تفسير سورة الفلق

السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير
تفسير سورة سورة الفلق من كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير .
لمؤلفه الشربيني . المتوفي سنة 977 هـ
مكية، في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، ومدنية في قول ابن عباس وقتادة، وهي خمس آيات، وثلاث وعشرون كلمة، وأربعة وسبعون حرفاً.
﴿ بسم الله ﴾ الذي له جميع الحول، ﴿ الرحمن ﴾ الذي استجمع كمال الطول، ﴿ الرحيم ﴾ الذي أتم على أهل ودّه جميع النول.

واختلف في سبب نزول سورة ﴿ قل أعوذ برب الفلق ﴾، فقال ابن عباس وعائشة رضي الله عنهم : كان غلام من اليهود يخدم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فدنت إليه اليهود، فلم يزالوا به حتى أخذ مشاطة رأس النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعدّة أسنان من مشطه، وأعطاها اليهود، فسحروه فيها، وتولى ذلك لبيد بن الأعصم رجل من اليهود، فنزلت هذه و﴿ قل أعوذ برب الناس ﴾ فيه.
وعن عائشة رضي الله عنها «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم طب- أي : سحر- حتى كأنه يخيل إليه أنه صنع شيئاً وما صنعه، وأنه دعا ربه، ثم قال : أشعرت أنّ الله أفتاني فيما استفتيته فيه ؟ فقالت عائشة رضي الله عنها : وما ذاك يا رسول الله ؟ قال :«جاءني رجلان فجلس أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال أحدهما لصاحبه : ما وجع الرجل ؟ فقال الآخر : مطبوب، قال : من طبه ؟ قال : لبيد بن الأعصم، قال : فيماذا ؟ قال : في مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر، قال : فأين هو ؟ قال : في ذروان- وذروان بئر بني زريق- قالت عائشة رضي الله عنها : فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلى عائشة، فقال :«والله لكأنّ ماءها نقاعة الحناء، ولكأنّ نخلها رؤوس الشياطين ». قالت : فقلت : يا رسول الله هل أخرجته ؟ قال : أما أنا فقد شفاني الله وكرهت أن أثير على الناس منه شراً ».
وعن زيد بن أرقم قال :«سحر النبيّ صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود، فاشتكى ذلك أياماً، فأتاه جبريل عليه السلام فقال : إن رجلاً من اليهود سحرك، وعقد لك عقداً في بئر كذا وكذا، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً فاستخرجها فجاء بها، فجعل كلما حل عقدة وجد لذلك خفة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما نشط من عقال، قال : فما ذكر ذلك اليهودي، ولا أرى وجهه قط ». وروي «أنه كان تحت صخرة في البئر، فرفعوا الصخرة وأخرجوا جف الطلعة، فإذا فيها مشاطة من رأسه صلى الله عليه وسلم، وأسنان مشطه ».
وعن مقاتل والكلبي : كان ذلك في وتر عقد عليه إحدى عشرة عقدة، وقيل : كانت مغروزة بالإبرة، فأنزل الله هاتين السورتين، وهما إحدى عشر آية : سورة الفلق خمس آيات، وسورة الناس ست آيات، كلما قرأ آية انحلت عقدة، حتى انحلت العقد كلها، فقام صلى الله عليه وسلم كأنما نشط من عقال. وروي : أنه لبث فيه ستة أشهر، اشتدّ عليه بثلاث ليال، فنزلت المعوّذتان، وروي : أنه كان يخيل له أنه يطأ زوجاته، وليس بواطئ، قال سفيان : وهذا أشدّ ما يكون من السحر.
وعن أبي سعيد الخدري :«أنّ جبريل عليه السلام أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد، اشتكيت، قال : نعم، قال : بسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، ومن شرّ كل نفس أو عين حاسد، والله يشفيك بسم الله أرقيك ».
فإن قيل : المستعاذ منه هل هو بقضاء الله وقدره، أو لا فإن كان بقضاء الله وقدره فكيف أمر بالاستعاذة مع أن ما قدر لا بدّ واقع ؟ وإن لم يكن بقضاء الله وقدره فذلك قدح في القدرة ؟ أجيب : بأنّ كل ما وقع في الوجود فهو بقضاء الله وقدره، والاستشفاء بالتعوّذ والرقي من قضاء الله، يدل على صحة ذلك ما روى الترمذي عن أبي خزامة عن أبيه قال :«سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله، أرأيت رقى نسترقي بها، ودواء نتداوى به، وتقاة نتقيها هل يردّ من قضاء الله شيئاً ؟ قال : هو من قدر الله ». قال الترمذي : هذا حديث حسن. وعن عمر : نفرّ من قدر الله إلى قدر الله.
ومعنى أعوذ : أستجير وأعتصم وأحترز، والفلق : الصبح في قول الأكثرين، ومنه قوله تعالى :﴿ فالق الإصباح ﴾ [ الأنعام : ٩٦ ] ؛ لأنه ظاهر في تغير الحال، ومحاكاة يوم القيامة الذي هو أعظم فلق يشق ظلمة الفناء، والهلاك بالبعث والأحياء. وقال الملوي : الفلق -بالسكون والحركة- كل شيء انفلق عنه ظلمة العدم، وأوجد من الكائنات جميعاً. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما : أنه سجن في جهنم. وقال الكلبي : واد في جهنم. وقال الضحاك : يعني الخلق، وقيل : المطمئن من الأرض، وجمعه فلقان، مثل خلق وخلقان، وقيل : الفلق الجبال والصخور وتنفلق بالمياه، أي : تنشق، وقيل : هو التفليق بين الجبال ؛ لأنها تنشق من خوف الله تعالى. ولفظ الرب هنا أوقع من سائر أسمائه تعالى ؛ لأن الإعادة من المشارّ تربية.
ولما كانت الأشياء قسمين : عالم الخلق وعالم الأمر، وكان عالم الأمر خيراً كله، فكان الشر منحصراً في عالم الخلق، خصه بالاستعاذة فقال تعالى معمماً فيها :﴿ من شر ما خلق ﴾، فخص عالم الخلق بالاستعاذة منه لانحصار الشر فيه يكون اختيارياً من العاقل الداخل تحت مدلول ما وغيره من سائر الحيوانات، كالكفر والظلم ونهش السباع ولدغ ذوات السموم، وتارة طبيعياً كإحراق النار، وإهلاك السموم.
وقيل : المراد به إبليس خاصة ؛ لأنه لم يخلق الله خلقاً شراً منه، ولأنّ السحر لا يتم إلا به وبأعوانه وجنوده، وقيل : من شر كل ذي شر.
وقوله تعالى :﴿ ومن شر غاسق إذا وقب ﴾ فيه أوجه : أحدها : ما روي عن عائشة قالت :«إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى القمر فقال :" يا عائشة، استعيذي بالله من شر هذا، فإنّ هذا هو الغاسق إذا وقب »، أخرجه الترمذي، وقال : حديث صحيح حسن، فعلى هذا المراد به القمر إذا خسف واسود وذهب ضوءه، أو إذا دخل في المحاق، وهو آخر الشهر، وفي ذلك الوقت يتم السحر المؤثر للتمريض، وهذا مناسب لسبب نزول هذه السورة.
ثانيها : ما روي عن ابن عباس : أنّ الغاسق الليل إذا وقب، أي : أقبل بظلمته من المشرق، وسمي الليل غاسقاً ؛ لأنه أبرد من النهار. والغسق : البرد، وإنما أمر بالتعوّذ من الليل ؛ لأنّ فيه الآفات، ويقل الغوث، ومنه قولهم : الليل أخفى للويل، وقولهم : أعذر الليل ؛ لأنه إذا أظلم كثر فيه العدوّ، وفيه يتم السحر، وأسند الشر إليه لملابسته له من حدوثه فيه.
ثالثها : إنه الثريا إذا سقطت وغابت، ويقال : إنّ الأسقام تكثر عند وقوعها، وترتفع عند طلوعها، فلهذا أمر بالتعوّذ من الثريا عند سقوطها.
رابعها : أنه الأسود من الحيات، ووقبه : ضربه ونقبه، والوقب : الثقب، ومنه : وقبت الثريد.
ولما كان السحر أعظم ما يكون لما فيه من تفريق المرء من زوجه وأبيه وابنه ونحو ذلك، عقب ذلك بقوله تعالى :﴿ ومن شرّ النفاثات في العقد ﴾، أي : النساء، أو النفوس، أو الجماعات السواحر اللواتي تعقد عقداً في خيوط، وينفثن عليها، ويرقين عليها، والنفث : النفخ مع ريق. وقال أبو عبيدة : النفاثات من بنات لبيد بن أعصم اليهودي، سحرن النبيّ صلى الله عليه وسلم. فإن قيل : ما معنى الاستعاذة من شرّهن ؟ أجيب بثلاثة أوجه :
أحدها : أنه يستعاذ من عملهنّ الذي هو صنعة السحر، ومن إثمهنّ في ذلك.
ثانيها : أن يستعاذ من فتنتهنّ الناس بسحرهنّ، وما يخدعنهم به من باطلهنّ.
ثالثها : أن يستعاذ مما يصيب الله به من الشر عند نفثهنّ.
قال الزمخشري : ويجوز أن يراد بهنّ النساء الكيادات من قوله تعالى :﴿ إنّ كيدكنّ عظيم ﴾ [ يوسف : ٢٨ ]، تشبيهاً لكيدهنّ بالسحر والنفث في العقد، أو اللاتي يفتنّ الرجال بتعرضهنّ لهم، وعرضهنّ محاسنهنّ كأنهنّ يسحرنهم بذلك.
تنبيه : اختلف في النفث في الرقي، فجوّزه الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ويدل عليه حديث عائشة قالت :«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوّذتين ».
وروى محمد بن حاطب :«أنّ يده احترقت، فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فجعل ينفث عليها، ويتكلم بكلام، زعم أنه لم يحفظه ».
وروي «أنّ قوماً لدغ رجل منهم، فأتوا أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا : هل فيكم من راق ؟ قالوا : لا، حتى تجعلوا لنا شيئاً، فجعلوا لهم قطيعاً من الغنم، فجعل رجل منهم يقرأ فاتحة الكتاب ويرقي ويتفل حتى برئ، فأخذوه، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : وما يدريك أنها رقية ؟ خذوا، واضربوا لي معكم بسهم ».
وأنكر جماعة النفث والتفل في الرقي، وأجازوا النفخ بلا ريق. وقال عكرمة : لا ينبغي للراقي أن ينفث ولا يمسح ولا يعقد.
وقيل : إنّ النفث في العقد إنما يكون مذموماً إذا كان سحراً مضراً بالأرواح والأبدان، وإذا كان النفث لإصلاح الأرواح والأبدان فلا يضر، وليس بمذموم ولا مكروه ؛ بل هو مندوب إليه.
ولما كان أعظم حامل على السحر وغيره من أذى الناس الحسد، وهو تمني زوال نعمة المحسود للحاسد، أو غيره قال تعالى :﴿ ومن شرّ حاسد ﴾، أي : ثابت الاتصاف بالحسد معروف فيه، وأعظم الحساد الشيطان الذي ليس له دأب إلا السعي في إزالة نعم العبادات عن الإنسان بالغفلات، ثم قيد ذلك بقوله تعالى :﴿ إذا حسد ﴾، أي : إذا ظهر حسده وعمل بمقتضاه من بغي الغوائل للمحسود، لأنه إذا لم يظهر أثر ما أضمر فلا ضرر يعود منه على من حسده ؛ بل هو الضار لنفسه لاغتمامه بسرور غيره.
وعن عمر بن عبد العزيز : لم أر ظالماً أشبه بالمظلوم من حاسد، وفي إشعار الآية إدعاء بما يحسد عليه من نعم الدارين ؛ لأنّ خير الناس من عاش محسوداً ومات محسوداً.
فإن قيل : لم عرف بعض المستعاذ منه ونكر بعضه ؟ أجيب : بأنّ النفاثات عرفت ؛ لأنه كل نفاثة شريرة، ونكر غاسق ؛ لأنّ كل غاسق لا يكون فيه الشر إنما يكون في بعض دون بعض، وكذلك كل حاسد لا يضر.
وربّ حسد محمود، وهو الحسد في الخيرات، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم :«لا حسد إلا في اثنتين » الحديث. وقال أبو تمام :
وما حاسد في المكرمات بحاسد ***
وقال آخر :
إن العلا حسن في مثلها الحسد ***
فائدة : قال بعض الحكماء : الحاسد بارز ربه من خمسة أوجه :
أولها : أنه أبغض كل نعمة ظهرت على غيره.
ثانيها : أنه ساخط لقسمة ربه، كأنه يقول : لم قسمت هذه القسمة ؟
ثالثها : إنه ضاد فعل الله تعالى، إذ فضل ببره من شاء، وهو يبخل بفضل الله تعالى.
رابعها : أنه خذل أولياء الله تعالى، أو يريد خذلانهم، وزوال النعمة عنهم.
خامسها : أنه أعان عدوّ الله إبليس، والحاسد لا ينال في المجالس إلا ندامة، ولا ينال عند الملائكة إلا لعنة، ولا ينال في الدنيا إلا جزعاً وغماً، ولا ينال في الآخرة إلا حزناً واحتراقاً، ولا ينال من الله تعالى إلا بعداً ومقتاً.
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :«ثلاثة لا يستجاب دعاؤهم : آكل الحرام، ومكثر الغيبة، ومن كان في قلبه غلّ أو حسد للمسلمين ».
وقيل : المراد بالحاسد في الآية اليهود، فإنهم كانوا يحسدون النبي صلى الله عليه وسلم.
فإن قيل : قوله تعالى :﴿ من شر ما خلق ﴾ تعميم في كل ما يستعاذ منه، فما معنى الاستعاذة بعده من الغاسق والنفاثات والحاسد ؟ أجيب : بأنه قد خص شر هؤلاء من كل شر، لخفاء أمرهم، وأنه يلحق الإنسان من حيث لا يعلم، كأنما يغتال به، وقالوا : شر العداة المداجي الذي يكيدك من حيث لا تشعر.
وأخرج الإمام أحمد عن الزبير بن العوّام أنه صلى الله عليه وسلم قال :«دب إليكم داء الأمم قبلكم : الحسد والبغضاء، ألا والبغضاء هي الحالقة ». فنسأل الله تعالى أن يحفظنا ومحبينا منه، إنه كريم جواد.
Icon