تفسير سورة الإسراء

زاد المسير
تفسير سورة سورة الإسراء من كتاب زاد المسير في علم التفسير المعروف بـزاد المسير .
لمؤلفه ابن الجوزي . المتوفي سنة 597 هـ
سورة الإسراء

فصل في نزولها


هي مكية في قول الجماعة، إلا أن بعضهم يقول : فيها مدني، فروي عن ابن عباس أنه قال : هي مكية إلا ثمان آيات : من قوله :﴿ وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ ﴾ إلى قوله :﴿ نَصِيراً ﴾ [ الإسراء : ٧٣-٧٥ ]، وهذا قول قتادة. وقال مقاتل : فيها من المدني :﴿ وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ ﴾ [ الإسراء : ٨٠ ] وقوله :﴿ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ ﴾ [ الإسراء : ١٠٧ ] وقوله :﴿ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ ﴾ [ الإسراء : ٦٠ ] وقوله :﴿ وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ ﴾ [ الإسراء : ٧٣ ] وقوله :﴿ وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ ﴾ [ الإسراء : ٧٦ ] وقوله :﴿ وَلَوْ أن ثَبَّتْنَاكَ ﴾ والتي تليها [ الإسراء : ٧٤، ٧٥ ].

الجزء الثالث
سورة الإسراء

فصل في نزولها:


هي مكيّة في قول الجماعة، إلّا أنّ بعضهم يقول: فيها مدنيّ، فروي عن ابن عباس أنه قال: هي مكيّة إلّا ثمان آيات: من قوله تعالى: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ إلى قوله تعالى:
نَصِيراً «١»، وهذا قول قتادة. وقال مقاتل: فيها من المدنيّ: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ «٢» وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ «٣» وقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ «٤» وقوله تعالى: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ «٥» وقوله تعالى: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ «٦» وقوله تعالى: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ والتي تليها «٧».

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الإسراء (١٧) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١)
قوله تعالى: سُبْحانَ.
(٨٨٩) روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم أنه سئل عن تفسير «سبحان الله»، فقال: «تنزيه الله عن كل سوءٍ»، وقد ذكرنا هذا المعنى في سورة البقرة «٨».
قال الزجاج: و «أسرى» : بمعنى: «سيَّر عبده»، يقال: أسريت وسريت: إِذا سرت ليلاً. وقد جاءت اللغتان في القرآن، قال الله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (٤) «٩».
وفي معنى التّسبيح ها هنا قولان: أحدهما: أن العرب تسبِّح عند الأمر المعجب، فكأن الله تعالى عجَّب العباد مما أسدى إِلى رسوله من النعمة. والثاني: أن يكون خرّج الرّدّ عليهم، لأنه لمّا حدّثهم
ضعيف جدا. أخرجه البزار ٣٠٨٢ والحاكم ١/ ٥٠٢ من طريق عبد الرحمن بن حماد عن حفص بن سليمان عن طلحة بن يحيى بن طلحة عن أبيه عن طلحة بن عبيد الله قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن تفسير...
الحديث. صححه الحاكم، وتعقبه الذهبي بقوله: بل لم يصح، فإن طلحة منكر الحديث، قاله البخاري، وحفص واه وعبد الرحمن، قال أبو حاتم: منكر الحديث. قلت: فهو إسناد ضعيف جدا، مسلسل بالضعفاء.
__________
(١) سورة الإسراء: ٧٣، ٧٥.
(٢) سورة الإسراء: ٨٠. [.....]
(٣) سورة الإسراء: ١٧.
(٤) سورة الإسراء: ٦٠.
(٥) سورة الإسراء: ٧٣.
(٦) سورة الإسراء: ٧٦.
(٧) سورة الإسراء: ٧٤ و ٧٥.
(٨) سورة البقرة: ٣٢.
(٩) سورة الفجر: ٤.
7
بالاسراء، كذبوه، فيكون المعنى: تنزه الله أن يتخذ رسولا كذاباً. ولا خلاف أن المراد بعبده هاهنا:
محمّد صلى الله عليه وسلّم. وفي قوله تعالى: مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ قولان: أحدهما: أنه أُسري به من نفس المسجد، قاله الحسن، وقتادة. ويسنده حديث مالك بن صعصعة، وهو في (الصحيحين) :
(٨٩٠) «بينما أنا في الحطيم» وربما قال بعض الرواة: في «الحِجر» «١».
والثاني: أنه أُسري به من بيت أمّ هانئ «٢»، وهو قول أكثر المفسرين «٣»، فعلى هذا يعني بالمسجد الحرام: الحرم. والحرم كلُّه مسجد، ذكره القاضي أبو يعلى وغيره.
فأما الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى فهو بيت المقدس، وقيل له: الأقصى، لبُعد المسافة بين المسجدَين.
ومعنى بارَكْنا حَوْلَهُ: أن الله أجرى حوله الأنهار، وأنبت الثِّمار. وقيل: لأنه مَقَرُّ الأنبياء، ومَهْبِطُ الملائكة. واختلف العلماء، هل دخل بيتَ المقدس، أم لا؟
(٨٩١) فروى أبو هريرة أنه دخل بيت المقدس، وصلّى فيه بالأنبياء، ثم عُرِج به إِلى السماء.
وقال حُذيفة بن اليمان: لم يدخل بيت المقدس ولم يصلِّ فيه، ولا نزل عن البراق حتى عرج به «٤». فإن
صحيح. أخرجه البخاري ٣٢٠٧ و ٣٣٩٣ و ٣٤٣٠ و ٣٨٨٧، وابن حبان ٤٨، والبيهقي في «الدلائل» ٢/ ٣٨٧ من طرق عن أنس عن مالك بن صعصعة.
صحيح. أخرجه مسلم ١٧٢ والنسائي في «الكبرى» ١١٢٨٤، وابن مندة في «الإيمان» ٧٤٠ من طريق حجين بن المثنى به. وأخرجه أبو عوانة ١/ ١٣١، وابن مندة ٧٤٠ من طريق أحمد بن خالد الوهبي به وأربعتهم عن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون به، من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لقد رأيتني في الحجر. وقريش تسألني عن مسراي. فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها. فكربت كربة ما كربت مثله قط. قال: فرفعه الله لي أنظر إليه. ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به. وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء. فإذا موسى قائم يصلي. فإذا رجل ضرب جعد كأنه من رجال شنوءة. وإذا عيسى ابن مريم عليه السلام قائم يصلي. أقرب الناس به شبها عروة بن مسعود الثقفي. وإذا إبراهيم عليه السلام قائم يصلي. أشبه الناس به صاحبكم (يعني نفسه) فحانت الصلاة فأممتهم. فلما فرغت من الصلاة قال قائل: يا محمد! هذا مالك صاحب النار فسلّم عليه. فالتفت إليه فبدأني بالسلام». واللفظ لمسلم.
__________
(١) هو عند مسلم ١٧٢ من حديث أبي هريرة، وانظر الآتي.
(٢) ورد من وجوه متعددة بأسانيد بعضها ضعيف، وبعضها حسن، انظر «الدر المنثور». وانظر التعليق الآتي.
(٣) قال الحافظ في «الفتح» ٧/ ٢٠٤: هو شك من قتادة كما بينه أحمد، عن عفان عن همام ولفظه «بينا أنا نائم في الحطيم، وربما قال قتادة: في الحجر» والمراد بالحطيم هنا الحجر، وأبعد من قال: المراد به ما بين الركن والمقام، أو بين زمزم والحجر، وهو وإن كان مختلفا في الحطيم هل هو الحجر أم لا، لكن المراد هنا بيان البقعة التي وقع فيها ذلك، ومعلوم أنها لم تتعدد، لأن القصة متحدة لاتحاد مخرجها. وجاء في رواية: «بينا أنا عند البيت» وهو أعم، وفي رواية أخرى: «فرج سقف بيتي وأنا بمكة» وفي رواية غيرها أنه أسري به من شعب أبي طالب، ففرج سقف بيته- وأضاف البيت إليه لكونه كان يسكنه- فنزل منه الملك، فأخرجه من البيت إلى المسجد، فكأن به مضطجعا وبه أثر النعاس، ثم أخرجه الملك إلى باب المسجد، فأركبه البراق. وقد وقع في مرسل الحسن عند ابن إسحاق أن جبريل أتاه فأخرجه إلى المسجد، فأركبه البراق، وهو يؤيد هذا الجمع.
(٤) أخرجه الطبري ٢٢٠٣٠ عن حذيفة به، وإسناده حسن لأجل عاصم بن بهدلة، فإنه صدوق يخطئ، وباقي الإسناد على شرطهما. ومع ذلك المتن غريب، والصحيح خلاف ما ذهب إليه حذيفة. وجاء في «الفتح» ١/ ٤٦٥:
فائدة: ذهب جماعة إلى أنه لم يكن قبل الإسراء صلاة مفروضة إلا ما كان وقع الأمر به من صلاة الليل من غير تحديد. وذهب الحربي إلى أن الصلاة كانت مفروضة ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي.
8
قيل: ما معنى قوله تعالى: إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وأنتم تقولون: صعِد إِلى السماء؟ فالجواب: أن الإِسراء كان إِلى هنالك، والمعراج كان من هنالك. وقيل: إِن الحكمة في ذِكْر ذلك، أنه لو أخبر بصعوده إِلى السماء في بَدْءِ الحديث، لاشتد إِنكارهم، فلما أخبر ببيت المقدس، وبان لهم صدقُه فيما أخبرهم به من العلامات الصادقة، أخبر بمعراجه.
قوله تعالى: لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا يعني: ما رأى تلك الليلة من العجائب التي أَخبر بها الناس. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لمقالة قريش، الْبَصِيرُ بها. وقد ذكرنا في كتابنا المسمى ب «الحدائق» أحاديث المعراج، وكرهنا الإطالة ها هنا.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٢ الى ٣]
وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (٢) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (٣)
قوله تعالى: وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لمَّا ذكر في الآية الأولى إكرام محمّد صلى الله عليه وسلّم، ذكر في هذه كرامة موسى. والْكِتابَ: التوراة. وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أي: دللناهم به على الهدى. أَلَّا تَتَّخِذُوا قرأ أبو عمرو: «يتخذوا» بالياء، والمعنى: هديناهم لئلا يتخذوا، وقرأ الباقون بالتاء، قال أبو علي: وهو على الانصراف إِلى الخطاب بعد الغَيْبَة، مثل: الْحَمْدُ لِلَّهِ ثم قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ. قوله تعالى: وَكِيلًا قال مجاهد: شريكاً. وقال الزجاج: ربّاً. قال ابن الأنباري: وإِنما قيل للربِّ: وكيل، لكفايته وقيامه بشأن عباده، من أجل أَن الوكيل عند الناس قد عُلم أَنه يقوم بشئون أصحابه، وتفقُّد أمورهم، فكان الرب وكيلاً من هذه الجهة، لا على معنى ارتفاع منزلة الموكِّل وانحطاط أمر الوكيل.
قوله تعالى: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا قال مجاهد: هو نداء: يا ذرية من حملنا. قال ابن الأنباري:
من قرأ: «ألاَّ تتخذوا» بالتاء، فإنه يقول: بعد الذرية مضمر حُذفَ اعتماداً على دلالة ما سبق، تلخيصه:
يا ذرية من حملنا مع نوح لا تتخذوا وكيلاً، ويجوز أن يستغني عن الإضمار بقوله تعالى: إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً لأنه بمعنى: اشكروني كشكره. ومن قرأ: «ألّا يتخذوا» بالياء، جعل النداء متصلاً بالخطاب، و «الذرية» تنتصب بالنداء، ويجوز نصبها بالاتخاذ على أنها مفعول ثان، تلخيص الكلام: ألّا يتخذوا ذرية من حملنا مع نوح وكيلاً. قال قتادة: الناس كلُّهم ذرِّيَّة من أنجى الله في تلك السفينة. قال العلماء: ووجه الإِنعام على الخَلْق بهذا القول، أنهم كانوا في صلب من نجا. قوله تعالى: إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً قال سلمان الفارسي: كان إِذا أَكل قال: «الحمد لله» وإِذا شرب قال: «الحمد لله». وقال غيره: كان إِذا لبس ثوباً قال: «الحمد لله» فسمَّاه الله «عبدا شكورا».
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٤ الى ٦]
وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (٥) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (٦)
9
قوله تعالى: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فيه قولان «١» : أحدهما: أخبرناهم، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثاني: قضينا عليهم، رواه العوفي عن ابن عباس. وبه قال قتادة، فعلى الأول: تكون إِلى على أصلها، ويكون الكتاب: التوراة، وعلى الثاني: تكون إِلى بمعنى «على»، ويكون «الكتاب» : الذِّكر الأول.
قوله تعالى: لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ يعني: أرض مصر مَرَّتَيْنِ بالمعاصي ومخالفة التوراة. وفي مَنْ قتلوه من الأنبياء في الفساد الأول قولان: أحدهما: زكريا، قاله السدي عن أشياخه. والثاني:
شَعْيَا، قاله ابن إِسحاق. فأما المقتول من الأنبياء في الفساد الثاني: فهو يحيى بن زكريا. قال مقاتل:
كان بين الفسادَين مائتا سنة وعشر سنين. فأما السبب في قتلهم زكريا، فإنهم اتهموه بمريم، وقالوا: منه حملت، فهرب منهم، فانفتحت له شجرة فدخل فيها وبقي من ردائه هدب، فجاءهم الشيطان فدلَّهم عليه، فقطعوا الشجرة بالمنشار وهو فيها. وأما السبب في قتلهم «شعيا»، فهو أنه قام فيهم برسالةٍ مِنَ الله ينهاهم عن المعاصي. وقيل: هو الذي هرب منهم فدخل في الشجرة حتى قطعوه بالمنشار، وأنّ زكريّا مات حتف أنفه. فأمّا السبب في قتلهم يحيى بن زكريا، ففيه قولان: أحدهما: أن ملِكهم أراد نكاح امرأة لا تحلُّ له، فنهاه عنها يحيى. ثم فيها أربعة أقوال: أحدها: أنها ابنة أخيه، قاله ابن عباس.
والثاني: ابنته، قاله عبد الله بن الزبير. والثالث: أنها امرأة أخيه، وكان ذلك لا يصلح عندهم، قاله الحسين بن علي عليهما السلام. والرابع: ابنة امرأته، قاله السدي عن أشياخه، وذكر أن السبب في ذلك: أن ملك بني إِسرائيل هويَ بنت امرأته، فسأل يحيى عن نكاحها، فنهاه، فحنقت أمها على يحيى حين نهاه أن يتزوج ابنتها، وعمدت إِلى ابنتها فزينتها وأرسلتها إِلى الملك حين جلس على شرابه، وأمرتْها أن تسقيَه، وأن تعرض له، فان أَرادها على نفسها، أَبت حتى يؤتى برأس يحيى بن زكريا في طَسْت، ففعلت ذلك، فقال: ويحك سليني غير هذا، فقالت: ما أريد إِلا هذا، فأمر، فأُتي برأسه والرأس يتكلم ويقول: لا تحلُّ لك، لا تحلُّ لك. والقول الثاني: أن امرأة الملك رأت يحيى عليه السلام وكان قد أُعطيَ حسناً وجمالاً، فأرادته على نفسه، فأبى، فقالت لابنتها: سلي أباك رأس يحيى، فأعطاها ما سألت، قاله الربيع بن أنس. قال العلماء بالسِّيَر: ما زال دم يحيى يغلي حتى قتل عليه من بني إِسرائيل سبعون ألفاً، فسكن، وقيل: لم يسكن حتى جاء قاتله، فقال: أنا قتلته، فقُتِل، فسكن.
قوله تعالى: وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً أي: لتَعَظَّمُنّ عن الطاعة ولتبغُنَّ.
قوله تعالى: فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما أي: عقوبة أُولى المرَّتين بَعَثْنا أي: أرسلنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا وفيهم خمسة أقوال: أحدها: أنهم جالوت وجنوده، قاله ابن عباس، وقتادة. والثاني: «بُخْتَنَصَّر»، قاله سعيد بن المسيب، واختاره الفراء، والزجاج. والثالث: العمالقة، وكانوا كفاراً، قاله الحسن.
والرابع: سنحاريب، قاله سعيد بن جبير. والخامس: قوم من أهل فارس، قاله مجاهد. وقال ابن زيد:
(١) قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٣/ ٣٤: يقول الله تعالى: إنه قضى إلى بني إسرائيل في الكتاب، أي تقدّم إليهم وأخبرهم في الكتاب الذي أنزله عليهم: أنهم سيفسدون في الأرض مرتين ويعلون علوا كبيرا، أي يتجبرون ويطغون على الناس. كما قال تعالى: وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ، أي تقدمنا إليه وأخبرناه بذلك وأعلمناه.
10
سلط الله عليهم سابور ذا الأكتاف من ملوك فارس.
قوله تعالى: أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ أي: ذوي عدد وقوة في القتال.
وفي قوله: فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ ثلاثة أقوال: أحدها: مشَوا بين منازلهم، قاله ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وقال مجاهد: يتجسَّسون أخبارهم ولم يكن قتال. وقال الزجاج: طافوا خلال الديار ينظرون هل بقي أحد لم يقتلوه؟ و «الجوس» : طلب الشيء باستقصاء. والثاني: قتلوهم بين بيوتهم، قاله الفراء، وأبو عبيدة. والثالث: عاثوا وأفسدوا، يقال: جاسوا وحاسوا، فهم يجوسون ويحوسون إِذا فعلوا ذلك، قاله ابن قتيبة. فأما الخلال: فهي جمع خَلَل، وهو الانفراج بين الشيئين. وقرأ أبو رزين، والحسن، وابن جبير، وأبو المتوكل: «خَلَلَ الديار» بفتح الخاء واللام من غير ألفٍ. وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا أي: لا بد من كونه.
قوله تعالى: ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ أي: أظفرناكم بهم. والكَرَّة، معناها: الرجعة والدُّولة، وذلك حين قتل داودُ جالوتَ وعاد ملكهم إِليهم. وحكى الفراء أن رجلا دعا على «بختنصر» فقتله الله، وعاد ملكهم إِليهم. وقيل: غزَوا ملك بابل فأخذوا ما كان في يده من المال والأسرى. قوله تعالى: وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً أي: أكثر عدداً وأنصاراً منهم. قال ابن قتيبة: النَّفير والنافر واحد، كما يقال: قدير وقادر، وأصله: مَنْ يَنْفِرُ مع الرجل من عشيرته وأهل بيته.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٧ الى ٨]
إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (٧) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (٨)
قوله تعالى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أي: وقلنا لكم إِن أحسنتم فأطعتُم الله أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ أي:
عاقبةُ الطاعة لكم وَإِنْ أَسَأْتُمْ بالفساد والمعاصي فَلَها وفيه قولان: أحدهما: أنه بمعنى: فاِليها.
والثاني: فعليها. فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جواب «فاذا» محذوف، تقديرُه: فاذا جاء وعد عقوبة المرّة الآخرة من إفسادكم، بعثناهم ليسوءوا وجوهكم، وهذا الفساد الثاني، هو قتلهم يحيى بن زكريا، وقصدهم قتل «عيسى» فرُفِع، وسلَّط الله عليهم ملوك فارس والروم فقتلوهم وسبَوْهم، فذلك قوله تعالى: لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ. قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم: «ليسوؤوا» بالياء على الجميع والهمز بين الواوين، والإِشارة إِلى المبعوثين. وقرأ ابن عامر، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم: «ليسوءَ وجوهكم» على التوحيد قال أبو علي: فيه وجهان. أحدهما: ليسوء الله عزّ وجلّ.
والثاني: ليسوء البَعْثُ. وقرأ الكسائي: «لنسوءَ» بالنون، وذلك راجع إِلى الله تعالى. وفيمن بَعث عليهم في المرة الثانية قولان: أحدهما: بختنصر، قاله مجاهد، وقتادة. وكثير من الرواة يأبى هذا القول، ويقولون: كان بين تخريب «بختنصر» بيت المقدس، وبين مولد يحيى بن زكريا زمان طويل. والثاني:
انطياخوس الرومي، قاله مقاتل. ومعنى لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ أي: ليُدخِلوا عليكم الحزن بما يفعلون من قتلكم وسبيكم، وخصّت المساءة بالوجوه، والمراد: أصحاب الوجوه، لما يبدو عليها من أثر الحزن والكآبة.
قوله تعالى: وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ يعني: بيت المقدس كَما دَخَلُوهُ في المرة الأولى وَلِيُتَبِّرُوا أي: ليدمِّروا ويخرِّبوا. قال الزجاج: يقال لكل شيء ينكسر من الزجاج والحديد والذهب:
تِبر. ومعنى ما عَلَوْا أي: ليدمِّروا في حال علوِّهم عليكم.
قوله تعالى: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ هذا مما وُعِدوا به في التوراة، و «عسى» من الله واجبة، فرحمهم الله بعد انتقامه منهم، وعمر بلادهم، وأعاد نعمهم بعد سبعين سنة. وَإِنْ عُدْتُمْ إِلى معصيتنا عُدْنا إِلى عقوبتكم. قال المفسرون: ثم إِنهم عادوا إِلى المعصية، فبعث الله عليهم ملوكاً من ملوك فارس والروم. قال قتادة: ثم كان آخر ذلك أن بعث الله عليهم محمداً صلى الله عليه وسلّم، فهم في عذاب إِلى يوم القيامة، فيعطُون الجزية عن يدٍ وهم صاغرون.
قوله تعالى: وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً فيه قولان: أحدهما: سجناً، قاله ابن عباس، والضحاك، وقتادة. وقال مجاهد: يحصرون فيها. وقال أبو عبيدة، وابن قتيبة: محبساً، وقال الزجاج:
«حصيراً» : حبساً، أخذ من قولك: حصرت الرجل، إِذا حبسته، فهو محصور، وهذا حصيره، أي:
محبسه، والحصير: المنسوج. سمي حصيراً، لأنه حصرت طاقاته بعضها مع بعض، ويقال للجَنْب:
حصير، لأن بعض الأضلاع محصور مع بعض. وقال ابن الأنباري: حصيراً: بمعنى: حاصرة، فصرف من حاصرة إِلى حصير، كما صرف «مؤلم» إِلى أليم. والثاني: فراشاً ومهاداً، قاله الحسن. قال أبو عبيدة: ويجوز أن تكون جهنم لهم مهاداً بمنزلة الحصير، والحصير: البساط الصغير.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٩ الى ١٠]
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٠)
قوله تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ قال ابن الأنباري: «التي» وصف للجمع، والمعنى: يهدي إِلى الخصال التي هي أقوم الخصال. قال المفسرون: وهي توحيد الله والإِيمان به وبرسله والعمل بطاعته، وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أي: بأن لهم أَجْراً وهو الجنة، وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أي: ويبشرهم بالعذاب، لأعدائهم، وذلك أن المؤمنين كانوا في أذىً من المشركين، فعجَّل الله لهم البشرى في الدنيا بعقاب الكافرين.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ١١]
وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (١١)
قوله تعالى: وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ وذلك أن الإِنسان يدعو في حال الضجر والغضب على نفسه وأهله بما لا يحب أن يستجاب له كما يدعو لنفسه بالخير. وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا يعجِّل بالدعاء بالشر عند الغضب والضجر عَجَلَته بالدعاء بالخير.
وفي المراد بالإِنسان هاهنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنه اسم جنس يراد به الناس، قاله الزجاج وغيره. والثاني: آدم، فاكتفى بذكره من ذكر ولده، ذكره ابن الأنباري. والثالث: أنه النَّضْر بن الحارث حين قال: فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ «١»، قاله مقاتل. وقال سلمان الفارسي: أول ما خلق
(١) سورة الأنفال: ٣٢.
الله من آدم رأسه، فجعل ينظر إِلى جسده كيف يخلق، قال: فبقيت رجلاه، فقال: يا رب عجِّل، فذلك قوله: وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا «١».
[سورة الإسراء (١٧) : آية ١٢]
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (١٢)
قوله تعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ أي: علامتين يدلان على قدرة خالقهما. فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ فيه قولان: أحدهما: أن آية الليل: القمر، ومحوها: ما في بعض القمر من الاسوداد. وإلى هذا المعنى ذهب عليّ رضي الله عنه، وابن عباس في آخرين. والثاني: آية الليل محيت بالظلمة التي جعلت ملازمةً لليل فنسب المحو إِلى الظلمة إِذْ كانت تمحو الأنوارَ وتبطلُها، ذكره ابن الأنباري. ويُروى أن الشمس والقمر كانا في النور والضوء سواءً، فأرسل الله جبريل فأمرَّ جناحه على وجه القمر وطمس عنه الضوء.
قوله تعالى: وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ يعني: الشمس مُبْصِرَةً فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: منيرة، قاله قتادة. قال ابن الأنباري: وإِنما صلح وصف الآية بالإِبصار على جهة المجاز، كما يقال: لعب الدهر ببني فلان. والثاني: أن معنى مُبْصِرَةً: مبصراً بها، قاله ابن قتيبة.
والثالث: أن معنى مُبْصِرَةً مُبَصِّرَةً، فجرى «مُفْعِلْ»، مجرى «مُفَعِّل»، والمعنى: أنها تُبَصِّر الناس، أي: تُريهم الأشياء، قاله ابن الأنباري. ومعاني الأقوال تتقارب.
قوله تعالى: لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ أي: لتبصروا كيف تتصرفون في أعمالكم وتطلبون رزقكم بالنهار وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ بمحو آية الليل، ولولا ذلك، لم يعرف الليل من النهار، ولم يُتبين العدد. وَكُلَّ شَيْءٍ أي: ما يُحتاج إِليه، فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا بيّنّاه تبيينا لا يلتبس معه بغيره.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١٣ الى ١٤]
وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (١٣) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (١٤)
قوله تعالى: وَكُلَّ إِنسانٍ وقرأ ابن أبي عبلة «وكلّ» برفع وقرأ ابن مسعود، وأُبَيٌّ، والحسن «ألزمناه طَيْره» بياء ساكنة من غير ألف. وفي الطائر أربعة أقوال: أحدها: شقاوته وسعادته، قاله أبو صالح عن ابن عباس. قال مجاهد: ما من مولود يولد إِلاَّ وفي عنقه ورقة مكتوب فيها شقي، أو سعيد.
والثاني: عمله، قاله الفراء، وعن الحسن كالقولين. والثالث: أنه ما يصيبه، قاله خصيف. وقال أبو عبيدة: حظُّه. قال ابن قتيبة: والمعنى فيما أرى- والله أعلم-: أن لكل امرئٍ حظاً من الخير والشر قد قضاه الله عليه، فهو لازم عنقه، والعرب تقول لكل ما لزم الإِنسان: قد لزم عنقه، وهذا لك عليَّ وفي عنقي حتى أخرج منه، وإِنما قيل للحظ من الخير والشر: «طائر»، لقول العرب: جرى له الطائر بكذا من الخير، وجرى له الطائر بكذا من الشر، على طريق الفأل والطّيرة، فخاطبهم الله بما يستعملون،
(١) منكر. أخرجه الطبري ٢٢١١٦ عن سلمان الفارسي موقوفا، وإسناده ضعيف، إبراهيم النخعي عن سلمان منقطع، والمتن منكر، والأشبه أنه متلقى عن كتب الأقدمين. [.....]
وأعلمهم أن ذلك الأمر الذي يجعلونه بالطّائر، هو الذي يُلزمه أعناقهم. وقال الأزهري: الأصل في هذا أن الله تعالى لما خلق آدم، علم المطيع من ذريته، والعاصي، فكتب ما علمه منهم أجمعين، وقضى سعادةَ من علمه مطيعاً، وشقاوة مَن علمه عاصياً، فصار لكل منهم ما هو صائر إِليه عند خلقه وإِنشائه، فذلك قوله: أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ. والرابع: أنه ما يَتطيَّر من مثله من شيء عمله، وذِكْرُ العنق عبارة عن اللزوم له، كلزوم القلادة العنق من بين ما يلبس، هذا قول الزجاج. وقال ابن الأنباري: الأصل في تسميتهم العمل طائراً، أنهم كانوا يتطيَّرون من بعض الأعمال.
قوله تعالى: وَنُخْرِجُ لَهُ قرأ أبو جعفر: «ويُخْرَج» بياء مضمومة وفتح الراء. وقرأ يعقوب.
وعبد الوارث: بالياء مفتوحة وضم الراء. وقرأ قتادة، وأبو المتوكل: «ويُخرِج» بياء مرفوعة وكسر الراء.
وقرأ أبو الجوزاء، والأعرج: «وتَخرُجُ» بتاء مفتوحة ورفع الراء، يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً وقرأ ابن عباس، وعكرمة، والضحاك: «كتاب» بالرفع، يلقاه وقرأ ابن عامر، وأبو جعفر «يُلقَّاه» بضم الياء وتشديد القاف. وأمال حمزة، والكسائي القاف. قال المفسرون: هذا كتابه الذي فيه ما عمل. وكان أبو السّوّار العَدَوي إِذا قرأ هذه الآية قال: نشرتان وطيَّة، أمَّا ما حييتَ يا ابن آدم، فصحيفتك منشورة، فأمل فيها شئت، فاذا مُتَّ، طُويت، ثم إذا بُعثت، نُشرت.
قوله تعالى: اقْرَأْ كِتابَكَ، وقرأ أبو جعفر: «اقرا» بتخفيف الهمزة وفيه إِضمار تقديره، فيقال له إِقرأ كتابك. قال الحسن: يقرؤه أُمِّياً كان أو غير أُميٍّ، ولقد عدل عليك مَن جعلك حسيب نفسك. وفي معنى حَسِيباً ثلاثة أقوال: أحدها: محاسِباً. والثاني: شاهداً. والثالث: كافياً، والمعنى: أن الإِنسان يفوَّض إِليه حسابه، ليعلم عدل الله بين العباد، ويرى وجوب حجة الله عليه، واستحقاقه العقوبة، ويعلم أنه إِن دخل الجنة، فبفضل الله، لا بعمله، وإِن دخل النار، فبذنبه. قال ابن الأنباري: وإِنما قال:
حَسِيباً والنفس مؤنثة، لأنه يعني بالنفس: الشخص، أو لأنه لا علامة للتأنيث في لفظ النفس، فشبِّهت بالسماء والأرض، قال الله تعالى: السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ «١»، قال الشاعر:
ولا أرض أبقل إبقالها
«٢»
[سورة الإسراء (١٧) : آية ١٥]
مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (١٥)
قوله تعالى: مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ أي: له ثواب اهتدائه، وعليه عقاب ضلاله.
قوله تعالى: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ أي: نفس وازرة وِزْرَ أُخْرى قال ابن عباس: إِن الوليد بن المغيرة قال: اتبَّعوني وأنا أحمل أوزاركم، فقال الله تعالى: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى، قال أبو عبيدة:
والمعنى: ولا تَأثَمْ آثمة إِثم أخرى. قال الزجاج: يقال: وزَر، يَزِرُ، فهو وازِر، وَزراً، ووِزراً، ووِزْرةً، ومعناه: أثِم إِثماً. وفي تأويل هذه الآية وجهان: أحدهما: أن الآثم لا يؤخذ بذنب غيره. والثاني: أنه
(١) سورة المزمل: ١٨.
(٢) هو عجز بيت لعامر بن جوين وصدره: «فلا مزنة ودقت ودقها». كما في «الكتاب» ١/ ٢٠٥. وفي «اللسان» المزنة: السحابة، والودق: المطر.
لا ينبغي أن يعمل الإِنسان بالإِثم، لأن غيرَه عَمِلَه، كما قال الكفار: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ «١» ومعنى حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا أي: حتى نُبيّنَ ما به نعذِّب، وما من أجله نُدخلُ الجنة.

فصل:


قال القاضي أبو يعلى: في هذا دليل على أن معرفة الله لا تجب عقلا، وإِنما تجب بالشرع، وهو بعثة الرسل، وأنه لو مات الإِنسان قبل ذلك، لم يقطع عليه بالنار «٢». قال: وقيل معناه:
أنه لا يعذِّب في ما طريقه السمع إِلاَّ بقيام حجة السمع من جهة الرسول، ولهذا قالوا: لو أسلم بعض أهل الحرب في دار الحرب ولم يسمع بالصلاة والزكاة ونحوها، لم يلزمه قضاء شيء منها، لأنها لم تلزمه إِلاَّ بعد قيام حجة السمع، والأصل فيه قصة أهل قُباء حين استداروا إِلى الكعبة ولم يستأنفوا «٣»، ولو أسلم في دار الإِسلام ولم يعلم بفرض الصلاة، فالواجب عليه القضاء، لأنه قد رأى الناس يصلُّون في المساجد بأذان وإِقامة، وذلك دعاء إِليها.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١٦ الى ١٧]
وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (١٦) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (١٧)
(١) سورة الزخرف: ٢٢.
(٢) قال القرطبي رحمه الله ١٠/ ٢٠٣: قوله تعالى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا أي: لم نترك الخلق سدى، بل أرسلنا الرسل. وفي هذا دليل على أن الأحكام لا تثبت إلا بالشرع خلافا للمعتزلة القائلين بأن العقل يقبّح ويحسّن ويبيح ويحظر، والجمهور على أن هذا في حكم الدنيا أي أن الله لا يهلك أمة بعذاب إلا بعد الرسالة إليهم والإنذار. وقالت فرقة: هذا عام في الدنيا والآخرة، لقوله تعالى: كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا الملك: ٨. قال ابن عطية: والذي يعطيه النظر أنّ بعثه آدم عليه السلام بالتوحيد وبث المعتقدات في بنيه مع نصب الأدلة الدالة على الصانع مع سلامة الفطر توجب على كل أحد من العالم الإيمان واتباع شريعة الله، ثم تجدد ذلك في زمن نوح عليه السلام بعد غرق الكفار. وهذه الآية يعطي احتمال ألفاظها نحو هذا في الذين لم تصلهم رسالة وهم أهل الفترات. فمن لم تبلغه الدعوة فهو غير مستحق للعذاب من جهة العقل. وأما ما روي أن الله يبعث إليهم يوم القيامة وإلى المجانين والأطفال، فحديث لم يصح، ولا يقتضي ما تعطيه الشريعة من أن الآخرة ليست دار تكليف. وقد احتج من قال ذلك بحديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «يقول الهالك في الفترة لم يأتني كتاب ولا رسول- ثم تلا- وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا ويقول المعتوه رب لم تجعل لي عقلا أعقل به خيرا ولا شرا، ويقول المولود رب لم أدرك العمل فترفع لهم نار فيقول لهم ردوها وادخلوها- قال- فيردها أو يدخلها من كان في علم الله سعيدا لو أدرك العمل، ويمسك عنها من كان في علم الله شقيا لو أدرك العمل فيقول الله تبارك وتعالى: «إياي عصيتم فكيف رسلي لو أتتكم». قلت: ضعيف. أخرجه الطبري ٢٤٤٦٦ من حديث أبي سعيد وفيه عطية العوفي ضعيف ولو صح مثل هذا لارتفع الخلاف في المولود وأهل الفترة ونحوهم. وروي عن أبي سعيد موقوفا، وفيه نظر. والله أعلم.
(٣) حديث أهل قباء تقدّم في سورة البقرة: ١٤٢. وقد خرّج البخاري ٧٢٥٢ و ٣٩٩ و ٤٤٩٢ ومسلم ٥٢٥ والترمذي ٣٤٠ و ٢٩٦٢ والنسائي ٢/ ٦٠ وابن ماجة ١٠١٠ وابن حبان ١٧١٦ كلهم من حديث البراء: أن النبي صلى الله عليه وسلّم صلّى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وإنه صلى أول صلاة صلّاها العصر وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلّم فمرّ على أهل المسجد وهم راكعون فقال: أشهد بالله، لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلّم قبل البيت، فداروا كما هم قبل البيت. وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحوّل قبل البيت رجال قتلوا فلم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله عز وجل وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ.
قوله تعالى: وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً
في سبب إِرادته لذلك قولان: أحدهما: ما سبق لهم في قضائه من الشقاء. والثاني: عنادهم الأنبياء وتكذيبهم إِياهم.
قوله تعالى: أَمَرْنا مُتْرَفِيها
قرأ الأكثرون: «أَمرْنَا» مخففة، على وزن «فَعَلْنا»، وفيها ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه من الأمر، وفي الكلام إِضمار، تقديره: أمرنا مترفيها بالطاعة، ففسقوا، هذا مذهب سعيد بن جبير. قال الزجاج: ومثله في الكلام: أمرتك فعصيتني، فقد علم أن المعصية مخالفة الأمر.
والثاني: كثَّرنا، يقال: أمرت الشيء وآمرته، أي: كثَّرته، ومنه قولهم: مُهرَةٌ مأمورةٌ، أي: كثيرة النِّتاج، يقال: أَمِر بنو فلان يأمَرون أمراً: إِذا كثروا، هذا قول أبي عبيدة، وابن قتيبة. والثالث: أن معنى «أَمَرْنَا» : أمَّرْنا، يقال: أَمرت الرجل، بمعنى: أمَّرته، والمعنى: سلَّطنا مترفيها بالإِمارة، ذكره ابن الأنباري. وروى خارجة عن نافع: «آمرنا» ممدودة، مثل «آمنّا»، وكذلك روى حماد بن سلمة عن ابن كثير، وهي قراءة ابن عباس، وأبي الدرداء، وأبي رزين، والحسن، والضحاك، ويعقوب. قال ابن قتيبة: وهي اللغة العالية المشهورة، ومعناه: كثَّرنا، أيضاً. وروى ابن مجاهد أن أبا عمرو قرأ: «أمَّرْنَا» مشددة الميم، وهي رواية أبان عن عاصم، وهي قراءة أبي العالية، والنخعي، والجحدري. قال ابن قتيبة: المعنى: جعلناهم أُمراءَ، وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وابن يعمر: «أَمِرْنا» بفتح الهمزة مكسورة الميم مخففة. فأما المترَفون، فهم المتنعّمون الذين أبطرتهم النعمة وسَعة العيش، والمفسرون يقولون: هم الجبَّارون والمسلَّطون والملوك، وإِنما خص المترَفين بالذكر، لأنهم الرؤساء، ومَن عداهم تبع لهم.
قوله تعالى: فَفَسَقُوا فِيها
أي: تمردوا في كفرهم، لأن الفسق في الكفر: الخروج إِلى أفحشه.
وقد شرحنا معنى «الفسق» في البقرة «١». قوله تعالى: فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ
قال مقاتل: وجب عليها العذاب. وقد ذكرنا معنى «التدمير» في الأعراف «٢». قوله تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ وهو جمع قَرن. وقد ذكرنا اختلاف الناس فيه في الأنعام «٣» وشرحنا معنى الخبير والبصير في سورة البقرة «٤» قال مقاتل: وهذه الآية تخويف لكفّار مكّة.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١٨ الى ١٩]
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (١٩)
قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ يعني: من كان يريد بعمله الدنيا، فعبَّر بالنعت عن الاسم، عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ من عَرَض الدنيا، وقيل: من البسط والتقتير، لِمَنْ نُرِيدُ فيه قولان: أحدهما:
لمن نريد هَلَكته، قاله أبو إِسحاق الفزاري. والثاني: لمن نريد أن نعجل له شيئاً وفي هذا ذم لمن أراد بعمله الدنيا، وبيان أنه لا ينال ما يقصده منها إِلاَّ ما قُدِّرَ له، ثم يدخل النار في الآخرة. وقال ابن جرير:
(١) سورة البقرة: ٢٦، ١٩٧.
(٢) سورة الأعراف: ١٣٧.
(٣) سورة الأنعام: ٦.
(٤) سورة البقرة: ٢٣٤ وعند الآية: ٩٦.
هذه الآية لمن لا يوقن بالمعاد. وقد ذكرنا معنى «جهنّم» في سورة البقرة «١»، ومعنى يَصْلاها في سورة النساء «٢»، ومعنى مَذْمُوماً مَدْحُوراً في الأعراف «٣».
قوله تعالى: وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ يعني: الجنة وَسَعى لَها سَعْيَها أي: عمل لها العمل الذي يصلح لها، وإِنما قال: وَهُوَ مُؤْمِنٌ لأن الإِيمان شرط في صحة الأعمال، فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً أي: مقبولا. وشكر الله عزَّ وجل لهم: ثوابه إيّاهم، وثناؤه عليهم.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٢٠ الى ٢٢]
كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (٢٠) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (٢١) لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (٢٢)
قوله تعالى: كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ قال الزجاج: «كلاٍّ» منصوب ب «نمِدُّ»، «هؤلاء» بدل من «كل» والمعنى: نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك، قال المفسرون: كُلاًّ نعطي من الدنيا، البرّ والفاجر، والعطاء ها هنا: الرزق، والمحظور: الممنوع، والمعنى: أن الرزق يعم المؤمن والكافر، والآخرة للمتقين خاصة. انْظُرْ يا محمد كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وفيما فضِّلوا فيه قولان: أحدهما:
الرزق، منهم مقلٌّ، ومنهم مُكثر. والثاني: الرزق والعمل، فمنهم موفَّق لعمل صالح، ومنهم ممنوع من ذلك. قوله تعالى: لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلّم، والمعنى عام لجميع المكلفين.
والمخذول: الذي لا ناصر له، والخذلان: ترك العون. قال مقاتل: نزلت حين دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى ملّة آبائه.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٢٣ الى ٢٥]
وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (٢٤) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (٢٥)
قوله تعالى: وَقَضى رَبُّكَ روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: أمَر ربك. ونقل عنه الضحاك أنه قال: إِنما هي «ووصى ربك» فالتصقت إِحدى الواوين ب «الصاد»، وكذلك قرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو المتوكل، وسعيد بن جبير: «ووصى»، وهذا على خلاف ما انعقد عليه الإِجماع، فلا يلتفت إِليه. وقرأ أبو عمران، وعاصم الجحدريّ، ومعاذ القارئ: «وقضاءُ ربك» بقاف وضاد بالمد والهمز والرفع وخفض اسم الرب. قال ابن الأنباري: هذا القضاء ليس من باب الحتم والوجوب، لكنه من باب الأمر والفرض، وأصل القضاء في اللغة: قطع الشيء باحكام وإِتقان، قال الشاعر يرثي عمر:
قَضَيْتُ أُمُوْراً ثُمَّ غَادَرْتَ بَعْدَهَا بوائق في أكمامها لم تفتّق «٤»
(١) سورة البقرة: ٢٠٦.
(٢) سورة النساء: عند الآية ١٠.
(٣) سورة الأعراف: ١٨.
(٤) البيت للشمّاخ كما في «حماسة أبي تمام» ٣/ ١٠٩. ويروى أيضا للمزرد بن ضرار كما في «البيان والتبيين» ٣/ ٣٦٤. وقيل إن هذا الشعر للجنّ قالته قبل أن يقتل عمر بثلاث، فكان ذلك نعيا قبل أن يقتل. وفي «اللسان» :
البوائق: جمع بائقة وهي الداهية والبلية.
17
أراد: قطعتَها محكِماً لها.
قوله تعالى: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً أي: وأمر بالوالدين إِحسانا وهو البِرُّ والإِكرام، وقد ذكرنا هذا في البقرة «١». قوله تعالى: إِمَّا يَبْلُغَنَّ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو وعاصم، وابن عامر: «يبلغنَّ» على التوحيد. وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: «يبلغانِّ» على التثنية. قال الفراء: جعلت «يبلغن» فعلاً لأحدهما وكرَّت عليهما «كلاهما» ومن قرأ «يبلغانِّ» فإنه ثنَّى لأن الوالدين قد ذُكرا قبل هذا، فصار الفعل على عددهما، ثم قال: أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما على الاستئناف، كقوله تعالى: فَعَمُوا وَصَمُّوا «٢» ثم استأنف فقال: وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ.
قوله تعالى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «أُفٍ» بالكسر من غير تنوين، وقرأ ابن كثير، وابن عامر، ويعقوب، والمفضل: «أُفَّ» بالفتح من غير تنوين.
وقرأ نافع، وحفص عن عاصم: أُفٍّ بالكسر والتنوين. وقرأ أبو الجوزاء وابن يعمر: «أُفٌّ» بالرفع والتنوين وتشديد الفاء. وقرأ معاذ القارئ، وعاصم، الجحدري، وحميد بن قيس: «أَفّاً» مثل «تعسا».
وقرأ أبو عمران الجوني، وأبو السّمّال العدوي: «أُفُّ» بالرفع من غير تنوين مع تشديد الفاء، وهي رواية الأصمعي عن أبي عمرو. وقال عكرمة، وأبو المتوكل، وأبو رجاء، وأبو الجوزاء: «أُفْ» باسكان الفاء وتخفيفها قال الأخفش: وهذا لأن بعض العرب يقول: أفْ لك، على الحكاية، والرّفع قبيح، لأنه لم يجئ بعده بلام. وقرأ أبو العالية، وأبو حصين الأسدي: «أُفِّي» بتشديد الفاء وبياء وروى ابن الأنباري أن بعضهم قرأها: «إِفِ» بكسر الهمزة. وقال الزجاج: فيها سبع لغات: الكسر بلا تنوين، وبتنوين والضم بلا تنوين، وبتنوين، والفتح بلا تنوين، وبتنوين، واللغة السابعة لا تجوز في القراءة: «أُفي» بالياء، هكذا قال الزجاج. وقال ابن الأنباري: في «أفّ» عشرة أوجه: «أفّ» بفتح الفاء، و «أفّ» بكسرها، و «أفّ»، و «أُفَّا» لك بالنصب والتنوين على مذهب الدعاء كما تقول: «وَيْلاً» للكافرين، و «أُفٌّ» لك، بالرفع والتنوين، وهو رفع باللام، كقوله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ «٣» و «أفهٍ» لك، بالخفض والتنوين، تشبيهاً بالأصوات، كقولك: «صهٍ» و «مهٍ»، و «أفهاً» لك، على مذهب الدعاء أيضاً، و «أُفّي» لك، على الإِضافة إِلى النفس، و «أُفْ» لك، بسكون الفاء تشبيهاً بالأدوات، مثل: «كم» و «هل» و «بل»، و «إِفْ» لك، بكسر الألف، وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي، قال: وتقول: «أُفِ» منه، و «أُفَ»، و «أُفُ»، و «أُفٍ»، و «أُفاً»، و «أفٌ»، و «أُفّي» مضاف، و «أفهاً» و «أفاً» بالألف، ولا تقل:
«أُفي» بالياء فانه خطأٌ.
فأما معنى أُفٍّ ففيه خمسة أقوال: أحدها: أنه وسخ الظفر، قاله الخليل. والثاني: وسخ الأذن، قاله الأصمعي. والثالث: قلامة الظفر، قاله ثعلب. والرابع: أن «الأف» الاحتقار والاستصغار، من «الأَفف»، والأَفف عند العرب: القِلَّة، ذكره ابن الأنباري. والخامس: أن «الأُفَّ» ما رفعته من الأرض من عود أو قصبة، حكاه ابن فارس اللغوي. وقرأت على شيخنا أبي منصور قال: معنى «الأف» : النَّتَن، والتضجر، وأصلها: نفخك الشيء يسقط عليك من تراب ورماد، وللمكان تريد إِماطة الأذى عنه، فقيلت لكل مستثقَل، قلت: وأما قولهم: «تُف»، فقد جعلها قوم بمعنى «أف»، فروي عن
(١) سورة البقرة عند الآية: ٨٣. [.....]
(٢) سورة المائدة: ٧١.
(٣) سورة المطففين: ١.
18
أبي عبيد أنه قال: أصل «الأُفِّ» و «التُفِّ» : الوسخ على الأصابع إِذا فتلته. وحكى ابن الأنباري فرقاً، فقال: قال اللغويون: أصل «الأُفِّ» في اللغة: وسخ الأذن، و «التُّفّ» : وسخ الأظفار، فاستعملتهما العرب فيما يكره ويستقذرُ ويُضجر منه. وحكى الزجاج فرقاً آخر، فقال: قد قيل: إِن «أف» : وسخ الأظفار، و «التفّ» : الشيء الحقير، ونحو وسخ الأذن، أو الشظية تؤخذ من الأرض، ومعنى «أُف» :
النَّتْنُ، ومعنى الآية: لا تقل لهما كلاماً تتبرَّم فيه بهما إِذا كَبِرَا وأسَنَّا، فينبغي أن تتولَّى من خدمتهما مثل الذي توليا من القيام بشأنك وخدمتك، وَلا تَنْهَرْهُما أي: لا تكلمهما ضَجِراً صائحاً في وجوههما.
وقال عطاء بن أبي رباح: لا تنقض يدك عليهما، يقال: نَهَرْتُهُ أنْهَرهُ نَهْراً، وانتهَرْتُه انتهاراً، بمعنى واحد، وقال ابن فارس: نهرتُ الرجُل وانتهرتُه مثل: زجرتُه. قال المفسرون: وإِنما نهى عن أذاهما في الكِبَر، وإِن كان منهيا عنه على كلّ حال، لأن حالة الكِبَر يظهر فيها منهما ما يُضجِر ويؤذي، وتكثر خدمتهما.
قوله تعالى: وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً أي: ليِّناً لطيفاً أحسن ما تجد. وقال سعيد بن المسيّب:
قولَ العبد المذنِب للسَّيد الفظّ. قوله تعالى: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ أي: ألِنْ لهما جانبك متذللاً لهما من رحمتك إِياهما. وخفضُ الجَناح قد شرحناه في الحجر «١». قال عطاء: جناحك:
يداك، فلا ترفعهما على والديك. والجمهور يضمون الذال من «الذُّلّ» وقرأ أبو رزين، والحسن، وسعيد بن جبير، وقتادة، وعاصم الجحدري، وابن أبي عبلة: بكسر الذال. قال الفراء: الذِّل: أن تتذلَّلَ لهما، من الذِّل، والذُّل: أن تتذلل ولست بذليل في الخدمة «٢» والُّذل والذلة: مصدر الذليل، والذِّل بالكسر: مصدر الذَّلول، مثل الدابة والأرض. قال ابن الأنباري: من قرأ «الذّل»، بكسر الذال، جعله بمعنى الذُّل، بضم الذال، والذي عليه كُبَراء أهل اللغة أن الذُّل من الرجل الذليل، والذِّل من الدابة الذَّلول.
قوله تعالى: وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً أي: مثل رحمتها إِياي في صغري حتى ربياني، وقد ذهب قوم إِلى أن هذا الدعاء المطلق نُسخ منه الدعاء لأهل الشرك بقوله تعالى: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ «٣»، وهذا المعنى منقول عن ابن عباس، والحسن، وعكرمة، ومقاتل. قال المصنف: ولا أرى هذا نسخاً عند الفقهاء، لأنه عامّ دخله التخصيص، وقد ذَكَرَ قريباً مما قلتُه ابن جرير. قوله تعالى: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ أي: بما تُضمرون من اْلبِرِّ والعقوق، فمن بدرت منه بادرة وهو لا يُضمِر العقوق، غفر له ذلك، وهو قوله تعالى: إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ أي:
طائعين لله، وقيل بارِّين، وقيل: توَّابين، فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً في الأوّاب عشرة أقوال «٤» :
أحدها: أنه المسلِم، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثاني: أنه التواب، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وسعيد بن جبير، والضحاك، وأبو عبيدة، وقال ابن قتيبة: هو التائبُ مَرَّة بعد مَرَّة.
وقال الزجاج: هو التوَّاب المُقْلِع عن جميع ما نهاه الله عنه، يقال: قد آب يؤوب أَوْباً: إِذا رجع.
(١) الحجر عند الآية: ٨٨.
(٢) في نسخة «الخلق».
(٣) سورة التوبة: ١١٣.
(٤) قال الإمام الطبري رحمه الله ٨/ ٦٦: وأولى الأقوال بالصواب: قول من قال: الأوّاب: هو التائب من الذنب الراجع عن معصية الله إلى طاعته، ومما يكرهه إلى ما يرضاه.
19
والثالث: أنه المسبِّح، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والرابع: أنه المطيع لله تعالى، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. والخامس: أنه الذي يَذْكر ذَنْبه في الخلاء، فيستغفر اللهَ منه، قاله عُبيد بن عُمير. والسادس: أنه المُقْبل إلى الله تعالى بقلبه وعمله، قاله الحسن. والسابع: المصلِّي، قاله قتادة.
والثامن: هو الذي يصلِّي بين المغرب والعشاء، قاله ابن المنكدِر. والتاسع: الذي يصلّي صلاة الضُّحى، قاله عَون العُقيلي. والعاشر: أنه الذي يُذْنِب سِرّاً ويتوب سِرّاً، قاله السّديّ.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٢٦ الى ٢٨]
وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (٢٦) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (٢٧) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (٢٨)
قوله تعالى: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ فيه قولان «١» : أحدهما: أنه قرابة الرجل من قبَل أبيه وأُمِّه، قاله ابن عباس، والحسن، فعلى هذا في حقهم ثلاثة أقوال: أحدها: أن المراد به: بِرُّهم وصِلَتهم.
والثاني: النَّفقة الواجبة لهم وقت الحاجة. والثالث: الوصيَّة لهم عند الوفاة.
والثاني: أنهم قرابة الرسول، قاله علي بن الحسين عليهما السلام والسدي. فعلى هذا، يكون حقهم: إِعطاؤهم من الخُمس، ويكون الخطاب للوُلاة.
قوله تعالى: وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ قال القاضي أبو يعلى: يجوز أن يكون المراد: الصدقات الواجبة، يعني، الزكاة، ويجوز أن يكون الحقّ الذي يلزمه إعطاؤه عند الضرورة إِليه. وقيل: حق المسكين، من الصدقة، وابن السبيل، من الضيافة.
قوله تعالى: وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً في التبذير قولان: أحدهما: أنه إِنفاق المال في غير حق، قاله ابن مسعود، وابن عباس. وقال مجاهد: لو أنفق الرجل ماله كلَّه في حقٍّ، ما كان مبذِّراً، وأنفق مُدّاً في غير حق، كان مبذِّراً. قال الزجاج: التبذير: النفقة في غير طاعة الله، وكانت الجاهلية تنحر الإِبل وتبذِّر الأموال تطلب بذلك الفخر والسّمعة، فأمر الله عزّ وجلّ بالنفقة في وجهها فيما يقرِّب منه. والثاني: أنه الإِسراف المتلفِ للمال، ذكره الماوردي. وقال أبو عبيدة: المبذِّر: هو المُسرف المُفسد العائث. قوله تعالى: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ لأنهم يوافقونهم فيما يدعونهم إِليه، ويشاكلونهم في معصية الله تعالى: وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً أي: جاحداً لنِعَمه. وهذا يتضمن أن المسرف كفور للنِّعم.
قوله تعالى: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ في المشار إِليهم أربعة أقوال: أحدها: أنهم الذين تقدَّم ذِكْرُهم من الأقارب والمساكين وأبناء السبيل، قاله الأكثرون، فعلى هذا في علَّة هذا الإِعراض قولان:
أحدهما: الإِعسار، قاله الجمهور. والثاني: خوف إِنفاقهم ذلك في معصية الله، قاله ابن زيد. وعلى هذا في الرحمة قولان: أحدهما: الرزق، قاله الأكثرون. والثاني: أنه الصلاح والتوبة. هذا على قول ابن زيد. والثاني: أنهم المشركون، فالمعنى: وإِما تعرضَنَّ عنهم لتكذيبهم، قاله سعيد بن جبير.
فتحتمل إذاً الرحمة وجهين: أحدهما: انتظار النّصر عليهم. والثاني: الهداية لهم.
(١) قال الإمام الطبري رحمه الله ٨/ ٦٧: وأولى التأولين عندي بالصواب تأويل من تأوّل ذلك أنها بمعنى وصية الله عباده بصلة قرابات أنفسهم وأرحامهم من قبل آبائهم وأمهاتهم.
(٨٩٢) والثالث: أنهم ناس من مزينة جاءوا يستحملون رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقال: «لا أجد ما أحملكم عليه»، فبكَوا، فنزلت هذه الآية، قاله عطاء الخراساني.
(٨٩٣) والرابع: أنها نزلت في خبَّاب، وبلال، وعمَّار، ومِهجَع، من الفقراء، كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلّم فلا يجد ما يعطيهم، فيُعرض عنهم ويسكت، قاله مقاتل، فعلى هذا القول والذي قبله تكون الرحمة بمعنى الرِّزق.
قوله تعالى: فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً قال أبو عبيدة: ليِّناً هيِّناً، وهو من اليُسْر. وللمفسرين فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه العِدَة الحسنة، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد. والثاني: أنه القول الجميل، مثل أن يقول: رزقنا الله وإِياك، قاله ابن زيد وهذا على ما تقدّم من قوله. والثالث: أنه المداراة لهم باللسان، على قول مَن قال: هم المشركون، قاله أبو سليمان الدمشقي، وعلى هذا القول، تحتمل الآية النّسخ.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٢٩ الى ٣١]
وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (٢٩) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٣٠) وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (٣١)
قوله تعالى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ.
(٨٩٤) سبب نزولها: أن غلاماً جاء إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال، إِن أُمِّي تسألك كذا وكذا، قال: «ما عندنا اليوم شيء»، قال: فتقول لك: اكْسُني قميصك، قال: فخلع قميصه فدفعه إِليه، وجلس في البيت حاسراً، فنزلت هذه الآية، قاله ابن مسعود. وروى جابر بن عبد الله نحو هذا، فزاد فيه، فأذَّن بلال للصلاة، وانتظروه فلم يخرج، فشغل قلوب الصحابة، فدخل عليه بعضهم، فرأوه عُرياناً، فنزلت هذه الآية.
والمعنى: لا تمسك يدك عن البذل كلَّ الإِمساك حتى كأنها مقبوضة إِلى عنقك، وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ في الإِعطاء والنفقة فَتَقْعُدَ مَلُوماً تلوم نفسك ويلومك الناس، مَحْسُوراً قال ابن قتيبة:
تَحْسِرُكَ العطيةُ وتقطعك كما يَحْسِرُ السفر البعيرَ فيبقى منقطعاً به. قال الزجّاج: المحسور: الذي قد بلغ الغاية في التعب والإعياء، فالمعنى: فتقعد وقد بالغت في الحَمْل على نفسك وحالك حتى صِرتَ بمنزلة من قد حَسَر. قال القاضي أبو يعلى: وهذا الخطاب أُريدَ به غيرُ رسول الله صلى الله عليه وسلّم لأنه لم يكن يدّخر شيئا
واه بمرة. فهو مرسل ومع إرساله. عطاء بن عبد الله الخراساني ضعفه البخاري وابن حبان، وغيرهما. والمتن منكر جدا، فإن خير مزينة كان في غزوة تبوك، وهذه السورة مكية أو في أول العهد المدني.
باطل. عزاه المصنف لمقاتل، وهو متروك متهم، والمتن منكر، فهو باطل، وذكره البغوي في «تفسيره» ٣/ ١١٢ بدون سند ولا عزو لأحد.
ضعيف جدا. أخرجه الواحدي في «أسباب النزول» ٥٧٥ من حديث ابن مسعود، وإسناده ضعيف جدا. فيه سليمان بن سفيان الجهني متروك، والخبر لا شيء، شبه موضوع. وذكره الواحدي في «أسبابه» ٥٧٦ عن جابر بدون إسناد.
21
لغدٍ «١»، وكان يجوع حتى يشُدَّ الحجَر على بطنه «٢»، وقد كان كثير من فضلاء الصحابة ينفقون جميع ما يملكون، فلم ينههم الله، لصحة يقينهم، وإِنما نهى من خِيف عليه التحسُّر على ما خرج من يده، فأما من وثق بوعد الله تعالى، فهو غير مراد بالآية.
قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أي: يوسع على من يشاء ويضيِّق، إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً حيث أجرى أرزاقهم على ما علم فيه صلاحهم.
قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ قد فسّرناه في سورة الأنعام «٣».
قوله تعالى: كانَ خِطْأً كَبِيراً قرأ نافع، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي: «خِطْءاً» مكسورة الخاء ساكنة الطاء مهموزة مقصورة. وقرأ ابن كثير،: «خِطاءً» مكسورة الخاء ممدودة مهموزة.
وقرأ ابن عامر: «خَطَأً» بنصب الخاء والطاء وبالهمز من غير مدٍّ. وقرأ أبو رزين كذلك، إِلاَّ أنه مَدَّ وقرأ الحسن، وقتادة: «خَطْءاً» بفتح الخاء وسكون الطاء مهموزا مقصورا، وقرأ الزهري، وحميد بن قيس:
«خِطاً» بكسر الخاء وتنوين الطاء من غير همز ولا مَدّ. قال الفراء: الخِطء: الإِثم، وقد يكون في معنى «خَطَأ» كما قالوا: «قِتْبٌ» و «قَتَبٌ» و «حِذْرٌ» و «حَذَرٌ» و «نِجْسٌ» و «نَجَسٌ»، والخِطء، والخِطاء، والخَطَاء، ممدود: لغات. وقال أبو عبيدة: خَطِئْتُ وأَخْطَأْتُ، لغتان. وقال أبو علي: قراءة ابن كثير «خِطاءً»، يجوز أن تكون مصدرَ «خاطأ» وإِن لم يسمع «خاطأَ» ولكن قد جاء ما يدل عليه، أنشد أبو عبيدة:
تخاطأت إليك أحشاؤه
وقال الأخفش: خَطِئ يَخْطَأُ بمعنى «أَذْنَبَ» وليس بمعنى «أَخطأَ»، لأن «أخطأ» : فيما لم يصنعه عمدا. وتقول فيما أتيتَه عمداً، «خَطِئْتُ»، وفيما لم تتعمده: «أخطأتُ». وقال ابن الأنباري: «الخِطء» :
الإِثم، يقال: قد خَطِئَ يَخْطَأُ: إذا أثم، وأَخْطَأ يُخْطِئُ: إِذا فارق الصواب. وقد شرحنا هذا في سورة يوسف عند قوله: وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ «٤».
(١) حديث ضعيف. مداره على جعفر بن سليمان، وهو غير قوي بل أدرجه البخاري وغيره في «الضعفاء» راجع «الميزان» ١/ ٤٠٨- ٤١٠ وهذا الحديث رواه عن ثابت عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان لا يدّخر شيئا لغد. أخرجه الترمذي ٢٣٦٢ وابن عدي في «الكامل» ٢/ ٥٧٢ والخطيب في «تاريخه» ٧/ ٩٨ وابن حبان ٦٣٥٦. وقال الترمذي: هذا حديث غريب، وقد روي هذا الحديث عن جعفر بن سليمان، عن ثابت، عن النبي صلى الله عليه وسلّم مرسلا. وقال الحافظ ابن كثير في «الشمائل» ٩٨- ٩٩: المراد أنه كان لا يدّخر شيئا لغد مما يسرع إليه الفساد كالأطعمة ونحوها لما ثبت في «الصحيحين» عن عمر أنه قال: إن أموال بني النضير كانت مما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلّم مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب فكانت له خالصة، فكان ينفق على أهله منها نفقة سنته، وما بقي جعله في الكراع والسلاح في سبيل الله. الكراع: اسم يجمع الخيل والسلاح. حديث صحيح، أخرجه البخاري ٢٩٠٤ و ٤٨٨٥ ومسلم ١٧٥٧ وأبو داود ٢٩٦٥ والنسائي ٨/ ١٠٢.
(٢) حسن. أخرجه أحمد ٣/ ٣٠٠ بإسناد حسن من حديث جابر وأخرجه أبو يعلى ٢٠٠٤ من وجه آخر بسند فيه عنعنة أبي الزبير، وهو مدلس. وله شاهد من حديث أبي طلحة، أخرجه الترمذي في «الشمائل» ٢/ ٢٣٢ وإسناده ضعيف لضعف سيار بن حاتم، لكن يصلح حديثه شاهدا لما قبله.
(٣) الأنعام: عند الآية ١٥١.
(٤) سورة يوسف: ٩١.
22

[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٣٢ الى ٣٣]

وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (٣٢) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (٣٣)
قوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى وقرأ أبو رزين، وأبو الجوزاء، والحسن: بالمد. وقال أبو عبيدة:
وقد يمدّ «الزنى» في كلام أهل نجد، قال الفرزدق:
أبا حَاضِرٍ مَنْ يَزْنِ يُعْرَفْ زِناؤه ومَنْ يَشْرَبِ الخُرْطُوْمَ يُصْبِحْ مُسَكَّرا
وقال أيضاً «١» :
أخضبتَ فِعْلَك للزِّنَاءِ ولم تَكُنْ يَوْمَ اللِّقَاءِ لتَخْضِبَ الأبْطَالا
وقال آخر:
كانت فريضةُ ما تقول كَمَا كَانَ الزناءُ فَرِيْضَةَ الرَّجْمِ «٢»
قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ قد ذكرناه في سورة الأنعام «٣».
قوله تعالى: فَقَدْ جَعَلْنا قال الزجاج: الأجود إِدغام الدال مع الجيم، والإِظهار جيد بالغ، إِلاَّ أنَّ الجيم من وسط اللسان، والدال من طرف اللسان، والإِدغام جائز، لأن حروف وسط اللسان تقرب من حروف طرف اللسان. ووليُّه: الذي بينه وبينه قرابة توجب المطالبة بدمه، فإن لم يكن له وليٌّ، فالسُّلطان وليُّه.
وللمفسرين في السُّلطان قولان: أحدهما: أنه الحُجَّة، قاله ابن عباس. والثاني: أنه الوالي، والمعنى: فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً ينصره ويُنْصِفه في حَقِّه، قاله ابن زيد.
قوله تعالى: فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم: فَلا يُسْرِفْ بالياء. وقرأ ابن عامر، وحمزة والكسائي: بالتاء. وفي المشار إِليه في الآية قولان: أحدهما:
أنه وليُّ المقتول. وفي المراد بإسرافه خمسة أقوال: أحدها: أن يَقتُل غير القاتل، قاله ابن عباس، والحسن. والثاني: أن يقتُل اثنين بواحد، قاله سعيد بن جبير. والثالث: أن يقتُل أشرف مِن الذي قُتل، قاله ابن زيد. والرابع: أن يمثِّل، قاله قتادة. والخامس: أن يتولى هو قتل القاتل دون السلطان، ذكره الزجّاج. والثاني: أن الإِشارة إِلى القاتل الأول، والمعنى: فلا يسرف القاتل بالقتل تعدّياً وظلماً، قاله مجاهد.
قوله تعالى: إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً أي: مُعاناً عليه. وفي هاء الكناية أربعة أقوال: أحدها: أنها ترجع إِلى الولي، فالمعنى: إِنه كان منصوراً بتمكينه من القَوَد، قاله قتادة، والجمهور. والثاني: أنها ترجع إِلى المقتول، فالمعنى: إِنه كان منصوراً بقتل قاتله، قاله مجاهد. والثالث: أنها ترجع إِلى الدم، فالمعنى:
إِن دم المقتول كان منصوراً، أي: مطلوباً به. والرابع: أنها ترجع إِلى القتل، ذكر القولين الفرّاء.
(١) وقع في النسخ «آخر» والصواب ما أثبتناه كما في «مجاز القرآن» ١/ ٣٧٧.
(٢) البيت للنابغة الجعدي كما في «اللسان» مادة- زنى- وقوله: «كان الزناء فريضة الرجم» مقلوب والأصل: كان الرجم فريضة الزنا.
(٣) سورة الأنعام: ١٥١. [.....]

[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٣٤ الى ٣٦]

وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (٣٤) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٣٥) وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (٣٦)
قوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ قد شرحناه في سورة الأنعام «١».
قوله تعالى: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ وهو عامّ فيما بين العبد وبين ربه، وفيما بينه وبين الناس. قال الزجاج: كلُّ ما أمر الله به ونهى عنه فهو من العهد.
قوله تعالى: كانَ مَسْؤُلًا قال ابن قتيبة: أي: مسؤولاً عنه.
قوله تعالى: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ أي: أَتِمُّوه ولا تَبْخَسوا منه. قوله تعالى: وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ فيه خمس لغات: إحداها: «قُسطاس»، بضم القاف وسينين، وهذه قراءة ابن كثير، ونافع، وأبي عمرو، وابن عامر، وأبي بكر عن عاصم ها هنا وفي سورة الشعراء «٢». والثانية: كذلك إِلاَّ أن القاف مكسورة، وهذه قراءة حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم. قال الفراء: هما لغتان والثالثة: «قصطاص»، بصادين. والرابعة: «قصطاس»، بصاد قبل الطاء وسين بعدها، وهاتان مرويتان عن حمزة. والخامسة:
«قِسطان»، بالنون. قرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي عن ابن دريد قال: القسطاس: الميزان، روميٌّ معرَّب، «قُسطاس» و «قِسطاس». قوله تعالى: ذلِكَ خَيْرٌ أي: ذلك الوفاء خير عند الله وأقرب إِليه، وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا أي: عاقبة في الجزاء.
قوله تعالى: وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ قال الفراء: أصل «تَقْفُ» من القيافة، وهي: تتَبُّع الأثر، وفيه لغتان: قَفَا يقْفُو، وقاف يقوف وأكثر القراء يجعلونها مِنْ «قفوتُ» فيحرك الفاء إِلى الواو ويجزم القاف كما تقول: لا تدع، وقرأ معاذ القارئ: «لا تقُفْ»، مثل: تَقُل والعرب تقول: قُفْتُ أَثَره، وقَفَوت، ومثله: عاث وعثا، وقاعَ الجملُ الناقة، وقعاها: إذا ركبها. قال الزجاج: من قرأ باسكان الفاء وضم القاف مِنْ: قاف يقوف، فكأنه مقلوب مِنْ قفا يقفو، والمعنى واحد: تقول: قفوتُ الشيءَ أقفُوه قفواً: إذا تبعت أثره. وقال ابن قتيبة: «لا تقف»، أي: لا تُتْبِعه الظنُّون والحَدْسَ، وهو من القفاء مأخوذ، كأنك تقفو الأمور، أي: تكون في أقفائها وأواخرها تتعقَّبها، والقائف: الذي يعرف الآثار ويتبعها فكأنه مقلوب عن القافي.
وللمفسرين في المراد به أربعة أقوال: أحدها: لا ترمِ أحداً بما ليس لك به علم، رواه العوفي عن ابن عباس. والثاني: لا تقل: رأيتُ، ولم تَرَ، ولا سمعتُ، ولم تَسمع. رواه عثمان بن عطاء عن أبيه عن ابن عباس، وبه قال قتادة. والثالث: لا تُشرك بالله شيئاً، رواه عطاء أيضاً عن ابن عباس. والرابع:
لا تشهد بالزور، قاله محمد بن الحنفية.
قوله تعالى: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ قال الزجاج: إِنما قال: كُلُّ، ثم قال:
كانَ، لأن كلاًّ في لفظ الواحد، وإِنما قال: أُولئِكَ لغير الناس، لأن كلَّ جمع أشرت إليه من
(١) سورة الأنعام: ١٥٢.
(٢) سورة الشعراء: ١٨٢.
الناس وغيرهم من الموات، تشير إِليه بلفظ «أولئك» قال جرير:
الآية ذُمَّ المَنَازِلَ بَعْدَ مَنْزِلَةِ اللِّوَى والعَيْشَ بَعْدَ أُولَئِكَ الأيَّامِ
قال المفسرون: الإِشارة إِلى الجوارح المذكورة، يُسأل العبد يوم القيامة فيما إِذا استعملها، وفي هذا زجر عن النظر إِلى ما لا يَحِلُّ، والاستماع إِلى ما يحرم، والعزم على ما لا يجوز.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٣٧ الى ٣٩]
وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (٣٧) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (٣٨) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (٣٩)
قوله تعالى: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً وقرأ الضحاك، وابن يعمر: «مَرِحاً» بكسر الراء، قال الأخفش: والكسر أجود، لأن «مَرِحاً» اسم الفاعل قال الزّجّاج: كلاهما في الجودة سواء، غير أن المصدر أوكد في الاستعمال، تقول: جاء زيد رَكْضاً، وجاء زيد راكِضاً، ف «ركضاً» أوكد في الاستعمال، لأنه يدل على توكيد الفعل، وتأويل الآية: لا تمش في الأرض مختالاً فخوراً، والمرح:
الأشر والبطر. وقال ابن فارس: المرح: شدة الفرح.
قوله تعالى: إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ فيه قولان: أحدهما: لن تقطعها إِلى آخرها. والثاني: لن تنفذها وتنقُبها. قال ابن عباس: لن تَخرق الأرضَ بِكِبْرِك، ولن تبلغ الجبال طولاً بعظَمتك. قال ابن قتيبة: والمعنى: لا ينبغي للعاجز أن يَبْذَخَ ويستكبر.
قوله تعالى: كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: «سَيِّئَةً» منوناً غير مضاف، على معنى: كان خطيئةً، فعلى هذا يكون قوله تعالى: كُلُّ ذلِكَ إِشارة إِلى المنهيّ عنه من المذكور فقط. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «سَيِّئُهُ» مضافاً مذكَّراً، فتكون لفظة «كلّ» يُشار بها إِلى سائر ما تقدم ذِكْره. وكان أبو عمرو لا يرى هذه القراءة. قال الزجاج: وهذا غلط من أبي عمرو، لأن في هذه الأقاصيص سَيِّئاً وحَسَناً، وذلك أن فيها الأمر بِبِرِّ الوالدين، وإِيتاء ذي القربى، والوفاء بالعهد، ونحو ذلك، فهذه القراءة أحسن من قراءة مَنْ نصب السَّيِئة، وكذلك قال أبو عبيدة: تدبرت الآيات من قوله تعالى: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً (٢٣) فوجدت فيها أموراً حسنة.
وقال أبو علي: من قرأ «سَيِّئَةً» رأى أن الكلام انقطع عند قوله تعالى: وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا، وأن قوله:
وَلا تَقْفُ لا حُسْنَ فيه.
قوله تعالى: ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ يشير إلى ما تقدم من الفرائض والسنن، مِنَ الْحِكْمَةِ، أي: من الأمور المُحْكَمة والأدب الجامع لِكُل خير. وقد سبق معنى «المدحور» «١».
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٤٠]
أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (٤٠)
(١) سورة الأعراف: ١٨.
قوله تعالى: أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ قال مقاتل: نزلت في مشركي العرب الذين قالوا:
الملائكة بنات الرحمن. وقال أبو عبيدة: ومعنى أَفَأَصْفاكُمْ: اختصكم. وقال المفضل: أخلصكم.
وقال الزجاج: اختار لكم صفوة الشيء، وهذا توبيخ للكفار، والمعنى: اختار لكم البنين دونه، وجعل البنات مشتركة بينكم وبينه، فاختصكم بالأعلى وجعل لنفسه الأدون؟!
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٤١]
وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤١)
قوله تعالى: وَلَقَدْ صَرَّفْنا معنى التّصريف ها هنا: التبيين، وذلك أنه إِنما يصرِّف القول ليبيِّن.
وقال ابن قتيبة: «صرّفنا» بمعنى: وجَّهنا، وهو من قولك: صرفت إِليك كذا، أي: عدلت به إِليك، وشُدِّدَ للتكثير، كما تقول: فَتَّحْتُ الأبواب. قوله تعالى: لِيَذَّكَّرُوا قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم وابن عامر: «لِيَذَّكَّروا» مشدّدا. وقرأ حمزة، والكسائيّ، وخلف: «ليذكروا» مخفّفا، وكذلك قرءوا في الفرقان «١» : والتذكُّر: الاتعاظ والتدبر. وَما يَزِيدُهُمْ تصريفنا وتذكيرنا إِلَّا نُفُوراً قال ابن عباس: ينفرون من الحقّ، ويتّبعون الباطل.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٤٢ الى ٤٤]
قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (٤٢) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (٤٣) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤٤)
قوله تعالى: قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ قرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «تقولون» بالتاء. وقرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم: «يقولون» بالياء.
قوله تعالى: إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا فيه قولان: أحدهما: لابتَغَوا سبيلاً إِلى ممانعته وإِزالة ملكه، قاله الحسن، وسعيد بن جبير. والثاني: لابتَغَوا سبيلاً إِلى رضاه، لأنهم دونه، قاله قتادة.
قوله تعالى: عَمَّا يَقُولُونَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر، وحفص عن عاصم: «يقولون» بالياء. وقرأ حمزة، والكسائي: بالتاء..
قوله تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم:
«تسبِّح» بالتاء. وقرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: «يسبِّح» بالياء. قال الفراء:
وإِنما حَسُنَت «الياء» ها هنا، لأنه عدد قليل، وإِذا قلَّ العدد من المؤنَّث والمذكَّر، كانت الياء فيه أحسن من التاء، قال عزّ وجلّ في المؤنّث القليل: وَقالَ نِسْوَةٌ «٢» وقال في المذكَّر: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ «٣». قال العلماء: والمراد بهذا التسبيح: الدلالة على أنه الخالق القادر. قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَإِنْ بمعنى «ما». وهل هذا على إِطلاقه، أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: أنه على إِطلاقه، فكلُّ شيء يسبِّحُهُ حتى الثوب والطعام وصرير الباب، قاله إِبراهيم النخعي. والثاني: أنه عامّ يراد به الخاصّ. ثم فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه كل شيء فيه الروح، قاله الحسن، وقتادة والضحاك.
والثاني: أنه كُلُّ ذي روح، وكل نامٍ من شجرٍ أو نبات، قال عكرمة: الشّجرة تسبّح، والأسطوانة لا
(١) سورة الفرقان: ٥٠.
(٢) سورة يوسف: ٣٠.
(٣) سورة التوبة: ٥.
تسبِّح وجلس الحسن على طعام فقدَّموا اُلخِوان، فقيل له: أيسبِّح هذا اُلِخوان؟، فقال: قد كان يسبِّح مرة. والثالث: أنه كل شيء لم يغيَّر عن حاله، فإذا تغيَّر انقطع تسبيحه، روى خالد بن معدان عن المقدام بن معديكرب قال: إِنَّ التراب ليسبِّح ما لم يبتلّ، فاذا ابتلّ ترك التسبيح، وإِن الورقة تسبِّح ما دامت على الشجرة، فاذا سقطت تركت التسبيح، وإِن الثوب ليسبِّحُ ما دام جديداً، فاذا توسخ ترك التسبيح. فأما تسبيح الحيوان الناطق، فمعلوم، وتسبيح الحيوان غير الناطق، فجائز أن يكون بصوته، وجائز أن يكون بدلالته على صانعه. وفي تسبيح الجمادات ثلاثة أقوال: أحدها: أنه تسبيح لا يعلمه إِلاَّ الله. والثاني: أنه خضوعه وخشوعه لله. والثالث: دلالته على صانعه، فيوجب ذلك تسبيح مُبْصِره. فإن قلنا: إِنه تسبيح حقيقة، كان قوله تعالى: وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ لجميع الخلق وإِن قلنا: إِنه دلالته على صانعه، كان الخطاب للكفار، لأنهم لا يستدلُّون، ولا يعتبرون. وقد شرحنا معنى «الحليم» و «الغفور» في سورة البقرة.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٤٥ الى ٥٢]
وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (٤٥) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (٤٦) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٤٧) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٤٨) وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٤٩)
قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (٥٠) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (٥١) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (٥٢)
قوله تعالى: حِجاباً مَسْتُوراً فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن الحجاب: هو الأكنَّة على قلوبهم، قاله قتادة. والثاني: أنه حجابٌ يستره فلا يرونه وقيل: إِنها نزلت في قوم كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلّم إِذا قرأ القرآن.
(٨٩٥) قال الكلبي: وهم أبو سفيان والنضر بن الحارث وأبو جهل وأم جميل امرأة أبي لهب،
باطل بهذا اللفظ، والكلبي كذاب يضع الحديث. وقد ورد في كتب الحديث. عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: لما نزلت سورة تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب ولها ولولة وفي يدها فهر وهي تقول
: مذمما أبينا... ودينه قلينا
وأمره عصينا.
والنبي جالس في المسجد ومعه أبو بكر فلما رآها أبو بكر قال: يا رسول الله أقبلت وأنا أخاف أن تراك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إنها لن تراني» وقرأ قرآنا فاعتصم به كما قال وقرأ وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً فوقفت على أبي بكر ولم تر رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقالت: يا أبا بكر إني أخبرت أن صاحبك هجاني فقال: لا وربّ هذا البيت ما هجاك فولّت، وهي تقول: قد علمت قريش أني بنت سيدها. حديث حسن بشواهده. أخرجه الحميدي ٣٢٣ والحاكم ٢/ ٣٦١ والواحدي في «الوسيط» ٣/ ١١٠ من حديث أسماء، وصححه الحاكم! ووافقه الذهبي! مع أن ابن تدريس مجهول، - وله شاهد- أخرجه أبو يعلى ٢٥ وابن حبان ٦٥١١ والبزار ٢٢٩٤ من حديث ابن عباس. وذكره الهيثمي في «المجمع» ١١٥٢٩ وقال: قال البزار: إسناده حسن. مع أن فيه عطاء بن السائب وقد اختلط اهـ. وأخرجه الحاكم ٢/ ٥٢٦ من حديث زيد بن أرقم، وأعلّه الحاكم بالإرسال، ووافقه الذهبي. وللحديث شواهد ضعيفة، لكن تتأيد بمجموعها، ويعلم أن للحديث أصلا، والله أعلم وقد صححه الشيخ شعيب في «الإحسان». انظر «تفسير القرطبي» ٤٠٢٧.
27
فحجب الله رسولَه عن أبصارهم عند قراءة القرآن، فكانوا يأتونه ويمرُّون به ولا يرونه.
والثالث: أنه منع الله عزّ وجلّ إِياهم عن أذاه، حكاه الزجاج.
وفي معنى مَسْتُوراً قولان: أحدهما: أنه بمعنى ساتر قال الزجاج: وهذا قول أهل اللغة. قال الأخفش: وقد يكون الفاعل في لفظ المفعول، كما تقول: إِنك مشؤوم علينا، وميمون علينا، وإِنما هو شائم ويامن، لأنه مِن «شَأمَهَمُ» و «يَمَنَهُم». والثاني: أن المعنى: حجاباً مستوراً عنكم لا ترونه، ذكره الماوردي. وقال ابن الأنباري: إِذا قيل: الحجاب هو الطبع على قلوبهم، فهو مستور عن الأبصار، فيكون «مستوراً» باقياً على لفظه.
قوله تعالى: وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ قد شرحناه في سورة الأنعام «١».
قوله تعالى: وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ يعني: قلتَ: لا إِله إِلا الله، وأنت تتلو القرآن وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ قال أبو عبيدة: أي على أعقابهم، نُفُوراً وهو: جمع نافر، بمنزلة قاعد وقُعود، وجالس وجُلوس. وقال الزجاج: تحتمل مذهبين: أحدهما: المصدر، فيكون المعنى: ولَّوا نافرين نفوراً.
والثاني: أن يكون «نفوراً» جمع نافر. وفي المشار إِليهم قولان: أحدهما: أنهم الشياطين، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم المشركون، وهذا مذهب ابن زيد.
قوله تعالى: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ.
(٨٩٦) قال المفسّرون: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم عليّا رضي الله عنه أن يتخذ طعاماً ويدعو إِليه أشراف قريش من المشركين، ففعل ذلك، ودخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقرأ عليهم القرآن، ودعاهم إِلى التوحيد، وكانوا يستمعون ويقولون فيما بينهم: هو ساحر، هو مسحور، فنزلت هذه الآية: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ، أي: يستمعونه، والباء زائدة. إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى قال أبو عبيدة: هي مصدر مِنْ «ناجَيْتُ» واسم منها، فوصف القوم بها، والعرب تفعل ذلك، كقولهم: إِنما هو عذاب، وأنتم غَمٌّ، فجاءت في موضع «متناجين». وقال الزجاج: والمعنى: وإِذ هم ذوو نجوى، وكانوا يستمعون من رسول الله صلى الله عليه وسلّم ويقولون بينهم: هو ساحر، وهو مسحور، وما أشبه ذلك من القول.
قوله تعالى: إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ يعني: أولئك المشركون إِنْ تَتَّبِعُونَ أي: ما تتَّبعون إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الذي سُحر فذُهب بعقله، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: مخدوعاً مغروراً، قاله مجاهد. والثالث: له سَحْر، أي: رئة وكلُّ دابَّة أو طائر أو بَشَر يأكل فهو: مسحور ومسحَّر، لأن له سحرا، قال لبيد:
ورد هذا الخبر من وجوه متعددة واهية، وستأتي. ولم أجد من ذكر أن سبب نزول هذه الآية هو هذا الخبر.
وانظر «تفسير القرطبي» ١٠/ ٢٣٧ بتخريجنا.
__________
(١) سورة الأنعام: ٢٥.
28
فانْ تَسْأَلِينا فِيمَ نَحْنُ فانَّنا عَصَافِيرُ مِنْ هَذَا الأنامِ المَسَحَّر
وقال امرؤ القيس:
أُرانا مُرْصَدِيْن لأَمْرِ غَيْبٍ ونُسْحَرُ بالطَّعامِ وبالشَّرَابِ
أي: نُغذَّى، لأن أهل السماء لا يأكلون، فأراد أن يكون مَلَكاً. فعلى هذا يكون المعنى: إن تتّبعون إلّا رجلا به سَحْر، خلقه الله كخلقكم، وليس بملَكٍ، وهذا قول أبي عبيدة. قال ابن قتيبة:
والقول قول مجاهد، أي مخدوعاً، لأن السِّحر حيلة وخديعة ومعنى قول لبيد «المسحَّر» : المعلَّل، وقول امرئ القيس: «ونُسْحَر» أي: نُعلَّل، وكأنا نُخدَع، والناس يقولون: سحرتَني بكلامكَ، أي:
خدعتَني، ويدل عليه قوله تعالى: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ، لأنهم لو أرادوا رجلاً ذا رِئَةٍ، لم يكن في ذلك مَثَلٌ ضربوه، فلما أرادوا مخدوعاً- كأنه بالخديعة سُحر- كان مَثَلاً ضربوه، وكأنهم ذهبوا إِلى أن قوماً يعلِّمونه ويخدعونه. قال المفسرون: ومعنى ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ بيَّنوا لك الأشباه، حتى شبَّهوك بالساحر والشاعر والمجنون فَضَلُّوا عن الحق، فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: لا يجدون سبيلاً إِلى تصحيح ما يعيبونك به. والثاني: لا يستطيعون سبيلاً إِلى الهُدى، لأنا طبعنا على قلوبهم. والثالث: لا يأتون سبيل الحق، لثقله عليهم ومثله قولهم: لا أستطيع أن أنظر إِلى فلان، يعنون أنا مبغِض له، فنظري إِليه يثقل، ذكرهن ابن الأنباري. قوله تعالى: أَإِذا كُنَّا عِظاماً قرأ ابن كثير: «أَيْذا» بهمزة ثم يأتي بياء ساكنة من غير مَدّ، «أَينا»، مثله وكذلك في كل القرآن. وكذلك روى قالون عن نافع، إِلا أن نافعاً كان لا يستفهم في «أَيْنا»، كان يجعل الثاني خبراً في كل القرآن، وكذلك مذهب الكسائي، غير أنه يهمز الأُولى همزتين. وقرأ عاصم، وحمزة بهمزتين في الحرفين جميعاً. وقرأ ابن عامر: «إِذا كُنّا» بغير استفهام بهمزة واحدة «ءاءنا» بهمزتين يمد بينهما مدة.
قوله تعالى: وَرُفاتاً فيه قولان: أحدهما: أنه التراب ولا واحد له، فهو بمنزلة الدُّقاق والحُطام، قاله الفراء، وهو مذهب مجاهد. والثاني: أنه العظام ما لم تتحطم، والرُّفات: الحُطام، قاله أبو عبيدة. وقال الزجاج: الرُّفات: التراب. والرُّفات: كل شيء حُطِمَ وكسر، وخَلْقاً جَدِيداً في معنى مجدداً.
قوله تعالى: أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فيه ثلاثة أقوال «١» : أحدها: أنه الموت، قاله ابن عمر، وابن عباس، والحسن، والأكثرون. والثاني: أنه السماء والأرض والجبال، قاله مجاهد.
والثالث: أنه ما يكبر في صدوركم، من كل ما استعظموه من خلق الله تعالى، قاله قتادة.
فان قيل: كيف قيل لهم: كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً وهم لا يقدرون على ذلك؟ فعنه جوابان:
أحدهما: إِن قدرتم على تغيُّر حالاتكم، فكونوا حجارة أو أشدَّ منها، فانا نميتكم، وننفِّذ أحكامنا فيكم، ومثل هذا قولك للرجل: اصعد إلى السماء فإني لا حقك. والثاني: تصوَّروا أنفسكم حجارة أو أصلب منها، فإنا سنبيدكم، قال الأحوص:
(١) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ٨/ ٩١: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، أن يقال كل ما في صدور بني آدم، فجائز أن يكون عني به الموت أو السماء والأرض أو غير ذلك لأن الله جل ثناؤه لم يخصص منه شيئا دون شيء.
29
إذا كنت عزهاة عن اللهو والصّبا فكن حجرا من يابس الصّخر جامدا «١»
معناه: فتصوَّر نفسك حَجَراً، وهؤلاء قوم اعترفوا أن الله خالقهم، وجحدوا البعث، فأُعلموا أن الذي ابتدأ خلقهم هو الذي يحييهم.
قوله تعالى: فَسَيُنْغِضُونَ قال قتادة: يحرِّكونها تكذيباً واستهزاءً. قال الفراء: يقال: أنغض رأسه: إِذا حركه إِلى فوق وإِلى أسفل. وقال ابن قتيبة: المعنى يحرِّكونها كما يحرِّك الآيس من الشيء والمستبعدُ له رأسه، يقال: نغضت سِنُّه: إِذا تحركت.
قوله تعالى: وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ يعنون البعث قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً أي: هو قريب. ثم بيَّن متى يكون فقال: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ يعني: من القبور بالنداء الذي يُسمعكم، وهو النفخة الأخيرة فَتَسْتَجِيبُونَ أي: تجيبون. قال مقاتل: يقوم إِسرافيل على صخرة بيت المقدس يدعو أهل القبور في قرن. فيقول: أيتها العظام البالية، وأيتها اللحوم المتمزقة، وأيتها الشعور المتفرقة، وأيتها العروق المتقطعة، اخرجوا إِلى فصل القضاء لتُجزَوا بأعمالكم، فيسمعون الصوت، فيسعَون إِليه. وفي معنى بِحَمْدِهِ أربعة أقوال «٢» : أحدها: بأمره، قاله ابن عباس وابن جريج وابن زيد. والثاني: يخرجون من القبور وهم يقولون: سبحانك وبحمدك، قاله سعيد بن جبير. والثالث: أن معنى بِحَمْدِهِ: بمعرفته وطاعته، قاله قتادة، قال الزجاج: تستجيبون مُقرِّين أنه خالِقكم. والرابع: تجيبون بحمد الله لا بحمد أنفسكم، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا في هذا الظن قولان: أحدهما: أنه بمعنى اليقين.
والثاني: أنه على أصله. وأين يظنون أنهم لبثوا قليلاً؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: بين النفختين ومقداره أربعون سنة، ينقطع في ذلك العذاب عنهم، فيرون لبثهم في زمان الراحة قليلاً، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: في الدنيا، لعلمهم بطول اللبث في الآخرة، قاله الحسن. والثالث: في القبور، قاله مقاتل. فعلى هذا إِنما قصر اللبث في القبور عندهم، لأنهم خرجوا إِلى ما هو أعظم عذاباً من عذاب القبور. وقد ذهب بعض المفسرين إِلى أن هذه الآية خطاب للمؤمنين، لأنهم يجيبون المنادي يحمدون الله على إِحسانه إِليهم، ويستقلُّون مدة اللبث في القبور، لأنهم كانوا غير معذَّبين.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٥٣]
وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (٥٣)
قوله تعالى: وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ في سبب نزولها قولان:
(٨٩٧) أحدهما: أن المشركين كانوا يؤذون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم بمكّة، بالقول والفعل،
باطل. ذكره الواحدي ٥٧٨ في «أسباب النزول» عن الكلبي بدون إسناد مختصرا، والكلبي يضع الحديث.
وعزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وهو باطل، فقد أقر الكلبي وأبو صالح بالكذب على ابن عباس.
__________
(١) في «اللسان» العزهاة: هو الذي لا يقرب النساء. وفيه انقباض وإعراض. وفي رواية «اللسان» : فكن حجرا من يابس الصخر جلمدا. وصخرة جلمد: شديدة مجتمعة صلبة.
(٢) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» ٨/ ٩٢: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: معناه: فتستجيبون لله من قبوركم بقدرته، ودعائه إياكم ولله الحمد على كل حال، كما يقول القائل: فعلت ذلك الفعل بحمد الله، يعني لله الحمد على كل ما فعلته.
فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية. قاله أبو صالح عن ابن عباس.
(٨٩٨) والثاني: أن رجلاً من الكفار شتم عمر بن الخطاب، فهمَّ به عمر رضي الله عنه، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل، والمعنى: وقل لعبادي المؤمنين يقولوا الكلمة التي هي أحسن.
واختلفوا فيمن تقال له هذه الكلمة على قولين: أحدهما: أنهم المشركون، قال الحسن: تقول له: يَهديك الله، وما ذكرنا من سبب نزول الآية يؤيد هذا القول. وذهب بعضهم إِلى أنهم أُمروا بهذه الآية بتحسين خطاب المشركين قبل الأمر بقتالهم، ثم نُسخت هذه الآية بآية السيف. والثاني: أنهم المسلمون، قاله ابن جرير. المعنى: وقل لعبادي يقول بعضهم لبعض التي هي أحسن من المحاورة والمخاطبة. وقد روى مبارك عن الحسن قال: «التي هي أحسن» أن يقول له مثل قوله، ولكن يقول له:
يرحمك الله، يغفر الله لك. قال الأخفش: وقوله يَقُولُوا مثل قوله: وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ، وقد شرحنا ذلك في سورة ابراهيم «١». قوله تعالى: إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ أي: يُفسد ما بينهم، والعدوّ المُبَين:
الظاهر العداوة.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٥٤]
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (٥٤)
قوله تعالى: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ فيمن خوطب بهذا قولان: أحدهما: أنهم المؤمنون. ثم في معنى الكلام قولان: أحدهما: إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ فينجيكم من أهل مكّة أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ فيسلطهم عليكم، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: إِن يشأ يرحمكم بالتوبة، أو يعذبكم بالإِقامة على الذنوب، قاله الحسن. والثاني: أنهم المشركون. ثم في معنى الكلام قولان: أحدهما: إِن يشأ يرحمكم، فيهديكم للإيمان، أو إِن يشأ يعذِّبكم، فيميتكم على الكفر، قاله مقاتل. والثاني: أنه لما نزل القحط بالمشركين فقالوا: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) «٢»، قال الله تعال: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ مَنْ الذي يؤمن، ومن الذي لا يؤمن إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ فيكشف القحط عنكم أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ فيتركه عليكم، ذكره أبو سليمان الدمشقي. قال ابن الأنباري: و «أو» ها هنا دخلت لسَعة الأمرين عند الله تعالى، وأنه لا يردّ عنهما، فكانت ملحقة ب «أو» المبيحة في قولهم: جالس الحسن، أو ابن سيرين، يعنون: قد وسَّعنا لك الأمر.
قوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا فيه ثلاثة أقوال: أحدها: كفيلاً تُؤخذ بهم، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: حافظاً وربّاً، قاله الفراء. والثالث: كفيلاً بهدايتهم وقادراً على إِصلاح قلوبهم، ذكره ابن الأنباري. وذهب بعض المفسرين إِلى أن هذا منسوخ بآية السيف.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٥٥]
وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (٥٥)
باطل. ذكره الثعلبي كما في «تفسير القرطبي» ١٠/ ٢٤١ والمارودي والواحدي في «أسبابه» ٥٧٧ بدون نسبة لأحد. وعزاه المصنف لمقاتل، وهو كذاب يضع الحديث، ولذا لم يسمه الثعلبي والواحدي والماوردي.
__________
(١) سورة إبراهيم: ٣١.
(٢) سورة الدخان: ١٢.
قوله تعالى: وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لأنه خالِقُهم، فهدى من شاء، وأضلَّ من شاء، وكذلك فضَّل بعض النبيين على بعض، وذلك عن حكمة منه وعِلم، فخلق آدم بيده، ورفع إِدريس، وجعل الذرِّية لنوح، واتخذ ابراهيم خليلاً، وموسى كليماً، وجعل عيسى روحاً، وأعطى سليمان مُلْكاً جسيماً، ورفع محمداً صلى الله عليه وسلّم فوق السموات، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. يجوز أن يكون المفضَّلون أصحابَ الكتب، لأنه ختم الكلام بقوله تعالى: وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً. وقد شرحنا معنى «الزبور» في سورة النّساء «١».
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٥٦ الى ٥٧]
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (٥٦) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (٥٧)
قوله تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ في سبب نزولها قولان:
(٨٩٩) أحدهما: أن نفراً من العرب كانوا يعبدون نفراً من الجن، فأسلم الجن والنفر من العرب لا يشعرون، فنزلت هذه الآية والتي بعدها، روي عن ابن مسعود.
(٩٠٠) والثاني: أن المشركين كانوا يعبدون الملائكة، ويقولون: هي تشفع لنا عند الله، فلما ابتلوا بالقحط سبع سنين، قيل لهم: «ادعوا الذين زعمتم»، قاله مقاتل، والمعنى: قل ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهة، فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا له إِلى غيركم.
قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ في المشار إِليهم ب أُولئِكَ ثلاثة أقوال»
أحدها: أنهم الجن الذين أسلموا. والثاني: الملائكة، وقد سبق بيان القولين. والثالث: أنهم المسيحُ، وعزيرٌ، والملائكةُ! والشمسُ والقمرُ، قاله ابن عباس. وفي معنى «يدعون» قولان: أحدهما:
يعبدون، أي: يدعونهم آلهة، وهذا قول الأكثرين. والثاني: أنه بمعنى يتضرعون إِلى الله في طلب الوسيلة. وعلى هذا يكون قوله تعالى: «يدعون» راجعاً إِلى «أولئك»، ويكون قوله: «يبتغون» تماماً للكلام. وعلى القول الأول: يكون «يدعون» راجعاً إِلى المشركين، ويكون قوله: «يبتغون» وصفاً ل «أولئك» مستأنَفاً. وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وأبو عبد الرحمن: «تدعون» بالتاء. قال ابن الأنباري: فعلى هذا، الفعل مردود إلى قوله تعالى: فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ ومن قرأ «يدعون» بالياء، قال: العرب تنصرف من الخطاب إِلى الغَيبة إِذا أُمن اللَّبْس. ومعنى «يدعون» :
موقوف صحيح. أخرجه البخاري ٤٧١٥ ومسلم ٣٠٣٠ والنسائي في «التفسير» ٣٠٧ و ٣٠٨ و ٣٠٩ والطبري ٢٢٣٧٦ و ٢٢٣٨٠ عن ابن مسعود موقوفا. وانظر «تفسير القرطبي» ٤٠٣١ بتخريجنا.
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يضع الحديث، فخبره باطل. وحيثما أطلق مقاتل، فهو ابن سليمان.
__________
(١) سورة النساء: ١٦٣.
(٢) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ٨/ ٩٧: وأولى الأقوال بتأويل هذه الآية قول ابن مسعود أنهم الجن الذين أسلموا. [.....]
يدعونهم آلهة. وقد فسرنا معنى «الوسيلة» في المائدة «١».
وفي قوله تعالى: أَيُّهُمْ أَقْرَبُ قولان: ذكرهما الزجاج. أحدهما: أن يكون «أيهم» مرفوعاً بالابتداء، وخبره أقرب ويكون المعنى: يطلبون الوسيلة إِلى ربهم ينظرون أيُّهم أقرب إِليه فيتوسَّلون إِلى الله به. والثاني: أن يكون «أيهم أقرب» بدلاً من الواو في «يبتغون»، فيكون المعنى: يبتغي أيُّهم هو أقرب الوسيلةَ إِلى الله، أي: يتقرَّب إِليه بالعمل الصّالح.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٥٨]
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٥٨)
قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها «إِن» بمعنى «ما»، والقرية الصالحة هلاكها بالموت، والعاصية بالعذاب، والكتاب: اللوح المحفوظ، والمسطور: المكتوب.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٥٩]
وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (٥٩)
قوله تعالى: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ في سبب نزولها قولان:
(٩٠١) أحدهما: أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يجعل لهم الصفا ذهباً، وأن ينحِّي عنهم الجبال فيزرعوا، فقيل له: إِن شئتَ أن تستأني بهم لعلَّنا نجتبي منهم، وإِن شئتَ نؤتيهم الذي سألوا، فان كفروا أُهلكوا كما أُهلك من كان قبلهم، قال: «لا، بل أستأني»، فنزلت هذه الآية، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.
والثاني: قد ذكرناه عن الزّبير في قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ «٢»، ومعنى الآية:
وما منَعَنا إِرسالَ الآياتِ التي سألوها إِلا تكذيبُ الأوّلين، يعني أن هؤلاء سألوا الآيات التي استوجب بتكذيبها الأولونَ العذابَ، فلم يرسلها لئلا يكذِّب بها هؤلاء، فيهلكوا كما هلك أولئك، وسنَّة الله في الأمم أنهم إِذا سألوا الآيات ثم كذَّبوا بها عذَّبهم.
قوله تعالى: وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً قال ابن قتيبة: أي: بَيِّنَةً، يريد: مُبْصَراً بها. قال ابن الأنباري: ويجوز أن تكون مبصِّرة، ويصلح أن يكون المعنى: مُبصِر مشاهدوها، فنسب إِليها فعل غيرها تجوُّزاً، كما يقال: لا أرينّك ها هنا، فأدخل حرف النهي على غير المنهي عنه، إذ المعنى: لا تحضر
أخرجه النسائي في «التفسير» ٣١٠ وأحمد ١/ ٢٥٨ والطبري ٢٢٣٩٨ والحاكم ٢/ ٣٦٢ والبيهقي في «الدلائل» ٢/ ٣٧١ والواحدي في «أسباب النزول» ٥٧٩ من طرق عن جرير عن الأعمش عن جعفر بن إياس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به، وإسناده صحيح. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وأخرجه البزار ٢٢٢٤ والبيهقي في «الدلائل» ٢/ ٢٧٢ من حديث سلمة بن كهيل عن عمران السلمي عن ابن عباس به. وذكره الهيثمي في «المجمع» ٧/ ٥٠ وقال: ورجال الروايتين رجال الصحيح. وصححه أحمد شاكر في «المسند» ٢٣٣٣.
__________
(١) سورة المائدة: ٣٥.
(٢) سورة الرعد: ٣١.
ها هنا، حتى إِذا جئتُ لم أركَ فيه. ومن قرأ «مَبْصَرة» بفتح الميم والصاد، فمعناه: المبالغة في وصف الناقة بالتبيان، كقولهم: «الولد مَجْبَنة».
قوله تعالى: فَظَلَمُوا بِها قال ابن عباس: فجحدوا بها. وقال الأخفش: بها كان ظُلمهم. قوله تعالى: وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً أي: نخوِّف العباد ليتَّعظوا. وللمفسرين في المراد بهذه الآية أربعة أقوال: أحدها: أنها الموت الذَّريع، قاله الحسن. والثاني: معجزات الرسل جعلها الله تعالى تخويفاً للمكذبين. والثالث: آيات الانتقام تخويفاً من المعاصي. والرابع: تقلُّب أحوال الإِنسان من صِغَرٍ إِلى شبابٍ، ثم إِلى كهولة، ثم إِلى مشيب، ليعتبر بتقلُّب أحواله فيخاف عاقبة أمره، ذكر هذه الأقوال الثلاثة الماوردي، ونسب الأخير منها إلى إمامنا أحمد رضي الله عنه.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٦٠]
وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (٦٠)
قوله تعالى: وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أحاط عِلمه بالناس، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الربيع بن أنس. وقال مقاتل: أحاط علمه بالناس، يعني: أهل مكة، أن يفتحها لرسوله صلى الله عليه وسلّم. والثاني: أحاطت قدرته بالناس، فهم في قبضته، قاله مجاهد. والثالث:
حال بينك وبين الناس أن يقتلوك، لتبلِّغ رسالته، قاله الحسن، وقتادة.
قوله تعالى: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ في هذه الرؤيا قولان «١» :
أحدهما: أنها رؤيا عين، وهي ما أري ليلة أُسري به من العجائب والآيات. روى عكرمة عن ابن عباس قال: هي رؤيا عين رآها ليلة أُسري به، وإِلى هذا المعنى ذهب الحسن، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة، ومسروق، والنخعي، وقتادة، وأبو مالك، وأبو صالح، وابن جريج، وابن زيد في آخرين. فعلى هذا يكون معنى الفتنة: الاختبار، فإن قوماً آمنوا بما قال، وقوماً كفروا. قال ابن الأنباري: المختار في هذه الرؤية أن تكون يقظة، ولا فرق بين أن يقول القائل: رأيت فلاناً رؤية، ورأيته رؤيا، إِلا أن الرؤية يقلُّ استعمالها في المنام، والرؤيا يكثر استعمالها في المنام، ويجوز كل واحد منهما في المعنيين. والثاني: أنها رؤيا منام. ثم فيها قولان:
(٩٠٢) أحدهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان قد أُرِيَ أنه يدخل مكة، هو وأصحابه، وهو يومئذ بالمدينة، فعَجل قبل الأجل، فردَّه المشركون، فقال أناس: قد رُدَّ، وكان حدَّثَنَا أنه سيدخلها، فكان رجوعهم فتنتهم، رواه العوفي عن ابن عباس. وهذا لا ينافي حديث المعراج، لأن هذا كان بالمدينة، والمعراج كان بمكة: قال أبو سليمان الدمشقي: وإِنما ذكره ابن عباس على وجه الزيادة في الإِخبار لنا أن المشركين بمكة افتتنوا برؤيا عينه، والمنافقين بالمدينة افتتنوا برؤيا نومه.
أخرجه الطبري ٢٢٤٣٢ من طريق عطية العوفي عن ابن عباس به، وإسناده ضعيف لضعف عطية.
__________
(١) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» ٨/ ١٠٣: وأولى الأقوال بالصواب قول من قال عني به رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما رأى من الآيات والعبر في طريقه إلى بيت المقدس ليلة أسري به.
34
(٩٠٣) والثاني: أنه أُري بني أمية على المنابر، فساءه ذلك، فقيل له: إنها الدنيا يُعْطَوْنَها، فسرّي عنه. فالفتنة ها هنا: البلاء، رواه علي بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيب، وإِن كان مثل هذا لا يصح، ولكن قد ذكره عامة المفسرين.
وروى ابن الأنباري أن سعيد بن المسيّب قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم قوماً على منابر، فشَقَّ ذلك عليه، وفيه نزل: وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ، قال: ومعنى قوله: إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ: إِلا بلاءً للناس «١». قال ابن الأنباري: فمن ذهب إِلى أن الشجرة رجال رآهم النبيّ صلى الله عليه وسلّم في منامه يصعدون المنابر، احتج بأن الشجرة يكنى بها عن المرأة لتأنيثها، وعن الجماعة لاجتماع أغصانها. قالوا: ووقعت اللعنة بهؤلاء الذين كنى عنهم بالشجرة. قال المفسرون: وفي الآية تقديم وتأخير، تقديره: وما جعلنا الرؤيا والشجرة إِلا فتنة للناس. وفي هذه الشجرة ثلاثة أقوال «٢» :
أحدها: أنها شجرة الزَّقُّوم، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومسروق، والنخعي، والجمهور.
(٩٠٤) وقال مقاتل: لما ذكر الله تعالى شجرة الزَّقُّوم، قال أبو جهل: يا معشر قريش إِن محمداً يخوِّفكم بشجرة الزَّقُّوم، ألستم تعلمون أن النار تحرق الشجر، ومحمد يزعم أن النار تنبت الشجر، فهل تدرون ما الزقوم، فقال عبد الله بن الزِّبَعْرَى: إِن الزَّقُّوم بلسان بَرْبَر: التمر والزُّبْد، فقال أبو جهل: يا جارية ابغينا تمراً وزُبداً، فجاءته به، فقال لمن حوله: تَزَقَّمُوا من هذا الذي يخوِّفكم به محمدٌ، فأنزل الله عزّ وجلّ: وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً: قال ابن قتيبة: كانت فتنتهم بالرؤيا قولهم:
كيف يذهب إِلى بيت المقدس، ويرجع في ليلة؟! وبالشجرة قولهم: كيف يكون في النار شجرة؟! وللعلماء في معنى «الملعونة» ثلاثة اقوال: أحدها: المذمومة، قاله ابن عباس. والثاني: الملعون آكلُها، ذكره الزجاج، وقال: إِن لم يكن في القرآن ذِكْر لعنها، ففيه لعن آكليها قال: والعرب تقول لكل طعام مكروه وضارٍّ: ملعون فأمّا قوله تعالى: فِي الْقُرْآنِ فالمعنى: التي ذكرت في القرآن، وهي
ضعيف جدا. أخرجه ابن مردويه وابن أبي حاتم كما في «الدر» ٣/ ٣٤٦ على علي بن زيد عن سعيد بن المسيّب مرسلا، وهذا إسناد واه، فهو مرسل، وعلي بن زيد ضعيف. وأخرجه الطبري ٢٢٤٣٣ عن ابن عباس، وأعله ابن كثير بمحمد بن الحسن بن زبالة وأنه ضعيف جدا، قال: وشيخه- عبد المهيمن بن عباس ضعيف بالكلية.
قلت: والمتن منكر، لا يصح في هذا الباب شيء. قال الحافظ في «الفتح» ٨/ ٣٩٨: روي عن جماعة من الصحابة، وأسانيد الكل ضعيفة اه. وانظر «تفسير الشوكاني» ١٤٣٥ بتخريجنا.
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ساقط الرواية. وأخرجه الطبري ٢٢٤٥٢ و ٢٢٤٥٣ بنحوه عن قتادة. مرسلا.
وورد من مرسل الحسن، أخرجه برقم ٢٢٤٣٩.
__________
(١) ضعيف جدا، وانظر ما قبله.
(٢) قال الطبري رحمه الله ٨/ ١٠٥: وأولى القولين في ذلك بالصواب عندنا قول من قال: عني بها شجرة الزقوم، لإجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك. وهو اختيار ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٣/ ٦٤. وقال الحافظ في «الفتح ٨/ ٣٩٩ وهذا هو الصحيح ذكره ابن أبي حاتم عن بضعة عشر نفسا من التابعين.
35
مذكورة في قوله: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ (٤٤) «١». والثالث: أن معنى «الملعونة» :
المُبعَدة عن منازل أهل الفضل، ذكره ابن الانباري.
والقول الثاني: أن الشجرة الملعونة هي التي تلتوي على الشجر، يعني: الكَشُوثى «٢»، وهذا مروي عن ابن عباس أيضا.
والثالث: أن الشجرة كناية عن الرجال على ما ذكرنا عن سعيد بن المسيّب.
قوله تعالى: وَنُخَوِّفُهُمْ قال ابن الأنباري: مفعول «نخوِّفهم» محذوف، تقديره: ونخوِّفهم العذاب، فَما يَزِيدُهُمْ أي: فما يزيدهم التخويف إِلَّا طُغْياناً وقد ذكرنا معنى الطّغيان في سورة البقرة «٣»، وذكرنا هناك تفسير قوله تعالى: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا «٤».
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٦١ الى ٦٥]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (٦١) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (٦٢) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (٦٣) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (٦٤) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (٦٥)
قوله تعالى: «آسْجُدُ» قرأه الكوفيون: بهمزتين. وقرأه الباقون: بهمزة مطوَّلة وهذا استفهام إِنكار، يعني به: لم أكن لأفعل.
قوله تعالى: لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً قال الزجاج: «طيناً» منصوب على وجهين: أحدهما: التمييز، المعنى: لمن خلقتَه من طين. والثاني: على الحال، المعنى: أنشأتَه في حال كونه من طين. ولفظ قالَ أَرَأَيْتَكَ جاء ها هنا بغير حرف عطف، لأن المعنى: قال آسجد لمن خلقت طينا، وأ رأيتك، وهي في معنى: أخبرني، والكاف ذُكرت في المخاطبة توكيداً، والجواب محذوف، والمعنى: أَخبِرني عن هذا الذي كرَّمت عليَّ، لم كرَّمتَهُ عليَّ وقد خلقتَني من نار وخلقتَه من طين؟! فحذف هذا، لأن في الكلام دليلاً عليه.
قوله تعالى: لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمر: «أخرتني» بياء في الوصل. ووقف ابن كثير بالياء. وقرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي بغير ياء في وصل ولا في وقف. قوله تعالى: لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: لأَستولِيَنَّ عليهم، قاله ابن عباس، والفراء. والثاني: لأُضِلَّنَّهم، قاله ابن زيد. والثالث: لأَستأصلنَّهم يقال: احْتَنَكَ الجرادُ ما على الأرض: إِذا أكله واحْتَنَكَ فلانٌ ما عند فلان من العلم: إذا استقصاه، فالمعنى: لأقودنّهم كيف شئت،
(١) سورة الدخان: ٤٣- ٤٤.
(٢) في «اللسان» : الكشوث: نبت يتعلق بأغصان الشجر من غير أن يضرب بعرق في الأرض.
والكشوثى: نبات مجتث مقطوع الأصل، وقيل: لا أصل له، وهو أصفر يتعلق بأطراف الشوك.
(٣) سورة البقرة: ١٥.
(٤) سورة البقرة: ٣٤.
36
هذا قول ابن قتيبة. فإن قيل: من أين عَلِمَ الغيب. فقد أجبنا عنه في سورة النساء «١». قوله تعالى: إِلَّا قَلِيلًا قال ابن عباس: هم أولياء الله الذي عصمهم. قوله تعالى: قالَ اذْهَبْ هذا اللفظ يتضمن إِنظاره فَمَنْ تَبِعَكَ، أي: تبع أمرك منهم، يعني: ذرية آدم. والموفور: الموفَّر. قال ابن قتيبة:
يقال: وفَّرْتُ ماله عليه، ووَفَرْتُه، بالتخفيف والتشديد.
قوله تعالى: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ قال ابن قتيبة: اسْتَخِفَّ، ومنه تقول: استَفَزَّني فلان.
وفي المراد بصوته قولان «٢» : أحدهما: أنه كل داعٍ دعا إِلى معصية الله، قاله ابن عباس. والثاني: أنه الغناء والمزامير، قاله مجاهد.
قوله تعالى: وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ أي: صِح بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ واحثثهم عليهم بالإِغراء يقال:
أجلبَ القوم وجلَّبوا: إِذا صاحوا. وقال الزجاج: المعنى: اجمع عليهم كل ما تقدر عليه من مكايدك فعلى هذا تكون الباء زائدة. قال ابن قتيبة: والرَّجْلُ: الرَّجَّالة يقال: رَاجِلٌ ورَجْل، مثل تاجر وتَجْر، وصاحِب وصَحْب. قال ابن عباس: كلّ خيل تسير في معصية الله، وكلّ رَجُل يسير في معصية الله.
وقال قتادة: إِن له خيلاً ورَجْلاً من الجن والإِنس. وروى حفص عن عاصم: «بخيلك ورَجِلِكَ» بكسر الجيم، وهي قراءة ابن عباس، وابي رزين، وأبي عبد الرحمن السُّلَمي. قال أبو زيد: يقال: رجل رجل: للرجّال، ويقال: جاءنا حافياً رجِلاً. وقرأ ابن السميفع، والجحدري: «بخيلك ورُجَّالك» برفع الراء وتشديد الجيم مفتوحة وبألف بعدها. وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وعكرمة: «ورِجَالك» بكسر الراء وتخفيف الجيم مع ألف.
قوله تعالى: وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ فيه أربعة أقوال: أحدها: أنها ما كانوا يحرِّمونه من أنعامهم، رواه عطية عن ابن عباس. والثاني: الأموال التي أصيبت من حرام، قاله مجاهد. والثالث: التي أنفقوها في معاصي الله، قاله الحسن. والرابع: ما كانوا يذبحون لآلهتهم، قاله الضحاك. فأما مشاركته إِياهم في الأولاد، ففيها أربعة أقوال «٣» : أحدها: أنهم أولاد الزنا، رواه عطية عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، ومجاهد، والضحاك. والثاني: الموءودة من أولادهم، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: أنه تسمية أولادهم عبيداً لأوثانهم، كعبد شمس، وعبد العزى، وعبد مناف، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والرابع: ما مَجَّسُوا وهوَّدُوا ونصَّرُوا، وصبغُوا من أولادهم غير صبغة الإِسلام، قاله الحسن، وقتادة.
قوله تعالى: وَعِدْهُمْ قد ذكرناه في قوله تعالى: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ «٤» إلى آخر الآية. وهذه
(١) سورة النساء: ١١٩.
(٢) قال الطبري ٨/ ١٠٨: وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال: إن الله تبارك وتعالى قال لإبليس: واستفزز من ذرية آدم من استطعت أن تستفزه بصوتك، ولم يخصص من ذلك صوتا دون صوت، فكل صوت كان دعاء إليه وإلى عمله وطاعته، وخلافا للدعاء إلى طاعة الله، فهو داخل في معنى صوته.
(٣) قال الطبري رحمه الله ٨/ ١١١: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: كل ولد ولدته أنثى عصي الله بتسميته ما يكرهه الله، أو بإدخاله في غير الدين الذي ارتضاه الله، أو بالزنا بأمه، أو قتله ووأده، أو غير ذلك من الأمور التي يعصى الله بها به أو فيه، وأطيع به الشيطان أو فيه.
(٤) سورة النساء: ١٢٠.
37
الآية لفظها لفظ الأمر، ومعناها التهديد، ومثلها في الكلام أن تقول للانسان: اجهد جهدك فسترى ما ينزل بك. قال الزجاج: إذا تقدم الأمرَ نهيٌ عما يؤمر به، فمعناه التهديد والوعيد، تقول للرجل: لا تدخُلَنْ هذه الدار فاذا حاول أن يدخلها قلت: ادخُلها وأنت رجل، فلستَ تأمره بدخولها، ولكنك تُوعِده وتهدّده، ومثله: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ «١» وقد نُهُوا أن يعملوا بالمعاصي. وقال ابن الانباري: هذا أمر معناه التهديد، تقديره: إِن فعلت هذا عاقبناك وعذَّبناك، فنقل إِلى لفظ الأمر عن الشّرط، كقوله تعالى:
فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ «٢».
قوله تعالى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ قد شرحناه في الحجر «٣». قوله تعالى: وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا قال الزجاج: كفى به وكيلاً لأوليائه يعصمهم من القبول من إِبليس.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٦٦ الى ٧٠]
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٦٦) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (٦٧) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (٦٨) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (٦٩) وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (٧٠)
قوله تعالى: رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ أي: يسيِّرها. قال الزجاج: يقال: زجيت الشيء، أي قدمته. قوله تعالى: لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أي: في طلب التجارة. وفي «من» ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها زائدة. والثاني: أنها للتبعيض. والثالث: أن المفعول محذوف، والتقدير: لتبتغوا من فضله الرزق والخير، ذكرهنَّ ابن الأنباري.
قوله تعالى: إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً هذا الخطاب خاصّ للمؤمنين، ثم خاطب المشركين فقال:
وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ يعني: خوفَ الغَرَقِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ أي: يَضِلُّ من يدعون من الآلهة، إِلا الله تعالى. ويقال: ضَلَّ بمعنى غاب، يقال: ضَلَّ الماء في اللَّبَن: إِذا غاب، والمعنى: أنكم أخلصتم الدعاء لله، ونسيتم الأنداد. وقرأ مجاهد، وأبو المتوكل: «ضَلَّ مَنْ يَدْعُون» بالياء. فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ عن الإِيمان والإِخلاص وَكانَ الْإِنْسانُ يعني الكافر كَفُوراً بنعمة ربِّه. أَفَأَمِنْتُمْ إِذا خرجتم من البحر أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «نخسف بكم» «أو نرسل» «أن نعيدكم» «فنرسل» «فنغرقكم» بالنون في الكل. وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، بالياء في الكل. وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، بالياء في الكلّ. ومعنى يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ، أي: نغيبكم ونذهبكم في ناحية البر، والمعنى: إِن حكمي نافذ في البرّ نفوذه في البحر، أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن الحاصب: حجارة من السماء، قاله قتادة. والثاني:
أنه الريح العاصف تحصب، قاله أبو عبيدة، وأنشد للفرزدق:
(١) سورة فصلت: ٤٠. [.....]
(٢) سورة الكهف: ٢٩.
(٣) سورة الحجر: ٤٢.
38
مُسْتَقْبِلِينَ شَمَالَ الريح تَضْرِبُهُم بِحَاصِبٍ كنَدِيفِ القُطْنِ مَنْثُورِ
وقال ابن قتيبة: الحاصب: الريح، سميت بذلك لأنها تَحْصِبُ، أي: ترمي بالحصباء، وهي الحصى الصغار. وقال ابن الأنباري: قال اللغويون: الحاصب الريح التي فيها الحصى. وإِنما قال في الريح: حاصِباً ولم يقل: «حاصبة» لأنه وصْفٌ لزم الريح ولم يكن لها مذكَّر تنتقل إِليه في حال، فكان بمنزلة قولهم: «حائض» للمرأة، حين لم يُقَلْ: رجل حائض. قال: وفيه جواب آخر، وهو أن نعت الريح عُريٌ من علامة التأنيث، فأشبهت بذلك أسماء المذكَّر، كما قالوا: السماء أمطر، والأرض أنبت. والثالث: أن الحاصب: التراب الذي فيه حصباء، قاله الزّجّاج.
قوله تعالى: ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا أي: مانعاً وناصراً.
قوله تعالى: أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ أي: في البحر تارَةً أُخْرى أي: مَرَّة أُخرى، والجمع:
تارات. فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ قال أبو عبيدة: هي التي تقصف كل شيء. قال ابن قتيبة:
القاصف: الريح التي تقصف الشجر، أي: تكسره.
قوله تعالى: فَيُغْرِقَكُمْ وقرأ أبو المتوكّل، وأبو جعفر، وشيبة، ورويس: «فتغرقكم» بالتاء، وسكون الغين، وتخفيف الراء. وقرأ أبو الجوزاء، وأيوب: «فيغرِّقكم» بالياء، وفتح الغين، وتشديدها.
وقرأ أبو رجاء مثله، إِلا أنه بالتاء بِما كَفَرْتُمْ أي: بكفركم حيث نجوتم في المرة الأولى، ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً قال ابن قتيبة: أي: من يتبع بدمائكم، أي: يطالبنا. قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: ريح العذاب أربع، اثنتان في البر، واثنتان في البحر، فاللَّتان في البَرِّ: الصَّرْصَر، والعَقِيم، واللتان في البحر: العاصف، والقاصف.
قوله تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ أي: فضَّلناهم. قال أبو عبيدة: و «كرَّمنا» أشد مبالغة من «أكرمنا». وللمفسرين فيما فُضِّلوا به أحد عشر قولاً: أحدها: أنهم فضِّلوا على سائر الخلق غير طائفة من الملائكة: جبريل، وميكائيل، وإِسرافيل، ومَلَك الموت، وأشباههم، قاله أبو صالح عن ابن عباس. فعلى هذا يكون المراد: المؤمنين منهم، ويكون تفضيلهم بالإِيمان. والثاني: أن سائر الحيوان يأكل بفيه، إِلا ابن آدم فإنه يأكل بيده، رواه ميمون بن مهران عن ابن عباس. وقال بعض المفسرين:
المراد بهذا التفضيل: أكلهم بأيديهم، ونظافة ما يقتاتونه، إِذ الجن يقتاتون العظام والرَّوث. والثالث:
فُضِّلوا بالعقل، روي عن ابن عباس. والرابع: بالنطق والتمييز، قاله الضحاك. والخامس: بتعديل القامة وامتدادها، قاله عطاء. والسادس: بأن جعل محمّدا صلى الله عليه وسلّم منهم، قاله محمد بن كعب. والسابع: فضِّلوا بالمطاعم واللَّذات في الدنيا، قاله زيد بن أسلم. والثامن: بحسن الصورة، قاله يمان. والتاسع:
بتسليطهم على غيرهم من الخلق، وتسخير سائر الخلق لهم، قاله محمد بن جرير. والعاشر: بالأمر والنهي، ذكره الماوردي. والحادي عشر: بأن جعلت اللِّحى للرجال، والذوائب للنساء، ذكره الثعلبي.
فإن قيل: كيف أطلق ذكر الكرامة على الكل، وفيهم الكافر المُهان؟ فالجواب من وجهين:
أحدهما: أنه عامل الكل معاملة المكرَم بالنعم الوافرة. والثاني: أنه لما كان فيهم من هو بهذه الصفة، أجرى الصِّفة على جماعتهم، كقوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ «١».
(١) سورة آل عمران: ١١٠.
39
قوله تعالى: وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ على أكباد رطبة، وهي: الإبل، والخيل، والبغال، والحمير، وفي الْبَحْرِ على أعواد يابسة، وهي: السفن. وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فيه قولان: أحدهما: الحلال.
والثاني: المستطاب في الذوق. قوله تعالى: وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا فيه قولان:
أحدهما: أنه على لفظه، وأنهم لم يفضَّلوا على سائر المخلوقات. وقد ذكرنا عن ابن عباس أنهم فضلوا على سائر الخلق غير طائفة من الملائكة. وقال غيره: بل الملائكة أفضل. والثاني: أن معناه:
وفضَّلناهم على جميع مَنْ خلقنا. والعرب تضع الأكثر والكثير في موضع الجمع، كقوله تعالى: يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ «١».
(٩٠٥) وقد روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «المؤمن أكرم على الله عزّ وجلّ من الملائكة الذين عنده».
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٧١ الى ٧٢]
يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧١) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٧٢)
قوله تعالى: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ قال الزجاج: هو منصوب على معنى: «اذكر يوم ندعو كل أُناس بإمامهم». والمراد به: يوم القيامة. وقرأ الحسن البصري: «يوم يدعو» بالياء (كلَّ) بالنصب. وقرأ أبو عمران الجوني: «يوم يُدعى» بياء مرفوعة، وفتح العين، وبعدها ألف، «كلُّ» بالرفع.
وفي المراد بإمامهم أربعة أقوال «٢» : أحدها: أنه رئيسهم، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وروى عنه سعيد بن جبير أنه قال: إِمام هدى، أو إِمام ضلالة. والثاني: عملُهم، رواه عطية عن ابن عباس، وبه
ضعيف جدا، أخرجه ابن ماجة ٣٩٤٧ من طريق الوليد بن مسلم عن حماد بن سلمة عن أبي المهزم يزيد بن سفيان قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «المؤمن أكرم على الله عز وجل، من بعض ملائكته». وقال البوصيري في «الزوائد» : إسناده ضعيف لضعف يزيد بن سفيان، أبي المهزّم. وأخرجه البيهقي في «الشعب» ١٥٢ عن أبي هريرة موقوفا. وقال: كذا رواه أبو المهزّم عن أبي هريرة موقوفا، وأبو المهزّم متروك.
وله شاهد أخرجه البيهقي في «الشعب» ١٥٣ من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وإسناده ضعيف جدا لأجل عبيد الله بن تمام. وقال البيهقي: تفرّد به ابن تمام، وقال البخاري: عنده عجائب ورواه غيره موقوفا، وهو الصحيح اه. ومن طريق عبيد الله بن تمام أخرجه الخطيب ٤/ ٤٥ والطبراني كما في «المجمع» ٢٦٦ وأعله الهيثمي بابن تمام. وأخرجه الطبراني كما في «المجمع» ٢٦٥ من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وقال الهيثمي: فيه إبراهيم بن عبد الله المصيصي، وهو متروك، ورواه في «الأوسط» وفيه طلحة بن زيد وهو كذاب اه. وورد من حديث جابر أخرجه البيهقي في «الشعب» ١٤٩ وقال البيهقي: في ثبوته نظر اه وفيه عبد ربه بن صالح العرشي لم أجد له ترجمة، والحديث غير صحيح بكل حال. والأشبه كونه من كلام عبد الله بن عمرو بن العاص، وقد أخذه من الزاملتين اللتين وقعتا له يوم اليرموك والله أعلم. والحديث استغربه ابن كثير جدا. انظر «تفسيره» ٣/ ٦٨.
__________
(١) سورة الشعراء: ٢٢٣.
(٢) قال الطبري رحمه الله ٨/ ١١٦: وأولى هذه الأقوال عندنا بالصواب، قول من قال: معنى ذلك: يوم ندعو كل أناس بإمامهم الذي كانوا يقتدون به، ويأتمون به في الدنيا.
40
قال الحسن، وأبو العالية. والثالث: نبيُّهم، قاله أنس بن مالك، وسعيد بن جبير، وقتادة، ومجاهد في رواية. والرابع: كتابُهم، قاله عكرمة، ومجاهد في رواية. ثم فيه قولان: أحدهما: أنه كتابهم الذي فيه أعمالهم، قاله قتادة، ومقاتل. والثاني: كتابهم الذي أُنزل عليهم، قاله الضحاك، وابن زيد. فعلى القول الأول يقال: يا متَّبعي موسى، يا متَّبعي عيسى، يا متَّبعي محمَّدٍ ويقال: يا متَّبعي رؤساء الضلالة.
وعلى الثاني: يا من عمل كذا وكذا. وعلى الثالث: يا أُمَّة موسى، يا أُمَّة عيسى، يا أُمَّة محمد. وعلى الرابع: يا أهل التوراة، يا أهل الإِنجيل، يا أهل القرآن. أو يا صاحب الكتاب الذي فيه عمل كذا وكذا.
قوله تعالى: فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ معناه: يقرءون حسابهم، لأنهم أخذوا كتبهم بأيْمانهم. قوله تعالى: وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا أي: لا ينقصون من ثوابهم بقدر الفتيل، وقد بيَّنَّاه في سورة النساء «١».
قوله تعالى: وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر: أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى مفتوحتي الميم، وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم بكسر الميمين، وقرأ أبو عمرو:
«في هذه أعمى» بكسر الميم، «فهو في الآخرة أعمى» بفتحها.
وفي المشار إِليها ب هذِهِ قولان «٢» : أحدهما: أنها الدنيا، قاله مجاهد. ثم في معنى الكلام خمسة أقوال: أحدها: من كان في الدنيا أعمى عن معرفة قدرة الله في خَلْق الأشياء، فهو عمّا وُصِف له في الآخرة أعمى، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثاني: من كان في الدنيا أعمى بالكفر، فهو في الآخرة أعمى، لأنه في الدنيا تُقبَل توبته، وفي الآخرة لا تُقبَل، قاله الحسن. والثالث: من عمي عن آيات الله في الدنيا، فهو عن الذي غيِّب عنه من أمور الآخرة أشدّ عمىً. والرابع: من عمي عن نِعَم الله التي بيَّنها في قوله تعالى: رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ إِلى قوله: تَفْضِيلًا فهو في الآخرة أعمى عن رشاده وصلاحه، ذكرهما ابن الأنباري. والخامس: من كان فيها أعمى عن الحُجَّة، فهو في الآخرة أعمى عن الجنة، قاله أبو بكر الورّاق. والثاني: أنها النِّعم. ثم في الكلام قولان:
أحدهما: من كان أعمى عن النِّعم التي تُرى وتُشاهَد، فهو في الآخرة التي لم تُر أعمى، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثاني: من كان أعمى عن معرفة حق الله في هذه النّعم المذكورة في قوله تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ ولم يؤدِّ شكرها، فهو فيما بينه وبين الله مما يُتقرَّب به إِليه أعمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا، قاله السدي. قال أبو علي الفارسي: ومعنى قوله: فِي الْآخِرَةِ أَعْمى أي: أشدُّ عمىً، لأنه كان في الدنيا يمكنه الخروج عن عَمَاهُ بالاستدلال، ولا سبيل له في الآخرة إِلى الخروج من عماه. وقيل: معنى العمى في الآخرة: أنه لا يهتدي إِلى طريق الثواب، وهذا كلُّه من عمى القلب. فإن قيل: لم قال:
فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى ولم يقل: أشدُّ عمىً، لأن العمى خِلْقة بمنزلة الحُمرة، والزُّرقة، والعرب تقول:
ما أشدَّ سواد زيد، وما أبْيَنَ زرقة عمرو، وقلَّما يقولون: ما أسود زيداً، وما أزرق عمراً؟ فالجواب: أن
(١) سورة النساء: ٤٩.
(٢) قال الطبري رحمه الله ٨/ ١١٨: وأولى الأقوال عندي بالصواب، قول من قال: معنى ذلك: ومن كان في هذه الدنيا أعمى عن حجج الله على أنه المنفرد بخلقها وتدبيرها، وتصريف ما فيها، فهو في أمر الآخرة التي لم يرها، ولم يعاينها، وفيما هو كائن فيها أعمى وأضلّ سبيلا. يقول: وأضل منه في أمر الدنيا التي عاينها ورآها.
41
المراد بهذا العمى عمى القلب، وذلك يتزايد ويحدث منه شيء بعد شيء، فيخالف الخِلَقَ اللاّزِمة التي لا تزيد، نحو عمى العين، والبياض، والحمرة، ذكره ابن الأنباري.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٧٣ الى ٧٧]
وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (٧٣) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (٧٤) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (٧٥) وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (٧٦) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (٧٧)
قوله تعالى: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ في سبب نزولها أربعة أقوال «١» :
(٩٠٦) أحدها: أن وفد ثَقيف أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقالوا: متِّعنا باللات سَنة، وحرِّمْ وادينا كما حرَّمْتَ مكة، فأبى ذلك، فأقبلوا يُكثرون مسألتهم، وقالوا: إِنا نحب أن تعرِّف العرب فضلنا عليهم، فإن خشيتَ أن يقول العرب: أعطيتهم ما لم تعطنا، فقل: الله أمرني بذلك فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلّم عنهم ودخلهم الطمع، فنزلت هذه الآية، رواه عطاء عن ابن عباس. وروى عطية عن ابن عباس أنهم قالوا: أجِّلنا سنة، ثم نُسلم ونكسر أصنامنا، فهمَّ أن يؤجِّلهم، فنزلت هذه الآية.
(٩٠٧) والثاني: أنّ المشركين قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلّم: لا نكفُّ عنك إِلا بأن تُلِمَّ بآلهتنا، ولو بأطراف أصابعك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ما علَيَّ لو فعلت والله يعلم إِني لَكاره» ؟ فنزلت هذه الآية، قاله سعيد بن جبير، وهذا باطل لا يجوز أن يُظَنَّ برسول الله صلى الله عليه وسلّم، ولا ما ذكرنا عن عطية من أنه همَّ أن يُنْظِرهم سنة، وكل ذلك مُحال في حَقِّه وفي حق الصحابة أنهم رَوَواْ عنه.
(٩٠٨) والثالث: أن قريشاً خَلَواْ برسول الله ليلةً إِلى الصباح يكلِّمونه ويفخِّمونه، ويقولون: أنت سيدنا وابن سيدنا، وما زالوا به حتى كاد يقاربهم في بعض ما يريدون، ثم عصمه الله من ذلك، ونزلت هذه الآية، قاله قتادة.
واه بمرة. أخرجه الطبري ٢٢٥٤٠ عن عطية العوفي عن ابن عباس مختصرا بإسناد فيه مجاهيل، وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٥٨١ بدون إسناد عن عطاء عن ابن عباس، فالخبر واه جدا فالسورة مكية، وتحريم مكة كان في حجة الوداع، والحديث ليس بشيء لخلوه عن الإسناد.
ضعيف جدا. أخرجه الطبري ٢٢٥٣٦ عن سعيد بن جبير مرسلا، ومع إرساله فيه يعقوب القمي، وشيخه جعفر بن أبي المغيرة، وكلاهما غير قوي.
باطل. أخرجه الطبري ٣٣٥٣٧ عن قتادة مرسلا، فهو ضعيف، والمتن باطل بهذا اللفظ فإن قريشا لم تقل للنبي صلى الله عليه وسلّم أنت سيدنا.
__________
(١) قال الطبري رحمه الله ٨/ ١١٩: والصواب من القول أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن نبيه صلى الله عليه وسلّم، أن المشركين كادوا أن يفتنوه عما أوحاه الله إليه ليعمل بغيره، وذلك هو الافتراء على الله. ولا بيان في الكتاب ولا في خبر يقطع العذر أي ذلك كان، والاختلاف فيه موجود فلا شيء فيه أصوب من الإيمان بظاهره. حتى يأتي خبر يجب التسليم له ببيان ما عني بذلك منه.
42
(٩٠٩) والرابع: أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلّم: اطرد عنك سُقَاط الناس، ومواليهم، وهؤلاء الذين رائحتهم رائحة الضأن، وذلك أنهم كانوا يلبَسون الصوف، حتى نجالسَك ونسمعَ منك، فهمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يفعل ما يستدعي به إِسلامهم، فنزلت هذه الآيات. حكاه الزجاج قال: ومعنى الكلام: كادوا يفتنونك، ودخلت «إِن» واللام للتوكيد. قال المفسرون: وإِنما قال: لَيَفْتِنُونَكَ، لأن في إِعطائهم ما سألوا مخالفةً لحكم القرآن.
قوله تعالى: لِتَفْتَرِيَ أي: لتختلقَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وهو قولهم: قل الله أمرني بذلك، وَإِذاً لو فعلت ذلك لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا أي: والَوْكَ وصافَوْكَ.
قوله تعالى: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ على الحق، لِعِصمتنا إِياك لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ أي:
هممتَ وقاربتَ أن تَميل إِلى مرادهم شَيْئاً قَلِيلًا قال ابن عباس: وذلك حين سكت عن جوابهم، والله أعلم بنيَّته. وقال ابن الأنباري: الفعل في الظاهر للنّبيّ صلى الله عليه وسلّم، وفي الباطن للمشركين، وتقديره: لقد كادوا يُركنونك إِليهم، وينسبون إِليك ما يشتهونه مما تكرهه، فنسب الفعل إِلى غير فاعله عند أمن اللَّبْس، كما يقول الرجل للرجل: كدت تقتل نفسَك اليوم، يريد: كدت تفعل فعلاً يقتلك غيرك من أجله فهذا المجاز والاتساع وشبيه بهذا قوله تعالى: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ «١»، وقول القائل:
لا أرينّكَ في هذا الموضع.
قوله تعالى: إِذاً لَأَذَقْناكَ المعنى: لو فعلت ذلك الشيء القليل لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ أي: ضِعف عذاب الحياة وَضِعْفَ عذاب الْمَماتِ، ومثله قول الشاعر:
واستبَّ بَعْدَكَ يا كُلَيْبُ المَجْلِسُ «٢»
أي: أهل المجلس. وقال ابن عباس: ضِعْفَ عذاب الدنيا والآخرة. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم معصوماً، ولكنه تخويف لأُمَّته، لئلا يركن أحد من المؤمنين إِلى أحد من المشركين في شيء من أحكام الله وشرائعه.
قوله تعالى: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ في سبب نزولها قولان «٣» :
(٩١٠) أحدهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما قَدِم المدينة، حسدته اليهود على مُقامه بالمدينة، وكرهوا
ضعيف. أخرجه ابن أبي حاتم عن جبير بن نفير كما في «الدر» ٣/ ٣٥٢ وهذا مرسل، فهو ضعيف، ولا يصح في هذا الباب شيء.
باطل. ذكره الواحدي عن ابن عباس في «أسباب النزول» ٥٨٤ بدون إسناد وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية:
وهذا القول ضعيف، لأن الآية مكية. اه والصواب أنه باطل، فالسورة مكية، وكيد اليهود وحسدهم كان في المدينة، وانظر «تفسير القرطبي» ١٠/ ٢٦١ بتخريجنا.
__________
(١) سورة البقرة: ١٣٢.
(٢) هو عجز بيت لعدي بن ربيعة وصدره: «نبئت أن النار بعدك أوقدت». كما في «الحماسة» ٢/ ٩٢٩. ومعنى قوله: أوقدت نيران الحرب لمقتل كليب.
(٣) قال الطبري رحمه الله ٨/ ١٢١: وأولى القولين عندي بالصواب، قول قتادة ومجاهد، وذلك أن قوله وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ في سياق خبر الله عزّ وجلّ عن قريش وذكره إياهم، ولم يجر لليهود قبل ذلك ذكر فيوجه قوله إِنْ كادُوا إلى أنه خبر عنهم.
43
قربه، فقالوا: يا محمد أنبيٌ أنت؟ قال: نعم، قالوا: فو الله لقد علمتَ ما هذه بأرض الأنبياء، وإن أرض الأنبياء الشام، فان كنتَ نبياً فائت الشام، فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس. وقال سعيد بن جبير: همّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يشخص عن المدينة، فنزلت هذه الآية. وقال عبد الرحمن بن غَنْم: لمّا قالت له اليهود هذا، صدَّق ما قالوا، وغزا غزوة تبوك لا يريد إِلا الشام، فلما بلغ تبوكَ، نزلت هذه الآية «١».
(٩١١) والثاني: أنهم المشركون أهل مكة هَمُّوا باخراج رسول الله صلى الله عليه وسلّم من مكة، فأمره الله بالخروج، وأنزل هذه الآية إِخباراً عما هَمُّوا به، قاله الحسن، ومجاهد. وقال قتادة: هم أهل مكة باخراجه من مكة، ولو فعلوا ذلك ما نُوظِروا، ولكنَّ الله كفَّهم عن إِخراجه حتى أمره بالخروج. وقيل:
ما لبثوا بعد ذلك حتى بعث الله عليهم القتل ببدر.
فعلى القول الأول، المشار إِليهم: اليهود، والأرض: المدينة. وعلى الثاني: هم المشركون، والأرض: مكة، وقد ذكرنا معنى «الاستفزاز» آنفا «٢»، وقيل: المراد به ها هنا: القتل، ليخرجوه من الأرض كلِّها، روي عن الحسن.
قوله تعالى: وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ قرأ أبن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم:
«خلفك». وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: «خلافك». قال الأخفش «خلافك» في معنى خلفك، والمعنى: لا يلبثون بعد خروجك إِلَّا قَلِيلًا أي: لو أخرجوك لا ستأصلناهم بعد خروجك بقليل، وقد جازاهم الله على ما همُّوا به، فقتل صناديد المشركين ببدر، وقتل من اليهود بني قريظة، وأجلى النضير. وقال ابن الأنباري: معنى الكلام: لا يَلْبَثون على خِلافك ومخالفتك، فسقط حرف الخفض. وقرأ أبو رزين، وأبو المتوكل: «خُلاَّفُكَ» بضم الخاء، وتشديد اللام، ورفع الفاء. قوله تعالى: سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قال الفراء: نصب السُّنَّة على العذاب المُضْمَر، أي: يعذَّبوَن كسُنَّتنا فيمن أَرسلْنا. وقال الأخفش: المعنى: سَنّها سُنَّةً. وقال الزّجّاج: انتصب بمعنى
عزاه الواحدي في «الأسباب» ٥٨٦ لمجاهد وقتادة والحسن. وأخرجه الطبري ٢٢٥٥٠ و ٢٢٥٥١ عن قتادة مرسلا بنحوه. وأثر مجاهد لم أره بهذا اللفظ مسندا وكذا أثر الحسن، وإنما أخرجهما الطبري ٢٢٥٥٢ و ٢٢٥٥٣ عنهما بلفظ: «لو أخرجت قريش محمدا لعذبوا بذلك».
__________
(١) واه بمرة. أخرجه البيهقي في «الدلائل» ٥/ ٢٥٤- ٢٥٥ وابن أبي حاتم وابن عساكر كما في «الدر» ٤/ ٣٥٢ عن عبد الرحمن بن غنم، وهذا مرسل، وإسناده ضعيف لضعف أحمد بن عبد الجبار. وقال الحافظ ابن حجر في «تخريج الكشاف» ٢/ ٦٨٦: لم أجده، وذكره السهيلي في «الروض» عن عبد المجيد بن بهرام عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم... فذكره اه. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٥٨٥ بدون سند عن عبد الرحمن بن غنم. ورد الحافظ ابن كثير هذا في «تفسيره» ٣/ ٧٠ وقال: والأظهر أن هذا ليس بصحيح فإن النبي صلى الله عليه وسلّم لم يغز تبوك عن قول اليهود، وإنما غزاها امتثالا لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وغزاها ليقتص وينتقم لأهل مؤتة من أصحابه والله أعلم.
قلت: الخبر منكر شبه موضوع. فالسورة مكية والخبر مدني، وبعيد أن يصغي رسول الله صلى الله عليه وسلّم لليهود.
(٢) سورة الإسراء: ٦٤.
44
«لا يلبثون» وتأويله: إِنّا سَنَنَّا هذه السُنَّة فيمن أَرسَلْنا قبلك أنهم إِذا أَخرجوا نبيَّهم أو قتلوه، لم يلبث العذاب أن ينزل بهم.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٧٨ الى ٨١]
أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (٧٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (٧٩) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (٨٠) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (٨١)
قوله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ أي: أَدِّها لِدُلُوكِ الشَّمْسِ أي: عند دُلوكها. وذكر ابن الأنباري في «اللام» قولين: أحدهما: أنها بمعنى «في». والثاني: أنها مؤكّدة، كقوله تعالى: رَدِفَ لَكُمْ «١». وقال أبو عبيدة: دُلوكها: من عند زوالها إِلى أن تغيب. وقال الزجاج: مَيْلها وقتَ الظهيرة دُلوك، ومَيْلها للغروب دُلوك. وقال الأزهري: معنى «الدُّلوك» في كلام العرب: الزوال، ولذلك قيل للشمس إِذا زالت نصف النهار: دالكة، وإِذا أفلت: دالكة، لأنها في الحالين زائلة. وللمفسّرين في المراد بالدّلوك ها هنا قولان «٢» : أحدهما: أنه زوالها نصف النهار.
(٩١٢) روى جابر بن عبد الله قال: دعوت رسول الله صلى الله عليه وسلّم ومن شاء من أصحابه، فطعِموا عندي، ثم خرجوا حين زالت الشمس، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقال: «اخرج يا أبا بكر فهذا حين دلكت الشمس» وهذا قول ابن عمر، وأبي برزة، وأبي هريرة، والحسن، والشعبي، وسعيد بن جبير، وأبي العالية، ومجاهد، وعطاء، وعبيد بن عمير، وقتادة، والضحاك، ومقاتل، وهو اختيار الأزهري. قال الأزهري: لتكون الآية جامعة للصلوات الخمس، فيكون المعنى: أقم «٣» الصلاة من وقت زوال الشمس
حسن. أخرجه الطبري ٢٢٥٨٣ عن جابر به، وإسناده ضعيف لضعف محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وفيه راو لم يسمّ. وكرره برقم ٢٢٥٨٤ عن جابر بسند ليّن لأجل نبيح العنزي فإنه مقبول كما في «التقريب» فهذا يقوي ما قبله، وقد ورد تفسير الدلوك بالزوال عن جماعة من الصحابة والتابعين، وهو الصحيح، والله أعلم.
__________
(١) سورة النمل: ٧٢. [.....]
(٢) قال الطبري رحمه الله ٨/ ١٢٦: وأولى القولين في ذلك بالصواب، قول من قال: الصلاة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلّم بإقامتها عند غسق الليل، هي صلاة المغرب دون غيرها. لأن غسق الليل هو إقبال الليل وظلامه وذلك لا يكون إلا بعد مغيب الشمس.
(٣) فائدة: قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» ٢/ ١١- ١٢: وتجب جميع الصلوات بدخول وقتها في حق من هو أهل الوجوب فأما أهل الأعذار، كالحائض والمجنون والصبيّ والكافر، فتجب في حقه بأول جزء أدركه من وقتها بعد زوال عذره. وبهذا قال الشافعي، رحمه الله. وقال أبو حنيفة، رحمه الله: يجب تأخّر وقتها إذا بقي منه ما لا يتسع لأكثر منها، لأنه في أول الوقت يتخيّر بين فعلها وتركها، فلم تكن واجبة كالنافلة.
ولنا، أنه مأمور بها في أول الوقت بقوله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ والأمر يقتضي الوجوب على الفور، فلو أدرك جزءا من أول وقتها ثم جنّ، أو حاضت المرأة لزمها القضاء إذا أمكنها. وقال الشافعي وإسحاق: لا يجب القضاء بما دون مضي زمن يمكن فعلها فيه، كما لو طرأ العذر قبل دخول الوقت.
45
إِلى غسق الليل، فيدخل فيها الأولى، والعصر، وصلاتا غسق الليل، وهما العشاءان، ثم قال: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ، فهذه خمس صلوات.
والثاني: أنه غروبها، قاله ابن مسعود، والنخعي، وابن زيد، وعن ابن عباس كالقولين، قال الفراء: ورأيت العرب تذهب في الدُّلوك إِلى غيبوبة الشمس، وهذا اختيار ابن قتيبة، قال: لأن العرب تقول: دَلَكَ النجم: إِذا غاب قال ذو الرمة:
مَصَابِيْحُ لَيْسَتْ باللّواتي تَقُوْدُهَا نُجُومٌ وَلاَ بالآفلاتِ الدَّوالِكِ «١»
وتقول في الشمس: دلكتْ بَرَاحِ «٢»، يريدون: غربت، والناظر قد وضع كفَّه على حاجبه ينظر إِليها، قال الشاعر:
والشَّمْسُ قَدْ كادَتْ تَكُونُ دَنَفَا أدْفَعُها بالرَّاحِ كَيْ تَزَحْلَفَا «٣»
فشبّهها بالمريض الدَّنَف، لأنها قد همَّت بالغروب كما قارب الدَّنِف الموت، وإِنما ينظر إِليها من تحت الكف ليعلم كم بقي لها إِلى أن تغيب، ويتوقى الشعاع بكفِّه. فعلى هذا، المراد بهذه الصلاة:
المغرب. فأما غسق الليل فظلامُه. وفي المراد بالصلاة المتعلقة بغسق الليل ثلاثة أقوال: أحدها:
العشاء، قاله ابن مسعود. والثاني: المغرب، قاله ابن عباس. قال القاضي أبو يعلى: فيحتمل أن يكون المراد بيانَ وقت المغرب، أنه من غروب الشمس إِلى غسق الليل. والثالث: المغرب والعشاء، قاله الحسن.
قوله تعالى: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ المعنى: وأقم قراءة الفجر. قال المفسرون: المراد به: صلاة الفجر. قال الزجاج: وفي هذا فائدة عظيمة تدل على أن الصلاة لا تكون إِلا بقراءة، حين سمِّيت الصلاة قرآناً. قوله تعالى: إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً.
(٩١٣) روى أَبو هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم قال: «تشهده ملائكة الليل، وملائكة النهار».
قوله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ قال ابن عباس: فَصَلَِّ بالقرآن. قال مجاهد، وعلقمة، والأسود: التهجُّد بعد النوم. قال ابن قتيبة: تهجَّدت: سهرت، وهجدت: نمت. وقال ابن الأنباري:
صحيح. أخرجه الترمذي ٣١٣٥ والنسائي ١/ ٢٤١ وفي «التفسير» ٣١٣ وابن ماجة ٦٧٠ وأحمد ٢/ ٤٧٤ والطبري ٢٢٥٩٤ من حديث أبي هريرة. وقال الترمذي: حسن صحيح. وصححه الحاكم ١/ ٢١١ على شرطهما، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا.
وهو في الصحيحين عنه مرفوعا بلفظ: «فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الصبح» يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً. أخرجه البخاري ٦٤٨ و ٤٧١٧ ومسلم ٨٤٩ والنسائي في «التفسير» ٣١٣ وابن حبان ٢٠٥١ من حديث أبي هريرة. وانظر «فتح القدير» للشوكاني ١٤٥٤ و ١٤٥٥ بتخريجنا.
__________
(١) في «اللسان» : أفل: غاب وإذا غابت الشمس فهي آفلة، وكذلك القمر يأفل: إذا غاب.
(٢) في «اللسان» : براح: اسم للشمس، سميت بذلك لانتشارها وبيانها. وبراح: بكسر الباء، وهي باء الجر، وهو جمع راحة وهي الكف. ومن قال: دلكت الشمس براح: أنها كادت تغرب.
(٣) البيت للعجّاج كما في ديوانه: ٨٢ و «اللسان» - زحلف- ويقال للشمس إذا مالت للمغيب قد تزحلفت.
46
التّهجّد ها هنا بمعنى: التيقُّظ والسَّهَر، واللغويون يقولون: هو من حروف الأضداد يقال للنائم: هاجِد ومتهجِّد، وكذلك للساهر، قال النابغة:
وَلَو انَّها عَرَضَتْ لأشْمَطَ رَاهِبٍ عَبَد الإِلهَ صَرُوْرَةٍ مُتَهَجِّدِ
لَرَنَا لِبَهْجَتِهَا وَحُسْنِ حَدِيْثِهَا وَلَخَالَهُ رَشَداً وَإِنْ لَمْ يَرْشُدِ «١»
يعني بالمتهجد: الساهر، وقال لبيد:
قَال هَجِدْنَا فقد طال السّرى «٢»
أي: نَوِّمْنا. وقال الأزهري: المتهجِّد: القائم إِلى الصلاة من النَّوم: وقيل له: متهجد، لإِلقائه الهُجُود عن نفسه، كما يقال: تَحَرَّج وتأثَّم.
قوله تعالى: نافِلَةً لَكَ النافلة في اللغة: ما كان زائداً على الأصل.
وفي معنى هذه الزيادة في حقه قولان «٣» : أحدهما: أنها زائدة فيما فُرِض عليه، فيكون المعنى:
فريضة عليك، وكان قد فرض عليه قيام الليل، هذا قول ابن عباس، وسعيد بن جبير. والثاني: أنها زائدة على الفرض، وليست فرضاً فالمعنى: تطوعاً وفضيلة. قال أبو أُمامة، والحسن، ومجاهد: إنما النّافلة للنبيّ صلى الله عليه وسلّم خاصة. قال مجاهد: وذلك أنه قد غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فما زاد على فرضه فهو نافلة له وفضيلة، وهو لغيره كفارة. وذكر بعض أهل العلم: أن صلاة الليل كانت فرضاً عليه في الابتداء، ثم رخِّص له في تركها، فصارت نافلة. وذكر ابن الأنباري في هذا قولين: أحدهما:
يقارب ما قاله مجاهد، فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إِذا تنفَّل لا يقدر له أن يكون بذلك ماحياً للذنوب، لأنه قد غُفر له ما تقدم من ذَنْبه وما تأخَّر، وغيره إِذا تنفَّل كان راجياً، ومقدّراً محو السيئات عنه بالتّنفّل، فالنّافلة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم زيادة على الحاجة، وهي لغيره مفتقَر إِليها، ومأمول بها دفع المكروه. والثاني:
أن النافلة للنبيّ صلى الله عليه وسلّم وأمته، والمعنى: ومن الليل فتهجدوا به نافله لكم، فخوطب النبيّ صلى الله عليه وسلّم بخطاب أمته.
قوله تعالى: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً «عسى» من الله واجبه، ومعنى «يبعثك» يقيمك مَقاماً مَحْمُوداً وهو الذي يحمَده لأجله جميع أهل الموقف. وفيه قولان:
أحدهما: أنه الشفاعة للناس يوم القيامة، قاله ابن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وابن عمر، وسلمان الفارسي، وجابر بن عبد الله، والحسن، وهي رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد.
والثاني: يجلسه على العرش يوم القيامة. روى أبو وائل عن عبد الله أنه قرأ هذه الآية، وقال:
(١) في «اللسان» : الشمط في الشعر: اختلافه بلونين من سواد وبياض. والصّرورة: الذي لم يأت النساء كأنه أصرّ على تركهن.
(٢) هو صدر بيت وعجزه: «وقدرنا إن خنا الدهر غفل».
(٣) قال الطبري رحمه الله ٨/ ١٣٠: وأولى القولين بالصواب في ذلك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان الله تعالى قد خصّه بما فرض عليه من قيام الليل، دون سائر أمته وهو قول ابن عباس. وأما ما ذكر عن مجاهد في ذلك، فقول لا معنى له، وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيما ذكر عنه أكثر ما كان استغفارا لذنوبه بعد نزول قول الله عز وجل عليه لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ.
47
يُقعده على العرش، وكذلك روى الضحاك عن ابن عباس، وليث عن مجاهد.
قوله تعالى: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وقرأ الحسن، وعكرمة، والضحاك، وحميد بن قيس، وقتادة، وابن أبي عبلة بفتح الميم في «مَدخل» و «مَخرج». قال الزجاج: المدخل، بضم الميم: مصدر أدخلته مُدخلاً، ومن قال: مَدخل صدق، فهو على أدخلته، فدخل مَدخل صدق، وكذلك شرح «مَخرج» مثله. وللمفسرين في المراد بهذا المدخل والمخرج أحد عشر قولاً «١» : أحدها: أدخلني المدينة مدخل صدق، وأخرجني من مكة مخرج صدق.
(٩١٤) روى أبو ظبيان عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم بمكة، ثم أمر بالهجرة، فنزلت عليه هذه الآية. وإِلى هذا المعنى ذهب الحسن في رواية سعيد بن جبير، وقتادة، وابن زيد. والثاني:
أدخلني القبر مُدخل صدق، وأخرجني منه مُخرج صدق، رواه العوفي عن ابن عباس. والثالث: أدخلني المدينة، وأخرجني إِلى مكة، يعني: لفتحها، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والرابع: أدخلني مكة مدخل صدق، وأخرجني منها مخرج صدق، فخرج منها آمناً من المشركين، ودخلها ظاهراً عليها يوم الفتح، قاله الضحاك. والخامس: أدخلني مُدخل صدقٍ الجنةَ، وأخرجني مخرج صدق من مكة إِلى المدينة، رواه قتادة عن الحسن. والسادس: أدخِلني في النبوَّة والرسالة، وأخرجني منها مخرج صدق، قاله مجاهد، يعني: أخرجني مما يجب عليَّ فيها. والسابع: أدخِلني في الإِسلام، وأخرجني منه، قاله أبو صالح يعني: من أداء ما وجب عليَّ فيه إِذا جاء الموت. والثامن: أدخِلني في طاعتك، وأخرجني منها، أي: سالماً غير مقصِّر في أدائها، قاله عطاء. والتاسع: أدخِلني الغار، وأخرجني منه، قاله محمد بن المنكدر. والعاشر: أدخلني في الدِّين، وأخرجني من الدنيا وأنا على الحق، ذكره الزجاج.
والحادي عشر: أدخلني مكة، وأخرجني إِلى حُنَين، ذكره أبو سليمان الدمشقي. وأما إِضافة الصدق إِلى المُدخل والمُخرج، فهو مدح لهما. وقد شرحنا هذا المعنى في سورة يونس «٢».
قوله تعالى: وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ أي: من عندك سُلْطاناً وفيه ثلاثة أقوال «٣» : أحدها: أنه التسلُّط على الكافرين بالسيف، وعلى المنافقين باقامة الحدود، قاله الحسن. والثاني: أنه الحُجة البيِّنة، قاله مجاهد. والثالث: المُلك العزيز الذي يُقهَر به العصاة، قاله قتادة. وقال ابن الأنباري: وقوله تعالى: نَصِيراً يجوز أن يكون بمعنى مُنْصَراً، ويصلح أن يكون تأويله ناصرا.
حسن. أخرجه الترمذي ٣١٣٩ وأحمد ١٩٤٨ والحاكم ٣/ ٣ والطبري ٢٢٦٤٤ من حديث ابن عباس وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي! وقال الترمذي: حسن صحيح! مع أن مداره على قابوس بن أبي ظبيان، وهو لين الحديث، لكن ورد معناه من مرسل الحسن، أخرجه الطبري ٢٢٦٤٥ ومن مرسل قتادة ٢٢٦٤٧.
__________
(١) قال الطبري ٨/ ١٣٧: وأشبه هذه الأقوال بالصواب في تأويل ذلك، قول من قال: معنى ذلك: وأدخلني المدينة مدخل صدق، وأخرجني من مكة مخرج صدق. اه ووافقه ابن كثير في «تفسيره» ٣/ ٧٧.
(٢) سورة يونس: ٢.
(٣) قال الطبري رحمه الله ٨/ ١٣٨: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: ذلك أمر من الله تعالى نبيّه بالرغبة إليه في أن يؤتيه سلطانا نصيرا له على من بغاه وكاده، وحاول منعه من إقامته فرائض الله في نفسه وعباده. ووافقه ابن كثير في «تفسيره» ٣/ ٧٧.
48
قوله تعالى: وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ فيه أربعة أقوال «١» : أحدها: أن الحق: الإِسلام، والباطل: الشرك، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أن الحق: القرآن، والباطل: الشيطان، قاله قتادة. والثالث: أن الحق: الجهاد، والباطل: الشرك، قاله ابن جريج. والرابع: الحق: عبادة الله، والباطل: عبادة الأصنام، قاله مقاتل. ومعنى «زهق» : بَطَل واضمحلَّ. وكلُّ شيء هلك وبَطَل فقد زَهَق، وزَهَقت نفسُه: تلفت.
(٩١٥) وروى ابن مسعود أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم دخل مكة وحول البيت ثلاثمائة وستون صنماً، فجعل يطعنها ويقول: «جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً».
فإن قيل: كيف قلتم: إنّ وَزَهَقَ بمعنى بَطَل، والباطل موجود معمول عليه عند أهله؟
فالجواب: أن المراد من بطلانه وهلكته: وضوح عيبه، فيكون هالكاً عند المتدبِّر الناظر.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٨٢]
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (٨٢)
قوله تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ «من» ها هنا لبيان الجنس، فجميع القرآن شفاء.
وفي هذا الشفاء ثلاثة أقوال: أحدها: شفاء من الضلال، لما فيه من الهدى. والثاني: شفاء من السَّقم، لما فيه من البركة. والثالث: شفاء من البيان للفرائض والأحكام. وفي «الرحمة» قولان: أحدهما:
النعمة. والثاني: سبب الرحمة. قوله تعالى: وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ يعني المشركين إِلَّا خَساراً لأنهم يكفرون به، ولا ينتفعون بمواعظه، فيزيد خسرانهم.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٨٣ الى ٨٤]
وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (٨٣) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (٨٤)
قوله تعالى: وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ قال ابن عباس: الإنسان ها هنا: الكافر، والمراد به الوليد بن المغيرة. قال المفسرون: وهذا الإِنعام: سَعة الرزق، وكشف البلاء. وَنَأى بِجانِبِهِ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم: «ونأى» على وزن «نعى» بفتح النون والهمزة. وقرأ ابن عامر: «ناء» مثل «باع». وقرأ الكسائي، وخلف عن سليم عن حمزة: «وناء» بامالة النون والهمزة.
وروى خلاَّد عن سليم: «نئي» بفتح النون، وكسر الهمزة، والمعنى: تباعد عن القيام بحقوق النّعم،
صحيح. أخرجه البخاري ٢٤٧٨ و ٤٢٨٧ و ٤٧٢٠ ومسلم ١٧٨١ والترمذي ٣١٣٨ والنسائي في «التفسير» ٣١٧ وابن حبان ٥٨٦٢ والطبراني ١٠٤٢٧ والبيهقي ٦/ ١٠١ من حديث ابن مسعود. وانظر «تفسير الشوكاني» ١٤٦٣ بتخريجنا.
__________
(١) قال الطبري رحمه الله ٨/ ١٣٩: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: أمر الله تبارك وتعالى نبيه عليه الصلاة والسلام أن يخبر المشركين أن الحق قد جاء وهو كل ما كان لله فيه رضا وطاعة، وأن الباطل قد زهق، يقول: وذهب كل ما كان لا رضا لله فيه ولا طاعة مما هو له معصية وللشيطان طاعة، وبذلك جاء القرآن والتنزيل، وعلى ذلك قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلّم أهل الشرك بالله، أعني على إقامة جميع الحق، وإبطال جميع الباطل.
وقيل: تعظَّم وتكبَّر. وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ أي: نزل به البلاء والفقر كانَ يَؤُساً أي: قَنوطاً شديد اليأس، لا يرجو فضل الله. قوله تعالى: قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فيها ثلاثة أقوال: أحدها: على ناحيته، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير. قال الفراء: الشاكلة: الناحية، والجديلة، والطريقة، سمعت بعض العرب يقول: وعبد الملك إِذ ذاك على جديلته، وابن الزبير على جديلته، يريد: على ناحيته. وقال أبو عبيدة: على ناحيته وخليقته. وقال ابن قتيبة: على خليقته وطبيعته، وهو من الشكل. يقال: لستَ على شكلي، ولا شاكلتي. وقال الزجاج: على طريقته، وعلى مذهبه. والثاني: على نِيَّته قاله الحسن، ومعاوية بن قُرَّة. وقال الليث: الشاكلة من الأمور: ما وافق فاعله. والثالث: على دينه، قاله ابن زيد.
وتحرير المعنى: أن كل واحد يعمل على طريقته التي تشاكل أخلاقه، فالكافر يعمل ما يشبه طريقته من الإِعراض عند النِّعم واليأس عند الشدة، والمؤمن يعمل ما يشبه طريقته من الشكر عند الرخاء والصبر عند البلاء، والله يجازي الفريقين. وذكر أبو صالح عن ابن عباس: ان هذه الآية منسوخة بقوله تعالى:
فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «١»، وليس بشيء.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٨٥]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٥)
قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ في سبب نزولها قولان:
(٩١٦) أحدهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم مَرَّ بناس من اليهود، فقالوا: سَلُوهُ عن الروح، فقال بعضهم:
لا تسألوه، فيستقبلكُم بما تكرهون. فأتاه نفر منهم، فقالوا: يا أبا القاسم: ما تقول في الروح؟ فسكت، ونزلت هذه الآية، قاله ابن مسعود.
(٩١٧) والثاني: أن اليهود قالت لقريش: سلوا محمداً عن ثلاث، فإن أخبركم عن اثنتين وأمسك عن الثالثة فهو نبي سلوه عن فِتيةٍ فُقدوا، وسلوه عن ذي القرنين، وسلوه عن الرُّوح. فسألوه عنها، ففسَّر لهم أمر الفتية في الكهف، وفسر لهم قصة ذي القرنين، وأمسك عن قصة الروح، فنزلت هذه الآية، رواه عطاء عن ابن عباس.
وفي المراد بالرّوح ها هنا ستة أقوال: أحدها: أنه الروح الذي يحيا به البدن، روى هذا المعنى العوفي عن ابن عباس. وقد اختلف الناس في ماهيَّة الروح، ثم اختلفوا هل الروح النَّفْسُ، أم هما شيئان فلا يحتاج إِلى ذكر اختلافهم لأنه لا برهان على شيء من ذلك وإنما هو شيء أخذوه عن الطّبّ
صحيح. أخرجه البخاري ١٢٥ و ٤٧٢١ و ٧٢٩٧ و ٧٤٥٦ و ٧٤٦٢ ومسلم ٤/ ٢١٥٢ والترمذي ٣١٤١ والنسائي في «التفسير» ٣١٩ وأبو يعلى ٢٥٠١ والطبري ٢٢٦٧٥ و ٢٢٦٧٦ والواحدي في «الوسيط» ٣/ ١٢٤ من حديث ابن مسعود. وانظر «تفسير الشوكاني» ١٤٦٤ و «أحكام القرآن» ١٤٤٨ بتخريجنا.
ضعيف. أخرجه البيهقي في «الدلائل» ٢/ ٢٦٩- ٢٧١ من طريق ابن إسحاق قال: حدثني رجل من أهل مكة، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مطولا، وفيه راو لم يسم. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٥٩٠ نقلا عن المفسرين بنحوه. وفي «الوسيط» ٣/ ١٢٥ عن ابن عباس بدون إسناد. وهو بهذا اللفظ ضعيف. أما السؤال عن الروح فقد صح من حديث ابن مسعود الحديث المتقدم.
__________
(١) سورة التوبة: ٥.
والفلاسفة؟ فأما السلف، فانهم أمسكوا عن ذلك، لقوله تعالى: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي، فلما رأَوا أن القوم سألوا عن الروح فلم يجابوا، والوحي ينزل، والرسول حيّ، علموا أن السكوت عما لم يُحَطْ بحقيقة عِلمه أولى. والثاني: أن المراد بهذا الروح ملك من الملائكة على خِلْقة هائلة، روي عن عليٍّ عليه السلام، وابن عباس، ومقاتل. والثالث: أن الروح: خَلْق من خلق الله عزّ وجلّ صوَّرهم على صُوَر بني آدم، رواه مجاهد عن ابن عباس. والرابع: أنه جبريل عليه السلام، قاله الحسن، وقتادة.
والخامس: أنه القرآن، روي عن الحسن أيضاً. والسادس: أنه عيسى ابن مريم، حكاه الماوردي. قال أبو سليمان الدمشقي: قد ذكر الله تعالى الروح في مواضع من القرآن، فغالب ظني أن الناقلين نقلوا تفسيره من موضعه إِلى موضع لا يليق به، وظنوه مثله، وإِنما هو الروح الذي يحيى به ابن آدم. وقوله تعالى: مِنْ أَمْرِ رَبِّي أي: من عِلمه الذي منع أن يعرفه أحد.
قوله تعالى: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا في المخاطبين بهذا قولان «١» : أحدهما: أنهم اليهود، قاله الأكثرون. والثاني: أنهم جميع الخلق، عِلمهم قليل بالإِضافة إلى علم الله عزّ وجلّ، ذكره الماوردي.
فإن قيل: كيف الجمع بين هذه الآية، وبين قوله تعالى: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً «٢» ؟
فالجواب: أن ما أوتيه الناس من العلم، وإِن كان كثيراً، فهو بالإِضافة إِلى عِلم الله قليل.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٨٦ الى ٨٧]
وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (٨٦) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (٨٧)
قوله تعالى: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قال الزجاج: المعنى: لو شئنا لمحوناه من القلوب والكتب، حتى لا يوجد له أثر، ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا أي: لا تجدَ من يتوكل علينا في ردّ شيء منه، إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ هذا استثناء ليس من الأول، والمعنى: لكن الله رحمك فأثبت ذلك في قلبك وقلوب المؤمنين.
وقال ابن الأنباري: المعنى: لكن رحمة من ربك تمنع من أن تُسْلَبَ القرآن، وكان المشركون قد خاطبوا نساءهم من المسلمين في الرجوع إِلى دين آبائهم، فهدَّدهم الله عزّ وجلّ بسلب النِّعمة، فكان ظاهر الخطاب للرسول، ومعنى التهدُّدِ للأمة. وقال أبو سليمان: «ثم لا تجد لك به» أي: بما نفعله بك، من إِذهاب ما عندك «وكيلاً» يدفعنا عما نريده بك. وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: يسرى على القرآن في ليلة واحدة، فيجيء جبريل من جوف الليل، فيذهب به من صدورهم ومن بيوتهم، فيصبحون لا يقرءون آية، ولا يحسنونها «٣». وردّ أبو سليمان الدمشقي صحة هذا الحديث بقوله عليه الصّلاة والسلام:
(١) قال الطبري في «تفسيره» ٨/ ١٤٤: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: خرج الكلام خطابا لمن خوطب به، والمراد به جميع الخلق، لأن علم كلّ أحد سوى الله، وإن كثر هو في علم الله قليل. [.....]
(٢) سورة البقرة: ٢٦٩.
(٣) هذا الأثر أخرجه الطبراني في «الكبير» ٨٧٠٠ عن ابن مسعود، ورجاله رجال الصحيح، غير شداد بن معقل، وهو ثقة قاله الهيثمي في «المجمع» ٧/ ٣٢٩- ١٢٤٦٥. ولبعضه شواهد في المرفوع. عند أبي يعلى ٦٦٣٤ من حديث أبي هريرة «أول ما يرفع من هذه الأمة الحياء والأمانة وآخر ما يبقى منها الصلاة... » وفيه أشعث بن براز، وهو متروك قاله الهيثمي ٧/ ٣٢١. وعند الطبراني في «الصغير» ٣٨٧ من حديث عمر بنحو حديث أبي هريرة وفيه حكيم بن نافع وثقه ابن معين، وضعفه أبو زرعة وبقية رجاله ثقات اه قاله الهيثمي.
(٩١٨) «إِن الله لا يقبض العلم انتزاعاً»، وحديث ابن مسعود مروي من طُرُقٍ حِسان، فيحتمل أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلّم أراد بالعلم ما سوى القرآن، فإن العلم ما يزال ينقرض حتى يكون رفع القرآن آخر الأمر «١».
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٨٨]
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨)
قوله تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ قال المفسرون: هذا تكذيب للنَّضْر بن الحارث حين قال: «لو شئنا لقلنا مثل هذا». والمِثْل الذي طُلِبَ منهم: كلام له نظم كنظم القرآن، في أعلى طبقات البلاغة. والظهير: المعين.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٨٩ الى ٩٣]
وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٨٩) وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (٩٢) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (٩٣)
قوله تعالى: وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ قد فسّرناه في هذه السّورة «٢»، والمعنى: من كلّ
صحيح. أخرجه البخاري ١٠٠ من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص بلفظ «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهّالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا». وأخرجه البخاري ٧٣٠٧ ومسلم ٢٦٧٣ والترمذي ٢٦٥٢ وابن ماجة ٥٢ وأحمد ٢/ ١٦٢ و ٢/ ٢٠٣ والطيالسي وابن حبان ٤٥٧١ من طرق عن عبد الله بن عمرو بن العاص به.
__________
(١) ورد في هذا المعنى خبر مرفوع غير قوي. أخرج ابن ماجة ٤٠٤٩ والحاكم ٤/ ٤٧٣ و ٥٤٥ والخطيب في تاريخه، والبيهقي كما في «الدر» ٤/ ٣٦٤ من حديث حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة فيسرى على كتاب الله تعالى في ليلة فلا يبقى منه في الأرض آية وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز يقولون أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله. وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة». قال له- صلة بن زفر أحد رواة هذا الحديث-: ما تغني عنهم لا إله إلا الله! وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة، فأعرض عنه حذيفة، ثم ردّدها ثلاثا، كل ذلك يعرض عنه حذيفة. ثم أقبل عليه حذيفة فقال: يا صلة! تنجيهم من النار، ثلاثا. صححه الحاكم على شرط مسلم، وسكت عنه الذهبي في الرواية الأولى، ووافقه في الرواية الثانية، وقال البوصيري في الزوائد: إسناده صحيح، رجاله ثقات... اه وهو في صحيح ابن ماجة ٣٢٧٣، ومع ذلك هو معلول حيث أخرجه الحاكم ٤/ ٥٠٥ بإسناد صحيح لكن جعله موقوفا، وهو أصح. وانظر «تفسير القرطبي» ٤٠٧٧ بتخريجنا.
(٢) سورة الإسراء: ٤١.
52
مَثَل من الأمثال التي يكون بها الاعتبار فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ يعني أهل مكة إِلَّا كُفُوراً أي: جحوداً للحق وإِنكاراً.
قوله تعالى: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً.
(٩١٩) سبب نزول هذه الآية وما يتبعها، أن رؤساء قريش، كعُتبة، وشيبة، وأبي جهل، وعبد الله بن أبي أُمية، والنضر بن الحارث في آخرين، اجتمعوا عند الكعبة، فقال بعضهم لبعض:
ابعثوا إِلى محمد فكلِّموه وخاصموه حتى تُعذَروا فيه، فبعثوا إِليه: إِن أشراف قومك قد اجتمعوا ليكلِّموك، فجاءهم سريعاً، وكان حريصاً على رشدهم، فقالوا: يا محمد، إِنا والله لا نَعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وسفَّهت الأحلام، وفرَّقت الجماعة، فإن كنتَ إِنما جئتَ بهذا لتطلب مالاً، جعلنا لك من أموالنا ما تكون به أكثر مالاً، وإِن كنتَ إِنما تطلب الشرف فينا، سوَّدناك علينا، وإِن كان هذا الرَّئِيُّ الذي يأتيك قد غلب عليك، بذلنا أموالنا في طلب الطِّب لك حتى نُبْرِئك منه، أو نعذر فيك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إِن تقبلوا مِنِّي ما جئتكم به، فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإِن تردُّوه عليَّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم». قالوا: يا محمد، فإن كنتَ غير قابل مِنّا ما عرضنا، فقد علمتَ أنه ليس من الناس أحد أضيقَ بلاداً ولا أشد عيشاً منا، سل لنا ربك يُسيِّر لنا هذه الجبال التي ضيِّقت علينا، ويُجري لنا أنهاراً، ويبعث من مضى من آبائنا، ولْيكن فيمن يبعث لنا منهم قصيّ بن كلاب، فإنه كان شيخاً صدوقاً، فنسألهم عما تقول: أحق هو؟ فإن فعلتَ صدَّقناك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ما بهذا بُعثتُ، وقد أبلغتكم ما أُرسلتُ به» قالوا: فَسَلْ ربَّك أن يبعثَ مَلَكاً يصدِّقك، وسله أن يجعل لك جِناناً، وكنوزاً، وقصوراً من ذهب وفضة تغنيك قال: «ما أنا بالذي يسأل ربه هذا» قالوا: فأسقط السماء علينا كما زعمت بأن ربَّك إِن شاء فعل فقال: «ذلك إلى الله عزّ وجلّ» فقال قائل منهم: لن نؤمن لك حتى تأتيَ بالله والملائكة قبيلاً، وقال عبد الله بن أبي أُمية: لا أؤمن لك حتى تتخذ إِلى السماء سُلَّماً، وترقى فيه وأنا أنظر، وتأتي بنسخة منشورة معك، ونفرٍ من الملائكة يشهدون لك، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلّم حزيناً لِمَا رأى من مباعدتهم إِياه، فأنزل الله تعالى:
وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ الآيات، رواه عكرمة عن ابن عباس.
قوله تعالى: حَتَّى تَفْجُرَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: «حتى تُفَجِّرَ» بضم التاء، وفتح الفاء، وتشديد الجيم مع الكسرة. وقرأ عاصم، وحمزة والكسائي: «حتى تَفْجُرَ» بفتح التاء، وتسكين الفاء، وضم الجيم مع التخفيف. فمن ثقَّل، أراد كثرة الانفجار من الينبوع، ومن خفَّف، فلأن الينبوع واحد. فأما الينبوع: فهو عين ينبع الماء منها قال أبو عبيدة: وهو يَفعول، من نبع الماء، أي: ظهر وفار. قوله تعالى: أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ أي: بستان فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ أي: تفتحها وتجريها خِلالَها أي: وسط تلك الجنة. قوله تعالى: أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ وقرأ مجاهد، وأبو مجلز، وأبو رجاء، وحميد، والجحدري: «أو تَسقُط» بفتح التاء، ورفع القاف «السماء» بالرّفع.
ضعيف. أخرجه الطبري ٢٢٧١٩ عن ابن إسحاق عن شيخ من أهل مصر عن عكرمة عن ابن عباس به، وإسناده ضعيف، فيه راو لم يسمّ، وكرره الطبري ٢٢٧٢٠ عن ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد وإسناده ضعيف لجهالة محمد هذا.
53
قوله تعالى: كِسَفاً قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: «كِسْفاً» بتسكين السين في جميع القرآن إِلا في الروم «١» فإنهم حرَّكوا السين. وقرأ نافع، وأبو بكر عن عاصم بتحريك السين في الموضعين، وفي باقي القرآن بالتّسكين. وقرأ ابن عامر ها هنا بفتح السين، وفي باقي القرآن بتسكينها.
قال الزجاج: من قرأ «كِسَفاً» بفتح السين، جعلها جمع كِسفة، وهي: القطعة، ومن قرأ «كِسْفاً» بتسكين السين، فكأنهم قالوا: أَسْقِطها طبقاً علينا واشتقاقه من كسفتُ الشيء: إِذا غطيَّته، يعنون: أسقطها علينا قطعة واحدة. وقال ابن الأنباري: من سكَّن قال: تأويله: ستراً وتغطية، من قولهم: قد انكسفت الشمس: إِذا غطاها ما يحول بين الناظرين إِليها وبين أنوارها.
قوله تعالى: أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا فيه ثلاثة أقوال: أحدها: عياناً، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال قتادة، وابن جريج، ومقاتل. وقال أبو عبيدة: معناه: مقابلة، أي: معاينة، وأنشد الأعشى:
نصالحكم حتّى تبوءوا بِمِثْلِهَا كَصَرْخَةِ حُبْلَى يَسَّرَتْهَا قَبِيلُهَا
أي: قابِلَتُها. ويروى: وجَّهتْها، يعني: بدل يسرتها.
والثاني: كفيلاً أنك رسول الله، قاله أبو صالح عن ابن عباس، واختاره الفراء، قال: القبيل، والكفيل، والزعيم، سواء تقول: قبلت، وكفلت، وزعمت. والثالث: قبيلةً قبيلةً، كل قبيلة على حِدَتها، قاله الحسن، ومجاهد. فأما الزخرف، فالمراد به الذهب، وقد شرحنا أصل هذه الكلمة في سورة يونس «٢»، وتَرْقى: بمعنى «تصعد» يقال: رَقِيتُ أرقَى رُقِيَّاً.
قوله تعالى: حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً قال ابن عباس: كتاباً من رب العالمين إِلى فلان بن فلان يصبح عند كل واحد منا يقرؤه.
قوله تعالى: قُلْ سُبْحانَ رَبِّي قرأ نافع، وعاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: «قل». وقرأ ابن كثير، وابن عامر: «قال»، وكذلك هي في مصاحف أهل مكة والشام، هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا، أي: أن هذه الأشياء ليست في قوى البشر.
فإن قيل: لِم اقتصر على حكاية «قالوا» من غير إِيضاح الرد؟
فالجواب: أنه لما خصهم بقوله تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ فلم يكن في وسعهم، عجَّزهم، فكأنه يقول: قد أوضحت لكم بما سبق من الآيات ما يدل على نبوَّتي، ومن ذلك التحدِّي بمثل هذا القرآن، فأما عَنَتُكم فليس في وسعي، ولأنهم ألحُّوا عليه في هذه الأشياء، ولم يسألوه أن يسألَ ربه، فردَّ قولهم بكونه بشراً، فكفى ذلك في الرّدّ.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٩٤ الى ٩٦]
وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (٩٤) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (٩٥) قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٩٦)
(١) سورة الروم: ٤٨.
(٢) سورة يونس: ٢٤.
قوله تعالى: وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا قال ابن عباس: يريد أهل مكة. قال المفسرون: ومعنى الآية: وما منعهم من الإِيمان إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وهو البيان والإِرشاد في القرآن إِلَّا أَنْ قالُوا قولهم في التعجب والإِنكار: أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا؟ وفي الآية اختصار، تقديره: هلا بعث الله مَلَكاً رسولاً، فأُجيبوا على ذلك بقوله تعالى: قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ أي: مستوطنين الأرض. ومعنى الطمأنينة: السكون والمراد من الكلام أن رسول كل جنس ينبغي أن يكون منهم. قوله تعالى: قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً قد فسرناه في الرعد «١» إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً قال مقاتل:
حين اختصّ الله محمّدا بالرّسالة.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٩٧ الى ١٠٠]
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (٩٧) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٩٨) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (٩٩) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (١٠٠)
قوله تعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي قرأ نافع، وأبو عمرو بالياء في الوصل، وحَذَفاها في الوقف. وأثبتها يعقوب في الوقف، وحذفها الأكثرون في الحالتين. قال ابن عباس: من يرد الله هداه فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ يَهدونهم.
قوله تعالى: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يمشِّيهم على وجوههم، وشاهِده ما روى البخاري ومسلم في «صحيحيهما» من حديث أنس بن مالك أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلّم كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ قال:
(٩٢٠) «إِن الذي أمشاه على رجليه في الدنيا، قادر على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة».
والثاني: أن المعنى: ونحشرهم مسحوبين على وجوههم، قاله ابن عباس. والثالث: نحشرهم مسرعين مبادرين، فعبّر بقوله تعالى: «على وجوههم» عن الإِسراع، كما تقول العرب: قد مَرَّ القوم على وجوههم: إِذا أسرعوا، قاله ابن الأنباري.
قوله تعالى: عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا فيه قولان: أحدهما: عمياً لا يرون شيئاً يَسرُّهم، وبكماً لا ينطقون بحجَّة، وصماً لا يسمعون شيئاً يسرُّهم، قاله ابن عباس. وقال في رواية: عمياً عن النظر إِلى ما جعل الله تعالى لأوليائه، وبكما عن مخاطبة الله تعالى، وصماً عما مدح به أولياءه، وهذا قول الأكثرين. والثاني: أن هذا الحشر في بعض أحوال القيامة بعد الحشر الأول. قال مقاتل: هذا يكون حين يقال لهم: اخْسَؤُا فِيها «٢» فيصيرون عمياً بكماً صماً لا يرون ولا يسمعون ولا ينطقون بعد ذلك.
صحيح. أخرجه البخاري ٤٧٦٠ و ٦٥٢٣ ومسلم ٢٨٠٦ والنسائي في «الكبرى» ١١٣٦٧ وأحمد ٣/ ٢٢٩ وأبو يعلى ٣٠٤٦ وأبو نعيم في «الحلية» ٢/ ٣٤٣ وابن حبان ٧٣٢٣ من طرق عن أنس بن مالك، به.
__________
(١) سورة الرعد: ٤٣.
(٢) سورة المؤمنون: ١٠٨.
55
قوله تعالى: كُلَّما خَبَتْ قال ابن عباس: أي: سكنت. قال المفسّرون: وذلك أنهم تأكلهم، فإذا لم تُبق منهم شيئاً وصاروا فحما ولم تجد شيئا تأكله، سكن، فيُعادُون خلقاً جديداً، فتعود لهم. وقال ابن قتيبة: يقال: خبت النار: إِذا سكن لهبها. فالَّلهب يسكن، والجمر يعمل، فإن سكن الَّلهب، ولم يُطفَأ الجمر، قيل: خَمَدت تَخْمُدُ خُمُوداً، فإن طُفئت ولم يبق منها شيء، قيل: هَمَدت تَهْمُد هُمُوداً. ومعنى زِدْناهُمْ سَعِيراً: ناراً تتسعر، أي تتلهَّب. وما بعد هذا قد سبق تفسيره «١» إلى قوله تعالى: قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ أي: على أن يخلقهم مرة ثانية، وأراد ب «مثلهم» إِياهم، وذلك أن مِثْل الشيءِ مساوٍ له، فجاز أن يعبّر به عن نفس الشيء، يقال: مِثْلُك لا يفعل هذا، أي: أنت، ومثله قوله تعالى: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ «٢» وقد تمّ الكلام عند قوله تعالى: مِثْلَهُمْ، ثم قال: وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ يعني: أجل البعث فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً أي: جحوداً بذلك الأجل. قوله تعالى: قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي قال الزجاج: المعنى: لو تملكون أنتم، قال المتلمِّس:
وَلَوْ غيرُ أَخْوَالِي أَرَادُوا نَقِيصَتِي نَصبْتُ لهم فَوْقَ العرانينِ مِيسَما «٣»
المعنى: لو أراد غير أخوالي.
وفي هذه الخزائن قولان: أحدهما: خزائن الأرزاق. والثاني: خزائن النِّعم.
فيخرج في الرحمة قولان: أحدهما: الرِّزق. والثاني: النِّعمة. وتحرير الكلام: لو ملكتم ما يملكه الله عزّ وجلّ لأمسكتم عن الإنفاق خشية الفاقة. وَكانَ الْإِنْسانُ يعني: الكافر قَتُوراً أي:
بخيلاً مُمْسِكاً يقال: قَتَر يَقْتُرُ، وقَتَر يَقْتِرُ: إِذا قصَّر في الإِنفاق. وقال الماوردي: لو ملك أحد من المخلوقين من خزائن الله تعالى، لما جاد كجود الله تعالى، لأمرين: أحدهما: أنه لا بد أن يُمسِك منه لنفقته ومنفعته. والثاني: أنه يخاف الفقر، والله تعالى منزَّه في جُوده عن الحالين.
ثم إِن الله تعالى ذكر إِنكار فرعون آيات موسى، تشبيهاً بحال هؤلاء المشركين، فقال: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ وفيها قولان: أحدهما: أنها بمعنى المعجزات والدلالات، ثم اتفق جمهور المفسرين على سبع آيات منها، وهي: يده، والعصا، والطوفان، والجراد، والقُمَّل، والضفادع، والدم، واختلفوا في الآيتين الآخرتين على ثمانية أقوال: أحدها: أنهما لسانه والبحر الذي فلق له، رواه العوفي عن ابن عباس يعني بلسانه: أنه كان فيه عقدة فحلَّها الله تعالى له. والثاني: البحر والجبل الذي نُتق فوقهم، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثالث: السّنون ونقص الثمرات، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والشعبي، وعكرمة، وقتادة. وقال الحسن: السِّنون ونقص الثمرات آية واحدة. والرابع: البحر والموت أُرسل عليهم، قاله الحسن، ووهب. والخامس: الحَجَر والبحر، قاله سعيد بن جبير. والسادس: لسانه وإِلقاء العصا مرتين عند فرعون، قاله الضحاك. والسابع: البحر والسِّنون، قاله محمد بن كعب. والثامن: ذكره محمد بن إِسحاق عن محمد بن كعب أيضاً، فذكر السبع الآيات الأولى، إِلا أنه جعل مكان يده البحر، وزاد الطمسة والحجر، يعني قوله تعالى: اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ.
(١) الإسراء: ٤٩.
(٢) سورة البقرة: ١٣٧.
(٣) في «اللسان» : نقيصتي: ظلمي- العرانين: الأنوف- والميسم: آلة الوسم بالنار.
56
والثاني: أنها آيات الكتاب.
(٩٢١) روى أبو داود السجستاني من حديث صفوان بن عسّال، أن يهودياً قال لصاحبه: تعال حتى نسأل هذا النبيّ، فقال الآخر: لا تقل: إِنه نبيٌّ، فإنه لو سمع ذلك، صارت له أربعة أعين، فأتَيَاه فسألاه عن تسع آيات بيِّنات، فقال: «لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تقتلوا النفس التي حرَّم الله إِلا بالحق، ولا تزنوا، ولا تَسرقوا، ولا تأكلوا الرِّبا، ولا تمشوا بالبريء إِلى السلطان ليقتلَه، ولا تَسْحَروا، ولا تقذفوا المحصنات، ولا تَفِرُّوا من الزَّحف، وعليكم خاصّةً يهودُ ألاّ تَعْدُوا في السبتِ»، قال: فقبَّلا يده، وقالا: نشهد أنك نبيّ.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١٠١ الى ١٠٤]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (١٠١) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (١٠٢) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (١٠٣) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (١٠٤)
قوله تعالى: فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ قرأ الجمهور: «فاسأل» على معنى الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلّم. وإِنما أُمر أن يسأل من آمن منهم عما أخبر به عنهم، ليكون حُجَّة على من لم يؤمن منهم. وقرأ ابن عباس:
«فَسَأَلَ بني إِسرائيل»، على معنى الخبر عن موسى أنه سأل فرعون أن يرسل معه بني إِسرائيل. فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ أي: لأحسِبك يا مُوسى مَسْحُوراً وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: مخدوعاً، قاله ابن عباس. والثاني: مسحوراً قد سُحِرْتَ، قاله ابن السائب. والثالث: ساحراً، فوضع مفعولاً في موضعِ فاعلٍ، هذا مروي عن الفراء، وأبي عبيدة. فقال موسى: لَقَدْ عَلِمْتَ قرأ الجمهور بفتح التاء. وقرأ علي عليه السلام بضمها، وقال: والله ما علم عدوّ الله، ولكنّ موسى هو الذي عَلِم، فبلغ ذلك ابنَ عباس، فاحتج بقوله تعالى: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ «١». واختار الكسائي وثعلب قراءة علي عليه السلام، وقد رُويت عن ابن عباس، وأبي رزين، وسعيد بن جبير، وابن يعمر. واحتج من نصرها بأنه لما نَسَبَ موسى إِلى أنه مسحور، أعلمه بصحّة عقله بقوله تعالى: «لقد علمتُ»، والقراءة الأولى أصح، لاختيار الجمهور، ولأنه قد أبان موسى من المعجزات ما أوجب علم فرعون بصدقه، فلم يردّ عليه إِلا بالتعلل والمدافعة، فكأنه قال: لقد علمتَ بالدليل والحجة «ما أنزل هؤلاء» يعني الآيات. وقد شرحنا معنى «البصائر» في سورة الأعراف «٢».
ضعيف. أخرجه الترمذي ٢٧٣٣ و ٣١٤٤ والنسائي ٣٥٤١ و ٨٦٥٦ في «الكبرى» وابن ماجة ١٧٠٥ والحاكم ١/ ٩ من حديث صفوان بن عسال، وإسناده ضعيف، مداره على عبد الله بن سلمة، قال شعبة عن عمر بن مرة سمعت عبد الله بن سلمة حدثنا، وإنا لنعرف وننكر وكان قد كبر، وقال البخاري: لا يتابع على حديثه- وقال أبو حاتم والنسائي: يعرف وينكر اه «الميزان» ٤٣٦٠. وفي الحديث بعض الألفاظ المنكرة وقد نبه عليها الحافظ ابن كثير، عند هذه الآية.
__________
(١) سورة النحل: ١٤.
(٢) سورة الأعراف: ٢٠٣.
قوله تعالى: وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ قال أكثر المفسرين: الظّنّ ها هنا بمعنى العِلم، على خلاف ظن فرعون في موسى، وسوّى بينهما بعضهم، فجعل الأول بمعنى العِلم أيضاً. وفي المثبور ستة أقوال:
أحدها: أنه الملعون، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الضحاك. والثاني: المغلوب، رواه العوفي عن ابن عباس. والثالث: الناقص العقل، رواه ميمون بن مهران عن ابن عباس. والرابع:
المُهْلَك، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال أبو عبيدة، وابن قتيبة. قال الزجاج: يقال: ثُبر الرجل، فهو مثبور، إِذا أُهلك. والخامس: الهالك، قاله مجاهد. والسادس: الممنوع من الخير تقول العرب: ما ثبرك عن هذا، أي: ما منعك، قاله الفراء.
قوله تعالى: فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ يعني: فرعون أراد أن يستفزَّ بني إِسرائيل من أرض مصر. وفي معنى يَسْتَفِزَّهُمْ قولان: أحدهما: يستأصلهم، قاله ابن عباس. والثاني: يستخفّهم حتى يخرجوا، قاله ابن قتيبة. وقال الزجاج: جائز أن يكون استفزازُهم إِخراجَهم منها بالقتل أو بالتنحية. قال العلماء: وفي هذه الآية تنبيه على نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، لأنه لما خرج موسى فطلبه فرعون، هلك فرعون وملك موسى، فكذلك أظهر الله نبيَّه بعد خروجه من مكة حتى رجع إِليها ظاهراً عليها. قوله تعالى: وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ أي: من بعد هلاك فرعون لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ وفيها ثلاثة أقوال:
أحدها: فلسطين والأردنّ، قاله ابن عباس. والثاني: أرضٌ وراء الصِّين، قاله مقاتل. والثالث: أرض مصر والشام. قوله تعالى: فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ يعني: القيامة جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً أي: جميعاً، قاله ابن عباس، ومجاهد، وابن قتيبة. وقال الفرّاء: لفيفا، أي: من ها هنا ومن ها هنا. وقال الزجاج:
اللفيف: الجماعات من قبائل شتى.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١٠٥ الى ١٠٩]
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (١٠٥) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (١٠٦) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (١٠٨) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (١٠٩)
قوله تعالى: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ الهاء كناية عن القرآن، والمعنى: أنزلنا القرآن بالأمر الثابت والدِّين المستقيم، فهو حَقٌّ، ونزوله حق، وما تضمنه حق. وقال أبو سليمان الدمشقي: «وبالحق أنزلناه» أي:
بالتوحيد، «وبالحق نزل» يعني: بالوعد والوعيد، والأمر والنهي.
قوله تعالى: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ قرأ علي عليه السلام، وسعد بن أبي وقاص، وأُبيّ بن كعب، وابن مسعود، وابن عباس، وأبو رزين، ومجاهد، والشعبي، وقتادة، والأعرج، وأبو رجاء، وابن محيصن:
«فرَّقناه» بالتشديد. وقرأ الجمهور بالتخفيف.
فأما قراءة التخفيف، ففي معناها ثلاثة أقوال: أحدها: بيَّنَّا حلاله وحرامه، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثاني: فرقنا فيه بين الحق والباطل، قاله الحسن. والثالث: أحكمناه، وفصَّلناه، كقوله تعالى:
فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ «١»، قاله الفراء. وأما المشددة، فمعناها: أنه أُنزل متفرِّقاً، ولم ينزل جملة واحدة. وقد بيَّنَّا في أول كتابنا هذا مقدار المدة التي نزل فيها.
(١) سورة الدخان: ٤. [.....]
58
قوله تعالى: لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ قرأ أنس، والشعبي، والضحاك، وقتادة، وأبو رجاءٍ، وأبان عن عاصم، وابن محيصن: بفتح الميم والمعنى: على تُؤدة وترسُّل ليتدبَّروا معناه.
قوله تعالى: قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا هذا تهديد لكفّار مكة، والهاء كناية عن القرآن. إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وفيهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم ناس من أهل الكتاب، قاله مجاهد. والثاني: أنهم الأنبياء عليهم السلام، قاله ابن زيد. والثالث: طلاب الدِّين، كأبي ذر، وسلمان، وورقة بن نوفل، وزيد بن عمرو، قاله الواحدي.
وفي هاء الكناية في قوله تعالى: مِنْ قَبْلِهِ قولان: أحدهما: أنها ترجع إِلى القرآن، والمعنى:
من قبل نزوله. والثاني: ترجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، قاله ابن زيد. فعلى الأول إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ القرآن.
وعلى قول ابن زيد إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ ما أُنزل إِليهم من عند الله.
قوله تعالى: يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ اللام ها هنا بمعنى «على». قال ابن عباس: قوله «للأذقان» أي:
للوجوه. قال الزجاج: الذي يَخِرُّ وهو قائم، إِنما يَخِرُّ لوجهه، والذَّقْن: مُجْتَمع الَّلحيَين. وهو عضو من أعضاء الوجه، فإذا ابتدأ يَخِرُّ، فأقرب الأشياء من وجهه إِلى الأرض الذقن. وقال ابن الأنباري: أول ما يلقى الأرض من الذي يَخِرُّ، فأقرب الأشياء من وجهه إِلى الأرض الذقن. وقال ابن الأنباري: أول ما يلقى الأرضَ من الذي يَخِرُّ قبل أن يصوِّب جبهته ذقنُه، فلذلك قال: «للأذقان» ويجوز أن يكون المعنى: يَخِرُّون للوجوه، فاكتفى بالذقن من الوجه كما يُكتفى بالبعض من الكُلِّ، وبالنوع من الجنس.
قوله تعالى: وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا نزَّهوا الله تعالى عن تكذيب المكذِّبين بالقرآن، وقالوا: إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا بإنزال القرآن وبعثِ محمّد صلى الله عليه وسلّم لَمَفْعُولًا واللام دخلت للتوكيد. وهؤلاء قوم كانوا يسمعون أن الله باعثٌ نبيّاً من العرب، ومُنزِلٌ عليه كتاباً، فلما عاينوا ذلك، حمدوا الله تعالى على إِنجاز الوعد، وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ كرَّر القول ليدل على تكرار الفعل منهم. وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً أي: يزيدهم القرآن تواضعاً. وكان عبد الأعلى التيمي يقول: من أوتي من العلم ما لا يُبكيه، لَخليق أن لا يكون أوتيَ علماً ينفعه، لأن الله تعالى نعت العلماء فقال: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً إلى قوله تعالى: يَبْكُونَ «١».
(١) فائدة: قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» ٢/ ٤٥٣: فصل: فأما البكاء والتأوه والأنين الذي ينتظم منه حرفان، فما كان مغلوبا عليه لم يفسد الصلاة، وما كان من غير غلبة، فإن كان لغير خوف الله أفسد صلاته، قال أبو عبد الله بن بطة، في الرجل يتأوه في الصلاة: إن تأوه من النار فلا بأس. والتأوه ذكر مدح الله تعالى الباكين بقوله تعالى: وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ. وروي عن عبد الله بن الشّخير، عن أبيه، أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء. ولم أر عن أحمد في التأوه شيئا، ولا في الأنين والأشبه بأصوله: أنه متى فعله مختارا أفسد صلاته. وقال في البكاء الذي لا يفسد الصلاة: ما كان من غلبة.
والنصوص عامة تمنع من الكلام كله، ولم يرد في التأوه والأنين ما يخصّهما، والمدح على التأوه لا يوجب تخصيصه.
59

[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١١٠ الى ١١١]

قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١١٠) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (١١١)
قوله تعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ الآية. هذه الآية نزلت على سببين، نزل أوّلها إلى قوله تعالى: الْحُسْنى على سبب، وفيه ثلاثة أقوال «١» :
(٩٢٢) أحدها: أن رسول الله تهجَّد ذات ليلة بمكة، فجعل يقول في سجوده: «يا رحمن، يا رحيم»، فقال المشركون: كان محمدٌ يدعو إِلهاً واحداً، فهو الآن يدعو إِلهين اثنين: الله، والرحمن، ما نعرف الرحمن إِلا رحمن اليمامة، يعنون: مسيلمة، فأنزل اللهُ تعالى هذه الآية، قاله ابن عباس.
(٩٢٣) والثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يكتب في أول ما أوحي إِليه: باسمك اللهم، حتى نزل:
إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ «٢» فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال مشركو العرب: هذا الرحيم نعرفه، فما الرحمن؟ فنزلت هذه الآية، قاله ميمون بن مهران.
(٩٢٤) والثالث: أنّ أهل الكتاب قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلّم: إِنك لَتُقِلُّ ذِكْر الرحمن وقد أكثر الله في التوراة هذا الاسم، فنزلت هذه الآية، قاله الضّحّاك.
فأما قوله تعالى: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ. فنزل على سبب، وفيه ثلاثة أقوال:
(٩٢٥) أحدها: أن رسول الله كان يرفع صوته بالقرآن بمكة فيسُبُّ المشركون القرآن ومن أتى به
ضعيف. أخرجه الطبري ٢٢٨٠١ وابن مردويه كما في «أسباب النزول» ٧٠٥ للسيوطي واللفظ بدون ذكر مسيلمة كلاهما عن ابن عباس، وفي إسناده الحسين بن داود «سنيد» وهو ضعيف.
وأخرجه الطبري ٢٢٨٠٢ عن مكحول مرسلا. وفيه ذكر مسيلمة وهو باطل فالسورة مكية، وأمر مسيلمة كان قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلّم بقليل. وانظر «تفسير ابن كثير» ٣/ ٨٩ و «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي ٤٠٨٣ و ٤٠٨٤ وكلاهما بتخريجنا.
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٥٩٤ عن ميمون بن مهران مرسلا هكذا بلا سند، وهو باطل، لأن السورة مكية. وانظر «الجامع لأحكام القرآن» ٤٠٨٥ بتخريجنا.
باطل. عزاه المصنف رحمه الله للضحاك، وهو بدون إسناد، ومع ذلك مراسيل الضحاك واهية، وراويته جويبر بن سعيد ذاك المتروك. والسورة مكية، وأخبار يهود مدنية.
صحيح. أخرجه البخاري ٤٧٢٢ و ٧٤٩٠ و ٧٥٢٥ و ٢٥٤٧ ومسلم ٤٤٦، ١٤٥١ والترمذي ٣١٤١ والنسائي في «التفسير» ٣٢٠ وأحمد ١/ ٢٣ عن ابن عباس، في قوله تعالى: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها قال: نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلّم مختف بمكة كان إذا صلّى بأصحابه رفع صوته بالقرآن فإذا سمع المشركون سبّوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلّم: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ أي: بقراءتك فيسمع المشركون فيسبُّوا القرآن وَلا تُخافِتْ بِها عن أصحابك فلا تسمعهم وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا لفظ البخاري.
وانظر «أحكام القرآن» لابن العربي ١٤٥١ بتخريجنا.
__________
(١) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٣/ ٨٩: يقول الله تعالى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين المنكرين صفة الرحمة لله عز وجل، المانعين من تسميته بالرحمن: ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى لا فرق بين دعائكم له باسم «الله» أو باسم «الرحمن» فإنه ذو الأسماء الحسنى.
(٢) سورة النمل: ٣٠.
60
بخفض رسول الله صوته بعد ذلك حتى لم يسمع أصحابه، فأنزل الله تعالى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ. أي:
بقراءتك، فيسمع المشركون فيسبُّوا القرآن، وَلا تُخافِتْ بِها عن أصحابك، فلا يسمعون، قاله ابن عباس.
(٩٢٦) والثاني: أن الأعرابيّ كان يجهر في التشهُّد ويرفع صوته، فنزلت هذه الآية، هذا قول عائشة.
(٩٢٧) والثالث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يصلِّي بمكة عند الصفا، فجهر بالقرآن في صلاة الغداة، فقال أبو جهل: لا تفتر على الله، فخفض النبيّ صلى الله عليه وسلّم صوته، فقال أبو جهل للمشركين: ألا ترون ما فعلت بابن أبي كبشة؟! رددته عن قراءته، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل.
فأما التّفسير، فقوله تعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ المعنى: إِن شئتم فقولوا: يا ألله، وإِن شئتم فقولوا: يا رحمن، فانهما يرجعان إِلى واحد، أَيًّا ما تَدْعُوا المعنى: أيَّ أسماء الله تدعوا قال الفراء: و «ما» قد تكون صلة، كقوله تعالى: عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ «١»، وتكون في معنى: «أيّ» معادَة لمَّا اختلف لفظهما.
قوله تعالى: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ فيه قولان:
أحدهما: أنها الصلاة الشرعية. ثم في المراد بالكلام ستّة أقوال: أحدها: لا تجهر بقراءتك، ولا تخافت بها، فكأنه نهي عن شدة الجهر بالقراءة وشدة المخافتة، قاله ابن عباس. فعلى هذا في تسمية القراءة بالصلاة قولان: ذكرهما ابن الأنباري: أحدهما: أن يكون المعنى: فلا تجهر بقراءة صلاتك.
والثاني: أن القراءة بعض الصلاة، فنابت عنها، كما قيل لعيسى: كلمة الله، لأنه بالكلمة كان. والثاني:
لا تصلّ مراءاة للناس، ولا تَدَعْها مخافة الناس، قاله ابن عباس أيضاً. والثالث: لا تجهر بالتشهُّد في صلاتك، روي عن عائشة في رواية، وبه قال ابن سيرين. والرابع: لا تجهر بفعل صلاتك ظاهراً ولا تخافت بها شديد الاستتار، قاله عكرمة. والخامس: لا تحسن علانيتها، وتسئ سريرتها، قاله الحسن.
والسادس: لا تجهر بصلاتك كلِّها، ولا تُخافت بجميعِها، فاجهر في صلاة الليل، وخافِت في صلاة النهار، على ما أمرناك به، ذكره القاضي أبو يعلى.
والقول الثاني: أن المراد بالصلاة: الدعاء، وهو قول عائشة، وأبي هريرة، ومجاهد.
قوله تعالى: وَلا تُخافِتْ بِها المخافتة: الإِخفاء، يقال: صوت خفيت. وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا
واه بمرة. عزاه المصنف تبعا للواحدي في «الأسباب» ٥٩٧ بدون إسناد لعائشة. أخرجه الطبري ٢٢٨٢١ عن عبد الله بن شداد، وهذا مرسل فهو ضعيف، والمتن منكر جدا، شبه موضوع، ثم إن السورة مكية، والأعراب إنما أسلموا في المدينة. وإنما أخرج البخاري ٤٧٢٣ و ٦٣٢٧ و ٧٥٢٦ والنسائي في «التفسير» ٣٢١ والطبري ٢٢٨٣٩ عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة في قوله تعالى: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها نزلت في الدعاء. ولم يذكر فيه الأعرابي. وانظر «أحكام القرآن» ٣/ ٢١٧ بتخريجنا.
باطل. عزاه المصنف لمقاتل، وهو متهم بالكذب، والمتن منكر جدا بهذا اللفظ، فهو باطل.
__________
(١) سورة المؤمنون: ٤٠.
61
أي: اسلك بين الجهر والمخافتة طريقاً. وقد روي عن ابن عباس أنه قال: نُسخت هذه الآية بقوله تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ «١»، وقال ابن السّائب: نسخت بقوله تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ «٢» وعلى التّحقيق، وجود النّسخ ها هنا بعيد.
قوله تعالى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وطلحة بن مصرِّف:
«في المِلك» بكسر الميم. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ قال مجاهد: لم يحالف أحداً، ولم يبتغ نصر أحد والمعنى: أنه لا يحتاج إِلى موالاة أحد لِذُلٍّ يلحقه، فهو مستغن عن الولي والنصير. وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً أي: عظِّمه تعظيماً تامّاً. والله أعلم بالصّواب.
(١) سورة الأعراف: ٢٠٥.
(٢) سورة الحجر: ٩٤.
62
Icon