ﴾، وتوفية الشيءِ تأديته، وإعطاؤه على وجه التمام والضمير لهؤلاء الكفرة؛ أي: لمعطوهم حظهم المتعين لهم من العذاب الدنيوي والأخروي كما وفينا آباءهم أنصباءَهم المقدرةَ لهم حسب جرائمهم، فسيلحقهم مثل ما لَحَقَ بآبائهم، فإن التماثل في الأسباب يقتضي التماثل في المسببات، فإن قيل: لا سبب عندنا إلا الله. قلنا: يكفينا السببية العادية، وهو ما يفضي إلى الشيء بحسب جريان العادة. وقوله: ﴿غَيْرَ مَنْقُوصٍ﴾ حال مؤكدة من النصيب؛ لأنَّ التوفية تَقتضِي التكميلَ كقوله: ﴿هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا﴾. وفائدته مع دفع توهم التجوز: تقرير ذي الحال؛ أي: جعله مقررًا ثَابِتًا لا يظن أنه غيره؛ لأن التوفيةَ لا تستلزم عدمَ النقص، فقد يجوز أن يُوفَّى، وهو ناقص، كما يجوز أن يوفَّى وهو كامل. وفي الآية ذَمٌّ للتقليد، وهو قبولُ قول الغير بلا دليل. وقيل: المعنى (٤): وإنا لمعطوهم نصيبَهم من جزاءِ أعمالهم في الدنيا وافيًا تامًّا لا ينقص منه شيء، كما وفينا آباءهم الأولين من قبل، فأعمال الخير التي
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
(٤) المراغي.
255
يعملونها في الدنيا كبر الوالدين، وصلة الأرحام، وإغاثة الملهوف يوفون جزاءَهم عليها بسعة الرزق، وكشف الضر جزاءً تامًّا وافيًا، ولا يجزون عليها في الآخرة، ومثل هذا الجزاء متاعٌ عاجل لا يلبث أن يزولَ. وقرأ (١) الجمهور: ﴿لموفُّوهم﴾ مشددًا من وفى، وقرأ ابن محيصن مخففًا من (أوفى).
١١٠ - ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي، لقد آتينا وأعطينا موسى بن عمرانَ التوراة، وهو أول كتاب اشتمل على الأحكام والشرائع، وأما ما قبله من الكتب، فإنما كانت مشتملةً على الإيمان باللهِ وتوحيده، ومن ثم قيل لها: صحف، وإطلاق الكتاب عليها مجاز. ﴿فَاخْتُلِفَ فِيهِ﴾؛ أي: في شأن ذلك الكتاب، وكونه من عند الله، فآمن به قوم من بني إسرائيل، وكفَرَ آخرون، كما اختلف قومكَ في القرآن، فلا تبال يا محمَّد باختلافهم فيما آتيناك من القرآن، ولا تحزَنَ عليه، واصبر على تكذيبهم كما صَبَر موسى على تكذيب قومه، فإنَّ ما وقع لك فقد وقع لمن قبلك، ففيه تسلية له - ﷺ -. ولمَّا قَسَم النبي - ﷺ - غَنَائم حنين، وأطال بعض المنافقين الكلامَ في أنه لم يعدل في القسمة، قال النبي - ﷺ -: "من يَعْدِل إذَا لم يَعْدِل الله ورسولُه، رحمة الله على أخي موسى، لقد أُوذي بأكثر من هذا فصبر"، يعني أنَّ موسَى أصابه الأذى الكثير من جهة قومه، فصَبَر على أذاهم، فلم يجزَع فأنا أحق بالصبر منه؛ لأنَّ الجمعية الكمالية في ذاته - ﷺ - أتم فحَظُّه من النفحات الإلهية والأخلاق الحميدة الربانية أكثرُ وأوفرُ.
﴿وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ﴾؛ أي: ولولا الحكم الأزليُّ بتأخير العذاب عن أمتك، أو عن قوم موسى إلى يوم القيامَةِ. قال بعضهم: الأظهر أن لا (٢) تقيد بيوم القيامة، فإن أكْثَرَ طغاتهم نَزَلَ بهم العذاب يوم بدر، وفي غيره. ﴿لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾؛ أي: لأوقع القضاء بين المختلفين من قومك بإنزال العذابِ الذي يستحقه المبطلونَ ليتميزوا به عن المحقينَ.
والكلمة هي كلمة القضاءِ بتأخير العذاب إلى الأجل المسمى، بحسب
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
الحكمة الداعية إلى ذلك؛ أي: ولولا ما تقدم من قضاءِ الله سبحانه وتعالى بتأخير إهلاك البغاة المثيرين للاختلاف فيه بأهوائهم، وإبقاءِ المعتصمينَ بالوحدةَ والاتفاق على هِدَايَتِه لأهلكهم كما أَهْلَكَ الذينَ ردوا دعوة الرسل جحودًا وعنادًا، وهذا من جملة التسلية له - ﷺ -. ثمَّ وَصَفَهم بأنهم في شك من الكتاب فقال: ﴿وَإِنَّهُمْ﴾؛ أي: وإنَّ المكذبينَ بالكتاب من كفار قومك، أو من قوم موسى ﴿لَفِي شَكٍّ﴾ عظيم ﴿مِنْهُ﴾؛ أي: من القرآن إن حمل على قوم محمَّد - ﷺ -، أو من التوراة إن حمل على قوم موسى عليه السلام ﴿مُرِيبٍ﴾؛ أي: موقع في الريب، والاضطراب، فلا يدرون أحقٌّ هو أم باطلٌ؛ لأنهم (١) إذا نظروا لآبائهم، وما كانوا عليه قالوا: لو كانَ ما هم عليه ضلالًا ما اجتَمَعوا عليه، وإذا نظروا إلى النبي - ﷺ - ومعجزاته الظاهرة؛ قالوا: إنه لحق، وما جاء به صدق، فهم في شك، ولا شك أنه كفر، وكل هذا ناشىءٌ من الطبع على قلوبهم، وإلا فالحق ظاهرٌ لمن تدبَّره، اهـ "صاوي". وجاء في معنى الآية قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ﴾. والذين أورثوا الكتاب بعد مَن تَقدَّم ذكرهم من الأنبياء هم اليهود والنصارى، وقد عَرَض لهم من الشك والرَّيب في كتبهم ما لم يكُن في عهد سَلَفِهم؛ إذ أنَّ التوراةَ التي كتبها موسى عليه السلام، قد فقدت في إحراق البابليين لهيكل سليمان، والنصارى كانوا أشدَّ اختلافًا في كتبهم ومذاهبهم.
١١١ - ﴿وَإِنَّ كُلًّا﴾ من المختلفينَ في الكتاب المؤمنينَ منهم، والكافرين ﴿لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ﴾ (اللام) (٢) الأولى موطئة للقسم، والثانية للتأكيد أو بالعكس، و (ما) مزيدة للفصل بين اللامين؛ أي: وإن (٣) كلًّا من المختلفين فيه، والله ليعطينَهم ويؤدِّينَهم ربك يا محمَّد أَجْزِيَة أعمالهم تامًّا وافيًا كاملًا إن خَيرًا فخَيْرٌ، وإن شرًّا فشر إذ لا يَخْفَى عليه شيء منها. أو المعنى: وإنَّ جميعَهم، والله ليوفينهم ربك جزاءَ أعمالهم، قالوا: وأحسن ما قيل: إن أصلَ لمَّا لمًّا بالتنوين
(١) الصاوي.
(٢) البيضاوي.
(٣) المراح.
بمعنى جميعًا، نظير قوله تعالى: ﴿أَكْلًا لَمًّا﴾ فيكون توكيدًا لـ (كُلًّا)؛ أي: وإن كلًّا جميعًا من الخلائق، والله ليعطينَّهم ربك جزاء أعمالهم، ﴿إنه﴾؛ أي: إن ربك سبحانه وتعالى ﴿بِمَا يَعْمَلُونَ﴾؛ أي: بما يعمل كل فرد من المختلفين من الخير أو الشر ﴿خَبِيرٍ﴾؛ أي: عالم بحيث لا يخفى عليه شيء من جلائله ودقائقه، فيجازي كلًّا بحسب عمله، وتوفية جزاءِ الطاعاتِ وعدٌ عظيمٌ، وتوفيةُ جزاء المعاصي وعَيدٍ عظيمٌ، والجملة تعليل لما قبلها، فعلى العاقلِ أن ينتبهَ من الغفلة، ويجانبَ ما يخالفَ أمر الله تعالى، فإن الله سبحانه وتعالى لا يفوته منه شيء. وقرأ (١) الحرمِيَّان نافع وابن كثير، وأبو بكر: ﴿وَإِنَّ كُلًّا﴾ بتخفيف النون ساكنة. وقرأ الباقون بتشديد: (إنَّ). وقرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة: ﴿لَمَّا﴾ بالتشديد هنا وفي يس والطارق. وأجمعت السبعة على نصب (كُلًّا). فَتُصوَّر في قراءتهم أربع قراءات:
إحداها: تخفيفُ (إنْ) وتخفيف (لمَا) وهي قراءة الحرميان.
والثانية: تشديدهما، وهي قراءة ابن عامر وحمزة وحفص.
والثالثة: تخفيف (إن) وتشديد لمَّا، وهي قراءة أبي بكر.
والرابعة: تشديد (إنَّ) وتخفيف لما، وهي قراءة الكسائي وأبي عمرو.
وقرأ أبيٌّ والحسن بخلاف عنه، وأبان بن تغلب، و ﴿إنْ﴾ بالتخفيف ﴿كل﴾ بالرفع ﴿لمَّا﴾ مشددًا. وقرأ الزهري وسليمان بن أرقم: ﴿وَإِن كلًّا لمَّا﴾ بتشديد الميم وتنوينها ولم يتعرضوا لتخفيف (إنْ) ولا تشديدها. وقال أبو حاتم الذي في مصحف أبي: ﴿وإن مِنْ كُلَّ إِلَّا لَيُوفِيَّنَهم﴾. وقرأ الأعمش: ﴿وإنْ كلُّ إلا﴾ وهو حرف ابن مسعود. فهذه أربعة وجوه في الشاذ.
١١٢ - ثم أمر سبحانه رسوله - ﷺ - بكلمة جامعة لأنواع الطاعة له سبحانه فقال: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾؛ أي: مثل الاستقامة التي أمرت بها في العقائد والأعمال
(١) البحر المحيط.
258
والأخلاق، فإنَّ الاستقامةَ في العقائد اجتناب التشبيه، والتعطيل، وفي الأعمال الاحتراز عن الزيادة، والنقصان، وفي الأخلاق التباعد عن طرفي الإفراط والتفريط، وهذا في غاية العسر؛ أي؛ إذا تبين عندك يا محمَّد أحوال القرون الأولى، وأن إخوانَك الأَنبياء، ومؤمنيهم تحملوا من قومهم الأذى، وصبروا، واستقاموا على طريقتهم المثلى إلى أن يأتِيَ أمر الله تعالى، فأقولُ لك دُم أنت أيضًا على الاستقامة على التوحيد، والدعوة إليه كما أمركَ اللَّهُ تعالى فيَدْخُلْ في ذِلك جميع ما أمره به، وجميع ما نهاه عنه؛ لأنه قد أَمَره بِتَجَنُّبِ ما نهاه عنه كما أَمَره بفعل ما تعبّده بفعله، وأمته أسوة في ذلك. ولهذا قال: ﴿وَمَن تَابَ مَعَكَ﴾؛ أي: رَجَعَ من الكفر إلى الإِسلام، وشاركَكَ في الإيمان، وهو معطوف على الضمير في ﴿فَاسْتَقِمْ﴾ لأنَّ الفَصَل بين المعطوف والضمير المرفوع المعطوف عليه يقوم مقامَ التأكيد؛ أي: وليستَقِمْ مَنْ تاب معك. ومَا أعظمَ مَوْقِعَ هذه الآية، وأشدَّ أمرها، فإن الاستقامة كما أمر الله لا تقوم بها إلا الأنفس المطهَّرةُ والذواتُ المقَدَّسة. ولهذا يقول المصطفى - ﷺ -: "شيبتنِي هود"؛ أي (١): ومَنْ تاب من الشرك، والكفر، وشارَكَك في الإيمان، هو المعني بالمعية، وإلا فليس لهم مصاحبة له في التوبة عما ذكر؛ إذ الأنبياء مَعْصُومون عن الكفر، وكذا عن تعمد الكبائر قبل الوحي، وبعده بالإجماع. ﴿وَلَا تَطْغَوْا﴾؛ أي: ولا تَنْحَرِفوا عما حدَّ لكم بإفراط، وتفريط، فإنَّ كِلاَ طرفي قصد الأمور ذميم، وإنما سمِّي ذلك طغيانًا، وهو تجاوز الحد، تغليظًا أو تغليبًا لحال سائر المؤمنين على حاله - ﷺ -. والطغيان (٢) مجاوزة الحد. ولَمَّا أمَرَ الله سبحانه بالاستقامة المذكورة بَيَّن أن الغلوَّ في العبادة، والإفراطَ في الطاعة، على وجه تخْرج به عن الحد الذي حدَّه، والمقدار الذي قدَّره ممنوع منه منهي عنه، وذلك كمن يصوم ولا يفطر، ويقوم الليل ولا ينام، ويترك الحلالَ الذي أَذِنَ الله به، ورغَّب فيه. ولهذا يقول الصادق المصدوق فيما صح عنه: "أمَّا أَنَا فأصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأنكح النساءَ فمَن رَغِبَ عن سنتي فليس مني". والخطاب للنبيّ - ﷺ -، ولأمته تغليبًا لحالهم على
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
259
حاله، أو النهي عن الطغيان خاص بالأمة. ﴿إِنَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾؛ أي: عالم بأعمالكم لا يخفَى عليه شيء منها، فيجازِيكم على ذلك، فاتقوه في المحافظة على حدوده، وهو في معنى التعليل للأمر والنهي السابقين في الآية. وقرأ الحسن والأعمش: ﴿بما يعملون﴾ بالياء على الغيبة، ورُويت عن عيسى الثقفي.
وحاصل معنى الآية (١): أي فالزم الصراطَ المستقيمَ الذي لا عوج فيه، واثبت عليه، وكذلك فليستقم من تاب من الشرك وآمن معك، ولا تنحرفوا عما رُسِمَ لكم بتجاوز حدوده غلوًا في الدين، فإن الإفراط فيه كالتفريط، كلاهما زيغ عن الصراط المستقيم.
وفي هذا إيماء إلى وجوب اتباع النصوص في الأمور الدينية من عقائد، وعبادات، واجتناب الرأي، وبطلان التقليد فيها، وإيضاح هذا أنَّ تحكيمَ العقل البشري في الخوض في ذات الله وصفاته، وفيما دون ذَلك من عَالَم الغيب كالملائكة، والعرش، والجنة، والنار تجاوز لحدوده، فإن أكبرَ العلماء والفلاسفة عقولًا عجزوا إلى اليوم عن معرفة كنه أنفسهم، وأنفس ما دونَهم من المخلوقات صغيرها وكبيرها، حتى الحشرات منها كالنحل والنمل، فأنَّى لهم أن يعرفوا كنهَ ذات الله تعالى وصفاته، أو معرفة حقيقة ملائكته وغيرهم من جند الله تعالى.
ولما خرج متأخروا الأمة عن هدي سلفهم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان زَاغُوا فكانوا ﴿مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٣٢)﴾. فسَقَطَ بعضهم في خيال التشبيه، وبعضهم في خيال التعطيل، ولو كانوا قد نهجوا نهج السابقين، لتجنبوا أسباب الخلاف والتفرق في الدين الذي أوعد الله أهله بالعذاب العظيم، وبرأ رسولَه منهم.
والواجب التزام كتاب الله تعالى، وما فسرته به سنة رسوله - ﷺ - من
(١) المراغي.
260
العباداتِ العمليةِ والمعاملات على النحو الذي بينه الكتاب، والسنة على السنن القويم، دونَ تأويل، ولا تخريجٍ لهما على غير ما يفْهَم مِن ظاهرهما. أَما الاختلاف فيما عدا ذلك من أمور القضاء والسياسة، وأمور المعاش من زراعات وتجارات، فهو أمر طبيعي لا يمكن الغنَى عنه، فلولاه لما تقدمت شؤون الحياة، ولَمَا حصل التنافس لدى أرباب المهن، والصناعاتِ، ولما جد كل يوم بدع جديد، ولكان الناس دائمًا على الفطرة الأولى، وأنَّى لعقل الإنسان أن يستمرَّ على حال واحدة، وقد أُوتيَ الخلافَةَ في الأرض، وحسْنَ استعمارها، وبهذا وحدَه فَضَلَ الملائكة، ولله في خلقه شؤون. وقد بيَّن سبحانه لنا المخرجَ إذا حَدث بيننا الخلاف في الدين فقال: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ الآيةَ. وقد فسر ذلك النبي - ﷺ - بقوله لمعاذ بن جبل حين ولاه القضاء في اليمن: "بمَ تقضي؟ " قال: بكتاب الله، قال: "فإن لم تجد؟ "، قال: فبسنة رسوله، قال: "فإن لم تجد؟ "، قال: أجتهد رأيي، فأقره على ذلك. وهذا هو الاستقامة في الدين التي بها يرقى المرء إلى أعلى عليين. وقد حث الله رسوله عليها في هذه الآية وحَث موسَى وهارونَ عليها، فقال: ﴿قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا﴾. ومَدَح من اتَّصَفوا بها، ووعدهم بالخير والفلاح في الآخرة فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠)﴾. وروى مسلم عن سفيان الثقفي قال: قلتُ: يا رسول الله قل لي في الإِسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا بعدك، قال: "قل: آمنت بالله ثم استقم".
﴿إِنَّهُ﴾ تعالى ﴿بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾؛ أي: بصير بعملكم، ومحيط به، فيجزيكم به، فاتقوه أن يَطَّلع عليكم، وأنتم عاملون بخلاف أمره. ونظير هذه الآية قوله تعالى: ﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٥)﴾.
١١٣ - ﴿وَلَا تَرْكَنُوا﴾؛ أي: ولا تميلوا أدنى ميل؛ لأن الركونَ هو الميل اليسير،
261
والخطاب لرسول الله - ﷺ - ومَنْ مَعَه ﴿إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾؛ أي: إلى الذين وُجد منهم الظلم بالجملة ﴿فَتَمَسَّكُمُ﴾ بسبب ذلك ﴿النَّارُ﴾ الأخروية، وإذا كان الركونُ إلى من صدر منهم ظلم مرة في الإفضاء إلى مساس النار هكذا فما ظنك بالركون إلى من صدر منهم الظلم مرارًا، ورسخوا فيه، ثمَّ بالميل إليهم كلَّ الميل ﴿وَمَا لَكُمْ﴾، والحال: أن ما لكم ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ تعالى ﴿مِنْ أَوْلِيَاءَ﴾؛ أي: من أنصار ينقذونكم من النار، على أن يكونَ مقابلة الجمع بالجمع بطريق انقسام الآحاد على الآحاد، والجملة في محل النصب حال من مفعول ﴿فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾؛ أي: وأنتم على هذه الحالة، وهي انتفاء ناصركم. وقوله: ﴿ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ﴾ جملة فعلية معطوفة على الاسمية قبلها، وكلمة ﴿ثُمَّ﴾ لاستبعاد نصرة الله تعالى إياهم مع استحقاقهم العذابَ بسبب ركونهم؛ أي: ثم لا ينصركم الله، ولا ينقذكم منها إذ سَبَقَ في حكمه أن يُعَذِّبكم، ولا يُبقي عليكم. وقرأ الجمهور: ﴿تركنوا﴾ بفتح الكاف، والماضي رَكِنَ بكسرها، وهي لغة قريش.
وقال الأزهري: هي اللغة الفصحى. وعن أبي عَمرو بكسر التاء على لغة تميم في مضارع علم غير الياء. وقرأ قتادة، وطلحة، والأشهب، ورويت عن أبي عمرو: ﴿تَرْكُنوا﴾ بضم الكاف مضارع رَكَن بفتحها، وهي لغة قيس، وتميم. وقال الكسائي: وأهلُ نجد، وشذَّ "يَرْكنُ" بفتح الكاف مضارع، رَكَن بفتحها. وقرأ ابن أبي عَبْلَة: ﴿ولا تُرْكَنوا﴾ مبنيًّا للمفعول من أركنه إذا أَمالَه. وقرأ ابن وثاب، وعلقمة والأعمش، وابن مصرف، وحمزة، فيما روي عنه: ﴿فتمسَّكم﴾ بكسر التاء على لغة تميم، ذكره أبو حيان. وقرأت العامة: ﴿ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ﴾ بإثبات نون الرفع. وقرأ زيد بن علي، وعائشة بحذف نون الرفع عطفًا على (تمسكم) ذكره في "الجمل"؛ ومعنى الآية: أي: لا تستندوا إلى الذين ظلموا من قومكم المشركين، ولا من غَيرهم فَتَجْعَلُوهم رُكنًا لكم تعتمدون عليه، فتقروهم على ظلمهم، وتوالوهم في شؤونكم الحربية، وأعمالكم الدينية، فإن الظالمينَ بعضهم أولياء بعض.
262
وخلاصة ذلك: لا تستعينوا بالظلمة، فتكونوا كأنكم رضيتم عن أعمالهم، فإن فَعَلتم ذلك أصابتكم النار، التي هي جزاء الظالمين بسبب ركونكم إليهم، والاعتزاز بهم، والاعتماد عليهم، والركون إلى الظلم وأهله ظلم، ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾. وليس لكم في هذه الحال التي تركنون فيها إليهم غير الله وليًّا ينقذكم، ويخلصكم من عذابه، ثم لا تنصرون؛ أي: لا ينصركم الله؛ لأن الذينَ يركنون إلى الظالمينَ يكونون منهم، وهو لا ينصر الظالمين، كما قال: ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ بل تكون عاقبتكم الحرمانَ مما وعد الله رسله، ومن ينصره من المؤمنين.
والخلاصة: أن الركونَ إلى الظالمينَ المنهي عنه، هو: الاعتماد على أعداء المؤمنين الذين يفتنونهم، ويصدونهم عن دينهم، ويؤيده ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه فسر الظلمَ هنا بالشرك، و ﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ بالمشركين. وقيل: إنها عامة في الظلمة من غير فرق بين كافر ومسلم، ولو فرضنا أن سَبَبَ النزول هم المشركون، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ومن ابتلي بمخالطة الظلمة فليزن أَقْوالَهم وأفعالهم بميزان الشرع، فإنْ زاغوا عن ذلك فعلى أنفسهم قد جنوا، وطاعتهم واجبة على كل مَنْ دَخَل تحت أمرهم، ونهيهم في كل ما يأمرون به ما لم يكن في معصية الله. فمن أمروه أن يدخُل في شيء من الأعمال التي وَلَّوْهُ كالمناصب الدينية ونحوها فَلْيَدْخُل فيه إذا وثق من نفسه القدرةَ على القيام به، إلى أنه يجب الأخذ على أيدي الظالمين عامةً، وعلى أئمة الجَور والأمراء خاصةً، ويجب تغيير المنكر أولًا باليد، فإن لم يستطع ذلك فباللسان، وإلا فبالقلب وذلك أضعف الإيمان.
روى الإِمام أحمد، وأصحاب السنن، عن أبي بكر رضي الله عنه، أنه قَامَ فحمد الله، وأثنى عليه ثمَّ قال: أيها الناس! إنكم تقرؤون هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ حتى أتى على آخر الآية، ألا وإن الناسَ إذا رأوا الظالم، فلم يأخذوا على يديه، أوشك الله أن يعمهم بعقابه، أَلاَ وإني سمعت رَسول الله - ﷺ - يقول: "إن الناس إذا رأوا المنكَر بينهم، فلم ينكروه يوشِكَ أن
263
يعمَّهم اللَّهُ بعقابه".
وفي الآية (١) أبلغ ما يتصور في النهي عن الظلم، والتهديد عليه، والعجب من قوم يقرؤون هذه الآية ويرون ما فيها، ثم لا يرتَدِعُونَ عن الظلم والميل إلى أهله، ولا يتدبرون أنهم مؤاخَذون غير منصورين.
وفي الحديث: "إياكم والظلمَ فإنه يخرِّب قلوبَكم". وفي تخريب القلب تخريب سائر الجسد، فالظالم يظلم على نفسه، حيث يخرب أعضاءه الظاهرة، والباطنة، وعلى الله حيث يخرب بنيانَ الله، ويغيِّرُه ويفسده، ولأنه إذا ظَلَمَ غيره، وآذاه، فقد ظَلَمَ على الله ورسوله وآذاه. والدليل عليه قوله - ﷺ -: "أَنا من الله، والمؤمنون مِنّي، فَمَنْ آذى مؤمنًا، فقد آذاني، ومَنْ آذاني فقد أَذَى الله تعالى".
ودَخَل في الركون إلى الظالمينَ المداهنة والرضى بأقوالهم، وأعمالهم، ومحبة مصاحبتهم، ومعاشرتهم، ومد العَين إلى زهرتهم الفانية، وغبطتهم فيما أوتوا من القطوف الدانية، والدعاءِ لهم بالبقاء، وتعظيمُ ذِكرهم، وإصلاح دواتهم، وقلمهم، ودفعُ القلم أو الكاغد إلى أيديهم، والمشي خلفَهم، والتزيي بزيهم، والتَّشبهُ بهم وخياطة ثيابهم وحَلق رؤوسهم.
وقد امتنع بعض السلف عن رَدِّ جواب الظلمة في السلام، وقد سئل سفيان الثوري عن ظالم أَشْرَفَ على الهلاك في بريه، هل يُسقَى شربةَ ماء؟ فقال: لا، فقيل له: يموتُ، فقال: دعه فإنه إعانة للظالم. وقال غيره: يسقى إلى أنْ يثوبَ إلى نفسه، ثم يعرِض عنه.
وفي الحديث: "العلماء أُمناء الرسل على عباد الله، مَا لَمْ يُخَالِطُوا السلطانَ، فإذا فعلوا ذَلك فقد خانوا الرسل، فاحذروهم، واعتزلوهم"، فإذا علمتَ هذا، فاعلم أنَّ الواجب عليك: أن تَعْتَزلَ عنهم بحيث لا تراهم، ولا يرونك إذ لا سلامة إلا فيه، وأن لا تفتشَ عن أمورهم، ولا تتقرب إلى من هو
(١) روح البيان.
264
من حاشيتهم، ومتصل بهم من إمامهم، ومؤذنهم فضلًا عن غيرهم، من عمالهم وخدمهم، ولا تتأسفَ على ما يفوتُ بسبب مفارقتهم، وترك مصاحبتهم، واذكر كثيرًا قولَ رسول الله - ﷺ -: "إذَا قرأ الرجل القرآنَ، وتفقه في الدين، ثم أتى بابَ السلطان تملقًا إليه، وطمعًا لما في يديه خَاضَ بقدرِ خطاه في نار جهنم". والحديث كأنه مأخوذ من الآية، فهما متطابقان معنًى كما لا يخفَى.
ورُوي: أن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى يوشع بن نون أني مهلِك من قومك أربعينَ ألفًا من خيارهم، وستين ألفًا من شرارهم، فقال: ما بال الأخيار؟ فقال: إنهم لم يغضبوا لغضبي، فكانوا يؤاكلونهم، ويشاربونهم. وبهذا تبيَّن أن بُغْضَ الظَّلمةِ والغضبَ عليهم لله واجب، وإنما ظَهَرَ الفساد في الرعايا، وجميع أقطار الأرض، برًّا وبحرًا بفساد الملوك، وذلك بفساد العلماء أوَّلًا إذ لولا قُضاةُ السوء وعُلماءُ السوءِ لقل فساد الملوك، بل لو اتفقَ العلماء في كل عصر على الحق، ومنع الظلم، مجتهدينَ في ذلك، مستفرغين مجهودَهم، لما اجترأ الملوك على الفسادِ، ولاضمحل الظلم من بينهم رأسًا وبالكلية.
ومن ثمَّ قال النبي - ﷺ -: "لا تزالُ هذه الأمة تحت يد الله وكنفه، ما لم يمالِىء قراؤها أمراءها".
وإنما ذَكَر القراء؛ لأنهم كانُوا هم العلماء، ومَا كَانَ علمهم إلا بالقرآن، ومعانيهم إلا بالسنة، وما وراء ذلك من العلوم، إنما أحدثت بعدهم كذا في "بحر العلوم" للشيخ عليٍّ السمرقندي رحمه الله تعالى.
وذكَرَ في "الإحياء": أنَّ من دخلَ على السلطان بلا دعوة، كان جاهلًا، ومن دعِيَ فلم يجِبْ كَانَ أَهْلَ بدعة.
وتحقيق المقام: أنَّ الركونَ في الآية أسند إلى المخاطبين، والمخالطة، وإتيان الباب، والممالأة إلى العلماء والقراء، فكل منها إنما يكون مذمومًا إذا كان من قبل العلماء، وأمَّا إذا كان من جانب السلاطين والأمراء بِأنْ يكونوا مجبورينَ في ذلك مطالَبينَ بالاختلاط لأجل الانتفاع الديني.. فلا بَأسَ حينئذٍ بالمخالطة، لأنَّ المجبورَ المطالبَ مؤيد من عند الله تعالى، خَال عن الأغراض
265
النفسانية بِخِلافِ ما إذا كان مقارنًا بالأغراض النفسانية، فيكون موكولًا إلى نفسه فتختطفه الشياطين، نعوذ بالله سبحانه وتعالى من سخطه وغضبه.
١١٤ - ولما ذكر الله سبحانه وتعالى الاستقامةَ خَصَّ من أنواعها: إقامَةَ الصلاة لكونها رَأْسَ الإيمان وعمادَه، فقال: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ﴾ يا محمَّد أنت وأمتك؛ أي: أدِّها على الوجه القويم، وأَدِمْهَا ﴿طَرَفَيِ النَّهَارِ﴾؛ أي: في طرفي النهار من كل يوم؛ أي: غدوة وعشية، فالصبح في الغدوة، والظهر والعصر في العشية، وانتصابه على الظرفية، لكونه مضافًا إلى الوقت، فيعْطَى حكم المضاف إليه، ﴿وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ﴾؛ أي: وفي ساعات من الليل قريبة من النهار، وهي المغرب والعشاء، وانتصابه أيضًا على الظرفية، لعطفه على طرفي النهار، وهيَ الساعات القريبة من النهار، من أزلفه إذا قربه، جمع زلفة كغرف جمع غرفة.
والمراد بصلاة الغدوة، صلاة الصبح، وبصلاة العشية الظهر والعصر لأن ما بعد الزوال عشي، وبصلاة الزلف المغرب والعشاء.
وفيه دلالة بينة على إطلاق لفظ الجمع، وهو الزلف على الاثنين. فالآية مشتملة على الصلوات الخمس، ونظيرها قوله تعالى في سورة ق: ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ﴾ أي بصلاة الصبح. ﴿وَقَبْلَ الْغُرُوبِ﴾؛ أي: بصلاة العصر، والظهر، فالعصر أصل في ذلك الوقت، والظهر تَبَعٌ لها. ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ﴾؛ أي: في بعض أوقاته ﴿فَسَبِّحْهُ﴾؛ أي: بصلاتي المغرب والعشاء.
وفسَّر بعضُهم طرفي النهار بالصبح والمغرب، ورجَّحه ابن جرير، وزُلَفَ الليل بالعشاء والتهجد. فإنه كان واجبًا عليه فيوافق قوله: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ﴾.
ثم بيَّن فائدةَ الأمر السابق وحكمتَه فقال: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ﴾؛ أي: إنَّ الأعمالَ الحسنة على الإطلاق، لا سيما الصلوات الخمس ﴿يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾؛ أي: يكفِّرن الصغائر، ويذهبن المؤاخذة بها، لِمَا فيها من تزكية النفس وإصلاحها، فتمحو منها تأثير الأعمال السيئة في النفس، وإفْسَادَها لها، لا أنها تذهب السيئات نفسها؛ إذ هي قد وجدت بل مَا كانَ يترتب عليها من المؤاخذة
والمعاتبة.
والمراد بالحسنات (١): ما يعم الأعمالَ الصالحة جميعًا، حتى ما كان منها تركًا لسيئة كما قال تعالى: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (٣١)﴾. وجاء في الحديث الشريف قوله - ﷺ -: "وأتبع السيئة الحسنة تمحها"، وقوله: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكَفِّراتٌ لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر". والمراد بالسيئات الصغائر؛ لأنَّ الكبائرَ لا يكفرها إلا التوبة، بدليل ما رواه مسلم: "الصلوات الخمس كفارة لما بينها ما اجتنبت الكبائر". وقرأ (٢) الجمهور: ﴿وزلَفًا﴾ بفتح اللام جمع زلفة كغرفة وغرف. وقرأ طلحة، وعيسى البصرة، وابن أبي إسحاق، وأبو جعفر، وابن القعقاع: ﴿زُلُفًا﴾ بضمها جمع زليف، أو كأنه اسم مفرد. وقرأ ابن محيصن، ومجاهد بإسكان اللام، وروي عنهما: (زَلْفَى) على وزن فعلى على صفة الواحد من المؤنث.
﴿ذَلِكَ﴾ المذكور (٣) من الوصايَا السابقة من الاستقامة والنهي عن الطغيان، والركون إلى الذين ظلموا، وإقامة الصلاة في تلك الأوقات ﴿ذِكْرَى﴾؛ أي: عِظة واعتبار ﴿لِلذَّاكِرِينَ﴾؛ أي: للمتعظين بأوامر الله ونواهيه، فمن امتثلَ إلى أوامر الله تعالى، فاستقامَ وأقامَ.. فقد تحقَّقَ بحقيقة الحال والمقام؛ أي: ذلكَ المذكور موعظة للمتعظين الذين يراقبون الله، ولا ينسونَه، وخصهم بالذكر، لأنهم هم الذين ينتفعونَ بِها.
١١٥ - ﴿وَاصْبِرْ﴾ يا محمَّد أنت وأمتك على تحمل مشاق التكاليف أمرًا أو نهيًا من الاستقامة وعدم الطغيان وغيرهما، ﴿فَإِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾؛ أي: أجر المخلصينَ في أعمالهم الصالحة، فعلًا أو تركًا؛ أي: يوفيهم أجورَهم، ولا يضيع منها شيئًا، فلا يهمله، ولا يبخَسُه بنقص، وإنما عبَّر
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
(٣) الشوكاني.
عن ذلك بنفي الإضاعة، مع أنَّ عَدَمَ إعطاء الأجر ليس بإضاعة، حقيقة كيف لا والأعمال غيرُ موجبة للثواب، حتى يلزمَ من تخلفه عنها ضياعها لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك بتصويره بصورة ما يمتنع صدوره منه سبحانه من القبائح، وإبرازًا للإثابة في معرض الأمور الواجبة، وهو تعليل للأمر بالصبر.
وعن أبي بكر الوراق قال: طلبنا أربعةَ أشياءَ سنينَ، فوجدناها في أربعة؛ طلبنا رضَى الله تعالى فوجدْنَاه في طاعته، وطلبنا السعة في المعيشة فوجدناها في صلاة الضحى، وطلبنا سلامة الدين فوجدناها في حفظ اللسان، وطلبنا نور القبر فوجدناه في صلاة الليل، فعلى العاقل السعي في طريق الطاعات، وتنوير القلب بنور العبادات، ذكره صاحبُ "الروح". والمعنى؛ أي (١): ووطن نفسَك على احتمال المشقة في سبيل ما أمرت به وما نهيتَ عنه في هذه الوصايا وفي غيرها، فإن الله لا يضيعْ أجرَ مَن أحسنَ عملًا، بل يوفيه ثوابَ عمله من غير بَخْسٍ له. وفي الآية إيماء إلى أنَّ الصبرَ من باب الإحسان.
فائدة: وقد كانت (٢) عادة القرآن على إجراء أكثر خطابات الأوامر على النبي - ﷺ -، فلذلك قالَ: ﴿فَاسْتَقِمْ﴾ ﴿وَاصْبِرْ﴾ وأكثر خطابات النهي على الأمة، فلذلك قال: ﴿وَلَا تَطْغَوْا﴾، ﴿وَلَا تَرْكَنُوا﴾ اعتبارًا للأصالة في الاتصاف، والتنزه والاجتناب فافهم.
١١٦ - ولما بيَّن (٣) سبحانه وتعالى ما حلَّ بالأمم الماضية من عذاب الاستئصالَ بيَّن هنا أن السَّبَب في ذلك أمران: الأول: عدم وجود مَنْ ينهى عن الفساد، الثاني: عدم رجوعهم عَمَّا هم فيه فقال: ﴿فَلَوْلَا كَانَ﴾ لولا تحضيضية مضمنة معنى النفي، وكان بمعنى وجد؛ أي: فهلا وجد ﴿مِنَ الْقُرُونِ﴾؛ أي: من الأمم المهلكة الكائنة ﴿مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ قال في "القاموس": القرون جمع قرن، والقرنُ مئة
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) الصاوي.
268
سنة، وهو أصح الأقوال الجارية في معنى القرن، وكل أهل عصر قرن لمن بعدهم؛ لأنهم يتقدمونهم، وكلُّ أمة هَلَكَتْ، فلَم يبق منها أحد تُسمَّى قرناء. ﴿أُولُو بَقِيَّةٍ﴾؛ أي: أصحاب عقل ورأي ودين وفضل. وسُمِّي الفضل والجودةُ بقيةً على أن يكون الهاء للنقل كالذبيحة؛ لأنَّ الرجلَ إنَّما يستبقي مما يكسبه عادة أجودَه، وأفضلَه، فصار مثلًا في الجوْدَةَ والفضل، يقال: فلان من بقية القوم؛ أي: من خيارهم، ومنه ما قيل في المَثل: في الزوايا خبايَا، وفي الرجال بقايَا؛ وإنما قيل: بقية، لأنَّ الشرائعَ والدولَ، ونحوَها، قوتها في أولهَا، ثم لا تزالُ تضعف، فمن ثبت في وقت الضعف.. فهو بقية الصدر الأول. ﴿يَنْهَوْنَ﴾ نعت لأُولي؛ أي: ينهون قومهم المفسدين ﴿عَنِ الْفَسَادِ﴾ الواقع منهم ﴿فِي الْأَرْضِ﴾، ويمنعونهم من ذلكَ لكونهم ممن جمع الله فيهم بينَ جودة العقل وقوة الدين. وفي قوله: ﴿يَنْهَوْنَ﴾ حكاية الحال الماضية، والمراد بالتحضيض في لولا: النفيُ، والاستثناءُ في قوله: ﴿إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ﴾ منقطع، والمعنى: ما كانَ من القرون المهلكة من قبلكم أُولو فضل ودين ينهون عن الفساد في الأرض إلّا قليلًا ممن أنجينا منهم؛ أي: من القرون المهلكة نَهَوا عن الفساد، فنجَوا، وهم أتباع الرسل، وسائرهم تركوا النهيَ، فهلكوا، و (من) في ﴿ممن أنجينا﴾ للبيان لا للتبعيضِ؛ لأنَّ جميعَ الناجينَ ناهُونَ.
قيل: هؤلاء القليلُ: هم قوم يونس لقوله فيما مر: ﴿إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ﴾. والراجح أنهم أتباع الرسل، وأهل الحق من الأمم على العموم.
والمعنى: فهلا وجد من أولئك الأقوام الذين أهلكناهم بظلمهم وفسادهم في الأرض جماعة أولو عقل ورأي وصلاح ينهونهم عن الفساد في الأرض، باتباع الهوى، والشهوات التي تفسد عليهم أنفسَهم، ومصالِحَهم، فيحولون بينهم، وبين الفساد، ومن سنة اللَّهِ أن لا يهلك قومًا إلا إذا عَمَّ الفساد والظلم أكثرهم.
﴿إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ﴾؛ أي: ولكنْ كَانَ هناك قليل من الذين أنجيناهم مع رسلهم، منبوذينَ لا يقبل نهيهم وأمرهم مهددينَ مع رسلهم بالإبعاد والأذى. وقوله: ﴿وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ﴾ معطوف على مقدر يقتضيه
269
الكلام تقديره: إلا قليلًا ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد فَنَجَوا، واتبعَ الذين ظلموا أنفسَهم وغيرهم بسبب مباشرتهم الفسادَ، وتركهم النهي عنه، فيكونُ العدول إلى المظهر لإدراج المباشرين معهم في الحكم، والتسجيل عليهم بالظلم، وللإشعار بعلية ذلك، لِمَا حَاقَ بهم من العذاب؛ أي: واتّبَعَ الذين تركوا النهيَ عن المنكرات، ما أنعموا فيه، واستدرجوا به من الشهوات، واشْتَغَلوا بتحصيل الرياسات، وأعرضوا عما وَرَاء ذلك من أمور الآخرة. ﴿وَكَانُوا مُجْرِمِينَ﴾؛ أي: كافرينَ، فإن سبب استئصال الأمم المهلكة، فشو الظلم، وشُيوعُ ترك النهي عن المنكرات مع الكفر.
والمعنى: أي صاروا تابعينَ للنعم التي صاروا بها مترفينَ منعمين من خصب العيش، ورفاهية الحال، وسعة الرزق، وآثروا ذلك على الاشتغال بأعمال الآخرة، واستغرقوا أعمارَهم في الشهوات النفسانية.
وجملة: ﴿وَكَانُوا مُجْرِمِينَ﴾ معطوفة على: ﴿وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾؛ أي: اتبعوا شهواتِهم، وكانوا بذلك الاتباعِ مجرمين، وهذا بيان لسبب استئصال الأمم المهلكة، وهو ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واتباع الشهوات.
وخلاصة ذلك (١): أنَّ العقولَ السليمةَ كافية لفهم ما في دعوة الرسل من الخير والصلاح، لو لم يمنع استعمال هِدَايَتِها الافتتانُ بالترف، والنعيم، بَدَلًا من القصد والاعتدال فيه، وشكر المنعم عليه، وقد هَدَتْ التجارب إلى أنَّ التَّرَفَ هو الباعث على الفسوق والعصيانِ، والظلم والإجرام، ويظهر ذلك بديئًا في الرؤساء والسادة، ومنهم ينتقل إلى الدهماء، والعامَّةِ، فيكون ذلك سببًا في الهلاك بالاستئصال، أو في فقد العزة والاستقلال، وتلك هي سنة الله في خلقه، كما قال: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (١٦)﴾. وفي الحديث (٢): "إن الله لا يعذب العامةَ بعمل الخاصة، حتى يروا المنكرَ بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروا، فلا ينكرون، فإذا فعلوا ذلكَ
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
270
عذَّب الله العامَّةَ والخاصة"، فكل قوم لم يكن فيهم آمر بالمعروف، وناه عن المنكر، من أرباب الصدق، وهم مجتمعون على الفساد، أو لا يأتمرون بالأمر بالمعروف، ولا ينتهون بالنهي عن المنكر، فإنهم هالكون.
وقرأت فرقة (١): ﴿بَقِية﴾ بتخفيف الياء اسم فاعل من بقي نحو: شجيت فهي شجية. وقرأ أبو جعفر وشيبة: ﴿بُقْية﴾ بضم الباء وسكون القاف، بوزن فعلة. وقرىء: (بَقْيَة) بوزن فَعْلَة للمرة من بقاه يبقيه، إذا رقبه وانتظره. وقرأ زيد بن علي: ﴿إلا قليل﴾ بالرفع لحظ أن التحضيض تضمن النفْيَ فأبدل كما يبدل في صريح النفي. وقرأ جعفر بن محمَّد، والعلاء بن سيابة كذا في كتاب "اللوامح"، وأبو عمرو في رواية الجعفي، ﴿وأتبعوا﴾ ساكنة التاء مبنيةً للمفعول على حذف مضاف؛ لأنه مما يتعدَّى إلى مفعولين؛ أي: جزاء ما أترفوا فيه.
١١٧ - ثم بَيَّن سبحانه وتعالى ما يحول بين الأمم وإهلاكها فقال: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ﴾ يا محمَّد ﴿لِيُهْلِكَ الْقُرَى﴾ (اللام) لام الجحود عند البصريين، وينتصب الفعل بَعْدَهَا بإضمار أن، وهي متعلقة بخبر كانَ المحذوف؛ أي: مريدًا لإهلاك أهل القرى. وقال الكوفيون: ﴿يهلك﴾ خبرُ كَانَ زيدت اللام دلالةً على التأكيد. ﴿بِظُلْمٍ﴾ حال من الفاعل؛ أي: ظالمًا لها بغير ذنب، واستحقاق للهلاك، بل استحَالَ ذلك في الحكمة. ﴿وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾؛ أي: غير ظالمينَ، حال من المفعول، والمراد تنزيه الله تعالى عن الظلم بالكلية، بتصويره بصورة مَا يستحيل صدوره عنه تعالى، وإلا فلا ظُلْمَ فيما فَعَلَ الله بعباده، كائنًا مَا كَانَ.
والمعنى: وما كان الله سبحانَه وتعالى مريدًا لإهلاك أهل القرى حالةَ كونه ظَالِمًا لها بغير ذنب، ولا استحقاق إهلاك، حَالَةَ كون أهلها غيرَ ظالمين. وقيل قوله: ﴿بِظُلْمٍ﴾ متعلق بالفعل المتقدم، والمراد به الشرك.
والمعنى: أي ما صح (٢)، ولا استقام أن يهلك الله سبحانه وتعالى أَهلَ القرى بظلم وشرك يتلبسون به، والحال أن أهلها مصلحون فيما بينهم في تعاطي
(١) البحر المحيط.
(٢) الشوكاني.
الحقوق، لا يظلمون الناسَ شيئًا، والمعنى: أنه لا يهلكهم بمجرد الشرك وحده، حتى ينضم إليه الفساد في الأرض كما أهلكَ قوم شعيب بنقص المكيال والميزان، وبخس الناس أشياءهم، وأهلك قَوْم لوط بسبب ارتكابهم للفاحشة الشنعاء، وإنما لم يهلكهم بشركهم؛ لأن مكافَأَةَ الشرك النار لا ما دونَها.
قال بعضهم: الملك يبقى مع الشرك، ولا يبقَى مع الظلم. وقيل: المعنى: وما كان ليهلكهم بِذُنُوبِهم، وهم مصلحون؛ أي: مخلصون في الإيمان.
وحاصل معنى الآية: أي (١) أنه تعالى ليس من سنته أن يهلك القرى بشرك أهلها ما داموا مصلحينَ في أعمالهم الاجتماعية، والعمرانية، والمدنية، فلا يبخسون النَّاسَ حقوقهم، كما فعل قوم شعيب، ولا يَبْطِشُون بالناس بطشَ الجبارين، كقوم هود، ولا يذلون لمتكبر جبار، كقوم فرعون؛ ولا يرتكبون الفواحشَ، ويقطعونَ السبيلَ، ويأتون في ناديهم المنكرَ، كقوم لوط بل لا بد أن يضموا إلى الشرك الإفسادَ في الأعمال؛ والأحكام، ويفعلوا الظلمَ المدمر للعمران، ومن ثمَّ قالوا: الأمم تبقَى مع الكفر، ولا تبقَى مع الظلم والجَور. ويؤيد هذا ما أخرجه الطبراني، والديلميُّ، وابن مردويه عن جرير بن عبد الله قال: سمعت رسول الله - ﷺ - يُسأَل عن تفسير هذه الآية فقال: "وأهلها ينصف بعضهم بَعْضًا".
١١٨ - ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ﴾ يا محمَّد، جعلَ الناس أمةً واحدةً ﴿لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾؛ أي: أهل (٢) دين واحد، إما أهلَ ضلالة، أو أهل هُدًى. وقيل معناه: جَعَلَهم مجتمعينَ على الحق، غير مختلفينَ فيه، أو مجتمعينَ على دينِ الإسلام دونَ سائِر الأديان، بحيث لا يكاد يختلف فيه أحد كما كانوا قبل الاختلاف. قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا﴾ ولكنه لم يَشَأْ ذَلِكَ.
أي: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ﴾ أيها الرسول (٣) الكريم الشديد الحرص على إيمان
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
قومك، الحزين من أجل إعراض أكثرهم عن إجابة دَعوتك، واتباع هديك ﴿لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾؛ أي: على دين واحد، بمقتضَى الغريزة والفطرة، لا اختيار لهم فيما يفعلون، فكانوا في حياتهم الاجتماعية، أشبَه بالنمل والنحل، وفي حياتهم الروحية أشبَه بالملائكة، مفطورينَ على طاعة الله، واعتقاد الحق، وعدم الميل إلى الزيغ والجور، لكنه تعالى خلَقهم كاسبِين، لا ملهمين، وعاملين بالاختيار لا مَجْبورين، ولا مضطرينَ وجعلهم متفاوتين في الاستعداد، وكسب العلم، وكانوا في أطْوَارِهم الأولى لا اختلافَ بينهم. ثم لما كثرت وتنوعت حَاجَاتهم، وكثرت مطالبهم، ظَهَرَ فيهم الاستعدادُ للاختلاف، ولكنه لم يشأْ ذلك، ولذلك قال: ﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾ في ذات بينهم على أديان شتَّى أو لا يزالونَ مختلفينَ في الحق، أو دين الإِسلام.
فقد اختلف أهله فيه اختلافًا كثيرًا. فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي - ﷺ - قال: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، أو اثنين وسبعينَ فرقةً، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة". المراد بهذه الفرق، أهل البدع، والأهواء كالخوارج، والقدرية، والرافضةِ والمعتزلة، والمرادُ بالفرقة الواحدة: أهل السنة والجماعة، اهـ "خازن". أو لا يزالونَ مُخْتَلِفينَ في الرزق، فهذا غني، وهذا فقير، أو لا يزالون مختلفينَ في شؤونهم الدنيوية، والدينية بحسب استعدادهم الفطري،
١١٩ - ﴿إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ﴾ بالهداية إلى الدين الحق، فإنهم لم يختلفوا، أو إلا مَنْ رحم ربك من المختلفين في الحق، أو دين الإِسلام بهدايته إلى الصواب الذي هو حكم الله تعالى، وهو الحق الذي لا حقَّ غيره، أو إلا مَنْ رحم ربك بالقناعة. والأولى تفسير: ﴿لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ بالمجتمعةِ على الحق، وحكم كتابه فيهم، وهو الذي عليه مدار جمع كلمة الأمة، ووحدتها، حتى يكون معنى الاستثناء في ﴿إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ﴾ واضحًا غير محتاج إلى تَكَلُّفٍ.
﴿وَلِذَلِكَ﴾؛ أي: ولمشيئته تعالى فيهم الاختلافَ والتفرقَ في علومهم، ومعارفهم، وآرائهم، وما يتبع ذلك من الإرادة والاختيار في الأعمال ﴿خَلَقَهُمْ﴾؛ أي: خَلَقَ الناسَ كافَّةً، وبهذا كانوا خلفاء في الأرض، ومن ذلك اختلافهم في
273
الدين والإيمان، والطاعة والعصيان، وبذا كانوا مَظْهرًا لأسرار خلقه الروحية، والجسدية، أو المادية، والمعنوية، فإنه جعل مصيرَ أهل الباطل إلى النار، ومصيرَ أهل الحق إلى الجنَّة. وقال ابن عباس: خَلَقهم في فَرِيقَيْنِ فريق يرحم فلا يختلف، وفريق لا يرحم فيختلفُ، فذلك قوله: ﴿فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ﴾.
والخلاصة (١): أن الناس فريقان: فريق اتفقوا في الدين، فجعلوا كتابَ الله حَكَمًا بينهم فيما اختلفوا فيه، فاجتمعت كلمتهم، وكانت أمة وَاحِدَةً فرحمهم الله تعالى، ووقاهم شرَّ الاختلاف في الدنيا، وعذابَ الآخرة. وفريق اختلفوا في الدين كما اختلفوا في منافع الدنيا، فكان بأسهم بَيْنَهم شديدًا، فذاقوا عقابَ الاختلاف في الدنيا، وأعقبه جزاؤهم في الآخرة، فحُرموا من رحمة الله بظلمهم لأنفسهم لا بظلم منه تعالى لهم.
فإن قلت: يعارض ما هنا أعني قوله: ﴿وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾، قولَه تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦)﴾.
قلت: لا معارضة بَينَهما، لأنَّ ما هنا خَلَقهم ليصير أمرهم إلى الاختلاف، وقوله: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ﴾ معناه: ما خلقتهم إلا للأمر بالعبادة، وبهذا يزول الإشكال، تأمل.
﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ﴾؛ أي: ثبت (٢) قول ربك يا محمَّد للملائكة: وعزتي وجلالي ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ﴾؛ أي: لأجعلنها ملأى حتى تقول قط قط بمعنى يكفي يكفي كما في الحديث. وذلك بعد أن تمد أعناقَهَا، وتطلب الزيادة ليتجلى عليها بصفة الجلال، فتخضع وتذل وتقول: قَطْ قَطْ. ﴿مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾؛ أي: من عصاتهما ﴿أَجْمَعِينَ﴾ لتأكيد العموم للنوعين، وإذا تمت وثَبَتَتْ امتنعَت من التغيير والتبديل؛ أي: قد سبق في قضائه وقَدَرِه وحكمته النافذة أن من خلقه من يستحق الجنة، ومنهم من يستحق النارَ، وأنَّ النارَ لا بد أن تملأَ من عالمي الجن
(١) المراغي.
(٢) المراح.
274
والإنس، الذين لا يهتدون بما أرسلَ به رسلَه، وبما أنزلَ عَلِيهم من كتبه لهداية المكلفين، والحكم بين المُخْتَلِفِينَ.
١٢٠ - ولما ذكر (١) الله سبحانه وتعالى في هذه السورة الكريمة قَصَصَ الأمم الماضية، والقرُونَ الخالية، وما جرَى لهم مع أنبيائهم.. خاطب نبيَّه - ﷺ - بقوله: ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ﴾؛ أي: وكل نبأٍ وخبر من أنباءِ الرسل المتقدمين من قبلك، وأخبارهِم مع قومهم، مما يحتاج إليه، وما جرى لهم من المحاجات، والخصومات، وما احتمله الأنبياء من التكذيب، والأذى، وكيف نَصَر الله حِزبَهُ المؤمنين، وخذل أعداءَه الكافرين، نقصه عليك، ونخبره لك لفوائدَ، منها: ما ذكره بقوله: ﴿مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ حتى يكون كالجبل لتقومَ بأعباء الرسالة، ونشر الدعوة لما لك من الأسوة بإخوانك المرسلين. وهو بدل من ﴿كلًّا﴾؛ أي: نقص عليك من تلك الأنباء ما نقوي ونشد به قلبكَ، حتى يَزيدَ يقينك، وتطيبَ به نفسك، وتعلم أن الذي فعل بك قد فعل بالأنبياء قبلك، والإنسان إذا ابتليَ بمحنة وبلية، فرأى جماعةً يشاركونه فيها خف على قلبه بَلِيَّته كما يقال: البلية إذا عمت خفت وطابَتْ. وتثبيت (٢) الفؤاد هو بما جرى للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولأتباعهم المؤمنين، وما لقوا من مكذبيهم من الأذى. ففي هذا كله أسوة بهم؛ إذ المشاركة في الأمور الصَّعْبة تهوِّن ما يلقَى الإنسانُ من الأذى، ثم الإعلام بما جرَى على مكذبيهم من العقوبات المستأصلة بأنواع من العذاب، من غرق، وريح، ورجفة، وخسف، وغَيرِ ذلك فيه طمأنينة للنفس، وتأنيس بأن يُصِيبَ الله من كذَّب الرسولَ - ﷺ - بالعذاب كَمَا جَرَى لمكذبي الرسل، وإنباء له عليه الصلاة والسلام بحسن العاقبة له، ولأتباعه، كما اتفقَ للرسل وأتباعِهم. ومنها: ما ذكره بقوله: ﴿وَجَاءَكَ﴾ يا محمَّد ﴿فِي هَذِهِ﴾ الأَنْبَاء المقصوصة عليك، أو في هذه السورة، ﴿الْحَقُّ﴾؛ أي: البراهين الدالةَ على التوحيد، والنبوة ﴿وَمَوْعِظَةٌ﴾؛ أي: تنفير للمؤمنين من الاغترار بالدنيا.
﴿وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: إرشاد لهم إلى الاستعداد للآخرة؛ أي: وجاءك
(١) الخازن.
(٢) البحر المحيط.
في هذه السورة النبأ الحق، والخبرُ الصدق الذي هو مطابق لِمَا جرَى للأمم السابقة، ليسَ فيه تغيير، ولا تحريفٌ، كما يَنْقل شيئًا من ذلك المؤرخُون. فإن قلت (١): قد جاءه الحق في سور القرآن كُلِّها، فلِم خص هذه السورة بالذكر؟
قلت: لا يلزَمُ من تخصيص هذه السورة بالذكر أن لا يَكُون قد جاءه الحق في غيرها من السور، بل القرآن كلُّه، حق يَحِقُّ تَدَبُّرُه، وصدقٌ يجب تصديقه، ولكن إنما خصَّها بالذكر، تشريفًا لها، ورفعًا لمنزلتها لكونها جمعت من قصص الأمم الماضية، ما لم يَكُن في غَيْرِها، وإنما عرفه، ونكر تَالِيَيهِ تفخيمًا له، لكونه يُطلَقُ على الله تعالى بخلاف تالييه، اهـ "كرخي".
قال في "الإرشاد" (٢): ﴿وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ﴾؛ أي: الأمر الجامع بين كونه حقًّا في نفسه، وكونهِ موعظةً، وذِكرى للمؤمنينَ، ولكون الوصف الأول حالًا له في نفسه، حلّي باللام دون ما هو وصف له بالقياس إلى غيره، وتقديم الظرف أعني (في هذه) على الفاعل، أعني الحقَّ، لأنَّ المقصود بيان منافع السورة، لا بيان ذلك فيها، لا في غيرها؛ أي: لأن المقصودَ بيان اشتمالها على ذلك، لا بيان كونه موجودًا فيها دون غيرها.
﴿وَمَوْعِظَةٌ﴾؛ أي: ونصيحة عظيمة للمؤمنين ﴿وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: وتذكرة لهم خَصَّهم بالذكر، لأنهم هم المنتفعون بالموعظة، والتذكير بأيام الله، وعقوبته، والفرق بين الموعظة والتذكير: أنَّ المَوْعِظَةَ هي ما ينزجر به السامِعُ، ويمتنع من الاغترار بزخارف الدنيا، ولذاتها لأنه إذا رَأَى إهلاك الأمم السابقة مع قوتهم، وجلادتهم وسعةِ رزقهم أعرضَ عن الدنيا، والتذكير: ما يقبل السامع بالتدبر فيه إلى أمور الآخرة، والتزود لها؛ لأنه إذَا رأى نَصرَ المؤمنين، وكَوْنَ الدولة لهم، ونَجَاتهم مع الرسل، أقْبَل إلى أمور الآخرة، والتزود لها. وقيل: هما مرادفان.
١٢١ - ﴿وَقُلْ﴾ يا محمَّد ﴿لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ بهذا الحق، ولا يتعظون به، ولا
(١) الخازن.
(٢) روح البيان.
يتذكرون من أهل مكة، وغيرهم. ﴿اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ﴾؛ أي: على حَالَتِكم وجهتكم التي هي عدم الإيمان ﴿إِنَّا عَامِلُونَ﴾ على حالنا، وهو الإيمان به، والاتعاظ والتذكير به
١٢٢ - ﴿وَانْتَظِرُوا﴾ بنا الدوائرَ والنوائبَ على ما يعدكم الشيطان ﴿إِنَّا مُنْتَظِرُونَ﴾ أن ينزل بكم ما نَزَلَ بأمثالكم من الكفرة على ما وعد الرحمن. فهذا تهديد لهم؛ لأن الآيةَ منسوخة بآية السيف.
والمعنى (١): ﴿وَانْتَظِرُوا﴾ بنا ما تتمنونه من انتهاء أمرنا إما بموت أو غيره، مما تحدِّثون به أنفسَكم، كما حكى الله عنهم في قوله: ﴿أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠)﴾.
﴿إِنَّا مُنْتَظِرُونَ﴾ أن ينزلَ بكم مثل ما نزلَ بأمثالكم من عقابه تعالى، بعذاب من عنده، أو بأيدي المؤمنين، وأن يكفل لنا النصرَ والغلبة، وتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، والله عزيز حكيم. وقد أنجزَ وَعْدَه، ونصَرَ رسوله، وأيَّدَهُ، ونظير الآية قوله تعالى: ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾.
١٢٣ - و (اللام) في قوله (٢): ﴿وَلِلَّهِ﴾ للاختصاص ﴿غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ الغيب في الأصل مصدر، وإضافة المصدر يفيد العموم، والإضافة فيه بمعنى في؛ أي: وعلم جميع ما غاب عنك يا محمَّد، وعن سائر الخلائق في السموات والأرض مختص بالله سبحانه وتعالى، فكيف يخفَى عليه أعمالكم؛ وهو المالك لجميع ما في السموات والأرض، المتصرف فيه كيف شاء، العالم بكل ما سيقع فيهما، والعالم بوقته الذي يقع فيه.
وخص (٣) ذكرَ الغيب مع كونه يعلم بما هو شاهد فيهما، لكونه من العلم الذي لا يُشَارِكهُ فيه غيره، وخص ذكرَ السموات والأرض مع كونه يعلم ما غاب في غيرهما من العرش والكرسي وغيرهما، لكونهما محسوسين للمخاطبين.
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
277
وقيل: إنَّ غيبَ السموات والأرض نزول العذاب من السماء، وطلوعه من الأرض، والأول أولى، وبه قال أبو علي الفارسي وغيره.
﴿وَإِلَيْهِ﴾ سبحانه وتعالى وحده لا إلى غيره ﴿يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ﴾ بضم الياء، وفتح الجيم، أي يرد، وبفتح الياء، وكسر الجيم بمعنى يَعُود، ويصير أمور الخلائق كلها يوم القيامة، فيجازى كُلًّا بعمله خيرًا، أو شرًّا، فيرجع أمرك يا محمَّد، وأمُر الكفار إليه، فينتَقِم لَكَ منهم؛ أي: فأمركَ وأمرهم لا مَحَالةَ راجع إليه تعالى، ومَا شَاء كان، وما لم يَشَأْ لم يكن. وقرأ (١) نافع وحفص: ﴿يُرْجَعُ﴾ على البناء للمفعول. وقرأ الباقون على البناء للفاعل. ﴿فَاعْبُدْهُ﴾؛ أي: وإذا (٢) كان أمر كل شيء يرجع إليه، فاعبده سبحانه وتعالى بإخلاص الدين له وحدَه، وادعُ إلى طاعته، واتباع أمره بالحكمة، والموعظة الحسنة ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾ تعالى فيما لا يدخلُ في مكنتك، واستطاعتك مما ليس لك سبيل إلى الحصول عليه، لكونه لا يدخلُ تحتَ كسبك، ولا تنالُه يدك، والتوكل لا يجدي نفعًا بغير العبادة، والأخذ بالأسباب المستطاعة، وبدون ذلك يكون من التمني الكاذب، والعبادة لا تكمل إلّا بالتوكل، إذ به يكمل التوحيد والإخلاص له تعالى.
روى أحمد، والترمذي، وابن ماجه، أن النبي - ﷺ - قال: "الكيس مَنْ دان نفسه، وعمل لما بعدَ الموت، والعاجز من أتبع نفسَه هواها، وتمنَّى على الله الأماني".
وخلاصة ذلك: امتَثِلْ ما أمرت به، وداوم على التبليغ والدعوة، وتوكل عليه في سائر أمورك، ولا تبال بالذين لا يؤمنون، ولا يضيق صدرك بهم.
وقيل: معنى قوله: ﴿فَاعْبُدْهُ﴾؛ أي (٣): أطعه، واستقم على التوحيد أنت وأمتك ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾؛ أي: فوض إليه جميعَ أمورك، فإنه كافيك وعاصمك من
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
278
شرهم، فعليك تبليغ ما أوحينا إليك، بقلب فسيح غير مبال بعداوتهم، وعتوهم وسفههم، وفي تأخير الأمر بالتوكل عن الأمر بالعبادة إشعارٌ بأنه لا ينفَعُ بدونها.
﴿وَمَا رَبُّكَ﴾ يا محمَّد ﴿بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾؛ أي: بساه (١) عما تعمل أنت أيها النبي - ﷺ - ومن اتبعك من المؤمنين من عبادته، والتوكل عليه، والصبر على أذى المشركين، فيوفيكم جزاءكم في الدنيا والآخرة، ولا بغافل عما يعمل المشركون من الكيد لَكُمْ ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، وسيجزيهم على أعمالِهم يوم تجْزَى كل نفس بما كسبَتْ، وقد صدق وعدَه، ونَصَرَ عبده، وأظهر دِينَه على الدين كلِّه، أي: فالله تعالى عالم به غير غافل عنه؛ لأنَّ الغفلةَ والسهوَ لا يجوزان على مَنْ لا يخفى عليه شيء في السموات والأرض، فيجازي كلًّا منك ومنهم بِمُوجَب الاستحقاق.
والجملة الأولى من هذه الآية (٢): دلت على أن عِلْمَه تعالى محيط بجميع الكائنات، كلِّيّها وجُزّئِيِّها حاضرها وغائبها؛ لأنه إذا أحاط علمه بما غاب، فهو بما حضر محيط؛ إذ علمه تعالى لا يتفاوت.
والجملة الثانية: دلَّت على القدرة النافذة، والمشيئة.
والجملة الثالثة: دلَّت على الأمر بإفراد مَنْ هذه صفاته بالعبادة الجسدية والقلبية، والعبادة أولى الرتب التي يتحلَّى بها العبدُ.
والجملة الرابعة: دلَّتْ على أنَّ الأمر بالتوكل، وهِيَ آخرة الرُّتَبِ؛ لأنه بنور العبادة أبصرَ أنَّ جميعَ الكائنات معذوقة بالله تعالى، وأنه هو المتصرف وحده في جَمِيعِها، لا يشركه في شيء منها.
والجملة الخامسة: تضمنت التنبيه على المُجَازَاةِ، فلا يضيع طاعةَ مطيع، ولا يهمل حالَ متمرد؛ أي: فإنه تعالى (٣) لا يُضَيِّعُ طاعات المطيعينَ، ولا يهمل
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراح.
279
أحوالَ المتمردين الجاحدين، وذلك بأن يحضروا في موقف القيامة، ويحاسبوا على النقير والقطمير، ويعاتبوا في الصغير والكبير ثم يحصل عاقبة الأمر فريق في الجنة وفريق في السعير.
وعن كعب الأحبار (١): إنَّ فَاتِحَةَ التوراةِ، فاتحةُ سورة الأنعام، وخاتمتها خاتمةُ سورة هود، هذه الآية يعني: ﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ الآية.
واعلم: أنَّ علم الغيوب بالذات مختص بالله تعالى، وأما إخبار الأنبياءِ والأولياء صلوات الله عليهم أجمعين، عن بعض المغيبات، فبواسطة الوحي، والإلهام، وتعليم الله تعالى، ومن هذا القبيل: إخباره - ﷺ - عن حال العشرة المبشرة، وكذا عن حال بعض الناس.
ثم إن (٢) التوكّل عبارة عن الاعتصام به تعالى في جميع الأمور، ومحله القلبُ، وحركة الظاهِرِ لا تنافي تَوَكُّلَ القلب بعدما تحقق عند العبد أنَّ التقدير من قبل الله تعالى، فإن تَعَسَّرَ شيءٌ، فبتقديره، فالواجب على كافَّةِ العباد أن يعبدوا اللَّهَ تعالى، ويعتمدوا عليه كل الاعتماد، لا عَلى الجاه والعقل، والأموال، والأولاد فإنَّ اللَّهَ تعالى خالق كل مخلوق، ورازق كلُّ مرزوق.
وفي الحديث: "ما من زرع على الأرض، ولا ثمر على الأشجار، إلا وعليه مكتوب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هذا رزقُ فلان بن فلان". وفي الحديث: "خَلَقَ الله الأرزاقَ قبل الأجسادِ بألف عام، فبسطها بين السماء والأرض، فضربتها الرياحُ، فوقعت في مشارق الأرض ومغاربها، فمنهم من وَقَعَ رزقه في ألف موضع، ومنهم من وقع في مئة، ومنهم من وقع على باب داره، يَغْدُو وَيرُوحُ حتَّى يَأتِيه".
وقرأ الصاحبان (٣) - نافع وابن عامر - وحفص، وقتادة، والأعرجُ، وشيبة
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
280
وأبو جعفر، والجحدري: ﴿تَعْمَلُونَ﴾ بتاء الخطاب، لأنَّ قَبْلَه ﴿اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ﴾. وقرأ باقي السبعة بالياء على الغيبة. واختلف عن الحسن، وعيسى بن عمر.
وعن رسول الله - ﷺ - (١): "من قرأ سورةَ هود أعطي من الأجر عَشْرَ حسنات بعدد من صَدَّق بنوح، ومَنْ كذَّب به، وهود، وصالح، وشعيب، ولوط، وإبراهيم، وموسى، وكان يومَ القيامة من السعداء" إن شاء الله تعالى.
خاتمة في بيان المقاصد الدينية التي اشتملت عليها هذه السورة
قد اشتملت هذه السورة على ما اشتملت عليه سابقتها من أصول الدين، ومبادئِهِ العامة التي لا يكون المؤمن مؤمنًا حقًّا إلا إذا سلك سبيلها، ونهج نهجَها، ومن ذلك:
١ - التوحيد وهو ضربان:
أ - توحيد الأُلوهية، وهو أولُ ما دعا إليه محمدٌ - ﷺ -، ودعا إليه كل رسول قَبْلَه، وهو عبادته تعالى وحده، وعدم عبادة أحد معه، كما قال: ﴿أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ﴾ فعبادة غيره من الأصنام كحجر وشجر وكوكب أو بشر ولي أو نبيٍّ أو شيطان أو ملك، إذا توجه العبد إليها توجهًا تعبديًّا ابتغاء النفع أو كشف الضر في غير الأسباب التي سخرها الله لجميع الناس، كل ذلك كفر لا فرق بينه وبين عبادة الأصنام، أو الأوثان، إذ جميع ما عَدَا الله تعالى فهو عَبْدٌ، وملك له لا يتوجه بالعبادة إليه.
ب - توحيد الربوبية؛ أي: اعتقاد أنَّ اللَّهَ وحده هو الخالق المدبر لهذا الكون، والمتصرف فيه على مُقْتَضى حكمته، ونظام سنَّته، وتسخيره الأَسباب لمن شاء بما شاء، وكان أكثر المشركينَ من العرب ومن قبلهم يؤمنون بأنَّ الربَّ الخالقَ المدبّر واحِدٌ، ولكن يقولون بتعدد الآلهة التي يتقرب بها إليه توسلًا، وطلبًا للشفاعة عنده.
(١) البيضاوي.
281
٢ - إثبات رسالته - ﷺ - بالقرآن بتحدّيهم بالإتيان بعشر سور مثله مفتريات، ودعوة مَن استطاعوا من دون الله لمظاهرتهم، وإعانتهم على الإتيان بها، إن كانوا صادقين، وقوله بعد ذلك: ﴿فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ﴾ وما جاء في قوله: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا﴾.
٣ - جاءت آيات البعث والجزاء في القرآن لدعوة المشركين إلى الإيمان، والاستدلال بها على قدرة الخالق، ولتذكير المؤمنين به للترغيب والترهيب، والموعظة والجزاء، كما جاء في قوله: ﴿إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤)﴾، وقوله: ﴿وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾.
٤ - إهلاكُ الأمم بالظلم كما جاء في قوله لخاتم رسله: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠)﴾، وقوله: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾.
٥ - سنته تعالى في ضلال الناس وغوايتهم بأن يكونوا بارتكاب أسبابهما من الأعمال الاختيارية، والإصرار عليها إلى أن تتمكنَ من صاحبها، وتحيطَ به خطيئته حتى يفقد الاستعدادَ للهُدَى والرشاد.
٦ - من طباع البشر العجل والاستعجالُ لِمَا يَطْلَبُ من النفع والخير، وما ينذر به من الشرِّ كما قال: ﴿وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ﴾.
٧ - سنته تعالى في تكوين الخلق، وأنه كَانَ أطوارًا في أزمنة مختلفة، بنظام مُحْكَمٍ، ولم يكن شيء منه فجائيًّا بلا تقدير، ولا ترتيب كما قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ فكلمة الخلق معناها: التقدير المحكم الذي تكون فيه الأشياء على مقاديرَ متناسبة، ثم أريد بها الإيجاد التقديريُّ؛ فالسموات السبع المرئية للناظرين، والأجرام السماوية قائمة بسنن دقيقة النظام، وما فيها من البسائط، والمركبات الغازية، والسائلة، والجامدة، كذلك والكون في جملته قائم بسنة عامة في ربط بعضه ببعض، وحفظِ نظامِهِ بأنْ يبنَى بعضه على
282
بعض، وهو ما يسمِّيه العلماء: الجاذبِيَّةَ العامةَ، والجاذبية الخاصَّةَ.
٨ - أنَّ الطغيانَ والركونَ إلى الظالمين من أمهات الرذائل، كما قال: ﴿وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾، ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾.
٩ - الاختلاف في طبائع البشر: فيه فوائد، ومنافع علمية وعملية لا تظهر مَزَايَاهُ بدونها، وفيه مضار وشرور أكبرها التفرق، والتعادي به، وقد شرع الله لهم الدينَ لتكميل فطرتهم، والحكمِ بينهم فيما اختلفوا فيه بكتابه الذي لا مَجَالَ فيه للاختلاف، فاستحق الذين يحكمونه فيما يتنازعون فيه رحمتَه وثوابَه، والذِينَ يختلفون فيه سخْطَهُ وعِقَابَه.
١٠ - إتباع الإتراف، وما فيه من الفساد، والإجرام، ذلك أن مثار الظلم والإجرام الموجِبَ لهلاك الأمم، هو اتباع أكثرها، لِما أترِفُوا فيه من أسباب النعيم، والشهوات، واللذَّات، والمترفون هم مفسدوا الأمم، ومُهلكوها، وقد علم هذا المهتدون الأولون بالقرآن، من الخلفاء الراشدين، والسلف الصالحين، فكانوا مَثَلًا صالحًا في الاعتدال في المعيشة، أو تغليب جانب الخشونة والشدة على الأتراف والنعمة، ففَتحوا الأمْصَارَ، وأقاموا دَوْلةً عزَّ على التاريخ أن يقيمَ مِثْلَها باتباع هدي القرآن، وبيان السنة له، وبذلك خرجوا من ظلمات الجهالة إلى نور العلم، والعرفان، ثم أضَاعَها من خلف من بعدهم من متبعي الإتراف، وكيف ضلوا بعد أن استفادوا الفنونَ والعلومَ، والملكَ والسلطان، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
١١ - إقامة الصلاة في أوقاتها من الليل والنهار؛ لأنَّ الحسناتِ يذهبن السيئات، وأعظم الحسناتِ الروحيةِ الصلاة لما فيها من تطهير النفس وتزكية الروح.
١٢ - النهي عن الفساد في الأرض، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهما سياج الدين والأخلاق والآداب.
١٣ - سننه تعالى في اختبار البشر؛ لإحسان أعمالهم كما قال: {لِيَبْلُوَكُمْ
283
أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}.
١٤ - أول اتباع الرسل والمصلحين الفقراءُ كما حكى عن قوم نوح ﴿وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ﴾.
١٥ - التنازع بين رجال المال، ورجال الإصلاح في حرية الكسب المطلقة أو تقييد الكسب بالحلال ومراعاة الفضيلة.
١٦ - منْ سُنَنِهِ تعالى جعل العاقبة للمتقين، وذلك هو الأساس الأعظم في فوز الجماعات الدينية، والسياسية، والأمم والشعوب في مقاصدها، وغلبها لخصومها ومناوئيها.
١٧ - بيان أنَّ الاختلافَ في الدين ضروري كما قال: ﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ﴾.
١٨ - بيان أنَّ نَهْيَ أولي الأحلام عن الفساد، يَحْفَظُ الأمة مِنَ الهلاك كما قال: ﴿فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ﴾.
الإعراب
﴿فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦)﴾.
﴿فَأَمَّا﴾ (الفاء) فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتَ أنَّ مراتب الناس اثنان إما شقي أو سعيد، وأردتَ بيانَ مآلهما.. فأقول لك. ﴿أما﴾ حرف شرط وتفصيل. ﴿الَّذِينَ﴾ مبتدأ. ﴿شَقُوا﴾ فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿فَفِي﴾ (الفاء) رابطة لجواب أمَّا واقعة في غير موضعها؛ لأنَّ موضعها موضع (أما). ﴿في النارِ﴾ جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة الاسمية جواب (أما) لا محلَّ لها من الإعراب، وجملة أما من فعل شرطها وجوابها في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. ﴿لَهُمْ﴾ جار ومجرور خبر مقدم. ﴿فِيهَا﴾ جار ومجرور حال من الضمير المستكن في الاستقرار الذي تعلق به الخبرُ. ﴿زَفِيرٌ﴾ مبتدأ مؤخر. ﴿وَشَهِيقٌ﴾ معطوف عليه، والجملة الاسمية في محل النصب حال من الضمير
284
المستكن في الجار والمجرور قبله أعني قولَه: ﴿فَفِي النَّارِ﴾ أو حال من ﴿النار﴾ أو مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، كَأن سائلًا سأَلَ حينَ أخبر أنهم في النار ماذا يكون لهم؟ فقيل: لهم كذا وكذا، كذا في "الفتوحات".
﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (١٠٧)﴾.
﴿خَالِدِينَ﴾ حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور، أعني قَولَه: ﴿فَفِي النَّارِ﴾. ﴿فِيهَا﴾ متعلق بـ ﴿خَالِدِينَ﴾. ﴿مَا﴾ مصدرية ظرفية. ﴿دَامَتِ السَّمَاوَاتُ﴾ فعل وفاعل؛ لأنَّ دام هنا تامة بمعنى بقِيَتْ. ﴿وَالْأَرْضُ﴾ معطوف عليه، والجملة صلة (ما) المصدرية. ما مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف المقدر إليه، تقديره: مدة دوام السموات والأرض، والظرف المقدر متعلق بـ ﴿خَالِدِينَ﴾. ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء بمعنى غير. ﴿مَا﴾ موصولة أو موصوفة في محل النصب على الاستثناء. ﴿شَاءَ رَبُّكَ﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة لـ (ما) أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: إلا ما شاءه ربك. ﴿إِنَّ رَبَّكَ﴾ ناصب واسمه. ﴿فَعَّالٌ﴾ خبره، وجملة إنَّ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. ﴿لِمَا﴾ جار ومجرور متعلق بفعال، وقيل: (اللام) زائدة في مفعول الصفة تقويةً للعامل. ﴿يُرِيدُ﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة صلة لـ (ما) أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره لما يريده.
﴿وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨)﴾.
﴿وَأَمَّا﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. (أما) حرف شرط ﴿الَّذِينَ﴾ مبتدأ. ﴿سُعِدُوا﴾ فعل ونائب فاعل أو فعل وفاعل على اختلاف القرائتين، والجملة صلة الموصول. ﴿فَفِي الْجَنَّةِ﴾ جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة الاسمية جواب (أما)، وجملة (أما) معطوفة على جملة (أمّا) الأولى. ﴿خَالِدِينَ﴾ حال من الضمير المستكن في الخبر. ﴿فِيهَا﴾ متعلق بـ ﴿خَالِدِينَ﴾. ﴿ما﴾ مصدرية ظرفية. ﴿دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾ فعل وفاعل صلة (ما) المصدرية. ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء بمعنى غير. ﴿ما﴾
285
في محل النصب على الاستثناء. ﴿شَاءَ رَبُّكَ﴾ فعل وفاعل صلة لـ (ما) أو صفة لها. ﴿عَطَاءً﴾ مفعول مطلق منصوب بفعل محذوف وجوبًا تقديره، يعطيهم الله عطاءً؛ أي: إعطاءً؛ لأنه اسم مصدر لأعطى، ويصح كونه مفعولًا به إذا كان بمعنى معطَى، ﴿غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾ صفة لـ ﴿عَطَاءً﴾.
﴿فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (١٠٩)﴾.
﴿فَلَا﴾ (الفاء) فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتَ يا محمَّد ما قصصنا لك من قصص المتقدمين، وسوء عاقبتهم، وأردتَ بيانَ ما هو اللازم لك.. فأقول لك: لا تك في مرية ﴿لا﴾ ناهية جازمة. ﴿تَكُ﴾ فعل مضارع مجزوم بلا الناهية، وعلامة جزمِه سكون النون المحذوفة للتخفيفِ لكثرة استعمالِها؛ لأن أصلَه تكون، حذفت حركة النون للجازم، فالتقى ساكنان، ثمَّ حذفت الواو؛ لالتقاء الساكنين، ثم حذفت النون للتخفيف، واسمها ضمير يعود على محمَّد. ﴿فِي مِرْيَةٍ﴾ خبرها، وجملة تكون في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿مِمَّا﴾ جار ومجرور صفة لـ ﴿مِرْيَةٍ﴾؛ أي: فلا تك في مرية ناشئة مما يعبد هؤلاء، أو في ما يعبد هؤلاء فمن بمعنى في. ﴿يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره مما يعبده هؤلاء من الأصنام. ﴿مَا﴾ نافية. ﴿يَعْبُدُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل النهي قبلها. ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ. ﴿كَمَا﴾ (الكاف) حرف جر. (ما) مصدرية. ﴿يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ﴾ فعل وفاعل. ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ جار مجرور متعلق به، والجملة الفعلية صلة (ما) المصدرية، (ما) مع صلتها في تأويل مصدر مجرور، بالكاف تقديره: كعبادة آبائهم، الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف تقديره، ما يعبدون إلا عبادة كائنة كعبادة آبائهم، من قبل في كونها ضلالًا، وتقليدًا لا أصلَ لها. ﴿وَإِنَّا﴾ ناصب واسمه. ﴿لَمُوَفُّوهُمْ﴾ خبره مرفوع (بالواو) لأنه ملحق بجمع المذكر السالم؛ لأنَّ مفردَه ليس بعلم ولا صفة، وإنما جمع للتعظيم والنون حذفت للإضافة، و (اللام) حرف ابتداء، وهو مضاف
286
إلى المفعول الأول. ﴿نَصِيبَهُمْ﴾ مفعول ثان له، والجملة الاسمية معطوفة على جملة قوله: ﴿فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ﴾. ﴿غَيْرَ مَنْقُوصٍ﴾ حال مبينةٌ للنصيب الموفى، أو مؤكّدةٌ.
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. (اللام) موطئة للقسم. ﴿قد﴾ حرف تحقيق. ﴿آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾ فعل وفاعل، ومفعولان، والجملة جواب القسم، وجملة القسم مستأنفة. ﴿فَاخْتُلِفَ﴾ (الفاء) عاطفة. ﴿اختلف﴾ فعل ماض مغيّر الصيغة. ﴿فِيهِ﴾ جار ومجرور نائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿آتَيْنَا﴾. ﴿وَلَوْلَا﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿لولا﴾ حرف امتناع لوجود. ﴿كَلِمَةٌ﴾ مبتدأٌ سوغَ الابتداء بالنكرة وقوعُهُ بعد ﴿لولا﴾ أو وصفه بما بعده. ﴿سَبَقَتْ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على كلمة. ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾ متعلق به، والجملة الفعلية صفة ﴿كَلِمَةٌ﴾، وخبر المبتدأ محذوف وجوبًا تقديره: ولولا كلمة سبقت من ربك موجودة. ﴿لَقُضِيَ﴾ (اللام) رابطة لجواب ﴿لولا﴾. ﴿قضي﴾ فعل ماض مغير الصيغة. ﴿بَيْنَهُمْ﴾ ظرف، ومضاف إليه، والظرف في محل الرفع نائب فاعل لـ ﴿قضي﴾، وجملةُ ﴿قُضِيَ﴾ جواب ﴿لولا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لولا﴾ مع جوابها معطوفة على جملة ﴿آتَيْنَا﴾ على كَوْنِهَا جَوابَ القسم. ﴿وَإِنَّهُمْ﴾ ناصب واسمه. ﴿لَفِي شَكٍّ﴾ (اللام) حرف ابتداء. ﴿في شك﴾ جار ومجرور خبر (إن). ﴿مِنْهُ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿شك﴾. ﴿مُرِيبٍ﴾ صفة ﴿شَكٍّ﴾ وجملة (إن) معطوفة على جملة ﴿آتَيْنَا﴾.
﴿وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١١)﴾.
وحاصلُ ما في كلمتي (إن) و (لما) من القراءات السبعة أربع: تخفيفهما، وتشديدهما، وتخفيف (إن) مع تشديد (لمَّا)، وتخفيف (لمَّا) مع تشديد (إنَّ).
فعلى القراءة الأولى: تقول في إعراب الآية (إن) مخففة من الثقيلة. ﴿كُلًّا﴾ اسمها منصوب بها. ﴿لما﴾ (اللام) حرف ابتداء، (ما) اسم موصول بمعنى الذين
287
في محل الرفع خبر (إن) المخففة. ﴿لَيُوَفِّيَنَّهُمْ﴾ (اللام) موطئة للقسم. (يوفين) فعل مضارع في محل الرفع لتجرده عن الناصب والجازم، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد، الثقيلة، ونون التوكيد الثقيلة حرف لا محلٌّ لها من الإعراب. و (الهاء) ضمير لجماعة الذكور الغائبين في محل النصب مفعولٌ أول. ﴿رَبُّكَ﴾ فاعل. ﴿أَعْمَالَهُمْ﴾ مفعول ثان، والجملة جوابُ للقسم المحذوف لا محلَّ لها من الإعراب، وجملة القسم مع جوابه صلة (ما) الموصولة، والعائد ضمير المفعول الأول، والموصول مع صلته خبر (إن) وجملة (إن) مستأنفة، والتقدير: وإن كلًّا من الخلائق للذين والله ليوفينهم ربك أعمالهم. ويجوز أن تكونَ (ما) نكرة موصوفة، والجملة القسمية مع جوابها صفة لـ (ما) الموصوفة، والتقدير: وإن كلا لخلق أو لفريق موصوفون يكون الله تعالى، وافيًا لهم أعمالهم والموصوف، وصفته خبر إن.
وعلى القراءة الثانية: أعني تشديدهما (إن) حرف نصب. ﴿كُلًّا﴾ اسمها. ﴿لما﴾ أصله: لمن ما بدخول لام الابتداءِ على من الجارة، دخَلت على ما الموصولة، أو الموصوفة؛ أي: لمن الذين، والله ليوفينهم، أو لمن خلق، والله ليوفينهم، فَلَمَّا اجتمعت النون ساكنة قبل ميم ما، وجب إدغامها فيه، فقلبت ميمًا، وأدْغمت الميمُ في الميم، فصارَ في اللفظ ثلاثَ ميمات، فخفف اللفظ بحذف إحداها، فقلبت كسرة ميم من الجارة فتحةً لوقوعها بين فتحتين، فصار اللفظ لما: فيقال في إعرابه (اللام) حرف ابتداء. (من) حرف جر. (ما) موصولة، أو موصوفة في محل الجر بـ (من). ﴿لَيُوَفِّيَنَّهُمْ﴾ (اللام) موطئة للقسم. ﴿يوفينهم ربك أعمالهم﴾ فعل وفاعل ومفعولان، والجملة جواب للقسم المحذوف، وجملة القسم مع جوابه صلة لـ (ما) إنْ قلنا: موصولةً، أو صفة لها؛ إن قلنا: موصوفةً، والعائد، أو الرابط ضمير المفعول الأول، الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر إن، تقديره: وإن كُلًّا من الخلائق لكائنون من الذين، والله ليوفينهم ربك أعمالهم، أو لكائنون من مخلوق، أو فريق وَافٍ لهم ربك أعمالَهم، وجملة إن مستأنفة.
وعلى القراءة الثالثة: أعني تخفيفَ (إنْ) مع تشديد (لَمَّا)، فإن المخففة
288
عاملة، وأصل: لما لمن. (ما) فعل به ما تقدم.
وعلى القراءة الرابعة: أعني تخفيف (لَمَا) مع تشديد (إنَّ). (إنَّ) المشددة عاملة. و (اللام) للابتداء. و (ما) اسم موصول في محل الرفع خبرها. ﴿لَيُوَفِّيَنَّهُمْ﴾ جملةٌ قسميةٌ صلة الموصول فتحصَّل مما ذكر أنَّ (إن) عاملة. (وما) موصولة، أو موصوفة في جميع الأوجه كلها. و (اللام) الثانية موطئة للقسم، والأولى لام الابتداء. فتأمل، وما قررناه زبدة كلام طويل في هذا المقام فليحفظ.
﴿إِنَّهُ﴾ ناصب واسمه. ﴿بِمَا﴾ جار ومجرور متعلق بخبير. ﴿يَعْمَلُونَ﴾ صلة لما أو صفة لها. ﴿خَبِيرٌ﴾ خبر إن، وجملة إن مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢)﴾.
﴿فَاسْتَقِمْ﴾ (الفاء) فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عَرَفْتَ يا محمَّد أحوالَ القرونَ الأولى مع أنبيائهم، وأن إخْوانَك المرسلين تحملوا الأذى من قومهم، فصبروا، واستقاموا على الطريقة المثلى، وأردت بيانَ ما هو اللازم لك؛ فأقول لكَ: ﴿استقم﴾. ﴿استقم﴾ فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿كَمَا﴾ (الكاف) حرف جر. (ما) موصولة في محل الجر بالكاف. ﴿أُمِرْتَ﴾ فعل ونائب فاعل، والجملة صلة لـ (ما) الموصولة، والعائد محذوف تقديره: كالاستقامة التي أمرت بها، الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: فاستقم استقامة مثلَ الاستقامة التي أمرت بها. ﴿وَمَنْ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. (من) اسم موصول في محل الرفع معطوف عل الضمير المستتر في ﴿استقم﴾ لوجود الفاصل. ﴿تَابَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على (من)، والجملة صلة الموصول. ﴿مَعَكَ﴾ ظرف، ومضاف إليه حال من الضمير المستتر في ﴿تَابَ﴾. ﴿وَلَا تَطْغَوْا﴾ جازم وفعل، وفاعل معطوف على ﴿استقم﴾. ﴿إِنَّهُ﴾ ناصب واسمه. ﴿بِمَا﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿بَصِيرٌ﴾
289
وجملة ﴿تَعْمَلُونَ﴾ صلة لـ (ما) أو صفة لها. ﴿بَصِيرٌ﴾ خبر إن مستأنفة مسوقة لتعليل الأمر، والنهي السابقين.
﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (١١٣)﴾.
﴿وَلَا تَرْكَنُوا﴾ جازم وفعل وفاعل معطوف على قوله: ﴿وَلَا تَطْغَوْا﴾. ﴿إِلَى الَّذِينَ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَرْكَنُوا﴾. ﴿ظَلَمُوا﴾ فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿فَتَمَسَّكُمُ﴾ (الفاء) عاطفة سببية. ﴿تمسكم النار﴾ فعل، ومفعول، وفاعل منصوب بأن مضمرةً وجوبًا بعد الفاء السببية الواقعة في جواب النهي، والجملة الفعلية صلة أن، المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الجملة التي قبلها من غير سابك، لإصلاح المعنى تقديره: لا يكن منكم ركون إلى الذين ظلموا، فمس النار إياكم. ﴿وَمَا﴾ الواو حالية أو استئنافية. (ما) نافية. ﴿لَكُمْ﴾ جار ومجرور خبر مقدم. ﴿مِن دُونِ اَللهِ﴾ جار ومجرور حال من الضمير المستكن في الخبر. ﴿مِنْ أَوْلِيَاءَ﴾ مبتدأ مؤخر، و (من) زائدة، والتقدير: وما أولياء كائنون لكم حالَةَ كونهم من دون الله تعالى، والجملة الاسمية في محل النصب حال من (كاف) المخاطبين في ﴿تمسكم﴾؛ أي: فتمسكم النار حالَ انتفاء ناصركم، أو الجملة مستأنفة. ﴿ثُمَّ﴾ حرف عطف وتراخ، أتى بثم تنبيهًا على تباعد الرتبة، اهـ "سمين". ﴿لا﴾ نافية. ﴿تُنْصَرُونَ﴾ فعل، ونائب فاعل، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها، عطفَ جملة فعلية على جملة اسمية.
﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١١٥)﴾.
﴿وَأَقِمِ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿أقم الصلاة﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿فَاسْتَقِمْ﴾. ﴿طَرَفَيِ النَّهَارِ﴾ ظرف، ومضاف إليه منصوب بالياء متعلق بـ ﴿أقم﴾. ﴿وَزُلَفًا﴾ منصوب على الظرفية معطوف على ﴿طَرَفَيِ النَّهَارِ﴾. ﴿مِنَ اللَّيْلِ﴾ صفة له. ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ﴾ ناصب
290
واسمه. ﴿يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر (إن)، وجملة (إنَّ) مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. ﴿ذَلِكَ ذِكْرَى﴾ مبتدأ وخبر. ﴿لِلذَّاكِرِينَ﴾ متعلق بـ ﴿ذِكْرَى﴾، والجملة مستأنفة. ﴿وَاصْبِرْ﴾ فعل أمر معطوف على ﴿أقم﴾ وفاعله ضمير يعود على محمَّد. ﴿فَإِنَّ﴾ (الفاء) تعليلية. ﴿إن اللَّه﴾ ناصب واسمه. ﴿لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ فعل ومفعول، ومضاف إليه، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر (إنَّ)، وجملة إنَّ في محل الجر بلام التعليل المقدرة المدلول عليها بالفاء التعليلية؛ لأنها مسوقة لتعليل المذكور قبلها.
﴿فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦)﴾.
﴿فَلَوْلَا﴾ (الفاء) استئنافية. ﴿لولا﴾ حرف تحضيض مضمن معنى النفي، لأنه لا يمكن تحضيضهم وتخويفهم بعد انقراضهم. ﴿كَانَ﴾ فعل ماض تام بمعنى وجد. ﴿مِنَ الْقُرُونِ﴾ متعلق بـ ﴿كَانَ﴾. ﴿مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ جار ومجرور صفة للقرون، لأنه اسم جنس محلى بأل، فهو بمنزلة النكرة. ﴿أُولُو بَقِيَّةٍ﴾ فاعل، ومضاف إليه. ﴿يَنْهَوْنَ﴾ فعل وفاعل. ﴿عَنِ الْفَسَادِ﴾ متعلق به. ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ متعلق بالفساد؛ لأنَّ المصدرَ المقترن بأل يعمل في المفاعيل الصريحة، فيكون في الظرف أولى، ويجوز أن يتعلَّقَ بمحذوف على أنه حال من الفساد ذكره في "الفتوحات". والجملة الفعلية في محل الرفع صفة لفاعل ﴿كَانَ﴾. ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ مستثنىً من الفاعل بملاحظة صفته. والمعنى (١): فما كان من القرون الماضية المهلَكة بالعذاب، جماعة أصحاب دين ينهون عن الفساد إلا قليلًا، وهم من أنجيناهم من العذاب، نَهَوْا عن الفساد، فالمستثنى منه القرونُ المهلكة بالعذاب، كما هو مقتضَى السياق، والمستثنى مَنْ أنجاه الله من العذاب، فاختلفَ الجِنسَ باعتبار الوصف المذكور. ﴿مِمَّنْ﴾ جار ومجرور صفة لـ ﴿قَلِيلًا﴾. ﴿أَنْجَيْنَا﴾ فعل وفاعل،
(١) الفتوحات.
291
والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: ممن أنجيناه. ﴿مِنْهُمْ﴾ جار ومجرور حال من الضمير المحذوف. ﴿وَاتَّبَعَ الَّذِينَ﴾ فعل وفاعل، والجملة معطوفة على مقدر تقديره: فلم يَنْهَوْا عن الفساد، واتبع الذين ظلموا. ﴿ظَلَمُوا﴾ فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿مَا﴾ موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول ﴿اتبع﴾. ﴿أُتْرِفُوا﴾ فعل ونائب فاعل صلة لـ (ما) أو صفة لها، والعائد، أو الرابط ضمير. ﴿فِيهِ﴾ وهو متعلق بـ ﴿أُتْرِفُوا﴾. ﴿وَكَانُوا﴾ فعل ناقص، واسمه. ﴿مُجْرِمِينَ﴾ خبره، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَاتَّبَعَ﴾.
﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (١١٧)﴾.
﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. (ما) نافية. ﴿كَانَ رَبُّكَ﴾ فعل ناقص واسمه. ﴿لِيُهْلِكَ﴾ (اللام) حرف جر وجحود لسبقها بـ (كان) المنفية بـ (ما). ﴿يهلك القرى﴾ فعل ومفعول منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد لام الجحود، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿بِظُلْمٍ﴾ جار ومجرور حال من فاعل ﴿يهلك﴾ أي حالَةَ كونه متلبسًا بظلم، أو متعلق بـ ﴿يهلك﴾؛ أي: ما كان يهلك أهلَ القرى بظلم منهم؛ أي: بشرك، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لإهلاك القرى الجار والمجرور، متعلق بواجب الحذف لوقوعه خبرًا لـ ﴿كان﴾ تقديره: وما كان ربك مريدًا لإهلاك القرى. ﴿وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال ﴿من القرى﴾.
﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ﴾.
﴿وَلَوْ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. (لو) حرف شرط. ﴿شَاءَ رَبُّكَ﴾ فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ (لو). ﴿لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً﴾ فعل ومفعولان، و (اللام) رابطة لجواب (لو). ﴿وَاحِدَةً﴾ صفة لـ (أمة) وفاعل (جعل) ضمير يعود على الله، وجملة جعل جواب (لو)، وجملة (لو) مستأنفة. ﴿وَلَا يَزَالُونَ﴾ فعل مضارع ناقص واسمه. ﴿مُخْتَلِفِينَ﴾ خبره، والجملة معطوفة على جملة (لو). ﴿إِلَّا﴾ أداة
292
استثناء. ﴿مَنْ﴾ اسم موصول في محل النصب على الاستثناء من (واو) ﴿يَزَالُونَ﴾. ﴿رَحِمَ رَبُّكَ﴾ فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: منْ رحمه ربك.
﴿وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾.
﴿وَلِذَلِكَ﴾ جار ومجرور، متعلق بما بعده. ﴿خَلَقَهُمْ﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ﴾ فعل وفاعل، ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة (خلق). ﴿لَأَمْلَأَنَّ﴾ (اللام) موطئة للقسم. ﴿أملأن﴾ فعل مضارع في محل الرفع لتجرده عن الناصب، والجازم مبني على الفتح، لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿جَهَنَّمَ﴾ مفعول به. ﴿مِنَ الْجِنَّةِ﴾ متعلق بـ (أملأن). ﴿وَالنَّاسِ﴾ معطوف على الجنة. ﴿أَجْمَعِينَ﴾ توكيدٌ لِمَا قبله، والجملة الفعلية جوابٌ لقسم محذوف تقديره: وعزتي وجلالي ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ﴾، وجملة القسم المحذوف في محل الرفع بدل من ﴿كَلِمَةُ رَبِّكَ﴾.
﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠)﴾.
﴿وَكُلًّا﴾ مفعول مقدم لـ ﴿نَقُصُّ﴾. ﴿نَقُصُّ﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. ﴿عَلَيْكَ﴾ متعلق بـ ﴿نقص﴾. ﴿مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ﴾ جار ومجرور صفة لـ ﴿كلا﴾. ﴿مَا﴾ موصولة، أو موصوفة في محل النصب بدل من ﴿كُلًّا﴾. ﴿نُثَبِّتُ﴾ فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿بِهِ﴾ متعلق بـ ﴿نُثَبِّتُ﴾. ﴿فُؤَادَكَ﴾ مفعول به، والجملة صلة لـ (ما) أو صفة لها. ﴿وَجَاءَكَ﴾ فعل ومفعول. ﴿فِي هَذِهِ﴾ متعلق به. ﴿الْحَقُّ﴾ فاعل. ﴿وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى﴾ معطوفان على ﴿الْحَقُّ﴾. ﴿لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ تنازع فيه كل من ﴿موعظة﴾ ﴿وَذِكْرَى﴾، وجملة ﴿جاءك﴾ معطوفة على جملة ﴿نَقُصُّ﴾.
﴿وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢)﴾.
293
﴿وَقُلْ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿قل﴾ فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة. ﴿لِلَّذِينَ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿قل﴾. ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾ فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿اعْمَلُوا﴾ إلى قوله: ﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ﴾ مقول محكي، وإن شئت قلتَ: ﴿اعْمَلُوا﴾ فعل وفاعل. ﴿عَلَى مَكَانَتِكُمْ﴾ متعلق بمحذوف حال من (واو) ﴿اعْمَلُوا﴾؛ أي: حالةَ كونكم قارينَ وثابتين على حالتكم، وكفركم، والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿إنا﴾ ناصب واسمه. ﴿عَامِلُونَ﴾ خبره، والجملة في محل النصب مقول لـ ﴿قل﴾. ﴿وَانْتَظِرُوا﴾ فعل، وفاعل معطوف على ﴿اعْمَلُوا﴾. ﴿إِنَّا مُنْتَظِرُونَ﴾ ناصب، واسمه وخبره معطوف على ﴿إِنَّا عَامِلُونَ﴾.
﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٢٣)﴾.
﴿وَلِلَّهِ﴾ جار ومجرور خبر مقدم. ﴿غَيْبُ السَّمَاوَاتِ﴾ مبتدأ مؤخر، ومضاف إليه. ﴿وَالْأَرْضِ﴾ معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾ والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿وَإِلَيْهِ﴾ متعلق بـ ﴿يُرْجَعُ﴾ الآتي. ﴿يُرْجَعُ الْأَمْرُ﴾ فعل، ونائب فاعل. ﴿كُلُّهُ﴾ توكيد للأمر، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الاسمية. ﴿فَاعْبُدْهُ﴾ (الفاء) حرف عطف وتفريع. ﴿اعبده﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة معطوفة على جملة ﴿يُرْجَعُ﴾. ﴿وَتَوَكَّلْ﴾ فعل أمر معطوف على قوله: ﴿فَاعْبُدْهُ﴾، وفاعله ضمير يعود على محمَّد. ﴿عَلَيْهِ﴾ متعلق به. ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿ما﴾ حجازية أو تميمية. ﴿رَبُّكَ﴾ اسمها، أو مبتدأ. ﴿بِغَافِلٍ﴾ خبر المبتدأ، أو خبر (ما) و (الباء) زائدة. ﴿عَمَّا﴾ جار ومجرور متعلق ﴿بِغَافِلٍ﴾. ﴿تَعْمَلُونَ﴾ صلة لـ (ما) أو صفة لها، والجملة معطوفة على جملة ﴿فَاعْبُدْهُ﴾.
التصريف ومفردات اللغة
﴿لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ﴾ وفي "السمين": الزفير: أول صوت الحمار والشهيق آخره. وقال ابن فارس: الزفير: ضد الشهيق؛ لأن الشهيقَ رد النَّفَسِ، والزفير إخراج النفس من شدة الحزن، مأخوذ من الزَّفر، وهو الحمل على الظهر
294
لشدته. وقيل: الشهيق: النَّفَسُ الممتد مأخوذ من قولهم: جبل شاهِق؛ أي: عَالٍ. وقال الليث: الزفيرُ أن يملأَ الرجل صَدْرَهُ حَالَ كونِهِ في الغم الشديد من النفس ويُخْرِجُه، والشهيق: أن يَخْرِجَ ذلِكَ النَّفَسَ، وهو قريب من قولهم: تَنَفَّسَ الصُّعَدَاءِ. وقال أبو العالية، والربيعَ بن أنس: في الحلق، والشهيق في الصدر. وقيل: الزفير للحمار، والشهيق للبغل، اهـ.
﴿وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا﴾ عبارة "السمين": قَرأَ الأَخَوانِ وحفص: ﴿سُعِدوا﴾ بضم السين والباقونَ بفتحها، فالأُولَى من قولهم: سَعِدَهُ الله؛ أي: أَسْعَدَه. حكى الفراء عن هذيل، أنها تقول: سعده الله بمعنى أسعده. قال الأزهري: سَعِدَ فهو سعيد، كسَلِم فهو سليم، وسَعِد فهو مسعود. قال أبو عمرو بن العلاء: يقال: سَعُدَ الرجل كما يقال: حَسُنَ. وقيل: سعده لغة مهجورة، وقد ضَعَّف جماعةٌ قراءةَ الأخوين، اهـ.
وفي "المصباح": سَعِدَ فلانٌ يسعد من باب تعب، في دين أو دنيا سَعْدًا، وبالمصدرِ سُمِّيَ، والفاعل سعيد، والجمع سعداء، ويُعَدَّى بالحركة في لغة، فيقال: سَعِدَه الله يَسْعَده بفتحتين فهو مسعود، وقرِىء في السبعة بهذه اللغة في قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا﴾ بالبناء للمفعول، والأكثر أن يتعدَّى بالهمزة، فيقال: أسعده الله، وسَعُدَ بالضم خلافُ شَقِيَ، اهـ.
﴿عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾، ﴿عَطَاءً﴾ اسم مصدر بمعنى إعطاء، والفعل أعطوا؛ أي: أَعطاهم الله سبحانه وتعالى إعطاء. وفي "السمين": عَطاءَ نصب على المصدر المؤكد من معنى الجملة قَبْلَهُ؛ لأنَّ قَوْلَهُ: ﴿فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ﴾ يقتضي إعطاءً وإنعامًا، فَكَأنَّه قيل: يُعْطِيهم عَطَاءً، وعطاء اسم مصدر، والمصدر في الحقيقة: الإعطاء على وزن الإفعال، أو يكون مصدرًا على حذف الزوائد، كقوله: أنبُتَكُم من الأرض نباتًا، أو منصوب بمقدار موافق له؛ أي: فنبتم نباتًا، وكذلك هنا يقال: عَطَوْتَ بمعنى نَاوَلْتَ، اهـ. ﴿غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾ في "المختار": جذه كَسَرَهُ وقطَعَهُ، وبابه رَدَّ، والجذاذ بضم الجيم وكسرها ما تكسَّر منه، والضم أفْصَحُ، و ﴿عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾؛ أي: غير مقطوع، والجذاذات القراضات. {فَلَا
295
تَكُ} وحذفت النون من ﴿تَكُ﴾ لكثرة الاستعمال، ولأنَّ النونَ إذا وقعت طرفَ الكلام، لم يَبْقَ عند التلفظِ بها إلا مجردَ الغنَّةِ، فلا جَرَمَ أسْقَطُوها، اهـ "كرخي". ﴿لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ﴾، ﴿مُرِيبٍ﴾ اسم فاعل من أراب إذا حَصَل الريب لغيره، أو صار هو في نفسه ذا ريب، وقد تقدَّم نظيره.
﴿وَلَا تَرْكَنُوا﴾ من ركن يركن من باب علم يعلم. وفي"المصباح": ركنت إلى زيدٍ اعتمدتُ عليه، وفيه لغات:
إحداها: من باب تَعِبَ، وعليه قوله تعالى: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾.
والثانية: ورَكَنَ رَكُونًا من باب قَعَدَ. قال الأزهري: وليست بالفصيحة.
الثالثة: رَكَنَ يَرْكَنُ بفتحتين، وليست بالأصل بل من تداخل اللغتين؛ لأنَّ باب فعل يفعل بفتحتين شَرْطُه أن يكونَ حلقيّ العين أو اللام، اهـ. وفي "السمين": وقَالَ الراغب: والصحيح أنه يقال: ركن يركن بالفتح فيهما، ورَكِنَ يَرْكن بالكسر في الماضي، والفتح في المضارع، وبالفتح في الماضي، والضم في المضارع، اهـ. والركون إلى الشيءِ الاعتماد عليه ورُكْنُ الشيء جانِبُه الأَقْوى، وما تَتَقوَّى به من مُلْك وجُنْدٍ وغيره، ومنه قوله تعالى: ﴿فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ﴾.
﴿طَرَفَيِ النَّهَارِ﴾ طرف الشيء الطائفة منه والنهايةُ، فَطَرَفَا النهار الغدوُّ والعشي. والزلَف واحدها زُلْفَة، وهي الطائفة من أول الليل لقربها من النهار. وقرأ العامة: زُلَفًا بضم الزاي، وفتح اللام، وهي جَمْعُ زلفة بسكون اللام نحو غرف في جمع غرفة، وظلم في جمع ظُلْمَةٍ. وقرأ أبو جعفر وابن أبي إسحاق بضم اللام للإتباع كما قالوا: بُسُر في بسْر بضم السين إتباعًا لضَمَّة الباء. وفي "القاموس": الزلفة الطائفة من الليل، والجمع زُلُف وزلفات كغرف وغرفات. والزلَفُ: ساعاتُ الليل الآخذةُ من النهار، وساعات النهار الآخذة من الليل، اهـ.
﴿فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ﴾، ﴿لَوْلَا﴾ كلمةٌ تفيد التحضيضَ والحثَّ على الفعل. و ﴿الْقُرُونِ﴾ واحدهم قرن، وهو الجيل من الناس، قيل: هو ثمانون سنة، وقيل: سبعون، وشاع تقديره بمئة سنة كما مر. ﴿أُولُو بَقِيَّةٍ﴾ وقرأ العامة (بقِيَّة) بفتح
296
الباء، وتشديد الياء، وفيها وجهان:
أحدهما: أنها صفة على فعيلة للمبالغة بمعنى فاعلة، ولذلك دخلت التاء فيها، والمراد بها حينئذ: جيد الشيء وخياره، وإنما قيل لجيده وخياره بَقِيةٌ من قولهم: فلان بقيةُ الناس، وبقية الكرام، لأن الرجل يستبقي مما يخرجه أجودَه وأفضله.
والثاني: أنها مصدر بمعنى القويّ. قال الزمخشري: ويجوز أن تكون البَقِيَّة بمعنى البَقْوَى كالتقية بمعنى التقوى؛ أي: فَهَلَّا كَانَ منهم ذوو بقاء على أنفسهم، وصيانة لها من سَخَطِ الله وعقابه. وقرأت فرقة (بقية) بتخفيف الياء، وهي اسم فاعل من بَقِيَ كشجية من شجِيَ، والتقدير: أولو طائفة بقية، أي باقية. وقيل: البقية ما يبقَى من الشيء بعد ذهاب أكثره، واستعمل كثيرًا في الأنفع والأصلح؛ لأنَّ العادَةَ قد جَرَتْ بأنَّ الناسَ ينفقون أرْدَأ ما عندهم، ويستبقون الأجودَ.
﴿مَا أُتْرِفُوا فِيهِ﴾ يقال: أترفَتْهُ النَّعْمَة؛ أي: أبْطَرْتُهُ وأفسدَتُه. وفي "القاموس": الترفة بالضم: النعمة، والطعامُ الطَّيِّب، والشيء الظريفُ تَخُصُّ به صاحبَكَ، وَتَرِفَ كَفَرِحَ تنعَّم وأترفته النعمة أطغَتْه، أو نعمته كترفته تَتْرِيفًا وأترف فلانٌ أصَرَّ على المكر، والمُتْرَفُ كمُكْرَمِ المتروك يَصْنَعُ ما يشاء، ولا يمنَع، والمتنعمُ لا يَمْنَعُ من تنعمه، اهـ.
﴿مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾ والجنة والجن بمعنى واحد. وقال ابن عطية: والهاء فيه للمبالغة؛ وإن كَانَ الجِنُّ يقع على الواحد، فالجِنَّة جَمْعُه، انتهى. فيكون مما يكونُ فيه الواحد بغير هاءٍ، وجَمْعُهُ بالهاء لقول بعض العرب كمء للواحد وكمأة للجمع. ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ﴾ القص تتبع أثر الشيء للإحاطة به كما قال تعالى: ﴿وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (١١)﴾. والأنباء جمع نبأ كأسباب جمع سبب. والنَّبَأُ: الخَبَرُ الهَامُّ. ﴿مَا نُثَبِّتُ بِهِ﴾؛ أي: نُقَوّي به، ونجعل. ﴿فُؤَادَكَ﴾ رَاسِخًا كالجبل. ﴿عَلَى مَكَانَتِكُمْ﴾؛ أي: على تَمكنِكم، واستطاعتكم.
297
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: اللف والنشرُ المرتَّب في قوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا﴾، ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا﴾.
ومنها: الاستعارة التصريحيةُ الأصلية في قوله: ﴿لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ﴾ شبَّه صراخَ أهل النار، وأنينَهم بأصوات الحمير بجامع الارتفاع، والشناعة، وعدم الفائدة في كلٍّ، فاستعار له اسمَ المشبه به على طريقة الاستعارة التصريحية الأصلية، كما في "روح البيان".
ومنها: المبالغةُ في صيغةِ فعَّال في قوله: ﴿فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾.
ومنها: الإظهارُ في مقام الإضمار في قوله: ﴿مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً﴾ فحقُّ العبارة أن يقال: ما دامتا إلا ما شاء.
ومنها: حكايةُ الحال الماضية في قوله: ﴿إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ﴾.
ومنها: التأكيد لدفع توهم المجاز في قوله: ﴿نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ﴾ أتى بغير منقوص لدفع توهم إرادة بعض النصيب.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ﴾؛ لأنها كناية عن القضاء والقدر.
ومنها: الإسناد المجازيُّ في قوله: ﴿مُرِيبٍ﴾ كما مرَّ.
ومنها: جناسُ الاشتقاق في قوله: ﴿أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾، وفي قوله: ﴿اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ﴾، وفي قوله: ﴿وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ﴾.
298
ومنها: التهديدُ والوعيدُ في قوله: و ﴿اعْمَلُوا﴾ ﴿وَانْتَظِرُوا﴾.
ومنها: القَصْرُ في قوله: ﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، وفي قوله: ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ﴾.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع (١).
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(١) إلى هنا تَمَّ ما يَسَّره الله سبحانه وتعالى لنا من تفسير سورة هود في أوائل ليلة الإثنين المباركة السابعة من شهر صفر المبارك من شهور سنة ألف وأربع مئة وإحدى عشرة، سنة ٧/ ٢/ ١٤١١ من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة، وأزكى التحية، والحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله سبحانه وتعالى. وأشكره سبحانه وتعالى شكرًا بلا انصرام على ما وَفَّقني بابتداءِ هذا التفسير، وأسأله تعالى الإعانةَ لي على كماله وتمامه، والحمدُ لله أولًا وآخرًا. وصلى الله على سيدنا محمَّد وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا دائمًا إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين. آمين.
299
فاتحة في سورة يوسف عليه السلام وتَقْدِمَة لتفسيرها
رَأَينا أَنْ نقدِّم لك أيها القارئُ صورةً موجزةً تبيِّنُ لكَ حَالَ هذا النبي الكريم، والعِبرة من ذكْرِ قصته في القرآن العظيم لتكون ذِكرى للذاكرين، وسلْوةً للقارئين والسامعين.
يوسف الصدِّيق مثلٌ كاملٌ في عِفَّتِهِ
يوسف عليه السلام آيةٌ خالدةٌ على وَجْه الدهر تُتْلى في صحائفِ الكون بكرةً، وعشيًّا، تفسر طيبَ نِجَاره، وطَهَارَة إزاره، وعفَّتِه في شبابه، وقوته في دِينه، وإيثارَه لآخرته على دنياه، وأفْضَلُ هداية تمثِّلُ للنساء والرجال المثل العليا، والعفةَ والصيانةَ التي لا تتِم لأحد من البشر إلا بصدق الإيمان بالله، ومراقبته له في السر والعَلَنِ، وسورته منقبة عظمى له، وآيةٌ بينة في إثبات عصمته، وأفضل مَثَلٍ عَمَليٍّ يقتدي به النساء، والرجال، فبتلاوتها يشعر القارئ بما للشهوة الخسِيسَة على النفس من سلطان، ويسمع بأذنه تغلبَ الفضيلة في المؤمن على كلِّ رذيلة، بقوة الإرادة، ووازع الشرف، والعصمة، ففيها أحسنُ الأُسوة للمؤمنين من الرجال والنساء، فيها قصة شابٍّ كان من أجمل الناس صورةً وأكملهم بنيةً يخلُو بامرأةٍ ذات منصب وسلطان، وهي سَيّدةٌ له، وهو عَبْدُها يحملها الافتتان بجماله على أن تذل نَفْسَهَا له، وتَخُونَ بَعْلَها، فتراوده عن نفسه، وقد جرت العادة أن تَكُونَ النِّسَاء مطلوبات لا طالبات، فيسمعها من حكمته، ويُريها من كماله وعفَّتِه ما هو أفضل درس في الإيمان بالله، والاعتصام بحبله المتين، وفي حفظه أَمَانَةَ سيِّده الذي أحسنَ مثواه فيقول: ﴿إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾، فتشعر حينئذ بالذلِّ والمهانة، والتفريط في الشرف، والصيانة وتحقير مقام السيادة والكرامة.
300
إلا أنَّ فيها أعظمَ دليل على صبره وحِلمِهِ وأمانته، وعَدْلِهِ وحكمته، وعلمه، وعفوه، وإحسانه فَكَفَى شَاهِدًا على صبره أنَّ إخْوَتَهُ حَسَدُوه فَأَلْقَوه في غيابة الجبِّ، وأخرجَتْه السيارة، وباعوه بَيْع العبيد، وكادَتْ له امرأة العزيز، فزج في السجن، فصَبَرَ على أذى الأخوة، وكيد امرأة العزيز، ومكر النسوة إذْ عَلِمَ ما في الفاحشة من مفاسدَ، وما في العدل والإحسان من منافع، ومصالَحَ، فآثر الأعلى على الأَدْنَى، فاختار الدنيا في السجن على ارتكاب الإثم، وكانت العاقبة أنْ نَجَّاه اللَّهُ ورفع قَدَرَهُ وأذل العزيزَ، وامرأتَه، وأقرَّتِ المرأة والنسوة ببراءته، ومكن له في الأرض، وكانت عاقبتُه النصر، والملك والحكم، والعاقبةُ للمتقين قال سبحانه: ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (٥٧)﴾.
وأما عدله وأمانته وعلمه وحكمته: فقد ظهرت جليًّا حين تولَّى الحكم في مصر أيامَ السبع السنين العِجافِ التي أكلت الحَرْثَ والنسلَ، وكادَتْ توقع البلادَ في المجاعات، ثمَّ الهلاك المحقق لولا حكمته، وعدله بين الناس، والسَّيْرُ بينهم بالسويَّةِ، وعلى الصراط المستقيم بلا جَنَفٍ، ولا مَيْلٍ مع الهَوى.
ما في قصص يوسف من عبرة
إن في هذه القصة لعبرةً أيما عبرة لعلية القوم، وساداتهم رجالهم، ونسائهم، مجانهم وأعفائهم، من نساء ورجال، فإنَّ امرأةَ العزيز لَمْ تكن من قبل غويَّةً، ولا كانَتْ في سِيرَتها غَيْرَ عادية، لكنها ابتُلِيَتْ بحب هذا الشاب الفاتن، الذي وضعه عزيز مصر في قصره، وخلى بَيْنَه وبَيْنَ أهلِه، فأذلَّت نَفْسَها له بمراودته عن نفسه، فاستعصم، وأبَى، وآثر مرضاةَ ربِّه، فَشَاعَ في مصر ودورها، وقصورها، ذلها له وإباؤه عليها كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ﴾.
وقد ذكرنها بالوصف "امرأة العزيز" دُونَ الاسم الصريحِ استعظامًا لهذا الأمر منها، ولا سيما، وزوجها عزيزُ مصر، أو رئيس حُكُومَتِها، وقد طَلَبت الفَاحِشَة من مَمْلُوكِها، وفتاها الذي هو في بَيْتها، وتحت كنفها، وذلك أقبح
301
لوقوعها منها، وهيَ السَّيّدة، وهو المملوك، وهو التابع، وهي المَتْبُوعَةُ، وقد جَرَتِ العادة بأنَّ نفوس النِّسْوَةِ تعزف عن مثل هذه الدناءة ولا ترضى لنفسها هذه الذلة التي تشعر بالمُساواة لا بالسيادة، وبالضَّعةِ لا بالعظمة، ولله في خلقه شؤُونٌ.
أما الأول: فقولهنَّ فيها: ﴿قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا﴾؛ أي: قد وَصَلَ حبه إلى شِغَافِ قلبها "الغشاء المحيط به" وغَاضَ في سويدائه كما قال شاعرهم:
اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ حُبَّكِ مِنِّيْ فِيْ سَوَادِ الْفُؤَادِ وَسْطَ الشِّغَافْ
وأما الثاني: فقولهن: ﴿تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ﴾ فلمَّا سمعت بهذا المكر القوليّ قابلَتْهُنَّ عليه بمكر فعلي، فقد جمعتهن، وأخرجته عليهن فلم يشعرن إلا وأحسن خلق الله قد طلع عليهن بغتة، فَراعَهن ذلك الحسن الفتان، وفي أيديهن مدى يقطعنَ بها مما يأكلنَه، فقطعن أَيْدِيَهُن، وهُنَّ لا يشعرن بما فعلن مأخوذات بذلك الحسن كما جاء في قوله سبحانه: ﴿فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (٣١) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (٣٢)﴾.
فلما هددته بالسجن والإذلال بعد أن هُتِكَ سِتْرُهَا، وكاشفت النسوة في أمرها، وتواطأن معها على كيدها، آثر عليه السلام الاعتقالَ في السجن على ما يدعونه إليه من الفحش والخَنَا ﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (٣٣) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٤)﴾.
وإنه ليستبين من هذا القَصص أنَّ امرأةَ العزيز كَانَتْ مالكة لقيادة زوجها الوزير الكبير، تصرفه كيفَ شَاءَت وشاء لها الهوى، إذ كان فاقدًا للغَيْرة كأمثاله من كبراء الدنيا، صغار الأنفُس عبيد الشهوات. قال في "الكشاف" عند ذكر ما رأوا من الشواهد الدالة على براءته، وما كان ذلك إلا باستنزال المرأة لزوجها، وفَتْلها منه في الذروة والغارب وكان مِطْواعةً لها، وَجَملًا ذَلُولًا زمامه في يدها،
302
حتى أنساه ذلك ما عايَنَ من الآياتِ، وعَمِلَ برأيها في سجنه، لإلحاق الصغار به، كما أوعدته، وذلك لما أيِسَتْ من طاعته، وطَمِعَتْ في أن يذللَهُ السِّجْنُ ويسخره لها، اهـ.
وإنا لنستخلصُ من هذه القصة الأمورَ التَّالِيةَ (١):
١ - أن النِّقَم قد تكون ذَرِيعةً لكثير من النعم، ففي بدء القصة أحداث كلها أتراح أعقبتها نتائج كلها أفراحٌ.
٢ - أنَّ الأخوة لأب قد توجد بينهم ضغائن، وأحقادٌ ربما تصل إلى تمنِّي الموت، أو الهلاك، أو الجوائح التي تكون مصدر النَّكَبات، والمصَائِبِ.
٣ - أنَّ العفةَ والأمانةَ والاستقامةَ تكون مَصْدرَ الخير والبركة لمن تحلى بها، والشواهد فيها واضحة، والعبرة منها ماثلة لمن اعتبرَ وتدبَّرَ، ونظَرَ بعين الناقد البصير.
٤ - أن أُسها، ودعامَتَها هو خلوة الرجل بالمرأة فهي التي أثَارت طبيعتها، وأفضتْ بِها إلى إشباع أنوثتها، والرجوع إلى هواها، وغريزتها، ومن أجل هذا حرم الدِّينُ خلْوةَ الرجلِ بالمرأة وسفَرَها بغير محرم. وفي الحديث: "ما اجتمع رجل وامرأة إلا والشيطان ثالثهما".
وإنا لنَرَى في العصر الحاضِرِ أَنَّ الدَاءِ الدَّوِيَّ والفسادَ الخُلقِيَّ الذي وصل إلى الغاية، وكلنا نلمس آثارَهُ ونشاهد بَلْواه، ما بلغ إلى ما نرى إلا باختلاط الرجال بالنساء في المَراقصِ، والملاهِي، والاشتراك معهم في المفاسد، والمعاصي كمعاقرة الخمور، ولعبِ القمارِ في أنديةِ الخزيِ والعارِ، وسباحة النساء مع الرجال في الحمامات المشتركة.
وبَعْدُ، فهل لهذه البلوى مَنْ يُفَرِّج كُرْبَتَها، وهل لهذا الليل من يزيل ظلامَه، وهل لهذه الجراح مِن آس، وهل لهذه الفوضى من علاج، وهل لهذه الطامة من يقوم بِحَمْلِ عَبْئِهَا عن الأمة، ويكون فيه من الشجاعة ما يجعله يرفع الصوت
(١) المراغي.
303
عاليًا بالنزوع عن تلك الغواية، ويَرُدُّ أَمْرَ المجتمع، والحرص على آدابه إلى ما قرَّرهُ الدينُ، وسار عليه سَلَفُ المسلمين المتقين، فيصلح أَمْرَهُ، وتزهو الفضيلة وتنشأ نابتة جديدة، تقوم على حِرَاسَةِ الدين في بلاد المسلمين، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
سورة يوسف عليه السلام مَكّية كلها، قيل (١): إلَّا ثَلاثَ آيات من أولها، وقيل: نزلت ما بين مكة والمدينة، وقْتَ الهجرة.
وهي مئة وإحدى عشرة آيةً وألف وتسع مئة وست وتسعون كلمةً، وسبعة آلاف، ومئة وستة وسبعون حرفًا.
المناسبة: والمناسبة بينها وبين سورة هود (٢): أنها متممة لِما فيها مِنْ قصص الرسل عليهم السلام، والاستدلال بذلك على كون القرآن وحيًا من عند الله تعالى، دالًّا على رسالة محمَّد - ﷺ -، خاتم النبيين، والفرق بين القصص فيها وفيما قبلَها: أنَّ السَّابِقَ كَانَ قصص الرسل مع أقوامهم في تبليغ الدعوةَ والمحاجة فيها، وعاقبة مَن آمن مِنهُم، ومن كَذَّبوهم لإنذار مشركي مكة، ومَنْ تبعهم من العرب.
وأمَّا هذه السورة فهي قصة نبيٍّ رُبِّيَ في غير قومه قبل النبوة، وهو صغير السنِّ حتى بلغ أشده، واكْتَهَل فنبىء، وأُرسل ودعا إلى دينه، ثم تولى إدارة الملك لقطر عظيم، فأحسنَ الإدارَةَ والسِّياسَةَ فيه، وكان خير قدوةٍ للناس في رسالته، وفي جميع ما دخل فيه من أطوار الحياة، وتصريف أمورها على أحسن ما يَصِلُ إليه العقل البشري، ومن أعظم ذلك شأنه مع أبيه وإخوته آل بيت النبوة، وكانَ مِنْ حكمة الله أن يَجْمَعها في سورة واحدة، ومن ثَمَّ كَانَتْ أطْوَلَ قِصَّةٍ في القرآن الكريم.
والله أعلم
* * *
(١) البيضاوي.
(٢) المراغي.
304

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (٣) إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (٤) قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٥) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦) لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (٧) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٨) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (٩) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (١٠) قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (١١) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (١٢) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (١٣) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (١٤) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (١٥) وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (١٦) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (١٧) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (١٨) وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (١٩) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (٢٠)﴾.
المناسبة
مناسبة هذه السورة لسورة هود من حيث البدايةُ أنه جاءت فاتحةُ هذه السورة كفاتحة سورة هود، أعني كلمة: ﴿الر﴾ إلخ خلا أنَّ القرآن وُصف هنا بالمبين، وفي هود بإحكام آياته، وتفصيلها: ذاك أنّ موضع هذه السورة قصص
305
نبي، تقلَّبَتْ عليه صروف الزمان، بَيْنَ نحوس وسُعود، كان في جميعها خير أسوة، وموضوعُ سورة هود أصول الدين، وإثباتُ الوحي والرسالة والبعث والجزاء، وقَصَص الأنبياء المختلفة، فناسبها الوصف بالحِكْمةِ. ومن حيث النهاية أنَّ سُورةَ هود خُتِمَت بقوله ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ﴾ وهذه بُدِئَتْ بقوله: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ﴾.
وعبارة الشهاب هنا: لَما خُتِمت (١) سورة هود بقوله: ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ﴾ إلخ.. ذُكِرت هذه السورة بعدها؛ لأنها من أنباءِ الرسل، وقد ذَكَر أوَّلًا ما لقي الأنبياء من قومهم، وذكر في هذه ما لقي يوسف من إخوته، لِيَعْلَمَ ما قاسوه من أذى الأجانب، والأقارب، فبينهما أتم المناسبة، والمقصود تسلية النبي - ﷺ - بما لاقاه من أذى الأقارب والأباعد، اهـ.
وعبارة أبي حيان: ووجه مناسبتها لما قبلها وارتباطها به أنَّ في آخر السورة التي قبلَها (٢): ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾، وكان في تلك الأنباء المقصوصة فيها ما لاقَى الأنبياء من قومهم، فأتبعَ ذلك بقصة يوسف، وما لاقاه من إخوته، وما آلت إليه حاله من حسن العاقبة، ليحصلَ للرسول - ﷺ - التسلية الجامعة لما يلاقيه من أذى البعيد والقريب، وجاءَتْ هذه مطولة مستوفاةً فلذلك لم يتكرَّرْ في القرآن إلا ما أخبر بِه مُؤْمِنُ آل فرعون في سورة غافر.
وحكمة قَصِّ القصص عليه - ﷺ - ليتأسَّى (٣) بهم، ويتخلَّق بأخلاقهم، فيكون جامعًا لكمالات الأنبياء.
قوله تعالى: ﴿وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ...﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها: أنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى لما بين أنَّ أخوة يُوسُفَ أجمعوا أَمرَهم على إلقائه في غيابة الجُبِّ، ونَفَّذُوا ذلك.. ذَكَر هنا طريقَ خَلاصِه من تلك المِحْنَةِ بمجيء قافلةٍ من التجار ذاهبة إلى مصر، فأخرجوه من البئر، وباعوه في مصر بثمنٍ بَخْسٍ.
(١) الشهاب.
(٢) البحر المحيط.
(٣) الصاوي.
306
أسباب النزول
وسبب نزول هذه السورة (١): أنَّ كفار مَكَّةَ أمرَتْهم اليهودُ أن يسألوا رسولَ الله - ﷺ - عن السبب الذي أحل بني إسرائيل بمصر، فنَزَلَت هذه السورة. وقيل: سببه تسليةُ الرسول - ﷺ - عما كَانَ يفعلُ به قومُهُ بما فعل أخوة يوسف به، وقيل: سألت اليهودُ رسولَ الله - ﷺ - أنْ يحدِّثَهم أمْرَ يعقوب، وولده وشَأْنَ يوسف.
وقال ابن الجوزي رحمه الله تعالى في سبب نزول هذه السورة قولان:
أحدهما: ما روي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: لمَّا أنزل الله القرآن على رسول الله - ﷺ - تلاه عليهم زمانًا، فقالوا: يا رسول الله، لو حدَّثتنا، فأنزل الله عز وجل: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ﴾، فقالوا: لو قصصت علينا، فأنزل الله: ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (١)﴾ إلى قوله: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾.
القول الثاني: ما رواه الضحاك عن ابن عباس قال: سألت اليهودُ النبيَّ - ﷺ - فقالوا: حَدّثْنَا عن أمر يعقوب وولده، وشأنِ يوسف، فأنزل الله عز وجل: ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (١)﴾ الآيات الكريمة.
الناسخ والمنسوخ: قال ابن حزم رحمه الله: أمَّا سورةُ يوسف، فليس فيها ناسخ ولا منسوخ. ومن فضائلها: ما رُوي (٢) عن أُبيِّ بن كعب رضي الله عنه عن رسول الله - ﷺ - أنه قال: "عَلِّمُوا أَرِقَّائِكم سورة يوسف، فإنه أيُّما مسلم أَمْلاها، وعَلَّمها أَهْله، وما مَلَكَتْ يمينه هون اللَّهُ عليه سكرات الموت، وأعطاه القُوَّة، وأن لا يَحْسُدَ مُسْلِمًا". كذا في "تفسير البيان"، وذلك أنَّ يوسُفَ عليه السلام ابتُلِي بحسد الإخوة، وشدائد البئر، والسجن، فأرسل اللَّهُ تعالى جبريل فسلاه، وهون عليه تلك الشدائِدَ بإيصاله إلى مقام الأُنس، والحضورِ، ثم أعطاه القوةَ، والعزةَ،
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
307
Icon