تفسير سورة الأنبياء

التفسير الشامل
تفسير سورة سورة الأنبياء من كتاب التفسير الشامل .
لمؤلفه أمير عبد العزيز . المتوفي سنة 2005 هـ
بيان إجمالي للسورة
هذه السورة مكية. وفيها من جليل المعاني والعبر والمقاصد ما يستوقف الذهن ويسترعي الحس. وفيها من أخبار النبيين والغابرين وأهوال القيامة وجسيم المواعظ وفيض المشاهد ما فيه مزدجر لكل خبير مدكر. كل ذلك تعرض له هذه السورة بأسلوب القرآن المميز المعروف، حيث الترويع والترهيب والتنذير وروعة النظم العجب الأخّاذ. وليس أدل على ذلك مما تصدرت به السورة عن اقتراب الحساب للناس وهم سادرون في لهوهم وغفلتهم. وذلك في سمت بياني فذ ليس له في الكلام المنظوم نظير.

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون ( ١ ) ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون ( ٢ ) لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون ( ٣ ) قال ربي يعلم القول في السماء والأرض وهو السميع العليم ( ٤ ) بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بآيات كما أرسل الأولون ( ٥ ) ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون ( ٦ ) ﴾.
أراد بالناس، المشركين. وقيل : عموم الناس وهو الأظهر. وحساب الناس، ما ينتظرهم من شدة المحاسبة وعسير الجزاء. واقتراب ذلك للناس يعني دنوه منهم ؛ فهو آت لا محالة. وكل ما هو آت قريب. فما تمر السنون والأيام والساعات إلا والناس يقتربون من مغبة الحساب وفداحة الجزاء رويدا رويدا. حتى إذا وقع، كانت الطامة العاتية. وكان الإياس المخوف والمزلزل وكان الفزع الداهم الأكبر الذي يدك الفرائض والقلوب دكا.
كل هاتيك الأهوال والفظائع والمخاوف آتية دانية والناس ( في غفلة معرضون ) إنهم في غفلة عما ينتظرهم من الحساب العسير، لا هو في الدنيا بزينتها ومتاعها ولعاعاتها الزائفة، معرضون عن التأهب والاستعداد لهذا اليوم العصيب الموعود. يوم الحساب.
قوله :( ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث ) المراد بالذكر القرآن، و ( محدث )، أي حديث النزول والإتيان من رب العالمين. وما ينبغي أن يفهم من ذلك أن القرآن مخلوق كما ظن المخطئون ؛ فإن القرآن قديم بقدم باعثه ومنزله عز وعلا. وإنما المراد حداثة العهد بالتلاوة والاستماع ؛ فقد كان القرآن ينزل على رسول الله ( ص ) سورة سورة، أو آية آية، أو جملة من الآيات عقب جملة أخرى، وهكذا حتى استتم الكتاب الحكيم كاملا.
والمعنى : أنه ما كانت تنزل الآيات تلو الآيات على رسول الله ( ص ) إلا استمعه الناس من رسول الله ( ص ) أو من غيره ( وهم يلعبون ) الجملة حالية ؛ أي استمعوا ما نزل من القرآن وهم سادرون في اللعب والغفلة والاستهزاء.
( لاهية قلوبهم ) أي يستمعون وقلوبهم ذاهلة عنه، مشغولة بزينة الحياة الدنيا وزهرتها الفانية الغرورة.
هكذا البشرية في غالبها، لاهية تمام اللهو عن تدبر هذا الكتاب المعجز الحكيم. غافلة تمام الغفلة عن وعيه وإدراك ما حواه من جليل القيم والمبادئ وقواعد الحق والعدل، وحميد الخصال والخلال. والقرآن بسوره المختلفة، وآياته المثيرة، وأسلوبه المذهب، وروعته التي ملكت القلوب والألباب. هذا القرآن بكل ظواهره من الكمال والجمال، يتلى في غالب الآناء ومختلف المجالات والأحوال، لكن الناس يستمعون إليهم وهم غافلون لاهون، مشدودون للدنيا وما حوته من إغراءات وشهوات وفتن.
قوله :( وأسروا النجوى الذين ظلموا ) ( الذين )، في موضع رفع على البدل من واو الجماعة في قوله :( وأسروا ) وقيل : خبر لمبتدأ محذوف وتقديره : هم الذين ظلموا. وقيل : فاعل أسروا. وذلك على لغة من قال : أكلوني البراغيث : وقيل : في موضع جر على أنه نعت للناس١ والمعنى : أن الذين ظلموا وهم المشركون- تناجوا فيما بينهم بالتكذيب قائلين خفية :( هل هذا إلا بشر مثلكم ) يعنون بهذا رسول الله ( ص ) ؛ أي هل هذا الذي يدعوكم إلى دينه ورسالته التي جاء بها إلا بشر مثلكم لا يتميز عنكم بشيء. فهو يفعل ما تفعلون، إذا يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق.
قوله :( أفتأتون السحر وأنتم تبصرون ) قالوا على سبيل الإنكار التوبيخي : أتجيئون إلى محمد وتتبعونه وأنتم تعلمون أن ما جاء به سحر، أو تتبعونه وأنتم تعلمون أنه إنسان مثلكم٢.
١ - البيان لابن الأنباري جـ ٢، ص ١٥٨..
٢ - تفسير ابن كثير جـ٣ ص ١٧٣، وتفسير النسفي جـ٣ ص ٧٢..
قوله تعالى :﴿ قال ربي يعلم القول في السماء والأرض وهو السميع العليم ( ٤ ) بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون ( ٥ ) ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون ( ٦ ) ﴾.
قال لهم الله مجيبا عما تناجوا به من الباطل : إن الله لا يخفى عليه شيء في السماء ولا في الأرض ؛ فهو عالم بما تناجيتم به من قول مفترى، وظلم مقبوح خفي، ويعلم ما تخفيه صدورهم من مكنون.
قوله :( بل قالوا أضغاث أحلام ) ( أضغاث ) جمع ضغث ومعناه القبضة من الحشيش المختلط رطبه بيابسه. وأضغاث الأحلام، يعني الرؤيا التي لا يصح تأويلها لاختلاطها١. لقد قال المشركون عما يأتي رسول الله ( ص ) من وحي : إنه أخلاط كالأحلام المختلطة. ثم أضربوا عن قولهم إنه تخاليط أحلام رآها في نومه، إلى قولهم :( بل افتراه ) أي ما جاءهم به محمد ( ص ) إن هو إلا كلام مفترى. ثم أضربوا عن قولهم هذا إلى قوله :( بل هو شاعر ) هكذا كان المشركون الظالمون. كانوا متلجلجين حيارى في أقوالهم. مترددين في افتراءاتهم وأباطيلهم الظالمة عن حقيقة هذا النبي الكريم.
فما كان يأتي النبي ( ص ) غير الوحي الصادق الأمين المنزل من السماء ؛ إذ كان يأتيه بالسورة أو الآيات. فما كان جبريل يبرحه إلى السماء حتى ترسخ في قلبه آيات الرحمان رسوخ الرواسي ليتلوها بعد ذلك على الناس ؛ فإذا هي منظوم رباني فذ ليس له في كلام العالمين شبيه ولا مثيل، فأين ذلك من أهاويل الرؤية المختلطة في المنام ؟ !
ولئن قالوا افتراه أو اختلقه من عنده، فما بين القرآن وحديث الرسول ( ص ) من سعة البون وهائل المباينة والاختلاف مثل الذي بين السماء والأرض أو أكبر ؛ فإن الحديث والقرآن، من حيث روعة النظم وعجيب الأسلوب، لمختلفان بالغ الاختلاف ؛ فأنى بعد ذلك لغاشم جهول أن يزعم أن القرآن من صنع محمد ( ص ) ؟ !
أما قولهم : إن محمدا شاعر فلا جرم أن ذلك أبعد في الجهل وأرسخ في الحماقة وتعْس الافتراء والتقوّل. فما كان القرآن إلا قرآنا. هكذا سماه الله ؛ فهو ليس على ضرب من ضروب الكلام في أساليب العرب، كالشعر أو النثر أو السجع أو الخطابة ؛ بل إنه قرآن وكفى.
قوله :( فليأتنا بآية كما أرسل الأولون ) سألوا أن يأتيهم رسول الله مثل ما أوتي موسى العصا، ومثل ما أوتي صالح الناقة. مع أنهم يعلمون أكثر من غيرهم من سائر الأمم أن القرآن فيه من كمال الإعجاز ما يغنيهم عن سائر المعجزات الملموسة والمنظورة. لكنه العناد والجحود والاستكبار، وفرط النفور من الإذعان للحق والصواب.
١ - مختار الصحاح ص ٣٨١..
قوله :( ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها ) أي ما أتينا أهل قرية من القرى السابقة من آية على يدي رسولها فأمنوا بها بل إنهم كذبوا بها فأهلكناهم بسبب تكذيبهم كقوم صالح وفرعون ؛ إذ آتيناهم آياتنا فجحدوا بها فاستؤصلوا ( أفهم يؤمنون ) أفهؤلاء المشركون يؤمنون بالآيات لو رأوها. كلا إنهم لا يؤمنون ؛ بل إنهم إذا رأوا ما سألوه من الآيات لسوف ينكثون كذلك.
قوله تعالى :﴿ وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ( ٧ ) وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين ( ٨ ) ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين ( ٩ ) ﴾.
هذه تسلية وتأنيس من الله لرسوله ( ص )، في مقابلة ما قاله المشركون : إن محمدا بشرا مثلكم. والمعنى : أن الله لم يرسل قبل محمد ( ص ) إلا رجالا أوحي إليهم ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) أي إن كنتم لا تعلمون هذه الحقيقة أو لا تصدقونها فاسألوا أهل العلم بالتوراة والإنجيل ؛ فإنهم يعلمون أن الله لم يرسل أنبياءه من غير البشر.
قوله :( وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام ) لم يجعل الله المرسلين خارجين عن طبائع البشر، غير طامعين ؛ بل كانوا كغيرهم من الناس يأكلون ويشربون ( وما كانوا خالدين ) لم يكتب لبشر الخلد في هذه الدنيا. وهذه حقيقة يستوي فيها النبيون وغير النبيين. وإنما يصير الجميع إلى الموت لا محالة.
قوله :( ثم صدقناهم الوعد ) صدق الله أنبياءه وعده بإنجائهم من كيد الظالمين المجرمين، وإظهارهم عليهم بقدرته وتوفيقه ( ومن نشاء ) أي من المؤمنين الصادقين الذين اتبعوا المرسلين وعزروهم ونصروهم ( وأهلكنا المسرفين ) أهلكنا المكذبين المجاوزين للحدود بالكفر والمعاصي١.
١ - تفسير الطبري جـ١٧ ص ٤، ٥ وتفسير ابن كثير جـ٣ ص ١٧٤..
قوله تعالى :﴿ لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون ( ١٠ ) وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين ( ١١ ) فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون ( ١٢ ) لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون ( ١٣ ) قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين ( ١٤ ) فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا حامدين ( ١٥ ) ﴾ ( ذكرهم )، مرفوع على أنه مبتدأ. وفيه خبره. والجملة ( فيه ذكركم ) في موضع نصب صفة لكتاب١.
وذلك تنبيه من الله على عظيم شرف القرآن وقدره وعلى تكريم هذه الأمة ؛ إذ كتب لها هذا الشرف وبما يتجلى فيها من سماحة العقيدة وكمال التشريع ومحاسن الأخلاق ؛ فهذه الأمة آمرة بالمعروف، ناهية عن المنكر، حاملة للواء التوحيد والفضيلة والرحمة للبشرية كافة.
قوله :( أفلا تعقلون ) الاستفهام للتوبيخ والتقريع ؛ أي أفلا تعقلون ما أنعم الله به عليكم من التشريف بالقرآن وما تتحلون به من المكارم والشمائل والمزايا.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٥٨.
قوله :( وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة ) ( كم )، في محل نصب بالفعل ( قصمنا ). و ( قصمنا ) من القصم وهو الكسر١. والمراد به هنا الإهلاك ؛ أي أهلك الله كثيرا من أهل القرى كانوا مشركين جاحدين ثم خلق الله بعد إهلاكهم ( قوما آخرين ) سكنوا في مساكنهم.
١ - مختار الصحاح ص ٥٣٩..
قوله :﴿ فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون ﴾ لما عاين هؤلاء الذين أهلكناهم ما أنزلنا بهم من العذاب ( إذا هم منها يركضون ) ( إذا ) الفجائية ؛ أي بادروا للهروب والفرار مسرعين خائفين.
قوله :( لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ) نادتهم الملائكة على سبيل التهكم والاستهزاء قائلين : ارجعوا إلى ما كنتم فيه من الترف والنعمة والبطر ( لعلكم تسألون ) أي ارجعوا إلى كل ذلك لعلكم تسألون شيئا من دنياكم. وذلك على وجه السخرية.
قوله :﴿ قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين ﴾ عندما أحس الظالمون بأس الله نازلا بهم صاحوا يائسين مذعورين : يا هلاكنا لقد ظلمنا أنفسنا بكفرنا. وذلك اعتراف منهم في حين لا يجدي معه الندم.
قوله :﴿ فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين ﴾ عندما أتاهم عذاب الله لم تزل هذه دعواهم وهي قولهم ( يا ويلنا إنا كنا ظالمين ) حتى جعلهم الله ( حصيدا ) أي حتى قتلهم الله فحصدهم بالسيف كما يحصد الزرع ويستأصل ( خامدين ) أي ميتين. من الخمود وهو الهمود١.
١ - تفسير الطبري جـ١٧ ص ٧..
قوله تعالى :﴿ وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون ﴾ ذلك بيان من الله للناس بأنه لم يخلق هذا الكون على سبيل العبث واللهو الذي ليس منه جدوى وإنما خلق الله ذلك ليستدل به على قدرته المطلقة وأنه المدبر لأمور الخلق والعالمين، وللتنبيه على امتثال أوامره والإذعان لجلاله وما شرعه للناس من ملة ومنهاج.
قوله :( لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا ) المراد باللهو هنا الولد أو المرأة. وهو رد على قول المتقولين الذين زعموا أن عيسى ابن الله وأن مريم صاحبته. تعالى الله عن ذلك علوا عظيما ؛ فالله يبين لهؤلاء الخراصين المفترين أنه لو أراد أن يتخذ شيئا مما يزعمه هؤلاء لاتخذه ممن عنده من الولدان أو الحور. لكن الله نزّه نفسه عن الشركاء وعن نقائص البشر كاتخاذ الأولاد والصاحبة.
قوله :( إن كنا فاعلين ) ( إن ) أداة نفي ؛ أي ما كنا فاعلين شيئا من ذلك وهو اتخاذ الولد أو الزوجة.
قوله :( بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ) ( بل )، حرف إضراب. و ( نقذف )، من القذف وهو الرمي١ ؛ أي ليس من شأننا أن نخلق شيئا عبثا ولا أن نتخذ الولد أو الصاحبة، بل من شأننا أن نسلط الحق على الباطل ( فيدمغه ) دمغه ؛ أي شجّه حتى بلغت الشجة الدماغ بعد أن كسرت عظم دماغه. واسم الشجة هنا الدامغة وهي التي تخسف الدماغ ولا حياة معها. وهي عاشرة الشجاج المعروفة في الجروح من باب الجنايات٢.
والمعنى : يدحضه ويبطله، أو يقهره ويأتي عليه. والمراد أن الله يسلط الحق على الباطل ليقضي عليه ويبدده تبديدا أو يمحقه محقا. والحق هو القرآن أو الإسلام بما حواه من بالغ الحجج وعظيم الأحكام في كل القضايا البشرية وبما يحمله للناس من تصورات وأساليب مميزة في التربية والأخلاق والسلوك. كل ذلك يجعل من الإسلام خير عقيدة سمحة عرفتها الدنيا، وخير نظام كامل شامل تجد البشرية في ظلاله الأمن والسعادة والاستقرار والنجاة من كل الأدران والمتاعب. وفي مقابل ذلك كله يجثم الباطل على صدر البشرية في غالب الأحوال والأحايين. وذلك هو الباطل بكل صوره وأشكاله ومسمياته التي لقيت البشرية تحت كابوسها ألوانا من الشقاء والتعس والويل. ويلا الحروب والإذلال والاستعباد والخوف. كل ذلك في ظل الباطل التائه العارم المتنفش. الباطل الذي ما يفتأ، بين الحين والآخر، يصول ويتيه عربدة وغرورا وهو يجرجر للبشرية كل ضروب الخراب والفساد والظلم.
ولا يتردد الباطل في كل مكان وزمان عن نفث الشرور والبلايا والويلات للناس، والمسلمين خصوصا. لا يتردد الباطل المتمرد المنتفش العاتي في العدوان على البشرية، والمسلمين خاصة، حتى يقذف الله عليه بالحق وهو الإسلام فيسلطه عليه تسلطيا ويقهره قهرا كيما يتطحطح ويتلاشى. أو ينفى وينهزم.
قوله :( ولكم الويل مما تصفون ) ذلك وعيد من الله لهؤلاء المشركين الكاذبين الذين يتقولون على الله الكذب فيزعمون أن له ولدا أو صاحبة. والويل، معناه الهلاك. أو هو واد في جهنم يهوي فيه الجاحدون والمضلون والمجرمون.
١ - مختار الصحاح ص ٥٢٦..
٢ - مختار الصحاح ص ٢١٠، والمصباح المنير جـ٢ ص ٢١٤..
قوله تعالى :﴿ وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون ( ١٩ ) يسبحون الليل والنهار لا يفترون ( ٢٠ ) أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون ( ٢١ ) لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون ( ٢٢ ) لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ( ٢٣ ) أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون ( ٢٤ ) وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ( ٢٥ ) ﴾.
ذلك إخبار من الله عن عبادة الكون له وخشيته منه وتسبيحه بحمده. فما من شيء في الوجود إلا يسبح بحمد الله. وما من كائن أمام جبروت الله وسلطانه إلا هو بالغ الهوان والذلة. فقال سبحانه :( وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ) والمراد بمن عنده : الملائكة المقربون ؛ فهم عباد مكرمون أطهار لا ينثنون عن عبادة ربهم بالذكر والتسبيح والخشوع وكمال الطاعة في كل آناء الزمان من غير كلل ولا كسل ولا عجز كعجز الآدميين. وهو قوله :( ولا يستحسرون ) أي لا يعيون ولا يتبعون. نقول : حسر البصر حسورا ؛ أي كل وانقطع١.
١ - القاموس المحيط ص ٤٧٩..
وذلك هو ديدن الملائكة ؛ فهم يعبدون الله ويعكفون على ذكره والثناء عليه، دوام الزمان لا يكلون ولا يملون ( يسبحون الليل والنهار لا يفترون ) الملائكة بطبيعتهم المميزة المطهرة منقطعون لعبادة الله وطاعته. وهم شأنهم الدعاء والتسبيح دائمين، لا يجدون في ذلك أيما فتور أو تثاقل أو عنت.
قوله :﴿ أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون ﴾ ( أم ) بمعنى بل والهمزة ففيها إضراب. والاستفهام ههنا معناه التعجب والإنكار. يعني اتخذ هؤلاء المشركون الضالون أصناما من جوامد الأرض آلهة لهم. فهل يحيي هؤلاء الموتى فيبعثونهم من الأرض ؟ ! إنهم لا يعبدون شيئا وإنما يعبدون آلهة مصطنعة صما وعميا لا يملكون لهم ضرا ولا نفعا، ولا يملكون أن ينشروا من الموات نملة ولا بعوضة ولا أدنى من ذلك.
قوله :( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) الضمير عائد على السماء والأرض. وهما كناية عن العالم كله. و ( إلا الله ) يعني غير الله.
والمعنى : لو كان يتولى تدبير أمور الكون آلهة شتى غير الله الواحد الذي فطرهما ( لفسدتا ) أي لأتى عليهما الخراب وساء تدبيرهما وحالهما ؛ لما يحدث بين الآلهة المتعددة من التناكر والتنافر والاختلاف. لكن السموات والأرض وما فيهن وما بينهن يطّرد فيهن النظام والتماسك والتكامل وقوة البناء، فضلا عما تقوم عليه السماوات والأرض من روعة الناموس الكوني المفطور، والقوانين الذاتية الراسخة التي تسير عليها عجلة الحياة في أرجاء الوجود. كل ذلك يدل على عظمة الخالق القادر، وأنه واحد لا شريك له ( فسبحان الله رب العرش عما يصفون ) وصف نفسه برب العرش لكون هذا خلقا هائلا يفوق في اتساعه وعظمته سائر المخلوقات في هذا الكون. فلئن كان هذا العرض هائلا ومتسعا وعجيبا وهو مخلوق فلا جرم أن الله الخالق أعظم من كل عظيم.
وقد نزّه الله نفسه ( عما يصفون ) أي عما يفترون على الله من الولد والزوجة.
قوله :﴿ لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ﴾ الله المتصرف في تدبير الخْلق وإرادته في الكون مطلقة وبالغة. وكل شيء عنده حاصل بقدر. فما من أحد يعترض على مشيئة الله أو يعقب لحكمه ؛ بل إن العباد هم المسؤولون في الدنيا عن أعمالهم، وهم المسؤول يوم القيامة سؤال الحساب والجزاء.
قوله :( أم اتخذوا من دونه آلهة ) كرر الإنكار والتوبيخ استفظاعا لكفرهم واستبشاعهم لما زعموه واصطنعوه من الآلهة المفتراه.
قوله :( قل هاتوا برهانكم ) وذلك على سبيل التسفيه لهم والاستخفاف بعقولهم ؛ فإنه لا حجة لهم ولا دليل من جهة النقل ولا من جهة العقل على أن لله شريكا. إنما الله واحد لا شريك له. وهذه حقيقة تشهد بها الكتب السماوية وهو قوله :( هذا ذكر من معي وذكر من قبلي ) يشهد هذا القرآن بأن الله وحده ليس له شريك، وأنه عظة لهذه الأمة وكذلك تشهد الكتب السماوية السابقة بذلك، وهي عظة لأمم النبيين من قبل محمد ( ص ).
قوله :( بل أكثرهم لا يعلمون الحق ) ( بل )، حرف إضراب، وذلك بعد أن بيّن أنهم جاحدون غير ممتنعين عن الكفر. فإن أكثر هؤلاء الضالين المكذبين إنما سبب كفرهم وضلالهم هو الجهل بقدر الله وعظيم شأنه. وكذلك جهلهم بحقيقة هذا الدين الكريم الذي جاء يحمل لهم الخير والسلامة والسعادة. وهذه معضلة البشرية الضالة في كل زمان، وزماننا هذا على وجه التخصيص. إنها معضلة البشرية الجامحة في الإعراض عن منهج الله الذي كتبه للعالمين ليكون لهم نجاة وأمنا في الدنيا والآخرة. لكن البشرية في جُلها مدبرة عن هذا الدين في شرود جامح لجوج بسبب الجهل المطبق الذي يحول بينها وبين تعاليم الإسلام.
وما ينبغي أن ننسى هنا ما تعرضت له البشرية في كل زمان وفي هذا الزمان خاصة- من حملات التشويه والتشكيك والتخريص والافتراء على الإسلام بمختلف الأساليب الفكرية والثقافية والإعلامية التي استند إليها خصوم الإسلام في الغرب والشرق لغسل أذهان الناس والمجتمعات لحملها على كراهية هذا الدين العظيم. فسبب البون العريض بين الإسلام وأذهان البشرية : هو الجهل بحقيقة الإسلام في روعة عقيدته وكمال تشريعه وما يرسخه في الدنيا من قواعد الحق والعدل والرحمة ( فهم معرضون ) بسبب الجهل الذي يركب أدمغة البشر، أدبر الناس عن دين الله وجمحوا في الإعراض عنه جموح الأحمق السفيه الذي يتخبط تائها ذاهلا في الديجور وهو يمضي في طريق الشياطين من طواغيت الإنس والجن.
قوله :﴿ وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ﴾ ( رسول ) عام لفظا ومعنى ؛ أي ما من رسول بعثه الله من قبل هذا النبي إلا أوحي إليه أن الله واحد لا شريك له. وهذه هي عقيدة التوحيد الخالص التي لم يختلف فيها النبيون والمرسلون. وذلك يقتضي أن يذعن الناس لله بالخضوع والاستسلام، وأن يسلموا له القياد والطاعة١.
١ - البحرالمحيط جـ ٦ ص ٢٨٢-٢٨٤..
قوله تعالى :﴿ وقالوا اتخذ الرحمان ولدا سبحانه بل عباد مكرمون ( ٢٦ ) لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ( ٢٧ ) يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ( ٢٨ ) ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين ( ٢٩ ) ﴾ نزلت في قبيلة من العرب وهي خزاعة ؛ إذ قالوا الملائكة بنات الله ؛ فقد نزه الله نفسه عن هذه النقيصة التي لا يتلبس بها إلا المحتاجون للعون والمساعدة، وتعالى الله عن ضعف الحاجة لغير وأنى لله أن يتخذ من الملائكة وغيرهم الولد أو الصاحبة وهو خالق كل شيء، وبيده مقاليد السماوات والأرض. أما الملائكة فإنما هم عباد لله طائعون مُخبتون مخلصون، وهم قد زادهم تشريفا وقرّبهم إليه تقريبا.
قوله :( لا يسبقونه بالقول ) إنما يتبعون قول الله فلا يقولون شيئا حتى يقول الله ( وهم بأمره يعملون ) الملائكة متوغلون في الإذعان لله بكامل الطاعة والخضوع ؛ فهم لا يعملون عملا ما لم يؤمروا به.
قوله :( يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ) الله يعلم ما تقدم من أعمالهم وما تأخر ؛ فإن الله محيط علمه بكل شيء.
قوله :( ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ) ليس لأحد منهم أن يتشفع لغيره من العباد إلا أن يكون الله راضيا عنه، وهو أن يكون مسلما سبقت منه الكلمة العظمى، كلمة الحق وهي شهادة : لا إله إلا الله، فلا شفاعة البتة لجاحد أو مشرك أو منافق ( وهم من خشيته مشفقون ) الملائكة خلق مكرم مبارك متوغل في العبادة والطهر والإخبات ؛ فهم دائمو الخشية من الله. ولا يكون المؤمنون إلا مستديمي الخوف من الله فكيف بهم إن كانوا ملائكة مقربين.
قوله :( ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم ) وهذا وعيد شديد وتنذير رعيب من الله بالإصلاء في جهنم لمن ادعى منهم أنه إله يُعبد. وهذا على سبيل الفرض والتمثيل ؛ فإن الملائكة عباد مكرمون معصومون عن الإثم أو المخالفة عن أمر الله.
قوله :( كذلك نجزي الظالمين ) من الظلم وهو وضع الشيء في غير موضعه١ والمراد بهم الكافرون الذي يضعون الإلهية في غير موضعها٢.
١ - القاموس المحيط ص ١٤٦٤..
٢ - البحر المحيط جـ٦ ص ٢٨٤، ٢٨٥ وتفسير البيضاوي ص ٤٢٩..
قوله تعالى :﴿ أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون ( ٣٠ ) وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون ( ٣١ ) وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون ( ٣٢ ) وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون ( ٣٣ ) ﴾.
ذلك تنبيه من الله عظيم قدرته المطلقة، وسلطانه البالغ، وعلمه المحيط ؛ ليعلم الناس أنه ليس من إله عظيم معبود سوى الله الخالق العليم. فقد بيّن لنا هنا في قرآنه الحكيم، حقيقة علمية ظاهرة، سبق القرآن بها العلوم والعقول والنظريات في الطبيعة والفلك ؛ إذ يقول :( أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما ) ( أولم )، الواو للعطف. و ( السماوات )، جمع أريد به الواحد. فالسماوات والأرض جنسان كانا ( رتقا ) أي مرتوقين. بمعنى مضمومين ملتحمين فكانا شيئا واحدا متصلا بعضه ببعض.
قوله :( ففتقناهما ) من الفتق وهو الشق وهو ضد الرتق١ ؛ أي شققناهما وفصلنا بينهما، لنجعل السماوات سبعا طباقا. ولنجعل الأرضين سبعا كذلك. وفي خلال الجنسين وبينهما من عظيم الخلائق وعجائب الأشياء والكائنات ما لا يعلم عدته ومداه إلا الله.
لقد كانت السماوات والأرض متلاصقتين ؛ إذ كان الجميع متلاصقا متراكما يتصل بعضه ببعض حتى شاء الله أن يفصل بين الصنفين لتكون السماوات بأفلاكها ونظامها المنسجم وما فيها من الكواكب والنجوم والأجرام ومختلف الكائنات ما يدير الرأس عجبا. وكذا الأرض جعلها الله على هيئتها الراهنة من الكيفية والصلوح للحياة والقرار على متنها إلى أن يأذن الله بالفناء والنهاية.
وذلك الذي قد توصل إليه علم الطبيعة والفلك في هذه المسألة الكونية. وجملة ذلك : أن هذا الكون الهائل لم يكن في زمانه الموغل في القدم على هيئته الراهنة من الانفصال والتكامل والاتساق. وإنما كان الكون كله سديما واحدا متصلا وملتحما بعضه ببعض. فلا جرم أن تكون هذه ظاهرة من ظواهر الإعجاز في القرآن. قوله :( وجعلنا من الماء كل شيء حي ) أي خلق الله كل ذي حياة من الماء. ولفظ شيء بإضافته للماء، من العام المخصوص ؛ فقد خرج بذلك منه الملائكة والجن وكل ذي غير حياة نامية.
قوله :( أفلا يؤمنون ) استفهام إنكار يفيد التعجب من فرط الهوان الذي يغشى عقول السفهاء والضالين من الناس، المعرضين عن الدلائل والآيات والنذُر، والذين لا يتدبرون آيات الله في الكون والطبيعة الدالة على جلال الله، وعلى أن هذا القرآن حق وصدق. والمعنى المراد : أفلا يزدجر هؤلاء المشركون والعصاة الضالون عن الكفر والجحود فيفيئوا إلى التصديق والطاعة والإيمان بما أنزل الله.
١ - القاموس المحيط ص ١١٨٣..
قوله :( وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم ) الرواسي، الجبال الراسية. رسا، رسوّا أي ثبت١. أي جعل الله في الأرض جبالا ثقالا ثوابت لئلا تضطرب الأرض أو تتحرك بمن عليها. وهذه ظاهرة عجيبة تثير الانتباه والتدبر في هذه الآية من الكتاب الحكيم. وذلك أن الأرض جرم من أجرام كونية كثيرة في هذا الوجود.
لكن هذا الجرم بالقياس إلى غيره من الأجرام الهائلة ؛ فإنه بالغ الصغر والبساطة حتى ليوشك أن يضطرب ويهتز، ويتحرك إذا لم يترسخ بأجسام هائلة جسام تثقله وتثبته فكانت الجبال الراسيات.
قوله :( وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون ) الفجاج، جمع ومفرده الفج، وهو الطريق الواسع بين جبلين٢ ؛ أي جعلنا في الأرض مسالك واسعة يسلكونها ليبلغوا ما يريدون. وقد قدّم ( فجاجا ) وهو وصف لسبل ؛ ليصير حالا فيدل ذلك على أن الله حين خلقها قد خلقها كذلك.
قوله :( لعلهم يهتدون ) أي ليهتدوا بهذه السبل إلى ما يقصدونه من البلاد والأقاليم.
١ - القاموس المحيط ص ١٦٦٢..
٢ - القاموس المحيط ص ٢٥٧..
قوله :( وجعلنا السماء سقفا محفوظا ) ما رفع على شيء فهو سقف. وهذه السماء قد جعلها الله بناء كونيا رفيعا، في غاية القوة والتماسك والاتساق، وقد حفظه الله من السقوط والتداعي، أو من البلى والتغير من طول الزمان ( وهم عن آياتها معرضون ) هؤلاء الضالون والجاحدون والفاسقون، معرضون عن تدبر ما في السماء من الآيات الظاهرة، والعجائب الباهرة. معرضون عن التفكير في هذه الخلائق العظام ؛ إذ هم عنها ساهون ذاهلون، لا يعبأون ولا يتفكرون إلا في شهواتهم وأهوائهم الوضيعة الخسيسة.
قوله :( وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر ) هذه آيات كبريات تعرض لقدرة الله وبالغ عظمته ؛ فهو الخالق المقتدر العليم، الذي ذرأ الكون وما فيه من خلائق وأجرام وظواهر. ومن جملة ذلك : هذه الظواهر الأربع العجاب التي ذكرتها الآية ههنا. وهي الليل ؛ إذا تغيب الشمس عن شطر عظيم من الأرض فيرخي الظلام سدوله على هذا الشطر، ليستنيم الناس ويجدوا في ذلك هجعتهم وسكونهم.
ثم النهار بضيائه وإيناسه، وما يتجلى فيه من مظاهر الحركة والنشاط والجد وكل وجوه السعي والكد والجهاد.
ثم الشمس. هذا الجرم الكوني العجيب الذي يعدل مئات الملايين من المرات مساحة الأرض. وهو كتلة متأججة مستعرة من اللهب المتوقد المضطرم. والشمس ؛ إذ تفيض على الدنيا بالإشراق والضياء والدفء ؛ فإنها تنشر فيها الحياة والنماء والحرارة وكل أسباب العطاء والقرار.
ثم القمر، هذا الجرم الساطع اللامع المتلألئ المحبوب، الذي يثير في الدنيا الجمال والسرور وينشر في النفس البهجة والسكينة والحبور. لا جرم أن هذه الآيات الكبريات لأعظم شاهد على قدرة الخالق المبدع الدّيّان.
قوله :( كل في فلك يسبحون ) الفَلَك بالتحريك، مدار النجوم وجمعه أفلاك. والفلك من كل شيء مستداره ومعظمه١ هذا في اللغة. والمرد به هنا أنه المتسع من السماء الذي تجري فيه الشمس والقمر وغيرهما من الكواكب. ولكل واحد منها فلك يخصه ويدور فيه.
وقوله :( يسبحون ) أي يسيرون ويدورون. والضمير، للشمس والقمر. والمراد بهما جنس الطوالع كل يوم وليلة وهي متكاثرة. وقيل : ثمة معطوف وهو، والنجوم ؛ أي أن كل واحد من هذه النجوم والأجرام سواء الشمس والقمر وغيرهما إنما يدور في فلكه وهو متسعه ومستداره الذي يدور فيه٢.
١ - القاموس المحيط ص ١٢٢٧..
٢ - البحر المحيط جـ٦ ص ٢٢٧، ٢٨٨ وتفسير ابن كثير جـ٣ ص ١٧٨..
قوله تعالى :﴿ وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإين مت فهم الخالدون ( ٣٤ ) كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون ( ٣٥ ) ﴾ ذكر أن بعض المسلمين قال : إن محمدا ( ص ) لن يموت إنما هو مخلد. فأنكر ذلك الرسول ( ص ) فنزلت الآية. وقيل : طعن كفار مكة على النبي ( ص ) بأنه بشر يأكل الطعام ويموت فكيف يصح إرساله. وقال الزمخشري : كانوا يقدرون أنه سيموت فيشمتون بموته. فنفى لله عنه الشماتة بقوله :( وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإين مت فهم الخالدون ) أي لم يجعل الله لأحد بقاء دائما في هذه الدنيا، وإنما كل بشر لا محالة صائر إلى الموت. وهذه سنة كتبها الله على آدم وذريته، لا تبديل لسنة الله.
قوله :( أفإين مت فهم الخالدون ) الهمزة للاستفهام. والفاء للعطف. وإن، شرطية. والجملة بعدها جواب الشرط. وذلك دفع للشماتة التي تخفيها قلوب الماكرين والحاسدين والمتربصين الذين يتربصون برسول الله ( ص ) دائرة الموت، وهم أنفسهم صائرون إليه.
وهذا ديدن الحاقدين السخفاء في كل زمان ؛ إذ يتربصون بالمسلمين الدوائر فيؤملون أن تنزل بهم النائبات والبلايا، ومنها داهية الموت. فلا جرم أن ذلك ضرب من السفه والحماقة تتلبس بهما عقول السخفاء والماكرين من الناس وهم يشمتون بخصومهم إذا أتى عليهم داهم الموت الذي لا ينجو منه أحد. وهو قوله :( كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة )
( كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة ) الله يمتحن عباده بمختلف وجوه الفتن سواء في ذلك الشر أو الخير، حتى يتبين الصابر من الفاجر، أو يتبين الشاكر من الكافر ( جاحد النعمة ) فهو سبحانه يمتحن الناس بالغنى والفقر، أو بالصحة والسقم، أو بالشدة والرخاء. وهذه الوجوه المتباينة من ضروب البلاء تكشف عن عزيمة الإنسان المبتلى، ومدى اقتداره على الثبات والاحتمال عند مداهمة الفتن سواء في الخير كنعمة المال والصحة والسلطان والشباب، أو الشر كالفقر والمرض والذل والهرم. ثم يؤول الجميع بعد ذلك إلى ربهم ليلاقوا الجزاء. وهو قوله :( وإلينا ترجعون ).
قوله تعالى :﴿ وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمان هم كافرون ( ٣٦ ) خلق الإنسان من عجل سأوريكم آياتي فلا تستعجلون ( ٣٧ ) ﴾ نزلت في أبي جهل ؛ إذ مر بالنبي ( ص ) فضحك مستهزئا وقال : هذا نبي بني عبد مناف. وهذا ديدن المجرمين من كبراء المشركين والمضلين الذين كانوا يلمزون النبي١ ( ص ) ويسخرون منه سفها وجهلا. وذلك في مقابلة التنديد بشركهم وسفاهتهم ؛ إذ يعبدون أصنامهم الصماء وآلهتهم الموهومة المصطنعة. فقال الله فيهم :( وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا ) إن، أداة نفي. وهزوا مفعول ثان للفعل ( يتخذونك ). أي ما يتخذك هؤلاء المشركون الضالون ( إلا هزوا ) أي يستهزءون بك وينتقصون من شانك. قوله :( أهذا الذي يذكر آلهتكم ) الاستفهام للإنكار. والذكر يكون بالخير وبالشر. والقرينة تدل على أنه بالشر ؛ لأن الذاكر غير صديق للمشركين. يعني : أهذا الذي يسب آلهتكم ويسفّه أحلامكم ( وهم بذكر الرحمان هم كافرون ) الجملة في موضع للحال ؛ أي أن حالهم هي أصل السخرية والاستهزاء وهو كفرهم بالله ورسوله وكتابه. والمعنى : أنهم ينكرون عليك يا محمد ذكر آلهتهم الفاسدة بالتنديد، وحالهم أنهم يكفرون بالرحمان وما أنزله على رسوله ؛ فهم أحق أن يستهزأ بهم ؛ لأنهم مبطلون. ورسول الله محق.
١ - البحر المحيط جـ٦ ص ٢٨٨..
قوله :( خلق الإنسان من عجل ) العجل والعجلة مصدران، بمعنى تقديم الشيء على وقته. وقيل : نزلت في النضر بن الحارث حين استعجل وقوع العذاب وهو يقول ذلك مستهزئا ؛ فبين الله لهم أنه آتيهم الهلاك المعجل في الدنيا، والعذاب في الآخرة. وهو قوله :( سأوريكم آياتي فلا تستعجلون ) أي سترون نقماتي فلا تستعجلوا الإتيان بها.
وقيل : المراد بالإنسان هنا اسم الجنس ؛ فقد ذكر خلقه من عجل، على سبيل المبالغة ؛ لكثرة استعجاله. أو لأنه مطبوع على الاستعجال.
هكذا الإنسان منذ أن خلق الله آدم أبا البشر ثم ذريته من بعده ؛ فإنهم مفطورون على العجلة والاستعجال، فلا يصبرون أو يتمهلون أو يتأنون إلا قليلا. وقد ذكر عن آدم عليه السلام أنه خلق بعد كل شيء من آخر النهار من يوم خلق الخلائق، فلما أحيا الروح عينيه ولسانه ورأسه ولم يبلغ أسفله قال : يا رب استعجل بخلقي قبل غروب الشمس. وروي عن أبي هريرة قال، قال رسول الله ( ص ) : " خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة ؛ فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أهبط منه، وفيه تقوم الساعة، وفيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يصلي- وقبض أصابعه يقللها- فسأل الله خيرا ؛ إلا أعطاه إياه " قال أبو سلمة : فقال عبد الله بن سلام : قد عرفت تلك الساعة هي آخر ساعات النهار من يوم الجمعة وهي التي خلق الله فيها آدم.
قال ابن كثير : والحكمة في ذكر عجلة الإنسان ههنا : أنه لما ذكر المستهزئين بالرسول – صلوات الله وسلامه عليه- وقع في النفوس سرعة الانتقام منهم واستعجلت ذلك فقال الله تعالى :( خلق الإنسان من عجل ) لأنه تعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته١.
١ - تفسير ابن كثير جـ٣ ص ١٧٩ والبحر المحيط جـ٦ ص ٢٩٠..
قوله :﴿ ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ( ٣٨ ) لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون ( ٣٩ ) بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون ( ٤٠ ) ﴾ يقول المشركون ساخرين مستهزئين ( متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ) أي متى الساعة أو العذاب الذي تخوفوننا به.
فرد الله عليهم :﴿ لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون ﴾ جواب لو، محذوف وتقديره : لما استعجلوه. وقيل : لعلموا صحة الموعود وسارعوا إلى الإيمان ؛ أي لو يعلم هؤلاء المستهزءون، الوقت الذي يستعجلونه، وهو وقت عصيب وبئيس ؛ إذ تحيط بهم النار من كل جانب، وحينئذ ( لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ) تطبق عليهم النار إطباقا، فتلفح وجوههم وظهورهم وسائر أبدانهم ( ولا هم ينصرون ) أي ليس لهم نصير يدفع عنهم العذاب، أو يرد عنهم فظاعة التحريق بالنار وهي تكوي جلودهم وأجسادهم.
قوله :( بل تأتيهم بغتة ) تفجأهم الساعة، أو النار ( فتبهتهم ) أي تحيرهم وتغلبهم فيستسلمون مذعورين وجلين ( فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون ) لا يقدرون على دفع النار عن أنفسهم ولا هم يُمهلون، أو لا يؤخر عنهم العذاب البتة١.
١ - - تفسير البيضاوي ص ٤٣٠ والبحر المحيط جـ٦ ص ٢٩١..
قوله تعالى :﴿ ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون ( ٤١ ) قل من يكلؤكم بالليل والنهار ومن الرحمان بل هم عن ذكر ربهم معرضون ( ٤٢ ) أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصحبون ( ٤٣ ) ﴾ هذه تسلية من الله لرسوله مما أصابه من أذى المشركين وصدهم عنه وتكذيبهم له، فالله جل وعلا يبين لرسوله ( ص ) كيلا يبتئس مما أصابه أن ما سبقك من النبيين والمرسلين قد أصابهم مثل ما أصابك من الأذى ؛ فقد استهزأ بهم المشركون المكذبون ( فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون ) فقد كان المشركون يستهزئون بالعذاب فضلا عن تكذيبه ؛ أي نزل بالذين كانوا يسخرون من رسلهم العذاب الذي كانوا يستبعدون نزوله ويسخرون منه.
قوله :( قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمان ) استفهام تقريع وتوبيخ ؛ أي من الذي يحفظكم من بأس الله في كل أوقاتكم ؛ إنه ليس من كالئ لكم يحفظكم من عذاب الله ليلا أو نهارا غيره سبحانه ( بل هم عن ذكر ربهم معرضون ) أي لا يصلح المشركون الظالمون لكلاءة الله ورعايته بسبب إعراضهم عن دين الله أو قرآنه.
قوله :( أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا ) ( أم )، بمعنى بل والهمزة ؛ أي بل ألهم آلهة من دوننا تمنعهم من عذابنا. وقال ابن عباس : في الكلام تقديم وتأخير وتقديره : أم لهم آلهة من دوننا تمنعهم من عذابنا ؟ أي أم لهم مانع من سوانا يدرأ عنهم عذابنا. ثم استأنف الإخبار عن آلهتهم فبين أن ما لا يستطيع أن ينصر نفسه أو يمنعها، ولا هو بمصحوب من الله بالنصر والتأييد كيف يستطيع أن يمنع غيره أو ينصره.
قوله تعالى :﴿ بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون ( ٤٤ ) قل إنما أنذركم بالوحي ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون ( ٤٥ ) ولئن مسهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين ( ٤٦ ) ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين ( ٤٧ ) ﴾. أشار بقوله :( هؤلاء ) إلى المخاطبين وهم كفار قريش ومن عبد من دون الله آلهة أخرى. فقد بين الله أنه متّع هؤلاء المشركين ومتّع آباءهم من قبلهم بما آتاهم من زينة الحياة الدنيا ( حتى طال عليهم العمر ) أي طالت أعمارهم في الخير والنعمة، وطال عليهم الأمد في الرخاء، فقست قلوبهم وظنوا أنهم دائمون في حالهم هذا. وهم في ذلك واهمون سادرون في الضلالة بإمهالهم إلى الوقت الذي يأخذهم الله فيه بالعذاب.
قوله :( أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها ) المراد بنقص أطراف الأرض هو نقص أرض الكفر والكافرين وذلك بتسليط المسلمين عليها وإظهارهم على أهلها وجعلها دار إسلام. وذلك تبشير من الله للمسلمين حينئذ بما يفتح الله عليهم من نصر وغلبة. ويؤيد هذا التأويل قوله :( أفهم الغالبون ) الاستفهام للتقريع والتوبيخ ؛ إذ لم يزدجروا ولم يعتبروا بما يجري عليهم من انحسار وخذلان وهزيمة ؛ فهم المغلوبون الأخسرون الأذلون.
قوله :( قل إنما أنذركم بالوحي ) أي إنما أخوفكم من العذاب بالقرآن لا من تلقاء نفسي. وما كان من عند الله فهو الحق والصدق، ثم أخبر الله عز وعلا أنه مع إنذار المشركين وتحذيرهم وتخويفهم من العذاب ؛ فإنهم معرضون عما أنذروا به. وهو قوله :( ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون ) اللام في ( الصم ) للعهد وهو إشارة إلى هؤلاء المنذرين ؛ أي أنهم لا يسمعون الإنذار ؛ لأنهم صم عن سماعه فلا جدوى من إنذارهم أو تحذيرهم.
قوله :﴿ ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين ﴾ النفحة، من الريح بمعنى الدفعة. و من العذاب بمعنى القطعة١. والمعنى : أنه لئن مسّ هؤلاء المشركين أقل قطعة أو دفعه يسيرة من عذاب الله فلسوف يذعنون ويدعون على أنفسهم بالهلاك معترفين بأنهم كانوا خاطئين، وأنهم ظلموا أنفسهم بالوقوع في الخطيئة فاستحقوا العذاب.
١ - القاموس المحيط ص ٣١٣..
قوله :( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة ) ( الموازين ). جمع ميزان. وهو ما لا ندري بتصورنا الدنيوي المحدود ماهيته وحقيقته. ولكنه الميزان الذي توزن به الأعمال يوم القيامة وكفى. وفي الأظهر أن المراد بالموازين، الميزان الواحد. وقد جمع هنا باعتبار تعدد الأعمال التي توزن فيه. وقد وضعت الموازين بالقسط وهو العدل على سبيل المبالغة فيه- أي في العدل. وهي كأنها في نفسها قسط ( ليوم القيامة ) أي لأهل يوم القيامة. وقيل : اللام بمعنى في ؛ أي في يوم القيامة.
قوله :( فلا تظلم نفس شيئا ) ( شيئا ) مفعول به ثان ؛ أي لا يمس أحدا ظلم. وإنما يوفى كل إنسان بما عمل ( وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها ) أي وإن كان الشيء أو العمل مثقال حبة من خردل ) الخردل، حبّ شجر، يعالج بطلائه النقرس والنسا والبرص، ودخانه يطرد الحيات. وهو ملين هاضم١
قوله :( أتينا بها ) من الإتيان ؛ أي أحضرناها لنجازي بها ( وكفى بنا حاسبين ) أي عالمين حافظين ؛ لأنه لا يغيب عنا شيء من أعمال العباد. وفي ذلك من الوعيد ما لا يخفى٢.
١ - القاموس المحيط ص ١٢٨٢..
٢ - تفسير البيضاوي ص ٤٣١ والبحر المحيط جـ ٦ ص ٢٩٤، ٢٩٥..
قوله تعالى :﴿ ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين ( ٤٨ ) الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون ( ٤٩ ) وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون ( ٥٠ ) ﴾ المراد بالفرقان، التوراة. وهو الضياء والذكر ؛ أي آتيناهما كتابا هو فرقانا وضياء وذكر. أما الفرقان : فلكونه فارقا بين الحق والباطل. وضياء ؛ لأنه يستضاء به في ظلمات الجهالة والضلال، ولأنه يفضي بالضرورة إلى النجاة في الدارين. وذكر لأنه للتذكرة والموعظة والتنبيه أو بمعنى الشرف. وذلك كله ( للمتقين ) الذين يخافون الله ويذعنون له بالخضوع والامتثال.
وقد وصفهم الله بقوله :( الذين يخشون ربهم بالغيب ) أي يخافون الله ولم يروه. أو يخافونه إذا غابوا عن أعين الناس.
قوله :( وهم من الساعة مشفقون ) أي خائفون من دواهي القيامة وما فيها من الأهوال والبلايا. وذلك هو شأن المؤمنين الأتقياء ؛ فإنه لا يغيب عن أذهانهم ذكر الساعة وما فيها من هول الحساب.
قوله :( وهذا ذكر مبارك أنزلناه ) الإشارة إلى القرآن ؛ فإنه حافل بالخير والرحمة وجزيل المنافع، أنزلناه على محمد ليكون هداية للعالمين.
قوله :( أفأنتم له منكرون ) استفهام إنكار وتوبيخ، يخاطب الله به المشركين الجاحدين. والمعنى : أفتنكرون هذا القرآن وهو في غاية الوضوح والإعجاز والصدق والجمال.
قوله تعالى :﴿ ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين ( ٥١ ) إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ( ٥٢ ) قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين ( ٥٣ ) قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين ( ٥٤ ) قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين ( ٥٥ ) قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين ( ٥٦ ) ﴾ يبين الله في هذه الآية وما بعدها من الآيات في هذه السورة حال كثير من النبيين من حيث ما أصابهم من البلاء بسبب عدوان الظالمين عليهم. وذلك على سبيل التسلية لرسول الله ( ص ) وكيما يتأسى بهم فيما حصل له من قومه من الأذى. ويأتي في طليعة هؤلاء النبيين المبتلين بأممهم الضالة العاتية، خليل الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام. فقد آتاه الله الهدى وألهمه الحق والحجة على قومه، وسلك في قلبه وفطرته الاهتداء إلى وجوه الصلاح في الدين والدنيا حال كونه صغيرا. وذلك من قبل موسى وهارون.
قوله :( وكنا به عالمين ) الله عليم بما آتى إبراهيم من الرشد والحكمة والنبوة وكمال البصيرة وأنه أهل لما آتاه الله من ذلك.
قوله :﴿ إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ﴾ ( إذ قال )، يعني اذكر حين قوله لأبيه وقومه :( ما هذه التماثيل ) يراد بها الأصنام المصورة على هيئة السباع والطيور والإنسان. والاستفهام للتحقير والتصغير والاستهانة ؛ فقد ندد إبراهيم بأصنام قومه تنديدا بليغا، واستنكر عبادتهم أيما استنكار، مستصغرا بذلك سوء صنيعهم، وسفاهة أحلامهم، وفرط جهالتهم بعبادة هذه الآلهة المصطنعة الموهومة التي هم على عبادتها ( عاكفون ) أي مقيمون ملازمون.
قوله :﴿ قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين ﴾ لم يأتوا بحجة ولا برهان، إلا التقليد الأصم والمحاكاة الضالة العمياء من غير نظر ولا تفكير. وذلك هو التقليد السقيم الذي يتعطل به العقل، وتمتهن فيه الفطرة والفكرة.
كذلك كان السابقون من قوم إبراهيم عليه السلام ؛ إذ ألفوا ما كان يعبد آباؤهم من تماثيل الخشب والحجر فلجوا في عبادتهم لجوجا.
فرد عليهم إبراهيم كما علمه ربه ﴿ لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين ﴾ أي أنتم المقلّدون، وآباؤكم المقلّدون موغلون مستقرون في الضلال الظاهر والجهالة التي لا تخفى على ذي مَسكة عقل.
قوله :﴿ قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين ﴾ استعظموا إنكاره عليهم واستبعدوا كونهم على ضلال، من أجل ذلك جوزوا أن ما قاله إبراهيم مزاح وهزل. فسألوه : أجئتنا بالجد أم بالهزل ؛ أي أجاد أنت فيما تقول أم لاعب. فأخبرهم أن ما قاله حق وأنه جد لا هزل، وهو قوله :( بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن )
( بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن ) وذلك إضراب عن كونه لاعبا ؛ إذ أخبر أنه جاد، وأن الذي يستحق العبادة لهو رب العالمين ؛ وهو رب السماوات والأرض، ورب كل شيء ( الذي فطرهن ) أي فطر الأصنام التي تعبدونها ؛ فهو خالقها وخالقكم وخالق كل شيء. لا جرم أنه أحق أن تعبدوه وتذعنوا لطاعته ( وأنا على ذلكم من الشاهدين ) الإِرادة عائدة إلى المذكور من توحيد الله وإفراده بالربوبية دون غيره. وهذه حقيقة لا ريب فيها وأنا عليها ( من الشاهدين ) أي من الذين يشهدون على هذه الحقيقة وهم كثيرون. وهي حقيقة جلية بلجة لا يجحدها إلا كل مأفون جهول متعنت١.
١ - - تفسير البيضاوي ص ٤٣٢ والبحر المحيط جـ٦ ص ٢٩٩..
قوله تعالى :﴿ وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين ( ٥٧ ) فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون ( ٥٨ ) قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين ( ٥٩ ) قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم ( ٦٠ ) قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون ( ٦١ ) قالوا آأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم ( ٦٢ ) قال بل فعله كبيرهم هذا فسألوهم إن كانوا ينطقون ( ٦٣ ) ﴾.
أقسم إبراهيم الخليل عليه السلام ليكيدن أصنام هؤلاء الضالين السفهاء بتكسيرها وتحطيمها بعد أن يبرحوا مغادرين. وهذا صنع هائل قام به النبي الأكرم إبراهيم بشجاعته الفذة المعروفة وجرأته البالغة في مواجهة الباطل على نحو ليس له في الرجال نظير. ذلك بالرغم مما كان يحف به من المخاطر العصيبة، خصوصا إذا علمنا مبلغ جهالة القوم ومدى تشبثهم بالأصنام وحبهم لها، وعلى رأسهم الطاغوت العاتي نمروذ. لكن إبراهيم بقلبه الكبير الحافل بالإيمان واليقين والثقة بالله أجدر أن لا يخشى أحدا سوى الله. وأجدر أن يكون أهلا لما صنعه بأصنام القوم من تقطيع وتهشيم، دون أن يثنيه عن ذلك ضعف أو خشية من سطوة الظالمين وعدوانهم وهو قوله :( وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين ) التاء، من حروف القسم. والمراد بالكيد الاجتهاد في تكسير الأصنام مع ما يخالط ذلك من لطيف الحيلة في الإخبار عن نفسه بأنه سقيم وأن الذي قام بالتكسير كبيرهم من الأصنام نفسها. لذلك أقسم قائلا : تالله لأجتهدن في تحطيم هذه الأصنام معقب خروج القوم إلى عيد لهم.
قوله :( فجعلهم جذاذا ) أي حطاما أو قطعا. من الجذ بالفتح وهو القطع١.
هكذا فعل إبراهيم بالأصنام ؛ إذ كسّرها بفأسه تكسيرا حتى صيرها حطاما باستثناء الصنم الكبير منها ؛ فقد تركه ثم علق فأسه في عنقه- أي عنق الصنم.
قوله :( لعلهم إليه يرجعون ) أي فعل إبراهيم ما فعله بأصنامهم ترجيا منه أن يرجعوا إلى الله بالتوبة والندامة والاستغفار ومجانبة الشرك والضلال، أو يرجعوا إلى الصنم الكبير وقد علق إبراهيم الفأس في عنقه فيسألوه عمن فعل هذا بالأصنام فلا يجيبهم. وفي ذلك ما يحملهم على مراجعتهم أنفسهم أو تبكيتها ثم الإدراك بأن هذا الصنم أصم لا يعي ولا ينطق. وما الأصنام المكسرة إلا أحجار من الحجارة المصفوفة الخرساء، فأجدر ألا تكون آلهة مربوبة، مما ينبههم إلى أنهم غائرون في السفاهة والباطل، فعسى أن يزدرجوا عن ظلمهم ويفيئوا إلى الحق بعبادة الله وحده.
وعندما رجع القوم من عيدهم وأقبلوا على أصنامهم فألفوها على حالها من التحطيم أسقط في أيديهم واستشاطوا غضبا ورغبة في الثأر والانتقام لما حل بآلهتهم المصطنعة من تكسير وتهشيم.
١ - القاموس المحيط ص ٤٢٣..
﴿ قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين ﴾ أي من فعل هذا بأصنامنا من التحطيم والإهانة والتحقير لهو شديد الظلم، لجراءته على توريط نفسه في الهلاك وفي إغضاب الأصنام.
قوله :﴿ قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم ﴾ قيل : سمعه بعض الناس من عبدة الأصنام. وقيل : سمعه واحد منهم. والمرد بالفتى الشاب. قال ابن عباس في هذا الصدد : ما بعث الله نبيا إلا شابا.
فقد سمعه ( يذكرهم ) أي يعيبهم ويحلف أنه ليكيدنهم ويقال له إبراهيم.
قوله :﴿ قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون ﴾ قال المشركون وفي طليعتهم نمروذ : أحضروا إبراهيم معاينا مشاهدا على رؤوس الأشهاد وفي حضرة الناس جميعا ليشهدوا عليه بما قاله عن أصنامهم وما صدر عنه من تكسير لها. أو يشهدون ما يحل به من عقابهم جزاء ما فعله في أصنامهم.
قوله :﴿ قالوا آأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم ﴾ سألوه مستنكرين مستعظمين صنعه : أأنت الذي فعلت ما فعلته من تكسير الأصنام وتهشيمها ؟
قوله :( قال بل فعله كبيرهم هذا ) أسند الفعل وهو التهشيم إلى كبيرهم، وما كان قصد إبراهيم عليه الصلاة والسلام أن ينسب الفعل الصادر عنه إلى الصنم، وإنما قصده تقرير ذلك لنفسه على أسلوب تعريضي مستهزئ يبلغ فيه غرضه من إلزامهم الحجة مع ما يصاحب ذلك من تقريع لهم وتبكيت. حتى إذا تفكروا مليا علموا أن كبيرهم لهو عاجز عن فعل شيء ؛ فهو لا يصلح إلها وإنما الله هو الإله الواحد الحق، وليس من إله معبود سواه. وذلك كان مراد إبراهيم عليه السلام. أما ما نسب إلى إبراهيم من كذبة حسبت عليه، فالصواب في ذلك أن ما قاله إبراهيم ههنا كان من باب المعاريض المباحة وليس الكذب الممحض.
قوله :( فسألوهم إن كانوا ينطقون ) دعاهم إبراهيم أن يسألوا الأصنام عن حالهم ليبادروا من أنفسهم فيوقنوا أنها لا تنطق مؤملا عقب ذلك تحررهم من ضلالهم وإشراكهم وإيغالهم في عبادة الأصنام.
قوله تعالى :﴿ فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون ( ٦٤ ) ثم نكسوا على رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون ( ٦٥ ) قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم ( ٦٦ ) أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون ( ٦٧ ) قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين ( ٦٨ ) قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم ( ٦٩ ) وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين ( ٧٠ ) ﴾.
بعد أن أقام إبراهيم الحجة على القوم المشركين رجعوا إلى عقولهم وأطرقوا متفكرين ( فقالوا إنكم أنتم الظالمون ) وذلك حين سألتم إبراهيم ولم تسألوا الأصنام، أو حين أبهتهم إبراهيم، والفأس في عنق الصنم الكبير. فمن لا يدفع عن رأسه الفأس كيف يدفع عن نفسه وعن عابديه البأس ؟ أو لأنكم نسبتم إبراهيم إلى الظلم في قولكم :( إنه لمن الظالمين ) فهذه الأصنام مستحقة لما فعله إبراهيم بها من تحطيم١.
١ - تفسير ابن كثير جـ٣ ص ١٨٣، والنسفي جـ٣ ص ٨٢..
قوله :( ثم نكسوا على رءوسهم ) أي انقلبوا إلى المجادلة والخصام بالباطل. نكسه ؛ أي قلبه على رأسه. والمنكوس، المقلوب ؛ أي جعل أعلاه أسفله١.
والمعنى : أن الله أجرى على لسانهم في القول الأول، ثم انقلبوا منكوسين مرتطمين في غيهم. فردوا بذلك إلى الشقاوة والكفر بعد أن أقروا على أنفسهم بالظلم. ثم قالوا في لجاجة وعناد :( لقد علمت ما هؤلاء ينطقون ) ؛ يعني إنك لتعلم يا إبراهيم أن هذه الأصنام عاجزة عن النطق، فكيف تأمرنا بسؤالها ومخاطبتها ؟ ! وهذا غاية في جلاء البرهان على أنهم ظالمون مبطلون، وهو أبلغ في الكشف عن إيغالهم في السفه والسخف وهوان الأحلام.
١ - القاموس المحيط ص ٧٤٦..
قوله :﴿ قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم ﴾ استفهام توبيخ وتقريع، بعد أن اعترفوا أن هذه الأصنام جامدة صماء لا تملك لهم ضرا ولا نفعا، وما هي إلا تماثيل بلهاء خرساء، لا تنطق ولا تعي. ومع ذلك كله فإنهم يعبدونها من دون الله.
قوله :( أف لكم ولما تعبدون من دون الله ) ( أف ) كلمة تضجر وتكرّه، بتشديد الراء. وتأفف من كرب أو ضجر١ ؛ فقد شجر إبراهيم من هؤلاء المشركين ومن عبادتهم الفاسدة. وقال في صوت المتضجر " قبحا لكم ولأصنامكم التي تعبدونها ( أفلا تعقلون ) أفلا تفهمون أن هذه تماثيل جامدة صماء لا تعي ولا تدرك. ومن كانت هذه صفته فيما يليق بذي عقل أن يعبده.
١ - القاموس المحيط ص ١٠٢٣.
ولما قامت الحجة عليهم ورأوا وضوح الدلائل والبينات وأيقنوا أنهم ماضون في الباطل ؛ لجوا في المعاندة والاستكبار وتمادوا في العتو والجحود فقالوا :( حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين ) بعد أن استبان زيف دعواهم وفساد مزعمهم وأن حجتهم داحضة وليس لهم أمام الحق من دليل ولا برهان إلا التلبس بالحماقة وأوهام التماثيل والأصنام، عدلوا كعادة المكابرين والمعاندين المفلسين- إلى الطغيان والتسلط والقوة. فقال بعضهم لبعض :( حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين ) أي انصروها بالانتقام من إبراهيم بما فعله فيها من تهشيم إن كنتم تنتصرون لآلهتكم. من أجل ذلك راموا تحريقه في النار مبالغة في الانتقام والتنكيل. والتحريق بالنار أفظع ضروب النكال الذي يعذب به كائن. وهم لاشتداد غضبهم وفرط تشبثهم بالأصنام وحبهم لها مع ما يخالط عقولهم من الضلال والسفه والظلم- فقد اختاروا النار لتعذيب إبراهيم بها ثم قتله جزاء ما يدعوهم من عبادة الله وحده. وما ينبغي هنا الإسهاب في بيان مسائل جانبية مما لا يخلو من إفراط الإسرائيليات، كعدة حبسه عليه السلام، ومدة جمع الحطب، ومدة سنه إذ ذاك، ومدة إقامته في النار وغير ذلك من المسائل الجانبية التي كثرت فيها الأقوال. والأهم من ذلك كله جوهر المسألة هنا وهو تمالؤ القوم المجرمين وعلى رأسهم الطاغية الأكبر نمروذ. تمالؤهم على تحريق إبراهيم في النار ؛ وذلك أفظع ما تتصوره العقول عن مواجهة الطغاة لداعي الحق، وهو ما يبتغي لهم غير الهداية والرشاد والكف عن ضلال الشرك والوثنية.
إن ذلك أشد ما تبلغه القلوب الظالمة من قسوة وحقد وتحجر وهي تؤز الظالمين المجرمين لمثل هذا التعذيب الشنيع. ومع ذلك كله فرسول الله إبراهيم مستسلم لله، مذعن لجلاله، راض بقدره. فما تردد أو اضطرب أو تزعزع، وما مال أو لانَ أو استكان أو انثنى، بل إنه كان في هذه الساعة الرهيبة العصبية لأشد بأسا من أولي البأس جميعا، وأعظم رسوخا واستقرارا من الجبال الشم الراسيات على وجه البسيطة مع أنه كان موثوقا بالقيود والأغلال، وكان صابرا مذعنا راضيا بما كتبه الله له من بلاء. وقيل : إن المجرمين وضعوا إبراهيم في كفة منجنيق ليقذفوه في النار من بُعد. وذلك لهول ما أعدوه من نار حامية مستعرة شارك سائرهم في إيقادها وجمع الحطب لها. فلما القوه فيها قال عليه الصلاة والسلام قولته الكريمة العظيمة : حسبي الله ونعم الوكيل. وهو ما رواه البخاري عن ابن عباس أن إبراهيم قالها حين ألقي في النار وقالها محمد ( ص ) حين قالوا :( إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ) وذكر أن جبريل عرض إبراهيم وهو في الهواء عقيب إلقائه بالمنجنيق فقال له : ألك حاجة ؟ فقال إبراهيم : أما إليك فلا وأما من الله فبلى ؛ فاستحق إبراهيم من الله العون والمدد والكرامة، وفرج الله وعونه لعباده المظلومين الصابرين دان قريب.
قد صير الله النار بردا وسلاما بعد أن نزع ما فيها من خصوصية الإحراق وهو قوله سبحانه :( يا نار كوني بردا وسلما على إبراهيم ) جعل الله النار على إبراهيم ذات برد وسلام ؛ إذ لم يجعلها باردة وكفى. ولو كانت كذلك لما احتملها إبراهيم لشدة بردوتها لكن الله أذهب شدة بردها بجعلها سلاما آمنا لا يمس إبراهيم منها حر ولا أذية. وهذه معجزة ربانية عظمى أتمها الله تنجية لنبيه إبراهيم وبرهانا للعالمين كما تظل الدنيا دوام الزمن تذكر هذا الحدث الهائل الجلل الذي يحمل الأذهان على التصديق والاستيقان، ويؤكد أن نواميس الكون وقوانين الطبيعة والحياة كلها بيد الله، فإن شاء نزعها أو أوقف جريانها ليصنع ما يشاء من الخوارق والمعجزات.
قوله :﴿ وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين ﴾ أراد المجرمون أن يكيدوا لإبراهيم أعظم كيد وذلك بإلقائه في النار. لكن الله ردهم إلى الخزي والخسران ؛ إذ جعل كيدهم في نحورهم فأبطل ما راموه لإبراهيم من سوء الكيد. وقيل : سلّط الله عليهم ما هو أحقر خلقه وأضعفه وهو البعوض ؛ بأكل لحومهم وشحومهم وشرب دمائهم، وسلّط الله على نمروذ بعوضة قد دخلت من منخره إلى دماغه فجعلت تضطرب فيه وتنهشه وهو يصطرخ من شدة الألم اصطراخا، وقد ظل على حاله كهذه مدة طويلة من الوقت حتى مات١.
١ - تفسير ابن كثير جـ ٣ ص ١٨٣، ١٨٤ والبحر المحيط جـ٦ ص ٣٠٣-٣٠٥..
قوله تعالى :﴿ ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين ( ٧١ ) ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين ( ٧٢ ) وجعنلهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين ( ٧٣ ) ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين ( ٧٤ ) وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين ( ٧٥ ) ﴾.
بعد أن نجى الله نبيه إبراهيم من كيد المجرمين في العراق أخرجه مهاجرا إلى الشام وهي الأرض التي بارك الله فيها بما جعله فيها من الخصب والخيرات وكثرة المبعوثين من النبيين الذين أرسلهم الله من هذه الديار ليشيعوا الإيمان والحق والتوحيد في البلاد. وذكر أن إبراهيم نزل بفلسطين ومعه زوجته الصالحة المؤمنة سارة وهي ابنة عمه.
وأما لوط فهو ابن أخيه وقد آمن به واتبع ملته وهاجر معه إلى ديار الشام ثم نزل بالمؤتفكة.
هكذا كتب الله على عباده الصالحين المقربين أن يهاجروا فرارا بدينهم إلى حيث الأمن وزوال الفتنة. وفي الحديث : " إنها ستكون هجرة بعد هجرة، فخيار الناس إلى مهاجر إبراهيم ".
قوله :( ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة ) النافلة بمعنى العطية. والنفل بالتحريك يعني الهبة١ ؛ فهي بذلك مصدر. وقيل : النافلة ولد الولد ؛ فقد أعطاه إسحاق ثمرة دعائه، وأعطاه يعقوب نافلة ؛ أي زيادة ؛ فهي حال من يعقوب.
قوله :( وكلا جعلنا صالحين ) ( كلا ) مفعول أول للفعل ( جعلنا ). والمفعول الثاني، ( صالحين ). فقد جعل الله إبراهيم ولوطا وإسحاق ويعقوب أهل تقي وخير وصلاح
١ - القاموس المحيط ص ١٣٧٤..
( وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا ) أي جعلناهم أئمة هداة يقتدى بهم في الدين والصلاح ؛ إذ يرشدون الناس بوحي الله وأمره إلى دينه وشرعه. قوله :( وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ) أوحى الله إلى هؤلاء النبيين الأطهار أن يفعلوا جميع الأعمال الصالحة. وكذلك إقام الصلاة وإيتاء الزكاة. وذلك من باب عطف الخاص العام. قوله :( وكانوا لنا عابدين ) أي مذعنين مستسلمين لله، مخلصين له في الطاعة والعبادة.
قوله :( ولوطا آتيناه حكما وعلما ) لوطا، منصوب على الاشتغال ؛ أي بفعل يفسره قوله :( آتيناه حكما ) أي النبوة. وقيل : الحكمة هي ما يجب فعله من العمل. أو حسن الفصل بين الخصوم في القضاء. والمراد بالعلم هنا الفقه أو ما ينبغي علمه للأنبياء.
قوله :( ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث ) القرية، هي سدوم وقيل : كانت قراهم سبعا وقد عبّر عنها بالواحدة ؛ لاتفاق أهلها على الفاحشة، وكانت في فلسطين من الشرق إلى حد نجد بالحجاز. وقد قلب الله منها ستا وأبقى ما كان يقيم فيها لوطا وأهله ومن آمن به. والمراد بالخبائث اللواطة ( إنهم كانوا قوم سوء فاسقين ) أي خارجين عن طاعة الله، فهم مشركون طغاة وفوق ذلك، فعلتهم المستقذرة النكراء وهي اللواط. فقد نجى الله لوطا من ظلم هؤلاء الفاسقين وفسادهم.
قوله :﴿ وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين ﴾ أي جعلناه في أهل رحمتنا، أو في الجنة ؛ فقد كان من أهل الصلاح وقد سبقت له منا الحسنى١.
١ - البحر المحيط جـ٦ ص ٣٠٦ وتفسير البيضاوي ص ٤٣٤..
قوله تعالى :﴿ ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم ( ٧٦ ) ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين ( ٧٧ ) ﴾ ( نوحا )، منصوب بفعل محذوف، والتقدير : واذكر نوحا حين دعا على قومه بالهلاك من قبل هؤلاء المذكورين ؛ فقد دعا نوح ربه مستعينا به مستجيرا وهو قوله :( فدعا ربه أني مغلوب فانتصر ) وقال أيضا ( رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديار ).
قوله :( فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم ) استجاب الله لنوح دعاءه على قومه المجرمين ونجاه وأهله الذين آمنوا معه ( من الكرب العظيم ) أي من الطوفان وهو التغريق ومما كابده فيهم من شدة الأذية والتنكيل والتكذيب ؛ فقد لبث فيهم ألف عام إلا خمسين عاما يدعو إلى الله الواحد الحق ولم يجد منهم إلا الجحود والإعراض والنكال.
قوله :( ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا ) أي نجيناهم من أذى هؤلاء المجرمين الأشرار وكيدهم وسوء صنيعهم ( إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين ) أي أغرقهم الطوفان فأتى عليهم جميعا سواء فيهم الذكور والإناث والصغار والكبار.
قوله تعالى :﴿ وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ( ٧٨ ) ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين ( ٧٩ ) وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون ( ٨٠ ) ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين ( ٨١ ) ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين ( ٨٢ ) ﴾.
كان داود ملكا نبيا- يحكم بين الناس فوقعت هذه النازلة. وكان ابنه ؛ إذ ذاك قد كبر وكان يجلس على الباب الذي يخرج منه الخصوم. فتخاصم إلى داود رجل له حرث أي زرع، وقيل : كرم. وقد دخلت زرعه أو كرمه غنم رجل فأفسدت عليه، فحكم داود في ذلك بدفع الغنم إلى صاحب الزرع أو الكرم، وقد استوت قيمتاهما ؛ أي قيمة الغنم كانت على قدر النقصان من الحرث. فجاء سليمان فقال : يا نبي الله إني أرى ما هو أرفق بالجميع : أن يأخذ صاحب الغنم الحرث يقوم عليه ويصلحه حتى يعود كما كان. ويأخذ صاحب الحرث الغنم في تلك المدة ينتفع بمرافقها من لبن وصوف ونسل. فإذا عاد الحرث إلى حاله صرف كل مال صاحبه إليه فرجعت الغنم إلى ربها والحرث إلى ربه. فقال داود : وفقت يا بني. وقضى بينهما بذلك. والظاهر أن كلا من داود وسليمان حكم بما ظهر له ؛ فهو عنده متوجه ؛ وهو قول الجمهور. وقيل : حكم كل واحد منهما بوحي من الله وقد نسخ حكم داود بحكم سليمان.
أما في شريعتنا : فإنه لا ضمان على صاحب الغنم سواء أتلفت الحرث نهارا أو ليلا إلا أن يكون مع البهيمة سائق أو قائد يقودها. وهو قول الحنفية. وقد استدلوا بالخبر : " جرح العجماء جُبار " وعند الشافعية، وجوب ضمان المتلف بالليل لا بالنهار ؛ إذ المعتاد ضبط الدواب ليلا. وقد قضى النبي ( ص ) في حائط أفسدته ناقة البراء بمثل ذلك. وبين أنه على أهال الأموال حفظها بالنهار وعلى أهل الماشية حفظها بالليل.
ذلك هو مجمل القصة. ثم نأخذ في تفسير الآيات وهي قوله :( وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث ) أي واذكر قصة داود وسليمان ( إذ يحكمان في الحرث )، بدل منهما. والحرث معناه الزرع أو الكرم، والأول أظهر. ( إذ نفشت فيه غنم القوم ) ( إذ )، ظرف للفعل ( يحكمان ) و ( نفشت )، من النفش وهو تشعيث الشيء بالأصابع حتى ينتشر، والتنفيش هو أن ترعى الغنم أو الإبل ليلا بلا راع١ فأكلته وأفسدته ( وكنا لحكمهم شاهدين ) أي كنا للحكم الذي صدر في هذه القضية عالمين فلا يخفى علينا منه شيء. والضمير في حكمهم عائد على الحاكمين والمحكوم لهما وعليهما.
١ - القاموس المحيط ص ٤٨٤ والمراد أن الغنم دخلت الحرث ليلا..
قوله :( ففهمناها سليمان ) أي فهمنا سليمان الفتوى أو الحكومة١ في القضية، وفي هذا دليل على أن الصواب كان في حكم سليمان عليه السلام. والقصة ما بيناه آنفا.
قوله :( وكلا آتينا حكما وعلما ) آتى الله كلا من داود وسليمان ( حكما )، أي النبوة، و ( وعلما )، أي معرفة بالقضاء في الخصومات والقضايا. وهذا دليل على أن خطأ المجتهد لا يقدح فيه، وأن كل مجتهد مصيب.
قوله :( وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير ) التسخير، معناه التذليل ( يسبحن )، جملة فعلية في موضع نصب على الحال، بمعنى مسبحات ( والطير )، معطوف على الجبال. والمعنى : ذللنا مع داود الجبال مسبحات. وذلك لطيب صوته عليه السلام بتلاوة الزبور، وكان إذا ترنم به تقف الطير في الهواء فتجاوبه، وترد عليه الجبال تأويبا. وقد قدمت الجبال على الطير ؛ لأن تسخيرها وتسبيحها أشد عجبا وأظهر في الإعجاز ؛ لأنها جماد. وقد روي أن النبي ( ص ) لما مر على أبي موسى الأشعري وهو يتلو القرآن من الليل وكان له صوت حسن ومستطاب، وقف واستمع لقراءته وقال : " لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير آل داود " فقال يا رسول الله : " لو علمت أنك تسمع لحبَّرته لك تحبيرا " أي جعلته ذا نغمة حسنة. ومنه الحبور وهو السرور. وقال أبو عثمان النهدي : ما سمعت صوت صنج ولا بربط ولا مزمار مثل صوت أبي موسى رضي الله عنه. والمراد بتسبيح الجبال والطير وقوع ذلك منهن بالنطق، وهو قولهن : سبحان الله.
ومن هنا ندرك حكمة النهي عن الملاهي ؛ وهي الأدوات الموسيقية على اختلاف أنواعها باستثناء الدف، لما في هذه الأدوات من تطريب سيفضي في الغالب إلى الاستغناء عن التطريب بالقرآن. هذا الكلام المعجز المستعذب الذي يتلوه أولو المواهب مرنّمين٢ محبرين ؛ لتأتي تلاوتهم على أحسن ما تكون عليه الأصوات من نداوة وحلاوة. فما ينبغي للمسلمين أن يستغنوا عن التطريب بالقرآن، بغيره من الملاهي المصطنعة من الأدوات الموسيقية. لا جرم أن التهلي بسماع الموسيقى سيطفئ في القلوب والوجدان رويدا رويدا جذوة الترنم بالقرآن. فما يوغل المرء في استماع الموسيقى حتى يفتر في حسه مذاق الابتهاج بسماع هذا الكتاب الرباني الكريم.
ونجزم في يقين أن الاستماع إلى أصوات ندية حسنة تردد آيات القرآن سوف يُغني عن التلذذ بأدوات الطرب من الملاهي المصنوعة. وفي المسلمين في كل زمان طائفة من أولي الأصوات الشجية الندية ما يستجيش الوجدان ويستحوذ بالغ الاستحواذ على الفكر والبال والجنان، ويُجهش في القلوب والأرواح إحساسا مستفيضا من الحبور والتملّي وإشاعة البهجة والجمال وبالغ العظة والادكار.
قوله :( وكنا فاعلين ) أي فاعلين هذه الأعاجيب من تسخير الجبال، وتسبيحهن والطير، وليس ذلك بدعا من الله وإن كان عندكم عجيبا.
١ - الحكومة، والحكم، بالضم بمعنى القضاء. انظر القاموس المحيط ص ١٤١٥..
٢ - ترنيم الصوت والترنم به أي تطريبه. أو تحبيره ليكون مستلذا مطربا. انظر القاموس المحيط ص ١٤٤١..
قوله :( وعلمناه صنعة لبوس لكم ) اللبوس والملبوس، ما يلبس. والمراد به هنا الدرع. وقيل : اللبوس كل آلة السلاح من سيف ورمح ودرع وغير ذلك من أصناف السلاح. فقد علّم الله نبيه داود كيف يصنع الدروع أو أنواع السلاح من صفائح الحديد وذلك ( لتحصنكم من بأسكم ) أي تقيكم من حرب عدوكم ( فهل أنتم شاكرون ) استفهام بمعنى الأمر. أي اشكروا الله على ما أنعم به عليكم.
قوله :( ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها ) أي سخرنا لسليمان الريح عاصفة، يعني شديدة الهبوب. و ( عاصفة ) منصوب على الحال. ووصفت الريح في موضع آخر بالرخاء ؛ أي اللين. وذلك لأن الريح كانت تجري باختيار سليمان نظرا للوقت الذي يريد فيه سليمان أحد الوصفين وهو الهبوب العاصف، أو اللين الطيب. وقيل : كان الرخاء في البداية، والعصف بعد ذلك. وذلك على عادة المسافر يبدأ مبطئا، ثم يأخذ في الإسراع. والمراد بالأرض التي بارك فيها، بلاد الشام، لكثرة ثمارها وخيراتها ومياهها. وقد ذكر المفسرون أنه كان لسليمان بساط من خشب يوضع عليه كل ما يحتاج إليه من أمور المملكة والخيل والجمال والخيام والجند، ثم يأمر الريح أن تحمله وترفعه وتسير به، وتظله الطير تقيه الحر إلى حيث يشاء من الأرض. ذلك مما سخره الله لهذا النبي الكريم ومما امتن به على بني إسرائيل من المزايا والنعم.
قوله :( وكنا بكل شيء عالمين ) أي أن الله محيط علمه بالأشياء يجريها على ما يقتضيه علمه.
قوله :( ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك ) الغوص معناه النزول تحت الماء. والغواص من يغوص في البحر على اللؤلؤ١.
والمعنى : أن الله سخر من الشياطين من يغوصون في البحر بأمر سليمان ليستخرجوا منه الجواهر واللآلئ ويعملوا له أشياء أخرى غير الغوص كبناء المحاريب والقصور والتماثيل وغير ذلك ( وكنا لهم حافظون ) كيلا يزيغوا عن أمر سليمان، أو يوجد منهم فساد فيما هم مسخرون فيه ؛ فهم في قبضة الله وتحت قهره ولا يجترئ منهم أحد على الإساءة إلى سليمان بل هو يحكم فيهم كما يريد٢.
١ - القاموس المحيط ص ٨٠٦..
٢ - تفسير النسفي جـ٣ ص ٨٦ وتفسير ابن كثير جـ٣ ص ١٨٧ والبحر المحيط جـ٦ ص ٣٠٨، ٣٠٩ وتفسير البيضاوي ص ٤٣٥..
قوله تعالى :﴿ وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين ( ٨٣ ) فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضرب وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين ( ٨٤ ) ﴾.
نبي الله أيوب، ذكر أنه رومي من نسل إسحاق بن إبراهيم. وهو ذو قصة عجيبة مثيرة تتردد على ألسنة البشرية طوال الدهر بما كرّمه الله به من حسن الثناء والذكر لفرط ما كان عليه من بالغ الصبر والعزيمة ؛ فقد لقي هذا النبي العظيم من كبير البلاء ما يعزّ على البشر أن يحتملوه. فواجه ذلك بالاصطبار والثبات دون زعزعة أو خور أو تبرم إلا الدعاء والتضرع إلى الله.
وهو قوله :( وأيوب إذ نادى ربه ) أي اذكر أيوب حين دعا ربه في خشوع وتوسل ورضى بما صنع فيه. وجملة ذلك : أن الله بعثه للناس نبيا ورسولا، وبسط عليه من الدنيا الخير الكثير ؛ فكان كثير الأهل والمال والولد. وقد ابتلاه الله أشد ابتلاء ؛ إذ أمات كل ولده وأذهب عنه ماله جميعا، وابتلاه بالمرض في بدنه سنين طويلة، قيل : سبع سنين، وقيل أكثر. وقيل : ابتلاه الله بمرض الجذام أصاب سائر بدنه، فنفر منه الناس وعافوه وزهدوا في الدنو منه أو مجالسته باستثناء زوجته الصالحة ؛ فقد كانت تقوم بأمره، وتصلح شأنه ما استطاعت. وقيل : إنها احتاجت فصارت تخدم الناس من أجله.
وفي هذه الحال العصيبة من شدة البأساء والضراء، وموت الأهل والولد، وانقطاع الصحب والخلان يتوجه هذا النبي العظيم الصابر إلى الله متضرعا متوسلا يدعوه في غاية الخضوع والصبر والطاعة بقوله :( أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين ) الألف واللام في الضر للجنس لتعم الضر في الأهل والمال والبدن وقيل : الضر بالضم خاص بما في النفس من مرض وهزال. وبالفتح، ما كان شائعا في كل ضرر.
قوله :( وأنت أرحم الراحمين ) لم يصرح بل اكتفى بذكر ما حل به من بلاء، وما يتجلى في ربه من صفة الرحمة البالغة. وهو يرتجي بذلك أن يكشف الله عنه ما أصابه. وهذا غاية في كمال الطاعة والتأدب مع الله في حسن الطلب.
قوله :( فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر ) استجاب الله دعاء أيوب ؛ إذ تضرع إليه متذللا متوسلا ؛ فكشف عنه ما أصابه من بلاء وهو قوله :( وآتيناه أهله ومثلهم معهم ) يفيد ظاهر الآية أن لله رد على أيوب ما كان له من أهل ؛ إذ أحياهم له بأعيانهم وآتاه كذلك مثل أهله مع أهله من الأولاد والأتباع ( رحمة من عندنا وذكرى للعابدين ) ( رحمة ) منصوب على أنه مفعول لأجله ؛ أي كشفنا عنه ضُره وآتيناه ؛ ما آتيناه لرحمتنا، إياه وليكون ذلك موعظة لغيره من العابدين فيصبروا مثل صبره ويؤجروا مثل أجره.
قوله :﴿ وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين ( ٨٥ ) وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين ( ٨٦ ) ﴾ أي واذكر هؤلاء البربرة الصابرين من النبيين. وهم إسماعيل بن إبراهيم، وهو النبي الذبيح الذي كرّمه الله بطهر الذكرى، وعظّمه بفضيلة المعجزة ؛ إذ اختاره لواحدة من كبرى المعجزات الربانية بصحبة أبيه خليل الرحمان. ثم افتداه ربه بذبح عظيم لتنجيته من الذبح جزاء ثباته واصطلباره ورسوخه في اليقين والاستسلام لله رب العالمين.
وأما إدريس فهو شيث بن آدم عليه السلام. وأما ذو الكفل، أي ذو الحظ من الله. والكفل معناه الحظ والنصيب١ وهو نبي، في قول أكثر المفسرين. فقيل : هو إلياس. وقيل : زكريا. وقيل : يوشع بن نون. وقيل : كان عبدا صالحا ولم يكن نبيا.
قوله :( كل من الصابرين ) أي هؤلاء الذين ذكرنا، كلهم موصوفون بالصبر. وهذا ثناء من الله عليهم ؛ إذ يذكر لهم هذه السجية العظيمة وهي الصبر.
١ - القاموس المحيط ص ١٣٦١..
قوله :﴿ وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين ﴾ هذه الفئة المختارة من كرام البشر، قد حفّت بهم رحمة الله الواسعة ؛ إذ اصطفاهم الله لرسالته ونشر دينه وكتب لهم الفوز والنعيم في الآخرة. وهم من أهل الخير والفضل والصلاح.
قوله تعالى :﴿ وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ( ٨٧ ) فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين ( ٨٨ ) ﴾ ( النون )، معناه الحوت. ( وذا النون ) أي صاحب الحوت وهو يونس ابن متّى ؛ فقد بعثه الله إلى أهل نينوى بالعراق فدعاهم إلى الله تعالى فأبوا واستكبروا، فغضب منهم لله شديد الغضب. وهو قوله :( إذ ذهب مغاضبا ) ( مغاضبا )، منصوب على الحال. أي مراغما لقومه. ومعنى مغاضبته لهم : إنه أغضبهم بمفارقته لهم ؛ إذ خافوا أن يحل بهم عقاب من الله. وقد ذكر إنه تبرّم بهم لطول ما دعاهم إلى عبادة الله وذكَّرهم تذكيرا فلم يتعظوا ؛ بل أقاموا على كفرهم معاندين. فراغمهم يونس إغضابا لهم ظنا منه جواز ذلك، مع أنه لم يفعله إلا غضبا وبغضا للكفر والكافرين ؛ فقد كان عليه أن يحتمل ويصبر وينتظر الإذن من الله في المهاجرة عنهم. من أجل ذلك ابتلاه ربه ببطن الحوت. وهو قوله :( فظن أن لن نقدر عليه ) أي نضيق عليه. وقد ذكر أنه عليه السلام حال مغاضبته لهم، ذهب صوب البحر فركب مع قوم في سفينة فاضطربت بهم وخافوا الغرق، فاقترعوا على رجل من بينهم يلقونه في البحر يتخففون منه، فوقعت القرعة عليه ثلاث مرات ؛ إذ كانوا يأبون أن يلقوه لما لمسوه فيه من صلاح وتقوى. فما لبث يونس بعد ذلك أن ألقى بنفسه في البحر فالتقمه الحوت ( فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ) جمع الظلمات لشدة تكاثفها فكأنها ظُلمة فوق ظلمة. وقيل : الظلمات هي : ظلمة بطن الحوت. وظلمة البحر. وظلمة الليل.
وفي هذه الساعات العصيبة التي تذهب فيها النفس ويغيب فيها كل نصير ومعوان، وينقطع فيها الرجاء من كل أسباب المدد أو النجاة، يلوذ المؤمن المبتلى المكروب برب العالمين ؛ ليجد في رحابه الأمن والسكينة والرضى وعسى أن يكشف عنه الغم ويدرأ عنه ما أحاط به من بلاء وهو يدعو ربه ضارعا إليه متذللا ( لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ) أي ظلمت نفسي بخروجي من قومي قبل أن تأذن لي في الخروج. وقد روى الترمذي والنسائي بسنده عن سعد قال : قال رسول الله ( ص ) : " من دعا بدعاء يونس استجيب له " وروى الإمام أحمد بسنده عن عثمان بن عفان من حديث عن رسول الله ( ص ) قال فيه : " نعم دعوة ذي النون ؛ إذ هو في بطن الحوت ( لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ) فإنه لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له ".
قوله :( فاستجبنا له ونجيناه من الغم ) ( الغم )، معناه الحزن والكرب١ ؛ فقد استجاب الله ليونس بن متى دعاءه ؛ إذ قذفه الحوت إلى الساحل بعد ما لبث في بطنه مدة من الزمان، فكشف عنه ما أصابه من الاغتمام حين التقمه الحوت، ومدة لبثه في بطنه حيث الظلام والإيحاش والكرب الشديد. ( وكذلك ننجي المؤمنين ) أي مثل تلك التنجية تنجي المؤمنين من كربهم إذا استغاثوا بنا ودعونا متضرعين مستعينين٢.
١ - القاموس المحيط ص ١٤٧٦..
٢ - تفسير ابن كثير جـ٣ ص ١٩٢، ١٩٣ وتفسير الجلالين ص ٢٧٥ وتفسير النسفي جـ٣ ص ٨٧ والبحر المحيط جـ٦ ص ٣١١، ٣١٢..
قوله تعالى :﴿ وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين ( ٨٩ ) فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين ( ٩٠ ) والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين ( ٩١ ) ﴾ يعني واذكر زكريا حين دعا ربه أن يهبه الولد ليرثه ولا يتركه وحيدا من غير وارث. ثم رد أ مره إلى ربه خاضعا مذعنا ( وأنت خير الوارثين ) إن لم ترزقني وارثا فتلك مشيئتك وأنت خير باق وخير من يرث.
فاستجاب الله له الدعاء ووهبه الولد الصالح يحيى عليه السلام وهو قوله :( فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه ) أي جعل الله زوجته صالحة للولادة بعد أن كانت عاقرا لا تلد.
قوله :( إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا ) الضمير في قوله :( إنهم ) يعود على الأنبياء المذكورين. فقد كانوا أبرارا أتقياء وكانوا مستجابي الدعاء ؛ لانهم كانوا يبادرون أبواب الطاعات وفعل الصالحات، وكانوا يعبدون الله ( رغبا ورهبا ) مصدران في موضع الحال. أو مفعول لأجله ؛ أي كانوا يعبدون الله ويدعونه رغبة في جزائه الكريم ورضوانه العظيم، وخوفا من عذابه الأليم.
قوله :( وكانوا لنا خاشعين ) أي خائفين وجلين متورعين.
قوله :( والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا ) أي واذكر مريم ابنة عمران التي حفظت فرجها من الحلال والحرام ( فنفخنا فيها من روحنا ) أي أمرنا جبريل بالنفخ في جيب درعها فأحدثنا في بطنها بهذا النفخ ولدها عيسى. وأضاف الروح إلى نفسه تشريفا لعيسى عليه السلام.
قوله :( وجعلناها وابنها آية للعالمين ) ( آية ) مفعول ثان للفعل جعلنا. وأفرد ( آية ) إذ لم يقل آيتين ؛ لأن حالهما بمجموعهما آية واحدة وهي ولادتها إياه من غير زواج ولا مَسيس لقد جعل الله من هذا الحدث الهائل الخارق عبرة لمن اعتبر وادّكر في العالمين إنسهم وجنهم.
قوله تعالى :﴿ إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ( ٩٢ ) وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون ( ٩٣ ) فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون ( ٩٤ ) ﴾ الأمة، بمعنى الملة. والإشارة في الآية إلى ملة الإسلام وهي ملة جميع النبيين والمرسلين. و ( أمة واحدة ) منصوب على الحال. و ( واحدة ) صفة لها. وقيل :( أمة )، بدل من هذه.
والمعنى : أن ملة الإسلام هي ملتكم التي يجب أن تكونوا جميعا عليها دون انحراف أو زيغ عنها، ملة واحدة غير مختلفة ؛ فهي ملة التوحيد الخالص لله بعيدا عن كل ظواهر الشرك والزيف والتكلف والتحريف.
قوله :( وتقطعوا أمرهم بينهم ) الضمير في قوله ( وتقطعوا )، عائد على ضمير الخطاب في قوله ( أمتكم ). أي وتقطعتم. ثم عدل عن الخطاب إلى لفظ الغيبة التفاتا، للنعي على الذين تفرقوا في الدين. وكأنه يخبر غيرهم ما صدر من قبيح فعلهم قائلا : انظروا إلى فعلة هؤلاء في إفساد دين الله ؛ إذ جعلوه بينهم قطعا وصاروا فرقا وأحزابا. ثم توعدهم الله لافتراقهم بأنهم جميعا راجعون إليه فمجازيهم عما فعلوه.
قوله :( فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه ) الذي يأتي يوم القيامة بالصالحات من الأعمال ( وهو مؤمن ) الجملة في موضع نصب على الحال ؛ أي وحاله التصديق بما يجب التصديق به من أركان العقيدة وما تقتضيه من ضروب الإيمان ( فلا كفران لسعيه ) أي لا تضييع لما قدمه من الطاعات وفعل الصالحات ( وإنا له كاتبون ) أي مثبتون ذلك في صحيفة عمله١.
١ -تفسير البيضاوي ص ٤٣٦ وتفسير النسفي جـ٣ ص ٨٨..
قوله تعالى :﴿ وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون ( ٩٥ ) حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون ( ٩٦ ) واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا ياويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين ( ٩٧ ) ﴾ ( وحرام )، هنا بمعنى ممتنع ؛ أي وممتنع على أهل قرية قدرنا عليهم الإهلاك بكفرهم، رجوعهم إلى الدنيا إلى أن تقوم القيامة. وقال ابن عباس في تأويل الآية : وجب أو قدر أن أهل كل قرية أهلكوا أنهم لا يرجعون إلى الدنيا قبل يوم القيامة.
ويستمر الإهلاك وعدم الرجوع إلى قيام الساعة وظهور أماراتها. ومن جملة أماراتها : فتح سدّ يأجوج ومأجوج، وهم من نسل نوح عليه السلام وقد تركوا من وراء السد الذي بناه ذو القرنين ؛ فهم يطلعون من كل ثنية ومرتفع ليملأوا الأرض فسادا وتخريبا بكثرتهم وفساد طبائعهم. وهو قوله :( وهم من كل حدب ينسلون ) الحدب المرتفع من الأرض١ و ( ينسلون )، أي يسرعون٢ وفي هذا الصدد أخرج الإمام أحمد بسنده عن ابن حرملة عن خالته قالت : خطب رسول الله ( ص ) فقال : " إنكم تقولون لا عدو لكم وإنكم لا تزالون تقاتلون عدوا حتى يأجوج ومأجوج عراضَ الوجوه، صغار العيون، صهب الشعاف٣، من حدب ينسلون، كأن وجوههم المجان المطرقة ".
١ - القاموس المحيط ص ٩٣..
٢ - القاموس المحيط ص ١٣٧٢..
٣ - صهب الشعاف. أي صهب شعر الرأس، فما على رءوسهم إلا شعيرات من الذؤابة. انظر القاموس المحيط ص ١٠٦٦..
قوله :( واقترب الوعد الحق ) أي اقترب الوعد ببعث الخلائق وقيام الساعة. وهو وعد حق لا ريب فيه ( فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا ) ( شاخصة )، من الشخوص وهو إحداد النظر دون أن تطرف ؛ وذلك لهول ما يجدونه من الفظائع والشدائد في يوم القيامة ؛ فهم ينادون مذهولين مذعورين ( يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين ) يقولون في هذا الحال من الذعر والإياس : يا للهلاك والخسران، ما كنا نعلم أن هذا حق. ثم أضربوا عن قولهم هذا ليعلنوا معرضين بأنهم ظلموا أنفسهم بإعراضهم عن الإيمان والنذر.
قوله تعالى :﴿ إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون ( ٩٨ ) لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون ( ٩٩ ) لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون ( ١٠٠ ) إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون ( ١٠١ ) لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون ( ١٠٢ ) لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون ( ١٠٣ ) ﴾ يخاطب الله المشركين الذين يعبدون من دون الله آلهة أخرى بأنهم وما يعبدونه من الأصنام والشياطين على اختلاف أجناسهم ( حصب جهنم ) والحصب بمعنى الحجارة والحطب وما يرمى به في النار١، أو هو وقودها الذي تتسجر به وتستعر. أي العابدون والمعبودون وقود النار وهم جميعا ( لها واردون ) أي فيها داخلون.
١ - القاموس المحيط ص ٥٧..
قوله :( لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها ) هذه المعبودات المفتراة والآلهة المصطنعة التي عبدوها من دون الله، لو كانت آلهة حقا لما كانت وقودا للنار ؛ بل إن تسجيرها في النار شاهد بأنها مخلوقات من خلائق الله، فما يعبدها إلا كل جهول كفور ( وكل فيها خالدون ) أي العابدون والمعبودون جميعا ماكثون في النار لا يخرجون. وهذا نذير للذين يعبدون غير الله. سواء كان المعبود صنما، أو شيطانا من الجن أو الإنس ؛ كمن يعبدون الطواغيت والجبابرة من البشر. لا جرم أن هؤلاء جميعا مكبكبون في النار وبئس المستقر والمصير.
قوله :﴿ لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون ﴾ الزفير، صوت النفس الذي يخرج من قلب المغموم وهو في النار. وهذه حال المشركين الظالمين في النار ويضاف إلى ذلك كونهم في النار صما لا يسمعون شيئا، زيادة في التنكيل المفظع.
قوله :﴿ إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون ﴾ قال محمد بن إسحاق في كتاب السيرة في سبب نزول هذه الآية : وجلس رسول الله ( ص ) فيما بلغني يوما مع الوليد بن المغيرة في المسجد فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم وفي المسجد غير واحد من رجال قريش فتكلم رسول الله ( ص ) فعرض له النضر بن الحارث فكلمه رسول الله ( ص ) حتى أفحمه، وتلا عليه وعليهم ( إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون ) ثم قام رسول الله ( ص ) وأقبل عبد الله بن الزبعرى حتى جلس معهم فقال الوليد بن المغيرة لعبد الله بن الزبعرى : والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفا ولا قعد. وقد زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا كهذه حصب جهنم. فقال عبد الله الزبعرى : أما والله لو وجدته لخصمته، فسلوا محمدا : كل ما يعبد من دون الله في جهنم مع من عبده ؛ فنحن نعبد الملائكة، واليهود تعبد عزيرا، والنصارى تعبد المسيح عيسى ابن مريم، فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول عبد الله بن الزبعرى ورأوا أنه قد احتج وخاصم. فذكر ذلك لرسول الله ( ص ) فقال : " كل من أحب أن يُعبد من دون الله فهو مع من عبده ؛ إنهم إنما يعبدون الشيطان ومن أمرهم بعبادته " فنزلت الآية. وقيل : لما اعترض ابن الزبعرى قيل لهم : ألستم قوما عربا، أو ما تعلمون أن ( من ) لمن يعقل. و ( ما ) لما لا يعقل ؟ فبطل اعتراضه.
و ( الحسنى )، تأنيث الأحسن. والمراد بها السعادة والنجاة والفوز بالجنة، وأولئك مبعدون عن النار وما فيها من عذاب.
قوله :( لا يسمعون حسيسها ) الحسيس، معناه الصوت، وحسه ؛ أي أحرقه١ ؛ أي هؤلاء الذي سبق لهم في علم الله الفوز والنجاة لا يسمعون صوت النار الملتهبة المتأججة، مبالغة في الابتعاد عنها.
قوله :( وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون ) ( اشتهت )، من الشهوة. وهي طلب النفس اللذة. وهؤلاء الذين كتب الله لهم الحسنى يقيمون في النعيم الدائم ليجدوا فيه ما تشتهيه أنفسهم من الخيرات واللذات.
١ - القاموس المحيط ص ٩٥..
قوله :( لا يحزنهم الفزع الأكبر ) ( الفزع الأكبر )، يراد به القيامة وما فيها من اهوال، فإن ذلك لا يحزن المؤمنين الأبرار الذين كتب الله لهم النجاة، ولا يخفيهم، بل إنهم يومئذ آمنون سالمون.
قوله :( وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون ) أي تستقبلهم الملائكة بالسلام والإكرام عند خروجهم من قبورهم. وقيل : عند دخولهم الجنة ؛ إذ يهنئونهم بالفوز قائلين لهم : هذا وقت جزائكم الذي وعدكم الله. وهو الثواب والنعيم وحسن المقام في الجنة١.
١ - تفسير ابن كثير جـ٣ ص ١٩٨ والبحر المحيط جـ٦ ص ٣١٥، ٣١٧..
قوله تعالى :﴿ يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين ﴾ ( يوم )، منصوب بمقدر ؛ أي اذكر يوم نطوي. أو ظرف ( لا يحزنهم ) أو ( وتتلقاهم ). والمراد بطي السماء، محوها. كما نقول : اطو عنا هذا الحديث. أو تكوير نجومها. أو ضد نشرها. و ( السجل ) معناه الصحيفة. والكتب، بمعنى المكتوب ؛ أي اذكر يوم نطوي السماء كطي الصحيفة على المكتوب. وحينئذ تتبدل الأشياء جميعا وتتبدد في الكون قوانينه ونظمه ؛ إذ تتكور الشمس وتنكدر النجوم انكدارا، وتنثر الكواكب أيما انتثار. ذلك في عملية انقلابية فظيعة تأتي على الوجود كله.
قوله :( كما بدأنا أول خلق معيده ) الكاف، حرف جر. وما بعدها مصدرية ؛ أي نعيد أول خلْق إعادة مثل بدأتنا له ؛ أي كما أظهرناه من العدم نعيده من العدم يوم البعث والنشور. ( وعدا علينا ) ( وعدا )، منصوب على أنه مصدر مؤكد ؛ لقوله ( نعيده ). أي أن هذا كائن لا محالة ؛ فهو وعد من الله ولن يخلف الله وعده. وهو سبحانه القادر على فعل ما يشاء ( إنا كنا فاعلين ) أي محققين هذا الوعد الذي لا تبدلا له ولا محيد عنه١.
١ - تفسير البيضاوي ص ٤٣٧ وتفسير النسفي جـ٣ ص ٩٠، ٩١..
قوله تعالى :﴿ ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ( ١٠٥ ) إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين ( ١٠٦ ) وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ( ١٠٧ ) ﴾ ( الزبور )، هو الكتابُ الذي أنزل على داود. والمراد بالذكر ههنا التوراة. وقيل : الزبور يعم الكتب السماوية المنزلة. والذكر معناه اللوح المحفوظ. والمراد بالأرض : أرض الشام أو الأرض المقدسة ؛ فهي إنما يستحق أن يرثها عباد الله الصالحون من أمة النبي الخاتم، محمد ( ص ). وهذا ما كتبه الله لعباده المؤمنين من أمة الإسلام.
قوله :﴿ إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين ﴾ يعني إن في هذه السورة أو في هذا القرآن من الأخبار والمواعظ والوعيد ما فيه بلاغ، أي كفاية، أو ما تبلغ به البغية ( لقوم عابدين ) أي مؤمنين موحدين، مخلصين لله في طاعتهم وعبادتهم وما نحسب أن هذه الصفة من الإخلاص وحسن الطاعة لله والإخبات له متحققة في غير هذه الأمة، أمة الإسلام، بما تجلى في دينها وقرآنها من الثبات والصدق والاستقرار والسلامة من كل ظواهر التزييف والتحريق والتغيير والتبديل.
قوله :﴿ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ﴾ ( رحمة )، منصوب على الحال. وقيل على أنه مفعول لأجله. وهذا إخبار من الله، يخاطب به رسوله إلى الناس كافة، محمدا ( ص )، معلنا فيه أنه رحمة للعالمين. والرحمة في اللغة بمعنى الرأفة والمغفرة والتعطف١، وهذه المعاني أو الصفات تأتي في ذروة الدرجات من الخصال الحسان في هذه الحياة. فلا عجب أن تكون الرحمة مسبارا تقاس به طبائع البشر. بل تقاس به المبادئ والشرائع ومختلف الثقافات، والتصورات ؛ للكشف عن حقيقتها ومدى صلوحها للعباد. فمن كانت سجيته القسوة والغلظة والفظاظة ؛ فإنه أبعد الخلق عن الخير والصلوح لهداية الناس. لقد كان محمد ( ص ) مثالا كاملا وفريدا فيما تجلى فيه من جمال الطبع، وروعة الخلق وكامل السجايا والأوصاف النفسية والعقلية والروحية فكان بذلك خليقا أن يكون رحمة للناس، وأهلا لدعوة العالمين إلى الهداية والخير.
وكذلك الإسلام فإنه بكمال تشريعه وجمال عقيدته وما اشتمل عليه من عظيم المزايا والخصائص، وفي طليعتها الرحمة، فإنه بذلك كله للعالمين رحمة من الله.
وما ينبغي ذكره دائما أن محمدا ( ص ) قد بعث رحمة للعالمين. بما جبل عليه من كامل الصفات الخَلقية والخُلقية، وجمال الفطرة الناصعة الفضلى. جاء عليه الصلاة والسلام بآيات الله البينات هاديا للناس ومبشرا ونذيرا. وذلكم الكمال العجيب المثير. كمال النبي الطهور المفضال، الذي يعجز عن بلوغ معشاره النوابغ العظماء من عباقرة الإنس والجن. وكمال الكتاب الحكيم، القرآن الرباني المبارك الذي يحمل للعالمين كل أطراف الحق والخير والسلامة والسداد مما يحقق لهم بالضرورة السعادة في هذه الدنيا ويوم يقوم الناس لرب العالمين. فلا جرم أن يكون محمد ( ص ). بما أوتيه من عجائب الطبع وآيات الكتاب العظيم رحمة للعالمين. وليس أدل على ذلك مما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال : قيل : يا رسول الله ادع على المشركين. قال : " إني لم أبعث لعانا وإنما بعثتُ رحمة " وفي رواية أخرى لمسلم : " إنما أنا رحمة مهداة " ٢.
١ القاموس المحيط ص ١٤٣٦..
٢ - تفسير ابن كثير جـ٣ ص ٢٠٢ وتفسير النسفي جـ٣ ص ٩١..
قوله تعالى :﴿ قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون ( ١٠٨ ) فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون ( ١٠٩ ) إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون ( ١١٠ ) وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين ( ١١١ ) قال رب احكم بالحق وربنا الرحمان المستعان على ما تصفون ( ١١٢ ) ﴾ يأمر الله رسوله الكريم أن يقول للمشركين : إنما معبودكم الله وحده ليس لكم من إله سواه ( فهل أنتم مسلمون ) أي أسلموا، وانقادوا مذعنين لله مستسلمين.
قوله :( فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء ) فإن أعرضوا عن الإيمان، وعن عبادة الله وحده فأعلمهم يا محمد أنك وإياهم على علم من أن بعضكم لبعض حرب ؛ فلا صلح بينك وبينهم ولا سلم. بل إنك بريء منهم، وهم برآء منك.
قوله :( وإن أدري أقريب أن بعيد ما توعدون ) ( إن )، أداة نفي ؛ أي ما أدري متى يحل بكم عقاب الله وانتقامه الذي وعدكم، أقريب نزوله بكم أم بعيد.
قوله :﴿ إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون ﴾ الله عز وعلا عليم بالأخبار والأسرار والأستار. فما يغيب عن علمه شيء في الكائنات ؛ بل إن الله يستوي عنده الظاهر والباطن. فالظواهر والضمائر والبواطن كلها معلومة لله ولا يحجبها عن علمه ساتر ولا حجاب.
قوله :﴿ وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين ﴾ أي ما أدري سبب إمهال عقابكم مع أنكم موعودون به. فلعل هذا التأخير عنكم اختبار من الله لكم واستدراج لينظر كيف تعملون ( ومتاع إلى حين ) أي تتمتعون إلى أجل مقدر تقتضيه مشيئة الله.
قوله :( قال رب احكم بالحق ) يأمر الله نبيه بالتضرع إليه سائلا : أن يقضي بينه وبين المشركين بالحق والعدل، فيظهر الإسلام وأهله، ويذل الكفر وجنوده. قوله :( وربنا الرحمان المستعان على ما تصفون ) إلهنا ومعبودنا الله ذو الرحمة البالغة المطلقة، يرأف بخلقه ليفيض عليهم من واسع رحمته. وهو سبحانه نستعينه على ما يفتريه الكافرون على الله من الأباطيل والكذب١.
١ - تفسير الطبري جـ١٧ ص ٨٢- ٨٤ وتفسير البيضاوي ص ٤٣٨..
Icon