تفسير سورة آل عمران

زهرة التفاسير
تفسير سورة سورة آل عمران من كتاب زهرة التفاسير المعروف بـزهرة التفاسير .
لمؤلفه محمد أبو زهرة . المتوفي سنة 1394 هـ

(الم) هذا الاسم القرآني الذي سَمى به القرآن هذه السورة، وهذه حروف تقرأ في القرآن الكريم بأسمائها، وهي ألف لام ميم. والمعنى الذي تدل عليه هذه الحروف غير معلوم على وجه اليقين كما أسلفنا في سورة البقرة والله أعلم بمراده منها، ولا يستطيع عالم يعتمد على الحقائق العلمية أن يقرر المراد من هذه الحروف، والمعنى المحرر لها، وأقصى ما ذكره العلماء لها حِكَم يدل عليها ذكرها، ومن أحسن ذلك أن يقال: إن هذه الحروف تشير إلى أن القرآن الكريم من جنس ما يتكلم به العرب، وأنه مكون من الحروف التي يتكون منها كلامكم، ومع ذلك تعجزون عن أن تأتوا بمثل سورة منه؛ فهي إشارة إلى العجز مع الطمع في أن يحاولوا، ولن يأتوا بسورة من مثله. ومن أحسن ما يقال أيضا أن النبي الأمي كان ينطق بهذه الحروف التي كان لَا يعرفها إلا من يقرأ ويكتب، فاشتمال القرآن عليها مع أميته - عليه السلام - دليل على أنه من عند الله. ومن ذلك أيضا
1098
ما قيل من أن هذه الحروف الصوتية التي اشتملت عليها بعض أوائل السور إذا أنطق بها الناطق مع ما فيها من مد طويل أو قصير، استرعى ذلك الأسماع فاتجهت إليه، وإن لم يُرد السامعون. ويروى في ذلك أن المشركين من فرط تأثير القرآن قد تفاهموا على ألا يسمعوا لهذا القرآن: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَروا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ). فكانوا إذا قرعت آذانهم هذه الحروف بمدها، التفتوا مرغمين، ثم هجمت على قلوبهم من بعد ذلك الآيات البينة المحكمة، تعالت كلماته سبحانه:
1099
(اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم): هذه الجملة السامية تبين أصل التوحيد، وتقرر معناه، فابتدئت بلفظ الجلالة الذي يدل على كمال الألوهية، وانفراده - سبحانه - بحق العبودية، إذ إنه الإله وحده الذي أنشأ الخلق ورباه ونماه، ولا مالك لهذا الوجود ومن فيه وما فيه سواه. ولفظ " الله " علم على الذات العلية المتصفة بكل كمال والمنزهة عن كل نقص، والتي لَا تشابه الحوادث، ولا يشبهها شيء من الحوادث: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).
ثم صرح سبحانه وتعالى بما تضمنه لفظ الجلالة وهو الانفراد بالألوهية وحق العبودية فقال سبحانه: (لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) أي لَا معبود بحق إلا هو، أوْ لَا إله في الحقيقةِ والواقع إلا هو، وكل ما يدعى له الألوهية من شخص أو وثن فهو ليس إلا أسماءٌ سماهم بها المشركون الضالون، وليس من حقيقة الألوهية في شيء (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ...)، ثم بين سبحانه الأوصاف التي تبين استحقاقه وحده لحق العبودية، فقال سبحانه: (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) أي الدائم الحياة الذي لَا يفنى، ويفنى ما سواه، ولا يستمد حي حياته إلا بإرادته سبحانه، وهو القائم بنفسه، والقائم على كل شيء، والمدبر لكل شيء. فهذا معنى القيوم (١).
________
(١) قال الشيخ أبو زهرة رحمه الله تعالى: قد فسرنا هذه الجملة السامية في تفسير آية الكرسي فارجع إليه..
(نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ... (٣) الكتاب: هو القرآن الكريم، وإن أكثر السور التي تبتدئ بتلك الحروف تقترن فيها الحروف بالتنويه بذكر القرآن، وإعلاء شأنه، مما جعل المفسرين يعتبرون تلك الحروف أسماءً للسور، سماها القرآن بها، وفواصل محكمة بين سورة وأخرى من سور القرآن الكريم، وقد أشرنا إلى ذلك من قبل. وقد عبر - سبحانه وتعالى - عن نزول القرآن الكريم بـ (نَزَّلَ) للإشارة إلى أن النزول كان تدريجيا، ولم يكن دفعة واحدة، إذ إن التنزيل يدل على التدرج في النزول، وكذلك كان القرآن الكريم؛ فقد نزل منجما ينزل في الوقائع، أو الأسئلة ليكون السبب الذي اقترن بنزوله معِينا على فهمه وإدراك بعض مغازيه.
وقد ذكر تنزيل القرآن مقترنا بأمرين متصلا بهما:
أولهما: أنه حق في ذاته، ومبين للحق مشتمل عليه، وداع إليه، فقال الله تعالى: (بِالْحَقِّ) أي مصاحبا له مقترنا به ملازما له، فهو حق لأنه نزل من عند رب العالمين، واشتمل على الحق، فكل ما فيه من قصص وأخبار وشرائع وأحكام وعقائد حق لَا شك فيه، وهو يدعو إلى الحق والعدل، فهو الحق الملازم للحق، الناصر للحق.
وثاني الأمرين: أنه مصدق لما بين يديه؛ أي الشرائع الإلهية التي سبقته؛ ولذا قال سبحانه: (مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ) فهو في لبه ومعناه مبين لكل الشرائع مصدق لصدقها؛ وهذا يدل على أن الشرائع الإلهية واحدة في لبها ومعناها وأصولها؛ ولذا قال سبحانه: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ...).
فالإسلام هو لب الأديان وغايتها؛ ولذا قال سبحانه (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ...).
(وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ) هذا تصريح ببعض ما تضمنته الجملة السامية السابقة؛ إذ قد تضمنت الجملة السابقة أن القرآن يصدق الثابت النازل من عند الله
1100
في الشرائع السابقة، وهي تتضمن أنها كانت هداية للناس؛ وهذه الجملة تصرح بأن التوراة أنزلت هي والإنجيل من عند الله هداية للذين أنزلت لهم. وفي هذه الجملة إشارة إلى معنى آخر، وهو أن لكل أمة كتابا وهداية خاصة، وإن كانت في معناها مشتقة من الهدى الإلهي العام، حتى إذا كانت دعوة محمد - ﷺ - كانت هي الهدى العام الخالد إلى يوم القيامة.
(التَّوْرَاةَ) اسم للكتاب الذي اشتمل على شريعة موسى عليه السلام، ونزل عليه من رب العالمين، وليست هي التوراة التي يتلوها اليهود اليوم؛ لأن هذه التي تسمى بهذا الاسم الآن تشمل ما نزل في عهد موسى، وتشمل ما جاء بعد ذلك في عهد النبيين الذين بُعثوا في بني إسرائيل كداود وسليمان وغيرهما، وفوق ذلك فإن القرآن الكريم أشار في عدة مواضع إلى أن أهل الكتاب نسوا حظا مما ذكروا به، وحرفوا الكلم عن مواضعه، وغيروا وبدلوا، ثم كانت التخريبات التي حلت بأورشليم في عهد بختنصر أولا، ثم في عهد الرومان ثانيا سببا في أنهم نسوا حظا مما ذُكَروا به، فليست التوراة المذكورة في القرآن هي التوراة الشائعة الآن.
(وَالإِنجِيلَ) كلمة يونانية (١) معناها البشارة، والإنجيل هو الكتاب الذي نزل على عيسى، وليس هو هذه الأناجيل التي يقرؤها المسيحيون اليوم، فإن هذه مؤلفات ألفت بعد السيد المسيح عيسى عليه السلام؛ نسبت إلى بعض الحواريين من أصحابه؛ ولقد كان للمسيح عليه السلام إنجيل غير هذه الأناجيل، وهو الذي ذكره القرآن الكريم على أنه هداية للناس. ولقد قرر الأحرار من النصارى ذلك؛ فقد قال أكهارن من مؤلفي تاريخ النصرانية: " إنه كان في ابتداء المسيحية رسالة مختصرة يجوز أن يقال إنها هي الإنجيل الأصلي، والغالب أن هذا الإنجيل كان للمريدين الذين لم يسمعوا أقوال المسيح بآذانهم ولم يروا أحواله بأعينهم، وكان هذا الإنجيل بمنزلة القلب، وما كانت الأحوال المسيحية مكتوبة فيه على الترتيب " (٢).
________
(١) وقيل: سرياية، وقيل: أعجمية (اللباب ٥/ ١٩ - ٢٠).
(٢) راجع تاريخ الأناجيل وصحة نسبتها في كتاب " محاضرات في النصراية " للأستاذ محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي.
1101
وقد ذكرت ذلك الإنجيلَ الأناجيلُ المنسوبة لبعض الحواريين وهي المعروفة الآن، فقد جاء في إنجيل متى ما نصه: " وكان يسوع يطوف كل الجليل، يعلِّم في مجامعهم، ويكرر ببشارة الملكوت، ويشفي كل مرض وكل ضعف في الشعب " وبشارة الملكوت هي ترجمة دقيقة لكلمة إنجيل، فإن كلمة إنجيل يونانية كما نوهنا، فقد كانت إذن بشارة أي إنجيل غير هذه الأناجيل، وهو المذكور في القرآن، وإن لم يعلم الآن.
1102
(وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ): (الْفُرْقَانَ) هنا هو: القرآن، وكرر ذكره بعد أن ذكرت التوراة والإنجيل، للإشارة إلى الاتصال الكامل بين شرائع الله تعالى، وأنه تتميم لما سبقه، وأنه كمال هذه الشرائع كلها، وأن رسالة النبي - ﷺ - هي آخر لبنة في صرح الشرائع الإلهية، وبنزولها كمل دين الله (١). وكرر ذكره أيضا لوصفه بالفرقان، فهو أتى بمعنى جديد لَا يغني عنه ذكر الكتاب أولا. ووصف القرآن الكريم بالفرقان، لأنه فارق بين الحق والباطل، ومبين للصادق من الكتب السابقة، ولأنه فارق بين عهدين في الرسائل الإلهية؛ فقد كانت رسالات الرسل من قبل لأمم خاصة، ومن بعد كانت الرسالة المحمدية للناس كافة، فمن قبله كانت الرسالات لعلاج أحوال عارضة وقتية؛ أما رسالة القرآن فعلاج لأدواء الإنسانية، وتقرير الصالح لها مهما تختلف الأمصار، وتتباعد الأقطار، ولأنه ميزان الحقائق إلى يوم القيامة؛ ولذلك قال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ...).
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ) ذكر سبحانه عقاب الذين يكفرون بآيات الله، أي معجزاته الباهرة، وآياته المتلوة القاهرة، بعد أن ذكر كتب الديانات الثلاث: اليهودية، والنصرانية، والإسلام؛
________
(١) يشير - رحمه الله - إلى ما ورد عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّه - ﷺ - قَالَ: " مَثَلِي، وَمَثَلُ الأَنْبِيَاءِ كَرَجُلٍ بَنَى دَارًا، فَأَكْمَلَهَا وَأَحْسَنَهَا إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَدْخُلُونَهَا وَيَتَعَجَّبُونَ وَيَقُولُونَ: لَوْلاَ مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ " وأنَا خَاتمُ النيينَ " وهو حديث متفق
على صحته رواه البخاري: المناقب - خاتم النَبيين (٣٢٧١)، ومَسلم: الفضَائل (٤٢٣٩).
1102
للإشارة إلى أن الذين يكفرون بمحمد إنما يكفرون بشرائع الله المنزلة كلها؛ لأن شريعته كمالها، وبها تمامها وختامها، وللإشارة إلى أن اليهود والنصارى الذين لَا يتبعون محمدا، إنما يكفرون بحقيقة النصرانية نفسها، واليهودية ذاتها إذ يكفرون بمحمد - ﷺ -؛ فليست رسالة محمد إلا الخطوة الأخيرة في الشرائع الإلهية، وهي الكمال، وقد بشرت به الكتب السابقة كلها، فالكفر به كفر بها، والإسلام سيمر بالشرع الإلهي إلى أقصى غايته؛ ولو كان موسى حيا ما وسعه إلا الإيمان بما جاء به محمد كما أشار بذلك النبي - ﷺ -. ومن أجل هذا كان الذين يكفرون بمحمد لهم عذاب شديد، وخصوصا إذا كانوا من اليهود والنصارى، لأنهم حينئذ يكفرون بكل آيات الله تعالى.
ثم وصف سبحانه ذاته الكريمة بما يفيد أنه غالب، وأنه لَا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، فقال: (وَاللَّه عَزِيزٌ ذو انتِقَامٍ) أي أنه سبحانه بعزته غالب على كل شيء، مسيطر على كل شيء، ليس فوقه أحد، وهو القاهر فوق عباده. وهو ذو انتقام؛ أي أنه سبحانه له انتقام شديد لَا يدرك كنهه؛ ولذلك نكَّر الانتقام. والانتقام إنزال النقمة والشدة في مقابل ما يرتكبه الشخص؛ فإن كان من عادل حكيم كان عقوبة عادلة، وجزاء وفاقا؛ وكذلك يكون عقاب الله تعالى، فانتقام الله ليس تشفيا وشفاء غيظ كما هو الشأن من البشر، بل انتقام الله عقوبة عادلة، وقصاص رادع. وعبر بـ (ذو انتِقَام)، أي صاحب انتقام، للإشارة إلى أن هذا الانتقام في قدرته سبحانه وسلطانه ينزله أنى شاء، ومتي شاء بمقتضى حكمته وإرادته وقدرته، وعلمه الذي يحيط بكل شيء؛ ولذا قال بعد ذلك:
* * *
1103
(إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (٥)
* * *
هذه الجملة السامية تفيد تمام إحاطة الله تعالى في علمه، فهو سبحانه وتعالى يتجلى له كل شيء، ولو كان خافيا عن الناس أو من شأنه الخفاء؛ ولذلك جاء التعبير عن العلم الكامل، ببيان نفي الخفاء عليه سبحانه؛ وذلك لأن العالِم المحيط قد يخفى عليه شيء، لكن علم الله غير ذلك، فهو علم لَا خفاء معه في شيء مطلقا؛ وإذا كان الله سبحانه وتعالى عليما بكل شيء لَا يخفى عليه شيء فهو يعلم القلوب وما تخفيه، وما تكنه السرائر، وما تكنه الضمائر، فهو يعلم البواعث على الكفر، وأنها ليست نقصاً في الدليل، ولكنها مآرب الدنيا، والعصبية الجنسية والمذهبية، فليس الذين ينكرون ما جاء به محمد مخلصين في إنكارهم، بل هي لجاجة العناد، وجحود المستيقن. وذكر سبحانه السماء والأرض للإشارة إلى أن علمه قد وسع كل شيء؛ وسع السماوات والأرض، وليس الإنسان وما تحدثه به نفسه إلا شيئا صغيرا في هذا الملكوت العظيم، وذلك العالم بأرضه وسمائه. وأكد نفي الخفاء بتكرار " لا " في قوله تعالى: (وَلا فِي السَّمَاءِ) فَذكرُها ثانيا تأكيد لأنه لا يخفى عليه شيء.
* * *
(هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ... (٦)
* * *
هذا بيان لسبب علم الله بعامة، وعلمه بالإنسان بخاصة، فإنه علمُ المكوِّن المنشئ، الخالق المبدع، ومن ذا الذي لَا يعلم ما أنشأه وكونه وأبدعه على غير مثال سبق؟! ولذا قال تعالى: (وأَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ). فهذه الآية الكريمة في مقام التعليل للآية السابقة؛ إذ الأولى بينت أن الله لَا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وهي تتضمن الإشارة إلى أن ما تخفيه السرائر من بواعث على الإيمان أو الكفر، والوفاق أو العناد، يعلمه سبحانه لأنه لَا يخفى عليه شيء
1104
فى الأرض ولا في السماء. وهذه الآية تفيد أن الله سبحانه وتعالى يعلم الإنسان لا بعد أن استوى وصار في أحسن تقويم، بل يعلمه وهو نطفة لُفِظَت، ثم استقرت في الأرحام، ويعلمه كذلك علم المكوِّن المنشئ المربي الذي يتولى بقدرته تصويره حتى يصير بَشَرا سَوِيا.
والتصوير: مأخوذ من مادة صار إلى كذا بمعنى تحول إليه، أو من صَارَهُ إلى كذا بمعنى أماله وحوله، فالتصوير معناه إذن تحويل شيء من حال إلى حال مغمَّرا في شكله وهيئته بإمالته من مشابهة شيء إلى مشابهة شيء آخر؛ وكذلك صنع الله تعالى في النطفة؛ فإنه يحولها إلى علقة، ومن علقة إلى مضغة، ثم يجعل الضغة عظاما، وهكذا، وتحويل الله وتصويره ليس تغييرا في الشكل، بل هو تنمية، وتكوين، وتدرج في هذا التكوين يستمر من وقت إيداع النطفة في مستودعها، حتى يصير إنسانًا في أحسن تقويم، بل يستمر التكوين حتى يبلغ أشده.
والأرحام: جمع رحم، وهو مستودع النطفة في المرأة الذي فيه يتربى وينمو، ويجري تصوير الله له وتكوينه إياه، حتى يبرز في الوجود حيا يحس ويسمع، ثم يعلم ويتعلم؛ والله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير.
وقوله تعالى: (كَيْفَ يَشَاءُ) فيه بيان لأمرين:
أحدهما: أن هذا التكوين تبع لشيئة الله وإرادته، فلم يكن وجوده كوجود المعلول من علته، وكالمسبب من سببه، إنما وجوده وتكوينه ونموه بإرادة الله تعالى ومشيئته، وهو فعال لما يريد.
الأمر الثاني: بيان أن الله وحده هو الذي يجعله ذكرا أو أنثى، وجميلا أو دميما، وأبيض أو أسود، بل إنه سبحانه يكتبه وهو في رحم أمه شقيا أو سعيدا، مؤمنا أو كافرا، عالمًا أو جاهلا، تعالى الله سبحان في علمه علوا كبيرا.
1105
ولقد ذكر بعض المفسرين أن هذه الآية الكريمة فيها رد على بعض النصارى الذين اعتبروا المسيح عيسى ابن مريم إلها؛ لأنه ولد من غير أب؛ فالله سبحانه وتعالى يبين في هذه الآية أنه هو الذي صوره وكونه في رحم أمه، كما يُكوِّن سائر الناس، وما كان الإله قابلا للنمو من الصغر إلى الكبر، ومن النطفة إلى العلقة، فالمضغة، فالعظام، وإذا كان رب البرية قد ألقى في رحم مريم ما هو من جنس النطفة البشرية من غير أب يودعها فإن التكوين الذي يسري على البشر سرى عليه فكيف يكون إلها؛ ويزكي هذا أن الآيات من أول السورة إلى ثمانين آية كان سبب نزولها - فيما يروى في أسباب النزول - وفد نجران ومناقشة النبي - ﷺ -، وسواء أصح ذلك سببا للنزول أم لم يصح فإن الآية فيها رد على من يدَّعي ألوهية المسيح.
(لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) في هذه الجملة السامية تقرير للوحدانية وانفراده سبحانه وتعالى بالألوهية وحق العبودية، بعد أن قدم ما هو دليل على هذه الوحدانية، وهو العلم الشامل لكل شيء الذي لَا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وبعد أن أشار سبحانه إلى أنه المكون لكل شيء وخص الإنسان بالذكر؛ لأنه هو الذي يتمرد ويضل، وكل ما في الوجود مسخر له كما قال تعالى: (هُوَ الَّذي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَميعَا...).
ثم ختم سبحانه وتعالى بالعزة والحكمة، لبيان كمال سلطانه في ملكه الذي خلقه، وإثبات أنه لَا سلطان لأحد معه حي يشترك في عبادته سبحانه وتعالى، وكيف يكون إله لَا سلطان له! ولبيان أن الله سبحانه يدبر هذا الكون بواسع علمه وعظيم حكمته، إنه على كل شيء قدير، وهو نعم المولى ونعم النصير.
* * *
1106
(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (٧)
* * *
في الآيات السابقة ذكر سبحانه منزلة القرآن بين الكتب السماوية، وأنه فرقانُها وميزانها، وذكر أنه سبحانه وتعالى العليم بكل شيء، الذي لَا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فهو العليم بخلقه، والعليم بما ينزل عليهم من آيات بينات، والعليم بمداركهم البشرية، وطاقاتهم العقلية، يطالبهم بما يدركون ويكلفهم ما يستطيعون؛ وفي هذه الآية يبين أقسام القرآن من حيث قوة إدراكهم له، وتطلعهم لفهمه، وتباين مقاصدهم في طلب حقيقته ومعناه، وغايته ومرماه؛ وفيها بيان أنه قسمان: قسم لَا تدركه كل العقول، وقسم تدركه كل العقول الميزة، وأن ما يعلو على الإدراك، أصله ما أدركه كل الناس. ولذا قال سبحانه: (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ) الضمير يعود إلى الذات العلية التي وصفت في الآيات السابقة، إذ قد وصف ذاته - جلت قدرته - بأنه الحي القائم على كل شيء، والذي به يقوم كل شيء، وبأنه منزل الكتب من السماء، وجاعل القرآن ميزانها، وأنه سبحانه لَا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وأنه سبحانه الذي يعلم الإنسان منذ يكون نطفة في بطن أمه إلى أن يصير إنساناً مستويا كامل التكوين، وهو الذي يصوره ذلك التصوير، ويكونه ذلك التكوين، وهو العزيز الغالب المسيطر على كل شيء خلقه، ولا شيء في الوجود إلا كان خلقه، الذي يتصرف في هذا الكون بمقتضى حكمته وعلمه بكل شيء؛ فقوله تعالى:
1107
(هُوَ الَّذِي أَنزَلَ) الضمير يعود إلى المتصف بهذه الصفات. وقوله: (الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ) معناه أن هذا الكتاب العظيم الشأن الذي هو ميزان الكتب السابقة وفرقانها، أنزله الله العلي القدير المتصف بهذه الصفات عليك، وقد اختارك موضع رسالته، وأداء أمانته، و (اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ...). وهو أعلم بشأن الكتاب وما جاء فيه، وتلقي الناس له، ومقدار إدراكهم لما فيه، وقد شاء بحكمته الواسعة أن يجعله قسمين؛ أحدهما: يدركه كل الناس، والثاني: فوق مستوى عامة الناس، ولذا قال بعد ذلك: (مِنْهُ آيَات مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) أي أن القرآن من حيث بيانه وإدراك الناس له: محكم، ومتشابه؛ ولقد وجدنا القرآن الكريم وصف بأنه كله محكم في مثل قوله تعالى: (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ...).
أي أنها نزلت حكمة لَا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها؛ ووصفه الله سبحانه وتعالى بأنه متشابه؛ فقد قال تعالى: (كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقلُوبُهمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ...)، ومعنى التشابه هنا هو أنه على شاكلة واحدة من حيث قوة تأثيره، وتآخي معانيه، وإحكام نسقه، وفصاحة ألفاظه، وقوة تأثيره بألْفَاظه ومعانيه، فهو في هذا متشابه، أي يشبه بعضه بعضاً.
وفى هذه الآية التي نتكلم في معانيها وُصف القرآن بأن منه آيات محكمات، وأخر متشابهات، فلا شك أن معنى مُحكم هنا غير معناها في قوله تعالى: (كتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ...) ومتشابه غير معناها في قوله تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أً حْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ...) وإن ذلك يتضح من تفسير كلمة محكم ومتشابه في أصل معناها اللغوي. وهذا ما جاء في كتب اللغة: العرب تقول: حاكمت وحكمت وأحكمت بمعنى رددت ومنعت، والحاكم يمنع الظالم من الظلم، وحكمة اللجام هي التي تمنع الفرس من الاضطراب.
وروى إبراهيم النخعي: أَحْكِمْ اليتيمَ كما تُحْكِمْ ولدك. أي امنعه عن الفساد.
1108
وقال ابن جرير الطبري: أحْكموا سفهاءكم أي امنعوهم، وبناء محكم أي وثيق يمنع من تعرض له. وسميت الحِكمة حكمةً لأنها تمنع عما لَا ينبغي. وأما المتشابه فهو أن يكون أحد الشيئين مشابها للآخر، بحيث يعجز الذهن عن التمييز؛ قال تعالى: (إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا...)، وقال في وصف ثمار الجنة (وَأُتوا به مُتَشَابِهًا...)، أي متفق المنظر مختلف الطعوم، وقال تعالى: (تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ...). ومنه يقال: اشتبه عليَّ الأمران، إذا لم يفرق بينهما وقال عليه الصلاة والسلام: " الحلال بين، والحرام بيّن، وبينهما أمور متشابهات ". وفي رواية أخرى " مشتبهات " (١). ثم لما كان من شأن المتشابهين عجز الإنسان عن التمييز بينهما سمي كل ما لَا يهتدي الإنسان إليه بالمتشابه إطلاقا، سواء أكان له مشابه أم لم يكن له مشابه (٢).
وعلى هذا الأساس اللغوي، نقول: إن المتشابه في القرآن أطلق على ما لا يمكن فهمه مطلقا، أو ما لَا يمكن معرفة حقيقته على الوجه الأكمل، أو ما يدق ويختفي على العامة، ولا يستغلق على الخاصة. هذان هما الوجهان اللذان يحتملهما معنى المتشابه؛ فإما أن نقول إنه ما لَا يمكن معرفة حقيقته على الوجه الأكمل في هذه الدنيا، وإما أن نقول إنه ما يمكن معرفته ولكن لبعض الخاصة الراسخين في العلم، والمحكم هو ما يقابل المتشابه، وهو الواضح البين للعامة والخاصة الذي لَا تتفاوت في إدراكه الأنظار، وما يمكن معرفة حقيقته على الوجه الأكمل، وهو أم الكتاب، لأنه الأصل الذي يجب على كل مؤمن معرفته، والجزمُ بمعناه، والتصديق بمغزاه. فالآيات الحكمات أم الكتاب، أي أصله الذي يرجع إليه، ويحمل المتشابه عليه، ويخرج بتخريج لَا يناقضه إن كان ممكن الإدراك على الوجه الكامل. فالآيات المحكمات هي الحكم الذي يفصل بين التأويل الزائغ، والتأويل الصادق، فما شهدت له، فهو الصادق الذي يتفق مع أصل التنزيل، وما يخالفه فهو الزيغ في الدين، والخروج عن جادته.
________
(١) متفق عليه وقد سبق تخريجه بألفاظه.
(٢) جاء في هامش الأصل هذا التحقيق اللغوي منقول من التفسير الكبير للفخر الرازي، بتصرف قليل.
1109
والمتشابه ينتهي كما ذكرنا إلى أحد معنيين؛ إما أن نقول إنه الغيب الذي لا يستطيع الإنسان معرفته، كحقيقة الروح، وحقيقة الجن والملائكة، وما يكون يوم القيامة، وكيف يكون نعيم الجنة الحسي، وعذاب الجحيم المادي، وكيف ينشئ الله الخلق، وكيف يعيده، وكيف يتجلى سبحانه يوم الحساب، وهكذا مما غيبه الله تعالى علينا؛ لأن عقولنا مأسورة بالحس الذي نحسه، وبالمادة التي ندركها، وعلم الغيب قد أخفاه الله سبحانه عنا؛ لأنه يعلو عن مداركنا في هذه الدنيا، وعلينا أن نؤمن بما أخبرنا به القرآن الكريم، وما جاءت به السنة الصحيحة؛ فإن من صفات أهل الإيمان الإيمان بالغيب، إذ قال سبحانه في أوصافهم: (الَّذينَ يُؤْمنُونَ بِالْغَيْب وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ).
هذا هو الوجه الأول الذي يحتمله تفسير كلمة المتشابه.
أما الوجه الثاني فمعنى المتشابه أنه الذي يدق معناه إلا على طائفة خاصة من أهل العلم، كبعض العبارات القرآنية الخاصة بالكون وتكوين السماء والأرض، وبعض ما ذكر في القرآن من أوصاف لله سبحانه وتعالى، ونحو ذلك من الحقائق التي لَا يخوض فيها إلا أهل الذكر، وهي دقيقة في معناها.
هذان هما الوجهان اللذان تحتملهما الآية الكريمة، ويدخل في عمومهما كل الأقوال التي قيلت في هذا المقام (١). ونرى أن كلا الوجهين تحتملهما الآية، من غير ترجيح لأحدهما على الآخر، بل يصح لنا أن نقول:
________
(١) جاء في هامش الأصل: اختلف المفسرون في المحكم والمتشابه على أقوال كثيرة:
١ - منها أن المحكم ما اتفقت عليه الشرائع السماوية، والمتشابه ما خالف فيه الإسلام ما سبقه.
٢ - ومنها أن المتشابه أوائل السور المبتدأة بالحروف.
٣ - ومنها أن المحكم الناسخ، والمتشابه المنسوخ.
٤ - ومنها أن المحكم ما كان دليله واضحا والمتشابه ما يخفى دليله إلا على الراسخين.
٥ - ومنها أن المحكم ما أمكن الاستدلال عليه بدليل جلي أو خفي، والمتشابه ما لَا يمكن الاستدلال عليه.
٦ - ومنها أن المحكم ما فيه بيان الحلال والحرام والمتشابه ما سواه.
٧ - ومنها أن المتشابه ما احتمل في تأويله عدة وجوه، والمحكم ما لَا يحتمل إلا وجها واحدا.
٨ - ومنها أن المحكم والمتشابه في القصص، فما فصل منها محكم، وما أجمل متشابه.
1110
إن الوجهين معا مرادان، وسنختار ذلك، ونبين وجهه عندما نتكلم في تأويل المتشابه إن شاء الله تعالى.
وإن وجود هذين القسمين في القرآن الكريم كان سببا في أن وَجَدَ الذين زاغوا وأضلهم الله على علم سبيلا لأن يفتنوا الناس عن دينهم ويضلوهم؛ وذلك بمحاولة تأويل المتشابه من غير أن يلاحظوا الموافقة بينه وبين الآيات المحكمات وهن أم الكتاب؛ ولذا قال سبحانه:
(فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ) في هذه الآية الكريمة يبين سبحانه وتعالى أن الذين يتلقون هدى القرآن قسمان، كما أن آيات القرآن قسمان، ولكلام الله تعالى المثل الأعلى؛ فالقسم الأول يتلقى الهدى القرآني مستضيئا بنوره آخذا بهديه؛ ما يعرفه يهتدي به، وما لَا يعرِفه يؤمن به، ويفوض فيه الأمر إلى ربه، ويقول: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ومَا أَنَا مِن الْمُتَكَلِّفِينَ). والقسم الثاني زاغ، فَأزاغه اللَّهُ عن الحق. وقد ذكر الله ذلك القسم، ويفهم القسم الأول من قوله تعالى في حق الراسخين في العلم أنهم يقولون:
________
٩ - وقال ابن تيمية: المحكم: ما يجب الإيمان به والعمل به، والمتشابه ما يجب الإيمان به من غير تكليف بعمل.
١٠ - ومنها أن المتشابه آيات الصفات، وغيرها محكم.
١١ - وقال ابن حزم الظاهري: كل القرآن محكم ما عدا الحروف التي ابتدئت بها بعض السور، وأقام القرآن مثل قوله تعالى: (والشمس وضُحَاهَا).
1111
(رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا).
والزيغ أصل معناه في اللغة: الميل عن الاستقامة. والتزايغ التمايل، ورجل زائغ: أي مائل عن الطريق المستقيم في طلب الحق. والمعنى على هذا: أن الذين في قلوبهم زيغ، أي ميل عن طلب الحق وعدم أخذ بالمنهج المستقيم، لَا يتجهون إلى المحكم يطلبون منه حكم القرآن، بل يتبعون ما تشابه من القرآن؛ لأنه بُغيتُهم، ويجدون في الاشتباه ما يتفق مع اعوجاج نفوسهم، وعدم استقامة تفكيرهم، وما ينطوي عليه مقصدهم الباطل؛ فإن اعوجاج القلوب يجيء من تحكم الهوى في
1111
النفس، وإذا تحكم الهوى وسيطرت الشهوات المختلفة كشهوة التسلط والغلب وحب السلطان، وشهوة المال، وشهوة النساء، وشهوة المفاسد، فإن القلوب تركس، وتفسد، وتعوج، فلا تطلب الحق لذات الحق، بل تطلب ما يحقق شهوة النفوس، وأولئك لأنهم لَا يطلبون الحق يتبعون المتشابه يتقصَّوْنه ويتعرفون مواضع الريب، ليثيروا الشبهات حول الحق، ويشككون الناس فيه، ولذا قال سبحانه: (ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ) أي طلبًا لفتنة الناس عن دينهم وخدعهم، وإثارة الريب في قلوبهم، بأوهام يثيرونها حول المتشابه الذي جاء في القرآن، مثل أن يقولوا: ما نعيم الجنة وما جحيمها؟ و (أَئِذَا كنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ...).
وكيف يخلق الله العالم؟ وهكذا يثيرون هذه الأوهام المشتقة من مألوف الحياة الفانية، ليشككوا في حقيقة الحياة الباقية. فابتغاء الفتنة مقصودهم الأول؛ ولذا ذكر أولا، ثم أعقبه سبحانه بابتغاء التأويل فقال: (وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ) فهم قد ابتغوا التأويل بانبعاث من الهوى والرغبة في تضليل الناس وإثارة الشكوك حول حقائق الدين، فالرغبة في الفتنة هي المقصد الأول، والرغبة في التفسير أو معرفة المآل جاءت تابعة إذ لَا تتحقق الفتنة إلا بها.
والتأويل في أصل معناه اللغوي كما قال الأصفهاني في مفرداته " من الأَوْل أي الرجوع إلى الأصل، أي رد الشيء إلى الغاية المقصودة منه علما أو فعلا " فهو معرفة الغاية، إما بمعرفة المراد المقصود؛ ولذلك أطلق التأويل على التفسير ومعرفة ما يخفى من الحقائق وإرادة غير الظاهر لقرينة تدل عليه؛ وإما بمعرفة المآل والنتيجة عملا، كما في قوله تعالى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٥٣).
والتأويل الذي يبتغيه الزائغون هو معرفة المآل في الدنيا، كأن يطلبوا إنزال العذاب الذي يهددون به، وكأن يطلبوا إحياء بعض الموتى، وقد يفسرون تفسيرات
1112
المقصود منها تشويه الحقائق وتضلل العقول، وقد قصدوا في الأمرين الضلال. وإن الله سبحانه وتعالى قد بين بعد ذلك أن صرفة المآل عند الله تعالى وحده، وصرفة المعنى قد يدركها الراسخون، فقال سبحانه:
(وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ منْ عِندِ رَبِّنَا) في هذا النص الكريم قراءتان: إحداهما بالوقف عند لفظ الجلالة، والابتداء بقوله تعالى في استئناف للقول: (الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ). وهذه القراءة يستفاد منها أن معرفة التأويل والعلم به هي لله وحده، وعلى هذا يكون التأويل بمعنى معرفة مآل ما اشتمل عليه القرآن من أخبار اليوم الآخر وغيره من مغيبات عن الحس. والقراءة الثانية بالوصل من غير وقف، بعطف الراسخين في العلم على لفظ الجلالة؛ ومعنى هذا أن العلم بالتأويل عند الله، ويعرفه الراسخون في العلم من غير زيغ مع استقامة المنهاج، ووضوح الغاية، والتأويل هنا بمعنى التفسير وتعرُّف المراد علما.
وإذا كانت قراءات القرآن سنة متبعة وكل قراءة هي بذاتها قرآن متلو مبين، فمجموع القراءتين يشير إلى أن التأويل قسمان، أحدهما: علم بالمآل والغاية، وهذا لَا يعلمه إلا الله، كما أشارت القراءة الأولى، والقسم الثاني من التأويل علم بالتفسير والمراد من الألفاظ، وهذا يعلمه الله، وقد يعرفه الراسخون في العلم، وهم في الحالين يقولون آمنا، أي صدقنا وأذعنَّا، كل من عند ربنا، فهم مفوضون مؤمنون مذعنون في حال علمهم وجهلهم، مصدقون بأن المحكم والمتشابه من عند الله. فمعنى (كُلٌّ منْ عِندِ رَبِّنَا) أي كل واحد منهما يجب الإيمان به من غير تشكيك. وهذا هو الفرق بين الزيغ، واستقامة الفكر، فالمستقيم المفكر المؤمن يتقدم الإيمان على طلب التأويل، أما الآخر فيطلب التأويل ليلقي بالريب والشك.
1113
وإن هذا المنهاج المستقيم الذي يطالب به الإسلام هو منهاج أهل العقول الراجحة المستقيمة، وهم الثابتون في تفكيرهم وإيمانهم، الذين لَا تعبث بإيمانهم الأهواء، لأنه إيمان عميق، وسماهم العلي الحكيم: " الراسخين " في العلم، من الرسوخ وهو الثبات والتمكن، فالراسخ في العلم المؤمن الثابت الإيمان المتحقق الذي لَا تعرض له شبهة إلا أزالها بنور بصيرته، إذ الشبهة كالظلمة يبددها الضوء الساطع. وقد بين سبحانه أن أولئك هم الذين يتذكرون القرآن، ويتدبرون معانيه، ويدركون مراميه، وهم ذوو الألباب حقا وصدقا، ولذلك ختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله:
(وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الأَلْبَابِ) أي ما يدرك الحقائق الدينية ويعتبر بها، ويتذكر ما في القرآن من عبر ومواعظ وهداية إلا أصحاب العقول الراجحة التي لا تخضع للهوى والشهوة. وفي التعبير عن إدراك الحقائق الدينية والمعاني القرآنية وتفويض الأمور إلى الله تعالى فيما يعلم ويجهل بقوله: (وَمَا يَذَّكَّرُ) إشارة إلى أن المعاني الدينية في فطرة كل إنسان، ولكن يطمسها الهوى عند بعض الناس فلا يتذكرون، وتتكشف هذه الفطرة عند الذين لم تسيطر عليهم الأهواء فيتذكرون، والله أعلم بالأنفس.
هذه آية المحكم والمتشابه تكلمنا في معانيها التي تفهم من ألفاظها، ولكن بعض العلماء يتكلمون في موضوع هذه الآيات المتشابهة؛ وقبل أن نخوض في ذكر بعض ما قالوا نقرر أن الذي يستخلص من مصادر الشريعة ومواردها أن الآيات المتشابهة لَا يمكن أن يكون موضوعها حكما تكليفيا من الأحكام التي كلف عامة المسلمين أن يقوموا بها، وإنه لَا يمكن أن تكون آية من آيات الأحكام التكليفية قد انتقل النبي - ﷺ - إلى الرفيق الأعلى من غير أن يبينها، ولا تشابه فيها بعد أن بينتها السنة النبوية؛ لأن الله تعالى يقول: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ...)، ولا شكَّ أنَّ مِنْ أوَّلِ بيان ما نزل إليهم بيان الأحكام التكليفية، ولو تصور أحد أن من آيات القرآن التي تشتمل على أحكام
1114
تكليفية لم يبينه النبي - ﷺ - لكان معنى ذلك أن الرسول الكريم لم يبلغ رسالة ربه، وهذا مستحيل. لذلك نقول جازمين: إنه ليس في آيات الأحكام آية متشابهة، وإن اشتبه فهمها على بعض العقول لأنه لم يطلع على موضوعه فليس ذلك لأنها متشابهة في ذاتها، بل لاشتباه عند من لَا يعلم، واشتباه من لَا يعلم لَا يجعل آية في القرآن متشابهة.
وأكثر العلماء يقولون إن آيات الصفات التي توهم التشبيه هي من المتشابه كقوله تعالى: (يد الله فوق أيديهم)، وقوله تعالى: (كُلُّ شيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ...)، وقوله تعالى: (الرَّحْمَن عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)، فقالوا إن السلف يفوضون فيقولون آمنا به كل من عند ربنا، والخلف يؤولون، فيقولون: إن اليد هي القدرة، والاستواء الاستيلاء، والوجه هو الذات؛ وهكذا يعتبرون تلك الآيات من المتشابه. وقد وجد من العلماء من لم يعدوا آيات الصفات من المتشابه إنما المتشابه عند أكثرهم هو ما يكون خاصا بالغيب الذي لَا نعلمه، ولم يعلمه لنا، كحقيقة الروح، وما يكون من نعيم اليوم الآخر، والعقاب والثواب فيه؛ من حيث إنه لَا يعرف ماله إلا الله تعالى، وما أخبره الله تعالى إن هو إلا تقريب، ففي الجنة ما لَا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطرَ على قلب بشر. وهؤلاء الذين نفوا أن آيات الصفات من المتشابه، لهم ثلاثة مناهج:
المنهاج الأول: منهاج ابن حزم؛ فهو يقول إن آيات الصفات لَا تشابه فيها، فهي كلها أسماء للذات العلية؛ فاليد كناية عن الذات، والوجه كذلك، والاستواء فعل للذات العلية.. وهكذا، وقصَر المتشابه على الحروف التي تبدأ بها السور، والأقسام التي يقسم بها الله تعالى.
والثاني: منهاج للغزالي ذكره في بعض كتبه، وهو " إلجام العوام عن علم الكلام "، وقد ذكر فيه أن بعض هذه الألفاظ التي توهم التشبيه هي استعمال مجازي مشهور، وليس تأويلا؛ فإنه يقال: وضع الأمير يده على المدينة،
1115
فيفهم كل عربي أن معنى ذلك أنه استولى عليها وسيطر، ويكون من هذا القبيل: (يد الله فوق أيديهم). فعبارات الغزالي في هذا الكتاب تفيد أن هذه العبارات مجاز عربي مشهور لَا يحتاج إلى تأويل، ولكن يجب بعد هذا الفهم الظاهر التفويض وأن نقول: (آمَنَّا بهِ كُلٌّ منْ عِندِ رَبِّنَا).
المنهاج الثالث: منهاج ابن تيمية، وهو يرى أن هذه الآيات ظاهرة في معانيها، فهو يقول: إن لله يدا ولكن ليست كأيدينا، ووجها ولكن ليس كوجوهنا وإن هذه معان حقيقية، ويقول إن ذلك هو مذهب السلف، وهو في هذا تابع لطائفة من الحنابلة ادعوا أن ذلك منهاج الإمام أحمد. ولكن رد عليهم ابن الجوزي، وأنكر أن يكون ذلك مذهب أحمد فقال: " رأيت من أصحابنا من تكلم في الأصول بما لَا يصلح، ورأيتهم قد نزلوا إلى مرتبة العوام، فحملوا الصفات على مقتضى الحس، فأثبتوا له سبحانه صورة ووجها زائدا على الذات؛ وقد أخذوا بالظاهر في الأسماء والصفات، ولا دليل لهم في ذلك من النقل ولا من العقل، ولم يلتفتوا إلى النصوص الصارفة عن الظواهر إلى المعاني " ثم يقول: " يا أصحابنا أنتم أصحاب نقل واتباع، وإمامكم الأكبر أحمد بن حنبل رحمه الله يقول وهو تحت السياط: كيف أقول ما لم يقل! ثم قلتم في الأحاديث تحمل على ظاهرها، فظاهر اليد الجارحة، ومن قال استوى بذاته المقدسة فقد أجراه سبحانه مجرى الحسيَّات، وينبغي ألا يهمل ما يثبت به الأصل، وهو العقل، فإنا به عرفنا الله تعالى، وحكمنا له بالقدم " ثم يقول " لا تُدخلوا في مذهب هذا الرجل الصالح ما ليس فيه ".
* * *
1116
(رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (١١) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (١٢)
* * *
(رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا) هذه ضراعة يجب على كل مؤمن أن يتضرع بها إلى ربه. وقد قال بعض العلماء إنها من مقول الراسخين في العلم، فهم يقولون: (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِندِ رَبِّنَا) ويقولون أيضاً: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا) وكأنهم إذ يعلنون الإيمان والإذعان يضرعون إلى الله تعالى أن يحفظه ويبقيه بإبعادهم عن الزيغ والاضطراب في العقيدة.
وقال بعض المفسرين: إن هذا كلام جديد، وهو تعليم من الله تعالى للمؤمنين ليدعوا بهذا الدعاء، والمعنى على الحالين: ربنا أي يا خالقنا والعليم بنفوسنا والقيوم على أمورِنا (لا تُزِغْ قلُوبَنَا): لَا تبتلينا بابتلاء واختبار تَزيغ معه قلوبنا، وتضطرب معه نفوسنا، فتكون الإزاغة عن الطريق المستقيم والمنهاج الحق. والزيغ يبتدئ دائما بسيطرة الأهواء على النفوس، فتضطرب فتحيد، فيكتب الزيغ فتزيغ؛ وهذا كقوله تعالى: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ...).
وروت أم سَلَمة رضي الله عنها أن أكثر دعاء الرسول - ﷺ -: " يا مقلب القلوب ثبت
1117
قلبي على دينك " فقالت له يا رسول الله ما أكثر دعاءك يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك؟ فقال: " يا أم سلمة، إنه ليس آدمي إلا وقلبه معلق بين أصبعين من أصابع الله، فمن شاء أقام، ومن شاء أزاغ " (١).
(وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) هذا بقية الدعاء والضراعة التي تجري على ألسنة الراسخين في العلم، وهي من تعليم الله سبحانه وتعالى، وهذا الدعاء يتضمن طلب الرحمة، وقد تضمن الأول طلب تثبيت الإيمان، وهو أول أبواب الرحمة، والأصل لكل رحمة؛ فبعد أن علمنا الضراعة بأن لَا تميل قلوبنا، وجهِّنا لطلب الأثر كذَلك وهو الرحمة، ورحمة الله تفضُّل وإنعام على العبد؛ لأنه وما يملك ملك لله تعالى يتصرف فيه كما يتصرف المالك في ملكه، وليس لأحد عند رب العالمين حساب. والرحمة المطلوبة كلمة شاملة جامعة، فتجمع النصر في الدنيا والقرار والاطمئنان فيها، والنعيم في الآخرة. والتعبير بقوله تعالى: (مِن لَّدُنكَ) أي من عندك، وَلَدُن لَا تستعمل بمعنى عند إلا إذا كانت العندية في موضع خطير جليل عال. والمعنى على هذا أن الرحمة فيض من فيوض الله ينزل على عباده كما ينزل المطر من مرتفع السماء إلى الأرض. وقد ختمت الآية الكريمة بما يدل على أن هبة الرحمة شأن من شئون العلي القدير، ووصف من أوصافه، فقال سبحانه على ألسنة الضارعين المبتهلين: (إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) في هذا تأكيد رحمة الله تعالى بعدة مؤكدات، منها " إنَّ " التي للتوكيد، ومنها تأكيد الضميو بقوله " أنت " ومنها القصر، أي لَا يهب أحد سواك، وذلك بتعريف الطرفين، ومنها التعبير بصيغة المبالغة، وهي: الوهاب، وإنه سبحانه قد انفرد بالرحمة وهبة الرحمة لمن يشاء، وإن رحمته وسعت كل شيء.
* * *
________
(١) رواه الترمذي: الدعوات (٣٤٤٤) عن شهر بن حوشب رضي الله عنه، وأحمد: مسند الأنصار (٢٥٤٥٧).
1118
(رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (٩)
* * *
هذه هي الضراعة الثانية التي اقترنت بآية المحكم والمتشابه في القرآن، والكلام فيها كالكلام
1118
في الآية السابقة، من حيث كون هذا الدعاء من مقول الراسخين في العلم، أو تعليم من الله للراسخين في العلم من المؤمنين، وكلاهما ينتهي إلى أن هذه الضراعة إن صدرت عن القلب تكون مانعة له من الزيغ، فإن الإيمان باليوم الآخر لبُّ الإيمان، وهو يربي الإذعان، وفيه كل معاني التفويض، وبه يستعين المؤمن على محاربة داعي الهوى والشهوة. وقوله تعالى على لسان المؤمن الراسخ في العلم: (رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ) تنبيه إلى أنه في هذا اليوم يتبين الحق، ويواجه الحق والمبطل، ويعلن الذين يزيغون والذين يذعنون، ويتبين زيغ الزائغ وجزاؤه، وثمرات الإيمان وجزاؤه. وفي هذا تنبيه أيضا إلى أن اليوم الآخر لا ينبغي أن يكون محلَّ ريب، لأن الذي أخبر به هو الذي خلق الخلق، فهو الذي بدأهم، وهو الذي يعيدهم، ولأنه سبحانه ما خلق الخلق عبثا، وما ترك الأمر للباطل والمبطلين يرتعون في الأرض ويفسدون، بل جعل للحق سلطانا، وجعل له العلو، فإن لم يكن في الحال، فإنه سيكون لَا محالة في المآل، والله على كل شيء قدير.
والأساس في العلم باليوم الآخر هو إخبار الله تعالى الذي لَا يحتمل إخلافا؛ ولذلك قال سبحانه بعد ذلك: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ) أي إن اليوم الآخر الذي لَا ينبغي لمؤمن أن يرتاب فيه هو وعد الله الذي وعد به المتقين، ونذيره الذي أنذر به الجاحدين الضالين، والله سبحانه وتعالى لَا يخلف اليعاد. وفى هذه الجملة السامية (إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ) إشارة إلى الجزاء الأخروي وما فيه من جزاء بعد الحساب، فهي تتضمن تبشيرا للمؤمنين، وإنذارا للعاصين الكافرين. جعلنا الله من المتقين المهتدين، الذين لَا يزيغون في فهم دينه، وتفهم قرآنه، والمذعنين للحق الطالبين له.
* * *
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا... (١٠)
* * *
كان السبب في كفر من كفر، وزيع من يزيغ، هو اغترارهم في هذه الحياة الدنيا بكثرة المال، وعزة النفر، وقوة العصبية، مما جعلهم يبغون على الناس، ويبغون على أنفسهم،
1119
فتطمس مسالك النور إلى قلوبهم؛ وإنه لَا شيء يُدَلِّي بالنفس فتعمى عن الإدراك
أكثر من الغرور؛ ولذلك ذكر سبحانه وتعالى أن هذه الأموال وأولئك الأولاد وإن كانوا العصبة أولي القوة لن تغني عنهم شيئاً. وقد أكد القول سبحانه في موضعين في قوله:
1120
(إِنَّ الَّذينَ كَفَرُوا) وبهذا يؤكد سبحانه وقوع الكفر منهم، ويؤكد النفي سبحانه في قوله، (لَن تغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئَا) إذ نفي بـ: " لن "؛ فالخبران مؤكدان: الإثبات والنفي؛ فكفرهم وعدم نفع أعراض الدنيا مؤكدان، وكأن مجرى القول هكذا: غرتهم أماني الدنيا بالأموال والأولاد فكفروا كفراً مؤكدا مع أنه من المؤكد أنها لن تنفعهم بأي نفع، ولن يكون فيها ما يغني عن رحمة الله التي حرموها بسبب كفرهم المؤكد، وهنا بعض إشارات بيانية منها قوله: (لَن تُعْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ) فقد قال بعض المفسرين: إن معناها لن تدفع عنهم من عذاب الله شيئا. فـ تغني معناها تدفع، والدفع المنفي هو منع العذاب، ولكن كلمة تغني لَا تدل على معنى الدفع إلا على سبيل المجاز، الذي يرشح له ويقويه قوله تعالى: (مِّنَ اللَّهِ) و " من " هنا بمعنى البدلية، والمعنى يكون على هذا: لَا تكون الأموال والأولاد مغنية أي غناء ونافعة أي نفع بدل رحمة اللهِ تعالى وقدرته وإرادته ونفعه لعباده؛ فالغاية أن الأولاد والأموال لَا تجلب رحمة بدل رحمة الله تعالى ونفعه لعباده شيئا من الغَنَاء أو النفع.
ثم قوله في نفي نفع الأولاد بعد نفي نفع الأموال (وَلا أَوْلادُهُم) إشارة إلى أن قوة النفع بمقتضى الفطرة والعادات الجارية في الأولاد أكثر؛ ولذا أكد النفي فيه بعد تأكيده أولا بتكرار " لا " كأن نفي نفع الأموال أسهل قبولا من نفي نفع الأولاد، ولذا زاده توكيدا بعد توكيد؛ وإن أولئك الكافرين إذا كانوا قد حرموا نفع الأولاد والأموال، ولم يستبدلوا برحمة الله شيئا، فلهم مع ذلك عذاب شديد، ولذا قال سبحانه بعد ذلك:
1120
(وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ) الإشارة في قوله: (وَأُوْلَئِكَ) إلى أولئك الكافرين الذين غرهم غرور الأموال والأولاد فضلوا لفرط اعتزازهم بسلطان المال والعصبية، وفي الإشارة إليهم وهم موصوفون بالكفر المؤكد الذي لَا سبيل إلى الشك فيه ولا الريب بيان أن السبب في العقاب الذي ينزله الله بهم هو هذا الكفر الذي دفع إليه الغرور والاعتزاز بغير الله وبغير الحق " والجملة السامية (وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُود النَّارِ) دالة على عقابهم الشديد يوم القيامة. وقد أكد الخبر بثلاثة مؤكدات:
أولها: الإشارة إلى البعيد بـ (وَأُوْلَئِكَ) الدالة على غلوهم في الكفر، وإيغالهم فيه، وكلما قوى السبب قوى المسبب، وكلما اشتدت الجريمة اشتد العقاب، فهي مَثُلَةٌ للجزاء.
وثانيها: ذكر ضمير الفصل " هم "، فهو يؤكد، إذ فيه تكرار لذكر الموضوع الذي يَرِد عليه الحكم، وكل تكرار فيه تأكيد فوق ما يدل عليه من الاختصاص.
وثالثها: التعبير عن العقوبة النارية التي تنزل بهم، بأنهم يكونون وقود النار؛ فإن الوَقُودَ هو الحطب الذي تُحرَق به النار، وأصله من وقدت النار تقد إذا اشتعلت، والمصدر الوُقود، وبالفتح ما يكون به الاتقاد والاشتعال. والمعنى على هذا أن الكافرين يكونون وقود النار؛ أي أن النار يشتد اشتعالها فيهم حتى كأنهم هم مادتها التي بها تتقد وتشتعل. وقرئ (وُقُود) (١)، وهذا يكون فيه مبالغة في شدة احتراقهم، أي أنهم يحترقون بالنار ويسجرون فيها حتى كأنهم الاشتعال لا مادة الاشتعال، ولا من يكوى بهذا الاشتعال.
وإن هذا العقاب هو الذي ينتظر الكفار جميعا، وإن حال منكري الإسلام في الإنكار والجحود والغرور بالمال والولد، والعزة بالنفر والعصبية، كحال من سبقوهم، ولذا ينزل بهم ما نزل بأولئك؛ ولهذا قال سبحانه وتعالت آياته:
* * *
________
(١) قرأ بها مجاهد والحسن وجماعة (المحرر الوجيز ١/ ٤٠٥، البحر المحيط ٢/ ٤٥، الدر المصون ٢/ ٢١).
1121
(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ... (١١)
* * *
الدأب: العادة والشأن، وأصله من دأب الرجل في عمل يدأب دأبا ودءوبا إذا جد فيه واجتهد، ثم أطلق الدّأبُ على العادة والشأن؛ لأن من يدأب في عمل ويستمر عليه أمدا طويلا يصير شأنا له، وحالا من أحواله، وعادة من عاداته؛ فهو من باب إطلاق اسم السبب وإرادة المسبب. وآل فرعون، وهم نصراؤه وأهل حوزته ومعاضدوه، قد استمرءوا الطغيان وألفوه حتى صار الكفر دأبا وعادة وشأنا من شئونهم.
وقد شبه الله سبحانه وتعالى حال الكافرين الذين كفروا بمحمد - ﷺ - وما جاء به، بحال آل فرعون والذين سبقوا فرعون من الطغاة العتاة القساة المغرورين، وقد كان وجه الشبه في أمرين:
أولهما: أن الغرور هو الذي دفع إلى الجحود واللجاجة فيه والإصرار عليه، حتى إنهم ليردون الدليل تلو الدليل، وما تزيدهم الآيات إلا كفورا، وما تزيدهم الموعظة إلا عُتوا في الأرض وفسادا.
وثانيهما: في الجزاء.
وهنا يرد سؤالان أولهما: لِمَ ذكر آل فرعون، ولم يذكر فرعون؟، والثاني: لماذا نص على قوم فرعون من بين الذين سبقوهم بالكفر والجحود ومعاندة النبيين؟ والجواب عن السؤال الأول: أن ذكر آل فرعون يتضمن ذكر فرعون؛ لأنه إذا كان العناد في التابع فهو في المتبوع أشد؛ وفوق ذلك فإن آل فرعون وحاشيته ونصراءه هم السبب في طغيانه، وهم الذين سهلوا له سبيل الطغيان وضنوا بالموعظة في إبَّانها، وهم الذين حرضوه على الاستمرار في الشر والإيغال فيه، فهم اتبعوه أولا، ثم حرضوه على الطغيان ثانيا بمبالغتهم في مرضاته، واستحسان ما يفعل.
وأما الجواب عن السؤال الثاني، وهو اختصاص فرعون وآله بالذكر، فلأن فرعون كان أقوى الطغاة وأشدهم، وكان أكثرهم مالا، وأعزهم نفرا،
1122
وأكثرهم غرورا، أليس هو القائل: (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي...)، أليس هو الذي ذهب به فرط غروره إلى أن يقول في حماقة ظاهرة: (يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (٣٦) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى...)، ولقد كان مستكبرا يصم آذانه عن سماع الحق حتى لقد قال سبحانه فيه: (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بغَيْرِ الْحَقِّ... -).
ولقد بين سبحانه وتعالى نتيجة الغرور في آل فرعون والذين من قبلهم، وهو التكذيب بآيات الله، وقد ترتب على التكذيب نؤول العقاب الشديد، سنة الله في الذين كفروا ولجوا ولم يثوبوا إلى رشدهم، وينيبوا إلى ربهم، فقال سبحانه:
(كَذَّبُوا بِآيَاتنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ) هذا هو الدأب والعادة، وهو الغروَر المُرْدي، وهذه نتائجه التي تجمع بين المغرورين دائما، وهو التكذيب بآيات الله تعالى. وفي هذه الجملة السامية يقرر الله سبحانه ثلاث حقائق ثابتة، اثنتان منها تتعلقان بالكافرين المغرورين، وهما: التكذيب بآيات الله تعالى، والعقاب الذي يأخذهم سبحانه وتعالى به، والثالثة بيان شأن من شئون الله تعالى جلت قدرته، وهو أنه سبحانه وتعالى شديد العقاب، كما أنه سبحانه غفور رحيم، وأنه المنتقم الجبار، كما أنه اللطيف الخبير.
فأما الحقيقة الأولى فقد قال سبحانه فيها (كَذَّبُوا بِآيَاتنَا) أي كَذبوا بالآياتِ والأدلة التي تثبت رسالات الرسل، وتثبت وحدانية الله تعالى. وأضاف سبحانه الآيات إليه جلت قدرته، للإشارة إلى عظم دلالتها وقوة إثباتها، وأنها آيات الخالق لتعريف خلقه، وأدلة الواحد الأحد لإثبات وحدانيته، ومع ذلك لجوا واستمروا في غيهم يعمهون.
والحقيقة الثانية: قال سبحانه وتعالى فيها: (فَأخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ) أي أنه سبحانه وتعالى يعاقبهم على هذه الذنوب بما يساويها، وبما يقابلها، وعبر عن العقاب بهذا التعبير، لأنه يفيد أُمورًا ثلاثة:
1123
أولها: أن الأخذ يفيد الوقوع التام في سلطان الله تعالى، فهو سبحانه أخذهم كما يؤخذ الأسير، لَا يستطيع من أمره فكاكا.
ثانيها: أن التعبير بالباء يفيد أمرين: المصاحبة والمقابلة؛ فهم قد أخذوا مصاحبين ومتلبسين بذنوبهم لم يقلعوا، ولم يتوبوا، بل استمروا على حالهم ملابسين لها ومقترنة بهم، كما تدل على أن العقاب مقابل للذنوب، فهو بدل ببدل، وكما أنهم قدموا الذنب، فليتسلموا العقاب.
وثالثها: أن هذا التعبير فيه إشارة إلى عدل الله سبحانه وتعالى الكامل؛ فالذنب هو الذي ولد العقاب، وهو يماثله تمام المماثلة، وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون.
والحقيقة الثالثة: قال سبحانه وتعالى فيها: (وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ) وفي ذكر هذا الوصف للذات العلية إشارة إلى شدة العقاب لشدة الجريمة، وإشارة إلى أن العدالة الإلهية تقتضي شدة العقاب؛ لأنه لَا يستوي الذين يحسنون والذين يسيئون، ولا يستوي الأخيار والأشرار؛ فإن المساواة هي الظلم في هذه الحال.
ثم في هذا الوصف للذات العلية تعليم للناس بأن كل فعل يجب أن يكون له جزاؤه (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ).
وهذا النص الكريم فوق ذلك يربي المهابة في النفس، ويجعل كل مؤمن يغلِّب الخوف على الرجاء، فإن الخوف يجعل العابد يستشعر الطاعة دائما ولا يَدِل بالعبادة، وتغليب الرجاء يمكن للنفس الأمارة بالسوء أن تسيطر، ويجعل العابد يَدِل بعبادته.
* * *
1124
(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (١٢)
* * *
اغتر المشركون بأموالهم وأولادهم وقوتهم في الأرض، فكفروا وعتوْا عتوا كبيرا؛ فبين الله سبحانه وتعالى أنهم سَيُغْلَبون في هذه الدنيا، وأنهم في الآخرة سيحشرون إلى جهنم؛ ولذا أمر الله سبحانه وتعالى نبيه أن يقول فيهم هذه الحقيقة فقال سبحانه: (قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا).
1124
فهذه الآية الكريمة إنذار للمشركين بأن الهزيمة ستلحقهم في الدنيا، وأن العذاب سيستقبلهم في الآخرة. وقد أمر الله سبحانه نبيه بأن يواجههم بهذا الخطاب، ولم يوجهه سبحانه وتعالى إليهم، لأن أولئك المغترين المفتخرين كانوا يدلّون بقوتهم على النبي - ﷺ -، ويعتزون بها في مخاطبته - ﷺ -، فكانوا يقولون له: (نَحْنُ أَكثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ). وكانوا يأخذون من عزتهم في الدنيا دليلا على عزتهم في الآخرة، فكان حالهم كحال هذا العامل الذي حكى الله سبحانه عنه بقوله: (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (٣٥) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (٣٦).
وهكذا الطبيعة الإنسانية إن استغنت طغت في حاضرها، وغرها الغرور في قابلها: (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (٧).
وإذا كانوا يجابهون النبي - ﷺ - بذلك فإنه يكون من المناسب أن يتولى هو الرد، وهو الذي جُرِّدَ من المال والولد، ولا ناصر له إلا الله سبحانه وتعالى.
وإن ذلك الاغترار كان من المشركين واليهود الذين كانوا يجاورون النبي - ﷺ - بالمدينة، وقد جابهوا النبي - ﷺ - بذلك عندما دعاهم إلى الإسلام بعد واقعة بدر التي انتصر فيها المسلمون، فإنه يروى أن النبي - ﷺ - جمعهم في سوق بني قينقاع، وقال لهم: " يا معشر اليهود، احذروا مثل ما نزل بقريش، وأسلموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم، فقد عرفتم أني نبي مرسل ". فقالوا: لَا يغرنك أنك لقيت أقواما أغمارا لَا يعرفون القتال، إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أننا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا (١).
وإذا كان الاغترار من الفريقين فإنه يصح أن نقول إن الخطاب للكفار جميعا الذين يغترون مثل هذا الغرور، وخصوصا أن النبي - ﷺ - أمر بأن يخاطب بهذا الذين كفروا، سواء أكانوا من هؤلاء أم كانوا من أولئك، وإن الكفر بالحقائق
________
(١) رواه أبو داود: الخراج والإمارة والفيء - كيف كان إخراج اليهود من المدينة (٢٦٠٧).
1125
الواضحة البينة التي تدركها العقول السليمة يكون سببه دائما اغترارا بأمر مادي مسيطر على النفس يجعل عليها غشاوة فلا يدرك العقل، ولا يؤمن القلب.
وهنا يرد بحث لغوي وهو: لماذا أدخل السين في قوله تعالى: (سَتُغْلَبُونَ) ولم يقل تعالت كلماته: ستحشرون؟
والجواب عن ذلك: أن السين لتأكيد القول، والذي كان موضع شك عند هؤلاء هو كون النبي - ﷺ - سيهزمهم في الدنيا، والحشر قد أكده سبحانه وتعالى في كثير من آي الكتاب. وفوق ذلك فإن السين مقدرة في تحشرون باعتبارها معطوفة على " ستُغلَبون " والعطف على نية تكرار العامل.
ولقد أشار سبحانه إلى أن الحشر سيكون تجميعا للكفار يساقون بعده إلى نار جهنم، وجهنم هي الجزء العميق في النار؛ ولأنه بعد الحشر يكون السَّوق إلى نار جهنم وتعدت كلمة يحشرون بـ " إلى "، إذ قد تضمنت مع معنى التجمع معنى السَّوق والأخذ إلى نار جهنم. ثم أشار سبحانه إلى شدة العذاب بقوله تعالى:
(وَبِئْسَ الْمِهَادُ) أي أنها ليست مُقَاما محمودا بالنسبة لهم، بل هي مقام مذموم منهم يصح أن يقال فيه بالنسبة لهم " بئس المهاد " فجهنم ليست موضع ذم في ذاتها باعتبارها دار جزاء عادل، ولا يذم الجزاء العادل ولو كان قاسيا، ولكن هي موضع الذم ممن ينزل به لأنه سيتلقى قسوته. ومعنى المِهَاد: الفراش المبسوط السهل اللين المريح، فيقال: مهد الرجل الأمر بسطه وهيأه وأعده، وعلى هذا فالتعبير فيه نوع من التهكم بهم، إذ هي لَا تكون أمرا ممهدا.
* * *
1126
(قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (١٣)
* * *
1126
(قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنهم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) هذه الآية نزلت بعد غزوة بدر، فالفئتان المشار إليهما في الآية: المسلمون، والمشركون. والمسلمون الفئة التي تقاتل في سبيل الله، أي في سبيل إعلاء كلمته وطلبا لمرضاته، والأخرى الكافرة: المشركون. والمعنى على هذا أن الله سبحانه إذ ينذر الكافرين بأنهم سيغلبون في الدنيا، ينذرهم بما قامت عليه البينات، وظهرت به الأمارات، وذلك لأن لهم آية أي أمارة ودلالة تدل على صدق ما يوجهه النبي - ﷺ - من أنهم سيغلَبون، وتلك الآية الدالة على صدق ذلك التهديد والإنذار الشديد هي في حال الطائفتين اللتين التقتا في حرب قوية، إذ انتصرت الفئة التي تقاتل في سبيل الله وهي القلة، على الفئة الكافرة وهي الكثرة، ومع أن أولئك الذين يقاتلون في سبيل الله كانوا يعلمون أن أولئك أكثر عددا، وأكثر عُدَّة.
ونريد أن نبحث هنا في بعض الألفاظ التي لها إشارات بيانية:
فقوله تعالى عن الفئة الكافرة: (وَأُخْرَى كَافِرَةٌ) فيه إشارة إلى بُعد ما بين الفريقين من حيث الغاية من القتال، ففيه إشارة إلى تقدم الأولى معنويا، وتأخر الثانية؛ فالأولى تقاتل لَا لعرض من أعراض الدنيا، ولا لغاية مادية مبتغاة، بل للحق، وفي سبيل الحق، ومرضاة للحق جل جلاله، والأخرى تكفر بكل هذه المعنويات فتقاتل في الباطل وللباطل ولنصرة المادة، ولأعراض الدنيا، وفرق ما بين الفئتين عظيم، فإن كانت الأولى فقيرة في المال قليلة في العدد، فهي قوية بالمقصد والغاية، والثانية على نقيض ذلك تماما، فهي كثيرة المال وكثيرة العدد، ولكنها فقيرة في الإيمان.
وقوله تعالى: (يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) فيه بيان أن المؤمنين يرون المشركين (مِّثْلَيْهِمْ) أي أكثر منهم مرتين، فالمثل معناه المساوي، والمثلان لأمرٍ ضِعفُه، والمعنى على هذا أن المؤمنين الذين أعطاهم الله ذخيرة من الإيمان واليقين وطلب الحق يرون أعداءهم رأي العين لَا بالوهْم والخيال ضعفهم، ومع ذلك
1127
لم يجبنو ولم يضعفوا فالتعبير بقوله (رَأْيَ الْعَيْنِ) تأكيد الرؤية بأنها رؤية بصرية، لَا رؤية تقديرية؛ فهم يعاينون معاينة لَا لبس فيها ولا غموض أنهم ضعفهم. فالذين يعتزون بالكثرة عليهم أن يعرفوا أي الفريقين غلب، والذين يعتزون بالمادة عليهم أن يعرفوا لمن كانت النصرة: أهي للمادة أم للروح والإيمان؟ فالذين رأوا خصومهم مثليهم هم المؤمنون. وهذا ترجيح ابن جرير الطبري. وقد رجح الزمخشري أن الذين رأوا: هم المشركون، قد رأوا المؤمنين مثليهم. وإن الأول في نظرنا أولى؛ لأن المسلمين في غزوة بدر كانوا فعلا أقل عددا من المشركين، وأقل عدة، ولأن التعبير بقوله تعالى (رَأْيَ الْعَيْنِ) يفيد أن رؤية هذه الكثرة كانت بصرية بالمعاينة، لَا بالتقدير أو التخيل أو التوهم، ولا يمكن أن يتحقق ذلك في رؤية المشركين للمؤمنين؛ لأنه كان يكذب، ولذلك نختار أن الرؤية كانت رؤية المؤمنين للمشركين، ولكن قد ورد اعتراضان: أحدهما: أن المشركين في بدر كانوا ثلاثة أمثال المؤمنين تقريبا ولم يكونوا ضعفهم.
ثانيهما: أن الله سبحانه قد قال في غزوة بدر: (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً...) وإن رد الاعتراض الأول سهل؛ فإن العين لَا تقدر تقديرا عدديا، ولكنها تقدر تقديرا تقريبيا؛ فثلاثة الأمثال قد تُرى رأي العين مثلين. وقد يقال إن المراد بكلمة مثلين ليس التثنية إنما المراد مجرد التكرار وذلك استعمال عربي، كما في قوله: (ثم ارْجِع الْبَصَرَ كَرَّتَينِ... )، فالمراد تكرار النظر، لا التقدير بمرتين اثنتين؛ كذلك هنا المراد التكرار العددي لَا مجرد مثلين اثنين، وإن ذلك شائع، فيقال مثلا: اقرأ هذا مرتين ولا تكتف بالنظرة الأولى، والمراد التكرار.
أما الاعتراض الثاني، فقد أجاب عنه ابن كثير في تفسيره المستمد من الأثر، بأنهم عندما أرادوا حسبانهم رأوهم ضعفهم أو يزيدون، فلما ألقى في قلوب الذين
1128
آمنوا البأس والقوة، والتقوا بهم استهانوا بهم؛ ولذا روي عن ابن مسعود أنه قال في غزوة بدر: " نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلا واحدا؛ وتلك حكمة الله العلي الخبير؛ رأوهم يزيدون عليهم أضعافا، وذلك هو الحس الواقع، ولكن عند اللقاء صغروا في أعينهم ليكون النصر؛ لأن القاتل إن استكثر قوة خصمه عند اللقاء ضعف أمامه فيكون الانهزام، وإن استهان مع الحرص كان النصر؛ ولذا سئل علي رضي الله عنه: كيف كنت تصرع من يبارزك؟ فقال: " كنت أكون وهو على نفسه " أي أن عليا يقدم مستعليا بإيمانه على خصمه، وخصمه يحس بالخوف فتكون عليه قوتان ينتفع بهما علي: قوة من نفسه، وقوة من نفس خصمه ولَّدها الخوف.
(وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ)
اشتمل ذلك النص الكريم على حقيقة مقررة، ودعوة إلى التأمل والاستبصار لأولي الأبصار، ليمتنع الناس عن الاغترار بالقوة والاعتزاز بغير الله تعالى. أما الحقيقة فهي أن الله ينصر من يشاء، فهو الذي سينصر ويخذل، وأن من يعتمد على قوته وحده من غير اعتبار بما تجري به المقادير يخذله الله، وإن شأن الذين يغترون بالقوة المادية دائما ويعتزون بها لَا يعتمدون على الله تعالى، ولا يعملون حسابا للقدر الذي يجريه خالق الكون حسب مشيئته وتدبيره، وأنهم إذ ينسون هذا يأتي هم القدر من حيث لَا يحتسبون، فينهزمون حيث يرتقبون النصر؛ وإذا كان النصر والخذلان بيد الله تعالى، فالله سبحانه ينصر من ينصره، ويخذل من يكفره، كمال قال تعالى: (إِن تَنصُروا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)، وكما قال تعالى: (ولَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ).
وأما الدعوة إلى الاعتبار فقد ذكرها رب البرية بقوله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ) أي إن ذلك الذي رأوه وشاهدوه وهو أن الفئة القليلة المؤمنة التي تقاتل في سبيل الله، غلبت الفئة الكثيرة الكافرة التي تقاتل في سبيل الشيطان
1129
مع كثرتها وعدتها وأموالها فيه اعتبار بأن يجعلوا منه سبيلا لإدراك المستقبل؛ فإن العبرة معناها في اللغة وفي عرف القرآن والناس أن يؤخذ من الأمور الواقعة المحسوسة دليل على ما يمكن أن يأتي المستقبل غير المحسوس والمكشوف، فكان على هؤلاء أن يعرفوا من هذه الواقعة التي انتصر فيها الإيمان مع قلة أهله على الكفر مع كثرته، أن القوة المادية ليست كل شيء؛ وإن الذي يدرك ذلك هم أولو الأبصار، أي أصحاب المدارك الصحيحة التي تفهم الأمور على وجهها، فالمراد من الأبصار ليس البصر الحسي بل البصر المعنوي العقلي ولكن الذين طمست عليهم المادة لَا يدركون الأمور على وجهها، كما قال تعالى: (لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (١٧٩).
وإنه لكي تخرج النفس من ربقة المادة تذكر الله دائما، كما قال تعالى:
(الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قلُوبهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).
اللهم ثبت قلوبنا على دينك والإيمان بنصرك وعدلك يارب العالمين.
* * *
(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (١٥)
1130
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (١٧)
* * *
في الآيات السابقة بيّن سبحانه اغترار المشركين بأموالهم وأولادهم وكثرتهم، وكثرة النفر الذين يعاضدونهم، وأشار إلى اغترار آل فرعون بسلطانهم، وعاقبة أمرهم؛ وفي هذه الآية يبين سبحانه مصدر الغرور وأسباب الاغترار في هذه الدنيا، وما ركز في قلوب الناس من حب الشهوات التي يؤدي الاشتداد في طلبها إلى الانحراف في التفكير وإلى أن يطمس على البصيرة فلا تدرك الأمور على وجهها؛ ثم يبين سبحانه منزلة ما في هذه الدنيا من مُتَع فانية بجوار ما في الآخرة من نعيم دائم. وإذا كان قد بيّن سبحانه وتعالى أولا مآل المغترين المعتزين بأعراض الدنيا، فقد بين في هذه الآيات مال المتقين وأوصافهم، ومقدار فهمهم لزخارف هذه الحياة وما فيها من شهوات مردية عند الانحراف في طلبها. ولقد ابتدأ سبحانه بما ركز في فطرة كل إنسان من حب وطلب لهذه الشهوات في مواضعها، فقال سبحانه:
1131
(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ) هذه زينة الحياة الدنيا، وهذه متعها، وهي مصدر الخير، ومصدر الشر فيها، وبها تكون الرفعة، وبها يكون السقوط، وبها تكون العزة، وبها تكون الذلة؛ والإرادة الإنسانية هي التي تجعلها في أحد الطريقين، فإن كانت الإرادة قوية حازمة جعلت من هذه الأمور مصدر خير وطريقا إلى الجنة، وإن تحكم الهوى وغلب الشيطان، وضعف الوجدان الديني، كانت هذه الأمور مصدر شر وطريقا إلى النار؛ فهي طريق الجنة عند الأبرار، وطريق النار عند الأشرار، وكل امرئٍ وما تهوى نفسه.
1131
وإن هذه الأمور محببة لنفس الإنسان، مجبول بفطرته على الميل إليها، والاستشراف لها وطلبها، فهي طَلِبَةُ النفس الإنسانية؛ إذ هي من طبيعتها، وهي تتقاضاها طبيعة الإنسانية، ومن يحاول أن ينزع الميل إلى هذه الأشياء الستة من نفسه، فإنما يحاول اقتلاع الخاصة الإنسانية من كونه، فالطبيعة الإنسانية قد ركز فيها حب هذه الأمور، ولا تخرج هذه الأمور من النفس الإنسانية إلا إذا بعد الإنسان عن طبعه.
ولأن هذه الأمور في الفطرة الإنسانية عبر سبحانه وتعالى بالبناء للمجهول، فقال سبحانه:
(زُينَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ) فأبهم سبحانه مَنْ زَين حب هذه الأمور للإشارة إلى أنها في الفطرة الإنسانية، نشأت في الإنسان منذ خلقه سبحانه وأنزله إلى هذه الدنيا، فهو قد كوَّنه سبحانه ومعه تلك الطبيعة الإنسانية، وإنه ينتهي الأمر إلى أن الذي زين هذا الحب هو الله سبحانه وتعالى، وقد يؤكد ذلك قراءة مجاهد (زيَّنَ لِلنَّاسِ) (١) بالبناء للفاعل، ويكون الفاعل ضميرا يعود على الله سبحانه وتعالى. ومعنى (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ): أودعت فطرتهم حب هذه الشهوات، وأنهم لَا يرون فيها نقصا ولا مخالفة للكمال والشهوات المراد بها موضع الشهوات، فهي من باب ذكر المصدر وإرادة اسم المفعول؛ فهذه الأمور الستة هي المشتهيات، وليست هي الشهوات، ولكن أطلق عليها اسم الشهوات للإشارة إلى شدة محبتها والحرص عليها. ولقد قال الزمخشري في ذلك: " جعل الأعيان التي ذكرها شهوات مبالغة في كونها مشهاة محروصا على الاستمتاع بها " فالمراد أنهم يحبون هذه الأشياء، ويرون محبتها أمرا حسنا، ولا غضاضة فيه.
ويرى الزمخشري أن قوله تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ) فيه إشارة إلى خساسة هذه الأمور، ويقول في ذلك: " والوجه أنه يقصد تخسيسَها فيسميها شهوات، لأن الشهوة مسترذلة مذموم من اتبعها شاهد على نفسه
________
(١) وبها قرأ الضحاك، ينظر: المحرر الوجيز ١/ ٤٠٨، البحر المحيط ٢/ ٤١٣، الدر المصون ٢/ ٣١..
1132
بالبهيمية، وقال: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ) ثم جاء بالتفسير ليقرر في النفوس أن المزين لهم حبه ما هو إلا شهوات لَا غير، ثم يفسره بهذه الأجناس فيكون أقوى لتخسيسها، وأدل على ذم من يستعظمها ويتهالك عليها ويرجح طلبها على طلب ما عند الله ".
ولسنا نرى رأي الزمخشري في أن هذه خسيسة في ذاتها، أو يقصد إلى تخسيسها في ذاتها، وإنما نرى أنها فطرة الله يبينها الله سبحانه وتعالى، ويشير إلى أنها مطلوبة من كل إنسان، وأن المقتصد يُجمل في الطلب ويجعله للخير، وغير المقتصد يسرف فيفحش، فيكون الشر. وزينة الله التي خلقها ليست حراما، وهي من قبيل هذه المشتهيات، فيقول تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ...). وقال تعالى: (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)، وقال تعالى (وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءَ فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَات رِزْقًا لَّكُمْ...). وقال - ﷺ - في الخيل: " الخيل معقود بنواصيها الخيرَ إلى يوم القيامة " (١).
وقال في الحرث وهو الزرع: " ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه إنسان أو دابة إلا كان له به صدقة " (٢). وقال - ﷺ -: " حَبب إليّ من دنياكم: النساء، والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة " (٣). وقال - ﷺ -: " ألا أخبركم بخير ما يكنز المرء؛ المرأة الصالحة، إذا نظر إليها سرته، وإذا غاب عنها حفظته، وإذا أمرها أطاعته " (٤). وقال تعالى: (ومِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).
________
(١) متفق عليه رواه البخاري: الجهاد والسير - الخيل معقود في نواصيها الخير (٢٦٣٨)، ومسلم: الإمارة (٣٤٨٠).
(٢) رواه بهذا اللفظ أحمد في مسند المكثرين (١٣٠٦٥)، ، والحديث متفق عليه فقد رواه البخاري: المزارعة - فضل الغرس (٢١٥٢)، ومسلم: المساقاة (٤ ٢٩٠).
(٣) رواه النسائي: عشرة النساء - حب النساء (٣٨٧٨)، أحمد: مسند المكثرين (٥ ١٨٤).
(٤) رواه أبو داود: الزكاة - حقوق المال (١٤١٧).
1133
وبهذا يتبين أن هذه الأعيان ليست خسيسة في ذاتها، ولا يقصد تخسيسها، وإن كانت هي دون نعيم الآخرة ومتعها.
وقوله تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ) فيه إشارة إلى أن الناس يحبون هذه الشهوات ويستحسنون هذه المحبة؛ وذلك لأن الإنسان قد يحب شيئا ولكنه في محبته له غير راض عن نفسه، كأولئك الذين يميلون إلى بعض الآفات الاجتماعية، كالخمر، والميسر؛ فإنهم مع ميلهم إليها يستنكرون حالهم، ولا يحمدون ما يفعلون، إلا إذا كانوا قد طمس الله على بصيرتهم، فعموا وضلوا، وَزيّن لهم سوءُ أعمالهم فرأوْه حسنا، ولكن الناس جميعا مع محبتهم لهذه الأمور يستحسنون هذه المحبة، ويرضون عن أنفسهم في ميلهم إليها؛ وإن ذلك الاستحسان من عامة الناس يدل على أن محبة هذه الأمور من فطرة الإنسان ومن طبيعته؛ وإن هذا الميل لَا يدل على خسة في الطبع، ولكنه يدل على أنها في الفطرة.
وإن محبة هذه الأشياء، وهي رمز للطبيعة الإنسانية ليست بدرجة واحدة، بل تختلف بمقدار قوة نزوع النفس إليها، وتختلف بمقدار ما تشبع به الحاجات والغرائز الإنسانية.
وقد يقول قائل: وكيف يكون حب الذهب والفضة فطريا، مع أنه ليس من الفطرة؟ والجواب عن ذلك: أن الذهب والفضة يشبعان الحاجات الإنسانية، فهما من الوسائل للوصول إلى النساء وغيرهن، وهما في خدمة تلك الفطرة، وأحبهما الناس لأنهما يوصلان دائما إليها، ثم صار حبهما لذاتهما، وأشبه أن يكون من الفطرة.
ولنذكر هذه الأمور الستة، وهي مرتبة مراتب بترتيب القرآن الكريم: المرتبة الأولى: النساء، وحبهن فطري في الطبيعة الإنسانية مستكن فيها، لا يختلف فيه الناس إلا من إيفَت (١) مشاعره وفسدت طباعه، وهن زهرة هذا
________
(١) أي أصابتها الآفة.
1134
الوجود الإنساني، ولقد سماهم القرآن كذلك فقال تعالى: (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا...).
وقال تعالى في العلاقة بين الرجل والمرأة: (هُنَّ لِبَاسٌ لكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ...). وإن الرجل في حب النساء قد يستهين بكل شيء.
ولقد قال رسول الله - ﷺ - فيما رواه البخاري ومسلم: " ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء " (١). وقد يقول قائل إن المرأة من المكلفين ومن الناس فلماذا ذكر حب الرجال للنساء، ولم يذكر حب النساء للرجال، وكلاهما فطري في الطبع الإنساني؟ وقد أجاب عن ذلك بعض المفسرين بأن طلب الرجل للمرأة أشد وأقوى وأحد، وكثير من الرجال من يفتتنون بالنساء، وقليل من النساء من تظهر فتنتهن بالرجال، والحس يؤيد طلب الرجل للمرأة، فهو يبذل النفس والنفيس في طلبها، ولا يعرف من النساء إلا قليلا من يبذل ذلك.
والرأي عندي أن ذكر حب الرجال للنساء فيه إشارة إلى علاقة المحبة المتبادلة بين الفريقين؛ فهي إشارة إلى تلك العلاقة الفطرية من الجانبين، فذكر محبة الرجل للمرأة فيه تنبيه إلى محبة المرأة للرجل، وما يستفاد بالإشارة يستغني فيه عن العبارة، واكتفى بذكر حب الرجل لأن حبه الأوضح، ولأنه الأشد، ولأنه الذي يؤدي في جملة أحواله إلى الفتنة، ولأن المرأة مجيبة في هذا الباب لَا طالبة، وإن سبقت هي بالمحبة حاولت أن تخلق الطلب في نفس من تحب.
وحب النساء ليس شرا؛ لأن الله جعل المرأة رحمة للرجل، إنما يكون الشر في الإسراف في الطلب حتى يكون النساء خلب كبده، وفي طلب الحرام، وفي طلب الجمال من غير ملاحظة الدين؛ فلقد قال - ﷺ -: " إياكم وخضراء الدِّمن " (٢)،
________
(١) متفق عليه؛ رواه البخاري: النكاح - ما يتقى من شؤم المرأة (٦ ٤٧٠)، ومسلم: الذكر والدعاء (٣٩٢٣) عن أسامة بن زيد رضي الله عنه.
(٢) سبق تخريجه. وراجع الإكمال من الجامع الصغير، والكامل لابن عدي.
1135
وقال - ﷺ - " تنكح المرأة لمالها وحسبها وجمالها ودينها، ليك بذات الدين تربت يداك " (١).
ولقد قال - ﷺ -: " من أراد أن يلقى اللهَ طاهرا مطهرا فليتزوج الحرائر " (٢).
المرتبة الثانية: حب البنين، وقد ذكر حب البنين بعد حب النساء، لأن البنين ثمرة الحب الأول، وفيه إشارة إلى التوجيه الإسلامي، وهو أن يكون حب النساء ذريعة إلى الإنجاب والنسل لَا لذاته، كما قال - ﷺ -: " تناكحوا تناسلوا تكثروا فإني مُبَاهٍ بكم الأمم يوم القيامة " (٣). وهل المراد من البنين الذكور فقط؛ الظاهر ذلك، ويزكي هذا قوله تعالى: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا...).
وما هو واقع بين الناس في الماضي والحاضر من أنهم يطلبون الذكر دون الأنثى، وأنهم يرون في كثرة البنين نصرة وفخارا، وفي البنت غير ذلك، ولكن لو أننا قلنا إن المراد الأولاد ذكورا كانوا أو إناثا لكان في النص القرآني متسع، لأن الابن يطلق ويراد الذكر والأنثى على سبيل المجاز، وإن محبة الولد بعد ولادته أمر فطري لَا فرق بين ذكر وأنثى، وإن كان الكثيرون يرغبون في الذكور دون الإناث فإن ذلك لَا ينفي المحبة الفطرية لأولاده جميعا، والعرب أنفسهم كانوا يحبون بناتهم وإن كانوا لَا يعتزون إلا بالبنين. وإني أميل إلى هذا؛ فالأولاد جميعا ثمرات القلوب وقرة الأعين، ولقد قال النبي - ﷺ -: " إنهم لثمرة القلوب وقرة الأعين، وإنهم مع ذلك لمجبنة مبخلة محزنة " (٤).
والمرتبة الثالثة: حب القناطير المقنطرة من الذهب والفضة. روى أن النبي
- ﷺ - قال: " القنطار ألف أوقية ومائتا أوقية " (٥) وإن كانت الأوقية التي نعرفها هي
________
(١) متفق على صحته وقد رواه البخاري: النكاح - الأكفاء في الدين (٤٧٠٠)، ومسلم: الرضاع - استحباب نكاح ذات الدين (٢٦٦١).
(٢) رواه ابن ماجه: النكاح - تزويج الحرائر (١٨٥٢) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
(٣) فتح الباري في شرحه حديث: من استطاع منكم الباءة (٤٦٧٧).
(٤) أخرجه ابن ماجه: الأدب - الوالد والإحسان إلى البنات، وأحمد: مسند الشاميين (١٦٩٠٤).
(٥) رواه الدارمي: فضائل القرآن - كم يكون القنطار (٣٣٣٤) عن معاذ بن جبل رضي الله عنه.
1136
الأوقية التي أشار إليها النبي - ﷺ - فالقنطار الذي نعرفه في مصر هو القنطار الذي ذكر في حديث النبي - ﷺ -؛ لأن القنطار (١٢٠٠) أوقية لأنه مائة رطل والرطل (١٢) أوقية. وقد قال الزجاج في أصل معنى القنطار: إنه مأخوذ من عقد الشيء وإحكامه، تقول العرب: قنطرت الشيء إذا أحكمته، ومنه سميت القنطرة لإحكامها، والقنطرة المعقود، فكأن القنطار شيء محكم يسع ذلك المال، أو أنه جمع قدر كبير من المال متراص الأجزاء محكم الربط. والمقنطرة معناها مضاعفة مقادير القنطار، فمعنى قناطير مقنطرة عدد كثير من القناطير متضاعف، كقولك ألوف مؤلفة، وأضعاف مضاعفة، والمراد أن كثرة المال أمر محبوب مطلوب زين للناس حبها، ومحبة المال الكثير قد أودعت قلوب الناس؛ لأنهم رأوا أنه السبيل إلى طلب ملاذ هذه الحياة، فلا يجد غايته من النساء إلا ذو مال، ولا غايته من إشباع الحاجات إلا ذو المال؛ ولقد قالت عائشة رضي الله عنها: " رأيت ذا المال مهيبا، ورأيت ذا الفقر مهينا " وقالت رضي الله عنها أيضا: " إن أحساب ذوي الدنيا بنيت على المال ".
وإن محبة المال لم تكن في أول الأمر لذات المال، ولكن لأنه ذريعة لغيره من ملاذ الحياة ومطالبها، ولكن بتوالي الأزمنة نسى كثير من الناس الغاية، واتجهوا إلى الوسيلة فصارت في ذاتها غاية، وأصبح المال يطلب لأنه غاية في ذاته، كما هو الشأن في كل وسيلة تؤدي إلى أمر محبوب مؤكد المحبة وهي مؤكدة التوصيل؛ ولذلك صار المال مطلوبا، وطلبه كالأمر الفطري. ولقد قال - ﷺ -: " لو كان لابن ادم واديان من ذهب لابتغى ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب " (١).
________
(١) متفق عليه؛ رواه البخاري: الرقاق - ما يتقى من فتنة المال (٥٩٥٦)، ومسلم: الزكاة - لو كان لابن آدم (٧٣٧ ١)]. وجاء بلفظ " من ذهب " في صحيح مسلم (١٧٣٨). كما رواه الترمذي وأحمد والدارمي بنحوه.
1137
وطلب المال ليس شرا، بل قد يكون خيرا إن طلب من الطريق الحلال، وأنفق في حلال، وأعطى منه حقه. ولقد قال عليه السلام: " إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي " (١).
النوع الرابع: الخيل المسومة، ومعناها المعلمة بعلامة تجعلها مرموقة حسنة المنظر، تجتلب الأنظار. وقيل المسومة: الراعية. والخيل من مفاخر الناس، ومن أدوات القتال، وكانت عزا للعربي، ولقد ذكر النبي - ﷺ - أن في نواصيها الخير، كما أشرنا من قبل، وقد روى أبو هريرة أن رسول الله - ﷺ - قال: " الخيل ثلاثة: لرجل ذِكْرٌ، ولرجل ستر، ولرجل وزر " (٢) فهي ذكر لمن كان يقتنيها للجهاد في سبيل الله، وستر لمن يقتنيها ويربيها ويبيع من نتاجها ما يستر به حاله ويرد غائلة الفقر، ووزر لمن يقتنيها ويفاخر بها، وكمن يسابق بها في قمار أو ما يشبه القمار. والخيل في أصل طلبها كانت لأنها أداة الحرب، ومن عدة القتال، ثم صارت هي مطلبا يقتنى لذاته، ويرغب فيه.
والنوع الخامس: الأنعام، وهي الإبل والبقر والغنم، وهي تكون في حاجات الإنسان، ويتخذ منها مركبا وزينة ومطعما؛ قال تعالى: (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦).
والنوع السادس: الحرث، وهو الزرع والغراس؛ لأن الحرث معناه إثارة الأرض ووضع البذر أو الغراس فيها، فأطلق السبب وأريد المسبب. والزرع والشجر منهما يؤخذ ملبس الإنسان وطعامه وأدوات زينته.
هذه إشارات إلى متع الحياة التي ذكرها النص القرآني الحكيم. ويلاحظ أن القرآن الكريم اقتصر على ذكر هذه الأمور مع أن في الحياة متعا حلالا غيرها،
________
(١) صحيح مسلم: الزهد والرقائق (٥٢٦٦) عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وأحمد: مسند العشرة المبشرين (١٣٦٤).
(٢) جزء من حديث طويل رواه مسلم: الزكاة - إثم مانع الزكاة (١٦٤٧) عن أبي هريرة رضي الله عنه، ورواه البخاري: شرب الناس والدواب من الأنهار (٢١٩٨).
1138
فلماذا اختصها بالذكر؟ والجواب عن ذلك أنه ذكرها لأنها أوضح من غيرها، ومجمع على طلبها، ولأن فيها إشارة إلى أنواع المتع كلها؛ فذكر النساء فيه إشارة إلى متعة الصلة التي تربط بين الرجل والمرأة، سواء أكانت متعة جسدية أم كانت متعة روحية، وإشارة إلى الأسرة التي هي قوام المجتمع. وذكر البنين فيه إشارة إلى بقاء النوع الإنساني، والعزة بالقبيلة والعشيرة والجنس والأرومة. وذكر المال فيه إشارة إلى الحاجات الإنسانية والنظم الاقتصادية التي يعد المال أساسها وعصبها. وذكر الخيل المسومة فيه إشارة إلى الكفاح في نصرة الحق، والجهاد في سبيل الله، وأنه لَا يحمي الجماعة إلا قوة مسلحة، كما قال تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (٦٠).
وفي ذكر الأنعام والحرث إشارة إلى أصول الإنتاج الطبعي الذي هو مادة الاقتصاد الأولى. فذكر هذه الأمور الستة يومئ إلى سائر متع الحياة؛ ولذلك اعتبرها الله سبحانه متع الحياة فقال:
(ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْن الْمَآبِ) أي هذه الأمور التي حببت إلى النفوس هي متاع الحياة الدنيا، وموضع النفع والانتفاع فيها، وهي موضع الزينة ومطلب الناس الذي يستمتعون به ويرغبون فيه، ولكن عليهم في طلبها والسعي إليها واللجاجة في طلبها أن يلاحظوا ربهم؛ وأن يطلبوا ما عنده؛ ولذا قال سبحانه: (وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْن الْمَآبِ) أي أن الله جل جلاله وهو المستحق للألوهية وحده عنده حسن المرجع، فإن المآب معناه المرجع، من آب يئوب بمعنى رجع.
وفى ذكر هذه الجملة السامية في هذا المقام إشارة إلى أن هذه الأمور مع أنها متع هي موضع حساب، فإن اعتدلوا في طلبها وقصدوا إليها من طريقها الحلال وأجملوا في الطلب كانت موضع ثواب، وإن طلبوها من غير حلها، ولم يعطوا حقها، فإنها تؤدي إلى العقاب. وفي هذا الذكر إشارة إلى وجوب الاعتدال في
1139
طلبها، فما يعاقب عليه هو الإسراف والإفحاش، وأن ينسى بها ربه وحقه فيها، حتى تلهيه عن ذكر الله، وعن حق الله. وأيضا ففيه إشارة إلى أن عند الله نعيما آخر أعلى وأعظم، وهو ما بينه بقوله تعالى:
* * *
1140
(قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ من ذَلِكُمْ... (١٥)
* * *
الخطاب للنبي - ﷺ -؛ يكلفه جل شأنه أن يوجه إليهم ذلك السؤال لينبههم إلى عظيم شأن ما ادخره لهم سبحانه من نعيم مقيم إن أحسنوا، فالاستفهام للتنبيه، وقد حوى من طرق التنبيه ثلاثة: أولها: التعبير بـ (أَؤُنَبِّئُكُم)؛ لأن الإنباء معناه الخبر العظيم الخطير الشأن، وثانيها: التعبير بـ (ذَلِكُمْ) بالإشارة للبعيد للدلالة على عظيم شأن ما سيخبرهم به، وبالتعبير بـ " كم " كأنه يدعوهم جميعا ليستمعوا إلى ما سيخبرهم به، وثالثها: التعبير بـ " خير " الدالة على الأفضلية، وأن نعيم الجنة خير لَا شر فيه قط، وأن نعيم الدنيا لَا يخلو من شر.
وبعد أن كان الاستفهام الذي سيق للتنبيه كان الجواب هو: (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَار خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَة ورِضْوَانٌ منَ اللَّهِ) هذه متع الآخرة، وهي أعلى مقاما، وأعظم مكانا من نعيم الدنيا، وهي أربعة:
أولها: (جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ)، وفي هذه الجنات ما لَا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وثانيها: الخلود، وهو نعمة وحده، فكل ما في الدنيا عرض زائل يعروه الفناء، وما فى الآخرة دائم البقاء.
وثالثها: (وَأَزْوَاجٌ مطَهَّرَةٌ) لَا دنس فيها، ولا ما يشينهن أو يوجد الريب، فلا معكر من شر أو ما يشبهه.
ورابعها: وهو أعظمها بل أعظم ما في الوجود، وهوِ (وَرِضْوَانٌ منَ اللَّهِ) أي رضا عظيم من خالق الخلق، ومبدع الكون ومنشئ الوجود، فالرضوان مصدر
1140
كالرضا، ولكن يزيد عليه أنه الرضا العظيم؛ لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، ولأن التنكير قصد به التفخيم والتعظيم، ولأنه إبهامه ثم بيان مصدره فيه إشارة إلى شرف هذا الرضا بإضافة لأعظم نسبة إذ هو منسوب إلى الله جل جلاله.
(وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) أي أن الله سبحانه جل جلاله عليم بأحوال العباد علم من يبصر ويرى، فهو يعلم دقائق أحوالهم وخفي أمورهم، وخلجات قلوبهم. وصدَّر سبحانه القول بلفظ الجلالة لتربية المهابة في القلوب، وإشعارها بعظمته. وإذا كان الله سبحانه وتعالى عليما بخفي أحوالهم، فإنه سيجزي المحسن إحسانا والمسيء عقابا؛ فهذه الجملة السامية فيها وعد ووعيد، وفيها إشعار برقابة العلي القدير، مما يجعل المؤمن التقي يشعر دائما بأن الله يراه، وإن لم يكن هو يراه، ويتحقق قول الرسول - ﷺ -: " اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " (١).
* * *
________
(١) هو جزء من حديث جبريل الشهير وقد سبق تخريجه من رواية البخاري ومسلم، وذكر الحافظ ابن حجر في الفتح بلفظ المصنف رحمه الله تعالى.
1141
(الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (١٦)
* * *
هذه أول أوصاف المؤمنين الذين استحقوا ذلك الجزاء الكريم من رب العالمين: (الَّذِينَ يَقُولُونَ) وهذا الوصف يدل على أنهم دائما متذكرون للإيمان وحالهم إنما هو تصديق للنبي - ﷺ - في كل ما جاء به، فلسان حالهم دائما أنهم يقولون (آمَنَّا) أي أنهم يقولون إنهم يذعنون ويصدقون كل ما جاء به القرآن الكريم، وهدي النبي الأمين، ومن كان لسان حاله تذكر الإيمان والإذعان لأمر الله تعالى لَا تكون منه معصية كبيرة، ولا إهمال لأوامر الله تعالى، لأن ارتكاب المعاصي يتنافى مع الإذعان المطلق، وتذكر الإيمان الدائم؛ إذ المعصية تكون في غفلة القلب وعدم تذكر الإيمان؛ ولذا قال عليه الصلاة والسلام: " لا يزني الزاني وهو مؤمن " (٢)، وإذا كان الإيمان بالله
________
(٢) متفق عليه؛ رواه البخاري: المظالم والغصب - النهبى بغير إذن صاحبه (٢٢٩٥)، ومسلم: الإيمان - نقص الإيمان بالمعاصي ونفيه عن المتلبس (٨٦)].
1141
مستوليا على شعورهم فهم دائما يغلبون الخوف على الرجاء والضراعة على الطمع، ولذا رتبوا على هذه الحالة طلبهم المغفرة وقالوا (فَاغْفِرْ لَنَا ذُنوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) فهم دائما يحسون بعظم أخطائهم، وذلك من قوة إيمانهم، وقوة إذعانهم، ولذلك يطلبون الستر والغفران، والوقاية من النار، وذلك كله من قوة الوجدان الديني، وعظم سلطان النفس اللوامة، والضمير المستيقظ، فتكبر في نظرهم هفواتهم، وتصغر حسناتهم، ويعتقدون أنه لَا جزاء إلا أن يتغمدهم الله برحمته.
* * *
1142
(الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (١٧)
* * *
هذه خمسة أوصاف للمؤمنين الصادقي الإيمان، والمذعنين حق الإذعان:
أولها: أنهم صابرون، والصبر صفة الإيمان حقا وصدقا، وقد حث عليه القرآن في أكثر من سبعين موضعا، والصبر له شعب كثيرة، منها وهي أدناها الصبر عند الشديدة، وتحملها من غير أنين ولا شكوى، وهذا هو الصبر الجميل، فإن ضج الصابر وشكا فصبره غير جميل، ومنها الصبر بضبط النفس عن الشهوات وقدعها عن الأهواء المردية، وجعل العقل متحكما دائما، وهذه مرتبة عالية في الصبر. ومنها الصبر على تحمل النعم؛ فإن النعم تحتاج إلى صبر لكيلا يطغى الإنسان بسبب النعمة فتؤدي إلى الكفر بدل الشكر. ولقد قال تعالى: (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (٩) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١١).
والوصف الثاني: أنهم صادقون، والصدق من أكمل الصفات الإنسانية، وهو شُعَبٌ أيضا فمنها الإخبار بالحق، ومنها أن يصدق نفسه، فلا يخدعها، ويزين لها سوء الأعمال، ويغالط قلبه وحسه؛ ومنها أن يتعرف عيوب نفسه بالحق ويتكشفها ويَتعرفها ولا يسترها عن نفسه، لتكون بين يديه ماثلة دائما فيستيقظ ضميره، وهذا هو طريق التهذيب الروحي الحق.
1142
والوصف الثالث: أنهم قانتون، والقانت هو الطائع المديم للطاعة غير متململ منها، ولا متبرم بها، ولا خارج على حدودها، فالقنوت يصور الإذعان المطلق.
والوصف الرابع: أنهم المنفقون، أي أنهم ينفقون المال في مصارفه سواء أكانت عامة أم كانت خاصة، وقد بينا مناهج الإنفاق الديني فيما أسلفنا.
والوصف الخامس: أنهم مستغفرون بالأسحار، والأسحار جمع سحر، وهو آخر الليل، وهذا الوقت وقت التهجد، وتذكر ما كان من عمل، واستقبال ما يكون من أعمال، فالاستغفار فيه باستشعار الضراعة وتذكر الله، والشعور بمراقبته، يجعل المؤمن يستقبل أعمال الحياة بقلب سليم نقي كما هو، فلا يكون فيه إلا خير، وليس الاستغفار هو ترداد كلمة أستغفر، إنما هو الشعور بالخضوع، ومراقبة الله والضراعة إليه سبحانه، وليس كذلك أكثر المستغفرين؛ ولذا قالت رابعة العدوية: " استغفارنا يحتاج إلى استغفار كثير ". ولقد روى البخاري أن رسول الله - ﷺ - قال: " سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي لَا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي، فإنه لَا يغفر الذنوب إلا أنت. ومن قالها بالنهار موقنا فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات من ليله قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة " (١).
* * *
________
(١) رواه البخاري بهذا اللفظ عن شداد بن أوس رضي الله عنه: الدعوات - أفضل الاستغفار (٥٨٣١) كما رواه الترمذي والنسائي وأحمد بنحوه.
1143
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (١٩)
* * *
بَيَّنَ سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أوصاف المؤمنين في تبتلهم، وصدق إيمانهم، وإذعان نفوسهم، وصبرهم وضبط شهواتهم؛ وهنا يبين حقيقة الإيمان والإسلام وأن الإسلام شريعة النبيين أجمعين، وهو دين الله المتين؛ وابتدأ سبحانه بحقيقة الإيمان فقال:
1144
(شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ) الشهادة: الحضور، إما بالبصر، وإما بالبصيرة؛ ومن هذا المعنى قوله تعالى: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ...)، وقوله تعالى: (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ)، ثم أطلقت الشهادة على الإخبار المبني على المشاهدة والمعاينة، ثم أطلقت بمعنى العلم، وبمعنى الحكم؛ ومن ذلك قوله تعالى: (وَشَهِدَ شَاهِدٌ منْ أَهْلِهَا...).
وقوله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولو الْعِلْمِ) للعلماء في تفسير الشهادة فيه طريقان: أحدهما: أن الشهادة الإخبار، وقد أخبر الله سبحانه وتعالى عن وحدانيته بالآيات القرآنية التي أنزلها على نبيه في القرآن الكريم مثل قوله تعالى: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ...)، وقوله تعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (١) اللَّهُ الصَّمَدُ (٢) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (٤).
وأخبر الله سبحانه وتعالى عن وحدانيته أيضا بالآيات الكونية التي وجه الأنظار إليها من خلق السماوات والأرض وما بينهما، ومن تسخير
1144
الشمس والقمر، ومن إيلاج الليل والنهار. وأخبر سبحانه عن وحدانيته بالأدلة القاطعة التي أشار إليها في كتابه العزيز، من مثل قوله تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفونَ).
وإخبار الملائكة عن وحدانيته سبحانه، بعبادتهم له سبحانه وطاعتهم المستمرة (لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)، ونزولهم على الأنبياء بأخبار الوحدانية.
وشهادة أولي العلم من الناس هي إخبارهم أيضا بما يستنبطونه من الأدلة العلمية الكونية الدالة على وحدانيته سبحانه، وتصديقهم لما جاء به الرسل، ونطقهم بما آمنوا به ودعوتهم إليه؛ وهذه الشهادة مختصة بأهل العلم الذين قد أخلصوا في طلب الحقيقة؛ فقد قال تعالى عن الجهال: (مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ).
وفى إجماع هذه الأخبار - إخبار خالق الكون، وإخبار الملائكة الأطهار، وبني آدم الأبرار - دليل على أنه معنى مقرر لَا مجال لأن يرتاب فيه عاقل.
المعنى الثاني للشهادة في قوله تعالى: (شَهِدَ اللَّه أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) هو العلم. والمعنى: علم الله في علمه الأزلي، وعلم الملائكة بِفِطَرهم وبما أنشأهم عليه رب العالمين، وعَلم أهل العلم من الناس باستنباطهم وتقصيهم لأنواع الاستدلال المختلفة أنه لَا إله إلا هو. وفي جمع العلم على هذا النحو إشارة إلى أن أنواع العلم الثلاثة قد اتفقت على الوحدانية. فعلم الله الأزلي، قد تلاقى مع علم الملائكة النوراني وعلم الناس الاستدلالي على أن الله واحد، فكيف يختلف الناس فيه؟! تعالى الله سبحانه وتعالى علوا كبيرا.
وقوله تعالى: (قَائِمًا بِالْقِسْطِ) معناه أنه هو الواحد الأحد، الذي يسيطر على العالم بالقسط والعدل والميزان، وكل شيء في هذا الكون بمقدار، يسير على نظام محكم بقدرته سبحانه، لَا يتعدى أي جزء من أجزاء ذلك الكون الطورَ الذي
1145
أعده الله سبحانه لها، كما قال سبحانه (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨).
وهذا التعبير السامي (قَائِمًا بِالْقِسْطِ) فيه مع المعنى الذي ذكرناه إشارة إلى مقام الربوبية، وهو أنه الخالق المسيطر المسير المحكم لهذا النظام الكوني، وإشارة إلى مقام الألوهية، وهو أنه وحده المستحق للعبادة، ما دام هو وحده القائم على كل شيء وفيه إشارة إلى مقام العبودية، وهو أنه لَا يعبد سواه، فلا قوة لأحد أو لشيء بجوار قدرة الله؛ فهو سبحانه الديان، والمجازي للخلق على ما يعملون، بمقتضى قيامه على هذا الكون بالقسط، فإنه بحكم القسط لَا يستوي الذين يعملون الخير، والذين يعملون الشر؛ ولهذا نقول: إن في هذه الجملة الكريمة (قَائِمًا بِالْقِسْطِ) إشارة أيضا إلى اليوم الآخر وما فيه من حساب وعقاب وثواب.
وكرر سبحانه تقرير الوحدانية فقال:
(لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) وفي هذا التكرار إشارات إلى معان جديدة.
منها: الإشارة إلى أنه سبحانه وتعالى لَا يترك الناس سدى، فهو بمقتضى انفراده بالربوبية والألوهية والعبودية، قد شرع الشرائع بمقتضى حكمته، وهو يحميها بعزته وسلطانه؛ ولذا وصف سبحانه بأنه (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي الذي يدير هذا الكون وأمور الناس، ويشرع لهم الشرائع ويحميها؛ لأنه العزيز الحكيم.
ثم في هذا النص أيضا إشارة إلى كمال سلطانه وانفراده وحده بهذا السلطان.
وفيه أيضا رد على الذين يتخذون لله شفعاء يحسبون أن لهم سلطانا، وما لأحد عند رب العالمين من سلطان، فكل خلقه بالنسبة لقدرته وعلمه وإرادته سواء.
وقبل أن نترك القول في هذه الآية الكريمة لابد من أن نتكلم كلمة موجزة في أولي العلم؛ فمن هم أولو العلم الذين قرن اسمهم باسم الملائكة بل بلفظ الجلالة، ووضعت شهادتهم مع شهادته سبحانه، وشهادة ملائكته الأطهار؛ هذا سؤال يتردد في نفس كل قارئ يتلو كتاب الله العظيم. ونقول في الإجابة عنه: إنهم الذين وصفهم الله سبحانه وتعالى في قوله: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ... ).
1146
وهم الذين وصفهم الله تعالى بالتفويض والإخلاص في قوله: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ منْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولوا الأَلْبَابِ)،
ولذا نرى أن أول وصف من أوصافهم الإخلاص في طلب الحقيقة، والصدق في القول والعمل، فلا يقال لهم مثلا: (لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ)، وقد أشار سبحانه إلى وصف آخر من أوصافهم فقال: (وَأُوْلُو الْعِلْمِ) أي الذين صاحبوا العلم ولزموه، واتجهوا إلى المعاني الروحية، ولم يخلطوا بالمعاني العلمية الرغائب المادية، ولم يجعلوا العلم مطية للأهواء والمآرب المادية؛ فهاتان صفتان لازمتان أو هما خاصتان من خواص العلماء، وهما الإخلاص، والانصراف التام لطلب الحقائق العلمية بألا يجعل العلم طريقا للمنافع الذاتية الآثمة. ولقد قال رسول الله محمد - ﷺ - في العلماء الذين كانت فيهم هاتان الخاصتان: " العلماء أمناء الله على خلقه " (١) وقال فيهم: " العلماء ورثة الأنبياء، يحبهم أهل السماء، وتستغفر لهم الحيتان في البحر إذا ماتوا " (٢).
هؤلاء هم العلماء الذين قرنت شهادتهم بشهادة الله والملائكة، فإن لم يكونوا كذلك فإنه يخشى أن يكونوا ممن خوف أمته منهم في مثل ما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: " أخوف ما أخاف على أمتي رجل منافق، عليم اللسان غير حكيم القلب، يغيرهم بفصاحته " (٣).
* * *
________
(١) رواه ابن عساكر، والقضاعي عن أنس رضي الله عنه أكنز العمال: ج ١ ص ١٩٨١) ٢٨٦٧٥)، وقد أورد الإمام أحمد: مسند الشاميين (١٧١١٨).
(٢) راجع تلخيص السنن للمنذري، وقد أخرجه عن أبي الدرداء الترمذي: العلم - ما جاء في فضل الفقه على العبادة (٢٦٠٦) وأحمد (٢٠٧٢٣) والدارمي: المقدمة (٣٤٦). سنن أبي داود: العلم - الحث على طلب العلم.
(٣) رواه أحمد في مسند العشرة المبشرين بالجنة (١٣٧).
1147
(إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّه الإِسْلامُ... (١٩)
* * *
في هذا النص الكريم قراءتان: قراءة بفتح همزة " أن "، وقراءة بكسر همزة " إن " (٤) وعلى القراءة الأولى يكون سياق النص
________
(٤) قرأها الكسائي بفتح همزة إن، وقرأ الباقون بالكسر. [غاية الاختصار في قراءات العشرة أئمة الأمصار - أبو العلاء الحسن الهمداني ص ٤٤٧].
1147
الكريم هكذا (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ)، شَهِدَ أن الدين عند اللَّهِ الإسلام، فيكون قوله تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ) في موضع البدل أو عطف البيان من قوله تعالى: (أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) وينتهي ذلك إلى أن معنى لَا إله إلا الله هو الإسلام، وأن الله يشهد بالإسلام وقد أقام الأدلة على صحته، وأنه دينه الذي ارتضاه، وشهد بذلك الملائكة الأطهار بما أخبرهم به رب العالمين، وشهد به أولو العلم بما استنبطوه، فهو دين العقل، ودين الإخلاص، ودين الله. هذا على قراءة الفتح، أما قراءة الكسر فإن الكلام يكون مستأنفا مقررا لمعاني الآية السابقة وما اشتملت عليه من معاني الألوهية والعبودية والربوبية وعزة الله وحكمته، لأن دين الإسلام يقتضي الإيمان بكل هذا، فكأن سائلا سأل: ما هو الدين الذي يقرر هذه الحقائق؛ فقال سبحانه: إن الدين عند اللَّه الإسلام، وكلمة الدين تطلق بمعنى الجزاء، وبمعنى الطاعة والعبادة وبمعنى مجموعة التكليفات، وإني أميل إلى المعنى الثاني، وهو أن يكون الدين هنا بمعنى الطاعة والعبادة، والمعنى على ذلك: أن الطاعة والعبادة التي يقبلها الله هي الإسلام والإسلام هو الإذعان المطلق لله سبحانه وتعالى والإخلاص لله سبحانه وتعالى، وعدم الاستكبار على الحق في أي ناحية من نواحيه، وعلى ذلك يكون الإسلام هنا مكونا من عنصرين: الإخلاص لله سبحانه وتعالى، والخضوع لذات الله وحده لَا لأحد سواه. وقد يؤيد هذا المعنى قول الله تعالى بعد ذلك:
1148
(فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ) وقوله تعالى في آية أخرى: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ...).
وعلى هذا يكون الإسلام هنا هو كمال الإيمان بالله جلت قدرته، وتوحيده. ولقد قال النبي - ﷺ -: " الإيمان معرفة بالقلب وقول باللسان، وعمل بالأركان " (١).
وإضافة الدين إلى الله تعالى بقوله سبحانه: (عِندَ اللَّهِ) واعتبار الإسلام وحده دين الله، كما يدل على ذلك تعريف الطرفين، فيه بيان فضل الإسلام
________
(١) رواه ابن ماجه: المقدمة - الإيمان (٦٤) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
1148
بالمعنى الذي ذكرناه؛ لأنه له ذلك الشرف الإضافي، وهو أن الله لَا يقبل غيره، فوق أنه الحق الخالص من شوائب الشرك.
والإضافة فوق ذلك تفيد أنه الدين الذي نزل على كل النبيين، وأنه الأصل فى كل شرائِع السماء؛ ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى...).
فهو دين الله، وقد صرح سبحانه بأنه دين أبي الخليَقة الثاني نوح كما يعبر بعض القصصيين، ودين آخر الأنبياء محمد عليه الصلاة والسلام. وعلى هذا فدين جميع النبيين دين واحد، وهو دين الله، وهو دين الإسلام.
(وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ) وعلى هذا كانت شريعة الله واحدة، وإن اختلفت الديانات السماوية التي لم يجر فيها التحريف والتبديل، فإن ذلك لَا يكون في الأصل، بل يكون في الفرع، ولا يكون في الكليات، بل يكون في الجزئيات ولكن لوحظ مع ذلك أن كثيرين من أهل الكتاب اختلفوا فيما بينهم، فقالت اليهود ليست النصارى على شيء، وقالت النصارى ليست اليهود على شيء، واختلفت كل طائفة فيما بينهم على فرق، كل واحدة تحسب أنها اختصت بالخلاص وحدها، وتكفر الأخرى أو تشلحها من حظيرة الإيمان المقدسة؛ ثم اختلفوا مجتمعين على المسلمين، ونابذوهم العداوة، وقد كانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا، فكانت هذه المنابذة عن بينة، ولم تكن عن جهل، بل إنهم يعرفون النبي كما يعرفون أبناءهم، ولم يؤمن بالحق كثيرون في عصر النبي - ﷺ -؛ ولذا قال الله سبحانه وتعالى فيهم: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (٦٦).
وقد بين سبحانه أن سبب ذلك الاختلاف هو البغي والظلم؛ ولذا قال سبحانه وتعالى: (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ) فالسبب هو البغي فيما بينهم؛ لأنهم قد بغى بعضهم على بعض بالباطل، وتبادلوا ذلك البغي، كل يبغي على غيره، وإذا تبادل قوم الباطل ضعف في نفوسهم الإيمان، فإن شدة الخصومة تورث
1149
الريب، ومع الريب يكون النفاق، والمنا فق لَا يؤمن بشيء ولقد قال الإمام جعفر الصادق: " إياكم والخصومة في الدين، فإنها تحدث الريب وتورث النفاق " فتبادل البغي فيما بينهم كما قال سبحانه وتعالى: (بَغْيًا بَيْنَهُمْ) كان سببا في عدم إيمانهم بالحق، بل في عدم إيمانهم بشيء وإن كانوا يعلمونه ويفهمونه، فليس مصدر الإيمان العلم فقط، بل مصدر الإيمان علم وإخلاص في طلب الحق، وإذعان له إذا بدا نوره.
ولماذا قدم سبحانه وتعالى كلمة " (إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ) إذ إن السياق هكذا: وما اختلف الذين أوتوا الكتاب بغيا بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم، فقدم حينئذ المستثنى على بعض المستثنى منه؟ والجواب عن ذلك: أن هذا البيان موضع التوبيخ والاستنكار، إذْ إن ذلك الاختلاف ما كان عن تعذر العلم بالحقائق، ولكنه كان مع أن العلم بها قد جاءهم، وكان في قدرتهم أن يصلوا إلى الحق في الأمر من غير اختلاف ولا نزاع ولا إثارة للشك، وكيف يختلفون مع أن العلم قد جاءهم، وكان بين أيديهم أن يعرفوا السائغ منه، والحق أن العلم كالنور لا ينتفع فيه إلا الذين أوتوا بصرا يميزون به وينظرون، وكذلك لابد لإدراك العلم من بصيرة نافذة، وقلب يخضع للحق؛ أما إذا كانت البصيرة غير نافذة، والقلب قد ران الله عليه، فإنه لَا يدرك، وإن كسب السيئات يضع غلافا على القلب يمنعه من إدراك الحق؛ ولذا قال سبحانه وتعالى في شأن الضالين: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ٣)، فأسباب العلم لَا تكفي للوصول إلى الحقائق، بل لابد معها من قلب منير، والذين أوتوا الكتاب لم يكن أكثرهم على ذلك من الإخلاص في طلب الحقيقة والإذعان لحكمها، ذلك لأن الشهوات تحكمت في قلوبهم واستولت على نفوسهم، فجعلتهم يبتغون الباطل، ويطلبونه طلبا شديدا، ولهذا جعل الاختلاف مع وجود العلم أساسه البغي فيما بينهم، إذ إنهم يبتغون بالأمر السيطرة والسلطان واحتيازا للسيطرة الدينية، ولذا قال: (بَغْيًا بَيْنَهُمْ) أي ظلما وتحاسدا، وتغالبا بالباطل بينهم.
1150
وهؤلاء جاءهم العلم ولم يلازموه ولم يصاحبوه ولم يذعنوا لحكمه؛ ولذا لم يقل سبحانه " أوتوا العلم " بل قال: (جَاءَهُمُ الْعِلْمُ) إذ قد جاءهم ولم يردوا موارده العذبة، والعلم كالمطر الغزير لَا تستفيد منه إلا الأرض الطيبة، وكذلك لا يستفيد من العلم إلا النفوس الطيبة، فأولئك الظالمون جاءهم العلم، ولم يكونوا علماء يخشون الله، ولم يكونوا أولي العلم الذين يشهدون بوحدانية الله.
(وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) آيات الله تشمل آياته الكونية الدالة على وحدانيته، وآياته المنزلة الداعية إلى شريعته، والمبينة لها. والمعنى: من يكفر بآيات الله جاحدا غير مذعن لحكمها طامسا لداعي الفطرة في قلبه فإن الله محاسبه ومعاقبه، والله سريع الحساب. فقوله تعالى: (فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) قائم مقام الجواب المحذوف، والسياق هكذا: ومن يكفر بالله فإن الله معاقبه ومحاسبه، والله سريع الحساب، وسرعة الحساب تدل على سرعة العقاب، وعلى العلم الكامل للمحاسِب وهو الله سبحانه وتعالى، فهو لَا يحتاج إلى فحص وبحث، وتدل على قيام البينات القاطعة، إذ تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم بما اقترفوا، بل تشهد عليهم قلوبهم بما جحدوا، وختم الكلام عن أهل الكتاب بهذه العبارة السامية للإشارة إلى أن اختلافهم لَا محالة راجع إلى كفرهم، وأن الكفر له عقاب بعد حساب سريع مؤكد، ونتيجته عذاب أليم، وأسباب العلم حجة عليهم، وليست حجة لهم. اللهم لَا تجعلنا ممن أضله الله على علم، ووفقنا للهداية، وأنطق ألسنتنا بالحق، واهدنا سواء الصراط.
* * *
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (٢٠) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ
1151
الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٢١) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٢٢)
* * *
ذكر سبحانه اختلاف أهل الكتاب فيما بينهم، واختلافهم على أنبيائهم بعد أن جاءتهم البينات من ربهم؛ وفي هذه الآية يبين سبحانه محاجتهم للنبي - ﷺ -، وأشار إلى أنها محاجة ليس أساسها الإذعان للحق إذا تبين، بل أساسها محاولة طمس الحق، واللجاجة بالباطل، وذلك لأن المجادلة قسمان: قسم يراد به طلب الحق وتمحيصه، ودراسة الأمر من كل نواحيه، وتبادل الأدلة ليستبين من بينها نور الحق، وهذا القسم محمود لَا شك فيه. والقسم الثاني لَا يقصد به طلب الحق، بل يقصد به الدفاع عن فكرته من غير نظر إلى كونها حقا أو باطلا، فهو يجادل ليغالب خصمه، لَا ليهتدي إلى أقوم المناهج، ومن ذلك النوع الأخير مجادلة أولئك الذين اختلفوا من أهل الكتاب، ومجادلة أولئك الذين جحدوا بالآيات من المشركين الذين قال الله سبحانه وتعالى في أمثالهم: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ...)، وإذا كان جدل هؤلاء من ذلك النوع الذي لَا يقصد به رفع منار الحق أو طلب الحق، فإن النبي - ﷺ - بأمر ربه طلب إليهم أن يخلصوا في طلب الحقيقة كما أخلص هو، ولذا قال سبحانه: (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِيِّينَءَ أَسْلَمْتُمْ) المحاجة: أن يتبادل المتجادلان ما يعتقده كل فريق أنه حجة بأن يقدم كل واحد حجته، ويطلب من الآخر أن يرد عليها أو يقدم الحجة على ما يدعيه ويزعمه الحق الذي لَا شك فيه. والمعنى: فإن حاجك أهل الكتاب، ومن لف لفَّهم، وسلك مثل طريقهم، فلا تسر معهم في لجاجتهم، فهم لَا يطلبون الحق مخلصين في طلبه لَا يبغون بدله، ولا يريدون غيره، بل إنهم قد شاهت عقولهم، وتأشبت بالغرض المردي نفوسهم وكلامهم هو التمويه الكاذب ولذلك لا
1152
تُجارهم في هذه اللجاجة، واطلب تصفية قلوبهم من الغرض والهوى، وابدأ بنفسك فبين سلامة مقصدك ونيتك: (فَقلْ أَسْلَمْتُ وجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ). والوجه المراد به الذات، لأنه هو الذي تكون به المواجهة، وهو مجمع محاسن الجسم، فالتعبير به عن الجسم تعبير بجزء له شأن خاص وتتم به إرادة الكل. ومعنى أسلمت وجهي: أخلصت وسلمت نفسي وتفكيري لله سبحانه وتعالى، فلا أفكر إلا في الله، ولا أطلب الأمر إلا لله، ولا أقصد في طلبي إلا وجه الله. ومعنى قوله: (وَمَنِ اتَّبَعَنِ) أي قد أسلم الذين اتبعوني وارتضوا الإسلام دينا، فقد أخلصوا في طلب الحق وأسلموا وجوههم لله تعالى. وإن إسلام الوجه لله تعالى وحده فيه إشارة إلى التوحيد، وأن محمدا وأتباعه لَا يعبدون إلا الله، وفوق ذلك لا يطلبون أي أمر من الأمور إلا لوجه الله تعالى، وتكون هذه الجملة السامية كقوله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤).
وإذا كان النبي - ﷺ - وأتباعه قد أخلصوا لله ذلك الإخلاص في العبادة فإن الأساس الذي تبنى عليه المجادلة بالتي هي أحسن، أن يطلب منهم النبي - ﷺ - أن يكونوا على مثل تلك الحال من الإخلاص في طلب الحقيقة، ولذا أمر الله نبيه بأن يطلب إليهم ذلك، فقال سبحانه: (وَقل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَءَأَسْلَمْتُمْ).
أهل الكتاب: هم اليهود والنصارى، لأن أسلافهم قد أوتوا الكتاب أي أعطوه كاملا وأخذوه كاملا، وإن كانوا مع ذلك قد نسُوا حَظا ممَّا ذُكِّرُوا بِه.
والأميون هم المشركون، وجاء التعبير عن المشركين بالأمّيين، لأنَهم أولا تغلب فيهم الأمية؛ إذ قليل منهم من يقرأ ويكتب، وليست لهم علوم؛ ولذا كان يقول العرب عن أنفسهم، نحن أمة أمية، ولأنهم لم يعرف لهم كتاب يرجعون إليه في أحكام دينهم. وفوق ذلك هذا التعبير فيه توبيخ لليهود والنصارى؛ إذ إنهم بعدم تسليمهم للحق وإذعانهم له تساووا مع أولئك الذين كان يسميهم اليهود
1153
أُمّيين ولا يحترمونهم، ويقولون عنهم (لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ).
ومعنى النص الكريم: قل لأهل الكتاب والمشركين: إذا كنت قد أخلصت في طلب الحق فهل أخلصتم؟
والاستفهام في قوله تعالى: (ءَأَسْلَمْتُمْ) للحضِّ على أن يسلموا وجوههم لله ويخلصوا في طلب الحقيقة كما أخلص الرسول وأصحابه، وكأن النبي - ﷺ - يوجههم إلى أن يطلبوا الحقيقة مجردين أنفسهم من كل هوى وغرض وتعصب، بدل أن يحاولوا الإلحان بالحجة والمغالبة بالقول، وأن يستمروا على اللجاجة في الجدل. وبهذا يتضمن الاستفهام معنى جليلا وهو أن يبين لهم النبي - ﷺ - أن العبرة في طلب الحقائق ليس بالأدلة تصطنع، والحجج تزوَّر، إنما العبرة بإسلام الوجه والإخلاص في طلب الحقيقة، وقد قال في ذلك الزمخشري: " وهذا كقولك لمن لخصت له المسألة، ولم تبق من طرق الاستدلال طريقا إلا سلكته: هل فهمتها؛ لا أُمَّ لك! " ويكون الاستفهام حينئذ عند الزمخشري من قبيل التوبيخ على عدم الإخلاص.
وعندي أن الاستفهام بمعنى الحض، والمعاني على أي حال متقاربة. ولقد بين سبحانه نتيجة الإخلاص إن أخلصوا فقال:
(فَإِنْ أَسْلَمُوأ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ) والمعنى: إن أسلموا وجوههم لله، وأخلصوا دينهم لله، ولم يلاحظوا في طلب الحقيقة عصبية مذهبية أو جنسية، فقد اهتدوا أي سلكوا طريق الحق، ومن سار على الدرب وصل. وقد فسرها بعض العلماء بمعنى يهتدون، وعبر بالماضي لتحقق الهداية تحققا كاملا. وعندي أن نفس ذلك الإخلاص، وهو إسلام الوجه لله تعالى هو الهداية الحق، فمن أسلم وجهه لله تعالى مخلصا في طلب الحق، فقد اهتدى حقا وصدقا؛ إذ إن ذلك الإخلاص هو روح الدين وغايته، فمن وصل إليه فإنه لَا محالة سيتبع الدين الذي يوصل إليه وهو الإسلام.
1154
هذا إن أخلصوا، وإن تولَّوْا أي أعرضوا عن هذا الإخلاص، وانصرفوا إلى المثارات البيانية يثيرونها ليطفئوا نور الحق، فما من حجة تهديهم، وما من آية ترشدهم، وقد أديت ما وجب عليك وهو التبليغ؛ ولذا قال سبحانه: (وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ) وقد بلغتهم فالمحاجة معهم لَا تجدي؛ لأنهم مكابرون، والمكابر لا تزيده قوة الحجة إلا إصرارًا وعنادا ولجاجة؛ فإن أعرضوا فأعرض عنهم، واتجه إلى المخلصين طلاب الحقيقة تهديهم وترشدهم، وتأخذ بيدهم إلى ما فيه صلاحهم في الدنيا وثوابهم في الآخرة. ثم ذيل سبحانه الآية بقوله تعالى: (وَاللَّهُ بَصِير بِالْعِبَادِ).
والمعنى أنه سبحانه وتعالى عليم علم من يبصر بالعباد، يعلم نفوسهم ما يهديها وما يرديها، وما يصلحها وما يُجدبها، وعليم بنفوس هؤلاء المتمردة التي لا تبغي سدادا، ولا تريد رشادا، وعليم بمسالكهم في الدنيا، وأعمالهم التي أركستهم في ذلك الضلال المتكاثف، والذي يزيده إمعانهم في الإنكار والجحود ظلاما، وعليم بما يصيبهم في الآخرة. فهذا التذييل لتلك الآية الكريمة فيه عزاء للنبي عن كفرهم وإشارة إلى أحوالهم، وإنذار بسوء مصيرهم.
وقبل أن نختم الكلام في هذه الآية الكريمة نقرر أن جمع أهل الكتاب والأميين في دعوة النبي - ﷺ - إشارة إلى عموم رسالته، كما قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا...)، ولقد قال - ﷺ -: " بعثت إلى الأحمر والأسود " (١) وقال - ﷺ -: " كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة " (٢) ولقد قال - ﷺ -: " والذي نفسي بيده لَا يسمع بي أحد من هذه
________
(١) رواه الدارمي: السير - الغنيمة لَا تحل لأحد قبلنا (٢٣٥٨)، وأحمد: مسند الأنصار (٢٠٣٥٢)..
(٢) هذه الرواية تفسر قوله عليه الصلاة والسلام: " بعثت إلى الأحمر والأسود " يعني: " إلى الناس كافة "، وبالأول رواها مسلم في صحيحه باللفظ المشار إليه في التخريج السابق. مسلم: المساجد ومواضع الصلاة فيها (٨١٠)، النسائي: الغسل والتيمم (٤٢٩)، أحمد: باقي المكثرين: (١٣٧٤٥)، الدارمي: الصلاة (١٣٥٢).
1155
الأمة يهودي ولا انصراني، ومات ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من " هل النار " (١).
* * *
________
(١) رواه مسلم: الإيمان - وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد - ﷺ - (٢١٨)، وأحمد: باقي مسند المكثرين (٧٨٥٦).
1156
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٢١)
* * *
هذه بعض أعمال أسلاف الذين كانوا يحاجون النبي - ﷺ -، وقد ذكرت تلك الأعمال للدلالة على أنهم لَا يطلبون الحق، وإنما يلجون في الباطل، وقد ذهبت لجاجتهم إلى درجة أن يقتلوا الداعين إلى الحق، فقتلوا بعض النبيين، وقتلوا بعض الذين يدعون إلى القسط. وقد ذكر سبحانه لهم وصفا، ثم ذكر من أعمالهم عملين يتصلان بوصفهم؛ أما الوصف فهو أنهم يكفرون بآيات الله، أي يكفرون بالحجج والبينات المثبتة لوحدانية الله، ولرسالة رسله وصدق دعواتهم، فهم لَا يكفرون فقط بالله، بل يكفرون مع ذلك بالآيات الدالة المثبتة، وهذا أقصى ما يصل إليه الضالون، لَا يهتدون إلى الحق، ويغلقون عقولهم فلا يمكن أن تصل إليها دعوة الحق، ويمنع الغرض مداركهم من أن تفهم ما تشير إليه الآيات البينات وأمثال هؤلاء لَا تجدي معهم محاجة، فهم قوم بور، كما عبر القرآن الكريم عن أمثالهم، وإنهم لكفرهم بالحق وعنادهم، وصم آذانهم عن أن تستمع إلى الداعي إليه اندفعوا فعملوا عملين وهما: قتل النبيين، وقتل الدعاة إلى القسط؛ والقسط هو الحق والميزان والاعتدال والمعقول في كل شيء، وهؤلاء اليهود قد قتلوا بعض النبيين كيحيى بن زكريا عليهما السلام فكيف يقال إنهم قتلوا النبيين، ولم يقل بعض النبيين؟ والجواب عن ذلك أنهم استهانوا بمقام النبوة، ومقام الدعوة إلى الحق، فاعتدوا ذلك الاعتداء على بعض النبيين، ومن فعل ذلك مع البعض فقد اعتدى على مقام النبوة فكأنما قتل كل الأنبياء، كما قال تعالى: (ومَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَاد فِي الأَرْضِ فَكَأنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا...).
1156
ولماذا ذكر سبحانه وتعالى كلمة (بِغَيْرِ حَقٍّ) مع أن قتل الأنبياء لَا يمكن أن يكون بحق أبدا؟ والجواب عن ذلك أن هذا تصريح بموضع الاستنكار، فموضع الاستنكار اعتداؤهم على الحق بالاعتداء على النبيين، وللإشارة إلى أنهم بما طمس الله على بصائرهم صاروا أعداء للحق لَا يألفونه، ولا يريدونه ولا يخلصون في طلبه. وذكر سبحانه كلمة الحق بصيغة التنكير فقال (بِغَيْرِ حَقٍّ) لعموم النفي، بحيث يشمل الحق الثابت، والحق المزعوم، والحق الموهوم، أي لم يكونوا معذورين بأي نوع من أنواع العذر في هذا الاعتداء، فلم يعتقدوا أنه الحق، ولم يزعموه، ولم يتوهموه، بل فعلوا ما فعلوا وهم يعلمون أنهم على الباطل، فكان فعلهم إجراما في باعثه، وإجراما في حقيقته، وأبلغ الإجرام في موضوعه.
هذا قتل الأنبياء، وهو أفظع جرم في هذا الوجود، ويليه ومن جنسه قتل الدعاة إلى الحق، والقسط الذي هو الميزان في كل شيء، فإن قتل هؤلاء كقتل النبيين منشؤه صمم الآذان عن سماع الحق، وإعراض القلوب، والتململ من أهل الحق والتبرم بهم. وقد قال - ﷺ -: " بئس القوم قوم يقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، بئس القوم قوم لَا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر، بئس القوم قوم يمشي المؤمن بينهم بالتقية " (١)! وروى أن أبا عبيدة عامر بن الجراح سأل رسول الله - ﷺ -: أي الناس أشد عذابا يوم القيامة؟ فقال الرسول - ﷺ -: " رجل قتل نبيا، أو من أمر بمعروف ونهي عن المنكر " (٢).
________
(١) ذكره القرطبي في تفسيره وقال روي عن ابن مسعود قال: قال النبي - ﷺ -: " بئس القوم قوم يقتلون الذين يأمرون بالقِسط من الناس " وذكره بتمامه. [تفسير القرطبي: سورة آل عمران (٢١)]. وفي كنز العمال (٥٥٨٣).
(٢) رواه الإمام أحمد (٣٦٧٤) في مسنده عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه. وراجع الدر المنثور - ج ٢ ص ١٣.
1157
ولماذا قال سبحانه (مِنَ النَّاسِ) في قوله (الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ) مع أنهم حتما من الناس؟ والجواب عن ذلك أن هذا للإشارة إلى أنهم ليسوا بأنبياء بل من الناس غير المبعوثين، وفي قرنهم بالأنبياء، وإثبات أن الاعتداء عليهم قرين الاعتداء على الأنبياء إشارة إلى بيان منزلتهم، وأنهم يعملون عمل النبيين وأنهم حقيقة ورثة الأنبياء، بالقيام بحق هذا الواجب المقدس، فإن لم يقوموا بهذا الواجب فليس لهم من وراثة الأنبياء شيء.
وقد ذكر سبحانه عقاب هؤلاء وهو العذاب الأليم، فقال تعالى: (فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) أي أن جزاءهم في الآخرة عذاب مؤلم ينزل بهم.
وفى هذا الجزء من الآية بحثان لفظيان:
أحدهما: دخول الفاء في خبر الذين وهو: (فَبَشِّرْهُم) وقد دخلت الفاء لأن الجملة طلبية، والجملة الطلبية تحتاج إلى الفاء لتصلح خبرا في كثير من الأحيان، ولأن الاسم الموصول في معنى الشرط، وخبره في معنى الجواب، وإذا كان الجواب جملة طلبية فإن الفاء تدخله.
والثاني: هو في التعبير بقوله تعالى عن العذاب: (فَبَشِّرْهُم) مع أن البشارة لَا تكون إلا في الأخبار السارة، لأن البشارة والبشرى الخبر السارّ الذي تنبسط له بشرة الوجه، والجواب عن ذلك أن هذا التعبير من قبيل التهكم؛ وذلك لأن هؤلاء الضالين من بني إسرائيل وغيرهم مع أنهم جحدوا، وفعلوا بالأنبياء ودعاة الحق ما فعلوا، وكانوا يقولون: نحنُ أبناءُ اللهِ وأحباؤه، وأن لهم البشرى بجنسهم لَا بعملهم، فالله يقول له: (فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) أي أن البشرى التي يرتقبونها بسبب المحبة التي يدعونها هي عذاب أليم وليست بنعيم مقيم، وليس هذا العذاب في الآخرِة فقط، بل إنه في الدنيا بفساد جماعتهم، ولذا قال سبحانه:
1158
(أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٢٢)
* * *
الإشارة إلى هؤلاء الذين يحاجون بالباطل، ولا يسلمون وجوههم لله، ولا يذعنون للحق، ويقتلون الأنبياء، ويقتلون دعاة الحق؛ هؤلاء بسبب هذه الصفات
1158
وهذه الأعمال حبطت أعمالهم، أي بطلت وأصبحت لَا تنتج إلا شرا لصاحبها، كالدابة التي تأكل شر الثمار حتى ينتفخ بطنها من سوء ما تأكل، وَحَبْطُ الأعمال أن لَا تنتج خيرا لصاحبها، وأن يكون الجزاء عليها شرا، وأن تكون نتيجتها سوءًا، فيحاسب الله الفاعلين على نياتهم التي طويت في صدورهم وعملوا الأعمال باسم الخير، وهي للشر، وأولئك الأشرار يبطل الله أعمالهم ويحبطها، فجزاؤها شر في الآخرة بعذاب أليم، وفي الدنيا بذهاب دولتهم وسلطانهم؛ لأن الإعراض عن الحق، ومعاقبة من ينطق بكلمة الحق، وقتل الذين يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن النكر، من شأنه أن يفسد الدولة، وإذا فسدت الجماعة ذهبت القوة، ولذا قال سبحانه: (وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ) أي ليس لهم أي ناصر، فالنفي المستغرق مع تأكيده بمن الزائدة، يفيد أنه لَا يمكن أن يكون لمن يقتل الداعي إلى الخير ناصر مطلقا؛ لأن الناس لَا يثقون به ويتقونه ولا يطمئنون إليه، ولا يمكن أن يعيش امرؤ هنيئا إلا بثقة من الناس. ولقد قال - ﷺ -: " خير الناس آمَرُهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر، وأتقاهم لله، وأوصلهم للرحم " (١).
* * *
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٢٥)
* * *
________
(١) رواه أحمد: مسند القبائل (٢٦١٦٥).
1159
قد بين سبحانه وتعالى في الآيات السابقة عن ماضي اليهود من أهل الكتاب أنهم اختلفوا بغْيًا بينهم مع أن أسباب العلم متوافرة بين أيديهم، ولكن البغي ومجاوزة الحد إن سكنا في رءوس قوم أذهب عنهم الهداية، وتحكمت فيهم الغواية مهما تكن أسباب العلم قائمة؛ وبين سبحانه أيضا أنهم قوم غير مخلصين في طلب الحقيقة، وأنهم لو أخلصوا لوصلوا، وأن محاجتهم للنبي - ﷺ - منبعثة عن الهوى والغرض. وفي هذه الآيات يبين سبحانه صورة حسّية عن مناقشتهم للنبي - ﷺ -؛ يكون الحق محسوسا بين أيديهم ويعرضون بعد أن تتبين الحجة ناصعة.
1160
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا هِّنَ الْكتَابِ يدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكمَ بَيْنَهُمْ) هذه الآية نزلت في طائفة من اليهود، دعاهم النبي - ﷺ - إلى الدين الحق فأعرضوا، ودعاهم ليحكم بينهم كتاب الله فأعرضوا، ولكن ما كتاب الله الذي دعاهم إليه؛ روى في ذلك ابن جرير الطبري روايتين:
إحداهما: أن المراد من كتاب الله التوراة، فهي في أصلها كتاب من عند الله، وإن حرفوه وغيروه؛ ويروى في ذلك أن النبي - ﷺ - دخل مَدْرَاسَ اليهود، وهو بيت تدارسهم، فدعاهم إلى الله، فقال قائلهم له: على أي دين أنت يا محمد؟ قال: على ملة إبراهيم، فقال القائل: إن إبراهيم كان يهوديا، فقال الرسول الكريم - ﷺ -: " هَلُمَّ إلى التوراة فهي بيننا وبينكم " هذه هي الرواية الأولى. وإطلاق كلمة (كِتَابِ اللَّهِ) على التوراة باعتبار أصلها، وباعتبار أن الجزء الذي كان التحاكم إليه فيها هو من الجزء الباقي الذي لم يدخله تحريف.
والرواية الثانية: أن كتاب الله هو القرآن؛ وذلك لأن طائفة من اليهود تحاكموا إليه - ﷺ - ليحكم بينهم بحكم القرآن، فلما تبين لهم الحكم وأنه على غير هواهم أعرضوا وَنَأوْا بجانبهم عن سماع قول الحق والإنصات إليه.
1160
وأيامّا كان الكتاب المشار إليه في الآية فالأمر دليل على أنهم لَا يذعنون لحق ولا يهتدون بهدي، بل هم قوم غلبت شقوتهم، وغلب هواهم على تفكيرهم وطمس الله على أبصارهم وبصائرهم، فهم لَا يهتدون، ولا ترجى منهم هداية، فلا تعجب إذا لم يؤمنوا.
وقوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ) هذا تعبير قرآني معناه لقد رأيت وتحققت وعجبت من أمر أولئك الذين أُوتُوا نصيبا من الكتاب كيف يدعون إلى حكم الحق فيتولون ويعرضون. والاستفهام داخل على الفعل المنفي، وهو استفهام إنكاري تعجبي، فهو نفي دخل على فعل منفي، ونفي النفي إثبات، إذ إن نفي عدم الرأي معناه ثبوت الرؤية، وسيق الكلام على ذلك النحو لتأكيد الأمر، وللتعجب، ولبيان أنه ما كان يصح أن يقع، ولكنه وقع.
وقوله تعالى: (أُوتُوا نَصيبًا مِّنَ الْكِتَابِ) يشير إلى أمرين:
أولهما: أنهم يتعلقون باسم الكتاب ولكن لَا يأخذون به؛ فالنصيب المراد به الجزء المعنوي من الكتاب، وهو أنهم تلقوا كتاب التوراة وأخذوا منه ترديده وذكره، ولم يأخذوا منه الهداية والإيمان.
وثانيهما: أنهم حرفوا هذا الكتاب وغيروه، فما عندهم هو نصيب من الكتاب أي جزء منه، وليس كل الكتاب.
وعبر هنا بقوله تعالى: (أُوتُوا نَصيبًا مِّنَ الْكِتَابِ) وفي الآيات السابقة قال سبحانه: (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُم الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهمْ...)، وذلك لأن الكلام هنا في الذين كانوا يعاصرون النبي - ﷺ -، والذين كانوا يعاصرون النبي - ﷺ - لم يكن عندهم قطعا إلا حظ من الكتاب، ولم يكن عندهم كل الكتاب؛ أما في الآيات السابقة فقد كان الكلام في الذين عاصروا النبيين السابقين من بني إسرائيل، وقد كان عندهم الكتاب كله، ومع
1161
ذلك ضلوا على علم، وذلك لسيطرة الهوى على قلوبهم، وغلبته على نفوسهم، فبغوا وطغوا، وقتلوا النبيين والذين يأمرون بالقسط من الناس.
دُعِي أولئك اليهود إلى كتاب الله تعالى ليحكم بينهم، وقد كانت النتيجة أنهم لم يذعنوا للحق كما قررنا، بل تولوا عنه، أو تولى فريق منهم عن الحق؛ ولذا قال تعالى:
(ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ منْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ) أصل تولي الأمر أو الشخص الإقبال عليه، والانصراف إليه؛ ومن ذلك قوله تعالى: (وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ...)، أي من يتخذ منهم ولاية ونصرة، ويقبل عليهم فهو منهم. وإذا عُدِّي هذا الفعل بـ " عن " أو قُدرت في القول كانت بمعنى الانصراف عن الأمر وعدم الإقبال عليه؛ ومن ذلك قوله تعالى: (فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمًفْسِدِينَ)، وقوله تعالى: (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ). والمعنى في هذه الآية هو من هذا القبيل، أي أنه بعد الدعوة إلى تحكيم كتاب الله تعالى ينصرفون عن الحق، ويولونه أدبارهم، بدل أن يولوه قلوبهم.
وعبر هنا بِثُمَّ التي تفيد التراخي للإشارة إلى تباين حالهم مع ما كان ينبغي منهم؛ وذلك لأنهم ليسوا أمّيين أو جاهلين فيعذروا، بل هم قوم أهل علم ودين، ونزلت بين أيديهم كتب السماء، فهم كانوا جديرين بأن يرضوا بحكم الكتب المقدسة، ولكنهم بدل أن يخضعوا ويذعنوا أعرضوا، واستمروا في غيهم يعمهون، فكان هذا التفاوت بين ما كان ينبغي، وما هو كائن، سببا في التعبير بثم المفيدة للتراخي بين المعطوف والمعطوف عليه، والتباعد بينهما زمانا أو معنى.
وقوله تعالى: (وَهُم مُّعْرِضُونَ) قال بعض المفسرين: إنه تأكيد لمعنى التولي، والحق أنها أفادت معنى جديدا، إذ أفادت أمرين:
1162
أولهما: أن حال هؤلاء الناس حال إعراض دائم عن الحق، فليس توليهم إذ دعوتهم إلى أن يحكم كتاب الله بينهم أمر عارض لحال وقتية اقتضته، بل الإعراض صفة مستمرة لفريق منهم لَا تنفصل دائما عن تفكيرهم.
الأمر الثاني: أن تلك الحال المستمرة الدائمة من الإعراض هي سبب توليهم عن الحق عندما يدعون إلى كتاب الله تعالى ليحكم بينهم.
والقرآن الكريم ينصف الحق في أخباره، كما هو الحق في ذاته؛ ولذلك لم يعمم الحكم على كل الذين أوتوا الكتاب بل قرر أن التولي كان من فريق منهم، ولم يكن من كلهم، وهذا كقوله تعالى: (مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ منْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ).
* * *
1163
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ... (٢٤)
* * *
في هذه الآية يبين سبحانه السبب في أنهم لَا يقبلون على الخير ولا يعملون بالحق، وهو اعتقاد أنهم لن يعاقبوا عقابا أليما، ولن يعذبوا عذابا شديدا؛ وذلك لما ركز في نفوسهم من أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأنهم شعب الله المختار، وأنهم لَا يحاسبون إلا بمقدار ما يحاسب الأب ولده المدلل، وحبيبه المختار، إذا رأى مخالفة أو عنادا فإنه لَا يجافيه ولا يعاقبه، ولكن يقربه ويعاتبه، فمعنى (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ): ذلك الإعراض عن الحق، والتولي عن الداعي إليه، واللجاجة في الباطل؛ بسبب أنهم يقولون لن تمسنا النار إلا أياما معدودات. وليس المراد إحصاء الأيام، بل المراد الاستخفاف بالعقاب والاستهانة به، وعدم الالتفات إلى وعيد الله، وزعمهم الباطل أنهم ينالون ما وعد به من ثواب ونعيم مقيم من غير عمل يعملونه، ولا كسب يكسبونه، فهم بهذا قد استناموا إلى الأماني وغرتهم الأوهام.
ولماذا كان الاستخفاف بالعقاب وعدم الاهتمام بالوعيد سببا في الإعراض عن الحق؟ الجواب عن ذلك أن الحق يصل إليه المؤمن بأحد أمور ثلاثة: إما بإشراق النفس، واستقامة القلب، وسلامة الفكر من الهوى والغرض، وذلك شأن من زكت نفوسهم وعلت قلوبهم؛ وإما شكر للنعمة، ووفاء لحق المنعم، وذلك
1163
شأن عباد الله الأخيار، وإما خوف العقاب والحساب، وذلك شأن المتقين وأولئك قد حرموا الأول والثاني، فلم يبق إلا الثالث، فاستهانوا بالعقاب فكانوا قوما بُورا. وإن المؤمن يجب أن يصون نفسه دائما بخوف العقاب، وأن يغلب الخوف على الرجاء، فإنه إن زاد الرجاء عن الخوف تسربت الاستهانة إلى النفس وإذا تسربت الاستهانة هانت النفس فأركست في السيئات، وارتكبت الموبقات، وذلك شأن كثيرين من المنتسبين للأديان، وشأن كثيرين من المسلمين في هذه الأيام. وإنه يجب على المؤمن ألا يغتر، ولا يأخذه الغرور فيستهين بعقاب. ولقد رد الله سبحانه وتعالى في غير هذه الآية على اليهود في زعمهم أنهم لَا يعاقبون إلا أياما معدودة، فقد قال الله تعالى: (وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٨٠) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٨١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٨٢).
(وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانوا يَفْتَرُونَ) يقال غررت فلانا أي أصبت غرته ونلت منه ما أريد بسبب ذلك، والغرة: الغفلة والغفوة. ومعنى (وَغَرَّهمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ): أصاب موضع الغرة والغفلة منهم في دينهم ما كانوا يفترون أي يكذبونه متعمدين قاصدين.
وإن الأوهام التي ترد على النفس وتستولي على القلب تدفع إلى الضلال، وكذلك شأن هؤلاء اليهود: تعصبوا تعصبا شديدا لدينهم، وأبغضوا غيرهم بغضا شديدا، حتى إنه لَا يتصور أن يهوديا أحب غير يهودي لغير مأرب من مآرب الدنيا، أو غاية من غاياتها، وحتى لقد حسبوا أن الديانة جنس، واندفعوا تحت تأثير ذلك التعصب إلى اعتقاد أوهام، ثم تأييد هذه الأوهام بأكاذيب افتروها، ثم تكاثفت تلك الأكاذيب جيلا بعد جيل، حتى أصابت غرة وغفلة في عقولهم، فاعتقدوا ما لَا يعتقد؛ اعتقدوا أنهم شعب الله المختار، وأنهم أبناء الله وأحباؤه، واعتقدوا أن الجزاء بالجنس لَا بالعمل، وهذا ما يفيده قوله تعالى: (وَغَرَّهُمْ فِي
1164
دِينِهِم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ) أي ما استمروا على افترائه جيلا بعد جيل. ولقد رد الله سبحانه وتعالى زعمهم بإثبات أن الثواب والعقاب بالعمل، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، ولذا قال سبحانه:
* * *
1165
(فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٢٥)
* * *
كيف: يستفهم بها عن الحال، أي ما حالهم وما شأنهم إذا جمعهم الله رب العالمين، ليوم لَا ريب فيه؛ لَا شك أنهم يفاجأون بذهاب غرورهم الذي اغتروه، وضلالهم بسبب استمرار افترائهم الذي أحدثوه فدلاهم في غرورهم؛ وإنه في هذا اليوم الذي لَا ريب فيه توفى كل نفس ما كسبت أي جزاء ما كسبت، وهم لَا يظلمون أي لَا ينقصون مما فعلوه شيئا، فسيجزون بالخير الحسنى، وبالشر السوءى.
وفى الآية الكريمة بعض البحوث اللفظية نشير إليها واحدا واحدا؛ لأن في بيانها توجيها إلى معانٍ دقيقة في النص الكريم:
أول هذه الأمور: الفاء في قوله تعالى: (فَكَيْف) فإنها هي ما تسمى فاء الإفصاح، وهي التي تفصح عن شرط مقدر، أي أنه إذا كانت العقوبة المقررة عليكم أياما معدودات في اعتقادكم مهما ارتكبتم، فماذا تكون حالكم إذا كانت المفاجأة التي لم تقدروها وطُمس عليكم فلم تعلموها؟.
وثاني هذه المباحث اللفظية قوله تعالى: (جَمَعناهُمْ) فإن التعبير بلفظ الجمع فيه إشارة إلى معنى المساواة التامة، وأنه لَا فضل لجنس على جنس، وإضافة هذا الجمع إلى رب العالمين، خالق الناس أجمعين يزكي هذه المساواة؛ لأنه خالق الجميع، ورب الجميع، وجامع الجميع يوم القيامة، فالجميع بين يديه سواء في الأصل والتكوين وفي الربوبية والحفظ، وفي الجمع يوم القيامة فيكونون سواء في الحساب والعقاب والثواب، وكل وعمله.
وثالث هذه الأمور: تنكير " يوم " في قوله تعالى: (لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ) فإن ذلك التنكير للتهويل، وبيان عظم شأنه وأنه يوم عبوس، وأنه مع شدته وشدة
1165
الحساب لَا ريب في وجوده ولا شك وذكر قوله (لا رَيْبَ فِيهِ) في هذا المقام لأن من اليهود طائفة تنكر البعث، فالتأكيد لأجل هذه الطائفة المنكرة الملحدة في دين الله، الخارجة على كل أديان السماء، والباقون إن اعتقدوا بعقولهم لم يذعنوا بأفعالهم.
ورابع هذه المباحث اللفظية في التعبير بقوله تعالى: (وُفِيَتْ كلُّ نَفْسٍ ما كسَبَتْ) إسناد التوفية إلى ما كسبت وعدم ذكر الجزاء، فيه إشارة إلى عدل الله اللطيف الخبير، وهو مساواة الجزاء للعمل، وكأن المثاب يُوفَى عمله، لَا جزاء عمله، وذلك لشدة المساواة بينهما. وقد أكد سبحانه وتعالى معنى العدالة وأن كل شيء بالقسطاس المستقيم بقوله: (وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) أي سيجزون بأعمالهم، وسينالون ما يستحقون، وكل ما ينالهم بسبب ما فعلوا هو العدل عينه، ولا ظلم، فإذا ألقوا في السعير فليس في ذلك ظلم بل هو العدل. وإن سبب ضلال اليهود أنهم زين لهم سوء عملهم فرأوه حسنا.
فاللهم أرنا عيوب أنفسنا، وجنِّبنا الاغترار في ديننا، إنك سميع الدعاء.
* * *
(قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (٢٧)
* * *
بين سبحانه وتعالى اعتزاز المشركين بقوتهم الدنيوية وغلبهم وسلطانهم، وذكر أنهم في غرورهم كفرعون ذي الأوتاد، واعتزازه بقهره لشعبه، وطغيانه في
1166
ملكه؛ إذ يقول: (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (٥١).
ثم أشار سبحانه إلى طغيان أهل الكتاب، واختلافهم على النبيين، وقتلهم بعض الأنبياء، وقتلهم الذين يأمرون بالقسط من الناس، وما كان ذلك الإعراض عن الحق بعد أن تبين لهم إلا لأن حُب السلطان والغلب قد استولى عليهم واستغرق نفوسهم، ولذلك كانوا إذا حاجّهم النبي - ﷺ - أو حاجّوه نظروا في محاجتهم إلى الأمر من وراء ذلك الغرض، وتلك الشهوة؛ وقد أمر الله سبحانه نبيه بأن يقابل هواهم بإعلان إخلاصه في طلب الحق، وإسلامه وجهه لله سبحانه! وفي هذه الآية:
1167
(قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ) إشارة إلى أن الإخلاص للذات العلية، وطلب الحق إرضاء لله، لَا لأحد سواه، فيه اتجاه إلى مالك الملك الذي يؤتي الملك من يشاء، فالإخلاص للحق جل جلاله، يؤدي إلى السلطان الحق من مالك الملك.
(قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ) الأمر للنبي - ﷺ -، ولكل قارئ للقرآن الكريم مؤمن بالله مذعن للحق، أن يضرع إلى الله تعالى ناطقا بهذه الحقيقة؛ فإنها الحق في هذا الوجود، ولا يعرف مؤمن سواها؛ والمعنى في هذا الدعاء الكريم الضراعة إلى الله تعالى ونداؤه بأنه مالك السلطان المطلق في هذا الوجود، فليس فقط صاحب السلطان، بل إنه يملك ذات السلطان، يؤتيه ويعطيه من يشاء، وينزعه ممن يشاء؛ أي يسلبه ممن يشاء ممن يكون السلطان في يده. والملك هنا هو السلطان، وفسره بعضهم بالنبوة، وعبر عن النبوة بالملك عند هؤلاء باعتبار أن الملك الحق لازم من لوازمها؛ ولذا قال سبحانه: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّه مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا)، والظاهر أن المراد هو السلطان. وقوله تعالى: (اللَّهُمَّ) نداء إلى الذات العلية بلفظ الجلالة، والميم المشددة في الآخر قائمة مقام حرف النداء على ما قال الخليل وسيبويه. وقال بعض الكوفيين: إن الميم المشددة هي " أمَّ " بمعنى قصد، أي أقصدك يا مولاي بضراعتي، وأنت صاحب السلطان.
1167
ولكن خطَّأَ ذلك النظر الزجاج، وقرر أن معنى القصد ثابت بمجرد الالتجاء والدعاء. وفوله: (مَالِكَ الْمُلْكِ) نداء آخر وضراعة على تقدير أداة النداء، أي يا مالك الملك، فكأن في النص دعاءين: دعاء للذات العلية بلفظ الجلالة، وقد اشتمل على كل معاني العبودية، والتنزيه والتقديس، والخضوع التام، والتسليم لله سبحانه وتعالى بكل معاني الألوهية؛ والدعاء الثاني لمالك الملك، وفيه كل معاني الإحساس بالربوبية، والضعف أمام جبروت الله سبحانه وتعالى وملكوته.
وقلنا إن قوله تعالى: (مَالِكَ الْمُلْكِ) أبلغ من صاحب الملك أو صاحب السلطان؛ لأن من يملك شأن أمة لَا يملك مُلكها، ولكنه يستولي على ملكها ويده فيها ليست يدَ مِلك ولكنها يدٌ عارية؛ أما سلطان الله تعالى ذي الملكوت فسلطان مالك متصرف في السلطان، يعطيه من يشاء عطاء عارية، ويمنعه ممن يشاء، ويسترد عاريته ممن يشاء؛ ولذلك قال سبحانه وتعالى: (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ).
وهنا أمران لابد من الإشارة إليهما:
أولهما: التعبير عن إزالة الملك بقوله تعالى: (وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ) فالتعبير بالنزع مع تكرار كلمة ملك، فيه إشارة إلى أنه يأخذه منه بعد أن استقر فيه وثبت له وظن أنه لَا مزيل لسلطانه، فيأتيه الله من حيث لَا يحتسب، ويأخذ ملكه أخذ عزيزٍ مقتدر ثم إن في النزع إشارة إلى أن من يؤتى سلطانا يطغى فيه ويبغي ولا يسير بسنة الحق والعدل لَا يتركه طائعًا، بل لابد أن يُمكِّن الله منه من ينزعه من يده، وقد يأخذه منه من كان يأتمنه " ومِنْ مَأمَنِه يُؤتي الحَذِر ". وفي كثير من الأحيان يكون السبب في زواله هو من كان السبب في طغيانه.
الأمر الثاني الذي تجب الإشارة إليه: أن الله سبحانه وتعالى بمقتضى حكمته وما سَنَّ من نظم في هذا الوجود، وما تسير عليه أعماله في خلفه، لَا يعطي الملك إلا من يستحقه، ويأخذ بالأسباب العادلة في طلبه، ويقصد به رفعة قومه، ولا ينزعه إلا ممن يسيء ويطغى، ويفهم أن الملك متعة تشتهَى وليس تَبِعات
1168
تؤدى، فينزعه منه غيره، وكذلك سنة الله تعالى في الحكم بين الناس: من لا يسوس الملك يُخلَعه، ومن حل محله ينزل به ما نزل بسابقه إن سار سيرته.
وكلمة " الملك " ليس المراد منها ما تعارفه الناس من الحكم بمقتضى الوراثة في أسرة، إنما المراد بالملك السلطانُ في هذه الأرض، سواء أكان سلطانا بالغَلب، أم كان سلطانا بالاختيار والانتخاب، أم كان سلطانا بالوراثة، وسواء أكان محدودا بجزء من الدولة، أم ناحية من نواحيها، أم كان عاما شاملا لكل أجزائها تجتمع في يد صاحبه كل السلُطات فيها، فكل هذا ملك لأنه سلطان. وقد ذكر سبحانه بعد ذكر الملك يعطيه من يشاء وينزعه ممن يشاء العزة، فقال:
(وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ) العزة ليست مرادفة للسلطان، وإن كان الأصل في كلمة عَزَّ معناها غَلَبَ، ومن ذلك قوله تعالى: (وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ)، ولكن العزة صارت تستعمل بعد ذلك في معنى نفسي، وهو عدم الخضوع إلا للحق، والتسامي عن الخضوع الذي ينافي المروءة والخلق الكريم، وقد يكون ذلك في ضعيف في بدنه مستضعف عند الناس، ما دام قد علا عن الخضوع إلا لذات الله تعالى، وإن صهيبا وآل ياسر، وخباب بن الأرتِّ وغيرهم، كانوا وهم المستضعفون في مكة الأعزاء في أنفسهم؛ لأنهم لم يجعلوا قلوبهم مراما للأقوياء، فلا عزة إلا مع الإيمان بالله وحده، والاعتماد عليه وحده؛ ولذلك لَا يكون المنافقون مهما يؤتوا من مال ونسب وسلطان إلا أذلاء. ولما قال المنافقون في شأن المؤمنين: (لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ منْهَا الأَذَلَّ...). نفَى سبحانه وتعالى عنهم العزة فقال سبحانه (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (٨).
وكيف يكون المنافق عزيزا وهو الذي جعل نفسه وفكره ولسانه ملكا لغيره؛ فهو قد سلب كل شيء حتى قلبه ولسانه.
ومشيئة الله تعالى في العزة والذلة تسير على مقتضى حكمته، فهو لَا يعطي العزة إلا لمن خلَّص قلبه من كل أدران الهوى والشهوة، فالشهوات مردية، ولا
1169
يكون عزيزا بين الناس من يكون عبد شهوته فإن العزة تبتدئ من النفس، فإن ضبَط المرء أهواءه وشهواته وسيطر عليها أعطاه العزة، فكان بين الناس عزيزا؛ ومن سيطرت عليه أهواؤه ومطامعه وشهواته كتب الله عليه الذلة، وكان الذليل وإن ظهر أنه العزيز، ولذا كان من حكمة السلف الصالح قولهم: " أذلَّ الحرص أعناقَ الرجال ".
(بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) هذا تسليم بأن ما يفعله الله تعالى دائما خير، وأن الخير كله بيده سبحانه وقوله تعالى: (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) معناه إنك وحدك الذي تملك الخير كله، فـ " ال " في قوله " الخير " للاستغراق الشامل؛ فكل خير هو بيد الله سبحانه. والتعبير بـ " يد " هنا إشارة إلى الملكية التامة السيرة، فهو استعارة تمثيلية، فقد قرب سبحانه - ولله تعالى المثل الأعلى - لأذهاننا معنى سلطانه وكمال ملكه لكل الأمور، بحال من يكون الأمر في يده وقبضته، ولا سلطان لأحد من الناس فيما بيده، وفي قبضته. ومعنى قوله تعالى: (إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) شمول قدرته على الأشياء كلها: ما يتخذه الناس سببا للخير عندهم، وما يتخذونه سببا للشر عندهم. وفي الجمع بين قوله تعالى: (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) و (إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) إشارة إلى أمرين:
أولهما: أن كل ما يفعله الله تعالى هو خير، فلا يقال إن بيده الخير والشر، فإن الشر معنى نسبي بالنسبة للعبيد، ولكن بالإضافة إلى الله تعالى فإن الله لايفعل إلا خيرا. ولقد قال الزمخشري في هذا المقام ما نصه: " إن كل أفعال الله تعالى من نافع وضار صادر عن الحكمة والمصلحة فهو خير كله كإيتاء الملك ونزعه ".
الأمر الثاني: إثبات أن الله تعالى خالق الأسباب، وهي الأشياء التي يستخدمها الناس للخير والشر، يحسنون فلا يقصدون إلا النفع فيكون ما مكَّن الله لهم في الأرض نفعا للناس وخيرا، ويسيئون فيقصدون إلى نواحي الفساد فيكون ما يفعلونه فسادا وضررا عاما. وهذا أشار إليه سبحانه بقوله تعالى: (إِنَّكَ عَلَى
1170
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فكل ما في هذا الوجود من أشياء وأعمال ومخلوقات تحت قدرة الله، وكله خير بالنسبة له سبحانه، والشر والخير بالنسبة لمقاصد الناس، ولانتفاعهم بما مكَّن الله تعالى في هذه الأرض. وإنه يلاحظ دائما أن الشر نسبي للناس، ولا يصح أن يقال في فعل الله إلا أنه خير. ولقد بين سبحانه مظاهر قدرته في الكون المحسوس فقال سبحانه مبتدئا بآياته جل شأنه في الليل والنهار:
* * *
1171
(تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ... (٢٧)
* * *
هذا مظهر حسي لقدرة الله تعالى في هذا الكون. تولج معناها تُدخل، أي تدخل الليل في النهار وتدخل النهار في الليل. " وقد فسر بعض العلماء دخول الليل في النهار بزيادة الليل حتى يصل إلى أقصى الزيادة، وفي هذا الوقت ينقص النهار حتى يصل إلى أقصى النقصان، وكذلك دخول النهار في الليل فمعناه أن يأخذ النهار جزءا من معدل النسبة بينهما وهو تساويهما، فيدخل النهار في الليل. وفقد فسر الزمخشري مع كثير من المفسرين دخول الليل في النهار ودخول النهار في الليل بالتعاقب بينهما بأن يكون الوقت نهارا ثم يصير ليلا، ويكون ليلا ثم يصير نهارا، ولكن كيف نسمى ذلك التعاقب دخولا لليل في النهار، ودخولا للنهار في الليل؟ والجواب عن ذلك: أن الليل لَا ينقلب نهارا دفعة واحدة، بل إنه يدخل النهار في الليل شيئا فشيئا، فيبتدئ النور يدخل في الظلمة شيئا فشيئا، يبتدئ الفجر الكاذب فالصادق، فتنفس الصبح لحظة بعد لحظة، والنور يغزو الظلمة حتى تنجاب غياهبها، فيكون الضوء الساطع؛ وكذلك لَا يجيء الليل دفعة واحدة، بل يبتدئ الضوء يضعف من الأصيل حتى تجيء الغروب، ثم تجيء العشية، فيكون ظلام وتُمحى آية النهار.
وإن توجيه الأنظار إلى دخول الليل في النهار، ودخول النهار في الليل، سواء أكان بالمعنى الأول أم كان بالمعنى الثاني، فيه توجيه الأذهان إلى عظمة الكون وكمال سلطانه سبحانه وتعالى فيه، فما كان تعاقب الليل والنهار وتداخلهما إلا ظاهرة لدوران الأرض حول الشمس، وحركة الفلك الدوار المستمرة الدائبة بقدرة
1171
الله تعالى وقيامه على كل شيء، وفي " الليل تبدو الكواكب والنجوم، وتظهر آيات ذلك النظام العجيب المحكم الذي يسيره سبحانه بقدرته وحكمته.
(وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَي) هذا مظهر كوني حسي يدل على عظيم قدرة الله، وبيان أنه لَا إرادة في هذا الكون غير إرادته، وأنه القادر على كل شيء، يخرج الضد من ضده، وهو المبدع لكليهما، المسير لهما؛ فالله سبحانه يخرج الحيَّ من الميت، ويجعل من هذا الحيّ الذي أخرجه ميتا؛ وإخراج الحيّ من الميت ليس هو الخلق الأول الذي ذرأ الله به الأحياء، وهو خلق آدم من طين، فإن الخلق غير الإخراج؛ إذ الخلق إبداع وإنشاء ابتداء، والله هو الخلاق العليم، ولا خالق سواه، والإخراج تحويل فيه معنى الاستخراج والتوليد؛ وإخراج الله الحيّ من الميت قال بعض العلماء وهم الأكثرون: إنه إخراج الجسم النامي الذي يسير في مدارج الحياة، من الجسم الجاف الذي لَا تبدو فيه حياة، كإخراج الشجرة من النواة، والعود من البذرة؛ وإخراجُ الميت من الحي هو أيضا إخراج النواة الصلبة من الجسم الحيّ النامي، وإخراج البذرة الجافة من العود الحي الرطب. وقد يعترض على ذلك بأن النواة الجافة والبذرة الصلبة فيها حياة تولدت عنها تلك الحياة المحسوسة للنبات، وكذلك النطفة التي تبدو سائلا ليس فيه حياة فيها أحياء تتوالد فتكون ذلك الحيوان المحسوس. وقد يجاب عن ذلك بأن ذلك اصطلاح علمي، وإن الحياة التي تعرفها اللغة مظهر ذلك النماء المتدرج المستمر.
وفى الحق إن إخراج الحيّ من الميت أمر محسوس مرئي كل يوم؛ فإن تلك الشجرة أو ذلك العود النامي يتغذى من الهواء والضوء والماء والتراب، وكلها جماد لا حياة فيها، وما يتم التحول المتدرج في الحياة إلا بتلك العناصر التي هي غذاء الحي، فهي إخراج الحي من الميت، وليس المراد من الميت من كانت به حياة ثم انتهت، إنما الظاهر من كلمة الميت هو ما لَا حياة فيه؛ وإن إخراج الميت من الحي أمر واضح لَا مجال للشك فيه؛ فهذا العود الأخضر يصير حطاما، وهذا الجسم الحيواني يتحلل فيكون رميما ثم يكون ترابا.
1172
وعلى هذا نقول إن إخراج الحي من الميت ليس فلْق النوى بإخراج النبات والشجر منه فقط، بل بهذا وبتدرج الحياة، وإدخال عناصر الغذاء التي تكون الحي وأكثرها من جماد؛ ولذا قال سبحانه في آية أخرى: (إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأنَّى تُؤْفَكونَ)، (وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) هذا مظهر رابع من مظاهر قدرة الله تعالى المحسوسة بين الناس، وهو الرزق للعباد، وكلمة الرزق تشمل إعطاء الله عبيده مالا، وإعطاءهم جاها، وإعطاءهم علما، وإعطاءهم حزما ورأيا، وإعطاءهم صحة، فكل هذه أرزاق يعطيها رب العالمين. ولذا قال الراغب الأصفهاني في مفرداته: " الرزق يقال للعطاء الجاري تارة، دنيويا كان أم أخرويا، وتارة للنصيب، ولما يصل إلى الجوف ويتغذى منه به تارة أخرى، يقال أعطى السلطان رزق الجند، ورُزقت علما؛ قال تعالى: (وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ...)، أي أنفقوا من المال والجاه والعلم ".
فالله سبحانه وهو الرزاق ذو القوة المتين، قد وزع رزقه بين عباده بالقسطاس المستقيم؛ فمنهم من أعطاه صحة وعافية، ومنهم من أعطاه مالا وحرمه من نعمة العلم، ومنهم من أعطاه جاها وسلطانا، ومنهم من أعطاه أولادا تقر بهم عينه، ومنهم من وهب له ذكرا حسنا بين الناس. ومن قصر الرزق على المال فقد ضل ضلالا بعيدا، كذلك المعترض الذي يقول:
كَم عاقلٍ عاقلٍ أعْيَتْ مذاهبُه وجاهل جاهلٍ تَلقْاه مرزوقا
هذا الذي ترك الأوهامَ حائرةً وصيَّر العالِمَ النَحريرَ زِنْدِيقا
فما في ذلك حَيْرة إلا في رأس القائل، فتلك هي القسمة العادلة: حَرم هذا من المال وأعطاه علما، وحرم هذا من الولد وأعطاه ذكرا بين الناس. وهكذا؛ ولو اجتمعت كلها في واحد، لكانت الحيرة، وعلاجها التفويض المطلق لرب العالمين.
1173
وقوله تعالى: (بِغَيْرِ حِسَابٍ) معناه أنه ليس فوقه أحد يحاسبه، تعالى الله علوا كبيرا، وأن عطاءه كثير يعلو على العد والحساب، وهو يعطي من يشاء بسنة الحكمة والعدل والفضل، وإليه مصير كل شيء، ولا ينتج عمل عامل نتيجته إلا بفضل من الله. روى الحافظ ابن كثير عن ابن عباس عن النبي - ﷺ - أنه قال: " بسم الله الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب " في هذه الآية: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦).
* * *
(لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٢٨) قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (٣٠)
* * *
بين سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أن الملك كله بيد الله سبحانه وتعالى، وأنه هو الذي يعطي بعض عباده سلطانا، وهو الذي ينزع السلطان من أيديهم إن لم يحسنوا القيام عليه؛ وفي هذه الآية يبين سبحانه أنه لَا يصح للمؤمن أن يستعين بسلطان غير المؤمن على المؤمن لما يراه من قوة سلطان غير المؤمن، فإن
1174
الملك بيد الله، قد يديل سبحانه من دولة الشرك والكفر (١)، ويكون لله ولرسوله الكلمة العليا؛ فكأن الآيات السابقة مقدمة، وهذه الآية نتيجة؛ أي أنه إذا كان الملك لله سبحانه، وهو مالك الملك، فلا يسوغ لمؤمن أن يدخل في سلطان غير مؤمن وولايته؛ لأنه بذلك يخرج من ولاية الله مالك الملك إلى ولاية كافر أعير الملك، والعارية مستردة لصاحبها في أي وقت، وهو الحق سبحانه الذي لا سلطان فوق سلطانه، ولذا قال سبحانه:
________
(١) يُديلنا: من الدَّوْلَة. والإدالَةُ: الغَلَبَةُ. ودالَت الأيَّامُ: دارَتْ، واللهُ تعالى يُداولها بينَ الناسِ. [القاموس المحيط - فصل الدال - الدولة].
1175
(لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) أولياء جمع ولي، وهو من الولاء. وأصل هذه الكلمة بينها الأصفهاني في مفرداته، فقال: " الولاء والتوالي: أن يحصل شيئان حصولا ليس بينهما ما ليس منهما، ويستعار ذلك للقرب من حيث المكان، ومن حيث النسبة، ومن حيث الدين، ومن حيث الصداقة والنصرة، والاعتقاد. والوِلاية (بكسر بالواو) النصرة. والوَلاية (بالفتح) تولي الأمر. وقيل الوِلاية والوَلاية واحدة نحو الدِّلالة والدَّلالة ". وعلى ذلك تكون كلمة ولي تطلق بمعنى الصديق وبمعنى النصير، وبمعنى من يتولى أمر غيره. وما المراد بها هنا؛ الظاهر أن المراد هو من يتولى أمر غيره، فمعنى (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) نهى المؤمنين عن أن يدخلوا في ولاية الكافرين وتحت سلطانهم وفي ظلهم دون ظل المؤمنين وسلطانهم، فإن على المؤمنين أن يكوِّنوا لأنفسهم دولة وولاية تظلهم، ولا يكون أحد منهم في ولاية غيرهم والدليل على أن أولياء هنا معناها متولون الأمر قوله تعالى: (مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) فإن دون هنا بمعنى غير، وهذا يومئ إلى ترك ولاية المؤمنين ليكونوا في ولاية غيرهم؛ فالمعنى إذن أنه لَا يجوز لطائفة من المؤمنين أن يكونوا في ولاية غير المؤمنين. وهنا إشارة بلاغية رائعة في قوله تعالى: (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ) وفي قوله: (مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ)، فإنه من المقررات البيانية أن اللفظ إذا
1175
أعيد معرفا بـ ا (أل) كان الثاني هو عين لأول، فإذا قلت خاطبت رجلا، فأفهمت الرجل حقيقة موقفه، كان الثاني عين الأول، فتكرار المؤمنين بالتعريف بأل إشارة إلى أن الثاني هو عين الأول، وفي ذلك إشارة إلى أن المؤمنين الذين يدخلون ولاية غيرهم يتركون أنفسهم، ويتخذون من عدوهم نكاية لأنفسهم.
وإن النهي عن تولى المؤمنين لغير المؤمنين غير معلل هنا صراحة، وإن كان قوله تعالى: (مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) يشير إلى أن تولى المؤمنين لغيرهم يكون نكاية لأنفسهم، وفي آية أخرى كان النهي معللا تعليلا صريحا، فقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَولِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ...). وقال تعالى: (وَالَّذِين كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ).
ففي هاتين الآيتين تعليل صريح للنهي عن أن يكون المؤمنون أو بعضهم في ولاية غير المؤمنين، وأن تكون سيوفهم وكل قوتهم لغير المؤمنين. والذي يستفاد من هاتين الآيتين أن السبب في أنه لَا يجوز للمؤمنين أن يتولَّوْا غير المؤمنين بأن يكونوا في ولايتهم، يتكون من ثلاثة أمور:
أولها: أن غير المؤمنين لَا يمكن أن يرعوا حقوق المؤمنين حق الرعاية، بل لا يألونهم خبالا، وقد حققت الأيام ذلك، فإن المؤمنين الذين يخضعون للأمم الأوروبية كمسلمي يوغسلافيا مع قيامهم بحق إقليمهم في نصرته لَا يكادون يستمتعون بأي حق سياسي، ولا يتولون أعمالا إدارية إلا في صغير الأمور.
وثانيها: أن الذي يكون في ولاية غير المسلمين تكون نصرته وقوته لغير المسلمين؛ ولذا قال سبحانه: (وَمَن يَتَوَلَّهم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) إذ تكون كل قوته وكل نشاطه الإنساني والاجتماعي لهم، وليس للإسلام منه شيء.
وثالثها: أن المسلمين الذين يكونون في ولاية غيرهم يفتنون في دينهم، ولو من قبيل العدوى وعدم تنفيذ أحكام الإسلام في الدولة، وفي ذلك فساد أي
1176
فساد، ولذا قال تعالى: (إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَاد كَبِيرٌ) أي إلا تمتنعوا عن الدخول في ولاية غير المسلمين تكن فتنة في الأرض وفساد كبير.
هذا، ويجب التنبيه إلى أن تولي المؤمنين لغيرهم ليس معناه المحبة، فإن بر المؤمن لغير المؤمن واجب إن تحقق السبب الموجب للبر، فقد قال تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩).
(وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تقَاةً) أي من يدخل في ولاية الكافرين، ويترك ولاية المؤمنين فقد قطع صلته بالله سبحانه وتعالى قطعا تاما، لأن ولاية المؤمنين هي ولاية الله تعالى؛ وهذا معنى قوله تعالى: (وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شيْءٍ). وقد أولها بعض العلماء على حذف مضاف، والمعنى: فليس من ولاية الله في شيء، وبعضهم قال: فليس من الصلة بالله في شيء، ولكن لِمَ حذف المقدر، وجعل النفي عن ذات الله مباشرة؟ والجواب عن ذلك هو الإشارة إلى أن من دخل في ولاية غير المؤمنين تاركا ولاية المؤمنين، فقد ترك ذات الله سبحانه وتعالى وكان مختارا لقوة الكفار دون قوة العزيز الجبار، فهو يعاند الله نفسه، ويحاد الله سبحانه، والله عزيز ذو انتقام، وهو ذو القوة المتين، وهو الناصر، فإن نصر فلا خذلان، وإن خذل فلا نصر: (إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ...).
هذا حكم الجماعة الإسلامية أو بعضها في الدخول في ولاية غير المسلمين، ولكن قد يكون بعض الآحاد في حال ضعف، وهم مضطرون لأن يعلنوا الموالاة لبعض الكافرين، فهل يسوغ ذلك؛ ذكر الله حكم هؤلاء في هذا الاستثناء، فقال سبحانه: (إِلَّا أَن تَتَّقُوا منْهُمْ تُقَاةً) أي أن براءة الله سبحانه وتعالى من الذين يوالون الكفار ثابتة قائمة إلا في حال الخوف وخشية الضرر المؤكد لبعض المسلمين
1177
فإنه يجوز لهؤلاء أن يظهروا لهم الولاء، وهم بذلك يتقون ضررهم المؤكد، ومعنى: (أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) أي تخافوا خوفا شديدا لضرر مؤكد، فتجعلوا إظهار الولاء وقاية تتقون بها الضرر، وقد أكد سبحانه وتعالى الخوف بالمصدر فقال: (أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) أي يكون الضرر ثابتا لَا مجال للشك فيه، وألا يتجاوز الولاء المظهر واتخاذ الوقاية المؤقتة. و " تقاة " مصدر وقى على وزن فعلة، وأصله وقية، قلبت الواو تاء كما في تؤدة أصلها وأدة، وتهمة أصلها وهمة.
وإن هذا النص يستفاد منه أن التقية جائزة، والتقية أن يظهر المؤمن غير ما يعتقد اتقاء الأذى الذي يتلف الجسم على أن يكون نزول الأذى مؤكدا، وهذا مأخوذ من قوله تعالى: (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ...)، على أن يكون ذلك مقصورا على الأحوال الأحادية لَا الأحوال الجماعية، وعلى أن يجتهد الذين يكونون في ولاية غير المؤمنين أن يخرجوا من ولايتهم وألا يبقوا مستضعفين في الأرض، فقد قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (٩٧) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (٩٨) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (٩٩).
هذا، وإن التقية الأحادية أمر لَا يعلمه إلا الله، وقد يمالئ بقلبه ولسانه رجاءَ رجاء كما يفعل بعض ملوك المسلمين ويدعي أنه يفعل ذلك تقية ودفعا للضرر؛ ولذا قال سبحانه محذرا هؤلاء، ومحذرا من يوالي الكفار بشكل عام: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ):
التحذير: هو التخويف لأجل الحذر واليقظة، والعمل على منع الأمر الخوف قبل وقوعه. والتحذير لَا يكون إلا حيث يتوهم الشخص الآمن، ويعتقد أنه لَا مخاف، ولا ما يثير الخوف؛ وإن مقام التحذير هنا واضح بين؛ لأن أولئك الذين يوالون الكافرين يظنون أن ذلك من دواعي الأمن والاستقرار، والواقع أنهم
1178
إن أمنوا الكفار ومالئوهم على هذا واختاروا ولايتهم دون المؤمنين، فإنهم لا يأمنون عقاب الله، فعليهم أن يحذروه.
ومعنى (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) قال بعض العلماء فيه: إن الكلام على حذف مضاف وهو: عقاب الله أو نقمته، وعندي أنه لَا حاجة إلى تقدير مضاف، بل إن التحذير من ذات الله، والتحذير من ذات الله يقتضي الخوف ووقوع الرهبة في النفس من الذات العلية، كما يقول القائل ولله المثل الأعلى: احذر الأسد، فإنه لَا يقدر: صولته ولا شدته، إنما يريد أن ذاته في كل أحوالها مخوفة مرهوبة.
وعبر سبحانه عن التحذير من ذاته العلية بقوله: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) للإشارة إلى تأكيد معنى المعاندة لله تعالى عند موالاة الكافرين، فإن كلمة نفس تقال لتأكيد التعبير عن الذات، كما يقول القائل: خاصمت زيدًا نفسه، وغاضبت عمروًا نفسه؛ وللإشارة إلى أن ما ينزله الله تعالى مغيب غير معلن الآن، إذ إن التعبير بالنفس يكون لما يخفى في أطوائها، كما قال الله تعالى عن نبيه عيسى: (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ).
وهذا التحذير من ذات الله تعالى تحذير ممن يكون عقابه أدوم بقاء، ونقمته أكثر استمراراً؛ ولذا قال بعد ذلك: (وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) أي إليه وحده المآل وانتهاء أمر العباد، فلا يكون ثمة معقب لما يقول ويفعل، والمصير إليه حيث تذهب سطوة الكفار الذين يمالئونهم على المؤمنين ويوالونهم دون المؤمنين؛ فإن كانت للكافرين قوة ظاهرة في الدنيا فهي حال ليست باقية، والمصير إلى الله والعاقبة للمتقين، وإن كان للكافرين عزة في الأرض فاجرة، فالعزة الحقيقية لله ولرسوله وللمؤمنين.
* * *
1179
(قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ... (٢٩)
* * *
كان التحذير والتخويف من الله سبحانه وتعالى، وقد أمر سبحانه نبيه بأن يبين لهم مقدار علمه بخفايا نفوسهم، وعلمه بالكون وما فيه، فقال سبحانه: (قُلْ إِن تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ) أي أن علمه سبحانه وتعالى يعم الظاهر والباطن، وإن كوْن الأمر ظاهرا أو باطنا
1179
إنما هو بالنسبة لنا، أما علم الله تعالى فإنه ليس فيه ظاهر وباطن، بل العلم كله سواء بالنسبة له سبحانه وتعالى وسيق إثبات علم الله تعالى وإحاطته الشاملة في هذا المقام، لمقام التحذير أيضاً؛ لأن الذين يوالون الكافرين يظنون في أنفسهم ضعفا وقد يظهرون أن ما يفعلون إنما هو تقية وخوف من الكافرين، والواقع أنهم يفعلون ذلك استخذاء وذلة، أو تملقا للأقوياء أو مداهنة لهم على أقوامهم، أو رجاء غرض دنيوي ينالونه، كما نرى في عصرنا الحاضر، إذ نجد ناسا يبررون كل خيانة قومية ودينية، والدخول في ولاية غير المؤمنين بالتقية وحال الضعف، وما هو إلا ضعف وازع الدين وفقد اليقين، ورجاء الدنيا الذليلة، وفرار من العزة والحياة السامية الكريمة حقا وصدقا؛ فأمر الله نبيه أن يبين أنه يعلم ما تخفيه الصدور، وما تختلج به القلوب، وما ينوون وما يقصدون، كما يعلم ما يبدون ويعلنون، وأن الله سبحانه محاسبهم على أعمالهم بنياتهم، لَا بظواهر هذه الأعمال، ولا بما تتلوى به الألسنة، وإن كانت مخالفة لما تطويه القلوب. وجعل البيان من النبي - ﷺ - بعد أن وجه سبحانه وتعالى الترهيب بذاته العلية؛ لأن ذلك التنويع من شأنه أن يربي المهابة، كما يقول ذو السلطان محذرا مخوفا: أحذركم مخالفتى، ثم يتركه لصفي من أصفيائه يبين له مدى سلطانه وقوته وعلمه.
(وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) في هذا بيان شمول علم الله تعالى وشمول قدرته، فهو يعلم سرائر النفوس وظواهرها، كما بيّن في الجملة السابقة، ويعلم الكون وما يجري فيه من نجوم سارية، وأفلاك دائرة، وشمس مشرقة، وقمر منير، والسحاب وما تحمل، والرياح المسخرات بين السماء والأرض، ويعلم كل الأحوال، وكل الأزمان، وكل اللحظات، وجميع الأوقات، وما من شيء في هذا الوجود إلا تحت سلطان علمه، وفي متعلق إرادته، وفي شمول قدرته؛ إنه فعال لما يريد؛ فكيف يتصور من عاقل أن يترك ولاية المؤمنين وهم أولياؤه، ويدخل في ولاية الكافرين وهم أعداؤه؛ فإن كانت
1180
الولاية للعزة والقدرة والسلطان والعلم، فلله وحده العزة والكبرياء في السماوات والأرض. وقد ذكر سبحانه شمول القدرة بعد شمول العلم؛ لأن القدرة الكاملة لا تكون إلا عن العلم الكامل، فكمال القدرة من مظاهر كمال العلم. ولقد قال الزمخشري في معنى هذا النص الكريم: " هذا بيان لقوله: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) لأن نفسه، وهي ذاته المتميزة من سائر الذوات متصفة بعلم ذاتي، لَا يختص بمعلوم دون معلوم، فهي متعلقة بالمعلومات كلها، وبقدرة ذاتية لَا تختص بمقدور دون مقدور، فهي قادرة على المقدرات كلها، فكان حقها أن تحذر وتتقى، فلا يجسر أحد على قبيح ولا يقصر عن واجب، فإن ذلك مطلع عليه لَا محالة فلاحق به العقاب، ولو علم بعض عبيد السلطان أنه أراد الاطلاع على أحواله فوكل همه بما يورد ويصدر، ونصب عليه عيونا، وبث من يتجسس على بواطن أموره، لأخذ حذره وتيقظ في أمره، واتقى كل ما يتوقع فيه الاسترابة به، فما بال من علم أن العالم بالذات الذي يعلم السر وأخفى وهو آمن، اللهم إنا نعوذ بك من اغترارنا بسترك؛ ولقد بين سبحانه وقت تنفيذ عقوبته المؤكدة، وهو يوم القيامة، فقال:
* * *
1181
(يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (٣٠)
المعنى الجملي للنص الكريم: خافوا الله واحذروه، واخشوا حسابه وعقابه، وارجوا ثوابه يوم تجد كل نفس ما عملت من خير ظاهرا ثابتا واضحا، كأنه قد أحضر من الدنيا إلى الآخرة فيرى رأي العين، وما عملت من شر معلوما كذلك كأنه رئي بالحس والبصر، وتود كل نفس أن لو يتأخر أمدا طويلا بعيدا، وذلك لأن ما يخافه الإنسان يتمنى أن يتأخر ويؤجل؛ ليكون عنده أطول فسحة من الأمان. وهنا عدة مباحث لفظية تجلي المعنى:
المبحث اللغوي الأول - متعلق (يَوْمَ تَجِدُ): لقد ذكر العلماء ثلاثة توجيهات؛ أولها ذكره الزمخشري أنه متعلق بـ " توَد " والمعنى: توَد كل نفس لو
1181
أن بينها وبينه أمدا بعيدا أي زمنا طويلا وقت أن تجد كل ما عملت محضرا من خير أو سوء.
وهذا يؤدي إلى أن من عملت خيرا تود أمدا بعيدا، مع من عملت سوءا، مع أن رجاء الثواب يسوغ تمنى المسارعة لَا تمنى التأجيل؛ ولهذا لَا نوافق عليه.
والوجه الثاني: أنه متعلق بقوله تعالى: (وَيُحَذّرُكُم اللَّه نَفْسَهُ) بدليل قوله تعالى مكررا التحذير، فقال: (وَيُحَذِّرُكُم اللَّهُ نَفْسَه) مرة أخرى، ولكن يرد على هذا بعد القول، ومجيء جملة مستقلة بينهما، واختلاف القائل؛ فالأول من قول الله ئعالى والتحذير من الله، والثاني من قول النبي - ﷺ - بأمر الله ولكن قد يرد هذا الاعتراض بأن قوله تعالى: (قُلْ إِن تخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ) معترضة بين كلامين متلازمين للمسارعة بإثبات شمول علم الله تعالى وقدرته.
التوجيه الثالث: أنه متعلق بمحذوف تقديره: اذكروا، وهذا أسلمها في نظري.
المبحث اللغوي الثاني - قوله تعالى: (وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ) أهي معطوفة على (مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ) أم " ما " مبتدأ خبره " تود "؛ أظهر الأقوال أنها مبتدأ وجملة تود خبر، والمعنى: ما عملت: ما عملت من خير تجده محضرا، وما عملت من سوء تتمنى كل نفس أن يكون بينها وبينه أمد بعيد.
المبحث الثالث - الأمد اسم للزمان كالأبد يتقاربان، لكن الأبد كما قال الأصفهاني مدة من الزمان ليس لها حد محدود، ولا يتقيد، فلا يقال: أبد كذا؛ أما الأمد فمدة لها حد مجهول، إذا لم يضف إلى غاية معينة، فإن أضيف كان محدودا بهذه الغاية. والمعنى أن النفس التي تجد عملها السعي محضرا تود لو يتأخر أمدا بعيدا، ولكن لَا تحقيق لهذا التمني.
ولقد كرر الله سبحانه التحذير من نفسه تذكيرا، وليكون في بال المؤمن دائما، ولبيان أن ذلك التحذير من دواعي الرحمة كما هو من تربية الرهبة، فهو
1182
قد ذكر تمهيدا لقوله تعالى: (وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) فتذكير العباد وتحذيرهم من رحمته بهم حتى لَا يؤخذوا أخذ عزيز مقتدر، وختمت الآية بهذا التذييل الكريم؛ لإثبات أن عقاب المسيء وثواب المحسن من الرحمة، فليس من الرحمة في شيء أن يتساوى المحسن والمسيء، ولإثبات أن ولاء المؤمنين ومعاداة الكافرين من الرحمة بالعباد، حتى لَا يعم الظلم وينتشر الفساد. اللهم وحِّد الولاية الإسلامية، واجعل المسلمين جميعا بعضهم أولياء بعض.
* * *
(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (٣٢)
* * *
يؤمن المؤمن رغبة في الثواب، ويؤمن المؤمن خوفا من العقاب، ويؤمن المؤمن إذعانا للحق، ومحبة للرب، وإخلاصا وخلاصا من أدران الهوى، ومآثم هذه الدنيا؛ وتلك أعلى المراتب، وأشرف المناصب، وبها يعلو المؤمن.
وفى الآية السابقة حذر الله المؤمن من نفسه، فقال: (وَيُحَذّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) وقال: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) فكانت هذه الآية تدعو المؤمن إلى الطاعة ولزوم الجماعة بالترهيب، وفيها إشارة إلى الترغيب في قوله تعالى: (وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ).
وفى هذه الآية يدعو إلى الطاعة لَا خوف العقاب ولا رجاء الثواب، ولكن لأن الطاعة تؤدي إلى أعلى منازل السائرين، وهي المحبة: محبة الله لعبده، ومحبة العبد لربه.
قال بعض السلف: ادعى قوم محبة الله، فأنزل الله تعالى آية المحبة:
1183
(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) الأمر للنبي - ﷺ -، وجعل سبحانه وتعالى الخطاب منه للنبي - ﷺ - إليهم لبيان شرف النبوة وعلوها، ومكانة الاتصال بينها وبين الله سبحانه وتعالى، إذ جعل اتباع الرسول يكون من نتائجه محبة الله تعالى.
وكون النبي - ﷺ - هو الذي يخاطب بذلك ويقرره، وأن الله تعالى يمضي ما يقرره، علو بمقام الرسالة المحمدية، وبمقام النبوة؛ لأن فيه إشعارا بعظم محبة الله لنبيه، وأنها فوق كل محبة؛ فإذا كان من يتبعه يحبه، فهو إذن في أعلى درجات المحبة، ولأن فيه بيان أقوى الاتصال، لأن خطابه لهم هو خطاب من الله لهم، بدليل أن المحبة من الله تجيء نتيحة لاتباعه الذي دعا إليه - ﷺ -.
وقوله تعالى: (إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) فيه إيجاز معجز، وهو إيجاز حذف دل عليه المقام؛ لأن المعنى: إن كنتم تحبون الله فاتبعوني، وإن اتبعتموني يحببكم الله؛ لأن جواب فعل الأمر في معنى الجزاء، فكان ثمة فعل شرط مقدر، وإن هذه الجملة السامية تدل على ثلاثة أمور:
أولها: أن أول طوق محبة الله تعالى هو اتباع الرسول - ﷺ -، لأن طاعة الرسول طاعة لله تعالى جلت قدرته، وعصيان الرسول عصيان لله تعالى، وليس من المعقول أن يحب الله تعالى ويعصيه؛ ولذلك يقول الشاعر الصوفي:
تعصى الإلهَ وأنت تُظهر حُبَّهُ هذا لعَمْرِي في القِيَاس بَدِيعُ
لو كانَ حُبُّك صادقًا لأطَعْتَهُ إن المحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ
الأمر الثاني الذي يدل عليه النص الكريم: أن الطاعة ومحبة العبد لربه يترتب عليهما حتما محبة الله سبحانه وتعالى لعبده. وأي منزلة للطاعة أسمى من أنه يتبعها حتما محبة الله سبحانه وتعالى.
الأمر الثالث الذي يدل عليه النص القرآني: (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) أن من يصل إلى مرتبة المحبة التي تبتدئ بالطاعة وتنتهي بمحبة الله تعالى يغفر له الله
1184
سبحانه وتعالى كل ما كان له من تقصير سابق وإثم قد جلته المحبة عن القلب؛ وذلك لأن السيئات أدران تعلق بالقلب، فإذا وصل إلى درجة محبة الله تعالى، بعد قيامه بحق الطاعات، انصهر قلبه بهذه المحبة، وإذا انصهر القلب بالمحبة زال عنه كل خبث ومحي كل درن، فصفا، والله سبحانه وتعالى يغفر لمن يصل إلى هذه المرتبة. ولقد ذيل الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله: (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ):
وصفان كريمان للذات العلية: أولهما أنه غفور؛ أي أنه كثير الغفران لعباده؛ لأن فعول تدل على المبالغة، ووصف الله تعالى نفسه بهذا الوصف للإشارة إلى أنه يحب من عباده الطاعة، ويحب من عباده التوبة، فهو ليس كحكام الدنيا الذين يفرضون العقاب ولا يتمنون لرعاياهم الخلاص منه، بل يتمنون إنزال العقوبة بهم، والله سبحانه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم يقبل التوبة عن عباده، ويحب المغفرة، ولذلك وصف بالتواب، فالعقاب ليس لذاته، ولكن لكيلا يتساوى المسيء بالمحسن، وليحمل المسيء على الطاعة ويستمر المحسن على إحسانه.
والوصف الثاني الذي وصف به ذاته العلية: أنه رحيم. وكان من رحمته أن قبل التوبة وغفر الذنب، ومن رحمته أنه أرسل الرسل بالبينات ليقيموا القسط بين الناس، وَيُعَلِّمُوا هذه الشرائع التي بها صلاح الدنيا، وبها تقوم على الخير والفضيلة، ولذا قال سبحانه وتعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)، وكان من رحمته أن سنَّ العقاب للمسيء المستمر على إساءته الموغل في الفساد، فإن من يفسد في الأرض يكون من الرحمة عقابه، ومن لا يرحم الناس كان من مقتضى الرحمة بالناس أن لَا يرحم؛ ولذا قال النبي - ﷺ -: " من لَا يَرحم لَا يُرحم " (١).
________
(١) رواه البخاري: الأدب - رحمة الولد وتقبيله (٥٥٣٨)، ومسلم: الفضائل - رحمته - ﷺ - الصبيان والعيال (٤٢٨٢).
1185
وقبل أن نترك الكلام في هذه الآية الكريمة، لابد من الإشارة الواضحة إلى أمرين:
أولهما: في معنى الاتباع الذي يوجب المحبة، ومعنى ترتيب المحبة على الاتباع.
وثانيهما: التعريف بهذه المحبة التي يتصف بها العبد، وتترتب عليها محبة الله تعالى: أهي الطاعة أم شيء أعلى من الطاعة؛ وما محبة الله: أهي الرحمة أم أمر أعلى من الرحمة والإحسان، ولله الفضل والمنة في كل حال.
أما بالنسبة للأمر الأول؛ فإن النص الكريم (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) يفيد الطريق والغاية، أو الدليل والنتيجة؛ أما الطريق فهو اتباع الشريعة، وأما الغاية القصوى فهي محبة العبد لربه، ومحبة الرب لعبده، أي تبادل المحبة بين الخالق والمخلوق، وكل بما يليق به، وبما يتفق مع نوع وجوده؛ فواجب الوجود وذو الكمال المطلق جل جلاله محبته تليق بذاته العلية، وجائز الوجود الحادث المخلوق محبته حال يتفق مع حدوثه، ونقص وجوده.
وقد فصل الله الاتباع الذي يوجب المحبة السامية بعض التفصيل في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ...).
فعلامات الاتباع التي يترتب عليها أن يحبهم الله ويحبوه، أربع:
أولها: أنهم أذلة على المؤمنين، وقد قال عطاء في هذا: إنهم للمؤمنين كالولد لوالده والعبد لسيده، وعلى الكافرين كالأسد على فريسته: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ...).
والعلامة الثانية: أنهم أعزة على الكافرين، أي لَا يخضعون للكافرين ولا يحالفونهم على المؤمنين، ولا يختارون أن يدخلوا في ولايتهم ويتركوا ولاية المؤمنين.
1186
العلامة الثالثة: الجهاد في سبيل الله بالنفس واللسان والمال، وذلك هو تحقيق دعوى المحبة.
والعلامة الرابعة: أنهم لَا يأخذهم في الله لومة لائم، وهذه علامة صحة المحبة، فكل محب أخذه اللوم عن محبوبه فليس بمحب على الحقيقة (١).
تلك هي آيات الاتياع الذي يوجب هذه المحبة، وقد وصف النبي - ﷺ - كمال الإيمان الذي يوجب هذه المحبة، فقال: " أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما " (٢) وهذا الوصف هو الجامع لكل الأمارات التي لَا يند عنه (٣) شيء منها.
هذا هو القول في الأمر الأول، وهو الاتباع الذي تترتب عليه المحبة. بقي أن نتكلم في الأمر الثاني وهو التعريف بالمحبة التي تكون من الله للعبد، والمحبة التي تكون من العبد لله تعالى:
أما محبة الله فحال من أحوال الذات العلية لَا نعرف كنهها، ولا ندرك حقيقتها وهي تليق بذاته الكريمة، وتتفق مع صفات الجلال والكمال التي يتصف بها واجب الوجود، والذي خلق بقدرته كل موجود، وهي غير الإحسان، وإن كانت من فضل الله، وغير الرحمة، وغير الرضا؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعلها لبعض عباده، والإحسان والرحمة يَعُمَّان كل موجود، والرضا وإن جعله جزاء أعلى للمحسنين، كما قال في جزاء المؤمنين بعد ذكر الجنات والنعيم المقيم: (وَرِضْوَانٌ منَ اللَّهِ أَكْبَرُ...)، نجد المحبة أكثر منه. وقد ذكرها الله سبحانه وتعالى فكان هذا دليلا على أنهما متغايران بالنسبة لذاته العلية، كما أن المدلول اللفظي لهما متغاير، وإن كانت المحبة تتضمن الرضا لَا محالة، بل إنها لا تكون إلا حيث يكون أقصى الرضا، هذه إشارة إلى محبة الله لبعض عباده الذين اصطفاهم.
________
(١) جاء في هامش الأصل: راجع في هذا الجزء الثالث من " مدارج السالكين "، ابن قيم الجوزية، ص ١٤.
(٢) البخاري: الإيمان - حلاوة الايمان (١٥)، مسلم: الإيمان (٦٠).
(٣) أي لَا يشرد. نَدَّ البعير يَنِدُّ نُدودا إِذا شَردَ. لسان العرب - باب النون - ندد.
1187
وأما محبة العبد لربه، فقد قال الحارث المحاسبي في تعريفها بأنها الميل بكُلِّيته لربه، وإيثاره على نفسه وماله، ثم مرافقته له سرا وجهرا، ثم اعتقاده تقصيره في حقه مهما يؤدِّ من واجبات وطاعات.
ومحبة العبد لربه غير طاعته المجردة لأوامره ونواهيه، وإن كانت ملازمة للاتباع المطلق للأوامر والنواهي، وفي الحقيقة إن طاعة العبد لربه لها مرتبتان: أولاهما: الطاعة رجاء الثواب وخوف العقاب، والثانية: الطاعة محبة لله تعالى ولقد قال في هذا المعنى النبي - ﷺ - في وصف بعض أصحابه " نعم العبد صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه ". ولقد قال الله تعالى في وصف المؤمنين المتقين: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا)، فإن هذا النص الكريم دل على أن ثمة مقامين جليلين: مقام الطاعة رجاء الثواب وخوف العقاب، والطاعة بالتوسل إلى الله والتقرب منه، كما قال تعالى: (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) وهذا مقام الطاعة محبة وازدلافا إليه سبحانه، وهذه هي الوسيلة المبتغاة، والمحبة المرتجاة، وإن المحبة تقتضي الأنس بذكر الله تعالى، فتكون النفس ممتلئة بالسرور لقرب الله، ومعرفة الله، وكمال العبودية له، والشعور بكمال ألوهيته، حتى يستغرق ذلك كل حسه، وكل نفسه وقلبه، ولا يكون موضع لتذكر سواه.
والمحبة هي غاية التصوف العالي وسمته وعنوانه؛ ولذا يقول ابن القيم في مدارج السالكين: " المحبة سمة هذه الطائفة المسافرين إلى ربهم، الذين ركبوا جناح السفر إليه، ثم لم يفارقوه إلى حين اللقاء، وهم الذين قعدوا على الحقائق، وقعد من سواهم على الرسوم ".
والمحبة ثلاث درجات:
أولاها: استغراق النفس بذكر الله، فلا يرتفع إلى مقامه في القلب ذكر شيء سواه، ويصف الهروي في " منازل السائرين " تلك المحبة بأنها: تقطع الوساوس، وتسلي عن الصائب، وتثبت ئلك الدرجة من الشعور بقوة الله، ومن اتباع السنة المحمدية، والشعور بالحاجة والفاقة إليه تعالى.
1188
والدرجة الثانية: وهي أعلى من هذه في درجات المحبة - هي التي يلهم فيها اللسان بذكر الله بعد امتلاء القلب، والجوارح بإيثار الحق، ويقول فيها ابن القيم: " فيها مطالعة الصفات، وشهود معاني آياته المسموعة، والنظر إلى آياته المشهودة. وكل منها داع قوى إلى محبته سبحانه؛ لأنها أدلة على صفات كماله، ونعوت جلاله، وتوحيد ربوبيته وألوهيته، وعلى حكمته وبره وإحسانه، ولطفه وجوده، وكرمه وسعة رحمته، وسبوغ نعمه، فإدامة النظر فيها داع لَا محالة إلى محبته " (١).
والدرجة الثالثة: المحبة التي يكون فيها الشهود بنور القلب. وجاء في " منازل السائرين " في هذه المحبة (هذه المحبة هي قطب هذا الشأن، وما دونها محاب نادت عليها الألسن، وادعتها الخليقة وأوجبتها العقول).
هذه إشارات موجزة إلى ما يقوله أهل التصوف في المحبة بين العبد وربه، وقد قبسنا منها قبسة نرجو أن تضيء في هذا الموضوع، وإن كانت لَا تدفئ.
وإن العبرة في هذا الموضوع هي أن الشريعة لَا يصح أن تنسى حتى في أعلى مقام للمحبة، فإنها هي الدليل المرشد، والمصباح المنير لمن يريد أن يصل إلى درجة المحبة الحقيقية، وهي أعلى درجات الإيمان، وأقوى درجات الاتباع. فاتباع أحكام الشرع هو طريق المحبة عند أهل السنة الراشدين، وتنكب طريق الاتباع وادعاء الارتفاع عن التكليف هو مَخْرَف أهل الابتداع الضالين.
وإذا كان ذلك هو الحق، فإطاعة الله ورسوله هي فيصل التفرقة بين الحق والباطل وبين محبة الله ومحبة الضلال، وبين الإيمان والكفر، ولذا قال سبحانه وتعالى بعد ذلك:
________
(١) (مدارج السالكين) جـ ٣ ص ٢٥.
1189
(قلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ).
الأمر للنبي - ﷺ - بأن يدعوهم إلى طاعة الله وطاعته، وهو معنى الاتباع في الماضي، وتكرر الأمر بهذه الصيغة للإشارة إلى أن اتباع الرسول هو طاعة لله
1189
ولل سول، فمن اتبع الرسول لايطيع الرسول فقط، بل يطيع الله رب العالمين، وما كان الرسول ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، والسبب في التكرار في ذاته هو تأكيد المعنى الذي قررناه، وهو أن محبة العبد للرب ليس لها طريق إلا الاتباع، ولذا يقول الزمخشري في الكشاف: " من ادعى محبته وخالف سنة رسوله فهو كذاب، وكتاب الله يكذبه، وإذا رأيت من يذكر محبته، ويصفق بيديه مع ذكرها، ويطرب وينعر ويصفق، فلا تشك في أنه لَا يعرف ما الله، ولا يدري ما محبة الله. وما تصفيقه وطربه ونعرته وصعقته إلا لأنه تصور في نفسه الخبيثة صورة مستملحة معشقة فسماها الله بجهله ودعارته ثم صفق وطرب ونعر وصعق على تصورها ".
وهنا إشارة بلاغية تتفق مع المقصد الأسمى من الآيتين الكريمتين، وهو إثبات أن محبة الله تعا أي طريقها المستقيم الذي لَا عوج فيه هو اتباع الرسول، وتلك الإشارة أنه سبحانه قال: (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ) فقد ذكر الأمر بالإطاعة غير مكرر عند العطف، فلم يقل: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول، وعدم التكرار يومئ إلى أن الطاعة واحدة، وأن إطاعة الرسول إطاعة لله تعالى، كما صرح سبحانه وتعالى بذلك في قوله تعالى: (مَن يُطِع الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا)، وإن من إعجاز القرآن الكريم أن تكون العبارات والإشارات البيانية كلها تتجه إلى مقصد النص الكريم وترشح له.
(فإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) أي فإن أعرضوا عن اتباع ما تدعوهم وهو اتباعك الذي به تكون إطاعة الله ومحبته، فإنهم لَا ينالون محبة الله تعالى؛ لأنهم كافرون؛ إذ تعمدوا ألا يطيعوك، وأنكروا أن اتباعك طريق محبة الله رب العالمين. ففي هذا النص الكريم دلالة على أن محبة الله لَا ينالها إلا من يتبع الرسول بأبلغ ما يكون من بيان، وذلك لوجوه:
1190
أولها: أنه سبحانه عبر بأنه لَا يحبهم، وليس بعد نفي الحب إلا البغض والسخط، فالله ساخط على من لَا يتبعون الرسول، وإذا كان رب العالمين ساخطا عليهم، فمن المؤكد أنه لم يعتبر حالهم حال من يحبونه ويبتغون رضاه.
وثانيها: أنه عبر عن تركهم اتباع الرسول بالتولي وهو الإعراض، وكيف يكون طالبا لمحبة الله من يعرض عن طاعة الله.
وثالثها: أنه سبحانه وتعالى عبر عنهم في حال الإعراض متعمدين منكرين بأنهم كافرون، وكيف يكون محبا لله ومحبوبا من الله من يكون كافرا بأوامره، منكرا لرسالته، معاندا لرسوله! إن ذلك في القياس غريب.
اللهم وفقنا لاتباع نبيك لنرتفع إلى مقام من يحبونك، ولننال سمو محبتك. فقد قال نبيك وقوله الحق: " إن اللَّه إذا أحب عبدا دعا جبريل فقال إني أحب فلانا فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض. وإذا أبغض عبدا دعا جبريل، فيقول إني أبغض فلانا فأبغضه، قال: فيبغضه جبريل ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلانا فأبغضوه فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض " (١).
* * *
(إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (٣٣) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤) إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ
________
(١) رواه مسلم: البر والصلة والآداب - إذا أحب الله عبدا حببه إلى عباده (٤٧٧٢)، وأحمد: باقي مسند المكثرين (٨٩٨٤)، ورواه البخاري: التوحيد - كلام الرب مع جبريل ونداء الله الملائكة (٦٩٣١).
1191
وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (٣٦) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (٣٧)
* * *
أشار سبحانه وتعالى في الآيات السابقة إلى اختلاف المشركين وقتالهم المؤمنين وإلى اختلاف أهل الكتاب فيما بينهم، وقال سبحانه وتعالى: (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ...)، ثم أشار سبحانه إلى محبته لعباده الذين يطيعونه ومحبتهم له، ورأفته سبحانه وتعالى بعباده، وسبق رحمته لغضبه وفي هذه الآيات:
1192
(إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) بين سبحانه وتعالى وحدة الإنسانية التي ما كان يسوغ معها خلاف إلا ممن ضل سبيل الهداية، ووحدة النبوة والرسالة الإلهية، التي وحدت بها شريعته تعالى، وما كان يسوغ بعد هداية الله تعالى خلاف إلا إذا كان الضلال. ثم بين سبحانه من يجتبيهم ومن يصطفي ويحب من عباده، وكيف يحبونه هم ويخلصون لذاته العلية: بأن يسلموا وجوههم له سبحانه وتعالى، ويحررون أولادهم لعبادة الله تعالى.
وقد ذكر سبحانه وتعالى في هذا أربع قصص، كلها يصور قدرة الله سبحانه وتعالى وإرادته في خلقه، ولا تخلو واحدة منها من خوارق العادات.
وأولى هذه القصص: قصة مريم البتول، وكيف كانت خالصة لله تعالى مذ حملت بها أمها، حتى ولدت، ولزمت المحراب، وكفلها زكريا، وكيف كانت مرزوقة مكفولة يأتيها رزقها رغدا بغير حساب.
1192
والقصة الثانية: قصة زكريا، وكون الله سبحانه وتعالى قد وهب له يحيى، مع أنه كان قد بلغ من الكبر عتيا، وامرأته عاقر، وبذلك خرقت العادة المعروفة، وهو أن العاقر لَا تلد قط، وهذا قد أنجب وقد أصابته الشيخوخة، وامرأته عاقر لا تلد.
والقصة الثالثة: قصة ولادة السيد المسيح عليه السلام، وقد كان ذلك أعظم خرق للعادات، إذ ولد من غير أب، وفي ذلك تتسلسل القصص الثلاث في خوارق تبتدئ بالخارق القريب من المعروف ثم بغير المعروف مطلقا، ثم بالخارق الغريب الذي لم يعرف قط لغير عيسى بعد أن انتشر بنو آدم في الأرض. القصة الرابعة: قصة حياة عيسى، التي اشتملت على خوارق كثيرة كانت في ذاتها أغرب من ولادته؛ منها: إبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى بإذن الله على يديه، وهكذا غيرها.
وقصص القرآن ليس المقصود منه مجرد السرد التاريخي، كما يسجل التاريخ وتدون قصصه، إنما قصص القرآن المقصود به أولا: العظة والاعتبار، كما قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ...)، ثم ثانيا:
إثبات صدق الرسول - ﷺ -؛ وذلك لأن هذا القصص الحق يتفق مع الصادق من كتب أهل الكتاب يجري على لسان أمي لَا يقرأ ولا يكتب، ولم يجلس إلى معلم، ولم تعرف ملازمته لأحد من أهل الكتاب حتى يطلعه على ذلك، بل كان المنقطع في بلد أمي ليس به علم يدرس، ولا فلسفة تبحث. ثم المقصود ثالثا: بيان وحدة الشرائع الإلهية السماوية؛ لأنها جميعها تنبعث عن مصدر واحد، وهو رب السماوات والأرض وما فيهما؛ فبيان قصص النبيين السابقين وما كانوا يلقون في الدعوة إلى التوحيد دليل على أن التوحيد هو الوحدة الجامعة - بين كل الشرائع، وهو الحد الفاصل بين ما هو من السماء، وما هو من إفك أهل الأرض. وفي بيان قصص النبيين تسلية للنبي - ﷺ -، وتسرية عن شدائده بالاستبصار فيما لقيه غيره من عنت.
1193
وفى قصص النبيين وكفر أقوامهم مع الآيات الحسية التي أتى بها النبيون بيان أن الكفر ليس منشؤه نقصا في البينات، ولكنه ينشأ من الجحود وغلبة الهوى، والإعراض عن مناهج الاستدلال الصحيح. ولعل أوضح مثل لذلك، الآيات التي أجراها الله تعالى على يد عيسى عليه السلام، فما كانت وراءها آيات تقرع الحس، وتدل على خوارق العادات كهذه الآيات، - ومع ذلك كفروا وما آمنوا، وما ازدادوا إلا طغيانا وعتوا.
هذه تقدمة نقدم بها قصة أولئك الأبرار الأطهار، ونبتدئ بما ابتدأ به القرآن الكريم من قصة مريم البتول: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وًالَ إِبْرَاهِيمَ وآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ):
معنى الاصطفاء: طلب الصفوة من كل شيء، ولذلك قالوا إن معناها اختارهم مؤثرا لهم على غيرهم، وفي التعبير بالاصطفاء إشارة إلى أن آدم ونوحا، وآل إبراهيم وآل عمران هم صفوة الناس والتعبير بعلى في قوله تعالى: (عَلَى الْعَالَمِينَ) إشارة إلى معنى التفضيل على غيرهم من الناس؛ فهم صفوة الناس، وهم مفضلون على كل الناس. وآل إبراهيم هم أسرة إبراهيم بفروعهم، سواء منهم من أووا إلى مكة وكان منهم صفوة الخلق محمد - ﷺ -، ومن كانوا في الأرض المقدسة وكان منهم النبيون من بعد، وآل عمران هم ذرية عمران، وهو أبو مريم البتول، ومن ذرية عمران السيد المسيح عليه السلام الذي خلقه رب العالمين بكلمة منه هي " كن ".
وإن في ذلك التسلسل إشارة إلى أن الخليقة لم تخل من هاد يهديها إلى الحق وإلى صراط مستقيم؛ فقد ابتدأت الهداية بأبي الإنسانية آدم كما قال تعالى: (ثمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى)، فهو أول خليفة، وأول هاد للإنسانية بمقتضى أبوته، وبمقتضى اجتباء الله تعالى له، وقد حكم بأنه هداه، واهتدى به بنوه من بعده.
1194
ثم جاء نوح من بعده بسنين وقرون لَا يعلمها إلا علام الغيوب، وهو الأب الثاني للخليقة، فاصطفاه رب العالمين للهداية كما قال تعالى: (كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ... ).
ثم جاء من بعد ذلك بقرون لَا يعلمها إلا فاطر السماوات والأرض أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، فكان هو وآله من أقارب كلوط وذريته التي جاء من بعده فيها صفوة الخلق وفيهم النبوة، فكان منهم إسماعيل ومحمد في فرع، وإسحاق وبنوه في فرع آخر، وكان من هؤلاء آل عمران وهم ذرية عمران وأقاربه كزكريا ويحيى عليهما السلام، ومن تلك الدوحة النبوية عيسى عليه السلام الذي ختمت به تلك الشعبة من أولاد إبراهيم. وتسلم الرسالة الخالدة إلى يوم القيامة الفرع الثاني من أولاد إبراهيم وهم ذرية إسماعيل، فكان محمد، وبه ختمت الرسالة الإلهية في هذه الأرض. وعمران هذا هو أبو مريم كما نصت على ذلك الآية التالية، ولا حاجة لفرض أنه عمران آخر، وهو أبو موسى، فذكر اسم واحد في مقام واحد يشير إلى أن المدلول واحد، ولا حاجة إلى فرض التغاير. وكلمة الآل تشمل الأقارب من العصبات، والذرية.
ولقد بين الله سبحانه بعد ذلك تسلسل هذه الصفوة المختارة بعضها من بعض فقال:
1195
(ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ):
الذرية هم الفروع من الأولاد وأولادهم مهما نزلوا، وأصلها من مادة " ذرأ "، وقيل من " الذرو "، وقيل من " الذر "، وكل هذه الألفاظ تنتهي إلى التكوين والتفريع فرعا من بعد فرع؛ ومعنى النص الكريم أن أولئك المصطفين الأخيار بعضهم ذرية من بعض، فهم متصلو النسب بسلسلة لَا تنقطع، فنوح من ذرية آدم، وآلُ إبراهيم من ذرية نوح، وآل عمران من ذرية آل إبراهيم، وهكذا، فهي سلسلة متصل بعضها ببعض في النسب والهداية. ويترتب على أن بعضهم من بعض أن تتشابه صفاتهم في الخير والفضيلة ما داموا جميعا مصطفين، وما داموا جميعا من سلسلة ونسبة واحدة. وقد قال بعضهم إن معنى (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ
1195
بَعضٍ) أنهم متشابهون، كقوله تعالى (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ...)، فهم يشبه بعضهم بعضا، وهم ذرية واحدة لآدم. والحق أن ذلك المعنى يجيء بالالتزام من المعنى الأول فليس مغايرا له من كل الوجوه.
ثم ختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله: (وَاللَّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ) إشارة إلى كمال إحاطته، وإلى أنه إذ اصطفى هؤلاء اصطفاهم على علم كعلم من يسمع، أي أنه علم دقيق لَا يخفى على الله شيء في الأرض ولا في السماء، وإن ذلك النص الكريم فيه تمهيد لما سيتلى من بعد، وهو قول امرأة عمران، فقد قال تعالى حاكيا عنها:
* * *
1196
(إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥)
* * *
فقوله تعالى: (إِذْ قَالَتِ امْرَأَت عِمْرَانَ) متعلق بقوله تعالى:
(وَاللَّهُ سمِيعٌ عَلِيمٌ) أي أن الله سبحانه وتعالى كان يعلم علم من يسمع في الوقت الذي قالت فيه أمرأة عمران ذلك القول، فهو سبحانه وتعالى سمع قول امرأة عمران ذلك القول، ونَذْرَها ذلك النذر، وقد عقدت العزم على أن يكون ما في بطنها خالصا لله سبحانه وتعالى؛ ومعنى النذر التزام التقرب إلى الله تعالى بأمر من جنس العبادات المفروضة؛ وقد نذرت هذه السيدة الكريمة لله، أي التزمت لله أن يكون ما في بطنها محررا، أي خالصا لله سبحانه وتعالى ولخدمة بيته المقدس؛ فمعنى " محررا " أي مخلصا للعبادة والمناجاة، ومن أخلص للعبادة فقد صار عتيقا من كل رق في الدنيا، فهو عتيق من رق الهوى، ومن رق الرجال، ومن رق ذوي السلطان، لأنه يكون خالصا لمالك الملكوت، ومن خلص له تعالى فقد عتق من كل رق في الدنيا.
وعمران: هو أبو مريم بهذا النص، وهو عمران المذكور أولا كما ذكرنا، وفرض المغايرة بأن يكون الأول عمران أبا موسى، وأن عمران هذا هو أبو مريم، تكلف لَا حاجة إليه، وليس في النص ما يدل عليه.
1196
قصدت امرأة عمران تلك العبادة واحتسبت هذه النية راجية ما عند ربها، وأول رجائها أن يقبل نذرها، ولذلك تضرعت إليه أن يقبل فقالت: (فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ). أي أضرع إليك أن تقبل نذري، فإنك سمعت ما قلت، وما حدثت به نفسي، وما احتسبت به القربى عندك، فكان النذر بذاته عبادة، وكان الدعاء بالقبول عبادة أخرى، فان الدعاء مخ العبادة، خصوصا في ذلك المقام الروحاني السامي الجليل، والتقبل هو الأخذ بالأمر في طريق القبول، حتى يتم القبول، فكأنها ما كانت تطمع في القبول بادئ ذي بدء، بل تطمع في أن ينظر في الأمر نظرة رضا حتى ينال القبول، وتلك مرتبة الصديقين يستصغرون أعمالهم بجوار رضا الله. ولقد كانت إجابة الله تعالى لهذه العبادة التي طويت في ثنايا النذر، والعبادة الأخرى التي طويت في ثنايا ذلك الدعاء الضارع، ما حكاه بقوله تعالى من بعد لما وضعتها:
* * *
(فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بقَبُولٍ حَسَنٍ... (٣٧)
* * *
وهي في نذرها وفي ضراعتها لقبول هذا النذر كانت تفرض أن الحمل ذكر، لأنه هو الذي يصلح لسدانة المسجد الأقصى والبيت المقدس، ولكنها عند الولادة تبين أنها أنثى، فذكرت ذلك، وأشارت في ذكرها إلى تقديرها وفرضها، ولذا حكى الله عنها أنها قالت:
1197
(فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى) أي أنها قدرت الحمل ذكرا، وقدرت لذلك أن يكون في خدمة البيت وأنها لذلك تتحسر، لأنه لَا يستطيع المولود بعد أن تبين أنه أنثى الخدمة، فليس في هذه الخدمة المقدسة الذكر كالأنثى، فإن الأنثى لَا تستطيع ذلك. وقوله تعالى: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ) جملة معترضة بين كلاميها؛ وهي تشير إلى أن الله تعالى أعلم منها بما وضعت، فليس لها هذا الاعتذار لأن من تعتذر إليه، وتتحسر بين يديه أعلم منها بما وضعته؛ لأنه هو الذي خلقه وجعله أنثى؛ وهو أعلم بما يصلح له، وهو وحده العليم بما هيّأ له في لوح القدر، فإذا كانت لَا تستطيع خدمة البيت كالذكر فقد اختارها رب العالمين ليكون منها عيسى عليه السلام من
1197
غير أب، ولذا قال الزمخشري في هذا قال الله تعالى (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ) تعظيما لموضوعها.. ومعناه والله أعلم بالشيء الذي وضعت وما علق به من عظائم الأمور، وأن يجعله وولده آية للعالين، وهي جاهلة بذلك لَا تعلم عنه شيئا ". وقوله تعالى: (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى) إما من كلام الله فيكون في الجملة المعترضة، ويكون المعنى وليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي أعطيت في الشرف والمكانة والعبادة بل هو دونها، وهذا هو الظاهر، وإما أن يكون من كلامها وهو غير الظاهر، إذ يكون الأولى حينئذ التعبير بقولها: وليس الأنثى كالذكر لأنها ترى الذكر أفضل.
ومع أن هذه التَّقِيَّة تتحسر على أن مولودها لم يكن ذكرا كما قدرت، ليكون في خدمة بيت الله تعالى كما نوت، فقد رضيت بما وهب الله تعالى، وضرعت إليه أن يهديها ولذا قالت:
(وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) فهي قد اختارت الاسم راضية بما أُعطيت، قال الزمخشري في الكشاف: " وإن اختيار الاسم فيه تقرب إلى الله تعالى، لأن مريم في لغتهم معناها العابدة والخادم، فأرادت بذلك التقرب إلى الله، والطلب إليه أن يعصمها، حتى يكون فعلها مطابقا لاسمها، وأن يصدق فيها ". ولذا طلبت إلى ربها أن يعيذها وذريتها من الشيطان الرجيم. ومعنى الإعاذة أن تكون في ملجأ من الله تعالى يعصمها من الشيطان؛ وذلك لأن التعوذ الالتجاء. فمعنى أعوذ بالله ألجأ إليه، وأتخذ منه معاذا، ومعنى أعذته بالله من الشيطان جعلت الله تعالى معاذا له منه، وهذه الإعاذة كانت دعاء من الله تعالى، فكان هذا الدعاء عبادة أخرى. وهكذا اقترنت ولادة مريم وحملها من قبل بعبادات متضافرة متوالية مستمرة، وضراعة تدل على خلاص النفس وإسلام الوجه لله تعالى.
والشيطان: ما يوسوس في النفس، وهو يجري من الإنسان مجرى الدم.
والرجيم أي المطرود المنبوذ من رحمة الله من وقت قال. له رب البرية: (قَالَ
1198
فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥).
وإن الله تعالى عصم بهذا الدعاء مريم وابنها من أن يمسهما الشيطان. وقد ورد في ذلك بعض الآثار.
ولقد قال الزمخشري في ذلك: يروى من الحديث " ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخا من مس الشيطان إياه إلا مريم وابنها " (١) فالله أعلم بصحته، فإن صح فمعناه أن كل مولود يطمع الشيطان في إغوائه إلا مريم وابنها، فإنهما كانا معصومين، وكذلك كل من كان في صفتهما كقوله تعالى: (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠).
، واستهلاله صارخا من مَسه تخييل وتصوير لطمعه فيه، كأنه يمسه ويضرب بيده عليه، ويقول: هذا ممن أغويه، ونحوه من التخييل قول ابن الرومي: لِمَا تُؤذنُ به الدنيا من صُروفها... يكونُ بكاء الطفلِ ساعةَ يُولَد تلك ضراعات امرأة عمران عند ولادة مريم البتول، وقد تقبل الله نذرها، وأجاب دعاءها؛ ولذا قال سبحانه:
________
(١) متفق عليه؛ رواه بهذا اللفظ البخاري: تفسير القرآن (٤١٨٤)، ومسلم: الفضائل - فضائل عيسى عليه السلام (٤٣٦٣).
1199
(فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا) قلنا إن التقبل هو أخذ الأمر بالنظرة الراضية المستحسنة غير المستهجنة، ويكون القبول نتيجة له، وقد ضرعت أم مريم أن يؤخذ نذرها مأخذ الرضا والاستحسان من ربها، فيقبل، وقد أجاب الله دعاءها، وعلى ذلك لَا يكون التقبل بمعنى القبول، ولقد قال في ذلك الراغب الأصفهاني: (إنما قال: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ)، ولم يقل: بتقبل حسن؛ للجمع بين الأمرين التقبل الذي هو التدرج في القبول، والقبول الذي يقتضي الرضا والإثابة).
هذا هو قبول النَّذر، أما إجابة الدعاء وهو ألا يمسها الشيطان - أو لَا يكون له سلطان عليها؛ لأنها من عباد الله المخلصين، فقد بينه الله تعالى بقوله: (وَأَنْبَتَهَا
1199
نَبَاتا حَسَنًا) أي أنشأها برعايته ومحبته وحَصَّنها، وكانت حالها كالنبات ينبته رب العالمين فينمو يوما بعد يوم حتى يستوي على سوقه، فكذلك كان مع مريم: تولى رعايتها من المهد، وغذاها بغذاء من الروح، فبعدت عن كل شر، وغذاها ونماها جسميا، فجعل لها رزقا مستمرا يأتيها من حيث لَا تحتسب، ولا يحتسب كافلها، أما التنشئة الروحية التهذيبية فقد كانت: بأن نشأت في بيت العبادة، وإن كان الكافل لها نبيا من الأنبياء، وأما الثاني فبالرزق المستمر كما أشرنا، وقد ذكرهما الله تعالى بقوله:
(وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا):
(وَكَفَّلَهَا): أي ضمها إلى زكريا، لأن الكفالة في أصل معناها الضم، وقد ضمها إليه لتكون في رعايته، وكان ذلك بإرادة الله، ونتيجة اقتراع كان بينهم، ذلك بأن الصالحين من قومها تنازعوا فيمن يكفلها، فاقترعوا فكانت القرعة لنبي الله زكريا، ولذا قال سبحانه: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ)، فكانت تلك القديسة الطاهرة في رعاية نبي، وتربت في مهد النبوة، لتكون هي وابنها آية للعالمين.
وأما كفالة الله تعالى لرزقها، فقد أشار إليها سبحانه بقوله: (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا) المحراب هو مقدم بيت العبادة، فكأنها كانت في عكوف دائم بالمسجد منذ غرارة الصبا، بل كان ذلك وهي بالمهد، والرزق كان يجيء من حيث لَا يحتسب كافلها، إما من هبات توهب لها، أو من فيوض الله تعالى عليها، وهو خالق كل شيء، فمن خلق من العدم كل هذه الموجودات قادر على أن يؤتي لهذه المصطفاة رزقا جاريا لَا يعلمه إلا هو، وهو على كل شيء قدير. ومن أنكر ذلك، فقد أنكر علم الغيب، وهذا التخريج الأخير هو ما نراه حقا، ولذا عجب زكريا منه، فقال سبحانه حاكيا عنه:
1200
(قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) عجب نبي الله فقال: أَنَى لك هذا؟ أي من أَين لك هذا؟ فإن أَنَّى تكون بمعنى كيف، كما قال تعالى: (فَأتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ...)، وتكون بمعنى من أين، وهي هنا كذلك؛ عجب نبي الله من هذا الرزق، وما كان العجب إلا لأنه لَا يعرف لسببه، ولو كان يعرف أنها هبات تأتيها ما ثار عجبه، ولقد كانت إجابتها إجابة الربانيين الأبرار؛ (قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ). أكدت أنه رزق الله، ولذلك أتت بالضمير، ثم أكدت ذلك بما يزيل العجب، فقالت: (إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقً مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) أي أن رزق الله كثير غير محدود بحد، ولا مقدر بقدر؛ ولذا لَا يحده الحساب، ولا تجري عليه الأعداد التي تنتهي. ويصح أن تكون هذه الجملة السامية من كلام الله تعالى لتقرير ما قالت، وبيان أن الله أجرى عليها الرزق لينمو جسمها مع نمو روحها، ويتم لها الإنبات الحسن في الجسم والروح معا، والله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير.
* * *
(هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (٣٨) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (٤٠) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (٤١)
* * *
1201
في الآيات السابقة ذكر سبحانه قصة ولادة مريم، وفي هذه الآيات يقص ولادة يحيى، وإن ولادة مريم كانت ذات صلة وثيقة بولادة يحيى عليه السلام، وإنها تتجه نحو خوارق العادات أكثر من ولادة مريم وحالها. فالقصص الأربع تتدرج في خوارق العادات، تبتدئ بالقريب من الألوف تم تنتهي بخوارق لم يكن للناس بها عهد من قبل.
وانتهينا في قصة مريم البتول إلى أن نبي الله زكريا كفلها، وأنها تربت منذ صغرها في المسجد، بيت الله المقدس، وأن الله أفاض عليها بالخير والنعم الظاهرة والباطنة، فملأ قلبها إيمانا وروحانية، وغذاها بلبان العرفة، وبغذاء مادي طيب.
ولقد كان زكريا، ومريم تدرج في مدارج الصبا، شيخا هرما يئس من الولاد، ولكنه عندما رأى مريم وتنشئتها على الإيمان والمعرفة ومحبة من الله تعالى، ورآها ترزق بغير حساب، ورأى منها مع صغر السن نجابة وتفويضا وإيمانا راسخا، حنَّ إلى الولد حنينا، ورغب في الذرية، وكان بين حالين متناقضتين: حال تلك الرغبة وعدم اليأس من رحمة الله القادر على كل شيء، وحال الكبر الذي أصابه، والشيخوخة الفانية التي هو فيها، ولكنه قد تحرك فيه عامل الرغبة عندما تكلم مع مريم في المحراب يسائلها عما عندها من رزق كلما دخل عليها، ؛ ولذا قال سبحانه وتعالى في قصته.
1202
(هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ) ففي هذه الحال التي رأى فيها مريم تغلب فيه جانب الرجاء على جانب اليأس، ولذا قال تعالى: (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ) أي في هذا المكان وهو المحراب الذي كان يلتقي فيه بمريم الفينة بعد الفينة، ويسائلها فيه، وتتكلم بلسان البر والتقوى، تحركت غريزة الأبوة في ذلك المكان المقدس، فدعا ربه. والتعبير بدعا ربه إشارة إلى شعوره بقدرة الله تعالى على كل شيء، إذ هو ربه الذي ذرأه ونماه صغيرا، حتى بلغ أشده ثم تولاه حتى بلغ من الكبر عتيا، فقد اتجه إذن في دعائه إلى الرب القادر العليم الذي أبدع كل شيء على غير مثال سبق، قال: (رَبِّ) أي
1202
خالقي الذي خلقني، وخلق كل شيء من طين، وصدر عنه كل ما في الوجود بإرادته العالية: (هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ) أي أعطني أنت عطاء كريما لَا سبب له إلا إرادتك، ولا باعث عليه إلا رحمتك، فلا يكون الأمر فيه جاريا على مقتضى الأسباب ومسبباتها، إنما يكون على مقتضى الهبة المجردة، والعطاء الخالص الذي لا سبب له إلا إرادتك الأزلية وإلا رحمتك: (مِن لَّدُنكَ) أي من عندك، أي السبب يكون من عندك لَا من عندي، لأن الأسباب عندي قد زالت، ولم يعد إلا سبب منك، وإلا معجزة تكون فيها المانح المعطي من غير أي علة أو ترتيب.
والتعبير بـ (لَّدُنكَ) التي لَا تكاد تستعمل في القرآن إلا في جانب الله تعالى يفيد العندية العالية السامية، لَا العندية القريبة المقارنة، ولا العندية المقاربة.
ودعاء نبي الله أن يهب له ذرية طيبة، فلم يذكر الله سبحانه عنه في هذه الآية سوى أنه يطلب ذرية طيبة، والذرية قد بينا معناها من قبل. والطيبة: هي الذرية الحسنة المرغوب فيها التي تكون ذات أثر طيب، لأن الطيب هو الأمر الحسن المحبوب المرغوب فيه الذي لَا ينتج إلا خيرا، ويأتي بخير الثمرات وأحسن النتائج، ومن ذلك قوله تعالى: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا...).
وبعد أن ضرع هذه الضراعة بدأ رجاؤه في الإجابة بقوله: (إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ) أي إنك تعلم بدعائي علم من يسمع، وإن الأمر إليك إذ علمته وسمعته؛ فإن أجبت فبرحمتك، وإن لم تجب فبحكمتك، فأنت العليم الحكيم، والرحمن الرحيم. والصيغة تفيد قرب الرجاء وإمكان الإجابة. وفى هذه السورة لم يبين سبحانه شكل الدعاء أكان جهرا أم كان خفيا، وفى سورة مريم بين حاله، وبين نوع ما يطلب من الذرية. ، فقال سبحانه: (كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (٣) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤) وَإِنِّي
1203
خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦) وفى هذا النص الكريم يتبين أنه مع رجائه كان يذكر شيخوخته الفانية، وكون امرأته عاقرا لَا تلد، ومع ذلك تغلب عليه جانب الرجاء، فدعا ذلك الدعاء، وضرع إلى الله تعالى تلك الضراعة، وقد أجاب الله تعالى دعاءه فور طلبه؛ ولذا قال سبحانه:
1204
(فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى) والتعبير بـ " الفاء " يفيد أن النداء كان في زمن قريب من الدعاء. وهنا ثلاث نقط نريد أن نوضحها بعض التوضيح:
أولاها: في النداء ونسبته إلى الملائكة، فهل خاطبه بهذا عدد منهم؛ لقد أجاب المفسرون عن ذلك بجوابين؛ أحدهما: أن الذي ناداه هو جبريل الذي ينزل بالوحي على النبيين، ولقد قال في ذلك التفسير ابن جرير الطبري " يقال خرج فلان على بغال البريد، وإنما ركب بغلا واحدا، وركب السفن، وإنما ركب سفينة واحدة، وكما يقال: ممن سمعت هذا؟ فيقال: من الناس، وإنما سمعه من رجل واحد، وقد قيل إن منه (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ...)، والقائل فيما ذكروا كان واحدا ".
هذا توجيه من قال إن المراد جبريل. وفي ذكر الملائكة بالجمع إشارة إلى الجنس، أي أن الله سبحانه كان من رحمته به أن أجاب دعاءه، وسارع بتبشيره بإجابته، وكانت الإجابة بملائكته، وإن كان المبلغ واحدا.
وأما التخريج الثاني: فهو أن المراد الجمع من الملائكة؛ لأن من كمال عناية الله تعالى بعباده أن ألقى إليه بالبشرى عدد كبير من الملائكة لَا واحد منهم، وهذا ما رجحه ابن جرير، ولذا قال: " والصواب من القول في تأويله أن يقال إن الله جل ثناؤه. أخبر أن الملائكة نادته، والظاهر من ذلك أن جماعة الملائكة دون الواحد، وجبريل واحد، فلا يجوز أن يحمل تأويل القرآن إلا على الأظهر الأكثر
1204
من الكلام المستعمل في ألسن العرب دون الأقل، ما وجد إلى ذلك سبيل، ولم تضطرنا حاجة إلى صرف ذلك إلى أنه بمعنى واحد، فيحتاج له إلى طلب المخرج بالخفي من الكلام والمعاني " ولا شك أن العدد فيه مبالغة بالتبشير، وكأن حال هذا النبي الكريم في يأسه من الولد لشيخوخته الفانية وكون امرأته عاقرا وعجوزا، كان يحتاج فيها إلى عدد من المبشرين ليزول من نفسه كل يأس، ويحل محله الرجاء.
النقطة الثانية: أن النداء الذي وجهته الملائكة كان وهو قائم يصلي في المحراب، فهو في وقت مواجهته لربه، ومناجاته لخالقه، وإنه بابتداء القول بالفاء الدالة على التعقيب من غير تراخ، وكون خطاب زكريا لمريم كان وهو في المحراب، وأن الدعاء كان وهو في المحراب، يتبين أن إجابة الدعاء كانت فور الدعاء، فهو قد ضرع إلى الله خالص النية، طاهر النفس والحس فأجاب الله دعاءه على سنته في إجابة المهديين من خلقه دعاءهم، كما قال تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهنَّمَ دَاخِرِينَ).
النقطة الثالثة: في قوله تعالى: (أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى) وهنا قراءتان في أن، إحداهما بالكسر على تضمين النداء معنى القول، أي فنادته الملائكة قائلين إن الله يبشرك بيحيى، والفتح على أن الباء محذوفة والتقدير فنادته الملائكة بأن الله يبشرك بيحيى، واقتران التبشير بالتسمية بيحيى للإشارة إلى أن ذلك المولود سيحيى اسمه وذكره بعد موته، وبذلك تتحقق الإجابة الكاملة للدعاء، إذ قال كما في سورة مريم (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦).
وقد أجاب المولى القدير كل دعاء زكريا، فكان المبشر به رضيا في خلقه ودينه؛ ولذا قال سبحانه في وصفه:
(مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ) وصفه الله سبحانه وتعالى بصفات أربع كلها بجعل من الله وتكوينه وخلقه: وأولى هذه الأوصاف:
1205
أنه كان مصدقا بكلمة من الله، وتصديقه بكلمة من الله اختلف المفسرون في تحرير معناها، لاختلافهم في معنى: " كلمة "، فمنهم من اتجه إلى أن كلمة الله هو المسيح عيسى ابن مريم، ما قال تعالى من بعد ذلك لمريم: (ويَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيمَ...)، ويكون المدح في يحيى حينئذ بأنه صدق عيسى وأذعن للحق إذ تبين له، فلم يكن من المعاندين الذين يجحدون بآيات الله تعالى، ويكفرون ببيناته، وسمي عيسى " كلمة من الله " من الله، لأنه نشأ بكلمة منه سبحانه، ومن المفسرين من قال إن المراد من كلمة الله تعالى كتابُه؛ وذلك لأنه تطلق الكلمة ويراد منها الكلام، وذلك من هذا القبيل، والظاهر عندي هو الأول؛ لأنه في هذا المقام ذكرت كلمة الله على أنها المسيح عليه السلام، والاسم المكرر في مقام واحد تكون فيه وحدة المقام دليلا على وحدة المسمى. وكان في هذا التعبير إيذان بأن ولادة المسيح ستكون قريبا من ولادة يحيى وفيه إيماء إلى أن زكريا نبي الله قد أوتي علما بأن المسيح عهده قريب.
والوصف الثاني من أوصاف يحيى: أنه سيد، والسيد فيْعل من السيادة، وهي الشرف والتفوق والعلو، وتبتدئ السيادة بسيادة الإنسان على نفسه بأن يملك زمامها، ويضبطها ويأخذ بعنانها، فلا تذل، ولا تتكبر ولا تجمح، ولا يزال يترقى في معنى السيادة من ضبط النفس والعلو عن سفساف الأمور، والاستغناء عما في أيدي الناس حتى يفوق الناس. وإنه يروى أن أعرابيا مرَّ بالبصرة، فسأل من سيد هذا المصر؟ فقيل له: الحسن البصري فقال: وبم ساده؟ قيل استغني عما في أيدي الناس، واحتاج الناس إلى ما في يده، فقال: ذلك هو السيد حقا.
فكلمة السيد في النص القرآني الكريم تتضمن كل معاني السؤدد ومكارم الأخلاق.
والوصف الثالث: أنه حصور. وأصل الحصر معناه الحبس، والمراد أنه حبس نفسه عن الشهوات، حتى لقد روى أنه امتنع عن النساء زهادة واستعفافا، واتجاها إلى الروحانية. وقيل إنه كان لَا يأتي النساء عجزا، وذلك غير صحيح، والحق أنه
1206
إن كان قد امتنع عن النساء فعن قدرة واختيار لَا عن عجز؛ وذلك لأن الله سبحانه وتعالى ساق ذلك الوصف في مقام المدح والثناء، ولا يتحقق معنى المدح والثناء إلا إذا كان فيه اختيار، ولم يكن عجزا وجبرا. ولأن " حصور " صيغة مبالغة لحاصر، أي أنه يبالغ في منع نفسه من الشهوات.
وليس في النص ما يدل على أنه امتنع عن النساء بخاصة، بل النص يدل على أنه حبس نفسه عن الشهوات، وقدعها عن أهوائها.
الوصف الرابع: أنه نبي من الصالحين، وفي هذا بشارة أخرى لزكريا بأن الله سيختار ابنه نبيا؛ فإن الأوصاف السابقة فيها إجابة لدعائه، ولكن الله سبحانه وتعالى مَنَّ عليه بأعظم مما دعا به، وأعطاه النبوة وقوله (مِّنَ الصَّالِحِينَ) إشارة إلى موطن النبوة. وموضع اختيارها، والله سبحانه وتعالى أعلم حيث يجعل رسالته، وهو سبحانه وتعالى لَا يختارهم إلا من الصالحين، فالله سبحانه يقيهم الانغماس في الشر قبل النبوة، ويعصمهم عن المعاصي بعدها.
استمع زكريا إلى تلك البشارة الإلهية، فاعتراه العجب، لما كان يتنازعه من عامل الرجاء وعامل اليأس، فقال:
1207
(قَالَ رَبّ أَنَّى يَكُون لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ).
(أَنَّى) هنا بمعنى " كيف "، فهو يعجب من الحال، ولا يصح أن تكون بمعنى " من أين؟ لأن الله سبحانه وتعالى أخبر أنه سيعطيه الولد، فلا يليق أن يسأل من أين، إنما العجب من حال العطاء مع حاله هو وامرأته؛ ولذا كانت الجملة من بعد ذلك جملة حالية صُدِّرت بواو الحال، فقال: (وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ) كان وجه العجب من ناحيتين: الناحية الأولى: أنه شيخ فانٍ قد أصابه الكبر بما فيه من ضعف، والثانية أن امرأته عاقر لَا تلد، والعقر يوصف به الرجل والمرأة، فيقال رجل عاقر، وامرأة عاقر أي بينة العقر، والعقر مصدر عَقَرَ يعقر عُقْرا ويظهر أن امرأته مع شيخوختها كانت عقيما لَا تلد، فكان العجب إذن من ثلاث نواح: شيخوختهما، وعقرها. وقد عبر عن شيخوخته بقوله: (وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) ولم
1207
يقل قد بلغت الكبر وهو الظاهر، ولكنه عدل هنا للإشارة إلى أن الكبر قد أصابه بضعفه وما فيه من آلام وأسقام وضعف. ويقول في ذلك الزمخشري: (وقد بلغني الكبر كقولهم أدركته السن العالية، والمعنى أثر فِيَّ الكبر فأضعفني) وعلى ذلك يكون قوله تعالى: (بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) يتضمن بلوغ الشيخوخة، وأنها أوجدت فيه ضعفا وعجزا، ويكون هذا في معنى قوله تعالى في سورة مريم حكاية عن زكريا: (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا).
وقد أجابه سبحانه وتعالى بما يزيل عجبه، ويمنع حيرته؛ وذلك بأن بين أن الله تعالى فوق السنن الكونية وفوق الأسباب في الخلق؛ لأنه خالق الأسباب؛ فقال تعالى:
(كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) أي مثل ذلك الذي رأيته من أن يكون لك وأنت شيخ وامرأتك عاقر، يفعل الله تعالى ما يشاء، أي أن الله سبحانه يفعل بمشيئته واختياره غير مقيد بالأسباب والمسببات والعادات وأحوال الناس؛ لأنه سبحانه وتعالى خالق الناس، وخالق الأسباب، وخالق مجارى العادات التي تجري بينهم. فالإجابة لَا تتضمن فقط إزالة تعجب زكريا عليه السلام بل تتضمن مع ذلك تقرير قضية عامة، وهو أن الله يفعل ما يفعل باختياره وإرادته غير مقيد بأي قيد إنه سبحانه فعال لما يريد.
ولماذا كان ذلك الخارق، وما يجيء بعده؟ الجواب عن ذلك: أن هذا لأن بني إسرائيل كانوا لَا يؤمنون إلا بالجسد، إذ كانوا يفسرون كل شيء تفسيرا ماديا، وقد سادت عندهم الفلسفة المادية، وكثر بينهم القول بأن الأشياء تنشأ عن العقل الأول نشأة المسبب عن السبب أو المعلول عن علته، فكان لابد من صادع يقرع حسهم بحادث من هذا الصنف الذي تتخلف فيه فلسفتهم، فيوجد المسبب من غير سبب فيدل هذا على أن المنشئ فاعله مختار يفعل ما يريد، وهو اللطيف الخبير؛ ولذا قال سبحانه (كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء).
1208
ولقد أراد نبي الله زكريا أن يعلم الوقت الذي تبتدئ فيه هذه البشارة أن تتحقق، وأن تقوم آية تدل على الحمل كما يقول بعض المفسرين فقال كما حكى الله عنه:
* * *
1209
(قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا... (٤١):
* * *
في تفسير هذا النص الكريم اتجاهان:
أولهما: أن سيدنا زكريا عليه السلام طلب علامة تدل على موعد الحمل، فقال: (اجْعَل لِّي آيَةً) أي علامة أعرف منها موعد الحمل، فقال له ربه: آيتك أي علامتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا، أي لَا تستطيع أن تكلم الناس إلا بالرمز والإشارة، وأن تستطيع ذكر الله، فاذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار، أي في المساء، وفي الصباح من وقت الفجر إلى الضحى، وقد وضح هذا الاتجاه الزمخشري فقال: " آيتك ألا تقدر على تكليم الناس ثلاثة أيام، وإنما خص تكليم الناس ليعلم أنه يحبس لسانه عن القدرة على تكليمهم خاصة مع إبقاء قدرته على التكلم بذكر الله؛ ولذلك قال: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ)، يعني في أيام عجزك عن تكليم الناس، وهي من الآيات الباهرة. فإن قلت لم حبس لسانه عن كلام الناس؟ قلت ليخص المدة بذكر الله لَا يشغل لسانه بغيرها، توفرا منه على قضاء حق تلك النعمة الجسيمة، وشكرها الذي طلب الآية من أجله، كأنه لما طلب الآية لأجل الشكر قيل له آيتك أن تحبس لسانك إلا عن الشكر.
وأحسن الجواب وأوقعه ما كان مشتقا من السؤال ومنتزعا منه ".
هذا هو الاتجاه الأول. وأساسه أن ثمة أمرا آخر خارقا للعادة، وهو عجزه عن كلام الناس مع قدرته على الذكر.
أما الاتجاه الثاني، فأساسه غير ذلك، إذ إن معنى النص الكريم على هذا الاتجاه أن زكريا شعر بإكرام الله تعالى إكراما خصه به، وكانت آية ذلك الإكرام بين الناس أنه قد أنجب من عاقر وعجوز ولدا، وقد بلغ من الكبر عتيا، فدعا ربه أن يجعل له بين الناس آية تدل على عظيم شكره، وأن يختص من بين الناس بهذا الشكر، ليعلم الناس علامة شكره كما علموا علامة إكرامه، فقال سبحانه:
1209
(آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا) بأن تحبس أنت لسانك عن حديث الناس وتجعله خاصا لله ثلاثة أيام لذكره وتسبيحه طرفي النهار وزلفا من الليل، فهذه آية شكر في نظير آية إنعام، وقد يزكي ذلك الاتجاه أنه لَا دليل في الآية على العجز عن الكلام، فما قال تعالت كلماته ألا تستطيع الكلام، بل قال: (أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ) وإضافة عدم الكلام إليه يدل بظاهره على أنه امتنع اختيارا لَا اضطرارا، وأن الأنسب بشكر النعمة أن يكون امتناعه عن كلام الناس بالكف عنه، لَا بالعجز عنه، فإن الأول اختياري يعد شكرا، والثاني غير اختياري يعد عجزا، وإن سياق القصة في سورة مريم أظهر في الدلالة على الاختيار دون الإجبارِ إذ يقول سبحانه: (قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (٩) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (١٠).
وقد كان الدعاء بطلب الولد في المحراب وإجابته فوره كما نوهنا، وكانت المجاوبة فيه أيضا، فخرج إلى الناس ينفذ طلب ربه في أن يحبس وهو مختار لسانه عن غير ذكر الله تعالى، ويعتزم العكوف على الذكر والتسبيح ويدعو الناس إليه بالرمز والإشارة، لَا بالكلام والعبارة. وإن هذا الاتجاه لَا ينكر الخوارق، ولكنه ليس في الآية ما يدل على الخارق، ويعتبر من مرشحات شكر النعمة أن يكون ترك كلام الناس اختيارا. وفوق ما تقدم فإن عطف قوله تعالى: (وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثيرًا وَسَبِّحْ بالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ). يقتضي أن يكون قوله تعالى: (أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ...) جملة طَلبية؛ لأن الجملة الطلبية لَا تعطف إلا على مثلها، وإذا كان الامتناع عن كلام الناس طلبا من الله العلي القدير، فهو اختياري من المكلف وليس حبسا وعجزا، أما إذا كان خارقا فهو إخبار وليس بطلب.
وهنا بعض عبارات نفسرها لفظيا:
الأولى: كلمة (إِلَّا رَمْزًا) قد جاء في تفسير الزمخشري: " إلا إشارة بيد أو رأس أو غيرهما، وأصله التحرك، يقال ارتمز إذا تحرك، ومنه قيل للبحر الراموز، وقرأ يحيى بن وثاب " إلا رمُزا " بضمتين جمع رموز كرسول ورسل؛ وقرئ " رَمَزاً " بفتحتين جمع رامز كخادم وخدم.
1210
والثانية: كلمتا (بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ)؛ فالعشي من حين تزول الشمس إلى أن تغيب، والإبكار من طلوع الشمس إلى وقت الضحى.
والثالثة: كلمتا ذكر وتسبيح؛ فإن الذكر معناه أن يستحضر الإنسان عظمة ربه، وينطق بها لسانه، والتسبيح معناه التنزيه المطلق لله سبحانه وتعالى، وقد كان طلب الذكر والتسبيح في هذا المقام مناسبا لتلك النعمة التي أسداها لعبده ونبيه زكريا عليه السلام؛ فإن سيادة المادية في بني إسرائيل وطغيانها على الروح أنستهم ذكر الله، وسيادة الفلسفة المنكرة للإرادة جعلتهم لَا ينزهون الله تعالى، فدعا ربه لأن يقوم بهذا الأمر الذي فيه استذكار كل معاني الألوهية وانصراف بالكلية للنواحي الروحية. وفي التسبيح إدراك لله وتنزيه له عن العلية؛ ولذا اتخذ زكريا من هذا الخارق للعادة بإنجابه ولدا سبيلا؛ لأن يدعوهم إلى التسبيح وهو التنزيه عن العلية والسببية وكل ما لَا يليق بذات الله تعالى، وأن يتركوا ما هم عليه من ماديات وفلسفة تنكر الإرادة لرب العالمين، فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا.
* * *
(وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (٤٢) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤)
* * *
بين الله سبحانه الأمر الخارق للسنن التي سنها في خروج الحيّ من الحي، بالنسبة لولادة يحيى من عجوز عاقر، وإن الذي خرق هذه السن هو خالق السنن، وإنما خرقها الذي خلقها ليعلم الناس أنه سبحانه خلقها بإرادته وحكمتة؛
1211
فإنه سبحانه وتعالى فعال لما يريد. وبعد أن بين ذلك، وهو العليم، مهد سبحانه لخارق أعظم وأبين، ليقرع حس الناس في عصر غلب فيه التفكير المادي على التفكير الروحي؛ وذلك هو خلق عيسى ابن مريم من غير أب، كما خلق من قبل آدم من غير أب ولا أم، وكان ذلك التمهيد ببيان الإرهاصات التي سبقت ولادة عيسى عليه السلام، وهو اصطفاء مريم واختيارها لتكون محل تلك الوديعة التي يودعها الله رحمها من غير علاقة ذكر بأنثى، وكان الاصطفاء بالطهارة والعفة والقنوت، والركوع والخضوع لرب العالمين، ثم باختيارها النهائي للوديعة الربانية؛ ولذا قال تعالى:
1212
(وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهُ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ) " الواو " هنا عاطفة، وهي تعطف هذا النص الكريم على قوله تعالى: (إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا...)، فهذا عود إلى قصة مريم البتول التي ابتدأت بالنذر بها وهي حمل، ثم ببيان حال أمها عند وضعها وبعد وضعها، وما كان من رزق الله تعالى لها وكفالة نبي الله زكريا إياها، مما جعلها تنشأ تنشئة التقوى والورع، ولما شبت عن الطوق واكتملت في تكوينها وأنوثتها خاطبتها الملائكة بذلك الخطاب (قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ) وتفسر كلمة الملائكة هنا بعدد منهم، لَا بواحد، كما استظهرنا مع ابن جرير في خطاب الملائكة لنبي الله تعالى زكريا عليه السلام؛ ولكن يجيء هنا البحث: من أي نوع خطاب الملائكة لمريم البتول؛ أكان بالمخاطبة كما يخاطب النبيون، أم كان بالإلهام أو الرؤيا الصادقة في النوم؟ لم تبين الآية هنا نوع الخطاب؛ ولذا قال بعض العلماء: إن الخطاب كان بالإلهام، وإلى هذا يومئ الزمخشري رضي الله عنه، ولكنه صرح بقوله: " روي أنهم كلموها شفاها معجزة لزكريا، أو إرهاصا لنبوة عيسى عليه السلام ".
وبعض العلماء كما ترى قرر أن الخطاب كان مشافهة ولم يكن إلهاما، ولا رؤيا صادقة في النوم؛ وإنا نميل إلى ذلك الرأي، ؛ لأنه ثبت بنص القرآن الصريح
1212
الذي لَا يحتمل تأويلا أن الملك خاطبها حين ابتدأ حملها، كما جاء في سورة مريم، إذ قال الله سبحانه وتعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (١٧) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (١٩).
والروح الذي ذكر مضافا إليه سبحانه هو روح من عند الله، أرسله سبحانه ليبشر مريم البتول بعيسى عليه السلام، ولم يكن الملك يحمل وديعة كما يحمل الإنسان؛ لأنه ليس بإنسان، والعلاقة الجنسية من خواص الآدمية؛ بل الوديعة التي يحملها هي بشرى، والخلق والتكوين لرب العالمين، وهو يخلق الحي من غير جرثومة حياة، كما يخلق جرثومة الحياة نفسها.
وإذا كانت الملائكة قد خاطبت مريم مشافهة فهل هي نبية، لأن الملائكة خاطبوها؟ هكذا قال بعض العلماء.
ولكن الأكثرين على أنه لَا يمكن أن تكون نبية، وخطاب الملائكة لها لا يقتضي النبوة؛ لأن النبي من يوحى إليه بشرع، ومريم لم يوح إليها بشيء من الشرع، ولكنه كان خطابا للبشارة بواقعة معينة دالة على علو منزلتها، واصطفاء الله سبحانه وتعالى لها.
والاصطفاء افتعال من صفا؛ فمعنى اصطفى طلب الصفوة المختارة؛ والمعنى اللازم هو اختيار الله تعالى لها باعتبارها من صفوة الإنسانية البرة التقية. ولقد كان اصطفاء الله تعالى إياها مرتين بينهما طهر وتقى؛ فأما الاصطفاء الأول فحين قبولها نذرا من أمها البرة التقية، واختيارها لسدانة البيت المقدس؛ وأما الاصطفاء الثاني فهو حين اختارها لتكون أما لمن لَا أب له، إذ تلد بعد أن تحمل من غير علاقة تناسلية مما يجري بين البشر؛ وبين الاصطفاءين طهر وتقى وعفاف، وإيمان وانصراف للعبادة، وهذا هو معنى قوله تعالى عن خطاب ملائكته لمريم: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ) وذكر في الاصطفاء ما يدل على أنها
1213
به مختارة دون نساء العالمين؛ لأن الاصطفاء الأول ومعه الطهر والتقى لَا تختص به مريم، فكم من عابدات قانتات قوامات بالليل صوامات بالنهار؛ أما الاصطفاء الثاني وهو أن تلد من غير أب فإن ذلك قد اختصت به لم تشركها فيه امرأة في هذا الوجود، ولذا قال فيه: (وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ).
وإن هذا التعبير يدل فوق دلالته على اختصاصها بهذا الاصطفاء، يدل على أن لها فضلا على نساء العالمين، إذ إن التعبير (عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ) يتضمن معنى الأفضلية عليهن، وإن لها ذلك الفضل، ولذلك قال النبي - ﷺ - فيما رواه مسلم عن أبي موسى الأشعري: " كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء غير مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " (١) وروي من طرق صحيحة: " خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد " (٢).
* * *
________
(١) متفق عليه رواه البخاري: أحاديث الأنبياء - (٣١٧٩)، ومسلم: فضائل الصحابة - فضائل أم المؤمنين السيدة خديجة رضي الله عنها (٤٤٥٩) عن أبي موسى الأشعري، واللفظ لمسلم.
(٢) أخرجه الحاكم في المستدرك ج ٦ ص ١٨٦، عن أنس رضي الله عنه، ورواه الترمذي: المناقب - مناقب خديجة رضي الله عنها (٣٨١٣) وقال أبو عيسى: هذا حديث صحيح.
1214
(يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣)
* * *
القنوت لزوم الطاعة
والاستمرار عليها، مع استشعار الخضوع التام المطلق، والاستسلام لله وإسلام الوجه لله الكريم، فمعنى نداء الملائكة دعوتها إلى أن تستمر على ما هي عليه من خضوع لله وإسلام وجهها له سبحانه، وتفويض أمورها له. وتكرار النداء لإشعارها بقربهم منها وهم رسل ربهم إليها، وفي ذلك بيان قربها منه سبحانه وتعالى. وفي تكرار النداء إشعار بأن طلبهم الاستمرار على القنوت هو من قبيل شكر الله على هذه النعمة؛ فهذا الاصطفاء يوجب الشكو بالاستمرار على القنوت، وقوله تعالى: (وَاسْجُدِي) هذا الأمر هنا يفسر بملازمة الطاعة والعبادة؛
1214
فالسجود الخضوع المطلق لله تعالى؛ لأن أظهر مظاهر الخضوع أن يتطامن الشخص فيضع جبهته على الأرض خضوعا لله تعالى، وشعورا بعظمته وجلالته، وعلوه سبحانه، وانخفاض العبد أمامه. وقوله تعالى: (وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكعينَ) فسرها الزمخشري بأن تصلى مع المصلين، فقال: (وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) بمعنى لتكن صلاتك مع المصلين أي في الجماعة، أو انظمي نفسك في جملة المصلين، وكوني معهم في عدادهم، ولا تكوني في عداد غيرهم "، فالأمر بالركوع مع الراكعين كناية عن صلاتها مع الجماعة، وهذا فيه فائدة، وهي إثبات أن الصلاة مع الجماعة من تمام النسك والعبادة. فمريم البتول كانت ملازمة للمحراب منذ نشأتها في كفالة زكريا عليه السلام، وهي بهذا تشبه أن تكون بعزلة عن عوجاء الحياة وما فيها، وما عند الناس حتى في عباداتهم، فبينت لها الملائكة عن الله سبحانه أن تصلي جماعة مع الناس، فإن صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد.
وعلى ذلك يكون الأمر بالسجود من قبيل الأمر العام بالانصراف للعبادة والطاعة؛ لأن فيه أظهر مظاهر إسلام الوجه لله، ويكون الأمر بالصلاة ثابتا بقوله (وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ).
ويصح أن نقول إن الأمر بالسجود هو أمر بالصلاة مطلقا، إذ إنه أظهر مظاهر الصلاة، وأقواها تأثيرا في النفس، وكان الأمر على هذأ النحو بأن تديم الصلاة منفردة وفي خلواتها؛ وقوله تعالى: (وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) أمر آخر بأن تصلي مع الجماعة وألا تنقطع عنهم لفضل الصلاة في الجماعة، وكأن في النص تعبيرا عن طلب الصلاة بتعبيرين؛ أولهما: طلبها بعبارة " اسجدي " والثانية: طلبها مع الجماعة، بعبارة " اركعي "، والبلاغة تسوغ أن تعبر عن المعنى الواحد بعبارتين مختلفتين في صيغتيهما ومادتهما في مقام واحد، وإن كان الأمر - الأول مطلقا، وكان الثاني مقيدا.
هذه قصة مريم في ولادتها، وتهيئتها للآية الكبرى الدالة على أن الخالق فاعل مختار، قد قصها الله جل شأنه في القرآن الذي جاء به أمي لَا يقرأ ولا
1215
يكتب، لم يتعلم ولم يجلس إلى معلم، ولم يختلط باليهود والنصارى، وفوق ذلك هذه القصة لم تكتب في التوراة قط، ولم يتعرض لها الإنجيل، وجاء بها القرآن الكريم. وهي صادقة كل الصدق فمن أين جاء علم هذا إلى ذلك الأُميّ؟ إنه من عند الله. أشار المولى إلى هذا المعنى بقوله:
1216
(ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نوحِيه إِلَيْكَ) الإشارة إلى القصص الحكيم الذي شمل نذر أم مريم، وولادتها، وكفالة زَكريا لها، ودعاء زكريا وإجابة الله دعاءه، ولزوم مريم للعبادة، وخطاب الملائكة؛ فبين الله سبحانه وتعالى أن هذا القصص من أنباء الغيب، أي من الأخبار العظيمة الشأن التي اختص بها علم الله، وهي مغيبة عن الناس لم يدونها تاريخ، ولم يذكرها كتاب، فهي مغيبة عن علم الناس لَا يعلمها أحد إلا من الله تعالى، وهي عظيمة الشأن في مجرى التاريخ الديني، ومجرى الفكر الإنساني، ومجرى التاريخ بشكل عام؛ وذلك لأنها تتعلق بآية من آيات الله الكبرى في هذا الوجود، وهي إيجاد إنسان كامل مستو من غير أب، وحمل امرأة من غير تلقيح؛ فإن هذا يفتق ذهن الإنسان المفكر لأن يدرك أن الله يخلق الأشياء بإرادته غير مقيد بسنن كونية، ولا بنظم في الخلق والإنشاء؛ لأنه خالق كل السنن وكل النظم؛ وبذلك يرد أقوال الفلاسفة الذين زعموا أن العالم نشأ عن العقل الأول نشوء المعلول عن العلة من غير إرادة مبدعة مسيرة.
والأنباء جمع نبأ، والنبأ هو الخبر العظيم الشأن، فليس كل خبر يسمى نبأ، والغيب هو الأمر المغيب المستور الذي لَا يعلم إلا من قبل الله تعالى. وقوله: (نُوحِيهِ إِلَيْكَ) إشارة إلى موضع الصدق وهو أنه بوحي من الله تعالى؛ وهو كالنتيجة لكون الموضوع مغيبا، لم يذكر في واقعة تاريخية ولا في كتاب ديني من قبل، لأنه إذا كان مغيبا عن الناس جميعا فعلمه لَا يكون إلا من الله تعالى. وفي قوله: (نُوحِيهِ إِلَيْكَ) مع كونه من قبل كان مغيبا إشارة إلى معنى الاختصاص، وفى الاختصاص بالتعريف كل معاني التكريم الإلهي لمحمد - ﷺ -.
وإذا كانت حال مريم وخلوصها لعبادة الله تعالى مجهولة للناس قبل بيان القرآن، فإن القرآن صاحب الفضل في بيان براءتها من الدنس، ومقامها في عبادة
1216
الله تعالى، وكفالة الله تعالى لها بنبي من أنبيائه، وتشريف الله تعالى بخطاب ملائكته لها مبشرين بالآية الكبرى والمعجزة الإلهية القاطعة، وذلك بولادة عيسى عليه السلام.
وفى ذلك إشارة إلى وجه من وجوه إعجاز القرآن الكريم، وهو إخباره بالصادق الذي لَا يوجد دليل قط على كذبه مع أن النبي - ﷺ - لم يقرأ ولم يكتب، ولم يتعلم، والخبر لم يكن مدونا من قبل حتى يتلقاه من أحد كأولئك؛ الذين ادعوا أنه كان يقول ما يتول عن أخبار بني إسرائيل من حداد بمكة، وقد رد الله تعالى فريتهم بقوله تعالى: (لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣).
فلا يمكن أن يدعى لأخبار مريم؛ لأنه ما كان معلوما قبل بيان الله تعالى، ولذلك سماه غيبا.
وقد وضح سبحانه وتعالى هذا المعنى، وهو كون هذا بوحي، لَا من عند محمد عليه الصلاة والسلام، بقوله:
(وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) الأقلام جمع قلم، من قلمه بمعنى قطعه، والمراد بالأقلام القداح التي يضربون بها القرعة. والاختصام معناه في الأصل أن يكون كل في خصم أي جانب، والاختصام هنا هو التنافس بينهم في كفالة مريم؛ وذلك لأنها ولدت يتيمة، وقد تيمن العباد من بني إسرئيل بها، وكل يرجو خيرا من كفالتها، ويتخذ من هذه الكفالة قربة وزلفى إلى الله العزيز الحكيم، العليم الخبير، فلما كان الاختصام والتنافس اتفقوا على القرعة فكم بينهم، وقد كانت نتيجة القرعة أن آلت كفالتها إلى نبي الله زكريا عليه السلام، وهكذا كان الله تعالى يختار لها ولابنها، فاختارها من صفوة آل عمران، واختارها منذورة للعبادة محررة لها، واختارها مكفولة بنبي، واختارها لخطاب الملائكة إيأها، ثم كانت النتيجة لهذا كله أن اختارها على نساء العالمين لتكون موضع آيته الكبرى في هذا الوجود.
والمعنى الجملي للنص الكريم: (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ) أي عندهم إذ يختصمون ويتنافسون على كفالة مريم، كل يريدها في كنفه ورعايته، وما كنت لديهم إذ
1217
يحتكمون إلى القر عة، ليعرفوا بطريق التفويض للغيب أيهم يكفل مريم فتضم إليه، وقد ذكر سبحانه منِ قبل أن الكفالة بهذه القرعة آلت إلى زكريا علمِه السلام، إذ قال من قبل: (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا...).
ما كنت عندهم في هذا الوقت، وما تلقيت بالسماع من أحد، وما كنت تقرأ في كتاب، فمن أي شيء علمت هذا الغيب الذي لَا يعلمه أحد؛ إنه لَا بد أن يكون من عند الله تعالى، فهذه الجملة الكريمة سيقت لإثبات أن العلم كان وحيا من عند الله العليم الخبير.
وهنا بعض مباحث نشير إليها:
أولها: أن " لدى " معناها " عند "، و " لدى " هنا تشير إلى معنى ليس في " عند "؛ ذلك أنها تشير إلى عندية بعيدة غير حاضرة ولا قريبة في الزمن؛ فهي تشير إلى أن خبر مريم وولادتها خبر بعيد موغل في القدم بالنسبة للإنسان، فما كانت هذه العندية متصورة، وما كان لأحد أن يعلم ما عند القوم علم من يشاهد ويعاين؛ لأن كثيرا منها كان نفسيا قلبيا، وبعضه كان حسيا ماديا ولكن لم يعلم للناس.
وثانيها: أن هذه القصة ليست معلومة على هذا الوجه عند المسيحيين، ولا يسعهم تكذيبها؛ لأنها أقرب إلى العقول مما ينسبونه لمريم من أنها كانت ذات بعل، أو مخطوبة أو نحو ذلك، فما عندهم مدعاة للشك، وما ذكره القرآن مدعاة للصدق والطهر والنقاء، وهذا الذي يرشح للآية الكبرى بولادتها من غير حمل " فأي الخبرين أصدق قيلا؟
وثالثها: وهو أن هذه القصة بما تشير إليه الآية الكريمة: (وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ) تشير إلى بعض معاني الإعجاز في القرآن الكريم، وهو حكاية أخبار الأولين التي لم يكن يعلمها أحد إلا ربُّ العالمين، وهي حكاية دلائل الصدق فيها واضحة، وبينات الحق فيها لائحة، وإذا كان النبي لَا يعلمها عن
1218
مشاهدة ولا عن سماع، فطريق العلم بها هو الله، وهذا يدل على أن القرآن من عند الله العزيز الحكيم، وهو سجل الشرائع السماوية الخالد إلى يوم القيامة، ولو كره الكافرون، كما قال منزله سبحانه: (إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْر وَإنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ).
* * *
(إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧)
* * *
توالت في حذه القصة خوارق العادات متدرجة من القريب من المألوف إلى البعيد الذي لَا يعرفه الناس قط بمقتضى السنن الكونية المطردة؛ فقد ولدت مريم البتول بعد أن نذرت لتكون خالصة للبيت المقدس، وكان يأتيها في المحراب الرزق من حيث لَا تحتسب ولا تقدر، حتى أثار ذلك عجب نبي الله زكريا، ثم كانت ولادة امرأة زكريا، وهي عجوز عاقر، وهو قد بلغ من الكبر عتيا؛ ثم كانت الحادثة الكبرى التي تدل على أن الله تعالى مبدع الكون وخالق الأسباب ينشئ الكون كما يريد، وتلك الحادثة هي ولادة عيسى من غير أب؛ وهذا هو ما اصطفى الله به مريم ابنة عمران؛ ولذا يقول سبحانه:
1219
(إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيمَ) الكلام في هذه الآية الكريمة متصل بما سبقها، فإذ هنا متعلقة بما تعلقت به
1219
إذ في قوله تعالى (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ)، فإذ هنا في مقام البدل أو البيان من الأولى؛ لأن هذا فيه تفصيل لمعنى الاصطفاء الذي اختصت به على نساء العالمين؛ والمعنى: اذكر إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك.. إذ كان ذلك الاصطفاء على نساء العالمين؛ بأن كانت هي التي تلقت البشارة الكبرى بأن تلد مولودا من غير أب قد أنجبه. والملائكة الذين خاطبوا مريم بذلك الخطاب يتضح من السياق أنهم الذين خاطبوها بالاصطفاء؛ فكأنهم قد بشروها بالاصطفاء على نساء العالمين، وبشروها مع ذلك بنوع الاصطفاء. وقد استظهرنا كما استظهر ابن جرير الطبري أن الملائكة الذين بشروا بالاصطفاء كانوا عددا ولم يكونوا واحدا، فلابد إذا أن الذين بشروا بحقيقته كانوا عددا أيضا، ولكن سورة مريم فيها بيان أن الذي أنبأها نهائيا بهبة الله تعالى لها كان ملكا تمثل في صورة بشر قد أودعها ما يكون منه الولد من غير تلقيح جنسي؛ لأن الملك ليس له تلك الشهوة الإنسانية؛ ولذا قال سبحانه:
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (١٧) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (١٩) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (٢١).
وإن التوفيق بين هذا النص الكريم، والنص الذي نتكلم في معناه سهل لا يحتاج إلى إعمال فكر؛ ذلك أن الله سبحانه وتعالى أرسل ملائكته إليها يبشرونها بالاصطفاء ويبشرونها بنوع الاصطفاء، ثم أرسل إليها بعد هذه البشارات المتكررة ملكا تمثل لها بشرا سويا. ليودع رحمها نهائيا تلك الهبة التي أهداها رب العالمين إليها.
ذكر سبحانه البشارة بأنها كلمة منه، وأن معنى هذه الكلمة شخص حي يسري عليه حكم الأحياء اسمه المسيح عيسى ابن مريم، فلماذا اعتبره الكريم كلمة
1220
منه؛ لأنه سبحانه خلقه وأبدعه بكلمة منه؛ فإذا كان سبحانه قد خلق الأحياء بطريق التناسل: الرجل يلاقح الأنثى، ويخرج الأولاد من أصلاب الآباء، فإن عيسى عليه السلام لم يخلق ذلك الخلق، بل خلقه الله تعالى خلقا آخر؛ خلقه بكلمة منه وهي " كن " فكان، فكان جديرا بأن يعتبر كلمة، وأن تكون هذه الكلمة منسوبة إلى الله تعالى.
ويقول ابن جرير: إن الكلمة هي كلمة البشرى، تشريفا لمريم البتول، وتكريما لها بأن تكون البشرى بكلمة من الله، أي بخطاب منِ الله تعالى مرسل منه إليها. ويزكي هذا قوله تعالى: (وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ ورُوحٌ منهُ...). وقوله تعالى: (اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) هو ما تضمنته البشارة، ويكون التأويل: يبشرك ببشارة جازمة قاطعة لَا احتمال لتخلفها، هذه البشارة هي ولد اسمه المسيح عيسى ابن مريم. وكأن " اسمه المسيح " تكون خبرا لمبتدأ محذوف تقديره: البشارة ولد اسمه المسيح عيسى ابن مريم.
وقد عرَّف سبحانه وتعالى ذلك المولود بثلاثة تعريفات: لقب، واسم وكنية؛ أما اللقب فهو المسيح، وأما الاسم فعيسى، وأما الكنية فهو ابن مريم، وهذه التعريفات الثلاثة، كل واحد منها يومئ إلى معنى قد تحقق في السيد المسيح عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم؛ فأما الكنية فللإشارة إلى أن نسبه ثابت لأمه لَا لأحد سواها، فليس ابنا لأي حيّ من الأحياء، وليس ابنا لله تعالى كما توهم أو كما لبَّس على نفسه كل من لَا يريد أن يحكِّم عقله فيما لُقِّن من عقائد باطلة، ولا تعلق لهم في أن عيسى قيل عنه كلمة الله، فالكلمة هي البشارة، وهي مخلوقة، أو لأنه خلق بكلمة الله وهي " كن " وكلتاهما لَا يمكن أن تكون ابنا لله تعالى. وأما الاسم فينبئ عن البياض والصفاء المعلم الواضح؛ ولذلك يقول الأصفهاني: " عيسى اسم علم وإذا جعل عربيا أمكن أن يكون من قولهم: بعير أعيس وناقة عيساء، وهي إبل بيضاء يعتري بياضها بعض الظلمة، أي فيها اغبرار يعطي بياضها صفاء وجمالاً، فهو ينبئ عن جمال تكوينه، وجمال دعوته وصفاء رسالته.
1221
وأما اللقب فهوا ينبئ عن البركة والفضل، وهو أحسن ما قيل في ذلك، فقد ذكر الزمخشري أن كلمة مسيح في أصلها العبري، وهو مشيح، معناه مبارك، وهذا قد جاء في شكره لربه إذ قال: (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ...).
وقد وصفه الله سبحانه وتعالى بأربعة أوصاف وأحوال؛ أولها: أنه وجيه في الدنيا والآخرة، والثاني: أنه من المقربين، والثالث: أنه يكلم الناس في المهد وكهلا، والرابع: أنه من الصالحين. وقد ذكرت هذه الأوصاف كلها لأمه وقت البشارة به، فكانت أجل تبشير لأم رءوم في مثل تقوى مريم البتول.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى الوصفين الأولين بقوله تعالى:
(وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) هذان وصفان تمَّا لعيسى الرسول بعد كمال رجولته، وظهرا أتم ظهور في أداء رسالته، وأحدهما وصف ذاتي أضفاه الله تعالى على ذاته النبوية الطاهرة ليكون صاحب رسالته، وداعي هدايته، وناشر رحمته، وذلك الوصف هو الوجاهة في الدنيا، والوصف الثاني وصف إضافي، وهو أنه في موضع المقربين من الله تعالى، وهذا وصف يضفي شرفا إضافيا، فوق شرف النبوة، وشرف الرسالة الإلهية.
وكلمة " وجيه " مشتقة من الوجه؛ لأنه هو الذي يلقى به الناس، وهو مظهر كل ما فى النفس مما يوجب الاحترام، ومنه اشتقت كلمة جاه، أي أن من له جاه يكون ذا وجه دال على الاحترام والشرف، فمعنى " وجيها " أي أنه ذو شرف ومكانة؛ أما مكانته يوم القيامة، فأمر مقرر ثابت، وإذا لم يكن لمثل عيسى هو وأمثاله من النبيين عليهم السلام وجاهة فوق تقديرنا، فلمن تكون وجاهة الآخرة؛ وأما وجاهة الدنيا فأمر ثابت مقرر، وأي وجاهة وشرف وأثر في النفوس أكبر من وجاهة رجل روحاني يبرى الأكمه والأبرص ويحيى الموتى، ويؤثر في القلوب فتنجذب له، ولم يستطع أن ينال خصومه منه شيئا، وإذا قيل إن اليهود آذوه وطردوه فليس ذلك بمانع من وجاهته، بل إنه دليل وجاهته وأثره في
1222
القلوب، ولو كان خاملا ما تحركوا لإيذائه، ومع ذلك لم ينالوا منه شيئا، ولم يمكنهم الله من رقبته، بل نجاه من شرورهم ودسائسهم، فكيف لَا يكون وجيها عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم؟!.
فعيسى عليه السلام كان وجيها، ووجاهته أكمل أنواع الوجاهة، وهي الوجاهة التي تتجرد من كل سلطان إلا سلطان الحق والروح، وبهما ملك القلوب. والجاه الحق - كما قال الغزالي - هو ملك القلوب.
وأما كونه من المقربين إلى الله تعالى، فمعناه أنه مقرب إلى الله تعالى كما هو قريب من الناس، وأنه وجيه عند الله تعالى ذو مكانة قريبة منه، كما هو ذو مكانة عند الناس.
ولقد بين سبحانه وتعالى حالين هما من أحوال المسيح عليه السلام، فقال تعالى:
* * *
1223
(وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦)
* * *
المهد: هو مضجع الطفل، من مهد يمهد مهدا، بمعنى أنه مهيأ مسهل له وهو في الرضاعة.
ومن في المهد يكون طفلا صغيرا يحمل لَا يتصور منه كلام مطلقا، والكهل هو الرجل السوي، والأمر الخارق للعادة في هذا أن عيسى عليه السلام تكلم وهو في المهد، وكلامه وهو في المهد ليس لغو صبيان، بل هو كلام شبان مكتهلين، وقد بلغوا تمام الرجولة والاستواء العقلي، وجمعهما معا في الكلام يدل على أن كلامه في الأول من نوع كلامه في الثاني، ولذا يقول الزمخشري: " ومعناه يكلم الناس في هاتين الحالتين كلام الأنبياء من غير تفاوت بين حال الطفولة، وحال الكهولة التي يستحكم فيها العقل، ويستنبأ فيها الأنبياء " وإن ما حكاه الله تعالى عن كلامه في المهد ليوضح ذلك، ففي سورة مريم: (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي
1223
وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣).
وقد ذكر سبحانه حالا ثانية من أحواله، أو وصفا من أوصافه، وهو أنه من الصالحين، وهذا رمز إلى ما يأتي به من إصلاح خلقي واجتماعي، وروحي فكري؛ إذ يزيل النزعة المادية من قلوب المؤمنين؛ فإن الصالح حقا هو الذي يصلح، فليس بصالح صلاحا كاملا من لم يرشد غيره إلى طريق الصلاح. هذه بشارة الله بطريق ملائكته لمريم البتول، وقد بين الله تعالى أن هذه البشارة أثارت عجبها واستغرابها:
1224
(قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ):
هذه الجملة السامية تدل على بالغ عجبها، وتومئ إلى ارتياعها الذي عبرت عنه كما في سورة مريم: (يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (٢٣).
صدرت إجابتها بالنداء للرب، وفيه معنى الاعتراف بالخلق والتكوين، وكمال الربوبية لله سبحانه وتعالى، فهو تسليم بالقدرة الإلهية، وبأن خالق كل شيء لا يكبر عليه شيء، سبحانه وتعالى.
و (أَنَّى... (٤٧)
في قوله تعالى: (أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ) هي بمعنى كيف، أي كيف يكون مني ولد ولم يمسسني بشر أي لم يكن مني ما يكون بين الرجل والمرأة مما يكون منه ولد. فالاستغراب في الكيفية، لَا في أصل القدرة الإلهية. وكلمة (وَلَمْ يَمْسَسْنِي) إما أن نعتبرها كناية عن اختلاط الرجل بالمرأة، وهذا ظاهر، وتعبير القرآن عن اتصال الرجل بالمسيس مجاز مشهور معروف، حتى يكاد يكون حقيقة عرفية في لغة القرآن الكريم؛ أو نقول: المس المراد به حقيقته، وهو أنها لم يلمسها رجل؛ لأنها متبتلة دائما منصرفة للعبادة لم يلمس جسمها رجل من غير محارمها قط؛ وبذلك ينتفي بالأولى ما هو أبلغ من مجرد اللمس، فموضع العجب والسؤال هو أن يكون ولد من غير اتصال رجل بامرأة. ولقد أزال عجبها رب البرية بقوله تعالى:
1224
(قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ) أي كهذا الخلق الذي تجدينه في أن يكون لك ولد من غير أن يمسك رجل وهو إبداع، يخلق الله تعالى ويبدع ما يشاء ويريد إبداعه، وكلمة يخلق غير ينشئ؛ لأن الخلق إنشاء على غير مثال سبق، فالتعبير بـ " يخلق " يفيد الإبداع، وأنه منهاج في التكوين يخالف منهاج غيره في التكوين. وهذه الجملة السامية تفيد أمورا ثلاثة:
أولها: أن هذا النوع من التكوين، وهو إنجاب من غير أب هو في قدرة الله تعالى؛ لأنه الخالق المبدع، وما هو غريب عليكم هو في قدرته سبحانه؛ لأن من خلق الخلق الأول وخلق السنن الكونية وغيرها قادر على تغييرها؛ لأنه مبدعها ومنشئها.
ثانيها: أن خلق عيسى أمر من أمر الله تعالى، وعيسى ليس إلا مخلوقا من مخلوقاته، فهو أبدعه كما أبدع غيره من المخلوقات، فليس إلها ولا ابن إله.
ثالثها: أن خلق الله تعالى بمشيئته وإرادته، وهذا فيه إشارة إلى السبب الذي من أجله خلقه الله تعالى من غير أب وهو أن المخلوقات لَا تصدر عن الله صدور المعلول عن علته، ولكنها توجد بإيجاده وتنشأ بإبداعه: (بديع السماوات والأرض أَنَى يكون له ولد) وفي ذلك رد عملي على أهل الفلسفة المادية التي تقول إن العالم نشأ عن العقل الأول نشوء المعلول عن علته.
ثم أشار سبحانه إلى عظيم قدرته بقوله تعالى:
(إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ) أي أن الله سبحانه وتعالى إذا أراد أن يوجد أمرا لَا يوجده إلا بكلمة " كن " وعبر سبحانه عن الإيجادب " قضى " للإشارة إلى أن إيجاده للأشياء ليس إلا من قبيل الحكم عليها بالوجود، فإذا حكم بالوجود في أمر نفذ حكمه، وحكمه هو أن يقول كن، فيترتب على ذلك أن يكون.
وهل الأشياء حقيقة تنشأ بمجرد الإرادة الإلهية، أم أن هذا تصوير لسهولة الخلق؛ الظاهر أن هذا بيان لسهولة ذلك على خالق الخلق، وبارئ النسم؛ فهو
1225
تمثيل لبيان قدرة الله تعالى الشاملة، وسهولة الإنشاء عليه سبحانه، ونفاذ إرادته في خلقه، ولذلك جاءت الإجابة في مثل هذا المقام بهذا المعنى في سورة مرِيم فقد قال تعالى في الإجابة عن استغرابها في تلك السورة: (قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا). فهذا التعبير الكريم صريح في أن السياق لبيان سهولة مثل هذا الخلق على خالق الخلق، ويفيد أيضا أن المقصود بيان أن الله سبحانه فعال لما يريد، وهو على كل شيء قدير. ربنا لا ترهقنا من أمرنا عسرا.
* * *
(وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١)
* * *
في هذا القصص القرآني الصادق تستمر الآيات الكريمة متممة قصة البشارة بعيسى عليه السلام؛ بشرت به أمه قبل أن يكون في بطنها، وقد أُوحي إليها أنه ستكون له تلك المنزلة في الدنيا والآخرة التي اصطفاه اللَّه تعالى لها، وإن من سنة
1226
الله تعالى في كلامه المعجز أن يشتمل الكلام على الإيجاز، الذي هو من أسرار الإعجاز، ففي أثناء البشارة قبل الحمل كان بيان رسالته وما هيأه الله به لأداء الرسالة، والمعجزات الكبرى التي أجراها الله سبحانه وتعالى على يديه، وماهية الرسالة التي جاء بها، ومقام رسالته من الرسالات قبلها، ثم بيان تلقي الذين أرسل إليهم هذه الرسالة مؤيدة بهذه المعجزات الباهرة القاهرة، ثم بيان النهاية التي انتهى بها، عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم.
ولقد ابتدأ سبحانه ببيان علم الرسالة الذي تكون به قوة الرسول الذي يدعو قوما معاندين من أمثال اليهود والمشركين من الرومان، فقال:
1227
(وَيُعَلِّمُه الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ) في هذه الآية الكريمة يبين الله سبحانه وتعالى علم الرسالة التي أرسله بها، وهو علم بأربعة أمور: علمه بالكتاب، وعلمه بالحكمة، وعلمه بالتوراة، وعلمه بالإنجيل. أما علمه بالكتاب فقد قال بعض مفسري السلف: إنه العلم بالخط والكتابة، وتوجيه ذلك التفسير أن عيسى بعث في أمة اشتهرت بالعلم والمعرفة، فلابد أن يكون فيه ما هو سبيل العلم والمعرفة وهو الكتابة، وقد كانت آيته في إثبات رسالته فوق علم العلماء، وقدرة الناس قاطبة. وقال بعض مفسري السلف أيضا: إن علم عيسى بالكتاب هو علمه بما نزل على النبيين السابقين. وإنا نختار الأول، فإنه على التفسير الثاني يكون تكرار؛ لأنَّ علم الرسالات السابقة، في التوراة التي ذكر أنها من علمه، والتأسيس أولى من التأكيد. وأما العلم الثاني، وهو الحكمة، فهو العلم الذي يحكم صاحبه في القول والعمل، وسياسة الناس في القول والعمل، ولذا يقول العلماء: إن الحكمة هي العلم النافع؛ فهي العلم الذي تظهر ثمرته في القول والعمل وهداية الناس، وقيادة نفوسهم؛ ولذلك قال الله تعالى آمرا نبيه الكريم - ﷺ -: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...). وإن هذا النوع من العلم هو ألزم العلوم لمن يقود الناس إلى الإيمان، ويدعوهم بدعاية الرحمن.
1227
وأما العلم الثالث والرابع فهما علم التوراة وعلم الإنجيل، والتوراة تومئ إلى علم الرسالات التي كانت قبلها، وعلم الإنجيل هو العلم برسالته التي بعث بها في وسط تلك المادية التي استولت على بني إسرائيل، وهذا يدل على اتصال رسالته بالرسالات التي سبقته، وكل رسول مبعوث لَا تكون رسالته مقطوعة عما قبلها، بل هي موصولة بها متممة لها، وهي لبنة في صرح الرسالات الإلهية وبعد أن أشار سبحانه وتعالى إلى علم الرسالة التي هيأه الله تعالى لها، أشار إلى من أرسل إليهم، فقال تبارك وتعالى:
* * *
1228
(وَرَسُولُا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ... (٤٩)
* * *
أي بعثه سبحانه وتعالى رسولا إلى بني إسرائيل. ومعنى الكلام: ويجعله أو يبعثه رسولا إلى بني إسرائيل. وذكر بنو إسرائيل خاصة مع أن دعوته كانت تعم كل الذين علموها من اليهود والرومان وغيرهم حتى يجيء من السماء ما ينسخها أو يكملها، وهي الرسالة العامة الخالدة، رسالة محمد بن عبد الله - ﷺ -؛ والسبب في اختصاص بني إسرائيل بالذكر أنهم هم الذين خرج عيسى من بينهم، فهو منهم، وقد كانوا يدعون أنهم أولى الناس بعلم الرسائل الإلهية، وكانت دعوته بينهم، وانبعثت منهم إلى غيرهم، فكان تخصيصهم بالذكر، فيه إشارة إلى حقيقة واقعة وتوبيخ لهم؛ لأنهم أوتوا العلم برسالات الأنبياء، مع ذلك كفروا برسول مبعوث منهم، أوتي بمعجزات لَا تجعل للعقل مساغا لإنكار.
ولقد ذكر سبحانه في هذه الآيات معجزات عيسى التي أرسله الله بها لإثبات رسالته، فقال سبحانه:
(أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبكُمْ) وهذا النص الكريم فيه معنى هذه الرسالة التي كان بها رسولا، أي أنه يتبين معنى أنه رسول بقوله: (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَة مِّن رَّبكُمْ) فالجملة عطف بيان لمعنى الرسالة المنطوي في الكلام. وفي الكلام التفات وانتقال من خطاب الله لمريم، إلى بيان رسالة بشارة الله إليها، وجاء بيان الرسالة على لسانه هو، وابتدأ بيان الرسالة ببيان إثباتها، وهو المعجزة، وكأن المعجزة جزء من الرسالة؛ لأنها ركنها ودعامتها التي قامت عليها، ولأن معجزة عيسى كانت
1228
تومئ إلى معانٍ من رسالته؛ ذلك بأن عصره كان عصرا ماديا، لَا يؤمن بالإرادة المختارة لله تعالى، ويؤمنون بالأسباب التي تجري في الحياة على أنها المؤثرات في إيجاد الأشياء، فإنت معجزاته عليه السلام إعلانا لبطلان تأثير الأسباب، بدليل خرق هذه الأسباب، بإحياء الموتى؛ وقد جرت الأسباب المادية التي ترى على أن من مات لَا يحيا في هذه الدنيا، وأن الأكمه الذي ولد أعمى لَا يرتد بصيرا، وأن إخراج الحيّ من الطين مباشرة لَا يكون، فجاء عيسى بكل هذا، فكان إعلانا قويا بأن الله فاعل مختار، وذلك جزء من رسالته.
والآية هنا هي المعجزة، وهي في أصلها العلامة، والمراد بها هنا العلامة الدالة على الرسالة، وأطلق على الجزء من القرآن آية؛ لأن كل آية في كتاب الله تعالى معجزة في ذاتها، دالة بوحدتها على رسالة النبي - ﷺ -.
ولقد ذكر بعد ذلك سبحانه آيات، وكانت الآيات المذكورة في هذا المقام أربعا؛ وعبر عنها بآية؛ لأن مجموعها دال على رسالته، وإن كانت كل واحدة منها تصلح حجة قائمة بذاتها؛ فذكرها بلفظ المفرد للإشارة إلى أنها جميعا كانت آيته.
والآيات الأربع: هي أنه يخلق من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله، وأنه يبرئ الأكمه والأبرص، وأنه يحي الموتي؛ وأنه ينبئهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم؛ فهذه آيات أربع.
والآيات الأربع ذكرت مضافة إلى السيد المسيح عليه السلام؛ لأنها كانت تجري على يديه، ولأنها هي التي كان يقيم بها الدليل على رسالته، وقد خاطب بها بني إسرائيل، ومن استمع إليه من الرومان وغيرهم.
وأول هذه الآيات تصوير الطين ثم النفخ فيه فيكون طيرا، وقد ذكرها سبحانه وتعالى بقوله: (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ):
1229
الخلق المراد به هنا التصوير، أي أنه صور من الطين كهيئة الطير، أي بشكله، فينفخ فيه، فكان طيرا بإذن الله تعالى، فهنا أعمال ثلاثة؛ اثنان منها لعيسى عليه السلام، والثالث لله تعالى جل جلاله وعظمت قدرته، أما اللذان لعيسى فهما: تصوير الطين كهيئة الطير، والنفخ فيه، وأما الثالث الذي هو من عمل الله تعالى وحده، فهو خلق الحياة في هذه الصورة التي صورها عيسى عليه السلام؛ ولذلك قال: (بِإذنِ اللَّهِ) أي بأمره وإعلامه، والكون كله بأمره سبحانه (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ). وهذا يدل على أنه لم يكن في عيسى ألوهية، ولا أي معنى من معانيها.
ولقد قال الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده: إن الصيغة التي ذكرت بها هذه الآية وهو قوله: (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفخ فِيهِ فَيَكون طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ) تدل على استطاعته ذلك ولكنها لَا تدل على الوقوع، وعندي أنها تومئ إلى الوقوع لأن ذكر الكيفية وهو أنه يتخذ من الطين صورة الطير، ثم النفخ ثم الكون طيرا يدل على الوقوع لَا على مجرد الاستطاعة وفوق هذا فإن آية المائدة تدل على الوقوع بشكل أوضح من هذا؛ فإنه سبحانه وتعالى يقول: (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّن الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفخُ فِيهِ فَيَكُون طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ) فهذا النص الكريم دليل على الوقوع، لَا على إمكان الوقوع؛ لأن الله تعالى لَا يمن عليه إلا بالذي وقع فعلا.
والآية الثانية والثالثة بينهما سبحانه وتعالى بقوله:
(وَأُبْرِئُ الأَكْمَة وَالأبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ) الأكمه هو الأعمى الذي يولد أعمى، أي الذي لم يُؤت حاسة الإبصار؛ أجرى الله تعالى على يد عيسى عليه السلام إبراءه. والأبرص هو الذي يكون في جلده بياض مشوب بحمرة، وهو مرض لَا يبرأ منه من يصاب به؛ فهذان مرضان لَا يتصور بمقتضى العادة، والأسباب الجارية بين الناس أنه يمكن أن يكون منهما شفاء؛ لأنَّ الأول يولد به الشخص ناقصا حاسة الإبصار، والثاني لم يصل الطب إلى الآن إلى طريق للشفاء منه، فإذا كان الله قد أجرى على يدي عيسى عليه السلام الشفاء بهما فإن هذا
1230
يقنع الماديين بأن وراء هذه الأسباب فاعلا مختارا، وليست الأسباب مؤثرة في الإيجاد، إنما المؤثر هو الله سبحانه وتعالى.
وإحياء الموتى وحده برهان قاطع على أن الأسباب العادية ليست هي المؤثرة وإنما الخالق المكون هو المؤثر، وأن الأشياء لم تخلق بالعلِّية، إنما خلقت بالإرادة المختارة المبدعة المنشئة المكونة، وعبر بقوله: (بِإِذْنِ اللَّهِ) في كل هذا للإشارة إلى أن المبدع المنشئ هو الله سبحانه وتعالى، وأنه ليس ما يجري على يدي عيسى لمعنى الألوهية فيه، إنما هو لله العلي القدير.
والآية الرابعة بينها سبحانه وتعالى بقوله: (وَأُنَبّئُكُم بمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخرونَ فِي بُيوتِكُمْ):
الإنباء والتنبئ: الإخبار بالخبر العظيم، إما لموضوعه، وإما لعظم شأن الإخبار نفسه، والإخبار عن شيء من غير رؤيته، إخبار عظيم في ذات شأنه، ولقد كان عيسى لفرط روحانيته، ولما أكرمه الله به من إجراء الخارق للعادة على يديه تأييدا لرسالته، يخبر من بعث إليهم بما يأكلون، أي ما يأكلون، وما يدخرون في بيوتهم، وهذا نوع من الكشف النفسي أعطاه الله لنبيه عيسى عليه السلام، وهو ليس من قبيل الإخبار عن المستقبل، وإنما هو من قبيل الإخبار عن الحاضر الواقع ممن لَا يراه.
وقد كان النبي محمد - ﷺ - يخبر عن بعض الأمور المستقبلة، كما أعلمه الله تعالى، مثل قوله تعالى: (غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ).
وكإخباره عليه الصلاة والسلام عما يحدث لأمته في الأزمان المستقبلة، وكإخباره عليه الصلاة والسلام عن فشو الربا في أمته، مثل قوله عليه الصلاة والسلام: " يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا " قيل: الناس كلهم يا رسول الله؟! قال " من لم يأكله ناله غباره " (١).
________
(١) رواه بهذا اللفظ أحمد بن حنبل: باقي مسند المكثرين (١٠٠٠٧) عن أبي هريرة رضي الله عنه، كما رواه النسائي: البيوع (٤٣٧٩)، وأبو داود: البيوع (٢٨٩٣)، وابن ماجه: التجارات (٢٢٦٩) بنحوه.
1231
هذه المعجزات الأربع وغيرها، هي آية الله تعالى لإثبات رسالة السيد المسيح عليه الصلاة والسلام، ولذا قال تعالى بعد ذكرها:
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي إن في هذه الأمور التي أجراها الله على يد السيد المسيح عليه السلام لآية، أي لعلامة واضحة بيّنة تدل على صدق رسالته، وتثبت دعوته، ويقتنع بها من يريد الاقتناع. وقوله: (إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) إيماء إلى أن الذين يقتنعون بالحجج والآيات هم الذين من شأنهم أن يذعنوا للحق، ويخضحوا له؛ فالناس قسمان: قسم يذعن للحق ويؤمن به إن قام الدليل عليه، وأولئك هم الذين من شأنهم الإيمان والإذعان للحق، وقسم لا يزيده الدليل إلا عنادا واستكبارا، وأولئك هم الذين من شأنهم أن يجحدوا ولا يذعنوا للحق إذا دعوا إليه؛ ولذلك عبر بالوصف في قوله: (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي إن كان الإيمان والإذعان لنحق شأنا من شئونكم، ووصفا ذاتيا لكم.
وإن هذه المعجزات الباهرة القاهرة التي خضع لها من خضع، وكفر بعدها من كفر، دليل على أن الدليل مهما يكن قويا لَا يكفي للإيمان، بل لابد من اتجاه نفسي لطلب الحق من أن يتأشب بالنفس أي داع من دواعي الهوى، أو أي غرض من أغراض الدنيا؛ وأي دليل حسي أقوى في الدلالة على الرسالة الإلهية من إحياء الموتى، وأن يصور من الطين كهيئة الطير فيكون طيرا بإذن الله، ومع ذلك آمن من آمن، وكفر من كفر، وكان الذين عاندوا أكثر عددا من الذين أذعنوا وآمنوا، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
بعد أن أشار سبحانه إلى الآيات الكبرى التي أجراها على يدي السيد المسيح عليه السلام، أشار إلى رسالته، وهي تتلخص في أمرين: أنها مصدقة لما جاء في التوراة مع إحلال ليعض الذي حرم على اليهود فيها، وثانيها: أنه يدعو إلى الإيمان بأن أنه خالق كل شيء ومبدعه ومنشئه بإرادته المختارة، وهذا ما تضمنه قوله تعالى: (وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ):
1232
وقوله تعالى:
1233
(وَمصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَوْرَاةِ) حال من الفعل المحذوف الذي دل عليه العطف، أي أنِّي جئتكم بآية من ربكم أني أخلق، وجئتكم مصدقا لما بين يدي؛ يقال الأمر بين يديه أي أنه حاضر ثابت موجود، وعيسى جاءت رسالته متممة لرسالة موسى ناسخة لبعض ما جاء فيها، كالشأن في كل نبي بالنسبة لمن سبقه. ولقد بين عيسى عليه السلام لهم أنه جاء بالرفق والسماحة؛ ولذا أحل الله لهم على يديه بعض ما حرم عليهم بظلمهم وقسوتهم وجفوتهم (فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذينِ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طياتِ أُحِلَّتْ لَهُمْ...)، ولقد قال تعالى: (وعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كلًّ ذِي طفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ). ذلك لأنهم فست قلوبهم وغلظت أكبادهم، واستناموا إلى الراحة واسترخت أجسامهم، فابتلاهم الله بهذا التحريم لينشطوا ويعملوا، ويكونوا قوة عاملة، ولا يكونوا أجساما مسترخية؛ فلما جاء عيسى عليه السلام، وقد نزل بهم من البلاء ما نزل، أحل الله لهم على لسانه ما كان قد حرم. وقوله تعالى: (وجِئْتُكُم بِآيَةٍ من رَّبِّكُمْ) ذكرت الآية، لأن جزءا من الرسالة العيسوية إثبات خلق الأشياء بالإرادة المختارة، ومعجزته كلها تتجه نحو هذا الاتجاه، فهي في ذاتها جزء من دعوته؛ لإثبات قدرة الله تعالى وإرادته في الخلق والإبداع.
وبعد أن أشار سبحانه إلى ما تضمنته الرسالة العيسوية، ذكر دعوة عيسى لقومه بهذه الرسالة، فقال سبحانه حاكيا قول عيسى لهم:
(فَاتَّقُوا اللَّهُ وَأَطِيعُونِ) كانت دعوة عيسى تتجه إلى هذين الأمرين: تقوى الله تعالى، وأن يطيعوه بأن يتبعوه في منهاجه الذي رسمه لهم ووجههم إليه تبليغا لرسالة ربه. أما تقوى الله تعالى فكان لابد أن تكون لباب الدعوة العيسوية؛ لأن اليهود كانوا قد أعرضوا عن الله تعالى إعراضا تاما، حتى لقد كان فريق منهم، وهم الصدوقيون لَا يؤمنون باليوم الآخر، وحتى لقد حسب أكثرهم أن العقاب الذي هدد الله به هو العقاب الدنيوي، لَا العقاب الأخروي؛ ومن أجل ذلك سرى
1233
في قلوبهم حب الدنيا والحرص عليها حرصًا شديدًا أيًّا كانت حياتهم فيها؛ ولذا قال تعالى عنهم: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ... ).
وأما الطاعة لعيسى عليه السلام فبأن يتخذوا منه قدوة حسنة في زهادته وروحانيته وسماحته، ليخففوا من غلظتهم وقسوتهم. واليهود إلى الآن في أشد الحاجة إلى مثل هذه الدعوة، وهي التقوى والعفة والسماحة، ولكنهم أجابوا في الماضي داعي الحق بمحاولة قتله، وكذلك يفعلون الآن، فهم يحاولون قتل من حموهم وآووهم.
ولقد قرر عيسى - عليه السلام - أن هذه المعجزات الباهرة لَا تخرجه عن أنه عبد لله تعالى مخلوق له سبحانه؛ ولذا حكى الله تعالى عنه قوله:
* * *
1234
(إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١)
* * *
أي أن الله تعالى خلقني وهو الذي يربني ويكلؤني ويحييني، وهو أيضا الذي خلقكم وينميكم ويكلؤكم ويحييكم، وإذا كان كذلك فحق علينا أن نعبده وحده ولا نشرك به أحدا سواه، فإن العبادة تكون شكرا لهذه النعمة، وقياما بحقها، وصلاحا لأمر الناس في هذه الدنيا. وعبادة الله وحده والاعتراف بربوبيته وألوهيته وحده هي الصراط أي الطريق المستقيم الذي لَا اعوجاج فيه، اللهم اهدنا إلى سواء السبيل.
* * *
(فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (٥٤
* * *
1234
هذا القصص الحكيم مستمر في قصة عيسى، وقد انتقل في الآيات السابقة من بشارة مريم بأن تكون المختارة لتكون منها الآية الكبرى وهو أن يولد منها ولد هو إنسان حيّ يأكل ويشرب وينمو من غير أب ينجبه، إلى ملاقاة قومه له وتكذيبه؛ ولم يكن ذلك الانتقال مفاجئا من غير تمهيد بل مهد له، فأشار في البشارة إلى مقامه ورسالته وآيته الباهرة القاهرة؛ وبهذا علم القارئ الذي يتلو كتاب الله من السياق رسالته والمعجزات التي تحدى بها قومه أن يأتوا بمثلها؛ وعلى ذلك لم يمين في هذا الموضع ولادة عيسى عليه السلام، وحال مريم عند ولادته، وتعَلمه في المهد صبيا، وبين ذلك في سورة مريم في قوله تعالى: (فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (٢٢) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (٢٣) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (٢٧) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣)
* * *
ففي لسورة مريم فصل خبر ولادته، وفي هذه السورة فصل الآيات التي أثبت بها نبوته، وكان هذا مناسبا لما يجيء بعد ذلك من ملاقاة قومه لدعوته إلى الله، وإقامته الآيات التي تدل على رسالته، فقال:
1235
(فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ) هذا النص الكريم كان معقبا للآيات الباهرة من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، وتصوير الطين كهيئة الطير فيكون طيرا بإذن الله. وتعقيبه لهذه الآيات، وكون الكثرة لم يكونوا مؤمنين كما يشير النص، يدل على أن الآية مهما تكن باهرة قاهرة لَا تحمل
1235
الجاحدين الذين غلفت قلوبهم دون نور الهداية على الإيمان، والفاء هنا كأنها فاء التعقيب على الآيات الباهرة، أي أنهم فور هذه الآيات كفروا ولم يتدبروا، وأحس منهم عيسى هذا الكفر، فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله. والإحساس هو العلم الذي يكون بالحواس، وإطلاقه على العلم المجرد بعد ذلك من قبيل تشبيه العلم اليقيني القاطع البدهي بالعلم المدرك بالحواس.
ولما أحس عيسى الذي أوتي هذه البينات الكفر من قومه، وعلم ذلك علما يقينيا، اتجه إلى من يدعوهم يتعرف من أصاب الإيمان قلبه ليتخذ منهم قوة للدعوة وليكونوا صورة للمهتدين الصادقين، ولذلك قال: (مَنْ أَنصارِي إِلَى اللَّهِ) أي من الذين رضوا؛ أن يكونوا أنصاري لأواجه بهم الذين بحاربون دعوتي، على أن يكون أولئك الأنصار منصرفين متجهين إلى الله تعالى لَا يبغون غير رضاه، وهذا التعبير الكريم فيه إشارة إلى معان ثلاثة:
أولها: أن الأكثرين لم يكونوا مؤمنين، ولذلك عبر بقوله تعالى: (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ) فنسب الكفر إليهم، وذلك لَا يكون إلا إذا كان الكافرون هم الكثرة الظاهرة، والمؤمنون هم القلة المغمورة، حتى بحث عنهم السيد المسيح عليه السلام بقوله: من أنصاري إلى الله تعالى.
المعنى الثاني: الذي يشير إليه النص الكريم: أن السيد المسيح عليه السلام أحس بأنه أصبح مقصودا بالأذى، وأن الدعوة الحق أصبحت مهاجمة من تلك الكثرة الساحقة، ولذلك طلب أن يكون له نصراء يجعلون للحق منعة وقوة من جهة، ويكونون مدرسة الدعاية له، والخلية التي تدرس فيها حقائقه من جهة أخرى.
المعثى الثالث: الذي يشير إليه النص: هو أن النصرة الحقيقية في مثل هذا المقام أساسها إخلاص النية لله تعالى، والاتجاه إليه، وتفويض الأمور إليه، فإنهم إن كانوا قليلا فهم بمعونة الله كثيرون (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)، ولذلك كان في سؤال السيد المسيح عليه السلام إضافة النصراء
1236
إلى الله، فقال: (مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ) وقد قال في ذلك الزمخشري: " إلى الله من صلة أنْصاري مضمنا معنى الإضافة، كأنه قيل: من الذين يضيفون أنفسهم إلى الله ينصرونني كما ينصرني، أو يتعلق بمحذوف حالا من الياء، أي من أنصاري ذاهبا إلى الله أو ملتجئا " والأوضح في نظري أن يكون المحذوف حالا من الأنصار أنفسهم أي من أنصاري حالة كونهم متجهين ملتجئين إلى الله تعالى، وفي هذا طمأنة لهم بأن نصرته هي نصرة الله،. أن الذين ينصرونه يلتجئون إلى جانب الله تعالى، يعتمدون عليه، فهم إذا كانوا للحق منعة، في عزة من الله ومنعة منه، وإن دعوة الحق لابد أن تجد نصيرا وإن طغى الباطل واشتد؛ ولذلك أجيب عيسى عليه السلام من المخلصين من قومه:
(قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ) الحواريون هنا هم أنصار عيسى عليه السلام الذين أخلصوا له ولازموه، وكانوا عونه في الدعاية إلى الحق بعد الله تعالى الذي أمده بنور من عنده. وأصل مادة (حَورَ): هي شدة البياض، أو الخالص من البياض، ولذلك قالوا في خالص لباب الدقيق: الحوَّارَى، وعلى النساء البيض: الحواريات، والحوريات؛ وعلى ذلك يكون تسمية صفوة الرجل وخاصته حواري؛ لأنهم أخلصوا له، ولأنهم لُباب الناس بالنسبة له، وكذلك كان حواريو عيسى عليه السلام؛ فقد كانوا خاصته، والذين صفت نفوسهم، وخلصت من أدران الدنيا وأهوائها كما يخلص الثوب الأبيض الناصع البياض من كل ما يشوبه.
أجاب أولئك الحواريون عيسى عليه السلام عندما أخذ يبحث عن النصراء (نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ) وهم بذلك بينوا اهتداءهم لأمرين:
أولهما: أنهم علموا أنه يتكلم عن الله تعالى وأنه رسول أمين؛ ولذلك اعتبروا إجابة دعوته هي من إجابة دعوة الله، وأنهم إذا كانوا نصراءه فهم نصراء الله تعالى؛ ولذا قالوا: نحن أنصار الله، ولم يقولوا نحن أنصارك.
الأمر الثاني: أنهم فهموا أن نصرته تكون بإخلاص النية لله تعالى، وتصفية نفوسهم من كل أدران الهوى، حتى تكون خالصة لله تعالى، ولذلك أردفوا قولهم هذا بما حكاه سبحانه وتعالى عنهم بقوله تعالى:
1237
(آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) فهذ النص الكريم يفيد مقدار إدراكهم لمعنى نصرة اللَّه تعالى ونصرة رسوله عيسى عليه السلام؛ قالوا (آمَنَّا بِاللَّهِ) أي آمنا بأنه الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، وأنه خلق الأشياء بإرادته المختارة، وبقدرته الفعالة، ولم توجد عنه الأشياء وجود المعلول عن العلة، والمسبب عن السبب، كما كان يدعي بعض الفلاسفة في عصرهم، وأردفوا قولهم بما يدل على الإذعان المطلق لله تعالى، وإخلاص نياتهم وقلوبهم له سبحانه بقولهم: (وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ). الشهادة هنا بمعنى العلم المنبعث من المعاينة والمشاهدة، فهم يطلبون من سيدنا عيسى أن يعلم علم معاينة بأنهم مسلمون أي مخلصون قد أسلموا وجوههم لله رب العالمين، وصاروا بتفكيرهم وقلوبهم وجوارحهم لله تعالى، وإن ذلك فوق أنه إعلام لحقيقة نفوسهم هو إشهاد من قبلهم بما خلصت به أرواحهم.
خاطبوا بهذا الخطاب نبي الله تعالى مجيبين دعوته، ملبين نداءه، معلنين نصرته، ثم اتجهوا بعد ذلك إلى الله تعالى ضارعين إليه قائلين:
* * *
1238
(رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ... (٥٣)
* * *
وقد صدروا ضراعتهم إلى الله تعالى بالاعتراف الكامل بالربوبية، وفي الاعتراف بالربوبية إحساس صادق بجلال النعم، وتقديم شكر المنعم، ثم الاعتراف بالربوبية الحق يطوي في ثناياه الاعتراف بالألوهية الحق؛ لأن كمال الخضوع لله لَا يكون إلا بالإيمان بالربوبية، ووراء هذا كله الإفراد بالعبودية، ثم بعد الضراعة بلفظ الربوية أعلنوا الخضوع والإذعان الكامل، فقالوا: (آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ) أي صَدَّقنا تصديق إذعان وتسليم وهداية بما أنزلت. وما أنزل الله تعالى على عيسى عليه السلام هو تكليفات؛ فالإيمان الصادق بها يقتضي العمل؛ لأن العمل يدل على كمال الإيمان، ولأن المخالفة من غفوة الإيمان، ومن قبيل ذلك قول محمد - ﷺ -: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " (١). وقد تأكد ذلك المعنى وهو العمل بمقتضى ما أنزل لهم بعد ذلك في
________
(١) سبق تخريجه.
1238
ضراعتهم (وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ) وهو عيسى عليه السلام، واتباع الرسول يكون بالعمل بهديه، والأخذ بسنته.
وإذا كانوا قد ضرعوا إلى ربهم بهذا الإيمان تلك الضراعة، فقد اتجهوا مع ذلك إلى دعائه راجين بإجابته أن يقوى الله سبحانه وتعالى إيمانهم، وأن ينقلهم من الإيمان الغيبي إلَى الإيمان الذي يصل إلى درجة تشبه المشاهدة، ولذا قالوا: (فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) أي إذا كنا قد امتلأت قلوبنا بربوبيتك، وألوهيتك وعبوديتك فارفعنا إلى مرتبة أعلى هي أن نكتب مع الشاهدين، ومن هم الشاهدون؟ يصح أن نقول إنهم الذين صفت نفوسهم وزكت مداركهم، حتى وصلوا إلى درجة العلم الذي يكون كعلم المشاهدة والرؤية، الذين قال في أمثالهم محمد - ﷺ -: " اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " (١) فهذه مرتبة من الإيمان، والمعرفة أعلى من مجرد الإيمان. ويصح أن تسمى هذه المرتبة مرتبة الشهود أو المشاهدة التي يقول عنها الصوفية، فالمؤمن يتعبد، ويصفي نفسه من أدران الدنيا، حتى يصبح كأنه يشاهد الله رب العالمين في أعلى ملكوته، ويحس في كل فعل يفعله كأنه في حضرته العلية كمن يعاينه.
وإن النص الكريم يدل على وجود ذلك الصنف من العباد الأصفياء الأتقياء الأبرار، وأنهم في أعلى درجات اليقين، بدليل أن هؤلاء الأتقياء طلبوا أن يكونوا في هذا الصنف، وحكى العلي القدير للأجيال طلبهم الذي رشحهم له فرط ضراعتهم وتقواهم، وأولئك الشاهدون هم الأنبياء والصديقون والشهداء.
أحس عيسى عليه السلام بحدة كفر الكافرين، وشدة نضالهم، ولذلك اتجه إلى أن يكون له دعاة مناصرون أطهار، تكون منهم مدرسة الحق، وأخذ يبث تعاليمه في تلاميذه، وينتقل في أراضي بيت المقدس وجبالها وآكامها هاديا مرشدا باعثا الأرواح إلى الإيمان بالحق، ولكن جحدوا. بالحق بعد أن ظهرت أماراته،
________
(١) سبق تخريجه.
1239
وقامت بيناته، ثم أخذوا يَحولون بينه وبين هدايته، ودعوة الحق التي يدعو بها، ولما رأوا أن نور الحق يزداد انتشارا، قرروا أنه لابد أن يقطعوا حركته نهائيا بتدبير الشر لشخصه. ويستفاد من الإشارات القرآنية أنهم حاولوا قتله، ولا عجب فقد قتلوا يحيى بن زكريا عليه السلام الذي عاصره. ولا يستغرب على اليهود عمل فاجر، فهم في ماضيهم كما نراهم اليوم في حاضرهم، ولقد قال تعالى بعد أن بلغت دعوة الحق أقصاها وأعلاها
1240
(وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ):
أي أن هؤلاء الذين أحس عيسى عليه السلام منهم الكفر، ورآه عيانا منهم بعد أن كوَّن فيهم مدرسة الهداية بالحواريين، وأخذوا يدبرون التدبير للقضاء عليه أو على دعوته. والمكْر، كما يظهر من عبارات القرآن: هو التدبير الذي يجتهد صاحبه في إخفائه عمن يمكر به؛ ولذا نسب المكر إلى الله تعالى، ولا يمكن أن يكون عمل الله تعالى إلا خيرا، ولذا ذكر المكر موصوفا بالسوء في قوله تعالى:
(وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّئُّ إِلَّا بِأهْلِهِ...)، فدل هذا على أن مطلق المكر لا يعد سوءا، مكر الفجار لإيذاء الأبرار لَا يمكن أن يكون خيرا، ومكر الله تعالى لإحباط تدبير الأشرار لَا يتصور إلا أن يكون خيرا. وقد قصر بعض المفسرين المكر على التدبير السيئ، وسمي تدبير الله لإحباط تدبيرهم مكرا من قبيل المشاكلة ورد الفعل بمثله وإن لم يكن له وصفه، كتسمية رد الاعتداء اعتداء في مثل قوله تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ... ).
وما هو إلا عمل عدل ولكن سمي به للتماثل بين الفعلين في الواقع ليتحقق الدفاع العادل.
دبر أولئك قتل عيسى عليه السلام كما قتلوا يحيى، فكانوا - لاستيلاء الفساد على قلوبهم - قد أصابهم شره لدماء الأطهار دبروا ذلك، والله يدبر حمايته، وقد تم ما أراد الله تعالى، ولذا قال تعالى:
(وَاللَّه خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) فسرها بعض المفسرين بأن الله سبحانه لَا يصدر عنه إلا الخير، فمكره. خير مكر لأنه لَا يتصور فيه شر قط. وفسر الزمخشري قوله:
1240
(وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) بقوله: أقواهم مكرا، وأنفذهم كيدا، وأقدرهم على العقاب من حيث لَا يشعر المعاقب؛ وذلك كلام مستمد من ذوق بياني رائع والله من وراء كل من يدبر الشر للأطهار، وهو الذي يحفظ بعلمه وقدرته الأبرار، ربنا هيئ لنا من أمرنا رشدا.
* * *
(إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٥٦) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨)
* * *
هذه الآيات موصولة بالقصص السابق، والذي تدل عليه الآيات قبلها هو أن معركة قائمة بين الخير والشر؛ فعيسى عليه السلام ينادي أنصاره إلى الله تعالى، ويجيبه الحواريون بالإيمان والإخلاص والاستعداد للابتلاء في سبيل إيمانهم ونصرتهم للسيد المسيح عليه السلام، والشر يدبِّر التدبير السيئ، والله من ورائهم محيط، يدبر الخير ويهدي إليه (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) وفي هذه الآيات يبين سبحانه خيبة تدبيرهم ونجاته عليه السلام من شرهم، وذلك قوله تعالى:
1241
(إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتوَفِيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ):
والمعنى: اذكر يا محمد للعظة والاعتبار قصص عيسى ابن مريم، إذ قال الله تعالى له في نداء رحيم منجيا له من أذى اليهود الذين كانوا ولا يزالون أعداء لكل
1241
خير، أنصارا لكل شر (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) والمعنى المتبادر من هذا النص الكريم أن الله تعالى توفى عيسى كما يتوفى الأنفس كلها، وأنه رفع مكانته برفع روحه إليه سبحانه وتعالى، كما ترفع أرواح الأنبياء إليه سبحانه وتعالى، هذا ظاهر هذا النص، ولكن جاءت نصوص أخرى يفيد ظاهرها أن الله تعالى رفعه بجسده إليه سبحانه؛ فقد قال تعالى: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (١٥٧) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (١٥٨)، فظاهر هذا النص أن الله تعالى رفعه إليه بجسمه؛ لأنه مقابل بالقتل والصلب، ولا يصلح مقابلا لهما رفعه بالروح؛ لأنه يجوز أن يجتمع معهما، ويؤيد هذا ما ورد في صحاح السنة من أن عيسى عليه السلام سينزل إلى الأرض فيملؤها عدلا، كما ملئت جورا وظلما؛ فقد روى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله - ﷺ - قال: " والله لينزلن ابن مريم حكما عادلا فليكسرنَّ الصليب، وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية، ولتُتركنَّ القلاص (١) فلا يسعى عليها، ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد، ويدعون إلى المال فلا يقبله أحد " (٢) فإن ظاهر هذا الحديث يفيد أنه ينزل بجسمه من الملكوت الأعلى.
وإزاء تعارض ظواهر النصوص على ذلك النحو، كان لابد من تأويل جانب منها لتكون ثمة مواءمة بينه وبين الأخرى، ففريق من العلماء وهم الأقل عددا، أجروا قوله تعالى في الآية الكريمة التي نتكلم في معناها على ظاهرها وأولوا ما عداها، ففسروا قوله تعالى: (إِنِّي مُتَوَفِيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) بمعنى مميتك ورافع منزلتك وروحك إليّ، فالله سبحانه وتعالى توفاه كما يتوفى الأنفس كلها، ورفع روحه كما يرفع أرواح النبيين إليه.
________
(١) جاء في الهامش: القلاص جمع قلوص وهي الناقة، ولعل المعنى أن ابن آدم يتجرد للروحانية.
(٢) متفق عليه، وقد رواه بهذا اللفظ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مسلم: الإيمان - نزول عيسى ابن مريم حاكما بشريعة نبينا (٢٢١)، وبه رواه أحمد: باقي مسند المكثرين (١٠٠٠١)، ورواه البخاري: البيوع - قتل الخزير (٢٠٧٠).
1242
وإذا كان أصحاب هذا الرأي قد فسروا الآية على ذلك الظاهر، فقد قرروا أنه لَا معارضة بينها وبين الأحاديث التي تفيد النزول، لأنها تدل على مجرد العودة إن أخذناها بظاهرها، وليس الله سبحانه وتعالى بعاجز عن أن يرد روحه إلى جسمه، وهو الذي يُحي العظام وهي رميم، وكما قال تعالى: (... كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ)، وفضلُ عيسى عليه السلام أنه عاد إلى جسده قبل أن يعود غيره إلى جسده، هذا إذا قبلت هذه الأحاديث بظاهرها من غير تأويل، ومن غير نظر إلى سندها وكونها أخبار آحاد لَا يؤخذ بها في الاعتقاد.
وأما التوفيق بين الآية الكريمة وبين قوله تعالى: (بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ) فإنه في نظر أصحاب ذلك النظر لَا يحتاج إلى عناء في التأويل، لأن الإضراب الذي تضمنته " بل " إضراب عن القتل والصلب، وليس إضرابا عن الموت الطبيعي، وكونه لَا يقتل ولا يصلب لَا يقتضي أنه لَا يموت موتا طبيعيا، والتعبير بقوله: (بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ) فيه إشارة إلى معنى الكرامة والإعزاز والحماية، وأنه تعالى حاميه منهم، ومانعه دونهم، وأنهم لن يتمكنوا من رقبته، إذ إن الذي يحميها هو خالق الكون، وخالق القدر.
هذا هو التفسير الأول للآية الكريمة، وهو الذي يجريها على ظاهرها من غير أي تأويل، ويقرر أنه إن كان لابد من تأوبل فهو فيما يعارض ظاهره ظاهرها، على أن التوفيق في ذاته ممكن من غير تأويل بعيد أو قريب، إذ الظاهر أن التفسيرين في نظرهم غير متعارضين، والتوجيه الصحيح لمعانيها يجعلها متلاقية غير متنافرة وإن التأويل إنما يكون بترك ظاهر الآية الكريمة: (مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ).
والتفسير الثاني: يقرر أن الرفع بالجسم لَا بالروح فقط، وأن عيسى حي في السماء، وأن الأرض قد خلت منه ليعود إليها فيملؤها عدلا، بعد أن ملئت جورا؛ وإن أصحاب هذا الرأي وهم الأكثرون ويحتاجون بلا ريب إلى تأويل هذه الآية، ولهم في التأويل طرق مختلفة، منها أن قوله (مُتَوَفِيكَ) ليس معناها مميتك، بل
1243
معناها هو المعنى اللغوي الأصلي إذ إن التوفِّي في اللغة أخذ الشيء وافيا تاما، والمراد في نظرهم أنِّي موفيك حياتك كلها في الدنيا على الأرض ببقائك فيها، ثم رافعك إلى السماء تستوفي حظك من الحياة هناك. ولكن يعارض هذا التأويل أن القرآن له استعمال في العبارات يخصصها، وقد خصص هذا اللفظ بالموت، كما خصصته اللغة، ومن ذلك قوله تعالى: (الله يَتَوفَى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا) وقوله تعالى: (قُلْ يَتَوَفَاكُم ملَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِلَ بِكُمْ...).
ومن التأويلات: أنهم فسروا الوفاة بمعنى النوم باعتبار أن النوم هو الموتة الأولى، ومن ذلك قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَتَوفَاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرحْتُم بِالنَّهَارِ...). والمعنى على هذا منومك نوما عميقا، ثم رافعك في أثناء هذا النوم إليَّ.
ومن التأويلات: ما ذكره القرطبي بقوله: (إِنِّي مُتَوَفِيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) على التقديم والتأخير، لأن الواو لَا توجب الرتبة، والمعنى إنِّى رافِعُكَ إليَّ ومطَهِّرُك من الذين كفروا ومتوفيك بعد أن تنزل من السماء، كقوله تعالى: (وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مسَمًّى)، والتقدير ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزاما (١) أي أن الوفاة ستكون، وليست سابقة على الرفع، بل هي متأخرة عنه، أي أنه عليه السلام يموت بعد أن ينزل إلى الأرض ولا شك أن هذا ضرب من التأويل، وليس ظاهر النص.
ذانك نظران في تفسير الآية الكريمة، أولهما يعتمد على ظاهر الآية الكريمة، وعلى أنه لَا تعارض بين هذا الظاهر وظواهر النصوص الأخرى، ومنهم من يقف من أحاديث نزوله إلى الأرض موقف المستفهم؛ لماذا اختص عيسى بهذا؟ ولماذا لَا يكون هذا لنبينا محمد - ﷺ -؛ ويخشى أن يكون ذلك من دس النصارى، وكم دسوا في الإسلام، ولقد كان في عصر التابعين يوحنا الدمشقي في بلاط بني
________
(١) أحكام القرآن للقرطى جـ ٤ ص ٩٩.
1244
أمية يؤلف الجماعات السرية التي تدس الآراء والأفكار التي من شأنها أن تفسد عقائد المسلمين.
أما النظر الثاني فاعتماده الأكبر على الأخبار التي وردت بنزول عيسى عليه السلام وأوَّل من أجلها هذه الآية الكريمة، مع أن الأخبار أحاديث آحاد، وأولئك هم الأكثرون كما قلنا.
(وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) التطهير معناه إزالة الأدران والخبائث، والله سبحانه وتعالى طهر المسيح عليه السلام من الآثام التي حاول أن يلصقها به وبأمه اليهود ومن جاءوا بعده ممن ادعوا اتباعه وهم لم يتبعوه، وأبدى سبحانه وتعالى للملأ من اليهود طهر أمه وعفتها ونزاهتها، كما أبدى روحانيته وسلامته مما رماه به من عادوه وأفرطوا في عداوته، وما رماء به من أحبوه وأفرطوا في محبته حتى حسبوا أنه إله أو ابن إله، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. هذا تطهير الله لعيسى عليه السلام، ولقد طهره أيضا بأن لم يمكن اليهود والرومان من صلبه ومن قتله بل شُبه لهم، ونجاه الله تعالى من كيدهم؛ وهكذا طهّر الله عيسى من كل رجس معنوي أو حسي، ومن كل أذى حسي أو معنوي.
ولقد جعل الله سبحانه وتعالى الذين اتبعوه فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة، وهنا يسأل القارئ لكتاب الله: من هم الذين اتبعوه؟ ومن هم الذين كفروا به؟ وما هذه الفوقية التي تكون للذين اتبعوه؟
ليس الذين اتبعوه هم الذين قالوا إنا نصارى أو نحن نتبع المسيح وكانوا يزعمون أنه ثالث ثلاثة أو ابن الله؛ لأنه ما قال هذا وما ادعاه، ولكنه جاء بالتوحيد، والإيمان بالله العلي القدير وحده؛ هانما الذين اتبعوه هم الذين آمنوا به، وبأنه رسول من رب العالمين، وبأنه بشر كسائر البشر، وأن تعاليمه هي العدالة، والرحمة، والسماحة، والإخلاص في طلب الحق وعبادة الله تعالى كما أمر الله؛ ولذلك لم يجانب الحق من قال إن أتباعه هم المسلمون، لأنهم هم الذين
1245
يؤمنون برسالته حق الإيمان من غير إفراط ولا تفريط، ومن غير أن يتجاوزوا به قدره الذي قدره الله تعالى له وسواه عليه.
والفوقية ليست هي القوة؛ فإن الأسد أقوى من الإنسان، ولكنه ليس فوقه ولا أعلى منه، بل الفوقية هي فوقية الإدراك والإيمان والإخلاص؛ وذلك لأن سبب الفوقية هو الاتباع، والمسبب من جنس السبب، فالسبب معنوي روحي، فالفوقية روحية معنوية، فليست الفوقية إذن فوقية سيف وسنان، بل فوقية حجة وبرهان،. ولقد قال الزمخشري في ذلك: " يعلونهم بالحجة، وفي أكثر الأحوال بها وبالسيف، ومتبعوه هم المسلمون؛ لأنهم متبعوه في أصل الإسلام، وإن اختلفت الشرائع، دون الذين كذبوه، والذين كذبوا عليه من اليهود والنصارى " (١).
(ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا بهُتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) إن الفوقية التي أشرنا إليها هي فوقية الحجة القوية الثابتة عن النظر بعين الحق السائغ، والقسطاس المستقيم، وإن هذه الحجة قائمة في الدنيا إلى يوم القيامة، حتى إذا انتهوا إلى ذلك اليوم المعلوم المقطوع بأنه لي يقع لَا محالة، يكون الاحتكام بها إلى الحكم العَدْل العليم، ولذا قال سبحانه: (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) أي إليَّ رجوعكم ومآبكم، وإذا كان المرجع إلى الله والمصير إليه سبحانه وهو العليم بكل شيء، فهو الذي يحكم بينهم فيما كانوا يختلفون فيه، وحجة بعضهم فوق حجة الآخرين، فالفاء في قوله تعالى: (فَأَحْكمُ بَيْنَكمْ فِيمَا كنتمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) هي التي تسمى فاء الإفصاح، لأنها تُفْصِح عن شرط مقدر، وقد ذكرناه في مطوي كلامنا. ولقد بين سبحانه وتعالى بعض الحُكم مفصلا في قوله تعالى:
* * *
________
(١) الكشاف: جـ ١ ص: ١٩٢.
1246
(فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٥٦)
* * *
هذا هو الجزء الأول من الحكم، وهو عذاب الذين كفروا، وفي التعبير بالموصول إشارة إلى أن سبب العذاب هو كفرهم، وقد أكد سبحانه وتعالى شدة
1246
العذاب بعدة تأكيدات، أولها: بنسبة التعذيب إليه، وهو القويّ القهّار الغالب على كل شيء، وفيه إشعار بعدالة العذاب عدالة مطلقة، وثانيها: بالتأكيد بالمصدر، وثالثها: بالوصف بالشدة، ورابعها: بعدم رجائه إنهاءه أو إزالته؛ إذ لَا يوجد لهم من ناصر؛ ولذا قال سبحانه: (وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ) وهو نفي مؤكد مستغرق، أي ليس لهم من ناصر أيا كان هذا الناصر، وأيا كانت نصرته، ولو كانت ضئيلة.
ولقد ذكر أن العذاب في الدنيا. وفي الآخرة؛ أما عذاب الآخرة فالأمر فيه إلى الله تعالى العلي القدير، وأما عذاب الدنيا بالنسبة لمن كذبوا المسيح من اليهود فهو هذه الذلة والتفريق في الأرض، ومهما يحاول الكافرون أمثالهم لهم من معاونة فإن حبلها مقطوع بعون الله تعالى العلي القدير (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ)، وأما النصارى فإن العذاب الذي هم فيه يبدو للناظر الفاحص من اختلافهم فيما بينهم، وتفرقهم أحزابا وشيعا، وجعل بأسهم بينهم شديدا، وهذه هي الحروب بينهم مستمرة مفنية مدمرة، وأي عذاب أشد من هول الحروب التي وقعت بينهم في الحربين العالميتين السابقتين!! فكم من دماء أهرقها أولئك الذين كفروا بالمسيح فيما بينهم، وأي ذرية أبادوها؛ وكم من العمران خربوه!! ولا يدري إلا الله ما سيكشف عنه المستقبل من عذاب شديد يعده بعضهم لبعض، حتى يصيروا في نهايتهم بورا.
* * *
1247
(وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧)
* * *
هذا هو الجزء الثاني من الحكم وهو جزاء الذين آمنوا، وقد ذكر جزاءهم الحكيم العليم بأنه يوفيهم أجورهم أي جزاءهم على ما قدموا من أعمال استحقوا عليها ذلك الجزاء، وهو النعيم المقيم؛ وقد جعل ذلك الوفاء وهذا الجزاء مبنيا على أمرين، أحدهما: إيمان صادق، والثاني: عمل صالح، فهما اللذان نيط بهما الجزاء، وفي الحق إن الإيمان الصادق يتبعه العمل الصالح، وليس بمؤمن حق الإيمان من يتخلى عمله عن اعتقاده، ولم يذكر سبحانه وتعالى نعمته في ثوابه، وهو المنعم دائما المتفضل بالثواب؛ للإشعار بأن إنعامه سبحانه منوط بعمل،
1247
ولْيُعلمْنا العدالة بأن نربط الجزاء بالعمل ثم ذيل سبحانه وتعالى الآية بقولها (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) لإعلان عدالته ولإثبات أن الكفر والظلم قرينان، وأن الإيمان والعدل متلازمان، ولبيان استحقاق الذين آمنوا وعملوا الصالحات لما أعطوا من ثواب ونعيم مقيم. ولقد ختم الله سبحانه وتعالى قصص عيسى بقوله تعالى:
* * *
1248
(ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨)
* * *
ذلك القصص الذي ذكرت فيه قصة آل عمران، وقصة مريم وولادتها وزكريا ونداءه وإجابته، وعيسى وروحانيته وآياته الباهرة، نتلوه، أي نقصه عليك بعضه تلو بعض فنتلوه في بيان رائع، وهو من الآيات البينات المثبتة لرسالتك، فما كنت لديهم إذ حدثت هذه الوقائع الثابتة التي لَا مجال للريب ولا للشك في صدقها، وما كنت تقرأ في كتاب، ولا تلقيته بيمينك، إنما هو وحي به إليك لتثبت به رسالتك، وتؤيد به دعوتك، وهذا القصص مع دلالته على نبوتك هو في ذاته يحمل العظة والاعتبار؛ ولذلك كان هو من (وَالذكرِ الْحَكِيمِ) أي الذكر الذي يربي الحكمة في القلوب التي تقرأ وتعي وتدرك، إذ هو يذكر القارئ بِأن الأدلة مهما تكن قوتها لَا تجعل الضال يهتدي ما لم يفتح قلبه لها، فالأدلة كالنور لَا يراه إلا من له بصر يبصر به، اللهم افتح قلوبنا لإدراك الحق والإيمان، إنك على كل شيء قدير.
* * *
(إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (٦١) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣)
* * *
1248
في الآيات السابقة بيَّن الله سبحانه وتعالى كيف كان الحمل بعيسى، وما أجراه الله تعالى على يديه من معجزات، وكيف كان عبدا من عباده الصالحين، وذكر دعوته إلى ربه، ومعاداة قومه له، وتقدم الحواريين ليكونوا أنصاره إلى الله، وكيف مكر القوم به وأحبط الله مكرهم، ثم توفاه سبحانه، ورفعه إليه، وجعل فوقية للذين اتبعوه في هدايته، فآمنوا بوحدانية الله وبرسالته، وليس منهم قطعا أولئك الذين قالوا إنا نصارى وادّعوا ألوهيته، أو أنه ابن الله، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
وإنه في هذه الآيات يبين الله سبحانه وتعالى حقيقة تكوين عيسى، ويزيل وجه الغرابة في ولادته، وأن الله تعالى لَا يتقيد بالأسباب والمسببات؛ لأنه خالق كل شيء، وهو الفاعل المختار، يخلق الأشياء بإرادته واختياره، ولا تصدر عنه المخلوقات صدور المعلول عن علته، كما يتوهم الماديون الذين عاصروا عيسى عليه السلام، والذين يعاصروننا اليوم، وإن الله سبحانه كما خلق الإنسان الأول آدم من غير أب ولا أم، فكذلك خلق عيسى من غير أب، وهو سبحانه ذو القوة المتين. ولقد بين سبحانه هذه الحقيقة بقوله:
1249
(إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ) يبين الله بهذا النص الكريم مكان خلق عيسى عليه السلام من قدرته سبحانه وتعالى، بجوار خلق آدم من تراب، فالله سبحانه وتعالى خلق آدم من تراب، أي من غير أب ولا أم، ومن مادة ليس من شأنها أن يكون منها إنسان حي ينطق ويتكلم، وقد تعلم الأسماء والأشياء كلها، ومعنى النص الكريم: إن حال عيسى في تصويره وتكوينه من غير أب بالنسجة لقدرة الله تعالى كحال آدم صوره وكونه من طين.
وفي هذا التمثيل احتجاج على النصارى الذين ألَّهوا المسيح عيسى ابن مريم لأنه خلق من غير أب، واعتبروه ابن الله والاحتجاج من وجهين: أولهما: أنه إذا كان خلق عيسى من غير أب مسوغا في زعمهم لأن يكون إلها أو ابن إله، فأوْلَى بذلك ثم أوْلى آدم؛ لأنه خلق من غير أب ولا أم، ولا
1249
أحد من الناس ادعى ألوهية آدم لهذا السبب فيبطل حينئذ ذلك الزعم الباطل لانهيار الأساس الذي قام عليه.
ثانيهما: أن الله سبحانه وتعالى إذا كان قادرا على خلق إنسان حيّ من غير أب ولا أم، ومن مادة ليس من شأنها أن يتكون منها إنسان حي، فأولى أن يكون قادرا على خلق إنسان من غير أب، ومن أم هي إنسان يلد ويحيا ويموت، وهي وعاء لحياة الإنسان وهو جنين؛ وإذا فلا غرابة في خلق عيسى من غير أب، وما كان يصح أن يكون هذا دافعا لهذا الضلال المبين.
والنص الكريم فوق ما تضمنه من حجة دامغة تقطع دعوى المبطلين، هو بيان لقدرة الله تعالى العلي القدير في خلق الأحياء وخلق الأشياء، من حيث إنها تخلق بإرادته المختارة، وأنه بهذه الإرادة يخلق الحي من غير الحيّ، ويخلق الحيّ على غير النظام الجاري في مجرى العادات، وما نسميه طبائع الأشياء في التكوين والتوالد، ولا تصدر عنه الأشياء كما يصدر المعلول عن علته، وإلا ما كان من الطين إنسان حي ناطق هو أبو الخليقة آدم عليه السلام. ولذا بين سبحانه بعد ذلك عظم إرادة الله تعالى في خلق آدم:
(ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) هذا تصوير لخلق الله تعالى آدم من تراب، أراد سبحانه وتعالى أن يكون فصوَّره من طين، ثم قال له لما صوره آمرا له أمرا تكوينيا " كُن " فكان. وهذه الجملة السامية تصور خلق الله سبحانه وتعالى للأشياء الأحياء وغير الأحياء، فليست إلا أن تتجه الإرادة إلى تكوينها، فيكون الأمر التكويني، وتكون الاستجابة التكوينية، ويكون الأمر كما أراد سبحانه. وقال سبحانه وتعالى بالنسبة لخلق آدم عليه السلام: (كُن فَيكُونُ) ولم يقل كن فكان، وهو المناسب للماضي، وذلك لأن التعبير بالمضارع دائما فيه تصوير وإحضار للصورة الواقعة كما وقعت، ومن جهة أخرى فصيغة المضارع في هذا المقام تنبئ عما كان، وتومئ إلى ما يكون بالنسبة لخلق إلله تعالى المستمر في المستقبل كما كان في الماضي وقد بين سبحانه أن هذا هو الحق الثابت المستمر، فقال:
* * *
1250
(الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠)
* * *
أي هذا الذي أخبرك الله به سبحانه من أن عيسى خلق من غير أب، وكونه كذلك، وكون خلق آدم من طين، وكون هذا التكوين العام هو بإرادة مختارة، لَا قيد يقيدها، وأنها خالقة الأسباب، هذا هو الحق، والحق هو الثابت اليقيني الذي لَا مجال للشك فيه. وقد أكد سبحانه وتعالى كونه الحق الذي لَا مجال للريب فيه بثلاثة تأكيدات:
أولها: بتعريف كلمة الحق بأل، فإن مؤدى ذلك أن خلق الله بإرادته المختارة على النحو الذي بينه هو الحق وحده، ولا حق سواه.
ثانيها: أنه بين أن إثبات ذلك الحق هو من ربك الذي ذرأك وحفظك، وفي ذلك ما يدل على صدق الإثبات صدقا لَا ريب فيه.
ثأا: أنه نهى عن الامتراء والشك في ذلك الحق، فقال سبحانه: (فَلا تَكن مِّنَ الْممْتَرِينَ) أي أنه لَا مجال فيه للشك، أو للجدال والمراء المثير للشك.
والخطاب موجه إلى النبي - ﷺ - مع أن النبي - ﷺ - لَا شك عنده، وكان كذلك لإثارة الاهتمام والاتجاه إليه، وبيان أنه لَا موضع فيه للجدل والامتراء، فيكون الاطمئنان إلى الحق المبين، وإذا كان هذا دعوة للنبي إلى الابتعاد عن الامتراء فغيره أولى بأن توجه إليه الدعوة القاطعة لكل ريب.
والامتراء: هو الشك الذي يدفع إلى المراء والمجادلة المبنية على الأوهام لا على الحقائق ولذلك قال الراغب الأصفهاني في معنى الامتراء ما نصه: " المرية التردد في الأمر، وهو أخص من الشك، قال تعالى: (وَلا يَزَالُ الَّذينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ منْهُ...)، (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ ممَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ...)، (فَلاً تَكُن فِي مِرْيَةٍ هِن لِّقَائِهِ... )، (أَلا إِنَّهمْ فِي مِرْيَةٍ من لِّقَاءِ رَبِّهِمْ... )، والامتراء والمماراة: المحاجة فيما فيه تردد، وأصله من مريت الناقة إذا مسحت ضرعها للحلب ".
فمؤدى كلمة الامتراء هو المحاجة فيما فيه ريب، فكأن الله سب حانه وتعالى يقول لنبيه الكريم أو لقارئ القرآن العظيم: فلا تكن من الذين يجادلون في هذا
1251
شا كين؛ فإنه ليس موضع شكك من جهة، وليس موضع جدال؛ لأن الذين يجادلون فيه يجادلون في قدرة الله تعالى (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ)، وإذا كان النبي - ﷺ - منهيا عن المجادلة في هذا الأمر لأنه لَا مسوغ فيه للجدل، فماذا يكون من أمره إن حاجوه هم؛ فبين سبحانه ما يكون منه إن حاجوه بقوله تعالت كلماته:
* * *
1252
(فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (٦١)
* * *
المحاجة تبادل الحجة، سواء أكانت الحجة قوية أم كانت حجة داحضة عند ربهم، والفاء هنا فاء الإفصاح؛ إذ إنها تفصح عن شرط مقدر؛ والمعنى إذا كانت هذه حقيقة السيد المسيح عليه السلام، وهذه إرادة الله تعالى في الخلق والتكوين، فكل ما يدعى له من الألوهية باطل، ولا يؤمن به أحد، فمن حاجك إلخ: والمعنى: فمن حاجك في شأنه من حيث كونه إلها أو ابن إله أو غير ذلك من الترهات الباطلة، بعد أن علمت من شأنه ما علمت، وذلك بعلم الله الذي أعلمك إياه، ووحيه الذي أوحاه إليك، فلا تبادلهم حجة بحجة لأنهم لَا يؤمنون بحقيقة ما يقولون، ولا يذعنون للحق الذي تقول، وإن كانوا يعلمونه، ولكن قل لهم: (تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ) والمعنى ندع من عندنا من ذرية ونساء، ومن عندكم من ذرية ونساء، ومن عندنا من رجال، ومن عندكم؛ أي يتلاقى جمعنا وجمعكم، ثم نتجه نحو الحقيقة طالبين لها، أو على الأقل يعلن كل واحد منا إيمانه بما عنده، ونبتهل إلى الله ضارعين إليه، متجهين بقلوبنا نحوه أن يجعل لعنته وطرده من رحمته على الكاذبين في دعواهم المنحرفين في اعتقادهم.
وهذا المعنى هو ظاهر الآية؛ إذ فيه الدعوة الاجتماعية من الفريقين ليكون الجمع في مقابل الجمع فيعرف المحق من المبطل.
1252
وهناك معنى آخر تشير إليه مرويات الصحاح من السنة، وهو أن يدعو النبي خاصته من أهل بيته، وهم نساء قرابته وذريته، ورجال أسرته؛ وقد روى البخاري وغيره أن النبي - ﷺ - ذهب إلى المباهلة ومعه الحسن والحسين وفاطمة وعلي (١).
والمعنى على الأول يشير إلى أن المباهلة بين أهل الحق مجتمعين، وأهل الباطل مجتمعين، ثم يتجهون جميعا إلى رب العالمين؛ لأن الأمر يهم الجميع، فإما أن يذعن أحد الفريقين للآخر، وإما أنه يطرد من رحمة الله تعالى. وعلى الثاني يشير إلى أن المباهلة بين النبي وأسرته، وكبراء الفريق الآخر وأسرهم، وإلى أن الذي يؤمن بما يقول لَا يمتنع عن تقديم أحب الناس إليه في المباهلة ما دام مؤمنا بأن الحق في جانبه.
وإن النبي تقدم إلى هذه المبارزة المعنوية الاعتقادية، ولكنهم أحجموا ولم يتكلموا ورضوا أن يدفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
والابتهال قال فيه الزمخشري: (ثُمَّ نَبْتَهِلْ): ثم نتباهل بأن نقول بهلة الله على الكاذب منا ومنكم، والبهلة بالفتح والضم اللعنة، وبهله الله: لعنه وأبعده من رحمته، من قولك أبهله إذا أهمله. وأصل الابتهال هذا، ثم استعمل في كل دعاء يجتهد فيه، وإن لم يكن التعانا.
وفى الآيات الكريمة إشارة إلى عدة معالب نفسية واجتماعية:
أولها: أن المجادل المماري لَا تزيده الحجة القوية اقتناعا، ولا تحمله على الإذعان، إنما يحمله على الإذعان التوجيه النفسي، بأن يدرس مقدار اقتناعه هو بما يقول، وفي الابتهال وسط لجاجة أولئك الذين يحرفون الكلم عن مواضعه دعوة لهم إلى أن يفتشوا قلوبهم ويعرفوا مقدار إيمانهم بما يقولون، ومقدار الحق فيما يعدلون؛ ولذلك خروا صاغرين، ولم يستطيعوا جدالا.
________
(١) رواه الترمذي: المناقب مناقب علي بن أبي طالب (٣٦٥٨) وأحمد: مسند العشرة المبشرين بالجنة
1253
وثانيها: أن الدعوة بالتي هي أحسن توجب على الداعي ألا يفرط في المجادلة، كما كان يقول الإمام مالك: بيّن الحق ولا تجادل فيه، فإن كل مجادلة توجب على الفريق الآخر أن يلتزم موقفه.
ثالثها: أنه يجب أن تعلم الذرية والنساء شئون الدين، ولذلك كانوا مشتركين في تلك المنازلة بين الحق والباطل وهذه المعركة النفسية الفاصلة بين إيمان المؤمنين، وانحراف المنحرفين.
ورابعها: التعاون الفكري والنفسي بين المؤمنين، فإن تلك المباهلة كانت بين أهل الإيمان متعاونين على دعوة الحق، وأهل الباطل مدعوين إلى التعاون عليه فيها إن كانوا مؤمنين به، فلم يحيروا جوابا.
ولقد أكد سبحانه وتعالى صدق ما أخبر به عن عيسى عليه السلام فقال تعالى:
* * *
1254
(إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ... (٦٢)
* * *
أي إن هذا الذي أخبرت هو القصص الثابت الذي لَا مجال فيه لإنكار منكر، ولا لتشكيك متشكك، وقد أكد سبحانه صدق القصص في تلك الجملة السامية بأربعة مؤكدات هي: إنَّ، فهي للتوكيد، واللام في قوله تعالى: (لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ) وضمير الفصل، والقصر الذي تضمنه تعريف الطرفين؛ إذ المعنى فيه أن ما أخبرت به في شأن عيسى عليه السلام هو وحده الخبر الحق، ولا حق في سواه، بل ما عندهم ترهات وأباطيل.
وإن هذا الخبر يتضمن في ذاته أن المسيح عيسى عليه السلام ليس إلها ولا ابن إله، وأنه عبد الله ورسوله الأمين، وأنه من أولي العزم من الرسل، وأن الألوهية الحق هي لله تعالى وحده؛ ولذا صرح بهذا عقب تأكيده القصص الحق، فقال تعالى: (ومَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ): هذا نفيٌ باتٌّ قاطع للألوهية من غير الله تعالى، وإثبات الألوهية لله وحده، وقد أكد النفي بكلمة " من " فهي تفيد استغراق النفي استغراقا مستمرا ثابتا مؤكدا، وفى النفي والإثبات تأكيد لمعنى المستثنى أبلغ تأكيد، وإن هذا النفي فيه رد بالغ على النصارى الذين ادعوا ألوهية للمسيح عليه السلام.
1254
وقوله تعالى: (وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) معناه أن الله سبحاته وتعالى المنفرد بالألوهية وحده هو العزيز الغالب الذي لَا يقهر، الحكيم الذي يدبر كل شيء بكمال سلطانه وسيطرته على هذا الوجود الذي لَا ينازعه السلطان فيه غيره كائنا من كان. وإن الجملة السامية فيها تأكيد لمعنى العزة والسلطان الكامل بالتعبير بإن، وباللام، وبضمير الفصل، وبتعريف الطرفين.
وفى هذا الكلام رد على أولئك الذين يزعمون أن المسيح إله، ويعتتدون مع ذلك أنه غُلب على أمره وصُلب ولم يستطع لنفسه حولا ولا طولا، ولا حيلة يخرج بها من ذلك المأزق، ولكن هكذا يعتقدون، وبه يؤمنون.
* * *
1255
(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣)
* * *
أي فإن أعرضوا ولم يبتهلوا لتكون لعنة الله على الكاذبين، وكلمة الحق هي الغالبة المسيطرة، فاعلم أنهم ليسوا طلاب حق وهداية ولكنهم دعاة باطل، وفي دعاوى الباطل يكون الفساد في الأرض؛ لأنه لَا فساد في الأرض أكثر من فساد الاعتقاد، فإن فساد الاعتقاد، يدفع إلى فساد العمل.
وقوله تعالى: (فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ) ليس هو جواب الشرط ولكنه ينبئ عن جواب الشرط المحذوف، إذ تقدير القول: فإن تولوا وأعرضوا فأنذرهم بسوء الغبة وسوء العقبى، فإن الله عليم بالمفسدين. وهذه الجملة السامية تتضمن في ذاتها تهديدا شديدا، إذ إن الله تعالى إذا علم بالمفسد لَا يسكت عنه، ولا يتركه يعيث في الأرض فسادا، بل إنه يأخذه أخذ عزيز مقتدر، ويوم القيامة يأخذه بالنواصي والأقدام، وكذلك الشأن في كل من يعرضون عن الحق إذا دعوا إليه.
اللهم مكن الحق من قلوبنا، واجعلنا ممن يؤمنون به، ويذعنون له، وأعز الإسلام، واجعل أهله يؤمنون به، ويفتدونه، إنك أنت العزيز الحكيم.
* * *
1255
(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٦٥) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٦٦)
* * *
ذكر سبحانه وتعالى فيما سبق خبر مريم البتول، وخبر ابنها عيسى الذي رفعه الله مكانا عليا، ثم ذكر سبحانه وتعالى الآيات الكبرى التي أجراها على يد عيسى عليه السلام لإثبات رسالته، وتوثيق دعوته، ثم آمن به الحواريون، وكفر به الأكثرون، مما يدل على أن المعجزة لَا تحمل على الإيمان حملا، ولكنها تنير السبيل أمام طالبي الحق الذين لَا يبغونها عوجا، ثم أشار سبحانه إلى انحراف الذين جاءوا بعد عيسى وادّعوا أنهم اتبعوه، وما اتبعوه في شيء؛ فقد ادّعوا أنه إله أو ابن إله، وليس إلا عبد الله ورسوله، وقد اعتمدوا في هواهم على أنه خلق من غير أب، فأبطل سبحانه قياسهم بقياس أدق وأقوى إنتاجا، وهو أن آدم خلق من غير أب وأم فكان أولى أن يعبد، إن كان قياسهم سليما، ولكنه غير سليم.
ثم أمر سبحانه وتعالى أن يخاطب نبيه محمد - ﷺ - نصارى عصره بما يكشف خبيئة نفوسهم، - وهي أنهم لَا يؤمنون بشيء إيمانا صادقا، ولكنهم يمارون، وما أمره سبحانه به هو أن يبتهل هو وهم، فيجعلوا لعنة الله على الكاذبين، فلم
1256
يدخلوا في تلك المبارزة النفسية التي يبارز فيها الحق اليقين الثابت الباطل المتردد المتحير.
وفى هذه الآيات ينتقل سبحانه وتعالى من الخصوص إلى العموم، فيخاطب أهل الكتاب من نصارى ويهود على لسان نبيه، يدعوهم جميعا إلى الحق الذي يتساوى عنده الجميع، فقال تعالى:
1257
(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كلِمَة سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) النداء هنا لأهل الكتاب عامة، لَا لطائفة خاصة منهم؛ فهو يشمل اليهود والنصارى جميعا، لا فرق بين طائفة منهم وطائفة، وكان النداء في هذا عاما؛ لأن العيب عام فيهم، والدواء واحد؛ فلوحدة الداء ووحدة الدواء كان النداء عاما؛ ذلك أن عيبهم هو التعصب لما عندهم تعصبا أعماهم عن الحق عند غيرهم، فهم يظنون أنهم وحدهم أهل علم النبوة لَا ينزل على غيرهم ولا يدينون به لسواهم، فهم يزعمون أنهم أبناء الله وأحباؤه، وكل يتعصب لما عنده، فاليهود يقولون: ليست النصارى على شيء، والنصارى يقولون: ليست اليهود على شيء، وكلاهما يقولون: ليس غيرنا على شيء، والدواء واحد أيضا، وهو طلب الحق لذات الحق من غير إذعان لهوى، ولا إفراط في العصبية، وحتى لَا تؤدى إلى الانحراف.
وناداهم سبحانه: بـ (أهل الكتاب) مع أنهم حرفوا فيه الكلم عن مواضعه، وانحرفوا عن مبادئه، وفرقوا في أحكامه، وتفرقوا في فهمه؛ والسبب في هذا النداء هو أولا توبيخهم على ما كان منهم؛ لأن علمهم بالكتاب كان يوجب عليهم الإذعان للحق بدل التفرق فيه، (وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ...) ثم هناك سبب آخر، وهو أن علمهم بالكتاب في الجملة يجعل الاحتكام إلى ما بقي منه عندهم كافيا لإذعانهم إن كانت عندهم أثارة من إيمان بالحق وطلب له مع ما هم فيه من تعصب، ولقد أمر الله نبيه بأن يدعوهم بقوله: (كلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكمْ) أي كلمة هي مستوية بيننا وبينكم، أي فيها إنصاف لنا ولكم، ونلتقي فيها معكم، وتلتقون
1257
عندها إن طلبتموها، وكلمة سواء تطلق بمعنى العدل والنصفة وقد قال زهير بن أبى سلمى:
أرونِي خطَّةً لَا ضَيْمَ فيها يُسَوِّى بيننا فيها السَّواءُ
فالسواء هنا هو العدل، وأصل السِّوَى، والسُّوى الاسُّتواء، وإذا فتحت السيق منها صارت سواء، ولقد قال تعالى: (... مَكَانًا سُوًى)، أي مكانا مستويا.
والمؤدى أن الله سبحانه وتعالى أمر نبيه أن يدعوهم إلى كلمة يستوي فيها النبي معهم، وكان ينبغي أن يستووا بالنسبة لها معه، وتلك الكلمة، أو تلك الحقيقة المقررة الثابتة في كل الكتب السماوية التي لَا يفترق فيها كتاب عن كتاب هي ما ذكره سبحانه وتعالى بقوله:
(أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ)
فهذه الكلمة التي يستوي فيها الإسلام مع الأديان التي سبقته هي التوحيد، والتوحيد بشمول معناه يشمل التوحيد في العبودية، والتوحيد في الربوبية، والتوحيد في العبودية ألا يعبد إلا الله سبحانه وتعالى، وهذا ما بينه سبحانه وتعالى بقوله على لسان نبيه: (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا). فلا يصح أن يشرك مع الله في الألوهية حجر ولا بشر، فلا يقال: فلان إله، ولا ابن إله ولا عنصر ألوهية قط في حجر.
أما التوحيد في الربوبية، فهو ما أشار إليه سبحانه بقوله تعالى: (وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ) أي لَا يتخذ أحد من البشر في مقام الرب، بأن يكون له فضل في التكوين أو الإنشاء أو التأثير في الخلق بأي نوع من أنواع التأثير، فإن هذا كله من عمل الرب، والله سبحانه وتعالى هو رب العالمين وحده، ولا رب سواه، فلا مؤثر في الكون ولا في الأشخاص، ولا في الأشياء سواه، فلا أثر لحجر ولا لبشر كائنا من كان هذا البشر.
1258
وهناك معنى آخر للربوبية يدخل في مضمونها، وهو أن يكون الشرع كله لله تعالى، فلا يتكلم عن الله أحد إلا نبي يوحى إليه، والجميع بعد ذلك أمام الشرع سواء، إلا أن يكون فهم متميز متفهم متعرف، ومن ادعى أنه يتكلم عن الله باسم الله من غير وحي يعتمد عليه، فقد زعمه ربا يؤخذ عنه؛ ولذلك عبر القرآن عن علماء النصارى واليهود الذين ادعوا أن قولهم دين يتبع، وتقاليد تؤثر، بأنهم قد اتخذوهم أربابا من دون الله، فقال تعالى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ...)، ذلك بأنهم جعلوا لهم الحق في أن يشرعوا باسم الله ما لم يشرعه الله، وأن يخالفوا ما أمر الله سبحانه وتعالى، فهم جعلوهم في مقام الرب جِل جلاله، ولقد روي عندما نزل قوله تعالى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) قال عدي بن حازم: ما كنا نعبدهم يا رسول الله! فقال الرسول عليه السلام: " أليسوا كانوا يحلون لكم ويحرمون فتأخذوا بقولهم؟ " قال: بلى.
قال النبي - ﷺ -: " هو ذاك " (١).
وعن بعض التابعين أنه قال؛ لَا أبالي أطعتُ مخلوقا في معصية الخالق أو صليتُ لغير القبلة!! فكانت التسوية كاملة بين الأخذ في دين الله بغير ما أنزل الله، والخروج عن الإسلام الذي رمز إليه ذلك التابعي الجليل، وهو ألا يكون من أهل القبلة.
عرض النبي بأمر الله تعالى ذلك الأمر الذي يكون فيه نصَفة له (٢) ولهم، وكانت الدعوة إلى أخذ دين الله من ينبوعه الصافي فيهما فائدتان: إحداهما: ألا يتزيدوا على ما أمر الله تعالى وما نهى عنه؛ والثانية: أن أولئك المجادلين هم الذين يبثون في نفوس أتباعهم التعصب الأعمى، محافظة على سلطانهم أن يزول؛ فكانوا في زعامتهم بمنزلة زعماء قريش وأشباههم من أنهم خشوا على سلطانهم من اتباع النبي الكريم - ﷺ -.
________
(١) رواه الترمذي: تفسير القرآن - ومن سورة التوبة (٣٠٢٠).
(٢) النصفة: الإنصاف، وهي المعاملة بالعدل.
1259
وإذا كان قد دعاهم إلى هذ لإنصاف وإلى ترك التعصب جانبا، وعدم الخضوع لأسبابه، فإن حال الذين يخاطبهم إحدى حالين: إما أن يخلصوا في طلب الحق، ويجيبوا داعيه، وتلك خير الخصلتين، وإما أن لَا يجيبوا داعيه وتلك هي السوءى، فإن كانت الأولى فتلك هداية الله، وإن كانت الثانية فإن الله تعالى قد كتب عليهم الشقوة، ولا سبيل لأن يدخل النور قلوبهم، فإن من طلب منه الإنصاف فأعرض عنه فلا سبيل إلى هدايته، والجدل معه لَا يجدي؛ ولذا قال سبحانه وتعالى: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ):
أي فإن أعرضوا ونأوا بجانبهم عن إجابة داعي الإنصاف، والدعوة بالتي هي أحسن فلا تجادلوهم ولا تحاجوهم، فإن الجدل مع من لم يجب داعي العدالة لا يزيده إلا لجاجة وعنادا؛ وإن الحقائق تتبعثر على ألسنة المتجادلين، ويتبدد رونقها، ويذهب بهاؤها، وتفقد النفس عند الجدل الإيمان بالحقائق والإذعان لها، بل أمرهم الله تعالى بقوله: (فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) أي يقول النبي - ﷺ - ومن معه من المؤمنين لأولئك الذين مردوا على الجدال وبعثرة الحقائق في حومة الجدل: اشهدوا بأنا مسلمون، مذعنون لطلب الحق فلا تحاولوا أن تغيرونا عما اعتقدنا وقد أنصفناكم بالدعوة إلى كلمة الحق والإنصاف، فلم تجيبوا، والآن ننصفكم مرة أخرى بأن نشهدكم بأننا مخلصون في طلب الحق مذعنون له؛ ومن جانبنا؛ فإن أذعنتم مثلنا فنعمّا هي، وإن لم تذعنوا فلنا دينُنا، ولكم دينكم، والله يحكم بيننا وهو خير الحاكمين. وإن إعلان الإذعان للحق من جانب المؤمنين فيه دعوة للحق بإعلان المثل الواضح البين السامي، وهو يؤثر في الدعوة إلى الحق أكثر من الجدل، إذ يكون فيه ذكرى لمن له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. وإن الجدل يثير غبارا يجعل الوصول إلى الحق عسيرا وسط عجاجة المتجادلين.
وإن هذه الآية الكريمة صورة سامية من الدعوة إلى الحق. ولذا كان يتخذها النبي - ﷺ - منهاجه في دعوته، فقد كانت في الصيغة التي اختارها في دعوة الملوك والحكام الكبراء إلى الإسلام، وهذا نص كتابه عليه الصلاة والسلام إلى هِرَقْلُ ملك الروم:
1260
" من محمد عبد الله ورسوله، إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى. أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين (١)، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لَا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا أرباب من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون " (٢).
ولقد كان النصارى يحاجون بولادة عيسى، ويتخذون منها دليل ألوهيته، واليهود يتحاجون ويجادلون بما عندهم من توراة، أو بالأحرى بما بقي عندهم منها؛ ولما كان كل من الفريقين يدعي أن إبراهيم أبا الأنبياء كان على مثل دينهم، وذلك ليبينوا أن ديانتهم هي ديانة السابقين، كما هي ديانة المتأخرين، بين الله سبحانه أن مثل هذا الاحتجاج منهم باطل في معناه، كما هو باطل في شكله ومبناه؛ فقال سبحانه:
* * *
________
(١) جاء في الهامش: الأريسيون هم: العمال والفلاحون، أو الدهماء بشكل عام.
(٢) متفق عليه؛ رواه البخاري. بدء الوحي (٦)، ومسلم: الجهاد والسير - كتاب النبي - ﷺ - إلى هرقل (٣٣٢٢)، عن أبي سفيان (صخر) بن حرب رضي الله عنه.
1261
(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ... (٦٥)
* * *
أي أنه لَا يسوغ لكم المحاجة في شأن إبراهيم من حيث إنه كان يهودياً أو كان نصرانيا ومن حيث إنكم أتبع الناس له أو أبعد الناس عنه، ومن حيث ما جاء به وحقيقة دعوته؛ فإن التوراة والإنجيل ما جاءا إلا من بعده، فكيف يكون يهوديا يدين بالتوراة قبل أن تجيء التوراة، وكيف يكون نصرانيا يدين بالإنجيل قبل أن ينزل الإنجيل؛ إن هذه محاجة واضحة البطلان.
والمحاجة معناها مبادلة الحجة، فصا هذه المحاجة؛ أكانت مع النبي أم كانت فيما بينهم؛ ظواهر النصوص تفيد بمقتضى السياق أنها كانت مع النبي - ﷺ -، فهم يقيمون الحجة على سلامة دينهم بأنه دين إبراهيم الذي كان موضع إجلال الجميع، والذي بنى البيت الحرام الذي هو أول بيت وضع للناس، والذي كان موضع تقديس العرب أجمعين.
1261
ولكن مع هذا الظاهر روى ابن إسحاق عن ابن عباس أنه قال اجتمعمت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله - ﷺ -، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهوديا، وقالت النصارى: ما كان إبراهيم إلا نصرانيا، فأنزل الله تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ) الآية (١).
وسواء أكانت المحاجة مع النبي - ﷺ - أم كانت فيما بينهم فإنها غير معقولة في ذاتها؛ ولذا وبخهم سبحانه وتعالى عليها بقوئه تعالت كلماته:
(أَفَلا تَعْقِلُونَ) هذا النص الكريم هو نتيجة لهذا الحكم الذي يتحاجون فيه، وهو كون إبراهيم يهوديا أو نصرانيا؛ إذ أن ذلك هو حكم من لَا يعقل! ولذلك كانت الفاء التي تفيد السببية، وهو كون ما قبلها سببا لما بعدها، فتلك الحال التي هم عليها من الغرابة هي السبب في ذلك السؤال عن أصل عقلهم، وإدراكهم لمعناها.
والاستفهام إنكاري؛ فهو نفي لكونهم يعقلون في هذه الأمور التي يتجادلون حولها، وذلك يؤدي إلى السؤال عن أصل وجود العقل عندهم، وإن هذا النفي هو في ذاته توبيخ، وتنبيه إلى ما أدى إليه التعصب الأعمى الذي جعلهم لا يدركون الأمور على وجهها، وينسيهم البدهيات التي لَا تختلف فيها المدارك والعقول، حتى يكون أصل العقل عندهم موضع إنكار.
ولقد زكَّى سبحانه وتعالى ذلك التوبيخ، وهذا النفي ببيان مظهر آخر من مظاهر مخالفتهم لما يقتضيه العقل في أمر آخر، يتصل بهذه المسألة، وهو أنهم يجادلون ويتقدمون بالحجج في أمر ليس عندهم أصل العلم به؛ ولذا قال تعالى
* * *
________
(١) أخرجه البيهقي في الدلائل - أسباب النزول للسيوطي: آل عمران (٦٥).
1262
(هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ... (٦٦)
* * *
أي أنتم معشر أهل الكتاب حاججتُم وبادلتم الحجة، سواء أكانت داحضة أم دامغة في أمر عندكم أسباب العلم به، سواء أكنتم تجادلون بمقتضى هذا العلم أم
1262
تخالفون مقتضاه، وتلوون منطقه، وتبعدون به عن الحجج، فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم؛ وبيان ذلك أن اليهود والنصارى عندما كانوا يتجادلون مع النبي - ﷺ -، وفيما بينهم كانوا يتجادلون في أمرٍ أسباب العلم به قائمة حاضرة مهيأة وإن كانوا ينحرفون بها عن غاياتها، ويلوونها عن مقاصدها ومراميها تبعا لأهوائهم وشهواتهم، فكانت محاجة في أمر لهم به علم، وإن لم يسيروا على مقتضى أحكام العلم، أما جدلهم في كون إبراهيم كان يهوديا أو نصرانيا، أو في كون النبي - ﷺ - المبعوث في المستقبل يكون عربيا أو عبريا فجدل ومحاجة في أمر لَا علم لهم به، وإن العاقل ينأى به عقله عن أن يجادل في أمر ليس عنده شيء من أسباب العلم به، ولكن هكذا يتردى أهل العقول عندما تنحرف نفوسهم إلى التعصب، فيتحكم الهوى في العقل.
وهنا مباحث لفظية:
أولها: أن الهاء المكررة في قوله تعالى: (هَا أَنتُمْ هَؤُلَاءِ) هي هاء التنبيه، وتكرارها في موضع واحد للدلالة على غرابة ما هم عليه ومجافاته لكل تفكير ولكل عقل، وكيف دلاهم التعصب في هذا الانحراف الفكري.
وثانيها: أن " هؤلاء " إشارة إلى النصارى واليهود الذين قالوا في إبراهيم ما قالوا، وقد أنزلت التوراة والإنجيل من بعده، فهي تتضمن الأحوال الغريبة التي كانت منهم، وأنها أدت إلى شذوذ عقلي آخر.
ثالثها: أن الزمخشري ذكر أن بعض العلماء قال هنا إن " هؤلاء " بمعنى " الذين " وإن هذا يفيد أن الذي أدى إلى ترديهم العقلي هو أنهم يتكلمون فيما يعلمون وفيما لَا يعلمون.
(وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) ختم الله سبحانه وتعالى ببيان علمه تعالى المؤكد، فقرر العلم المطلق له سبحانه، ونفَى عنهم العلم في هذا المقام، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يعلم حال إبراهيم عميه السلام، ويعلم الحق فيما يتحاجون به بعلم وبخير علم، ويعلم مَن الذي يكون أهلا لرسالته أيكون من
1263
العرب أم يكون من العجم؛ (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) وهو الذي يعلم بخفايا نفوسهم، والحقد الدفين فيها، والحسد للناس على ما آتاهم الله من فضله. وقد قرر سبحانه أنهم لَا يعلمون، فقال: (وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) فهم لا يعلمون حال إبراهيم عليه السلام ولا من هو أهل للرسالة؛ وليس من شأنهم أن يعلموا؛ لأنَّ أحقادهم تحول بينهم وبين أن يدركوا الذي عليه من يخالفونهم، فإنه لَا شيء كالحقد والحسد يحول بين المرء والإدراك السليم والعلم الصحيح.
اللهم رفقنا للحق، وهيى لنا أسباب العلم به، والإذعان له، فإن الهداية منك وإليك، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
* * *
(مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨) وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (٦٩) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١)
* * *
ذكر الله سبحانه وثعالى في الآية السابقة ما يشر إلى أن كلتا الطائفتين من اليهود والنصارى كانت تدَّعي أن دينها هو دين الله الخالص، وأنه دين النبيين جميعا، وأنه دين أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، وأنهم ما غيروا وما بدّلوا، وكذلك كان يدّعي المشركون؛ لأنهم من سلالة إبراهيم عليه السلام، وحسبوا هذا
1264
يسوغ لهم ذلك الإدعاء؛ وقد بين الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أن إبراهيم عليه السلام بريء من هذه النِّحَل؛ لأنه نبي الوحدانية، هادم الأوثان، وحاطمها، والذي تعرض للأذى بالنار لجرأته الكبرى عليها وعلى عُبَّادها، وما نجاه إلا الله، كما قال تعالى: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ)، ولقد قال سبحانه في تقرير هذه البراءة من اليهودية والنصرانية والشرك:
1265
(مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا) وفي هذا النص القرآني الكريم نفي لوصف اليهودية والنصرانية عن خليل الله تعالى، ومرمى النص هو براءته منهم، وفي نفي الوصف على ذلك النحو توكيد لهذه البراءة، وتثبيت لهذه النزاهة؛ إذ إن المؤدى أنه لو كانت اليهودية أو النصرانية على ما هما عليه تنتمي إلى إبراهيم عليه السلام لكان متصفا بهما، وهو قد نزهه ربه عن أن يتصف بما عليه اليهود من ضلال؛ فنفَى وصف اليهودية عنه عليه السلام تضمن براءته منهم، وفيه التعريض بما فيهما من ضلال لَا يليق أن يلصق بنبي من أنبياء الله، والتنويه بشأن إبراهيم من أن يكون في مثل حمأة اليهود والنصارى الذين عاصروا النبي - ﷺ -.
وقد ذكر سبحانه على سبيل الاستدراك وصفه الحقيقي، ودينه الحق فقال تعالى: (وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
فقد ذكر سبحانه في وصفه الحقيقي ثلاثة أوصاف تتنافى كلها تمام التنافي مع ما عند اليهود والنصارى، وهذه الأوصاف هي أنه: حنيف، ومسلم، وما كان من المشركين.
والوصف الأول وهو حنيف معناه: الميل إلى الحق وطلبه، والاتجاه إليه، وتحريه والاستقامة في الوصول إليه؛ ولقد قال الأصفهاني في مفرداته: " الحَنفُ ميل عن الضلال إلى الاستقامة، والجنف ميل عن الاستقامة إلى الضلال. والحنيف هو المائل إلى ذلك، قال عز رجل: (... قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا...)، وقال: (حَنِيفًا مُّسْلِمًا) وجمعه حنفاء؛ قال عز وجل:
1265
(وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠) حُنَفَاءَ لِلَّهِ)، وتحنف فلان أي تحري طريق الاستقامة ".
ووصفُه عليه السلام بأنه حنيف يطلب الحق مستقيما في طلبه فيه بيان منافاة أخلاق اليهود والنصارى لأخلاقه وهديه، فهم لَا يطلبون الحق لذات الحق، ولكن يطلبون هوى أنفسهم، فإن يكن الحق لهم يأتوا إليه مذعنين، وإن يكن الحق عليهم أعرضوا عنه وذلك لمرض قلوبهم.
والوصف الثاني من أوصاف إبراهيم خليل الله أنه مسلم، والإسلام هو الإخلاص لذات الله، والمحبة والانصراف إليه سبحانه وتعالى، حتى لَا يعمر القلب بغير نوره، وهذا أيضا وصف منافٍ لما كان عليه اليهود والنَّصارى، فإلههم هواهم، ومحبتهم لأنفسهم لَا لله، وإنما هي أعراض الدنيا أركست نفوسهم، وأغلقت دون نور الله قلوبهم.
والوصف الثالث: وصف سلبي، وهو أنه كان غير مشرك، وقد نفَى الله سبحانه وتعالى عن خليله وصف الشرك بهذه الصيغة الجامعة فقال: (وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْركِينَ) ولم يقل " وما كان مشركا " لأنها تتضمن نفي الإشراك كله وشوائبه عن إبراهيم عليه السلام، فإن المشركين أصناف وألوان، فمنهم من يعبد الأوثان، ومنهم من يجعل لله ابنا يعبد، ومنهم من يجعل الله ثالث ثلاثة، ومنهم من يتخذون أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، ومنهم من يتخذون وساطة بين العبد والرب، وهكذا، فما كان إبراهيم من أي صنف من هذه الأصناف. وفي ذكر هذه الصيغة السامية في نفي الشرك عن إبراهيم تعريض بين حالهم وما هم عليه من الشرك الظاهر، فكيف يدعون الانتساب لإبراهيم عليه السلام، وهم على ما هم من الشرك، إنما الذين يعدون أولى الناس هم من قال الله فيهم:
* * *
1266
(إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا... (٦٨)
* * *
أي إن أشد الناس ولاية بإبراهيم وأجدرهم بالاتصال به، لَلَّذين اتبعوه، وهذا النبي والذين آمنوا بهذا النبي، فهم أصناف ثلاثة قد أكد سبحانه اتصالهم بإبراهيم بثلاثة
1266
تأكيدات؛ أولها: " إن " وثانيها: أفعل التفضيل، وثالثها: اللام في قوله تعالى: (لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ). والذين اتبعوه موصول عام يشمل الذين اتبعوا هدايته في حياته، وأجابوا
دعوته، ولم يخالفوه، والذين اتبعوه من بعد وفاته، وإنهم لكثيرون، وكان يمكن أن يكون من هؤلاء اليهودُ والنصارى، لو اتبعوا هديه فطلبوا الحق وأخلصوا لله في طلبه، وتجنبوا الشرك بكل ضروبه وبكل أشكاله، وفي هذا توبيخ لهم على أنهم لم يتبعوه، وادعوا الانتماء إليه. وقد ذكر النبي - ﷺ - بالنص عليه بالذات على أنه أولى الناس بإبراهيم عليه السلام، ولم يذكره في ضمن الذين اتبعوه؛ لأن النبي - ﷺ - تلقى الهداية من السماء كما تلقاها إبراهيم، ولأن محمدا - ﷺ - خاتم النبيين، ولأنه آخر دعامة في بناء صرح الرسالة الإلهية إلى أهل الأرض. وفي ذكر النبي - ﷺ - تمهيد لبيان أولوية الذين آمنوا به - ﷺ - وبسيدنا إبراهيم من اليهود والنصارى؛ لأنهم حنفاء طلبوا الحق، وتحرَّوْهُ وآمنوا به واهتدوا، وأخلصوا دينهم لله تعالى، وصار الله ورسوله أحب إليهم من أنفسهم. والذين آمنوا في الآية هم من آمنوا بمحمد - ﷺ -؛ ولقد قال النبي - ﷺ -: " لكل نبي ولاة من النبيين، وإن وليي منهم أبي وخليل ربي إبراهيم " (١).
وولاية إبراهيم للنبي ومن اتبعهما بإحسان إلى يوم الدين أساسها الإخلاص لله تعالى وتوحيده، فهي من ولاية الله؛ ولذا قال سبحانه: (وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) أي أن الله سبحانه وتعالى جل جلاله، وعظمت قدرته، وتعالت حكمته، وتسامت عظمته، هو ولي المؤمنين وناصرهم، وهم أهل محبته ورضوانه؛ وذلك لأنهم لَا يطلبون إلا رضاه، ولا يبتغون إلا محبته ورضوانه؛ فهم بإخلاصهم قد نالوا ولاء الله ومحبته؛ والله سبحانه وتعالى لا يوالي إلا من يؤمن للحق ويذعن له، ولا يطلب سواه.
________
(١) رواه أحمد: مسند المكثرين - مسند عبد الله بن مسعود (٣٦٠٩)، والترمذي: تفسير القرآن - ومن سورة آل عمران (٢٩٢١).
1267
وفى هذه الجملة السامية إشارة إلى عدة معان عالية:
أولها: أن اتصال النبي - ﷺ - والذين اتبعوه، والذين اتبعوا إبراهيم بخليل الله، لأنهم اتصلوا بالله تعالى، والمؤمنون بعضهم لبعض ولي ونصير، لأنهم جميعا أولياء الله. فالمؤمنون برسالة إبراهيم والمؤمنون برسالة محمد كلهم أولياء، لأنهم جميعا أولياء الله تعالى، وفي ذلك يبين سبحانه لليهود وغيرهم الطريق الحق الذي يجعلهم أولى بإبراهيم كالنبي ومن اتبعه.
ثانيها: الإشارة إلى أن ولاية الله هي الغاية الكبرى التي يجب أن يطلبها كل مؤمن، وطريقها الإحسان في كل شيء، وأساس الإحسان الإخلاص، ولذا يقول النبي - ﷺ -: " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " (١).
ثالثها: الإشارة إلى منزلة أهل الإيمان عند الله والوعد بنصرتهم مهما يتكاثف عددهم: (إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ).
* * *
________
(١) متفق عليه، وقد سبق تخريجه من رواية عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
1268
(وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ... (٦٩)
* * *
إن اليهود والنصارى كانوا يحسدون المؤمنين على ما آتاهم اللَّه من فضله، كما قال تعالى: (وَدَّ كَثيرٌ منْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا...)، فَأولئك الكتابيون كانوا يشعرون أنهم فوق مستوى سائر العرب، فلما جاء النبي - ﷺ - بهديه فيهم ارتفع مستوى العرب فلم يذعنوا للحق الذي كان عليهم أن يؤمنوا له، بل تمردوا عليه، ولعظم المنزلة التي يعلمونها فيما جاء به محمد - ﷺ - كانوا يتمنون أن يضل المؤمنون، وأن يتركوا الحق، ولذا قال تعالى: (وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ) أي تمنت طائفة من أهل الكتاب ضلالكم، فلو هنا مصدرية تدل على التمني، أي ودت هذه الطائفة ضلالكم ولم يكن ذلك منهم أمنية يتمنونها فقط، بل كانوا يقرنون القول بالعمل، فكانوا يلقون بالظنون والشكوك والأوهام حول الدعوة المحمدية ليرتاب الذين آمنوا، وكان منهم منافقون ينبثون بين المسلمين باسم أنهم مسلمون، ويلقون بالريب والتشكيك في النبي - ﷺ - وما جاء به كما
1268
يفعل اليوم أخلافهم من بعدهم؛ ولقد كان منهم من يجرؤ على الدعوة إلى اليهودية، حتى إنه ليروى أن يهود المدينة دعوا حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر إلى اليهودية، ولكن ضل سعيهم، وباءوا بالخسران المبين.
وإن الذي يعلم الحق، ويحاول أن يضلل غيره يزداد ضلالا ويعمى عن طريق الهداية، حتى ينتهي الأمر به إلى أن يجهل الذي كان يعلمه، وكذلك كان هؤلاء؛ ولذا قال سبحانه:
(وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهمْ وَمَا يَشْعرُونَ) أي أنهم بسبب غوايتهم وعمايتهم واستيلاء الهوى على قلوبهم أخذوا يثيرون الشك على أهل اليقين، فما أثَّر الشك في أهل الحق، ولكن تأثرت نفوسهم هم بهذا الشك الذي أثاروه ليضلوا غيرهم، فضلوا، فهم حاولوا إضلال المؤمنين، فأكد الله سبحانه أنهم ما أضلوا إلا أنفسهم، وكان ضلالهم لأنفسهم من ناحيتين:
إحداهما ما ذكرناها من أن إيرادهم للشك في الأمر الذي كانوا يعلمون الحق فيه قد أوجد فيهم هم أنفسهم حيرة بعد أن كانوا يعلمون، ومثل هذا مثل الكذوب الذي يكذب ويكرر كذبته حتى يعتقد صدقها.
الناحية الثانية: أنهم كلما لجوا في الدعوة إلى الباطل الذي استمسكوا به بعدوا عن الإذعان للحق، فبمقدار ما كانوا يثيرون حول الحق من أكاذيب كانوا يبتعدون من الإيمان والإذعان، فيزدادون ضلالا فوق ضلالهم، وتلك حال نفسية يقيمون فيها ولا يشعرون بها.
* * *
1269
(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠)
* * *
وجه الله سبحانه وتعالى بهذه الآية النداء إلى أهل الكتاب يدعوهم إلى الإيمان مبينا لهم في صيغة استفهام إنكاري توبيخي أن دواعي الإيمان قائمة، ودواعي الكفر غير ثابتة، ولذا يستفهم عنها، إنكارا وتوبيخا، وابتدأهم بهذا النداء الكريم، إذ قال: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ) وفي هذا النداء إشارة إلى أن ما أُعْطَوْه كان يقتضي أن يسارعوا إلى
1269
الإيمان لَا أن يكفروا، ثم وجه إليهم ذلك الاستفهام الإنكاري (لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ) أي لقد كفرتم بآيات الله وبيناته الدالة على صدق الرسالة المحمدية وعندكم علم بها، وأنتم تعلمون صدقها، فالآيات هنا هي آيات نبوة محمد - ﷺ -، وهي القرآن الكريم، وما اشتمل عليه، والاستفهام لإنكار هذا الواقع الذي وقع منهم وهو الكفر مع قيام دلائله. ولقد أكد سبحانه وتعالى الاستنكار بقوله تعالى:
(وَأَنتمْ تَشْهَدُونَ) أي وأنتم تعلمون صدق الرسول علما يقينيا كعلم المشاهدة والعيان، بما أخبر به في كتابكم، أو: وأنتم تشهدون كل يوم الدلائل الصادقة التي تثبت الرسالة المحمدية. ، ولكن اليهود والنصارى الذين عاصروا النبي - ﷺ - ما كانوا يكتفون بالكفر، بل كانوا يحاولون أن يلبسوا الحق بالباطل، ليفسدوا الإيمان على أهله؛ ولذا قال سبحانه:
* * *
1270
(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١)
* * *
صدَّر النداء هنا بـ " أهل الكتاب " زيادة في التوبيخ، وكل توبيخ لهم يُعد قليلا مهما يتكاثر وتترادف عباراته، والاستفهام هنا إنكاري لإنكار ما وقع منهم؛ ذلك بأنهم لبسوا وخلطوا الحق بالباطل، وكتموا الحق الذي يشهد لمحمد - ﷺ - بالصدق وهم يعلمون به، فكان الاستفهام للتوبيخ على هذا الذي وقع منهم؛ فقد وقع منهم أمران، وثبت فيهم أمر ثالث:
أما الأمر الأول: فهو خلط الحق بالباطل، بأن حاولوا أن يزيفوا الحق، فألبسوه ثوب الباطل، وأظهروه بمظهره إمعانا منهم في التضليل. وقد فسر الكثيرون كلمة " تلبسون " بمعنى تخلطون، وهي في المؤدى كذلك، ولكن لابد أن يلاحظ معنى الستر واللباس في الكلمة، ذلك بأنهم جاءوا إلى الحق المبين فألبسوه ثوب الباطل ليُسْتَبْهَم؛ ولقد قال في هذا المعنى الأصفهاني: أصل اللبس ستر الشيء، ويقال ذلك في المعاني، يقال لبست عليه أمره، قال: (وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبسُونَ)، وقال: (لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ...).
1270
الأمر الثاني: كتمان الحق الذي عندهم فهم يسترون الحق الذي يقدمه النبي - ﷺ - بلباس الباطل الذي يخترعونه، ويكتمون الذي عندهم، ويشهد بصدق النبي - ﷺ -، وهذا أقصى ما يمكن أن يصل إليه الكفر بالحق، يكون عند الكافر دليل الحق، ومع ذلك ينكر الدليل الذي يقدمه صاحب الحق، ويحاول أن يزيفه بالباطل. وكل ذلك وهم يعلمون الحق في ذاته، ولكنهم أضلهم الله على علم.
اللهم اكتبنا فيمن هديتهم، وامنحنا التوفيق؛ وأنقذنا من الضلال، ووفقنا لإدراك الحق، والإذعان له، والإيمان به، إنك سميع الدعاء.
* * *
(وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤)
* * *
بّين الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أن أهل الكتاب يودون أن يضل المؤمنون، ويعملون على إضلالهم، وكلما أمعنوا في هذا الطريق ازدادوا ضلالا، وما ازداد المؤمنون إلا إيمانا، وإن وجدوا في ضعاف الإيمان ما يشبع نهمتهم وقتيا فإنهم سرعان ما يقوى إيمانهم بالحق، ويرتد أولئك المضلون في طغيانهم يعمهون.
وفى هذه الآيات يبين سبحانه طريق طائفة منهم في إضلال المؤمنين، وإثارة الشك في قلوب ضعاف المؤمنين، وهي أن يظهروا الإيمان والإذعان والاطمئنان
1271
إلى الحقائق الإسلامية، ليظن فيهم الظن الحسن من لم يعرف مكرهم وكيدهم، حتى إذا اطمأن الناس إليهم أعلنوا كفرهم، بعد مظهر الإيمان ليوهموا المؤمنين أنهم كانوا مخلصين في إيمانهم طالبين الحق بهذا الإيمان، فلما تبين لهم البطلان خرجوا، فقد يخرج بهذا الخروج ضعاف الإيمان، ويلقون بذلك بين المسلمين شكا عمليا. وقد حكى الله سبحانه وتعالى عمل هذه الطائفة الماكرة الخبيثة فقال عز من قائل:
1272
(وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ) أخرج ابن جرير الطبري عن قتادة التابعي أنه قال: " قال بعض أهل الكتاب لبعض: أعطوهم الرضا بدينهم أول النهار، واكفروا آخره، فإنه أجدر أن يصدقوكم، ويعلموا أنكم قد رأيتم فيه ما تكرهونه، وهو أجدر أن يرجعوا عن دينهم ". وأخرج ابن جرير أيضا عن السُّدي أنه قال: " قالوا لبعضهم: ادخلوا في دين محمد أول النهار، وقولوا: نشهد أن محمدا صادق، فإذا كان آخر النهار فاكفروا وقولوا: إنا رجعنا إلى علمائنا وأحبارنا، فسألناهم فحدثونا أن محمدا كاذب، وأنتم لستم على شيء، وقد رجعنا إلى ديننا، فهو أعجب إلينا من دينكم لعلهم يشكُّون، فيقولون هؤلاء كانوا معنا أول النهار فما بالهم، فأخبر الله سبحانه وتعالى رسوله بذلك وروى أنهم نفذوا قولهم عملاً؛ والروايات في هذا كثيرة، وكلها متلاقية في المعنى غير متنافرة.
وخلاصتها: أن أولئك المضللين الذين أكل الحسد قلوبهم دعا بعضهم أن يظهروا الإسلام ليبدوا طلاب حقيقة، فإن رجعوا استطاعوا أن يجتذبوا معهم بعض ضعفاء الإيمان.
والمراد بوجه النهار ما يقابل آخره، وهو أول النهار، وعبر عنه بالوجه؛ لأن أول النهار هو وقت إقباله، والوجه هو مظهر الإقبال، والوجه أيضا كناية عن الظهور، وأول النهار هو وقت الظهور ووقت الوضوح، بعكس آخره.
1272
وهل معنى الاتفاق الذي اتفقوا عليه هو أن يبدءوا في الضحى فيسلموا ثم يكفروا في المساء؛ ظاهر اللفظ ذلك، ولكن يبدو للمتأمل البصير أنهم يريدون أن يسلموا حينا من الزمان حتى تتم الثقة بهم والاطمئنان إليهم، ثم يكفروا من بعد ذلك، على ألا يستغرق إظهارهم الإسلام إلا أمدا يستطيعون فيه جلب الثقة إليهم؛ ويكون حينئذ التعبير كله من قبيل الاستعارة التمثيلية، سيقت لتصور حالهم التي اتفقوا عليها، وهي أنهم يظهرون الإيمان ثم يكفرون بعد أمد قصير.
فالاستعارة لتصوير سرعة الرجوع وإظهار الكفر، وتأكد التعاقب بين إظهار الكفر وإظهار الإسلام، كما يتعاقب ظهور آخره بعد أوله. وقد حكى الله سبحانه وتعالى عنهم مقصدهم ومكرهم السيئ بقوله تعالت كلماته:
(لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) فهذا التعبير يفيد بيان مقصدهم وهو رجاء أن يرجع بعض المؤمنين إلى الكفر بعد الإيمان، ولكنهم عبروا عن البعض باسم الكل، فإنه لا يمكن أن يرجعوا جميعا، بل الذي يرجى رجوعه من المسلمين هو الضعيف غير القوي في دينه، غير المطمئن في يقينه، ولكن كفر هذا الفريق بعد إيمان يحدث اضطرابا في جماعة المسلمين، فيكون التظنن فيهم، وحيث جرى الشك في الجماعة كان وراءه التفرق وفقد الثقة، وكان وراءهما الفشل الذريع، وإنهم من بعد ذلك يطمعون أن تعود الجزيرة العربية إلى الشرك بعد هذا الإيمان الذي هددهم في كيانهم؛ وكذلك سولت لهم نفوسهم، فإن الذي يركب رأسَه الشيطانُ توسوس له نفسه بالشر، ويتسع أفق تصوره حتى يتمنى الأماني البعيدة القاصية كأنها قريبة دانية.
وإن تلك الطريقة التي سلكوها من أقوى ما تفتق عنه التدبير الإبليسي؛ فإن إظهار الكفر بعد إظهار الإيمان مع التذرع بتلبيسات مضللة من شأنه أن يدخل الشك في ضعفاء الإيمان، وقد يكون معه الجهر بما يثير الريب حتى في أقوى الحقائق صدقا وأجدرها باليقين؛ ولذلك كانت عقوبة الردة التي ثبتت بقوله - ﷺ -:
1273
" من بدّل دينه فاقتلوه " (١) هى القتل؛ وذلك لقطع السبيل على الذين يدخلون في الإسلام ظاهرا، وهم يريدون إثارة الشك حول حقائقه، وليس في ذلك منافاة للحرية الدينية التي قررها الإسلام في قوله تعالى: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَي...)، ولقد كان أولئك الذين أخذوا بذلك الطريق الخبيث لإفساد العقائد يظهرون في عصور الإسلام الوقت بعد الآخر، وهم الزنادقة، فهم كانوا في باطنهم كفارا يستترون بستار الإسلام ليفسدوا الأمر على أهل الإسلام، ويشككوا الناس في عقائدهم.
وإن الفقهاء كانوا يحذرون الناس من سمومهم التي ينفثونها، وقرر جمهورهم أن كل مرتد يستتاب إلا من عرف بالزندقة، فإنه يتخذ التوبة ستارا ليستطيع بها الكيد للإسلام وأهله، فيرد عليه كيده في نحره، وإن ظهر منه الكفر الذي يحاول ستره يؤخذ بالنواصي والأقدام.
وإن أهل الكتاب ليبالغون في التدبير للاحتياط من أن يذهب منهم إلى المسلمين من يؤمنون بالإسلام، فهم يحاولون من جهة بث الشَّك في الإسلام بين أهله، ومن جهة أخرى يعملون على الاحتياط من أن يدخل أحد منهم في الإسلام، ولذلك يثيرون العصبية الدينية فيما بينهم، ويتداعون ألا يذعن أحد منهم لغير طائفته؛ ولذلك يقولون:
* * *
________
(١) رواه البخاري: الجهاد والسير - لَا يعذب بعذاب الله (٢٧٩٤)، والترمذي: الحدود - ما جاء في المرتد (١٣٧٨)، والنسائي: تحريم الدم - الحكم في المرتد (ا٣٩٩)، وأبو داود: الحدود - سنن من ارتد (٣٧٨٧)، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
1274
(وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ... (٧٣)
* * *
أي لَا تذعنوا مصدقين مقرين بالحق إلا لمن تبع دينكم، أي لَا تنطقوا بالحق الذي تعلمونه مذعنين له إلا لمن تبع دينكم؛ وذلك لأنهم يعرفون محمدا كما يعرفون أبناءهم، وبين أيديهم الأدلة الصادقة الناطقة بصحة دعوته؛ فهم يعرفون ذلك ويتذاكرونه فيما بينهم، ولكنهم يتناهون عن أن يقولوه لغيرهم.
1274
وقوله تعالى: (أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ) فيها قراءتان، إحداهما: بهمزة واحدة، والأخرى بهمزتين إحداهما سهلة، والثانية قراءة ابن كثير (١)، وإحدى الهمزتين على هذه القراءة تكون للاستفهام الإنكاري.
وقوله تعالى: (قُلْ إِن الْهُدَى هُدَى اللَّهِ) يحتمل أن تكون معترضة، ويكون قوله تعالى: (أَن يُؤْتَى أَحَدٌ..) متصلا بقوله: (وَلا تُؤْمِنُوا) ويحتمل أن تكون غير معترضة، وتكون متصلة بما بعدها.
وعلى الاحتمال الأول مع قراءة الهمزة الواحدة يكون تخريج القول هكذا: ولا تصدقوا مذعنين ومقرين إلا لمن تبع دينكم كراهة أن يُؤتي أحد بمثل ما أوتيتم من كتاب منزل من السماء منزلة دينية بين الناس، وكراهة أن يحاجوكم بسبب ذلك الإذعان وذلك الأمر من عند ربكم، وقد اعترض سبحانه وتعالى بين قولهم بقوله: (قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ) أي إن هداية الله تعالى ملك له وحده يعطيها لمن يشاء، فليست حِكْرا لأحد. ، ولا أمرا مقصورا على أحد، بل يعطيها من يشاء.
وسبب ذلك الاعتراض هو المسارعة ببيان بطلان زعمهم من أنهم ذوو المنزلة الدينية وحدهم، ولبيان أن المنزلة منشؤها الهداية، والهداية طريقها وحدها فلهم أن يتبعوها، ولبيان أنهم بذلك التفاهم على الشر والتواصي على الباطل قد خرجوا عن نطاق الهداية فحقت لغيرهم. وعلى قراءة الهمزتين لَا يتغير المؤدى، ويكون تقرير القول هكذا: ولا تذعنوا مصدقين إلا لمن تبع دينكم، أتقرون بذلك لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم.
هذا هو تخريج الآية الكريمة على احتمال أن قوله تعالى: (قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ) جملة معترضة بيزا متلازمين، أما تخريجها على احتمال أنها متصلة بما يليها فهو هكذا: لَا تذعنوا مكل مصدقين إلا لمن تبع دينكم، بذلك ينتهي قولهم، فيرد
________
(١) قرأ ابن كثير المكي بهمزتين على الاستفهام، الثانية منهما مسهلة، وقرأ الباقون بهمزة واحدة على الخبر [النشر في القراءات العشر ج ١ ص ٣٦٥، ٣٦٦ - غاية الاختصار في قراءات أئمة الأمصار، ج ٢ ص: ٤٥٠].
1275
الله سبحانه وتعالى عليهم بقوله (قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ) ثم يبين سبحانه وتعالى أن هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم بأن ينزل بينهم وحي السماء كما نزل بينكم، أو يحاجوكم به عند ربكم، و " أو " هنا تكون بمعنى الواو. وعلى قراءة الاستفهام يكون المعنى: أتنكرون أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم.
ذانك الاحتمالان، وإنى أميل إلى الاحتمال الأول، وأن تكون الجملة السامية (قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ) معترضة، وأن قوله: (أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مثْلَ مَا أُوتِيتُمْ) من قولهم، وذلك ليستقيم أمر الله بعد ذلك لنبيه بقوله: (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ) فإنه لَا يتضح معناه إلا إذا كان عقب قولهم، ليكون معنى جديد للأمر الثاني بعد الأمر الأول، إذ لو كان قوله: (أَن يُؤْتَى أَحَدٌ) من كلام الله تعالى المأمور به ما اتضح لنا معنى الأمر الثاني: (قلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ) إلا إذا كان لتكرار هدايته وفضله، والتأسيس أولى من التأكيد.
لقد بين سبحانه بعد ذلك أن الهداية هي فضل من الله تعالى يتفضل به على من يشاء من عباده؛ ولذلك قال سبحانه: (إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ):
فهداية الله تعالى، والنبوة والرسالة التي تنبعث منها هداية المؤمنين الذين يذعنون للحق، ذلك كله فضل من الله تعالى لعباده، فليس حقا عليه لهم، بل هو منه تكرم وعطاء، والمتفضل المتكرم ليس بملزم بالعطاء لأحد، فإن كان قد جعل الرسالة حينا في بني إسرائيل فبفضل منه وبرحمة، وليس ذلك بملزم له، ولا بمسوغ لهم بأن يمنعوها عن غيرهم، ويستنكروا أن تكون في قوم أميين، وعليهم أن يذعنوا للحق أينما كان، ومن أي جهة كان النداء به، فالله أعلم حيث يجعل رسالته؛ وليس فوق إرادة الله سبحانه وتعالى إرادة، وليس من حق طائفة من الناس أن تقول نحن أبناء الله وأحباؤه.
1276
ثم بين سبحانه وتعالى سعة فضله وجليل حكمته، وإحاطة علمه، فقال عز من قائل:
(وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) أي أن رحمة الله تعالى واسعة، وفضله عظيم، لا يكون لقبيل دون قبيل، وإن تعدد من يؤتون فضلا لَا يغض من قدر الفضل عند غيرهم، فالذين يريدون أن يحتكروا الهداية، أو يحتكروا بينهم وفي أوساطهم رسالة الله إلى أهل الأرض، إنما يُضيِّقون واسعا، ويحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله من غير أن يعود عليهم من هذا الحسد شيء. ووصف سبحانه وتعالى ذاته بأنه واسع مع أن الظاهر سعة فضله؛ لبيان أن شمول فضله شأن من شئونه سبحانه، يظهر آثاره في خلقه، فما من شيء في هذا الوجود إلا وهو بفضله سبحانه وتعالى.
وقد اقترن وصف السعة هنا بوصف العلم، للإشارة إلى أن فضله تعالى هو على مقتضى علمه، فهو يعطي من يشاء بمقتضى فضله وعلمه، فما من شيء يكون من الله تعالى لعباده إلا بميزان، وكل شيء عند ربك بمقدار؛ وإنه بمقتضى هذا يختص هذا برحمته، ويختص آخر بنوع آخر؛ ولذا قال سبحانه وتعالى:
* * *
1277
(يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤)
* * *
اختص تستعمل لازمة ومتعدية، فيقال اختصه الله بفضله، ويقال اختص بفضل الله، والله سبحانه وتعالى بمقتضى علمه وحكمته يختص برحمة معينة من رحماته خلقا من خلقه، فقد يقول قائل إن كل من في الوجود في رحمة الله تعالى، ما من أحد من خلق الله تعالى إلا ناله نصيب من رحمة الله، ومنهم من يشكر، ومنهم من يكفر، فَلمَ عبر سبحانه وتعالى بهذا الاختصاص، ولا عام أعم من رحمة الله، ولا عموم إلا في فضل الله تعالى؟.
والجواب عن ذلك أن الرحمة التي يختص الله تعالى بعض عباده بها هي الرحمة النوعية، فيختص سبحانه هذا بالعلم، وذلك بالمال، وهذا بالجاه، وذلك
1277
بالراحة، وهذا الفريق بالرسالة والهداية، وذلك الفريق بالغلب والسلطان؛ و " كل ميسر لما خُلق له " (١).
فإذا كان بنو إسرائيل وأشباههم قد نَفِسُوا على بني إسماعيل (٢) أن تكون فيهم النبوة الكبرى التي تختتم بها رسالة السماء إلى الأرض، فذلك مما اختص به سبحانه وتعالى بعض عباده بالرحمة، وليس لأحد أن يعترض على فعل الله، فإن فضله على من اختصه عميم، وفضله أيضا على من لم يمنحه هذا النوع من الرحمة عظيم؛ ولذا ختم سبحانه الآية الكريمة بقوله: (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظيمِ) فلا عظمة تساوي عظمة فضل الله تعالى على خلقه، فالاختصاص النوعي لبعض الرحمات لَا يعارضه عموم الفضل على خلقه، ولا عظمة هذا الفضل.
اللهم مُنَّ علينا بتوفيقك لنعرف فضل نعمتك، ونشكرك ولا نكفرك، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.
* * *
(وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٧٧)
* * *
________
(١) رواه البخاري: التوحيد - قول الله تعالى: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) (٦٩٩٦)]. ومسلم: القدر - كيفية خلق الآدمي في بطن أمه (٤٧٨٩).
(٢) أي ضنوا عليهم. الصحاح.
1278
بين الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة استهانة بعض أهل الكتاب الذين عاصروا النبي - ﷺ - بالحق وتلبيسهم الحق بالباطل، وكذبهم وافتراءهم على النبيين وعلى رأسهم أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، ثم بين تعصبهم، وحرصهم على أن يظهروا بين الناس بأن الهداية في حوزتهم وحدهم، وأن الناس ما عداهم دونهم، ثم ذكر ما يتوَاصَوْن به فيما بينهم من النفاق بأن يؤمنوا أول النهار ويكفروا آخره، لعلهم يفسدون بذلك عقائد المؤمنين؛ وهكذا مما يدل على فساد اعتقادهم وعدم إذعانهم للحق، وكذبهم فيما يدَّعون.
والكذب والخيانة توْأم، كما أن الصدق والأمانة توْأم، وفساد النفس يترتب عليه فساد العمل، وعدم الإذعان للحق في الاعتقاد يترتب عليه عدم الإذعان للحق في المادة، فإذا كان بعض أهل الكتاب قد كان منهم ذلك النفاق الديني، فإنهم قد بدت منهم الخيانة المادية، ولذا قال سبحانه:
1279
(وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا) قسمان متقابلان أحدهما يبلغ الغاية من الأمانة، فيعطيها عند طلبها مهما تكن قيمتها، ومهما تكن نفاستها، وعبر عن الكثرة بالقنطار من الذهب، ولم يذكر كونه من الذهب؛ لأنه مفهوم من السياق؛ لأن الدينار لَا يكون إلا من الذهب، فلا بد أن يكون القنطار الذي يكون في يد الأمين من الذهب، وهذا القسم الذي يكون على هذا القدر من الأمانة هو الذي يجيب داعي الحق ويؤمن به إذا دُعِي إليه، لأن التسليم بالحق في الماديات التي تصورها الأمانة لَا ينشأ إلا من ينبوع النفس التي تؤمن بالحق في المعنويات، بل إن هذا في الحق ينتهي إلى معنى الأمانة، لأن نصر الحق والإذعان له بعد قيام الدليل عليه نوع من الأمانة، إذ إن الله سبحانه أودعنا هذه القوى المدركة لنجعلها للحق وللنفع، فذو العلم عليه أن يؤدي أمانة العلم، وذو المال عليه أن يؤدي أمانة المال، ومن قام بين يديه الدليل على صدق دعوة إلى الحق لَا يكابر ولا يماري، وكانت الأمانة أن يعلن تلك الحقيقة ويناصرها ويؤيدها، ولذلك قال كثيرون من العلماء: إن الأمانة
1279
التي حملها الله للإنسان بمقتضى الفطرة هي إدراكها المعنى التكليفات الإنسانية والإلهية وقيامه بحقها، وقد قال تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (٧٢).
هذا هو القسم الأول، وقد قال العلماء إنهم أهل الكتاب الذين آمنوا برسالة محمد - ﷺ -، كعبد الله بن سلام، وغيره من اليهود الذين سارعوا إلى الإسلام، وكذلك الشأن في كل كتابي علم الحق في رسالة النبي - ﷺ -، وأذعن له؛ لأنه يكون ممن يؤدي الأمانة.
والقسم الثاني هو الذي لَا يؤدي الأمانة، وهو في مقابل الأول؛ لأن الأول في السماك الأعزل، وهذا في الحضيض الأوهد. وصور الله سبحانه الفرق بينهما ذلك التصوير الحكيم البين الواضح بأن الأول لو ائتمن على قنطار من ذهب لأداه، والثاني إن ائتمن على دينار لَا يؤده إلا بالملازمة الدائمة، والتتبع والإلحاف الشديد، وعبر الله سبحانه وتعالى عن هذه الملازمة بقوله تعالى: (إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا) أي إلا إذا استمررت مطالبا له مصمما على أن يؤدى مشرفا عليه في غدوه ورواحه. ودام معناها استمر، وقائما معناها ملازما متتبعا؛ ذلك لأن قام في استعمال القرآن الكريم لها تكون كما قال الراغب في مفرداته: " على أضرُب، قيام بالشخص إما بتسخير أو اختيار، وقيام للشيء وهو المراعاة للشيء، والحفظ له، وقيام هو بمعنى العزم على الشيء.. ومن المراعاة للشيء قوله تعالى: (كُونُوا قَوَّامينَ للَّه شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ...)، وقوله تعالى: (قَائِمًا بِالْقِسْطِ...)، وقوله تعالى: (أَفَمَنْ هُوَ قَائِم عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ...)، وقوله تعالى: (لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَاب أُمَّةٌ قَائِمَةٌ...)، وقوله تعالى: (إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا) أي ثابتا على طلبه.
1280
وإن هؤلاء الذين لَا يؤدون الأمانة المادية إلا بهذه المطالبة الدائمة، والملازمة المستمرة - هم الذين لَا يتركون التضليل كما أشرنا، فلا يأمن أهل الحق شرهم إلا برقابة مستمرة لمنع تضليلهم، وفتنة الناس عن دينهم، ثم هم يخونون العهود، وطالما خانوا النبي - ﷺ - في حروبه مع المشركين، حتى اضطر لإجلائهم عن المدينة وما حولها.
وإن هؤلاء يبررون خيانتهم للأمانة المادية بقولهم كما حكى الله سبحانه وتعالى عنهم: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ).
أي ذلك الامتناع عن وفاء الحق، وأداء الأمانة والإذعان لبواعث الهداية الذي هو أداء الأمانة المعنوية سببه زعمهم الذي قالوه، ونطقوا به وهو أنهم ليس عليهم سبيل أي تبعة أو ملام أو عتاب في شأن الأميين وأموالهم، وهذا معنى قوله تعالى: (لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) فالأميون هم العرب، وليسوا أمِّيين، لأنهم لم يكن عندهم علم ولا حضارة، وكانت تغلب عليهم الأمية، وهي الجهل بالكتابة والقراءة، فكان هذا الاسم لهم لغلبة الأمية عليهم، ومعنى سبيل حجة ملزمة؛ لأن السبيل هو الطريق، وهو يطلق بمعنى الحجة باعتبارها طريق الإلزام وتحمل التبعات، وقد قال الزمخشري في تفسير هذه الجملة السامية (لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) أي لَا يتطرق علينا عتاب وذم في شأن الأمِّيين، يعنون الذين ليسوا من أهل الكتاب، وما فعلنا بهم ما فعلنا من حبس أموالهم والإضرار بهم، إلا لأنهم ليسوا على ديننا، وكانوا يستحلون ظلم من خالفهم، ويقولون لم يجعل لهم في كتابنا حرمة، وقيل: " بايع اليهود رجالا من قريش، فلما أسلموا تقاضوهم قالوا ليس لكم علينا حق، حيث تركتم دينكم ".
وإن هذه أخلاق الذين يظنون في أنفسهم العلو المطلق، ويستخدمون ذلك الظن الباطل، لأكل أموال الناس بالحق، وليفسدوا الأرض وهو ما عليه أهل أوروبا، يقومون بالحق في بلادهم، ويثبتون دعائمه في عشائرهم لَا يضيع عندهم
1281
حق، فإذا تجاوز الحق أقطارهم أنكروه، ولما لم يذعنوا له، وتقوَّلوا الأقاويل وادعوا أنه ليس للأمم المتخلفة في الحضارة حق كحق غيرها، وأنه ليس للملونين حق كحق غيرهم.
وإن هذا مبدأ اليهود، وهم مغرقون فيه، فقد كانت التوراة تحرم الربا تحريما مطلقا، وكان النص فيه: لَا تأخذ ربا من أخيك إذا أقرضته، فزادوا كلمة أخيك الإسرائيلي لأنهم لَا يشعرون بالأخوة الإنسانية في ذاتها.
وإن المبادئ الخلقية الفاضلة لَا تعرف جنسا ولا لونا ولا ثقافة، ولذا قال تعالى ردا عليهم مبينا كذبهم.
(وَيَقولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) في هذه الجملة السامية رد عليهم بأن ما قالوه من أنه ليس عليهم في الأمِّيين سبيل كلام لَا أصل له في شرع سماوي فهو ليس دينا، وإذا كانوا قد قالوه على الله تعالى فقد كذبوا على الله تعالى، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى ذلك في قضية عامة تدل على أن من شأنهم أن يقولوا الكذب على الله تعالى، وهم يعلمون أنه كذب فقد كذبوا فادّعوا أنهم أبناء الله وأحباؤه، وكذبوا فادعوا أن إبراهيم كان يهوديا، وكذبوا فادّعوا أنه لا نبي إلا من بني إسرائيل، فكان الكذب على الله تعالى شأنا من شئونهم، ولذلك عبر بالمضارع، أي أن شأنهم أن يقولوا الكذب على الله، قالوه في الماضي، ويقولونه في الحاضر، وسيقولونه في المستقبل، وذلك شأن الذين يحتكرون لأنفسهم حق التكلم في الدين، ويحسبون غيرهم ليس من حقهم أن يتكلموا فيه.
وإن الأمانة كانت توجب عليهم ألا يقولوا إلا الحق، ولكنهم خانوها في الماديات، وما ذلك إلا لأنهم فقدوها في المعنويات، فكان هذا هو أساس ذلك الضلال البعيد، ولقد روى سعيد بن جبير أن النبي - ﷺ - قال في أهل الكتاب عندما نزل قوله تعالى عنهم: (لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ): قال عليه الصلاة والسلام:
1282
" كذب أعداء الله، ما من شيء في الجاهلية، إلا وهو تحت قدمي هاتين إلا الأمانة، فإنها مؤداة إلى البر والفاجر " (١).
ويروى أن رجلا سأل ابن عباس، فقال: " إنا نصيب في الغزو من أموال أهل الذمة الدجاجة، والشاة، فقال ابن عباس: فتقولون ماذا؟ قال نقول: ليس علينا بذلك بأس. فقال حبر هذه الأمة: هذا كما قال أهل الكتاب: (لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ). إنهم إذا أدوا الجزية لم تحل لكم أموالهم إلا بطيب أنفسهم ".
وإن الحق الثابت المقرر أن الفضائل الدينية هي حق على المؤمن لكل إنسان، ويأثم إن لم يؤدها لكل إنسان، ولذا قال تعالى:
* * *
________
(١) رواه ابن أبي حاتم، ورواه ابن جرير الطبري في تفسيره وقال: حدثني ابن حميد، وراجع الدر المنثور للسيوطي) جـ ٢، ص ٥١.
1283
(بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦)
* * *
هذا تأكيد لبيان كذبهم على الله تعالى، وبَلي هنا معناها. إثبات ما نفوه " لأنها تجيء في القول لإثبات المنفي، لقد نفوا أنه ليس عليهم في الأمِّيين سبيل، فقال سبحانه بل عليكم فيهم سبيل، وأنتم معذبون بما تجرمون في شأنهم، ومثابون إن أوفيتم لهم بعهدهم وآمنتم، وقد علل سبحانه ذلك الحكم العادل بقضية دينية عامة ثابتة، وهي قوله سبحانه: (بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ).
وإن معنى هذا النص السامي أن الذي ينال محبة الله تعالى رضاه سبحانه، لابد أن يتحقق فيه وصفان:
أولهما الوفاء بالعهد، فكل ما يلتزمه من عهود، سواء أكان موضوعها أمرا ماديا كأداء الأمانات أم كان الموضوع أمرا معنويا كالقيام بحق من الحقوق - الوفاء به يستوجب رضا الله سبحانه، وكل غدر يكون فيه إبعاد عن رضوان الله سبحانه ومحبته.
1283
ويدخل في العهود ما أودعه الله سبحانه قلب كل إنسان من إدراك للحق، وفهم له وإدراك لمعنى الدليل، فإذا لم يذعن له ويعلنه لَا يكون موفيا للعهد.
الوصف الثاني المستوجب لرضا الله ومحبته - هو التقوى بأن يشعر بحق الغير عليه ويؤمن به، ويجعل بينه وبين الاعتداء أيا كان نوعه وقاية.
هذان هما الوصفان اللذان يستوجبان محبة الله تعالى، وقد خلا اليهود منهما، فليسوا من محبة الله في شيء، وإن هذين الوصفين متداخلان فالوفاء بالعهد داخل في التقوى، ولذلك قال سبحانه في جزاء الوصفين معا: (فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) أي من أوفى بعهده واتقى فقد استحق محبة الله، لأن محبة الله تعالى لَا يعطيها إلا لأهل التقوى الذين يجعلون بينهم وبين غضب الله تعالى وقاية، فيوفون بالعهد ويعطون كل ذي حق حقه، ويخشون مقت الله وعذابه، وأن الذي يسهل عدم الوفاء بالعهد أعراض الدنيا، وهي ثمن لَا يساوي شيئا في جانب عدم رضا - الله تعالى؛ ولذا قال سبحانه:
* * *
1284
(إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ... (٧٧)
* * *
أي إن الذين يتركون عهد الله تعالى في مقابل عرض من أعراض الدنيا يستبدلون ثمنا قليلا بأمر جليل إذ إن من يترك عهد الله الذي عاهد الناس عليه ويمين الله التي وثق بها ذلك العهد يفقد ثقة الناس، ومن فقد ثقة الناس لا يأمنونه، وتلك خسارة كبيرة، وإذا فقد المجتمع الثقة بين آحاده صار كل واحد ينظر إلى الآخر كما ينظر الوحش إلى فريسته، فيذهب الاطمئنان، فتكون الجماعة كقطيع من الذئاب.
وعهد الله تعالى يشتمل معنيين: أحدهما ما التزمه بمقتضى فطرته والتكاليف الدينية والمدارك العقلية من أداء الحقوق والواجبات ومراعاة الأمانات، والثاني ما يعطيه هو من عهود يذكر فيها اسم الله تعالى، ويوثقه بيمين الله تعالى أو لا يوثقه. وإن تراث هذه العهود له أثر في الدنيا وفي الآخرة، أما في الدنيا فالنبذ والطرد. وأما أثره في الآخرة، فذكر سبحانه بعضه بقوله: (أُوْلَئِكَ لَا خَلاقَ لَهُمْ
1284
فِي الآخِرَةِ) أي أولئك الذين ينكثون بالعهود ولا يحترمون يمين الله لَا نصيب لهم في الآخرة من ثواب، ولكن مغبتهم حساب وعقاب، فخسروا الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين.
(وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّه وَلا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أربعة أنواع من الجزاء تنالهم أولها: أن الله لَا يكلمهم، وهذا كناية عن عدم محبته، لأن المحب مقبل على حبيبه، متحدث إليه، ومن فقد محبة الله فقد فقد معنى الوجود، وثانيها: أنه لَا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يرعاهم، لأنهم إذا فقدوا النظر إليهم منه سبحانه فقدوا كلاءته وحمايته، فعدم النظر كناية عن أنه لا يحميهم من العقاب، ولا ينزل بهم نعيما، والنوع الثالث: أنه لَا يزكيهم، وذلك كناية عن عدم رضاه سبحانه، لأن من يرضى عن شخص يزكيه ويطريه ويثني عليه. والجزاء الرابع الذي هو نتيجة ما سبق من بغض الله، وسخطه، ومنع حمايته هو أن لهم عذابا مؤلما:
اللهم قنا عذاب النار، وامنحنا رضاك واعف عنا واغفر لنا وارحمنا، وأنت خير الراحمين.
* * *
(وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨) مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠)
* * *
1285
بين الله سبحانه وتعالى في الآيات السا بقة كذب اليهود والنصارى الذين عاصروا النبي - ﷺ - والذين سبقوه، ومن جاء بعد هؤلاء وأولئك، كيف كانوا يكذبون في الوقائع البدهية، فَيدَّعون أن إبراهيم أبا الأنبياء كان يهوديا أو نصرانيا وكيف كان اليهود وغيرهم يدعون أن هداية الله حكر احتكروه، وهي في حِرْزهم لا تخرج عنهم إلى غيرهم، وقد اندفعوا إلى النفاق بإظهار الإيمان وإبطان الكفر، ثم اندفعوا إلى خيانة الأمانات المادية، وأكل أموال الناس باسم أنهم الصنف الممتاز في هذه الأرض الذي يباح له كل شيء. وفي هذه الآيات التي نتكلم الآن في معانيها السامية قد أعظموا في البطلان كما يحكي رب العالمين، فكذبوا على الله تعالى، وهذا الكذب هو أصل الداء، وأبعد غايات الافتراء، كذبوا على الله فحرفوا الكتاب، وقرءوا أهواءهم على أنها من عند الله، وما هي من عند الله، وعلى أنها من الكتاب وما هي من الكتاب ولذا قال تعالى:
1286
(وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ منَ الْكِتَابِ) هذا من عدل القرآن الكريم في حكمه على الطوائف والجماعة، لَا يعمِّم الحكم على الجماعة كلها، ولكن يخص بالذكر الذين ارتكبوا ابتداءً كِبرَ الشر، وإن عم ضلالُهم من بعدُ الطائفة كلها، ولهذا نسب التحريف ابتداء إلى طائفة منهم، وإن كان الضلال شاملا.
ولَيُّ اللسان معناه، فتْلُه عند النطق لتوجيه الكلام نحو معنى لَا يقصد من ظاهر اللفظ، وهذا يشمل معاني كثيرة، فيشمل إخفاء بعض الحروف عند النطق بكلمة، فيتغير المعنى، كمن يقول: (السلام عليكم) فيخفي (اللام) فتصير الكلمة " السام عليكم " ويكون المعنى مناقضا للمعنى الأصلي، إذ السلام هو: الأمن، والسام هو: الموت، والأول دعاء له، والثاني دعاء عليه، ومن اللَّي، أن يغير لفظا بلفظ آخر، ويومئ اللفظ الثاني إلى معنى غير المقصود من الأول، ومن ذلك قوله تعالى حكاية عن بعض أهل الكتاب: (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِألْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ
1286
وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ...)، فكان لَيُّ اللسان أن استعملوا كلمة (راعنا) بدل كلمة (انظرنا) وكلمة راعنا - في لغة السريان والعبرانيين - للسب، فهم باختيارها يشيرون إلى معنى السب في هاتين اللغتين، وبذلك يطعنون في الدين، ويسبون النبي - ﷺ -، ومن لي اللسان، أن تقرأ عبارات في الكتاب بنغمته، وهي ليست منه. ومِنَ اللَّي المعنوي، تحريف المعاني بتوجيهها إلى غير المراد منها.
وبهذه الأنواع الأربعة كان بعض اليهود والنصارى يلوُون ألسنتهم بالكتاب أي عند قراءته و " الباء " في قوله تعالى: بـ (الْكِتَابِ)؛ بمعنى " في " فهم ينظرون إلى الصحائف التي تحوي التوراة، ويقرءون غير ما فيها بليِّ ألسنتهم إما بحذف حروف يغير المعنى حذفها، أو بتغيير كلماتها، أو بقراءة كلام غيرها بنغمتها وتجويده، أو بتحريف معانيها، ليتجهوا إلى معان ليست فيها؛ وليس شيء من هذا في الكتاب الذي يوهمون سامعيه أنه منه، وليس منه، وبذلك ضلُّوا وأَضلُّوا كثيراً، وضلُّوا عن سواء السبيل، وإن ذلك هو أصل الشر فيهم، وأصل فساد الاعتقاد عندهم.
والضمير في قوله سبحانه: (لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ) وفي: (وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ) يعود إلى ما لوَوْا به ألسنتهم؛ وتكرار الكتاب في النفي. ، لبيان شدة براءة الكتاب المنزل على موسى وعيسى عليهما السلام مما يدعون ويفترون.
(وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) في هذا النص السامي بيان مدى الخطورة في لَي ألسنتهم بالكتاب، وإيهام الناس أن ما يقرءون وما يقولون من كتاب الله حتى يحسبه الناس كذلك، فإنهم إذْ يفعلون ذلك ينسبون لله تعالى ما لم يقله فيقولون: إن كلامهم هو من عند الله، وليس من عند الله، وذكر " هو " في كلامهم يفيد إصرارهم على ما يدعون مع علمهم بأنهم يكذبون ويفترون وذكره في نفي ادعائهم لتأكيد هذا النفي، وبيان أنَه منصبٌّ على كلامهم، لَا على أصل الكتاب، ويقول الزمخشري في قوله تعالى: (وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ)
1287
تأكيد لقوله (لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ) وزيادة تشنيع عليهم، وتسجيل بالكذب، ودليل على أنهم لَا يعرِّضون، ولا يورون، وإنما يصرحون بأنه في التوراة هكذا، وقد أنزله الله تعالى على موسى عليه السلام كذلك؛ لفرط جراءتهم على الله تعالى، وقساوة قلوبهم، ويأسهم من الآخرة. وقد سجل سبحانه وتعالى عليهم الكذب بقوله سبحانه:
(وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ) في هذه الجملة السامية بيان مقدار جرأتهم في الباطل، وكذبهم على الحق، فهم يكذبون على الله، وهم يعلمون أنهم كاذبون. وقد أكد سبحانه وتعالى شناعة تصوفهم وتبجحهم بأربعة مؤكدات:
أولها: أن كذبهم لم يكن تعريضا، ولا بلسان الفعال، بل كان بالقول الصريح.
وثانيها: أن المفترى عليه هو الله سبحانه وتعالى، فهم لَا يفترون على بشر مثلهم، ربما لَا يعلم افتراءهم عليه، بل إنهم يكذبون على علام الغيوب الذي يعلم ما تنطق به الألسنة وما تكنه القلوب، وإذا كانوا ينكرون علمه واطلاعه، فقد كفروا بهذا الإنكار قبل أن يكفروا بهذا البهتان.
وثالثها: أنهم يعلمون الحق، وينطقون بالباطل، ويعلمون حكم الله تعالى، ويكذبون عليه، ويتقولون الأقاويل، وهم يعلمون أنها غير صادقة.
ورابعها: أنه أكد علمهم بذكر الضمير، في قوله: (وَهُمْ يَعْلَمُونَ)، أي: هم بأعيانهم وأشخاصهم يعرفون كذبهم، وذلك هو الضلال البعيد.
وإن أعظم فرية افتراها بعض أهل الكتاب هي ادعاؤهم أن بعض النبيين دعوهم إلى أن يعبدوهم من دون الله تعالى، أو يتخذوهم أربابا، ولقد أشار الله سبحانه وتعالى - إلى هذه الفرية العظيمة ببيان أنها غير معقولة في ذاتها، وأعظم الافتراء ما كان منافيا لطبيعة من ينسب إليه؛ ولقد قال تعالى في بطلان هذه
1288
الفرية:
* * *
1289
(مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ... (٧٩)
* * *
لقد ادَّعى النصارى أن المسيح إله وعبدوه، وادّعوا أن ذلك من رسالته، واتخذ اليهود والنصارى الأحبار والرهبان أربابا من دون الله تعالى بمعنى أنهم لم يتصلوا في معرفة الدين بنصوص كتابهم من غير حجاب، بل اتصلوا به عن طريق تفسير الأحبار والرهبان، وأولئك حرفوا وبدلوا، وكانوا ينشرون كلامهم على أنه من دين الله، وما هو منه.
وقوله تعالى: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ) استعمال قرآني يفيد نفي الشأن وعدم اتفاق هذا المعنى مع الحقيقة المفروضة في الرسول، وقد قالوا إن كلمة " ما كان " في هذا المقام وما يشبهه في معنى ما ينبغي. وذلك مثل قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتلَ مؤْمِنًا إِلَّا خَطَئًا...)، وقوله تعالى: (مَا كانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ...). وقوله تعالى: (مَا يَكون لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ...).
والنفي في النص القرآني منصبّ على اجتماع الرسالة مع القول الذي يكذبون به على أنبياء الله، ومعنى النسق هذا، لَا ينبغي لبشر أن يخاطبه الله تعالى ويعطيه الحكم والنبوة أن يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله فليس النفي بالبداهة منصبا على إيتاء الله الكتاب والحكم والنبوة، بل هو منصب على المعطوف، وهو أن يكون منه - مع ما آتاه الله - ذلك الادعاء فيدعو الناس إلى عبادته.
و" الكتاب " المراد به سجل الشريعة التي جاءت، و " الحكم " قيل المراد به الحكمة، ومن ذلك قول أكثم بن صيفي: (الصمت حكم، وقليل فاعله)، وأنا أرجح أن المراد هو الشريعة المنزلة التي يحكم بها بين الناس، و " النبوة " هي الرسالة الإلهية التي حملها النبي من أنبياء الله تعالى، وتلك النعم التي أنعم الله بها على هذا النبي لَا تتفق مع ما ينسب إليه، فالكتاب الذي آتاه حجة عليه والشريعة التي
1289
جاء بها تتجافى عن " هذا الادعاء، والأمانة التي تحملها برسالته عن الله تعالى تمنعه من أن ينطق بهذا البهتان الصريح؛ فإنه ليس في كتابه ولا شريعته، ولا يتفق مع معنى رسالته، وإذا كان من المستحيل أن يدعي تلك الدعوة فإن المعقول أن تكون دعوته متفقة مع هذه الأمور، ولذا قال سبحانه في دعوته:
(وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كنتُمْ تُعَلّمُونَ الْكتَابَ وَبِمَا كنتُمْ تَدْرُسُونَ) أي:
ولكن يقول أولئك الذين أوتوا علم الكتاب، وعلم الشريعة، وفضل النبوة والسفارة الإلهية للناس: (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) والربانيون، نسبة إلى الرب سبحانه وتعالى وقويت النسبة بزيادة الألف والنون، ومعنى هذه النسبة إلى الله تعالى يتضمن أنوارا يتخلق بها المؤمن.
أولها: ألا يعبد إلا الله وحده، فيكون بعقله وقلبه وأحاسيسه خالصا لله سبحانه وتعالى ولا يشرك فيها أحداً سواه.
وثانيها: ألا يعرف حقيقة شرع إلا عن الله، فلا يوسط في تعرفها عبادا لهم أهواء وشهوات، يحرفون الكلم عن مواضعه إلا أن يكونوا ذوي فهم في كتاب الله تعالى قد حرم هو منه، فيستعين بهم على فهم كتابه سبحانه لَا أن يأخذ أقوالهم على أنها دين الله.
ثالثها: ألا ينفذ من الأحكام إلا أحكام الرب سبحانه وتعالى.
رابعها: أن تكون كل أعماله خالصة لوجه الله فلا يماري ولا ينافق.
خامسها: أن يخضع للحق لذات الحق، وقد بين سبحانه - حكاية عما ينبغي أن يقوله الرسل وقد قالوه - كيف تتربى الربانية في نفس المؤمن، فذكر أنها علم الكتاب المنزل والعكوف على دراسته، فقال: (بِمَا كنتمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كنتمْ تَدْرُسُونَ). أي: أن الذي يربي الربانية هو الاستمرار والدءوب على أمرين اثنين: أولهما: دراسة الكتاب المنزل الذي بينه الرسول، فهو يدرسه مع شارحه، ويقطع كل الحجزات التي تحول بينه وبين هذه الدراسة، فلا يأخذ دين الله عن غير كتاب الله الذي بينه رسول الله تعالى.
1290
ثانيهما: استيعاب علم الكتاب وتعليمه من البعض ليتمكن الدارسون من أن يعرفوا حقيقة كتاب الله، والاهتداء بهديه. وقُدِّم تعليم علم الكتاب على دراسته الأمرين:
أولهما: الإشارة إلى جرم أهل الكتاب الذين اتجهوا إلى تعليم الناس أهواءهم بدل أن يعلموهم كتاب الله.
وثانيهما: أن بيان الدراسة من غير تعليم وتدريس خبط عشواء. وسير في ظلماء؛ كما يحاول ملاحدة اليوم الذين يريدون أن يفهموا القرآن من غير أن يعلموا شيئا حتى علم العربية:
* * *
1291
(وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا... (٨٠)
* * *
في النص القرآني (١) قراءتان إحداهما بضم الراء، ويكون الكلام بها مستأنفا، ومتمما بيان ما لَا ينبغي لرسل الله تعالى. والثانية بفتح الراء؛ بالعطف على أن يؤتيه مع ملاحظة المعطوف الأول عليها، والمعنى: أنه لَا ينبغي لبشر أن يؤتيه الله الكتاب مع قوله كونوا عبادا لي من دون الله، ولا ينبغي له أيضا أن يأمرهم بأن يتخذوا الملائكة والنبيين أربابا بأن يعتقدوا أن الملائكة والنبيين يسيّرون الكون بغير إرادة الله، وأنهم يعبدون من دون الله أو مع الله. وقد وقع في عبادة الملائكة - الصابئة الذين كانوا يقيمون في بلاد الكلدان، وتبعهم بعض المشركين من العرب، والذين عبدوا بعض النبيين هم النصارى فقد اتخذوا المسيح إلها يعبد، وبعض اليهود فقد اتخذت طائفة منهم عزيرا إلها وزعموه ابن الله، تعالي اللهِ عما يقولون علوا كبيرا.
(أَيَأمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلمُونَ) هذا استفهام إنكاري بمعنى النفي أي: أن الرسل لَا يمكن أن يأمروا بالكفر بالله، وقد أوتوا علم الكتاب وفضل السفارة، وتنفيذ شريعة الله تعالى، ذلك لأنهم يكونون مضللين ولا يكونون هادين، وقوله: (بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ) فيه إشارة إلى أن الناس بمقتضى فطرهم يسلمون ويخلصون وجوههم لله سبحانه وتعالى، فهذا شأن من شئونهم، وطبيعة في فطرهم، حتى لقد قال بعض العلماء: إن معرفة الله تكون بالعقل؛ وأوجب
________
(١) غاية الاختصار ص ٤٥١.
1291
أبو حنيفة معرفة الله بالعقل وما كان الرسل ليصرفوا الناس عن مقتضى الفطرة والعقل؛ فعبادة الله وحده في فطرة الله التي فطر عليها الناس.
اللهم جنبنا الهوى، واهدنا إلى الرشاد.
* * *
(وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٨٢) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣)
* * *
بين سبحانه وتعالى أحوال اليهود الذين عاصروا الرسالة المحمدية، وكيف كانوا يتعصبون لما عندهم، ويحرفون الكلم عن مواضعه؛ تشددا في التمسك بما عندهم على أن يكون على هواهم. وبين سبحانه كيف أداهم ذلك إلى الظلم، وإلى فساد الاعتقاد. بعد هذا بين سبحانه وتعالى وحدة الشرائع السماوية، وأنها يكمل بعضها بعضا. وأنها كالقصر المشيد، كل لبنة منه جزء من كيانه، وهو جماع لبناته وأركانه وأشكاله؛ وأكد سبحانه تلك الوحدة في الرسالة الإلهية ببيان أنها ميثاق الله على الأنبياء، وأن الله سبحانه أخذه عليهم ليصدق بعضهم بعضا فقال تعالى:
1292
(وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَاب وَحِكْمَة).
الميثاق مأخوذ من الوثاق، وهو ما يشد به الأمر، ويثبت ويؤكد؛ والميثاق الذي أخذه الله على النبيين هو ميثاق بمقتضى الهداية التي جاءوا بها، والحق الذي
1292
يناصرونه، وهو مشتق من معنى النبوة، والرسالة الإلهية؛ فإن هذه الرسالة بمقتضى وظيفتها وعملها هي عهد موثق بين العبد المختار، والرب الذي اختاره، كمن يرسل رسولا، فإنه يكون ثمة عهد بين الرسول ومن أرسله، بأن يقوم بواجب الرسالة على الوجه الأكمل.
وإنه بمقتضى هذا العهد الموثق الذي اشتق من منصب الرسالة الأسمى، تكون الرسالة الإلهية واحدة في مقصدها وغايتها، وهي إسعاد البشرية، وتنظيم العلاقات الإنسانية على دعائم من الأخلاق الفاضلة المنبعثة من النفس العابدة، والروح الزاهدة، التي لَا تحرم طيبات ما أحل الله.
وإذا كانت الوسائل تختلف أحيانا قليلة، فالغاية واحدة، وهي الرحمة، وإقامة الحق والقسط بين الناس.
وكل نبي متمم ما بدأ به النبي الذي سبقه، أو بالأحرى يؤكد ما جاء به ويوثقه ويقويه، حتى ختم الله أنبياءه بمحمد - ﷺ -، فكان خاتم النبيين، ولذلك كان حقا على كل نبي أن يصدق ويؤمن بما يجيء به النبي الذي بعده، والذي أعلمه الله تعالى به، وإذا كان حقا على النبي المبعوث أن يؤمن بمن سبقه، ومن يجيئون بعده ممن أخبره الله تعالى بمجيئهم، فإنه بلا ريب حق على الذين يتبعونه أن يصدقوا ذلك النبي الذي يجيء بعده؛ لأنهم يتبعونه في كل ما يؤمن به؛ فحق على اليهود والنصارى بمقتضى العهد الذي أخذه الله على النبيين، وبمقتضى إيمان هؤلاء النبيين، وتنفيذا لهذا العهد، أن يؤمنوا بالنبي - ﷺ -، وإلا ما كانوا متبعين لموسى وعيسى عليهما السلام، إنما يكونون متبعين لأهوائهم وشهواتهم؛ ولذا يقول النبي - ﷺ - فيما رواه جابر: " لو كان موسى حيا بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني " (١).
________
(١) رواه أحمد: مسند المكثرين - مسند جابر بن عبد الله رضي الله عنه (١٤١٠٤).
1293
هذا هو معنى النص الكريم بالإجمال، بقي أن ننظر في تخريج هذه المعاني السامية من الألفاظ المقدسة، فنقول: إن في الآيتين قراءتين (١)، إحداهما: القراءة بفتح " اللام " وتكون اللام في هذه الحال هي اللام الموطئة للقسم، التي تُشْعِرُ بأن في الكلام قسمًا تضمنه سابقها، وأن ما بعدها يتضمن الجواب؛ وتكون (ما) شرطية، ويكون معنى الكلام: مهما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لَا معكم لتؤمنن؛ أي أنه ميثاق الله وعهده إن أتاكم علم الكتاب والحكمة، وهي الشريعة الحاكمة، وجاء رسول أن تؤمنوا فالعهد الأساس بينكم معشر الرسل، وبين من أرسلكم، أنه إن جاء كتاب الرسالة، وشريعتها التي هي حكمتها الحاكمة هو أن تؤمنوا بكل رسول يجيء بعدكم مصدقا لَا معكم كإيمانكم بكتابكم: هذا تخريج معاني الآية على قراءة فتح " اللام ".
وثانيتهما القراءة بكسر (اللام) وتكون (ما) بمعنى الذي، فهو اسم موصول، وقوله تعالى: (ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مصَدِّقٌ لمَا مَعَكُمْ) عطف على الصلة، ويكون المعنى: أخذ الله سبحانه وتعالى الميثاق على النبيين بسبب الكتاب الذي نزل، والحكمة التي جاءوا بها، وتصديق النبي الذي جاء من بعدهم - أخذ عليهم عهدا بأن يؤمنوا به.
وقوله تعالى: (لَتُؤْمِنُنَّ) جواب القسم الذي تضمنه معنى الميثاق، لأن الميثاق المؤكد الموثق هو في حكم القسم المؤكد الموثق، وقوله تعالى: (وَلَتَنصُرنَّهُ) عطف على لتؤمنن أي أن مقتضى العهد والميثاق على النبيين أن يؤمنوا بما جاء به الرسول الذي صدق ما معهم، وأن ينصروه إذا اختلف مع المشركين. ولكن قد يسأل سائل: إنهم قد مضوا، فكيف تتصور منهم النصرة؛.
إن تصور الإيمان منهم ممكن باعتبار أن الله تعالى مخبرهم بمبعثه، ولكن النصرة غير متصورة، والجواب عن ذلك: أن الكلام بالنسبة للأنبياء فرضي، وبالنسبة لأتباعهم واقعي؛ وكان المراد أن هؤلاء الأنبياء لو كانوا أحياء في عهد
________
(١) قرأها (لِمَا) بكسر اللام حمزة، وقرأ الباقون (لَمَا) بفتح اللام. غاية الاختصار - ج ٢/ ٤٥١..
1294
الرسول الذي يجيء مصدقا لما معهم، لآمنوا به، ولاتبعوه ونصروه وآزروه، لأن ذلك ميثاق الله الذي ربط النبوات بعضها ببعض، فهي متلاقية عند غاية واحدة، وإذا كان النبيون لَا يفرض فيهم إلا ذلك فاتباعهم يجب عليهم أن يفعلوه إن كانوا متبعين لهم.
بعد أن صور الله سبحانه وتعالى ذلك العهد الموثق بمقتضى الرسالة الإلهية قال:
(قَالَ أَأَقْرَرْتمْ وَأَخَذْتمْ عَلَى ذَلِكمْ إِصْرِي) في الجملة السابقة بيّن سبحانه عهد الله على النبيين، وفي هذه الجملة يوثقه ويؤكده بأخذ إقرار منهم بهذا الميثاق، وبأخذ عهد آخر عليهم، وهو أن يتولوا هم أخذ العهد على غيرهم بأن يقوموا بعهد الله تعالى الذي عاهدهم عليه، أي أنه سبحانه يأمرهم بأن يأخذوا ذلك العهد على أتباعهم، وهذا معنى (وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي) أي أخذتم من أتباعكم على ذلك الميثاق - أن ينفذوه وأن يتبعوه، وأن يقوموا بحقه عليهم، فثمة إذن عهدان: عهد الله على النبيين، وعهد النبيين على أتباعهم، وهذا هو الإصر الذي أخذوه عليهم. فالإصر هنا هو العهد الموثق الشديد، وقد قال الراغب في أصل اشتقاق " أصر ": " والإصر عقد الشيء وحبسه بقهره يقال أصَرتُه فهو مأصور ". قال تعالى: (وَيَضعُ عَنْهمْ إِصْرَهمْ...)، أي الأمور التي تثبطهم، وتقيدهم عن الخيرات، وعن الوصول إلى الثوابات.. و " الإصر " العهد المؤكد الذي يثبط ناقضه عن الثواب، وعن الخيرات، قال تعالى: (أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي).
وإذا كان أتباع النبيين قد. أخذ عليهم العهد بأن يؤمنوا بالرسول ويصدقوه وينصروه، فإنه في عنق اليهود والنصارى أن يؤمنوا بمحمد وينصروه ويؤيدوه، لأن ذلك جزء من الرسالة التي أتوا بها.
ولقد زكى سبحانه العهد الذي أخذه النبيون على أتباعهم بقوله تعالى: (قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ).
1295
أي أن الله سبحانه قد أخذ هذا الإقرار على أنبيائه، وأخذوا هم ذلك الميثاق على أتباعهم، وبعد ذلك أمرهم سبحانه بأن يشهدوا على أتباعهم بأنهم أخذوا ذلك الميثاق عليهم، فمعنى قوله تعالى: (قَالَ فَاشْهَدُوا) أي فاشهدوا أيها الأنبياء على أتباعكم بأنكم أخذتم عليهم تلك العهود بأن يؤمنوا بالرسول الذي يجيء مصدقا لما معكم، وأنهم إذا لم يفعلوا فقد خالفوا العهد والميثاق، ونقضوا عهد الله تعالى الذي أمر النبيين بأخذه عليهم، ثم أكد سبحانه وتعالى تلك الشهادة بشهادته سبحانه وتعالى، وليس كمثله شيء، وهو السميع البصير، ولذا قال سبحانه: (وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ) وأي شهادة أجل وأعظم من شهادة خالق السماوات والأرض ومن فيهما.
وإن هذا كله ينتهي بلا ريب إلى أن اليهود والنصارى عليهم أن يتبعوا النبي - ﷺ -، وأن ينصروه، وأن يؤمنوا به، وعليهم أن يعلموا أن ذلك اتباع لدينهم، وأنهم إن ناوءوا الرسول، فإنما يناوئون أنبياءهم، وأنهم بمخالفتهم له قد خرجوا عن دينهم الذي ارتضوا، والذي يزعمون أنهم يناقضون النبي - ﷺ - لتأييده ونصرته.
وإن هذه الآية السامية تدل على وحدة الرسالة الإلهية إلى أهل الأرض، فما جاء به إبراهيم وموسى وعيسى هو ما جاء به محمد - ﷺ -، ولذا قال تعالى: (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ...).
ولهذه الوحدة الدينية في الرسالة الإلهية سمى الله سبحانه كل مكذب لنبي مكذبا لدين الله، ولو كان يدعي أنه يتبع ديناً ولذا سمَّى الخارجين فاسقين فقال تعالى:
* * *
1296
(فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٨٢)
* * *
أي فمن أعرض بعد ذلك عن الإيمان بمحمد وعن نصرته وتأييده، فأولئك هم الفاسقُون، أي الخارجون على كل دين غير المؤمنين بأي نوع من الإيمان، فلم يؤمنوا لَا بأنبيائهم ولا بمحمد، ولا بمن يدَّعون الإيمان بهم، وقد أكد فسقهم
1296
بالإشارة بالبعيد، وبتعريف الطرفين الذي يفيد انحصارهم في الفسق وانحصار الفسق فيهم، وأكد أيضا بضمير الفصل الذي يفيد التخصيص.
* * *
1297
(أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ... (٨٣)
* * *
هذه الجملة السامية فيها تصريح بوحدة الرسالة، فإن ما يجيء به الرسل جميعا واحد لَا يتغير، وهو دين الله تعالى؛ ومن خالفه فقد خالف دينه سبحانه، ومن آمن ببعض الرسل، وكفر ببعض آخر، فهو يبغى غير دين الله، ويطلب سواه، ومعنى النص الكريم: أنهم إذا أعرضوا عن تصديق محمد طلبوا غير دينه سبحانه.
والاستفهام هنا للتوبيخ، واستنكار ما يفعلون، وبيان أن مؤداه أنهم يطلبون غير دين الله سبحانه وتعالى، وأنهم لَا يمكن أن يكونوا مؤمنين بنبي قط، إذا أنكروا رسالة نبي، من الأنبياء، وخصوصا محمد - ﷺ - الذي جاء بكتاب مصدقا لمن بين يديه من الكتب.
وفى هذا الكلام إشارة إلى أن دين الله واحد لَا يتجزأ، فمن كفر ببعضه، فقد كفر بكله، وأن حقيقة هذا الدين تتجلى في كل ما جاء به الرسل لَا في بعضه، وأنه يتلاقى كله في مجموعه، ولا يتعارض إلا ما يكون من جزئيات عملية ضئيلة، فلا تختلف رسالات الرسل في قواعد كلية.
وهنا مباحث لفظية. أولها: أن الفاء هنا للترتيب والتعقيب، وهي مؤخرة عن تقديم؛ لأن الاستفهام له الصدارة دائما، والمعنى أنه ترتب على كفرهم بمحمد - ﷺ - أنه وجه إليهم ذلك الاستفهام الإنكاري توبيخا لهم على ما فعلوا وما أنكروا، وما ضللوا.
وثانيها: إسناد الدين إلى الله تعالى، ففيه إشارة إلى أن من يكفر ببعضه إنما
يكفر بالله، لَا بنبي من الأنبياء فقط.
وثالثها: تقديم المفعول على الفعل، أي تقديم كلمة " غير دين الله " على " يبغون " ففيه تنبيه إلى موضع الإستنكار وهو أنهم أرادوا غير دين الله تعالى، فقدم المفعول لأهميته، إذ هو موضع التنبيه والتوبيخ.
1297
ورابعها التعبير بـ (يَبْغُونَ) بدل يريدون، فإنه يفيد شدة إلحافهم وإصرارهم، وفي ذلك إشارة إلى أنهم بذلك ظالمون.
وقد بين سبحانه أن ذلك الأمر الذي ابتغوه وطلبوه كان تمردا على الله، وخروجا على طاعته، مع أنه سبحانه قد أسلم له كل من في السماوات والأرض طوعا وكرها؛ ولذلك قال سبحانه:
(وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السمَوَات وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا). أي أنهم يبغون غير دين الله، ويخرجون عن طاعته؛ مع أَنه قد أسلم له من في السماوات والأرض طوعا وكرها؛ وتقديم الجار والمجرور لإفادة القصر، أي له وحده، لَا لأحد سواه، خضع وأخلص كل من في السماوات والأرض من عقلاء. (طَوْعًا وَكَرْهًا) أي أنهم خاضعون مستسلمون له بنوعين أحدهما: بالطاعة، والإخلاص، والإذعان، وقبول كل ما يحكم به، والتقرب منه بعبادته، وأولئك هم الأخيار.
وثانيهما: بالخضوع لقوته القاهرة، وكونه سبحانه مسير الأكوان؛ لأنه لَا أحد من الخلق له أثر في تسييرها، وفيما يكسب من خير وشر، والجميع في قدرته وحفظه، وهذا الخضوع هو الخضوع كرها وقسرا، وهو سار على الأخيار والأشرار.
ثم هددهم سبحانه بقوله تعالى: (وَإلَيْهِ يُرْجَعُونَ). أي إليه وحده المرجع والمآب، يحاسب كلا على ما صنع من خير وشر.
اللهم اغفر لنا وارحمنا، وأنت خير الراحمين.
* * *
(قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٨٥)
* * *
1298
بين سبحانه وتعالى في الآيات السابقة شدة تعصب بعض الذين أوتوا الكتاب، وأنهم غلّقوا بهذا التعصب باب النور فلم تشرق قلوبهم بهداية الإيمان، ثم بين سبحانه أن صرح النبوة واحد، وأن كل نبي متمم لما جاء به سابقه مصدق له، ومبشر بالنبي الذي يجى بعده، وأن ذلك عهد الله وميثاقه، وفي هذه الآية يشير إلى وحدة الرسالة الإلهية، وأن محمدا - ﷺ - مؤمن بكل رسول جاء من قبله، وأن ذلك الإيمان جزء من رسالته عليه الصلاة والسلام، ولذلك أمره ربه بقوله تعالى:
1299
(قُلْ آمَنَّا بِاللَّه وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ) وهذا أمر من الله لنبيه بأن يبين لهم ارتباط شرائع الله، وأنها سلسلة متصلة، كل حلقة منها آخذة بالحلقة الأخرى، لتنتهي معها إلى نهاية واحدة، وهي الإخلاص، وقد ابتدأ سبحانه بذكر الإيمان بالله، فقال: (قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ) والإيمان بالله هو جماع الشرائع كلها، إذ الإيمان بالله يقتضي الإيمان بوجوده واحدا منفردا بالعبودية، ومنفردا بالتكوين والإنشاء، ويقتضي الإخلاص لذاته العلية فيطيعه فيما يأمره به، وينتهي عما ينهاه عنه، وتصديق رسله، وعدم الاستكبار على أحد منهم، وذلك هو الإيمان حقا وصدقا، والإسلام الذي هو دين النبيين أجمعين، وإذا كان الإيمان بالله يقتضي تصديق كل ما جاءت به رسل الله - ذكر سبحانه بعد ذلك الإيمان بما أنزل على النبيين، وهو عطف للمسبب على السبب وللنتيجة على المقدمة، لبيان شرف النتيجة في ذاتها، وأنها غرض مقصود لذاته، وليس فقط تابعا لغيره؛ وذلك لأن ما أنزل على الرسل فيه لُبُّ الشريعة السماوية المشتركة في كل الأديان التي ذكرها الله سبحانه بقوله تعالى: (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى به نوِحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَموسى وعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّين ولَا تَتفَرَّقوا فِيهِ...).
وإن الأنبياء الذين ذكرتهم الآية هم الأنبياء الذين يدعي اليهود والنصارى أنهم يتبعونهم، وفيهم إسماعيل أبو العرب، وفي ذكرهم بيان أن اليهود والنصارى قد خرجوا عن دينهم بكفرهم بالنبي - ﷺ -.
1299
والأسباط هم أولاد يعقوب الاثنا عشر، والمراد بما أنز ل على الأسباط هو ما أنزل على ذريتهم كالذي أنزل على داود وسليمان وغيرهما من الأنبياء الذين جاءوا من سلالة هؤلاء الأسباط، فكان المعنى: آمنا بما أنزل على إبراهيم وولديه إسماعيل وإسحاق وحفيده يعقوب، ثم من جاء بعد ذلك من ذرية الأسباط الذين هم أولاد يعقوب، فأنبياء بني إسرائيل لَا يخرجون عن ذلك، ثم خص اثنين من أنبياء بني إسرائيل بالذكر، وهما موسى وعيسى، - فقال: (وَمَا أُوتِيَ مُوسى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ).
وهنا قد يسأل سائل ما الذي أُوتيه موسى وعيسى والنبيون، أهو شيء آخر غير ما أنزل عليهم: ونجيب عن ذلك السؤال بأن ما ذكر بأنه أنزل على النبي - ﷺ - وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق، هو الجزء الذي لَا تختلف فيه الديانات السماوية قط، وهو لبها وخلاصتها، وأساسه التوحيد المطلق، والإيمان بفضائل الأخلاق، وغيرها مما لَا يقبل النسخ والتغيير، وأما الذي أوتيه موسى وعيسى والنبيون من ربهم فهو ما اختص به كل نبي من أحكام توافق زمنهم، ويصح أن نقول جوابا آخر وهو أن ما أوتيه موسى وعيسى والنبيون هو معجزاتهم التي أقاموا بها الدليل على رسالة ربهم، ويصح أن يكون الجواب شاملا للأمرين معا.
وقد أورد الزمخشري، سؤالا وأجاب عنه هو وغيره، وهو أنه في سورة البقرة، قد قال الله تعالى: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهيمَ...)، فلماذا عبر هنا بقوله تعالى: (أُنزِلَ عَلَيْنَا) وهنالكَ (أُنزِلَ إِلَيْنَا) وقد قال الزمخشري في السؤال وفي الجواب ما نصه: (فإن قلت لم عدَّى لـ " أنزل " في هذه الآية بحرف الاستعلاء، وفيما تقدم من مثلها بحرف الانتهاء (١). قلت لوجود المعنيين جميعا؛ لأن الوحي ينزل من فوق، وينتهي إلى الرسل، فجاء تارة بأحد المعنيين، وأخرى بالأخرى، ومن قال إنما قيل " علينا " لقوله: " قل "، و " إلينا " لقوله: " قولوا " تفرقة بين الرسول والمؤمنين؛ لأن الرسول
________
(١) حرف الاستعلاء (على)، وحرف الانتهاء (إلى).
1300
يأتيه الوحي على طريق الاستعلاء، ويأتي هم على طريق الانتهاء - فقد تعسف، ألا ترى إلى قوله: (بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ...)، و (أنزلنا إليك)، وإلى قوله تعالى: (آمِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا...).
وإنا نميل إلى ما اعتبره الزمخشري تعسفا؛ لأن الخطاب في الأول من الله لنبيه، والوحي ينزل عليه، فكان من مقتضى الحقيقة أن يعبر بعلى، والثاني خطاب للمؤمنين، والوحي لَا ينزل عليهم، ولكن ينتهي في نزوله إليهم، وكون الله تعالى عبر في مقام النزول على النبي بـ " إلى "، وحكى عن اليهود أنهم قالوا في مقام النزول إلى المؤمنين بعلى، فلأسباب واضحة في مقامها لَا يخل بالتعليل في هذا المقام.
(لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) هذه ثمرة الإيمان بالله وحده لا شريك له، والإيمان بكل رسله، وبكل ما أنزل على رسله، فالنبي والمؤمنون معه إذ يؤمنون بكل ما جاء به الرسل لَا يفرقون بين أحد منهم، فلا يؤمنون بواحد ويكفرون بآخرين، ولا يؤمنون بجماعة ويفردون بالكفر واحدا، بل هم في الإيمان سواء، وإذا كان بينهم تفاضل في أشخاصهم، فاصل الإيمان برسالتهم واجب لا تفرقة فيه؛ ولكن التفضيل يكون بأمور أخرى وراء أصل التصديق والإيمان؛ ولذا قال تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ...).
ثم بين سبحانه الوصف الكامل لأهل الإيمان، وهو الإذعان لذات الله ولذات الحق، فيطلبون الحق مذعنين له مؤمنين به خاضعين، ولذا قال سبحانه: (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) أي ونحن لله سبحانه وتعالى مذعنون مخلصون، لَا نذعن إلا له، فلا نفكر في الأمور تحت تاثير عرض من أعراض الدنيا، أو عصبية جنسية أو دينية، أو حب رياسة وسلطان، بل نطلب الأمر من الأمور وقد أخلصنا في طلبه، وخلصنا أنفسنا من شوائب الدنيا وأعراضها، فالإخلاص لله والإذعان له فيه الخلاص والاستقامة نحو الحق.
1301
وقد بين سبحانه وتعالى أن الإخلاص لله سبحانه والإذعان المطلق هو لب الأديان كلها وروحها، وهو دين الله الحق، ولذا قال سبحانه:
* * *
1302
(وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ... (٨٥)
* * *
الإسلام هنا هو الإسلام في قوله تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِندَ الَلَّهِ الإِسْلام...)، فهو الإيمان بالله تعالى وحده، وإذعان العقل والنفس والقلب لله سبحانه وتعالى، فهو التوحيد، والانقياد، والإذعان، والإخلاص لذات الله، بحيث يحب الشيء لا يحبه إلا لله. وكان المعنى: من يطلب غير الإخلاص دينا لله تعالى فلن يقبل منه؛ لأن عدم الإخلاص لله تعالى إشراك للهوى ومآرب الدنيا في الاتجاه إليه سبحانه، وذلك نوع من الشرك الخفي، ولذا أكد سبحانه وتعالى ذلك بقوله: (فَلَن يقْبَلَ مِنْهُ) أي أنه ليس من شأنه أن يقبل غير الإخلاص إذ إن الله سبحانه وتعالى لا يقبل من عباده إلا ما كان خالصا له مجردا من كل هوى من أهواء الدنيا، ومن كان عنده ذلك الإخلاص الحق هو الذي قال سبحانه وتعالى في مثله: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَاموا تَتَنَزَّل عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافوا وَلا تَحْزَنوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كنتُمْ تُوعَدُونَ).
وإن الله تعالى إذا كان لَا يقبل ذلك النوع من التدين، وهو الذي خلا من الإخلاص، فإن صاحبه يكون يوم القيامة من الخاسرين، ولذا قال سبحانه: (وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) أي أن الخسران يوم القيامة يكون شأنه، إذ خسر رضوانه تعالى، وخسر النعيم المقيم، وخسر رحمة الله، فألقى به في الجحيم. اللهم هب لنا الإخلاص، وأنِرْ به بصائِرَنا، وامنحْنا قبولك ورضاك يا أرحم الراحمين.
* * *
1302
(كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٨٩)
* * *
إن لله سبحانه وتعالى سننا محكمة في خلقه، وكما أن الكون يجري على قوانين ثابتة لَا تقبل التخلف إلا إذا أراد الله سبحانه وتعالى، كذلك هناك سنن في النفوس لَا تقبل التخلف إلا أن يشاء ربك، ومن سننه تعالى في النفوس أنه لا يهدي إلا من طلب الحق مخلصا في طلبه، لَا يرين على بصيرته هوى يَظلمها، ولا يعوق طريق الهداية عرض أو عصبية، وإذا كان الله يهدي الضال عن جهالة، فإنه لَا يهدي من يضل عن بينة؛ لأنه أركس نفسه في الشر، وسد ينابيع الخير في قلبه، وسد مطالع النور فلا تصل إليه؛ تلك سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا. وإن أولئك اليهود أضلهم الله على علم، فهم آمنوا بالله تعالى ثم كفروا به، ثم شهدوا بأن الرسول حق وجاءتهم البينات المثبتة المنيرة، ثم بعد ذلك كفروا به، لقد كانوا يعلنون بين المشركين أنه سيجيء رسول يحطم الأصنام، ويستبشرون بِمَقْدِمِه، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به.
ولذا قال سبحانه وتعالى في شأنهم وشأن من يماثلهم بعد أن قص الكثير من قصصهم:
1303
(كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَن الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمً الْبَيِّنَاتُ) هذا استفهام للنفي واستبعاد الإيمان مع الحال التي عليها هؤلاء، فالمعنى أن هؤلاء مع حالهم التي هم عليها، وهي استيلاء الهوى على
1303
قلوبهم، وسيطرة الغرض على نفوسهم، وطمس العصبية لإدراكهما لَا يمكن أن يتحقق منهم إيمان وإخلاص صادق فلا يهديهم الله، فالنفي الذي اشتمل عليه الاستفهام هو النفي مع هذه الحال؛ ولذا كانت صيغة الاستفهام بلفظ كيف التي يستفهم بها عن الحال، ويكون النفي فيها أيضا مقيدا بهذه الحال التي هم عليها.
وحالهم التي أوجبت هذا النفي مكونة من عناصر أربعة: إيمان في الابتداء، وشهادة بأن الرسول حق، وكون البينات قد جاءتهم موضحة لهذا الحق، ثم بعد ذلك يكفرون، فلو كان حالهم حال ضلال عن غير علم لأنار الله أبصارهم، ولو كانوا مخلصين جهلوا الحقيقة وطلبوها لكانت هداية الله لهم ثابتة، ولكنهم غير ذلك، فهم قد كانوا مؤمنين، ويشهدون بالحق، وذلك عن بينة وعن أدلة يقينية ملزمة، ومع ذلك استولى عليهم التعصب بالباطل، فكان العمى الذي أرادوه، فلا هداية إلى الحق من بعد، وذلك لأن الله تعالى يهدي إلى الحق مَنْ أخلصَ وطلبه، فإن الإخلاص يقذف في القلب بالنور فيكون الإشراق الروحي، وتكون الهداية الربانية، أما من قصد إلى الباطل، ولم يخلص وعكرت بصيرته بالهوى، فإنه يكون محروما من هداية الله، حتى يغير من حاله بأن يتوب عن غيه، ويخلص وينيب.
والآية عامة لَا ريب في ذلك، فهي تبين من يحرِمه الله من هدايته، وهو الذي لَا يذعن للحق إلا إذا كان متفقا مع غرضه، وهو من الذين قال الله تعالى فيهم (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩).
ولكن المفسرين يذكرون لهذه الآية سببا للنزول، فيروي النسائي عن ابن عباس أنه قال: كان رجل من الأنصار أسلم، ثم ارتد ثم ندم، فأرسل إلى قومه يطلب إليهم أن يسألوا الرسول - ﷺ -: هل من توبة؟ فنزلت الآية (١). وروي عن
________
(١) رواه النسائي: تحريم الدم - توبة المرتد (٤٠٠٠)، وأحمد: مسند بني هاشم (٢١٠٨).
1304
مجاهد أنه جاء الحارث بن سويد فأسلم عند النبي - ﷺ - ثم كفر فرجع إلى قومه نادما، فأنزل الله: (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْما كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ) فحملها إليه رجل من قومه، فقال الحارث: (إنك والله ما علمت لصدوق، وإن رسول الله لأصدق منك، وإن الله لأصدق الثلاثة) ثم رجع وأسلم (١)، وروي عن الحسن البصري أنه قال: إنهم أهل الكتاب من اليهود والنصاوى الذين رأوا نعت النبي - ﷺ - في كتابهم وشهدوا أنه حق، فلما بعث من غيرهم حسدوا العرب على ذلك وأنكروه وكفروا بعد إقرارهم.
وإن هذا هو الذي أميل إليه، فقد قال تعالى في شأن اليهود: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (٨٩). وإن قصص القرآن فيه بيان تعصب الَيهود، وَمعاملتهم للمسلمين، وتلقيهم لهداية القرآن، وتواصيهم بالنفاق والكفر.
على أنه مهما يكن سبب النزول فإن الآية تقرر حقيقة ثابتة، وهي أن النفس أتى تشهد بالحق وتؤمن به ثم تكفر للهوى والعصبية لَا يرجى لها هداية إلا أن تزيل منها درن الغرض، وتنخلع عن العصبية الجامحة بالتوبة النصوح.
وفى النص السامي بعض مباحث:
أولها: ما حقيقة الهداية الإلهية في هذا المقام؛ وإنا نقول في الإجابة غير متعرضين لما بين المعتزلة والأشاعرة من خلاف: إن الهداية هنا هي الهداية المطلوبة في قوله تعالى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ)، والمذكورة في قوله تعالى: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى)، وهي بيان الطريق الحق، والإرشاد إلى سبيل المعرفة الحقيقية، وإن من يكون على هذه الحال، وهي الإيمان، والشهادة بالحق ومجيء البينات السابقة - لَا يحتاج إلى بيان فوق ما جاء إليه، بل يحتاج إلى عقاب صارم يجعله عبرة لكل من يكون على مثل حاله.
________
(١) رواه ابن جرير الطبري في تفسيره: سورة آل عمران ٨٦: ٨٩.
1305
ثانيها: قوله تعالى: (وَشَهدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَق) على أي شيء يكون العطف في العبارة السامية (وَشَهدُوا) وقد ذكر الزمخشري موضع العطف، فقال: " فيه وجهان: أن يعطف على ما في إيمانهم من معنى الفعل؛ لأن معناه بعد أن آمنوا، ويجوز أن تكون الواو للحال، بإضمار قد، بمعنى كفروا وقد شهدوا بأن الرسول حق.
ولماذا لَا تكون عطفا على كفروا نفسها ويكون من باب الجمع بين المتناقضات، كما تقول قتل القتيل وبكى عليه، أي أن حال هؤلاء مذبذبة متناقضة، فهم يكفرون بالرسول ويشهدون بأنه حق، والعطف بالواو لَا يقتضي ترتيبا، فيصح أن يكون الكفر في الوقوع متأخرا عن الشهادة ولكن يجيء سؤال: لماذا ذكر الكفر أولا؟ والجواب عن ذلك أن الكفر هو موضع الاستنكار، فكان تقديمه لهذا المعنى.
ثالثا: أن الله تعالى يذكر أنهم شهدوا بأن الرسول حق، وجاء الحق وصفا للرسول، ولعل الظاهر أن يكون وصفا لما جاء به وهو القرآن، ولكن وصف به؛ لأن اليهود ما كانوا ينكرون الشرائع السماوية، وما كان السبب في كفرهم هو ما جاء به النبي - ﷺ -، بل كان السبب هو الحسد لشخصه وللعرب، فأشار سبحانه إلى أنهم كانوا يشهدون لشخصه، فأوصافه عندهم، وكانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، فشهادتهم منصبة على شخص الرسول صلوات الله وسلامه عليه، فهم يعرفون شخصه من أوصافه فهو في علمهم حق وكل ما جاء به هو الحق.
(وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) ذيل الله سبحانه وتعالى الآية بهذا النص الحكيم للإشارة إلى أنهم ظالمون، فهم ظلموا أنفسهم، وظلموا الرسول! وظلموا الحقائق وطمسوا على بصائرهم، فلا يمكن أن تدخل الهداية إلى قلوبهم، وفي النص الكريم إشارة إلى أن الظلم يحدث في نفس الظالم ظلمة شديدة لَا ينفع معها ضوء. فتغلق كل الأبواب التي ينفذ منها النور إلى موضع الإدراك، إذ إن أساس الظلم هو تسلط الهوى والغرض الفاسد والحقد والحسد على النفس،
1306
فتنحرف عن مدارك الحق ومشارق العرفان، فلا يمكن أن يكون للهداية موضع في النفس، فلا يهديه الله سبحانه، وإن الظلم بطبيعته يفسد الإدراك كله؛ لأن إدراك الحقائق يستلزم صدق النفس في طلبها، وصدق النفس في طلب الحقائق لَا يمكن أن يكون مع الظلم. الذي يجعل الهوى مسيطرا، فالظلم ظلمات في النفس، وظلمات يوم القيامة.
* * *
1307
(أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧)
* * *
بعد أن شرح الله سبحانه نفس الذين سيطر الهوى عليهم بين الله جزاءهم في الدنيا والآخرة، وقوله تعالى: (أُوْلَئِكَ) إشارة إليهم في أوصافهم السابقة، فالإشارة ليست إلى أشخاصهم؛ لأنه لم يذكر أشخاصا، إنما ذكر أوصافا، فالإشارة إلى من عندهم هذه الأوصاف، وقد ذكر سبحانه في هذه الآية الكريمة الجزاء الأول لهم، وهو اللعنة المؤكدة الثابتة المجمع عليها، وهي لعنة من الله، وهي أعلاها، ولعنة من الملائكة، ولعنة من الناس أجمعين، أي أنها لعنة من الخالق والمخلوقين العقلاء سواء منهم من كانت طبيعته روحية ملكية، ومن كانت طبيعته إنسانية لها صلة بأعلاق الأرض ولها صلة بالروحانية السماوية؛ ذلك بأن الظلم أبغض الصفات الإنسانية عند الله والناس، فالله سبحانه قد كتب العدل على نفسه، ولذا روى أنه ورد في حديث قدسي: " ياعبادي إني قد حرمت الظلم على نفسي فلا تظالموا " (١)، والظالمون الذين سيطر الغرض والهوى على نفوسهم فلا يؤمنون بشيء، ولا يذعنون للحق إذا عارض أهواءهم الظالمة، لَا يحبهم أحد، فإن من غلب عليه هواه، وأحب نفسه أبغضه الناس.
ولكن ما اللعنة التي ضربها الله على الذين اتخذوا إلههم هواهم؛ قال علماء اللغة: إن اللعن في الأصل معناه الطرد، وإذا أسند إلى الله تعالى كان المراد الطرد من رحمته، وإني أرى أنه قد يستعمل بمعنى غضب الله تعالى وسخطه، وهذا
________
(١) جزء من حديث قدسي طويل رواه مسلم: البر والصلة والآداب - تحريم الظلم (٤٦٧٤)، وأحمد: مسند الأنصار (٢٠٤٥١)، عن أبي ذر رضي الله عنه.
1307
معنى لازم للطرد الذي هو الأصل في المعنى اللغوي؛ لأن الطرد يترتبط عليه السخط والمقت والغضب؛ إذ لَا يُطرد من رضي الله عنه، ولا يُطرد محبوب، وعلى ذلك تكون اللعنة هنا بمعنى سخط الله تعالى وغضبه، وسخط الملائكة وغضبهم، ولا مانع من أن يراد الطرد من رحمته إذا اجتمع مع الغضب في مثل قوله تعالى: (وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْه وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا). فهذه معان متلازمة مترتب بعضها علَى بعض، فيترتب على الغضب الطرد من الرحمة، ويترتب على الطرد من الرحمة عذاب السعير، فإنها للجنة أبدا، أو للنار أبدا، كما قال - ﷺ - (١).
وكون اللعنة تكون من الناس أجمعين معناه أن الفطرة الإنسانية السليمة كلها تتنكر وتلعن تلك القلوب المنحرفة التي لَا تخضع لحق، ولا تؤمن للبينات، بل تتجه إلى طمس المعالم التي تنير وتهدي، فالمراد المعنى الإنساني العام لَا الإحصاء والجمع لآحاد بني الإنسان.
* * *
________
(١) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يُؤْتَى بِالْمَوْتِ كَهَيْئَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ، فَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا المَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، ثُمَّ يُنَادِي: يَا أَهْلَ النَّارِ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيَقُولُ: وهَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا المَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، فَيُذْبَحُ ثُمَّ يَقُولُ: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ خُلُودٌ فَلاَ مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلاَ مَوْتَ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ﴾ [مريم: ٣٩]، وَهَؤُلاَءِ فِي غَفْلَةٍ أَهْلُ الدُّنْيَا ﴿وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾.
1308
(خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨)
* * *
هذا تأكيد للجزاء الأول وتصريح يلازمه، فاللعنة دائمة مستمرة، وهم فيها خالدون لَا تزايلهم ولا تنفصل عنهم أبدا، فهم في سخط من الله مستمر، وسخط من الملائكة والناس دائم، وإنه يترتب على سخط الله عذابه، وإذا كان سخط الله دائما فعذابه دائم لا يقبل التخفيف، ولذا قال سبحانه: (لا يخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ) لأن تخفيف العذاب لازم لتخفيف الغضب والسخط، وإذا انتفى الملزوم فقد انتفى اللازم.
وهذا العذاب في الآخرة عاجل لَا يقبل التأخير، ولذا قال سبحانه: (وَلا هُمْ يُنظَرونَ) أي لَا يؤجلون ولا يؤخرون لمعذرة يعتذرون بها أو ليتمكنوا من إصلاح خطئهم، فإن الآخرة دار جزاء عما عملوا في الدنيا.
(إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٨٩)
* * *
إن الله سبحانه وتعالى يغفر الذنوب جميعا لمن يتوب ويحسن التوبة، كما قال سبحانه وتعالى: (قلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَحْمَةِ اللَّهِ...)، فباب التوبة مفتوح، والتوبة أحب إلى الله من العقاب، ولذلك فتح باب التوبة لهؤلاء، التي كانت حالهم ما بينا، استثنى التائبين في هذا النص الكريم، والمعنى أن اللعنة مستمرة، والعذاب لَا يخفف إلا للذين تابوا من بعد إجرامهم وأصلحوا، ومعنى ذلك أن يقوموا بعمل صالح، فالتوبة الحقيقية مظهرها العمل الصالح، وهو ركن من أركانها وغايتها الجوهرية، فمن ادعى التوبة من غير عمل، فهو كاذب فيها، ومن تاب تلك التوبة النصوح (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي بمقتضى اتصافه البالغ بالغفران يقبل التوبة، وبمقتضى الرحمة يَجُبُّ ما كان من سيئات، اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وكفر عنا سيئاتنا، وتوفنا مع الأبرار.
* * *
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٩٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٩١) لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٩٢)
* * *
بين الله سبحانه وتعالى حال أولئك الذين أَرْكَسُوا أنفسهم في الضلالة وقد جاءتهم البينات من ربهم، وشهدوا أن الرسول حق، بين حالهم في الدنيا وحالهم في الآخرة، وأن مصيرهم إلى النار، إلا إذا تابوا وعملوا عملا صالحا، فإن الله تواب رحيم، وإن الآيات السابقة تشير إلى احتمال توبتهم بيقظة الضمير بعد
1309
غفلته، فإن النفس قد تظلم وتشتد ظلمتها، ثم ينبثق إليها النور من إحدى النوافذ، فتكون الهداية بعد الضلال، والإيمان بالحق بعد الباطل، وذلك مشروط بألا يمعن الشخص في طريق الضلال فيزداد كفرا وشرا، أما الذين يمعنون في الغواية، ولا يقفون فيها عند نهاية، فإنهم يستمرون في غيهم يعمهون، ولا يتوبون؛ ولذا قال تعالى فيهم:
1310
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ).
فهذا كما أشرنا قسم ممن كفروا بعد إيمان؛ لأن أولئك قسمان أحدهما يرجى توبته، وذلك هو الذي لم يوغل في طريق الكفر والإمعان فيه، وقد أشار سبحانه بقبول توبته بقوله تعالى مستثنيا له: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُواِْ)، والقسم الثاني هم الذين كفروا بعد أن آمنوا، ولم يكتفوا بذلك بل لجوا في العناد، واسترسلوا في الغيّ، واستمروا في مقاومة الحق، فإنهم كلما أوغلوا في الباطل بعُدوا عن التوبة والرجوع، ومثلهم كمثل من يسير في صحراء وقد ضل الطريق، فإنه كلما أوغل فيها ازداد ضلاله. وهذا القسم لَا تقبل توبته، لأنه لَا يتوب توبة نصوحا، وقد عبر سبحانه عن إيغالهم في الشر بقوله: (ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا) أي أن الكفر درجات، وكل إيغال فيه ازدياد، ذلك لأن الكفر جحود القلب مع قيام الأمارات والأدلة، وكلما اشتد العناد اشتد الجحود، واستغلظت الحجب التي تحول بين المرء والهداية، فإذا كان الحجاب عن الإيمان بالحق رقيقا أولا، فبالإمعان في العناد يغلظ الحجاب، ويستمر في الغلظ حتى يحكم الإغلاق، وهو الذي عبر الله عمن تصاب قلوبهم به بقوله تارة: (طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ...)، وتارة (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ...)، وقوله تعالى مرة ثالثة: (بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ).
وأولئك قال تعالى فيهم: (لَن تُقْبَلَ نَوْبَتهُمْ)، فنفَى سبحانه وتعالى قبول توبتهم، ولنا أن نفسر نفي قبول التوبة على ظاهره بمعنى أنه قد تقع منهم توبة
1310
ولكنها ليست التوبة التي تُقبل، ونص على قبولها في قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ...)، وعدم قبول توبتهم هذه لأنها بظاهر من القول، أو لأنها فلتات نفسية تحدث أحيانا في حال كرب أو شدة، ثم يعودون لما كانوا عليه كما قال تعالى: (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ...). أو تكون التوبة في آخر رمق في الحياة كتوبة فرعون وقد أدركه الغرق، فقد حكى الله تعالى ذلك عنه إذ يقول: (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١).
فإن هذه التوبة لَا تقبل؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (١٧) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (١٨).
هذا هو الفرض الأول في تخريج الآية الكريمة، وهو عدم قبول التوبة إن وقعت، والفرض الثاني أن نقول إن النفي المؤكد منصب على عدم وقوع التوبة، بله على عدم قبولها، فالمعنى لن تقبل توبتهم، لأنه لَا توجد لهم توبة قد استوفت شروط القبول، ومؤدى الفرضين واحد، لأنه على تسليم وجود توبة في الفرض الأول يجب أن نقرر أنها كلها توبة، وقد أكد سبحانه النفي بكلمة (لن) التي تدل على تأكيد النفي، كما أكده ببيان استمرار ضلالهم فقال سبحانه: (وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ): وفى هذه الجملة السامية أكد سبحانه ضلالهم بثلاثة أمور: أولها الجملة الاسمية، وثانيها ضمير الفصل الذي يدل على تأكيد النسبة بين المسند والمسند
1311
إليه، وثالثها القصر والتخصيص، فقد قصر عليهم الضلال كأنه لكماله فيهم لا يوجد في غيرهم، وإن السبب في استمرار ضلالهم هو لجاجتهم وعنادهم، فهم كلما لجوا في مقاومة الحق ازدادت نفوسهم بعدا عنه. وكلما بعدوا عنه أوغلوا في الضلال، والإشارة في قوله سبحانه (أولئك) هي إليهم متصفين بما اتصفوا به من كفر بعد إيمان، وازدياد ولجاجة في هذا الكفر والجحود، فتلك الصفات هي السبب في هذا الاستمرار وتأكد الضلال، وإن هؤلاء الضالين سيموتون بلا شك وهم كفار فيندرجون تحت حكم الآية الكريمة الآتية:
* * *
1312
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ... (٩١)
* * *
إن هذه الآية تبين مآل الذين يموتون وهم كفار، أي أنهم يستمرون على كفرهم حتى يلقوا ربهم، فالواو في قوله سبحانه: (وَهُمْ كُفَّارٌ) واو الحال وهي تفيد أنهم ماتوا وهم على حال لهم مستمرة ملازمة لم تفارقهم، وهي الكفر والضلال، وإن أولئك في اليوم الآخر يلقون جزاءهم على ما قدموا من سيئات وجحود بالحق موفورا كاملا، وذلك الجزاء ذو شطرين، أحدهما سلبي والآخر إيجابي، أما السلبي فهو أن كل ما عملوا من خير وأنفقوا من مال لا يكافأون عليه، كما قال تعالى: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثورًا)، والسبب في فقد الجزاء عليه أن أساس الجزاء في الدين النية، والنية لَا تكون سليمة إلا إذا كان فعل الخير قد قصد به وجه الله سبحانه وتعالى، وذلك لَا يكون ممن لَا يذعن لدين الله؛ لأنه لو طلب وجه الله لأجاب نداءه، وقد عبر سبحانه عن ذلك بقوله: (فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا) أي لن يقبل منهم أي إنفاق، ولو كان بمقدار ما يملأ الأرض من ذهب، فمهما يفعلوا من عمل، هو في ذاته خير، فقد أفسدوه بنياتهم الآثمة، وتمردهم على الحق إذ دُعوا إليه.
والجزاء الإيجابي هو العقاب الذي لَا يكون منه مناص ولو بفدية مهما كبرت أو عظمت، كما قال تعالى مخاطبا المنافقين: (فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلا
1312
مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئسَ الْمَصيرُ)، وقد أشار إلى هذا العذاب بقوله سبحانه: (وَلَوِ افْتَدَى بِه) أي لو افتدى نفسه من عذاب الآخرة بمثل الذهب الذي يملأ الأرض. والواو هنا تفيد أنه لَا يقبل منه أي إنفاق يقدمه ولو كان ذلك الإنفاق قدمه ليفتدي به نفسه من عذاب الله. ثم بين سبحانه العذاب بقوله تعالى: (أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ).
أي أولئك الذين ماتوا وهم كفار بسبب الكفر الذي لازموه حتى موتهم، لهم عذاب مؤلم شديد الإيلام مستمر، وليس لهم ناصر، و (من) هنا لاستغراق النفي، أي ليس لهم أي ناصر مهما يكن، فمن كانوا يتخذونهم شفعاء لَا يشفعون لهم، والرسل الذين كانوا يتعلقون بهم لَا يعرفونهم، ولا نجاة لهم من عذاب الله، لا بفدية يفتدون بها أنفسهم، ولا بناصر ينصرهم من دون الله، وبذلك يكونون حطب جهنم والنار مأواهم وبئس المصير، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
وهنا بحث لفظي أثاره إمام اللغة الزمخشري، وهو لماذا عبر في الآية السابقة في الخبر من غير فاء، في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) وفي هذه الآية أتى بالفَاء فقال: (إِنَّ الَّذين كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ) إلى آخره، وقد أجاب عن ذلك بقوله: " قد أوذن بالفاء أن الكلام بني على الشرط والجزاء، وأن سبب امتناع قبول الفدية هو الموت على الكفر، وبترك " الفاء " أن الكلام مبتدأ وخبر ولا دليل فيه على التسبب، كما تقول: الذي جاءنى له درهم، لم تجعل المجيء سببا في استحقاق الدرهم، بخلاف قولك: فله درهم.
وإن ذلك الكلام مغزاه أن الله سبحانه وتعالى أراد أن يبين لهم أن هذا الجزاء نتيجة للعمل، وأنه مسبب عنه لأن الجزاء من جنس الفعل دائما، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. وأما في الآية الأولى فلأن عدم قبول التوبة ليس جزاء، إذ معناه عدم وجود توبة صالحة للقبول، أجرى القول مجرى الإخبار كأنه وصف ملازم لحالهم، أو هو حال أخرى من أحوالهم، وإذا كان الجزاء من جنس العمل دائما، فإن الله بعد أن بين جزاء الشر بين سبحانه جزاء الخير فقال تعالت كلماته:
* * *
1313
(لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ... (٩٢)
* * *
الخطاب عام وقد صدر بتأكيد النفي المنصب على نيل البر، والمعنى لن تنالوا وصف الأبرار الأخيار حتى تنفقوا مما تحبون، وفي هذه الآية حث على الإنفاق، وعلى القيام بالأعمال التي تكون فيها مخالفة للهوى ومنازعات النفس، وقد تكلم المفسرون في معنى البر المذكور في هذه الآية، فقال بعضهم: إن المراد الاتصاف به كقوله تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَن توَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ...)، إلى آخره، فالمعنى لن تنالوا وصف البر الذي هو خاصة الأخيار إلا بأن تنفقوا مما تحبون، وهذا ما نختاره، وهو الأوضح مما عداه، ولكن لم يذكر على هذا جزاء الآخرة. ونقول إن ذلك حكم من الله تعالى بأن الذين يفعلون ذلك من الأبرار.
ولن ينال ذلك الوصف إلا المنفقون، وقد كنى بهذا اللفظ (مما تحبون) عن المال، لأن جميع الناس يحبون المال. وقيل: معناه ما تحبون من نفائس أموالكم، دون أرذلها كقوله تعالى: (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ...). وقد روي أنَّ عليا رضي الله عنه اشترى ثوبا فأعجبه فتصدق به وقال: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: " من آثر على نفسه آثره الله يوم القيامة بالجنة، ومن أحب شيئا فجعله لله، قال تعالى يوم القيامة قد كان العباد يكافئون فيما بينهم بالمعروف وأنا أكافئك اليوم بالجنة " (١).
ثم اعلموا أن الله يعلم كل ما تفعلون، ويعلم ما في نياتكم، ثم هو الذي يجازيكم على هذه الأعمال والنيات، فاختاروا لأنفسكم، إذا كنتم ترجون أحسن ما عند الله، فقدموا لأنفسكم أحسن ما عندكم، نسأل الله عز وجل أن يوفقنا لما يحب ويرضي
* * *
________
(١) رواه البخاري: الزكاة - الزكاة على الأقارب (١٣٦٨)، ومسلم: الزكاة - فضل النفقة والصدقة على الأقربين (١٦٦٤)..
1314
(كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٩٣) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥)
* * *
هذه الآيات الكريمة متصلة بمحاجة اليهود، ومجادلتهم في ذات الشرع الإسلامي، وذات النبي - ﷺ -، فقد بين الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة عدم استقامتهم في طلب الحق، وأنهم كانوا يتواصون فيما بينهم ألا يؤمنوا ولا يذعنوا للحق إذ جاء إليهم، وكانوا يقولون: آمِنُوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره، وقد اعترضوا على النبي - ﷺ - بالباطل وما اعترضوا عليه بحق قط، وما دفعهم إلى ذلك إلا تعصبهم المردي وظنهم أنهم أولياء الله وأحباؤه، وأن الناس جميعا مهما تكن منزلتهم دونهم، ولقد روي في الآثار، وكما تدل عبارة التوراة أنهم كانوا يحرِّمون على أنفسهم لحوم الإبل وألبانها، ويظهر أنهم كانوا يُعيّرون العرب بأن طعامهم لحم الإبل وألبانها، وأن غذاءهم الجوهري، هو ذلك اللبن والتمر، ولذلك بين الله سبحانه وتعالى أنه حلال لهم أيضا أن يأكلوه، وأنه طعام لهم كما هو طعام عند العرب، وأنهم إذْ حرِّموهُ على أنفسهم قد خالفوا الفطرة وخالفوا التوراة ثم ادّعوا أن تحريم لحوم الإبل كان شِرْعة إبراهيم؛ ولقد رد الله عليهم ذلك بقوله:
1315
(كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ أن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ) " حِلٌّ " معناها حلال، ومعنى النص السامي أن كل الطعام قبل التوراة كان حلالا لبني إسرائيل حتى غلظت أكبادهم، واستولت عليهم الماديات،
1315
فأراد الله سبحانه وتعالى أن يَفْطموا نفوسهم عن أهوائها ليكبحوا جماح شهواتهمِ ولكيلا يندفعوا في الظلم والأهواء المردية، ولذا قال سبحانه: (فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِين هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ...).
والطعام هو ما يطعمه الإنسان ويستسيغه ويطلبه راغبا فيه، وهو في عمومه يشمل البُر والذرة والشعير، وكل المواد النباتية والحيوانية، ولذا قال تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ...). وقال تعالى: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لهُمْ...)، والمراد ذبائحهم. وبمقتضى هذا النص السامي يكون كل طيب مطعوم مرغوب فيه حلالا ولا يحرم إلا الخبائث من الميتة والخنزير وغيرهما، وأن ذلك كان شريعة إبراهيم عليه السلام، وأنه ما كانت لحوم الإبل ولا ألبانها من المحرمات لأنها من الطيبات، وإبراهيم وذريته على هذه الشريعة الفطرية، حتى قست قلوب بني إسرائيل ففطمها الله بذلك التحريم المؤقت.
إذن فلم يكن شيء من الإبل محرما، ولم يكن شيء من الطيبات محرما على بني إسرائيل من قبل التوراة، إلا ماحرمه إسرائيل على نفسه، وإسرائيل اسم ليعقوب بن إسحاق عليهما السلام، وقد اختلف العلماء في تخريج قوله تعالى: (إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ) ما المراد بِإِسرائيل أهو القبيل كله، وهم اليهود؟ أم المراد ذات يعقوب الذي هو أبو القبيل، وإليه ينتمي؟.
ذكر الزمخشري التخريجين، ورجح أن المراد ذات يعقوب عليه السلام، ويكون المعنى: إن كل الطعام كان حلالا لبني إسرائيل إلا ماكان يحرمه إسرائيل على نفسه باجتهاد منه لشخصه: إما لعلاج جسمي بأن وجد أن هذا الطعام يضره ويؤذيه، وأن الابتعاد عنه ينفعه ويجديه، كما نرى من ناس يتجنبون بعض الأطعمة لأنها لَا تناسب حالهم بإشارة طبيب أمين أو بتجربة شخصية، وكل امرئ طبيب نفسه. وإما لعلاج نفسي كأن يمتنع عن بعض ألوان الطعام قناعة وفطما
1316
للنفس، وما كان يتخذ ذلك شريعة تتبع بل اتخذه علاجا شخصيا لجسمه أو لنفسه، ولقد قال النبي - ﷺ -: " من الإسراف أن تأكل كل ما تشتهي ". هذا هو التخريج الأول.
أما التخريج الثاني فإن مقتضاه أن بني إسرائيل هم الذين حرّموا بعض الأطعمة على أنفسهم كما كان العرب يحرمون على أنفسهم بعض أنواع الأطعمة، كتحريم البَحيرة (١) ونحوها مما نعاه القرآن الكريم عليهم.
ولعل القبيل كان يحرم على نفسه الإبل مثلا تقليدا ليعقوب فيما لَا يجب التقليد فيه.
ولكنهم ادّعوا أن تحريمهم لبعض الأطعمة التي لم يحرمها الله تعالى عليهم كان في التوراة منسوبا لإبراهيم، ولذلك تحداهم الله سبحانه وتعالى بقوله: (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) الخطاب للنبي - ﷺ -، وهو تكليف منه تعالت قدرته بأن يطلب إليهم أن يأتوا بالتوراة ليبيِّنوا النص الذي كان به التحريم أهو يدل على أنه كان قبل التوراة، أم كان بعدها؟، وأيدخل في عموم التحريم تحريم لحوم الإبل وألبانها؟ و " الفاء " في قوله: (فَأتُوا بِالتَّوْرَاةِ) هي التي تسمى فاء الإفصاح، وهي تفصح عن شرط مقدر، أي إذا كانت دعواكم تحريم الإبل في شريعة إبراهيم وقبل التوراة فأتوا بها أي احْضِروها، و " الفاء " في قوله: (فَاتْلُوهَا) فاء العطف، أي فأحضروها، واتلوها عقب إحضارها، وتلاوتها أي قراءتها بإمعان، وتبين التحدي في قوله تعالى: (إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) والتعبير بـ " إن " للإشارة إلى عدم صدقهم؛ لأنها تدل على الشك في الشرط، وعدم ترتب الجواب عليه، أي هم ليسوا صادقين فيما يدَّعون، ولذلك لَا يتلون ولا صقرءون.
والمؤدَّى: أنكم لو جئتم بها وأمعنتم في تفهمها، لكذَّبتْكُم وَلأثْبَتَت افتراءَكم على الله سبحانه وتعالى، وإن من افترى الكذب على الله تعالى ظالم لنفسه وللناس، ولذا قال تعالى بعد ذلك:
* * *
________
(١) البحيرة ابنة السائبة، والسائبة هي الناقة التي كانت تُسَيَّب في الجاهلية لنذر أو نحوه. الصحاح.
1317
(فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤)
* * *
الفاء هنا للإفصاح كسابقتها، والمعنى إذا كنتم مصرين على قولكم فأنتم ظالمون؛ لأن من افترى على الله الكذب فهو ظالم، وافتراء الكذب معناه القصد إليه وتعمده، والقطع بالقول فيه من غير تردد، مأخوذ من فَرَى يفري بمعنى قطع. وأولئك باستمرارهم على قولهم هذا قد كَذَبوا على الله، فادّعوا أنه حرم، وهو لم يحرم، وادعوا أن ذلك في شريعة إبراهيم عليه السلام التي نزلت من عند الله تعالى، وليست منها في شيء.
ومن قصد إلى الكذب قاطعا به من غير دليل ولا حجة (بل قام الدليل على نقيض ما يقول) فهو ظالم، ولذا قال تعالى:
(فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الإشارة إليهم محملين وصف الافتراء على الله تعالى وعلى النبيين، وهذا الوصف هو سبب الحكم بالظلم، وقد أكد الله تعالى وصف الظلم بقصر الظلم عليهم بضمير الفصل، وهم ظالمون للحقيقة إذ أخفوها وكذبوا، وظالمون لأنفسهم لأنهم يخادعون الله الذي لَا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وهم إذ يخادعون الله تعالى، يخادعون أنفسهم ويضلونها باستمرارهم على السير في طريق الغواية، ، إذ كلما أَوْلَجُوا فيه بعُدُوا عن طريق الهداية، وظلموا بغمطهم الحق والناس، وحسدهم لهم على ما آتاهم الله من فضله.
وإن أولئك الذين يتمسحون بذكر إبراهيم لم يتبعوه، ولم يهتدوا بهديه، بل خرجوا عن منهاج الفطرة الذي هداه الله تعالى، ولذلك أمرهم الله سبحانه وتعالى باتباعه فقال تعالت كلماته:
* * *
(قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا... (٩٥)
* * *
الأمر للنبي - ﷺ -، فقد أمره أن يذكر لهم صدق الله تعالى فيما أخبره به من أن إبراهيم ما حرم الإبل ولا ألبانها، وأن بني إسرائيل من قبل التوراة كان كل الطعام الطيب حلالا لهم غير حرام عليهم.
1318
وفى ذلك إشارة إلى أنهم يعاندون الله تعالى بأخبارهم الكاذبة، وأن كلامهم لَا يروج عند مؤمن، لأنه إما أن يصدِّق الله تعالى ذا الجلال والإكرام، المنفرد بحق العبودية، والمنفرد بالألوهية، وإما أن يصدق أخبارهم الكاذبة التي تتنزى بالحقد والحسد الدفين.
وإذا كانوا يتمسحون بإبراهيم فعليهم أن يتبعوه في أخص شريعته ولبها، ولذا قال: (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) أي اتبعوا منهاجه وشرعته وطريقته، وقد كان طريقه هو طريق الفطرة السليمة، ولذلك وصفه بقوله " حنيفا " أي متجها إلى الحق لَا ينحرف عنه إلى غيره، ولا يسلك غير سبيل المؤمنين يجيب داعي الحق إذا دعي إليه.
وإذا استمروا على طريقهم من معاندة الحق ومنازلته، وإثارة غبار الشك حوله، فإنهم بعيدون عن إبراهيم، كما بعد عنه المشركون، وقد أكد سبحانه بعْد إبراهيم عن الشرك بقوله:
(وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) هذا نفي الإشراك عن إبراهيم عليه السلام نفيا مؤكدا وهو مؤكد بالجملة الأسمية، وبالفعل " كان "، فهو نفي للكينونة أي الوجود، فهو لم يوجد مشركا ولا يمكن أن يكون مشركا، أو يدخل في صفوف المشركين، وفي ذلك بيان براءة إبراهيم من مشركي قريش براءته من اليهود، فليس لأحد الفريقين أن يتمسح به، وأن يذكر أنه يسير على ملته، وهو لَا يخلص في قول ولا يجعل وجهته رب العالمين.
اللهم اهدنا بهديك، وخلص قلوبنا، وأصلح أحوالنا، ووفقنا إلى الإخلاص في القول والعمل إنك سميع الدعاء.
* * *
1319
(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (٩٧)
* * *
بين الله سبحانه وتعالى بطلان ما كان يحتج به أهل الكتاب في الآيات السابقة، ورد عليهم بما يرشدهم إلى الصواب لو كانوا طلاب هداية، وباحثين عن الحقيقة لَا يبغونها عوجا، وفي هذه الآية وما وليها، يرشدهم إلى الأمر الجامع الذي يلتقون فيه مع العرب، وهو الاتصال بإبراهيم الذي يعتزون بنسبتهم إليه، وهو جد إسرائيل الذي كان منه الأسباط، وكان منه عن طريقهم من ينتمي إليهم من النبيين الذين أنشأوا بيت المقدس، وأقاموا الدولة المقدسة في الأرض المقدسة، والتي لم يحسن اليهود مِن بعدهم القيام عليها، بل عثوا فيها بالفساد، حتى مزقهم بُختنصَّر شَرَّ ممزق، وشرد الرومانُ بعد ذلك بهم من خلفهم، حتى جاء المسلمون فأعادُوا إلى الوادي المقدس شريعة الله المقدسة، وهي الإسلام الذي كتب له أن يعمره بها إلى يوم القيامة (١): (وَكانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا)، ولقد ذكر الله سبحانه ذلك الأمر الجامع في بيان شرف بيت الله الحرام فقال:
________
(١) روى الإمام أحمد (٢١٢٨٦) في مسنده عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الدِّينِ ظَاهِرِينَ لَعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إِلَّا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لَأْوَاءَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَ: " بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ".
1320
(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا) البيت المقصود به هنا هو البيت الحرام، وهو الحرم المكي العامر إلى يوم القيامة، وقد عرفه بأنه الذي ببكة، وبكة هي مكة. وفي لغة العرب قلب اليم باء في أحوال كثيرة من غير انضباط، ولقد جاء في تفسير الزمخشري ما نصه:
(مكة وبكة لغتان فيها نحو قولهم: النبيط والنميط في اسم موضع بالدهناء ونحو: من الاعتقاب أمر راتب، وراتم، وحمى مغمطة ومغبطة. وقيل: مكة البلد، وبكة موضع المسجد، وقيل اشتقاقها من بكَّهُ إذا زحمه؛ لازدحام الناس فيها). وقيل: بك بمعنى دك؛ وذلك لأن الله يدق عنق كل من يرومها بسوء.
وعرف البيت بأنه الذي ببكة للإشارة إلى أن مكة ذاتها هي مثابة الشريعة الباقية وهي شريعة النبيين أجمعين، وهي خالدة إلى يوم القيامة، وهي الإسلام جماع كل الشرائع السماوية؛ وهو الذي وصى الله به إبراهيم وموسى وعيسى.
وما معنى أولية البيت الحرام؛ أهي أوليته من ناحية أنه أول بيت بني للعبادة؟ أم أنه أول بيت بني بإطلاق.
قيل: إنه أول بيت بني في الأرض؛ فقيل إن الملائكة بنته لآدم؛ كما ورد في بعض الآثار؛ وليس ثمة مانع عقلي؛ إن الذي يبدو من خلال الآيات: أنه أول بيت من بيوت العبادة القائمة؛ فهو أسبق من بيت المقدس وجودا؛ وهو أجمع للديانات السماوية من بيت المقدس؛ لأن إبراهيم أبا الأنبياء أصحاب هذه الشرائع الباقية هو الذي بناه؛ بينما بني بيت المقدس في عهد داود وسليمان عليهما السلام (١).
________
(١) عن أبَي ذَرٍّ [ص: ١٤٦] رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الأَرْضِ أَوَّلَ؟ قَالَ: «المَسْجِدُ الحَرَامُ» قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ «المَسْجِدُ الأَقْصَى» قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: «أَرْبَعُونَ سَنَةً، ثُمَّ أَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلاَةُ بَعْدُ فَصَلِّهْ، فَإِنَّ الفَضْلَ فِيهِ) [رواه البخاري: أحاديث الأنبياء - واتخذ الله إبراهيم خليلا (٣١١٥)، ومسلم: المساجد ومواضع الَصلَاة (٨٠٨)].
1321
فوجود مقام إبر اهيم بالبيت الحرام، وآثار أقدامه الشريفة دليل على مكانة هذا البيت من ملة إبراهيم عليه السلام، وأما ما يدعيه اليهود من وجود آثار هيكل سليمان تحت المسجد الأقصى، فلم يقم عليه دليل ولا بينة.
ووصفه سبحانه وتعالى بأنه مبارك؛ أي فائض الخيرات كثير الثمرات المادية والمعنوية؛ فمن بركاته المادية أنه يفد إليه الحجيج من كل فج عميق؛ ويعتمرون فيه في كل أيام أشهر السنة، حتى أنه لَا يمر عليه يوم من غير وفود تجيء إليه، ومع هذه الوفود خيرات الأرض؛ وكان ذلك إجابة لدعاء إبراهيم في قوله تعالى: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧).
وقد كان في البيت تلك البركة المادية بتلك الوفود؛ وبالثمرات التي كانت في باطن الأرض حوله أو على مقربة منه فقد كشفت على مقربة منه فلزات الأرض وسيول الغاز، مما كان خيرا وبركة على سدنته ومن يعيشون حوله، وبذلك أجاب الله تعالى دعاء إبراهيم عليه السلام، وبقي على الذين يتنعمون بهذه الثمرات أن يشكروا الله: (لَعَلَّهُمْ يَشْكرُونَ).
هذه هي البركة المادية، أما البركة المعنوية فهي أنه موضع لأكبر عبادة جامعة وهي الحج، وهو مبعث محمد - ﷺ -، وفيه منازل وحيه، وإليه يتجه الناس في كل بقاع الأرض، وتلتقي عنده قلوب الأجناس والألوان المختلفة في عباداتهم، ولذا وصفه سبحانه بقوله: (وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ):
هذا عطف على قوله سبحانه (مُبَارَكًا) أي أن الله سبحانه وتعالى جمع لهذا البيت الكريم حالتين خاصتين به لم تجتمعا في بيت غيره، فهو قد اشتمل على الِبركة المادية والمعنوية، وحماه الله تعالى من اعتداء المعتدين، ولهذا قال: (وَهُدَى لِلْعَالَمِينَ) أي هو بذاته مصدر هداية للعالمين أي للناس أجمعين؛ ففي وسط الشرك كانوا يلتحمون ويتقاتلون حوله، فإذا جاءوا إليه كان الرجل يلقى قاتل أخيه أو أبيه فلا يمسه بسوء لعظم حرمة البيت في قلبه، وإن مس الشرك نفسه.
1322
والذين أرادوه بسوء ما إن جاءوا إليه حتى ارتدوا على أدبارهم خاسئين؛ وبذلك ثبتت حرمته، وأشع نوره لغير العرب، كما امتلأت قلوب العرب بحرمته، وبعد الإسلام كان قبلة المسلمين في كل العالمين ومزارهم وموضع مؤتمرهم الأكبر، وإلى البيت الحرام يَأْرِزُ الإسلام، فكون هذا البيت العتيق مصدر هداية ثبت جاهلية وإسلاما، وهدايته في الإسلام مطلقة، وهدايته في الجاهلية نسبية:
* * *
1323
(فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا... (٩٧)
* * *
في هذا النص السامي بيان عظمة البيت الحرام، ومكانته والأدلة على قدمه وبركته؛ ومعنى النص الكريم: فيه علامات واضحة تبين شرف منزلته وقدمه وطهارته، وفيض الله سبحانه وتعالى عليه بالنور وأسباب الهداية، وأنه لَا بيت يدانيه في منزلته عند الله، وإن كان هذا البيت الآخر تشد إليه الرحال (١). وقد قالوا إن قوله تعالى: (مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ) بيان لهذه الآيات البينات، ويصح أن نعتبرها وحدها بيان هذه الآيات من حيث الدلالة على قدمه، وأن بانيه إبراهيم، وأن آثار أقدامه واضحة خالدة فيه، وقد وضح هذا المعنى الزمخشري أتم توضيح فقال:
(فإن قلت كيف صح بيان الجماعة بالواحد؟ قلت فيه وجهان؛ أحدهما: أن يُجعل وحده بمنزلة آيات كثيرة، لظهور شأنه وقوة دلالته على قدرة الله تعالى ونبوة إبراهيم عليه السلام، ومن تأثير قدمه في حجر صلد.. والثاني: اشتماله على آيات كثيرة؛ لأن أثر القدم في الصخرة الصماء آية، وغوصه فيها إلى الكعبين آية، وإلانة بعض الصخر دون بعض آية، وإبقاؤه دون سائر آيات الأنبياء آية، وحفظه مع كثرة أعدائه من المشركين وأهل الكتاب والملاحدة ألوف السنين آية).
وهذا الكلام على اعتبار أن مقام إبراهيم هو موضع الآيات البينات ولكن الذي نراه وقد ذكره الزمخشري أيضا أن هذه الآيات البينات ليست مقام إبراهيم
________
(١) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَسْجِدِ الأَقْصَى " [متفق عليه؛ رواه البخاري: الجمعة - َ فضلَ الصلاة في مسجد مكةَ والمدينة (١١١٥)، ومسلم واللفظ له: الحج - لَا تشد الرحال (٢٤٧٥)].
1323
وحده، ولكنها مقام إبراهيم وكونه أمْنَ الناس ومثابتهم، وكونه المكان الذي يحج إليه المسلمون إلى اليوم، وكان العرب يحجون إليه ويقومون بكثير من المناسك، وإن خالطوها بشرك.
ولقد ذكر سبحانه الآية الثانية البينة لمقام البيت عند الله تعالى وعند العالمين بقوله:
(ومَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) أي آمنا من الأذى والقتل. وهذه آية لَا شك فيها، فالعرب كانوا يحترمونه كما نوهنا، وكانت هذه نعمة أنعم الله بها عليهم، وبقيت حتى في شركهم؛ ولذا يقول سبحانه:
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ...).
وأنعم عليهم سبحانه بأن حماه من كل من يغير عليه معتديا. حتى إن أبرهة عندما أغار بجيشه وأفياله ليهدمه، ارتد خاسئا كما قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (١) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (٢) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (٣) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (٤) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (٥).
وتلك آية من آيات الله الكبرى في البيت.
ولقد حماه الله سبحانه وتعالى في الإسلام، حتى إن النبي - ﷺ - عندما فتح مكة احترم أمنها فكان مناديه ينادي: من دخل داره وأغلق بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل البيت الحرام فهو آمن (١) ووصف يوم الفتح بقوله: " هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة، ويوم تكسى فيه الكعبة " (٢).
(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) هذه آية لتعظيم الله سبحانه وتعالى شأن بيته المقدَّس، وحرمه الآمن إلى يوم القيامة، وذلك أنه
________
(١) صحيح مسلم: الجهاد والسير - فتح مكة (٣٣٣٢).
(٢) جزء من حديث رواه البخاري: المغازي - أين ركز النبي - ﷺ - الراية (٣٩٤٤).
1324
سبحانه فرض الحج إليه على من يستطيع، وجعله موضع المؤتمر الإسلامي الأكبر، كما قال تعالى: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأتِينَ مِن كُلِّ فَجًّ عَميقٍ).
والحج بالمعنى الشرعي هو القصد إلى أداء المناسك ونية العبادة به، وهو في أصل معناه اللغوي القصد المجرد إلى مكان معين، وتقرأ كلمة " حَجَّ " بفتح الحاء، وهي لغة أهل الحجاز وبها قرأ أكثر القراء، وبكسر الحاء وبها قرأ الكسائي وحفص (١).
وقوله تعالى: (مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا). بدل من (النَّاسِ)، فالفرضية العينية منصبة على من يستطيع دون غيره ولكن تصدير الكلام بإضافة الفرضية إلى الناس، ثم البدل منهم بالمستطيعين يدل على أن عامة المسلمين عليه فرضية عامة، وإن لم تكن كفرضية المستطيعين، وهذه الفرضية نفسرها بأمرين.
أولهما: بالتكليف العام الذي يدخل في عموم فروض الكفاية، بمعنى أن عامة المؤمنين عليهم أن يسهِّلوا تلك الفريضة على من يريدها ويستطيعها، ويبتغي بها مرضاة الله تعالى؛ فعلى ولي الأمر الذي يمثل جماعة المؤمنين أن يسهل هذه الفريضة لطلابها؛ وعلى جماعة المؤمنين أن يعملوا على إقامتها كل في طاقته وفي حدود قدرته.
وثانيهما: ما يقرره الفقهاء من أن أصل الوجوب ثابت ما دام الشخص مكلفا؛ ولكن وجوب الأداء هو الذي يشترط فيه الاستطاعة. فمن لَا يستطيع هذا العام قد يستطيع في قابل وهكذا.
والاستطاعة التي توجب فرضية الأداء هي الحد الأدنى من الاستطاعة، ولذلك قال النص الكريم: (مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا).
________
(١) حج البيت): قرأها بكسر الحاء عاصم وحمزة والكسائي وخلف - غير أبي بكر - ويزيد. وقرأ الباقون بالفتح. أغاية الاختصار - ص ٤٥١، وقوله: " وحفص " أي عن عاصم.
1325
أى استطاع بأي سبيل للوصول إلى الحج، فليست الاستطاعة الموجبة للحج هي الاستطاعة الواسعة المعنى التي لَا تكون إلا للأغنياء، ولذا فسرها الفقهاء بالقدرة البدنية، والقدرة على الزاد والراحلة أي ما يمكن أن يصل به؛ ولابد أن يكون ذلك فاضلا عن حاجاته الأصلية وعمن يقوتهم، فإن ترك من يقوتهم بلا مال إثم، فقد قال عليه الصلاة والسلام: " كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت " (١).
والفرض لَا يؤدي بالإثم. ومن استطاعة المرأة ألا تكون ذات أطفال صغار يخشى عليهم الضيعة إن تركت حضانتهم ولا حاضن لهم سواها، كما أن من استطاعتها أن يكون معها زوجها أو ذو رحم محرم منها.
والحج عند الأكثرين فرض على التراخي، ولكن المالكية يقررون أنه لَا يسع من تجاوز الستين أن يؤخر عن قدرة، وإن كان أصل التراخي ثابتا لصريح الآثار الواردة في ذلك، والحج فرض مرة واحدة في العمر، والحج هو مؤتمر الإسلام الأكبر، وقد بيناه مرارا.
(وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِي عَنِ الْعَالَمِينَ) في معنى هذا النص اتجاهان؛ أحدهما: أن يكون الكلام في تارك الحج ويكون المعنى من ترك الحج جاحدا له منكرا لفرضيته فقد كفر وأضاع مصلحة نفسه ومصلحة أمته بالإجماع في المؤتمر الأكبر؛ والله سبحانه غنى عن العالمين أي عن الناس أجمعين. فهم محتاجون إليه، وهو غير محتاج إليهم.
والاتجاه الثاني: أن يكون الكلام متجها إلى اليهود الذين أنكروا فضل البيت وقدمه وبناء إبراهيم له. ويكون المعنى: ومن أنكر تلك الحقيقة الثابتة وجحدها بعد البينات فقد أركس (٢) نفسه والله سبحانه غنى عن العالمين.
اللهم اهدنا إلى الحق ووفقنا للإيمان به.
* * *
________
(١) رواه بهذا اللفظ أبو داود: الزكاة - في صلة الرحم (١٤٤٢)، وأحمد: مسند المكثرين من الصحابة (٦٢٠٧).
(٢) أركس الشيء: رده مقلوبا. ومنه قوله تعالى: (والله أركسهم بما كسبوا) أي ردهم إلى كفرهم.
1326
(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (٩٨) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٩) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (١٠٠) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١)
* * *
في الآيات السابقة بين الله سبحانه وتعالى شرف البيت، وأنه أول بيت بني للعبادة، وضعه إبراهيم عليه السلام، وأن على كل مؤمن أن يحج إليه، وكان ذلك في مساق الرد على اليهود الذين أنكروا فضل البيت الحرام، وادعوا أن بيت المقدس أقدم منه عبادة، فبين سبحانه أنه أول بيت وضع للناس، وقد ذكر سبحانه وتعالى أن هؤلاء اليهود كانوا يحاولون دائما تضليل المؤمنين، وما كانت مجادلتهم هذه لأنهم يتشككون، بل لأنهم لَا يذعنون للحق بعد إذ عرفوه، ويريدون أن يكون الناس جميعا على طريقتهم العوجاء، وعلى ما هم عليه؛ لأنهم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، ولقد أثاروا كثيرا من الشك في مجادلاتهم ليُوهِنُوا أمر العقيدة في قلوب المؤمنين، فلم يجدوا بين المؤمنين آذانًا مصغية، ولا قلوبا مفتوحة لظلامهم، بعد أن أشرق فيها نور الحق، فإنه لَا يلتقي في قلب واحد نور الله وظلمات الباطل، ولقد انتقلوا من التشكيك في العقيدة إلى إثارة الفتنة بين المؤمنين، لتعود العادات الجاهلية كما بدأت، فإنه يروى أن رجلا يهوديا قد عتا في الجاهلية، وكان شديد الضغن على المؤمنين - أراد أن يثير الفتنة بين الأوس والخزرج فأمر فتى بأن يجيء إليهم، وينشدهم بعض الأشعار التي كانوا
1327
يقولونها في الجاهلية متفاخرين، ففعل، فتذاكروا يوم بعاث، وهو يوم حرب من أيامهم في الجاهلية، وتكلموا في ذلك فتنازعوا وهَمَّ الحيَّان أن يتقاتلا، حتى جاءهم النبي - ﷺ - يقول لهم: " يا معشر المسلمين، الله الله، أتدعون بدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله إلى الإسلام وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألف بينكم، أترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا؟ " (١).
هذا فعل اليهود، كفروا بالحق بعد أن جاءتهم البينات، ولم يكتفوا بالكفر، بل أخذوا يصدون ويمنعون عن الحق أو الاستقرار فيه غيرَهم؛ ولذا قال سبحانه:
________
(١) رواه ابن جرير الطبري في تفسيره - آل عمران: ٩٩
1328
(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ) الأمر للنبي - ﷺ -، وقد أمره سبحانه وتعالى أن يوبخهم على ما كان منهم، وأمره أن يناديهم بـ " أهل الكتاب " للمبالغة في التوبيخ والاستنكار؛ لأن علمهم بالكتاب كان يتقاضاهم الإيمان، وأن يذعنوا للحق، فإنه لَا يستوي من يعلم ومن يجهل؛ فإن كانوا مع علمهم بأخبار النبوات يكفرون، فهو دليل على فساد قلوبهم، ويقول سبحانه: (لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ) والآيات هنا هي الآيات القرآنية، والكفر بها هو عدم الإذعان لأحكامها وإنكار صدقها، ومنازعة أهل الحق في معانيها، أو نقول: آيات الله تعالى هي الأمارات التي ساقها الله سبحانه وتعالى لإثبات الحق في الرسالة المحمدية، فهم لإيغالهم في الجحود والإنكار لَا يكتفون بإنكار الحق، بل ينكرون الدليل الذي قام عليه، وثبت به، وهم بذلك يغلقون قلوبهم، فلا يصل إليها نور الحق، وإذا كانوا ينكرون كل دليل يصلهم بالهداية، فقد سارعوا إلى الكفر، وقوله تعالى: (وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ) أي عالم علم المعاين الحاضر القائم الحاكم على ما يعملون دائما، سواء أكان العمل عمل القلب أم كان العمل عمل الجوارح.
1328
والإنكار في الآية الكريمة منصب على كفرهم مع هذه الحال، والمعنى: يا أهل الكتاب الذين أوتوا علم النبوات لمَ تكفرون بالأدلة القائمة على صدق رسالته، والحال أن الله تعالى شهيد عالم معاين حاكم قوام على ما تعملون من خير ومن شر، فالنص السامي يتضمن توبيخا على الكفر، وتهديدا بالعقاب الشديد على ما يعملون، لأن الله تعالى إذا كان شهيدا على ما يفعلون، وهو الحكم العدل القادر على الثواب والعقاب، فإنه بلا ريب مجازيهم على فعلهم، ومحاسبهم على مقاصدهم في أقوالهم وأفعالهم.
* * *
1329
(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ... (٩٩)
* * *
ذكرنا أنهم لَا يكتفون بكفرهم، بل يبغون في غيرهم إبعاده عن الحق، فيصدون عن سبيله، وقد كرر سبحانه بالحق الذي أنكروه، ويضع أيديهم على حالهم التي ألفوا فيها الباطل، حتى غلقوا به أبواب الحق على أنفسهم وقوله تعالى: (لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ) معناه لِمَ تصرِفون الناس عن سبيل الله تعالى وهو سبيل النور وسبيل الحق، فالصد هو الصرف والمنع، والحيلولة بين الشخص والوصول إلى الأمر؛ و " سبيل الله " هي السبيل التي وضّحها وبينها سبحانه، وهي الصراط المستقيم الذي يوصل إلى رضاه سبحانه، وإذا كان أولئك يحاولون منع الناس من الطريق الذي رسمه العلي الكريم وحد حدوده فقد عاندوا إرادة الله وحادوه، ومن يحادّ الله تعالى فإنه مغلوب لَا محالة، وقد وصف سبحانه وتعالى حالهم في الصد عن سبيل الله فقال: (تَبْغُونَهَا عِوَجًا) أي ترغبون العوج لها، أي تريدون أن تكون ملتوية غير واضحة ولا بيّنة في أعين المهتدين، كما التوت نفُوسُكم، وحالت عيونكم، فلم تدرك الحق مستقيما بعد أن قامت بيناته، أو المراد تبغونها أي تطلبونها معوجة حائلة، أي لَا تتجهون في طلبها بقلب سليم، فتكون معوجة لاعوجاجكم.
وقد قال الزمخشري في معنى هذه الجملة السامية: " فإن قلت: كيف تبغونها عوجا، وهو محال؟ قلت: فيه معنيان؛ أحدهما: أنكم تلبسون على الناس حتى توهموهم أن فيها عوجا بقولكم: إن شريعة موسى لَا تنسخ، وبتغييركم
1329
صفة رسول الله - ﷺ - عن وجهها، ونحوا ذلك. والثاني أنكم تتبعون أنفسكم في إخفاء الحق وابتغاء ما لَا يتأتي لكم من العوج فيما هو أقوم من كل مستقيم ".
وهذا الكلام في جملته قريب منه ما بيناه آنفا.
ومعنى قوله تعالى: (وَأَنتمْ شُهَدَاءُ) والحال أنكم شهداء عالمون بالحق علم من يعاين ويشاهد ويحكم بأنه الحق والصواب، فهو جحود عن علم، وكفر ليس عن جهل، وإيغال في الكفر بالصد عن سبيل الله، وبينات الحق بين أيديكم وأماراته مُعلِنَة له في أيديكم.
والاستنكار التوبيخي متجه إلى جملة حالهم، ومعنى كلامه السامي سبحانه: لِمَ تصرفون الناس عن طريق الحق، وتبغون الاعوجاج، أو توهمون الناس أن فيه عوجا والتواء، والحال أنكم تشهدون بالحق الذي اشتمل عليه، وتعلمه علم المعايش الذي يراه ويحسه، ولقد أنذرهم سبحانه بعد ذلك بقوله تعالى:
(وَمَا اللَّه بِغَافِل عَمَّا تَعْمَلُونَ) هذا نفي مؤكد لإهمال الله تعالى عملهم، وغفلته عنهم ومما يضمرون ويفعلون، وقد تأكد النفي بالباء الزائدة التي تفيد توكيد النفي، وكان ذلك النفي المؤكد لبيان عاقبة أعمالهم، فإذا كان ما يفعلون في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، فإنهم مجزيون به، محاسبون عليه، وهو من جنس ما صنعوا، وما صنعوا بكفرهم وصرفهم الناس عن طريق الله تعالى، وطريق الحق - إلا شرا، وإلا خسارا يعود عليهم في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا يعود بالفشل والذلة، وفي الآخرة عذاب الهون بما كانوا يكسبون.
ولقد حذر الله سبحانه المؤمنين مما يريدونه بهم. فقال سبحانه:
* * *
1330
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (١٠٠)
* * *
كان نزول هذه الآية وما وليها من آيات بعد تلك المحاولة التي حاولها الشيخ اليهودي في التفرقة بين الأوس والخزرج، والتي هَمَّ الفريقان بسببها أن يتشاجرا بالسيوف لولا أن نبي الرحمة تداركهم قبل أن يفعلوا، وأدركوا بكلمات
1330
الرسول أنها نزغة الشيطان، فحذرهم الله تعالى هذه النزغة مرة أخرى، وأمرهم بالحذر الشديد من اليهود خشية أن يكون فعلهم محاولة لما يريد أولئك الأشرار الذين ابتلى الله بهم البرية، ومطاوعة لمقاصدهم الآثمة، وصدر الخطاب بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تنبيها لخطر ما يدعوهم إليه، ولتحريك عناصر الإيمان في قلوبهم، فيكون منهم الحذر واليقظه، فإن الإيمان فطنة (١)، ولا يلدغ المؤمن من جحر مرتين (٢)، ولأن علة الإجابة للطلب هي الإيمان، وفي قوله تعالى: (إِن تطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) عبر في الشرط بـ " إن " للإشارة إلى بعد وقوع الطاعة منهم لهؤلاء مع إيمانهم، لأن " إن " الشرطية تفيد الشك في وقوع الشرط، وبالتالي ترتب الجواب عليه، بخلاف " إذا " فإنها تفيد وقوع الشرط أو تؤذن بوقوعه وترتب الجواب عليه، كقوله تعالى: (إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ)، وقوله تعالى: (إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ (١) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ)، وقوله تعالى: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ)، وذكر سبحانه وتعالى الذين يحاولون إركاس المسلمين في الفتنة وتضليلهم، بأنهم فريق من الذين أوتوا الكتاب؛ لأنهم لم يكونوا كلهم، ولأنه يرجى الإيمان من بعضهم. بدل الاستمرار على الغي والفساد؛ ووصفهم سبحانه وتعالى: بأنهم أوتوا الكتاب للإشارة إلى أن تضليلهم مقصود، وأنهم أهل معرفة، ولكنهم استخدموها للضلال والتضليل، فصاروا بهذا كالأنعام بل أضل سبيلا؛ لأن المعرفة إن لم تكن لنصرة الحق كان الجهل خيرا منها؛ لأنه أدنى إلى المعذرة.
وقد رتب سبحانه على الطاعة المفروضة التي حذر سبحانه وتعالى منها نتيجتها إن وقعت، ولا تقع من مؤمن بحمد الله تعالى فقال سبحانه: (يرُدُّوكُم
________
(١) الفطنة: الفهم والحذق.
(٢) متفق عليه؛ رواه البخاري: الأدب - لَا يلدغ مؤمن من جحر مرتين (٥٦٦٨)، ومسلم: الزهد والرقائق (٥٣١٧) وجاء في فتح الباري.
1331
بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ) وفي هذا يعبر سبحانه وتعالى بقوله (يَرُدُّوكم) ولم يقل (ترتدوا) والمعنى متلاق، ولكن الأول في بيان تسلط الكفار على قلوب أهل الإيمان في حال تلك الطاعة، فهو نوع آخر من التحذير منهم؛ لأنهم كالشياطين، فعلى كل مؤمن أن يحذرهم.
أما الارتداد فإنه يكون انبعاثا من نفس المرتد، بضلاله هو لَا بتأثير من غيره.
وفى الجملة النص السامي الكريم سيق لتحذيرهم من ذلك العدو الذي اختلط بهم، وأخذ ينفث سموم الشر، وسموم التفرقة بينهم، وأنهم يعودون إلى الكفر إذا استجابوا لدعوته، ومكنوا لسمومه من أن تصل إلى قلوبهم، ولقد بيَّن سبحانه بعد ذلك أنه ما كان يسوغ لهم أن يستمعوا إلى دعوات الأعداء، ويفتحوا الباب لتدبيرهم الخبيث، ورسول الله فيهم فقال:
* * *
1332
(وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ... (١٠١)
* * *
الاستفهام هنا للتعجب أو للإنكار، ومعنى التعجب فيه هو أنه لَا يُتَصَوَّر أن يكون منكم كفر، ولو تصور لكان موضعا للعجب والاستغراب؛ لأن آيات الله تتلى عليكم، ورسوله بين ظهرانيكم، ويردكم للحق إن زغتم، وتهديكم آيات الله البينة إن ضللتم، وهذا فيه ما يومئ إلى إلقاء اليأس في قلوب اليهود من أن يصلوا إلى ما يبتغون من إيجاد الفرقة والانقسام بأمر جاهلي، وأما على اعتبار الاستفهام للإنكار فهو إما نفي للوقوع أي أنه لَا يمكن أن يقع منكم الكفر، ورسول الله بينكم، وآيات الله تتلى عليكم، وإما أنه نفي للواقع، فيكون للعتب، والمعنى كيف سوغتم لأنفسكم أن تفتحوا قلوبكم لأسباب الكفر التي ابتغاها اليهود بالاستماع إلى كلماتهم المفرقة، فيكون الإنكار لما وقع باعتباره كان يؤدي إلى الكفر، فيعودون إلى ما كانوا عليه في الجاهلية يضرب بعضهم رقاب بعض)، فإذا كان الإنكار للواقع يكون الإنكار للسبب الذي وقع ويؤدي إلى السبب وهو الكفر، لا أن الكفر قد وقع.
1332
والإنكار أو التعجب أساسه الحال التي هم عليها، وهي كونهم في حضرة الرسول - ﷺ - وهو يتلو عليهم الآيات، فالمعنى كيف تكفرون أو يتصور منكم الكفر، أو يسوغ لكم أن تسيروا في أسبابه، وآيات الله تتلى عليكم بلسان رسول الله - ﷺ - لا بلسان أحد سواه، ويقول الزمخشري في توضيح هذا: (تتلى عليكم على لسان رسول الله - ﷺ - غضة طرية، وبين أظهركم رسول الله - ﷺ - ينبهكم ويعظكم ويزيح شبهكم).
والخطاب في الآية: (وَكَيْفَ تَكفُرونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكمْ آيَاتُ اللَّهِ) - كما يبدو من عبارات الزمخشري وغيره - خاص بالمؤمنين في عصر النبي)، وهم الذين شاهدوا النور المحمدي وشافهوا الرسول - ﷺ -، وإن ساعة في حضرة النبي - ﷺ - تغني عن اجتهاد سنين، كما قال أبو حنيفة رضي الله عنه. ويصح أن يكون الخطاب لكل المؤمنين، وتكون الآيات تتلى على لسان القراء والعلماء من بعده، وهي ستتلى إلى يوم القيامة: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) وأما وجود الرسول في الأخلاف فإنه يكون بوجود سنته النبوية الشريفة، وإنه إن كان الاحتياط يكون أشد - لَا يخلو من فضل ثواب إن سلم القلب واهتدى العقل وتحصنت النفس، وقد روى البخاري أن النبي - ﷺ - قال لأصحابه يوما: " أي المؤمنين أعجب إليكم إيمانا؟ " قالوا: الملائكة، فقال عليه الصلاة والسلام: [" وكيف لَا يؤمنون والوحي ينزل عليهم؟!! قالوا: فنحن؟ " وكيف لا تؤمنون، وأنا بين أظهركم؟! " قالوا: فأي الناس أعجب إيمانا؟ قال: " قوم يجيئون من بعدكم يجدون صحفا يؤمنون بما فيها "].
(وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) بعد أن بيّن سبحانه ما يحاوله اليهود وما يتمنونه وهو أن يضلوا المؤمنين كما قال تعالى: (وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (٦٩).
- أخذ يبين سبحانه طريق العصمة من مكايدهم، ويغلق أبواب القلب حتى لا يتأثر بما يحاولون أن يفسدوه به، فقال سبحانه: (وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ) أصل
1333
الاعتصام معناه الامتناع والالتجاء والاستمساك، وهو من عصم بمعنى منع، يقال عصمه الطعام أي منع عنه الجوع، وعصمته النبوة أي منعته من أن يقع في إثم قط، ومعنى النص السامي: ومن يعتصم بالله أي يجعل الله تعالى عاصما له ومانعا، يستنصح بكتابه، ويلجأ إلى كلام رسوله إذا ادلهمت الظلمات، فقد هدى إلى صراط مستقيم، أي طريق مستقيم لَا عوج فيه ولا انحراف، ومعنى الاعتصام بالله: الاعتصام بدين الله كما قال أكثر المفسرين، وإني أرى الاعتصام بالله هو الاعتصام بذاته سبحانه، وإن كان الاعتصام بالذات العلية يستلزم حتما الاعتصام بدينه الحق الخالد إلى يوم القيامة، ولكني اخترت الاعتصام بالله، وأن يكون الإسناد إلى ذاته سبحانه من غير تقدير مضاف؛ لأن الاعتصام بالله يقتضي ألا يحب أحدا إلا الله، ويقتضي أن يكون الشخص ربانيا لَا ينظر إلى عصبية جاهلية، ولا لهوى ولا لعرض من أعراض الدنيا، فيلجأ إلى الله، ويحب الشيء لذات الله كما ورد في الحديث الشريف: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب الشيء لا يحبه إلا لله تعالى " (١)، ويقتضي أن يتجه إلى الله ويتذكره عندما ينزغ في النفس نازغ، كما قال تعالى: (وَإِمَّا ينزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ...)، ويقتضي الاعتصام بالله أن يتوكل على الله حق توكله، فيدبر الأمور ويعتزمها ثم يفوض أمر مصايرها إليه سبحانه وتعالى، ويقتضي الاعتصام بالله أن يبتعد عن مواطن الريب، ولا يتبع الشبهات، كما قال تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (٧) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨).
ذلك بعض مظاهر الاعتصام بالذات العليّة، ولذا نجد أنه لَا حاجة إلى تقدير مضاف هو لفظ دين، وفوق ذلك فإن هذا التقدير لَا يستقيم معه نسق القول في
________
(١) سبق تخريجه.
1334
نظري؛ لأن الصراط المستقيم هو دين الله القويم، فكيف يكون دين الله هو الذي يهدي إلى دين الله، إنما الذي يهدي إلى دين الله هو الاعتصام بذات الله العلية.
وقوله تعالى: (فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) عبر فيه بالماضي للإشارة إلى التحقق والتأكد والثبوت، أي الجواب يترتب على الشرط لَا محالة، فإذا وجدت حقيقة الاعتصام بالله - وإنها لأجلُّ حقائق هذا الوجود - فإنه يوجد لَا محالة الاهتداء إلى الطريق المستقيم الواضح الذي لَا عوج فيه ولا أمت (١).
اللهم اعصمنا من الزلل، واهدنا فيمن هديت، ووفقنا لما يرضيك يارب العالمين.
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣)
* * *
بين الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة عناد بعض أهل الكتاب واستمرارهم في غيهم، وسدهم طريق الهداية في قلوبهم، وتحديهم للحق وأهله، ومعاندتهم للبينات الثابتة التي لَا تقبل نكيرا، ثم مجاوزتهم الحد، ومحاولة صدهم المؤمنين عن الحق، وبث روح الفرقة والانقسام، لكي يعود أمر الجاهلية كما كان، ولكي يتفرقوا أوزاعا كما كانوا أولا. وفي هذه الآيات يبين للمؤمنين
________
(١) الأمت: المكان المرتفع، والعِوَج: المرتفع. الصحاح. فالطريق المستقيم هنا هو المستوي الذي لَا ارتفاع فيه ولا انخفاض.
1335
الحبل الوثيق الذي لَا يضلون إذا استمسكوا به، ولا يتفرقون ما دامو آخذين بعروته الوثقى، وهو تقوى الله حق تقاته، فقال تعالى:
1336
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَ تُقَاتِهِ).
صدر الكلام سبحانه بهذا الموصول الذي كانت الصلة فيه الإيمان، للإشارة إلى أن المطلوب من مقتضيات الإيمان ومن نتائجه، وهو غاية الغايات فيه، والثمرة الدانية له. وقوله تعالى: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) معناه: اتقوا الله تعالى " واجب تقواه " أي اتقوا الله تعالى بالقدر الذي يجب أن يتقى به، وهو الحق الثابت المستقر الذي ينبغي أن يستمر ولا ينقطع، و " تُقَاة " مصدر على وزن فعلة كتؤدة، والواو قلبت تاء على ما هو الأصل في كلمة تقوى لأنها من الوقاية؛ وكلمة " حَقَّ " منصوبة على أنها مفعول مطلق مضاف إلى المصدر المشتق منه الفعل، ومثل هذا قولنا ولكلام الله المثل الأعلى: أكرم فلانا حَقَّ الإكرام، أو أدب ولدك حق التأديب، وإضافة تقاة إلى الله تعالى في قوله تعالى: (حَقَّ تُقَاتِهِ) تفيد علو الواجب المطلوب له سبحانه وتعالى من التقوى، فالمطلوب هو التقوى الواجبة التي تليق بذي الجلال والإكرام الواحد القهار، والمالك لكل شيء، القاهر فوق عباده، الغالب على كلِ أمر، ويقول الزمخشري في تفسير قوله تعالى: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ): (حقَّ تُقَاتِهِ) واجب تقواه وما يحق منها، وهو القيام بالمواجب، واجتناب المحارم، ونحوه (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ...)، يريد بالغوا في تقوى الله حتى لَا تتركوا من المستطاع منها شيئا.
وهذا معنى مستقيم، وتخريج قويم، ويكون المعنى في الآيتين متلاقيا؛ إذ يكون معنى: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) اتقوه بأقصى الاستطاعة في التقوى، فبذل المستطاع منه هو عين التقوى، وهو أقصى غاياتها.
وقد زعم بعض المفسرين أن الصحابة عندما نزل قوله تعالى: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) شكوا إلى رسول الله مشقة ذلك عليهم، فنزل قوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا
1336
اسْتَطَعْتمْ...)، واعتبووا هذه الآية ناسخة للسابقة، وفي الحق، إن دعوى النسخ باطلة، فإنه إذا صحت الرواية، فإن المناسب لمعناها أن نقول: إن القوم لقوة إحساسهم الديني لم يرفقوا بل اشتدوا على أنفسهم في العمل، فقاموا في صلاة الليل حتى ورمت عراقيبهم، وتقرحت جباههم، كما ورد عن سعيد بن جبير، فبين الله سبحانه وتعالى المقدار الذي كُلفوه، وهو الاستطاعة الدائمة، فهم لَا يكلفون إلا المستطاع الذي لَا يشق أداؤه، وهذا هو المعنى الذي يتفق مع الحقائق الإسلامية والسنن المروية الثابتة، فإنه يروى أن النبي - ﷺ - رأى عابدا يعبد الله حتى أرهق نفسه وغارت عيناه، فقال له عليه الصلاة والسلام: " إنَّ هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، إنَّ المنْبتَّ لَا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى " (١).
وإن أفضل التقوى في الإسلام ما يدوم، وما يمكن أن يستمر الشخص عليه من غير إجهاد ومشقة، ولذا قال النبي - ﷺ -: " أحب الأعمال عند الله أدومها وإن قل " (٢) وقال عليه الصلاة والسلام: " إن الله يجب الديمة من الأفعال " (٣) وذلك لا يكون إلا في دائرة المستطاع، وقد جمع النبي - ﷺ - معنى تقوى الله حق تقاته في قوله: " حق تقاته: أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا يُنسى، وأن يشكر فلا يكفر " (وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ):
النهي ليس منصبا على الموت، وإنه بضم النهي إلى الاستثناء يكون المطلوب أمرا إيجابيا، وهو ما بعد أداة الاستثناء، فيكون المعنى الجملي كونوا على حال الإسلام المستمرة إلى الموت، إذ كل كلام مشتمل على استثناء هو في معناه تكلم بالباقي بعد أداة الاستثناء، فإذا قال قائل: لَا تكرم إلا محمدا، فمعنى القول أكرم محمدا وحده؛ لأن معنى الاستثناء نفي وإثبات، فهو يتضمن النفي لما عدا ما بعد
________
(١) رواه أحمد: باقي مسند المكثرين (١٢٥٧٩).
(٢) رواه البخاري: القصد والمداومة على العمل (٥٩٨٣)، ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها - فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره (١٣٠٥).
(٣) سبق تخريجه.
1337
إلا، والإثبات لما بعد إلا، وقد يكون العكس ويكون موضع النهي هنا هو النهي عما يمنع استمرار الإسلام إلى الوفاة ولقاء الرب تعالت قدرته، وعظمت نعمته، فهو أمر لهم بأن يقصروا أنفسهم على حال الإسلام وحده إلى أن يتوفاهم الله سبحانه وتعالى.
ومعنى الإسلام هو الإخلاص لله سبحانه وتعالى وحده، والإذعان له تبارك وتعالى، وألا يستمعوا إلا إليه، وأن يصموا آذانهم عن كل دعوة تخالف ما يأمر به وما ينهى عنه؛ فذلك هو الإسلام المطلوب ممن تشرفوا بذلك النعت الكريمِ، وهو ما قد بينَاه من قبل عند الكلام في قوله تعالى: (وَلَهُ أَسْلَمَ من فِي السَّمَاوَات وَالأَرْضِ...)، وقوله تعالى: (إِنَّ الدِّين عندَ اللَّه الإِسْلامُ...)، وقوله تعالى: (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)، وإطلاق الإسلام بمعنى الإذعان الظاهري لا يكون في القرآن إلا بقرينة، ويعبر عنه في مقابل الإيمان، وبالفعل لا بالوصف، ومن ذلك قوله تعالى: (قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ...).
والخلاصة أن الله تعالى يأمر المؤمنين بأن يستمروا على إذعانهم للحق الذي يدعوهم إليه، ويمنعوا أن يدخل الانحراف إلى قلوبهم، فلا يجيبوا داعي اليهود وأشباههم الذين يريدون أنْ يصدوهم عن دينهم حسدا من عند أنفسهم. ولقد أمر الله سبحانه وتعالى من بعد ذلك بما يكون فيه العصمة من الزلل، والاستمرار على الحق إلى أن يلقوا ربهم، فقال تعالى:
* * *
1338
(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا... (١٠٣)
* * *
العصمة: المنعة، ومعنى اعتصموا اجعلوا أنفسكم في عصمة ومنعة عن الزلل بحبل الله، ولكن ما هو حبل الله الذي أمر سبحانه بالاستمساك به، واعتبر الأخذ به عصمة من الزلل؟ والجواب عن ذلك أن " الحبل " في أصل معناه اللغوي " السبب " الذي يوصل إلى الغاية، وله بعد هذا المعنى الأصلي اللغوي معان أخرى مشتركة، فيطلق على
1338
الرسن (١)، كما يطلق على العهد، كما في قوله تعالى: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفوا إِلَّا بِحَبْلٍ منَ اللَّهِ وَحَبْلٍ منَ النَّاسِ...)، ويطلق على الإيمان، كما يطلق على القرآن، وقد ورد بذلك الحديث النبوي، فقد قال عليه الصلاة والسلام: " إنَّ القُرآن هو حبل الله المتين، وهو النور المبين، والشفاء النافع، عصمة لمن استمسك به " (٢)، وروي عن زيد بن أرقم أن النبي - ﷺ - فسر حبل الله تعالى في هذه الآية بالقرآن، فقد قال: " حبل الله هو القرآن " (٣) وإن ذلك هو الواضح، فحبل الله تعالى هو شريعته المحكمة الباقية إلى يوم القيامة، والمؤدى واحد، فشريعة الله سجلها القرآن، فهو بيانها، وهي حبل الله، والعروة الوثقى التي يضل من فصمها أو تركها.
وقد ذكر سبحانه أن الأمر بالاعتصام لَا يؤدي غايته وحقيقته إلا إذا اعتصمت الأمة جميعها، ولذلك قال سبحانه: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا) أي كونوا جميعا مستمسكين به؛ وذلك لأن هذا الدين كل لَا يقبل التجزئة، والجماعة الإسلامية كل وطائفة واحدة، وكلمة (جَمِيعًا) يصح أن تكون حالا من الواو، ويصح أن تكون حالا من حبل الله تعالى، وعلى الأول يكون المعنى كونوا جميعا مستمسكين بحبل الله، ولا يصح أن ينفصل منكم طائفة لَا تأخذ بذلك الحبل؛ لأن الشيطان ينفذ إليكم عن طريق هذه الطائفة التي شذت وعصت أمر ربها.
وعلى أن كلمة (جَمِيعًا) حال من حبل الله، يكون المعنى خذوا بالقرآن كله، ولا تجعلوه عضينا تؤمنون ببعضه وتكفرون ببعضه، أو خذوا بشريعته كلها ولا تأخذوا بجزء منها دون جزء، فإنها كل لَا يقبل التجزئة.
________
(١) الرسن: الحبل، ورسن الفرس، إذا شدَّه. من باب نصر. الصحاح.
(٢) رواه بهذا اللفظ الدارمي: فضائل القرآن - باب من قرأ القرآن (٣١٨١) هكذا موقوفا على عبد الله بن مسعود.
(٣) عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله - ﷺ -: " ألا وإني تارك فيكم ثقلين أحدهما كتاب الله عز وجل هو حبل الله، من اتبعه كان على الهدى ومن تركه كان على ضلالة ". جزء من حديث رواه مسلم في صحيحه: فضائل الصحابة - فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه (٢٤٠٨).
1339
والأمران مرادان مع، فإن مقتضى النص أن نأخذ جميعا بالشريعة كلها، لا نفرق بينها، ولا نتفرق في أمرها؛ ولذا قال سبحانه: (وَلا تَفَرَّقُوا) أي لَا تتفرقوا في أنفسكم، فلا يضرب بعضكم رقاب بعض، ولا تتنادوا بنداء الجاهلية، ولا تتفرقوا في دينكم، فتذهبوا في فهمه شيعا وفرقا مختلفة، فتضلوا عن سبيل الله، ولا شيء يذهب بنور الحق المبين أكثر من اختلاف الأنظار في فهمه وإدراكه، والنظر إليه بروح التعصب الذي يغفل عن الاتجاه إلى الحق في كل جوانبه، ولذلك جاء النهي عن التفرق في الدين، فقد قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ...)، ولقد توقع النبي - ﷺ - الافتراق لأمته، وأنه سيكون سبب ضعفها، وأن عودة قوتها في عودة اجتماعها، ولذا قال النبي - ﷺ -: " ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل، وإن بني إسرائيل تفرقت اثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين، كلهم في النار إلا واحدة، قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي " (١).
وإن الطريق للخروج من الافتراق هو الذهاب إلى لب الدين بإخلاص، ومن غير انحراف إلى طائفة دون أخرى، ولذا قال النبي - ﷺ -: " من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده لَا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، مات والله عنه راض " (٢) فإنه لَا يفرق إلا الأهواء، ولا يهدي إلا الإخلاص، فإذا سيطرت الأهواء المنحرفة، سرى الضلال إلى النفس وإلى الفكر، ولذا قال - ﷺ -: " وَإِنَّهُ سَيَخْرُجُ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ تَجَارَى بِهِمْ تِلْكَ الْأَهْوَاءُ، كَمَا يَتَجَارَى الْكَلْبُ لِصَاحِبِهِ " وَقَالَ عَمْرٌو: «الْكَلْبُ بِصَاحِبِهِ لَا يَبْقَى مِنْهُ عِرْقٌ وَلَا مَفْصِلٌ إِلَّا دَخَلَهُ " (٣).
________
(١) رواه الترمذي: الإيمان - ما جاء في افتراق هذه الأمة (٢٥٦٥).
(٢) رواه ابن ماجه: المقدمة - الإيمان (٦٩) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
(٣) جزء من حديث رواه أبو داود: السنة - شرح السنة (٣٩٨١).
1340
وإن النهي عن التفرق توجب إطاعته الإخلاص والحذر، وطريقه الاعتبار، ولذلك قال تعالى: (وَاذْكروا نِعْمَتَ اللَّه عَلَيْكُمْ إِذْ كنتُمْ أَعْدَاءً فَألَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأصْبَحْتم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا).
الخطاب عام لكل المؤمنين في كل الأجيال وكل الأعصار، ويدخل في عمومه كل الأجناس وكل الشعوب، فالدعوة إلى التذكر دعوة عامة، وهي تذكر لماضي الانقسام، ثم من بعد الاتفاق والوئام، والطريق إلى الوحدة، ولكن إذا كان التذكير عاما، فإن الاختلاف الذي أشار إليه النص الكريم كان خاصا بطائفة من المؤمنين، وهم الذين عاصروا النبي - ﷺ - من المهاجرين والأنصار، فالأنصار أكلتهم الحرب التي قامت بين الأوس والخزرج حتى أتم الله عليهم نعمة الهداية، والعرب جميعا كانوا في تنابز وتنافر حتى كادت بعض قبائلهم تفنيها الحروب التي لَا تبقي ولا تذر. ولماذا اعتبر الاختلاف السابق الخاص كأنه اختلاف عام، وخوطب به المؤمنون جميعا؟ والجواب عن ذلك أن هذا للدلالة على وحدة الأمة، فما كان من ماضيها يخاطب به حاضرها للاعتبار والاتعاظ، ولأن سبب الاختلاف في كل نفس لَا يقي منه إلا الهداية، فما وقع من الماضين يتوقع أن يقع من الحاضرين، لأن الإنسان ابن الإنسان، ولأن الخلاص طريقه واحد، فما خلص به الماضون يخلص به الحاضرون، إن اعتزموا سلوك ما سلكه الذين من قبلهم.
والنعمة التي يذكرنا الله بها في قوله تعانى: (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) هي نعمة الهداية والتأليف القلبي، وهو أعظم النعم على الجماعات والأمم، وقد بينها سبحانه بقوله: (إِذْ كنتُمْ أَعْدَاءً فَألَّفَ بَيْن قُلُوبِكمْ) فهذه نعمة بيّنة واضحة، وهذه النعمة ترتب عليها أثرها الجليل الخطير بفيض آخر من نعمته سبحانه أيضا ولذا قال: (فَأصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) فالنعمة الثانية التي كانت امتدادا للنعمة وفيضا لها هي نعمة الأخوة العامة، التي تجعل الأهواء مشتركة، والمصالح متشابكة متوحدة، يتعاون كل واحد في الأمر الذي يحسنه لمصلحة الجميع، والآية ترمي إلى بيان أن تألف القلوب وحده نعمة والأخوة المترتبة عليه المتعاونة نعمة أخرى،
1341
والتألف معنى نفسي، والأخوة مظهر اجتماعي عملي، ولقد شددا سبحانه في التذكير بمآثم الاختلاف بعد أن أشار إلى نعمة الوفاق بقوله: (وَكنتمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ منَ النَّارِ فَأنقَذَكُم مِّنْهَا).
أي كنتم - بسبب اختلافكم وضلالكم وعبادتكم للأوثان وانحراف تفكيركم - قد أوشكتم على أن تقعوا في النار بسبب تغلغلكم في أسبابها وسيركم في طريقكم حتى صرتم كأنكم على شفا حفرتها، وشفا الحفرة حرفها، وقوله تعالى: (فَأَنقَذَكم مِّنْهَا) الضمير يعود إلى الحفرة؛ لأن من يكون على شفاها يقع فيها لَا محالة إلا أن يبعده مبعد عنها، فيكون منقذا له منها، والكلام فيه استعارة تمثيلية، وخلاصتها أنه شبهت حالهم في ترديهم في الاختلاف والوثنية وسيرهم في طريق النار يوم القيامة بحال من يكون على طرف حفرة من النار لَا يتماسك عن الوقوع فيها، وشبهت هداية الله تعالى لهم بحال من يتولى تجنيبهم التردي في تلك الحال الخطرة الخطيرة، ولقد ذكر سبحانه وتعالى سنته في بيان هدايته فقال: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).
أي كهذا البيان الذي بيّنه الله سبحانه وتعالى لكم في محكم القرآن، وبين لكم به سبيل هدايتكم، وبين لكم به نعمة هدايتكم ونعمة أخوتكم، يبين سبحانه وتعالى دائما الآيات البينات سواء كانت تلك الآيات قرآنية أم كانت كونية، وذلك لتقربوا دائما من الهداية، ولتكون بين أيديكم أسبابها، لعلكم تنالون الثمرة وهي الاهتداء الدائم، والله سبحانه وتعالى هو الهادي إلى سواء السبيل.
* * *
(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١٠٥) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ
1342
وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (١٠٧)
* * *
بعد أن أمر سبحانه وتعالى بالاعتصام بحبل الله تعالى؛ والاستمساك بالقرآن الكريم، والالتفاف حوله، وعدم التفرق والانقسام - بيّن سبحانه وتعالى السبيل لهذا الاعتصام، والطريق للوحدة الفاضلة، التي لَا تفرق فيها، ولا اختلاف يفك عراها، ويهدم بنيانها، وذلك السبيل هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولذلك فرضه سبحانه وتعالى بقوله تقدست كلماته:
1343
(وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأمُرُونَ بالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) المعروف هو الأمر الذي تعارفته العقول ولم تختلف فيه الأفهام؛ وهو الذي يكون متفقا مع الفطرة الإنسانية التي لَا تختلف في الناس، والمنكر هو ما تضافرت العقول الإنسانية على إنكاره وقبحه، وهو مناقض للفطرة الإنسانية. وإن العقول من بدء الخليقة تضافرت على أمور أقرتها، وعلى أخرى أنكرتها، فلم تختلف العقول في مدح الصدق والعدل والحياء والعفة، ولم تختلف العقول في استنكار الظلم والكذب والفجور والاعتداء بكل ضروبه، ومهما يحاول الذين يريدون حل المجتمعات الفاضلة وهدم بنيانها، من إنكار لتلك الحقائق، وادعاء أنها ليست مقومات الإنسانية، وأنها اتفاقات زمنية، وأوهام سيطرت على العقول - فلن يصلوا إلى غاياتهم، وإن ادعوا أن ما يقولونه هو طبيعة الوجود، ولذا سموا أنفسهم وجوديين، وذلك لأن كلامهم ضد طبائع النفوس، وضد السمو الإنساني عن الطبيعة الحيوانية، وضد الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وإن الأعرابي الذي سئل: لماذا آمنت بمحمد؛ فقال: ما رأيت محمدا يقول في أمر: افعل، والعقل يقول لَا تفعل، وما رأيت محمدا يقول في أمر: لَا تفعل، والعقل يقول افعل - أكبر إدراكا من هؤلاء المتفلسفة، وأكثر اتصالا بطبائع الوجود الإنساني منهم، وهم
1343
في حقيقة أمرهم وتفكيرهم أكثر اتصالا بالطبائع البهيمية منهم بالطبائع الإنسانية.
و (مِنْ) في قوله تعالى: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أمَّةٌ) قيل: إنها بيانية، وقيل. إنها تبعيضية، وهي تحتملهما معا، وعلى أنها بيانية يكون المعنى أن الأمة كلها عليها واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويكون التخريج اللفظي لقوله تعالى تقدست كلماته: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ) مثل قول القائل: ليكن منك رجل خير، أو ليكن منك رجل جهاد، أي ليكن منك رجل خير ورجل جهاد، فالمعنى الجملي للنص الكريم: ولتكونوا أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وإذا كان ذلك الواجب على الأمة كلها، فهو يتفاوت بتفاوت مقدار ما أوتيه كل واحد من العلم والقوة، فعلى أولياء الأمر أن يرتبوا أمر الدعوة الإسلامية، وبيان الحقائق، ووضع النظم الزاجرة المانعة من الشر، أن يتفاقم أمره، ويشتد سيله، ويكون على العلماء واجب بيان الشرع في دروس عامة وخاصة، وبيان الحق في كل أمر يَجدّ في شئون الناس، وبيان طرق الدعوة إلى سبيل الله، ويكون على العامة كل في محيط وجوده وبمقدار طاقته أن يرشد وأن ينصح، فمن رأى رجلا يرفثُ في القول، أو يجرح كرامات الناس، أرشده ونهاه، ومن رأى رجلا يفطر في رمضان وعظه وهداه، ومن رأى رجلا لا يصلي حثه على الصلاة، على أن يكون ذلك برقيق القول، لَا بالجفوة والعنف فإن الجفوة لَا تجدي بل تبعد، والمودة تجدي وتقرب، وبهذا تكون الأمة كلها تتواصى بالحق، وتتواصى بالصبر والهداية.
هذا سياق القول على أن (مِنْ) بيانية، وأما سياقه على أنها تبعيضية، فيكون المعنى: ليكن بعض منكم أمة أي طائفة تُؤم وتقصد وتكون مجابة الدعوة، إذ تدعو إلى الخير أي إلى كل ما هو نافع في ذاته، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وعلى ذلك يكون في الآية الكريمة طلبان:
1344
أحدهما موجه إلى الأمة كلها، وهو إعداد هذه الطائفة التي تقوم بالإرشاد العام والتوجيه الفكري والنفسي، وتزويدها بكل ما يمكنها من أداء مهمتها، والقيام بالواجب عليها على الوجه الأكمل، وثاني الواجبين هو واجب هذه الطائفة التي تكونت، والوجوب عليها أخص من الوجوب الأول، وكذلك الشأن في كل الفروض الكفائية، فيها وجوبان: وجوب خاص على من عندهم الأهلية الخاصة للواجب الكفائي، ووجوب عام على الأمة كلها، وهو تمكين هؤلاء الخاصة من القيام بواجبهم وتزويدهم بما يحتاجون إليه.
وقد رجح الزمخشري أن تكون (مِنْ) تبعيضية، وقال في ذلك " من " للتبعيض لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفايات، ولأنه لا يصلح له إلا من علم المعروف والمنكر، وعلم كيف يرتب الأمر في إقامته، وكيف يباشره، فإن الجاهل ربما نهى عن معروف، وأمر بمنكر، وربما عرف الحكم في مذهبه، وجهله في مذهب صاحبه، فنهاه عن غير منكر، وقد يغلظ في موضع اللين، ويلين في موضع الغلظة، وينكر على من لَا يزيده إنكاره إلا تماديا، أو على من الإنكار إليه عبث، كالإنكار على الجلادين وأضرابهم).
والأمة التي تُقصد وتكون من صفوة الأمة لها عملان متمايزان بنص الآية؛ أحدهما: الدعوة إلى الخير، وثانيهما: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. أما الأول فهو توجيه الأمة إلى النفع العام، فالخير هو كل أمر نافع في الدنيا أو في الآخرة، كتنظيم الاقتصاد، وترتيب العمران، وتنظيم حقوق الفقراء، وربط العلاقة بين الأغنياء والفقراء بوثائِق من الدين والنصوص المحكمة التي لَا تقبل التخلف، وإنشاء المساجد ودور التعلم وتوجيهها التوجيه السليم، فكل هذا دعوة إلى الخير، وبعبارة عامة شاملة الدعوة إلى الخير تشتمل على كل ما يقوم عليه بناء الاجتماع من الناحية المادية والأدبية.
أما الثاني وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالمراد به نشر الفكر الإسلامي، وبيان الحقائق الدينية، وتوجيه النفوس إليها وجذبهم نحوها، ودفع كل ما ليس بإسلامي، وإقامة الحق والعدل، وهو مقام سام لَا يصل إليه إلا ذوو
1345
الهمة والتقى من الرجال، وهو شاق إن أدي على وجهه، بحيث يرشد الحاكم والمحكوم، والقوي والضعيف، لَا يخشى في الله لومة لائم، لَا يجمجم إذا كان المنكر من قوي ظالم، ويغلظ ويعنف إن كان المنكر ممن لَا يخشى بطشه ولا يرجى عطاؤه، ولا يتأول لتصرفات من يخاف شره ويطمع في خيره.
فإن كان، المرشد على ذلك النحو فقد سار في طريق النبيين، ولقد روى أن النبي - ﷺ - قال: " من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في الأرض، وخليفة كتابه، وخليفة رسوله " (١) وهو بهذا الاعتبار خير الناس، ومعنى خلافته عن الله تعالى أن يكون مصلحا في الأرض غير مفسد فيها، ولذا قال تعالى عند خلق آدم للملائكة: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ...)، فخلافة الله في الأرض تقتضي الصلاح والدعوة إليه، وذلك ما يقوم به الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، ولقد سئل عليه الصلاة والسلام وهو على المنبر: مَنْ خيرُ الناس؛ قال: " آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأتقاهم وأوصلهم " (٢). ولقد قال أبو الدرداء: (لتأمرُن بالمعروف ولتنهوُن عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم سلطانا ظالما، لَا يجل كبيركم، ولا يرحم صغيركم، ويدعو عليه خياركم فلا يستجاب لهم، وينتصرون فلا ينصرون، ويستغفرون فلا يغفر لهم).
وإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مراتب، تعلو كل مرتبة عن الأخرى بمقدار ما يكون فيها من مشقة وتعرض للعنت مع الجدوى والفائدة، ولذا كان أعلاه ما يوجه إلى الجائرين من الحكام والأمراء؛ ولذا قال النبي - ﷺ -: " أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر " (٣). وبذلك اعتبر النبي - ﷺ - هذه المرتبة جهادا،
________
(١) رواه الديلمي عن ثوبان. كنز العمال ج ٣ (٥٥٦٤).
(٢) سبق تخريجه.
(٣) رواه النسائي: البيعة - فضل من تكلم عند سلطان جائر (٤١٣٨) عن طارق بن شهاب، وابن ماجه: الفتن - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (٤٠٠٢) عن أبي أمامة الباهلي، وأحمد: باقي مسند المكثرين (١٠٧١٦) عن أبي سعيد الخدري.
1346
واعتبر من يقتل في سبيلها شهيدا، كمن يقتل في الحرب، بل اعتبره في أعلى درجات الشهداء، فقد قال عليه الصلاة والسلام: " سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ثم رجل قام إلى إمام فأمره ونهاه في ذات الله تعالى فقتله على ذلك " (١).
وإن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وخصوصا للأمراء والحكام هو الذي أضاع المسلمين في الماضي، وأضاع بني إسرائيل قبلهم، ولقد روى في ذلك أحمد والترمذي وأبو داود أن النبي - ﷺ - قال: " إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أن الرجل كان يلقى الرجل، فيقول: يا هذا اتق الله، ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض. كلا والله لتأمرُن بالمعروف ولتنهوُن عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا، أو ليضربن بقلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم كما لعنهم " (٢).
وإن القيام بحق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يؤدي إلى الفلاح في الدنيا والآخرة، ولذا ذيل سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالى:
(وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي أولئك الذين قاموا بهذا الواجب هم المفلحون، ولا يمكن أن يفلح سواهم ممن لم يقم بهذا الواجب، ففي النص قصر، أي نفي وإثبات، فهو يثبت الفلاح لهم، وينفي الفلاح عن غيرهم ممن لم يقم بهذا الواجب المقدس، فهو مناط عزة الأمة ورفعتها وقوتها وتقدمها، ونشر العدل والحق والإيمان في ربوعها، والإشارة هنا إلى الأمة كلها سواء اعتبرنا (مِن)
________
(١) سبق تخريجه.
(٢) رواه أبو داود: الملاحم - الأمر والنهي (٣٧٧٤). وبنحوه رواه الترمذي: تفسير القرآن - ومن سورة المائدة (٢٩٧٣)، وابن ماجه: الفتن - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (٣٩٩٦)، وأحمد: مسند المكثرين - مسند عبد ألله بن مسعود رضي الله عنه (٣٥٢٩).
والأطر: الرد، وأصله العطف والثني، لسان العرب.
1347
بمعنى بعض؛ أم اعتبرناها بيانية، وإذا كانت بيانية فالأمر ظاهر لَا يحتاج إلى بيان؛ لأن الأمة هي في جملتها الآمرة بالمعروف الناهية عن المنكر الداعية إلى الخير، وأما على أن الأمة التي تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر هي طائفة معينة من مجموع المؤمنين، فإن النتيجة من حيث الفوز والفلاح لَا يعود على الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر وحدهم، بل الفائدة تعود عليهم أجمعين، إذ إن ضرر الترك يعود عليهم أجمعين، وإنه لَا نجاة للأمة إلا إذا تواصَوْا بالحق وتواصَوْا بالصبر، وتواصوا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد ضرب النبي - ﷺ - مثلا لترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بقوم يركبون سفينة، ووجدوا واحدا يخرق السفينة، فإن تركوه غرق وغرقوا معه، وإن أخذوا على يده نَجا ونجوا معه (١).
* * *
________
(١) رواه البخاري: الشهادات - القرعة في المشكلات (٢٤٨٩) عن النّعْمَان بْن بَشِير رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
1348
(وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ... (١٠٥)
* * *
بعد أن بيّن سبحانه وجوب الاعتصام بحبل الله، وأن الاعتصام به مدعاة الوحدة والقوة والاجتماع على الحق، وبيّن طريقه وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أخذ سبحانه وتعالى يشير إلى نتائج التفرق ناهيا عنه محذرا منه، مبيّنا نتائجه في الدنيا والآخرة، وأول نتائج التفرق هي العمى عن الحق مع وضوحه وقيام البيِّنات عليه، فقال سبحانه: (وَلا تَكونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقوا) نهى سبحانه وتعالى بهذا عن التفرق بأبلغ تعبير، وألطف إشارة، فقد كان النهي عن أن يكونوا كمن سبقوهم في التفرق، وذلك نهى مع الدليل الموجب للنهي، والغاية التي ترتبت على النهي عنه، وذلك بالإشارة إلى ما كان ممن سبقوهم؛ إذ تفرقوا أحزابا وَشيَعا كل حزب بما لديهم فرحون، فتفرق اليهود طوائف، وتفرق النصارى طوائف مثلهم، وكل طائفة تُكَفِّر الأخرى، أو ترميها بالزيغ والضلال، وقد ترتب على التفرق وتوزع أهوائهم ومنازعهم أن اختلفوا في إدراك الكتاب مع وضوحه، ومع ما جاءهم من
1348
البينات الموضحة المبينة التي قامت مثبتة للحق، وهو واحد لَا يتعدد، وإن ذلك فيه بيان نتيجة التفرق، وهو الاختلاف مع وجود الحق، وهو تأكيد لمضمون النهي؛ لأنه إذا كان التفرق مؤديا إلى استبهام الحق أمام المختلفين مع وضوحه في ذاته، فإن الافتراق في ذاته أمر قبيح، وإن هذه الصيغة فوق ذلك فيها الاعتبار بمن سبقوا، ووضع صورة واقعية لنتائج الافتراق، ولذا كان قوله تعالى: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقوا) أكثر معاني من (ولا تتفرفوا) وهي في هذا المقام أبلغ وأبين، ولأن الآيات السابقة فيها كلام عن أحوال اليهود والنصارى، ومناقضتهم للحقائق الإسلامية، ومحاولتهم تضليل المسلمين عن الحق الصريح، فكان من المناسب أن يشار إلى حالهم، ونتائج تفرقهم، وإعراضهم عن الحق بعد إذ تبين لهم.
وقد يقول قائل: إن الاختلاف يؤدي إلى التفرق مع أن ظاهر الآية أن الافتراق هو الذي أدى إلى الاختلاف، ونقول في ذلك: إن الاختلاف الذي لا ينشأ عن التفرق ولا يؤدي إليه هو اختلاف تفكير، ولابد أن يصل فيه المختلفون إلى الحق ولا يضلون، وأما الاختلاف الذي يؤدي إلى الافتراق، فهو بلا شك يؤدي إلى الضلال، ويترتب عنه ضلال مع وجود بينات الحق؛ إذ التفرق معناه انحياز كل جماعة إلى ناحية وفرْق معين، وكذلك التفرق السابق على الاختلاف، فإنه يكون نوعا من تحكم الهوى، أو العصبية النسبية، أو العصبية الإقليمية، فيكون كل تفكير تحت سلطان هذه العصبية، فلا تستقيم الحقائق، ولا تدركها العقول، مع قيام البينات.
وقد بين سبحانه نتائج هذا الضلال في الآخرة فقال سبحانه: (وَأُوْلَئكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ).
أي أولئك الذين فرقتهم الأهواء فضلوا ولم يدركوا الحق مع قيام البينات عليه لهم عذاب عظيم في الآخرة، وهذا التهديد الشديد مقابل للنتيجة الحسنة التي تكون ثمرة التواصي بالحق والتواصي بالصبر، وهي الثابتة بقوله تعالى: (وَأولَئِكَ هُم الْمُفْلِحُونَ). فالافتراق نتيجته خسران في الدنيا وعذاب عظيم في الآخرة.
1349
وقد بين سبحانه حالهم في ذلك اليوم فقال:
* * *
1350
(يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ... (١٠٦)
* * *
والتعبير عن الحق بالبياض، وعن الباطل بالسواد، مجاز عربي مشهور، كوصف الحق بأنه نور، ووصف الباطل بأنه ظلام، ووصف الوجوه بالبياض مجاز عن إشراق القلوب بالمعرفة، وامتلائها بالنور؛ ووصف الوجوه بالسواد مجاز من إظلام القلوب، وانطفاء نورها، ولقد قال الزمخشري في تحقيق هذا المعنى اللغوي: " البياض من النور، والسواد من الظلمة، فمن كان من أهل نور الحق وُسِم ببياض اللون وإسفاره وإشراقه وابيضت صحيفته، وأشرقت، وسعى النور بين يديه وبيمينه، ومن كان من أهل ظلمة الباطل وُسِم بسواد اللون وكسوفه وكمده، واسودت صحيفته وأظلمت، وأحاطت به الظلمة من كل جانب. نعوذ بالله وبسعة رحمته من ظلمة الباطل وأهله ".
ثم بين سبحانه حال الذين اسودت وجوههم وعقابهم بقوله تعالت كلماته: (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكفُرُونَ).
هذا تفصيل لما أشار إليه الإجمال، وفيه بيان العقوبة وسببها، وقوله تعالى: (أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) بيان لحالهم، أي أن حالهم حال من يستفهم عنها استفهام إنكار وتعجب فيقال لهم: أكفرتم وجحدتم الحق وأنكرتموه بعد إيمانكم به وإذعانكم، وهذا حقا موضع عجب، كمن يكون في روضة من الرياض فيها النعيم، ويتركها إلى الكفر والجحيم، فهم كانوا في روضة الإيمان، وبتفرق أهوائهم وتنازعهم وعصبيتهم انتقلوا إلى جحيم الكفر، وإذا كانوا كذلك فكفرهم كان كفرا عن علم بالحق وهم لذلك [لا يعذرون]، ولذا ترتب عليه العقاب فقال: (فَذُوقوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكفرُونَ) أي فادخلوا جهنم وذوقوا مرارة العذاب وآلامه كما ذقتم حلاوة الهوى، وكان ذلك العذاب بسبب استمراركم على الكفر، وموتكم عليه، ودل غلى الاستمرار التعبير بـ (كُنتُمْ)، فإن (كان) تدل على الاستمرار، وقد استمروا على حال الكفر في أقبح صوره، وهو الكفر بعد الإيمان، وبعد هذا بين حال الذين ابيضت وجوههم فقال:
* * *
(وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (١٠٧)
* * *
أي أن الذين أشرقت نفوسهم بنور الحق، وأدركت قلوبهم معنى الإيمان، وذاقت حلاوته، في رحمة الله تعالى، ورحمة الله تعالى تتسع لكل معاني النعيم المقيم، ورضوانه العظيم وهو أكبر الرحمة، ثم خصهم سبحانه بالخلود في هذا النعيم الذي لَا يُحد بحد، ولا يُرسم برسم، ولا تبلغ العقول مداه، فقال سبحانه: (هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ). أي هم في الرحمة باقون دائمون.
ويجب التنبيه هنا إلى أمرين:
أولهما: أنه ذكر بياض الوجوه قبل، ثم ذكر حال الذين اسودت وجوههم قبل الذين ابيضت، ليختتم الآية برحمته، كما اختتم الآية السابقة ببيان من يفوز بهذه الرحمة.
الأمر الثاني: أنه سبحانه ذكر وصف الخلود في النعيم، ولم يثبت الخلود لمقابله، وقد صرح به في غير هذا الموضع، وذلك أيضا من باب الرحمة ورجاء التوبة.
اللهم مُنَّ علينا بهدايتك، وأنعم علينا بنعمة الإيمان الدائم، واشرح صدورنا لكل ما تأمر به، واصرفنا عما نهيت عنه، فإن القلوب بيدك وأنت مقلب القلوب.
* * *
(تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (١٠٨) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٩) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (١١٠)
* * *
1351
بعد أن بين سبحانه وتعالى ما كان من اليهود في ماضيهم، وكيف أضلهم الهوى، والعصبية العنصرية، ومنعتهم من أن يصل نور الحق إلى قلوبهم، حتى إنهم ليرون النور يمشي بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وشمائلهم، ومع ذلك يصمون آذانهم عن سماعه، ويحجبون أضواءه عن نفوسهم؛ ذكر سبحانه أنه بين ذلك في آياته ليعتبر من يعتبر، ولينتفع الحاضرون بنتائج ما وقع فيه الغابرون، فيستبصروا ويستبينوا ويتعظوا ويعتبروا، ولذا قال سبحانه:
1352
(تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ).
الإشارة في الآية الكريمة إلى ما كان من آيات سابقات بينت فيها أحوال النفوس التي ضلت وعميت عن الحق، وكانت الإشارة بالبعيد لعلو منزلة هذه الآيات في بيانها للحق، وإعلانها له، وصدقها فيما حكت وأعلنت، ومعنى (نَتْلُوهَا): ننزلها عليك متلوة مقروءة واضحة مبينة سهلة الفهم لمن يريد الحق ويبتغيه، وقوله تعالى: (بِالْحَقِّ) أي متلبسة بالحق مبينة له موضحة، والحق هو الأمر الثابت الذي لَا مجال للشك فيه، ولا تختلف فيه العقول السليمة، والمدارك القويمة، ولا يوجد أمر ثابت كالحق، وهو ميزان الأفكار ومقياس الأشياء، وعليه قامت السماوات والأرض وما بين الناس. وإضافة التلاوة إلى الله تعالى والإظهار في موضع الإضمار، فقد قال سبحانه: (تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا) لكي يكون التصريح باسم الله سبحانه وتعالى مربيا في النفس الهابة والإجلال له، وهو المستحق وحده لوصف الألوهية، فلا إله سواه، ولا معبود بحق غيره، وهو ذو الجلال والإكرام، وهو المنشئ الموجد لهذا الكون وما فيه ومن فيه، وهو العلي القدير، فالتصريح باسمه الكريم يزيد البيان جلالا، ويتضمن معنى الحساب لمن يعرض عن آيات ربه، ويجعل النفس لَا تسير وراء الهوى، ويتضمن معنى القدرة على إنزال العقاب والثواب بعد الحساب، وإنه إذا كان كل شيء في هذا الوجود أوجده ربه بالحق، وأخبر عنه، فالظلم منفي عنه سبحانه وتعالى، ولذا قال سبحانه:
1352
(وَمَا اللَّه يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ) هذا نفي للظلم عن الله سبحانه، والتصريح بلفظ الجلالة في موضع الإضمار هنا، كان لمثل ما ذكرنا لتربية المهابة، وليكون ذلك تأكيدا لنفي الظلم، إذ كيف يظلم الموصوف بالألوهية، وحده، وكيف يريد الظلم مانح العالم كله الوجود؛ وقال: (لِلْعَالَمِينَ) وهم العقلاء في هذا الكون، لأنهم هم الذين يحسون بوقع الظلم وآلامه، ويشعرون بمتاعبه وآثامه، وأصل الظلم معناه النقص، ومن ذلك قوله تعالى: (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئًا...)، ثم أطلق على نقص الحقوق وهضمها، ومن ذلك قوله تعالى: (فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا)، وقوله تعالى: (وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ...)، ثم أطلق الظلم على وضع الأمر في غير موضعه، حتى لقد قالوا فيمن حفر الأرض، ولم تكن موضعا للحفر إنه ظَلمها، ويقال عن التراب المظلوم، وعن الأرض المظلومة، ولقد قال الراغب في معنى الظلم: (الظلم عند أهل اللغة وكثير من العلماء: وضع الشيء في غير موضعه المختص به، إما بنقصان أو بزيادة، وإما بعدول عن وقته ومكانه). والظلم الذي نفاه سبحانه وتعالى عن نفسه عام لَا يخص نوعا دون نوع، وهو نكرة في موضع النفي، ومن المقررات اللغوية أن النكرة في مقام النفي تعم ولا تخص، فالمعنى لَا يريد الله سبحانه وتعالى ظلما قط أي ظلم كان، فقد خلق السماوات والأرض بالحق، وربطهما وما فيهما بميزان لَا يتخلف بإرادته سبحانه وتعالى، فليس فيهما شيء إلا في موضعه، ودبر أمور الكون والناس بدقة وإحكام، وهو العليم الحكيم اللطيف الخبير السميع البصير، وأنزل سبحانه الشرائع بالحق والميزان، فليس فيها شيء إلا وهو عدل لَا ظلم فيه، وأساس الشرائع السماوية كلها العدل الذي يستطيعه الإنسان، وقد قال تعالى: (إِنَّ اللَّهُ يَامُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْي...). وبهذا نفَى الله سبحانه وتعالى الظلم عن نفسه، ونفَى أن يكون نظام شرعه فيه إباحة لظلم العباد فيما بينهم، ولذا قال سبحانه في حديث
1353
قدسي: " يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا " (١).
ويلاحظ أن النص القرآني لم ينف فقط الظلم عن الله سبحانه، بل نفَى عنه إرادة الظلم، فهو أمر لَا يليق بذاته، ولا يتصور وقوعه منه. وإنه سبحانه وتعالى مالك كل شيء، فهو مانح الحقوق ومعطيها (وَخَلَقَ كلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا)؛ ولذا قال سبحانه بعد أن نفَى عن نفسه إرادة الظلم:
* * *
________
(١) جزء من حديث قدسي رواه مسلم: البر والصلة والآداب - تحريم الظلم (٢٥٧٧)، عن أبي ذر عن النبي - ﷺ - فيما يرويه عن رب العزة تبارك وتعالى.
1354
(وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٩)
* * *
كل ما في السماوات من أفلاك وأجرام ونجوم وكواكب وأبراج وعوالم لَا يحصيها إلا خالقها هو لله تعالى، أبدعها على غير مثال سبق، وأنشأها بإرادته، نظم مسالكها وما يربطها بحكمته، وكل ما في الأرض من سهل وجبل، وصحراء وماء، وأقاليم مختلفة، ومزارع وأغراس تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، وكل ما يحتويه باطنها من معادن سائلة، وفلزات متماسكة، وأحجار تبهر الأنظار، ملك لله تعالى أبدعه وأنشأه، وإذا كان هو المبدع المنشئ لكل ذلك، وهو الذي وضع لكل شيء نظامه المحكم، وسيره النظم، فإنه لَا يتصور منه سبحانه أن ينقص شيئا أو حقا، أو يضع أمرا في غير موضعه، فهو خالق النظم، وخالق الأوضاع، والمسيطر على كل شيء.
وكما أن المبدأ منه فالعود إليه سبحانه، ولذا قال سبحانه: (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ) فكل أمر ونظام مرد بقائه وإنهائه إليه، كما كان إبداعه وإنشاؤه منه؛ وكل تصرفات الناس راجعة إليه يوم القيامة، وهم محاسبون عليها، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، فهو مالك الميزان والقسطاس المستقيم في الدنيا وفي الآخرة.
1354
وإن الله سبحانه قد نفَى عن ذاته الكريمة إرادة الظلم، وبين أنه يضع الأمور في مواضعها؛ ليصحح الأفهام التي تتوهم أن النبوة تكون في قبيل دون قبيل، ولبيان أن كل شيء له ميزان ومقياس، وأن رقي الأمم ورفعتها يكون بميزان ثابت، وأن الله تعالى لَا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما كان في أمة إلا وقاها الآفات الاجتماعية، وأنه لَا تتركه أمة إلا تردت في مهاوي الفساد، وأدال الله من قوتها، ذلك هو الميزان الذي وضعه العلي القدير لرفعة الأمم، ولذا قال سبحانه في وصف الأمة المثلى:
* * *
1355
(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ... (١١٠)
* * *
والخطاب في هذه الآية للمؤمنين الذين تلقوا الوحي من النبي - ﷺ - والذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم الدين، و " كان " في قوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) يصح أن تكون بمعنى وُجِد، أي وجدتم خير أمة لهذه الأوصاف ما تحققت فيكم، ويصح أن تكون ناقصة، ويكون المعنى قدرتم في علم الله تعالى خير أمة إن قمتم بهذه الأمور، ويصح أن تكون بمعنى صار، أي تحولتم معشر المؤمنين الذين عاصرتم النبي - ﷺ - من جاهليتكم إلى أن صرتم خير أمة أخرجت للناس بسبب الإيمان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونحن نميل إلى أن تكون بمعنى وُجِد أو ناقصة، والمعنى فيهما متقارب، ليشمل النص المخاطبين بتلك الحقائق في عصر النبي - ﷺ - ومن يجيئون بعدهم ويتبعونهم بإحسان إلى يوم القيامة.
وإن هذه الخيرية التي قدرها سبحانه لهذه الأمة منوطة بتحقيق أمرين أحدهما: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والثاني: الإيمان المطلق بالله والإذعان له وتفويض الأمور إليه بعد الأخذ في الأسباب، واعتقاد أنه لَا قوة في هذا الوجود غير قوته، ولا معبود بحق سواه، ولا خضوع لأحد كائنا من كان غيره تعالت قدرته، فليست الخيرية التي خاطب الله بها المهاجرين والأنصار والذين يتبعونهم؛ لأنهم مسلمون فقط، أو لأشخاصهم وذواتهم، بل لأنهم متصفون
1355
بأوصاف هي علة هذه الخيرية، ومناط تلك الرفعة الإلهية، وتلك الأوصاف هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله، وقوله تعالى: (تَأمُرُونَ بِالْمَعْروفِ) موقعها من الإعراب إما أن تكون جملة حالية من ضمير الخطاب، وإما أن تكون كلاما مستأنفا مفصولا، ولذا قال الفخر الرازي في التفسير الكبير: " اعلم أن هذا الكلام مستأنف، والمقصود منه بيان علة تلك الخيرية كما تقول: زيد كريم، يطعم الناس ويكسوهم، ويقوم بما يصلحهم، وتحقيق الكلام أنه ثبت في أصول الفقه: " أن ذكر الحكم مقرونا بالوصف المناسب له يدل على كون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف؛ فهنا حكم بثبوت وصف الخيرية لهذه الأمة ثم ذكر عقيبه علة هذا الحكم ".
هذا، ويصح أن نقول: إن الحكم بالخيرية مبهم، وقد بينه سبحانه بقوله: (تَأمُرُونَ بِالْمَعْروفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) فالخيرية التي حكم سبحانه وتعالى بها هي هذه الأوصاف، وهذا ينطبق على المثل الذي ساقه الرازي، وهو، فلان كريم: يطعم ويكسو، فإن يطعم ويكسو تفسير لمعنى كرمه، وبيان له، فالاستئناف إذن ليس لأن جملة " تأمرون " علة للخيرية، بل هي بيان للخيرية، ولذلك لَا ينطبق الحكم بالخيرية على من لَا يتصف بهذه الصفات، فالجماعات التي تهمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يكون فيها إيمان، لَا يمكن أن تكون خير أمة، بل لا توصف بالخيرية قط؛ لأنه لَا خير إلا في الفضائل والحق والعدل، ولا تقوم هذه الأمور إلا بالإيمان وقيام رأى عام مُهذِّب لائم يقوم المعوج، وتنزوي فيه الرذائل انزواء، إذ يقتلها نوره المشرق وشمس الحقيقة الناصعة.
وهنا قد يسأل سائل: لماذا قدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان؟ ولماذا اقتصر في الإيمان على الإيمان بالله، ولم يذكر الإيمان بالرسل والملائكة واليوم الآخر والحساب والعقاب وغير ذلك مما يوجبه الإيمان، ولا يعد الشخص مؤمنا إلا به؟ ويجاب عن السؤال الأول: بأن ذكر الأمر بالمعروف والنهي
1356
عن المنكر مقدما لبيان أنه مطلوب لذاته، وأنه فضيلة لَا تختلف فيها الأمم ولا الجماعات، فهو كالصدق والعدل والحق تتفق عليها الأفهام وبل ولا يمكن أن يتحقق بنيان جماعة من غير تحققه، وإلا كانت كالذئاب الضارية، أو كانت كالوحوش في الغابة، والإيمان سياج الجماعة وحمايتها من أن تضل، وكأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الذي يقوم به بناء الجماعة، والإيمان هو الذي يحميها ويسدد خطاها، فذكر مايقوم به البناء ثم ذكر ما يكون به ذلك البناء في دائرة الفضيلة والأخلاق الكريمة وهو الإيمان، وفي الحقيقة هما متلازمان، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتواصي بالحق يتبعه إيمان الشذاذ الخارجين، والإيمان الحق بالله تعالى والإذعان لأوامره ونواهيه يتبعه حتما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
هذا هو الجواب عن الجزء الأول من السؤال، أما الجواب عن الجزء الثاني، وهو لماذا اقتصر على ذكر الإيمان بالله؛ فهو أن الإيمان بالله هو لب الإيمان بكل أجزائه وعناصره، فالإيمان بالله هو الإذعان المطلق لقوة غيبية تسيّر هذا الكون وتدبره، وتقوم على كلاءته وحمايته، والإيمان بقوة غيبية يقتضي الإيمان برسالتها للناس، ويقتضي الإيمان بالأرواح الطاهرة المطهرة، والإيمان بأن الله لم يخلق هذه الأشياء عبثا، وإن ذلك يقتضي الإيمان بقدرة الله على الإعادة كما بدأ الخلق بالتكوين، وبأن هنالك يوما آخر فيه الحساب، وإن من يؤمن بالله ولا يؤمن بهذه العناصر كلها لَا يكون مؤمنا بالله حق الإيمان، ولا مذعنا لأحكامه حق الإذعان، ولذا كان أهل الكتاب الذين أعلنوا إيمانهم بالله، وأنكروا رسالة الرسول - ﷺ - مع قيام البينات عليها غير مؤمنين، وغير مذعنين للحق الذي ارتضاه الله.
ويجب التنبيه هنا إلى أمرين: أولهما: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غيرت تغيير المنكر، وغير العمل بالفعل على منعه، فالأمر والنهي إرشاد وتوجيه ونصح وتنبيه، والتغيير يكون بالعمل المنظم والأحكام الرادعة، وذلك يتولاه الحكام، إلا إذا تقاصرت همم الحكام، فإنه يجب تغييرهم ليتولى من يقيم حدود الله، وينفذ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
1357
والأمر الثاني الذي يجب التنبيه إليه أنه ليست الخيرية مرادفة للقوة، فالخيرية هي أن يكون المجتمع فاضلا يقوم بحق العدل، وأن يكون كل شيء فيه بقسطاس مستقيم، وأن تسوده الأخلاق الكريمة والسلوك القويم، وأما القوة فالأمر فيها لسيطرة المادة والغلبة والاستعداد الحربي، وإنا نرى أقوى الأمم الآن أشدها انتهاكا لحرمات الفضيلة في داخلها وخارجها، ومن الأمم الضعيفة ما يكون للفضيلة فيها موضع، وللأمانة فيها سلطان، وللحق فيها أنصار، ولا شك أنها أقرب إلى الخير من تلك الأمم القوية، وفي الجملة، إن القوة تستمد من المادة إذا انفصلت عن الفضيلة، والخيرية تستمد من الحق والعدل والفضائل الإنسانية، والمساواة بين بني الإنسان من غير عصبية جنسية أو إقليمية، وهما في عصرنا الحاضر متمايزان لسيطرة المادة على الأقوياء، وفقدانهم قوة الإيمان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقد قلنا: إن الإيمان بالله يقتضي الإيمان بكل رسول إذا قامت الأدلة على رسالته؛ ولذا نفَى الله سبحانه وتعالى الإيمان عن بعض أهل الكتاب، فقال تعالت كلماته:
(وَلَوْآمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم) و " لو " هنا هي التي يقول عنها علماء النحو: إنها حرف امتناع لامتناع، أي امتنع الخير فيهم لأنفسهم لامتناع الإيمان الكامل، وقد ذكر نفي الإيمان عنهم مطلقا مع أنهم يقولون إنهم يؤمنون بالله، ويقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه، وذلك لأنهم إذ لم يذعنوا لأحكام الله تعالى وأوامره - وقد فسروها على حسب أهوائهم ومنازعهم العصبية والجنسية، واعتقادهم أنهم شعب الله المختار - قد فقدوا الإيمان، إذ الإيمان كل لَا يقبل التجزئة، فليس بمؤمن بالله من يكذب رسالة الله التي جاءت بها البينات، وقامت عليها الدلائل؛ وفي نفي الإيمان نفيا مطلقا ما يومئ إلى أن الذين يجعلون هواهم مسيرا لاعتقادهم وفكرهم لَا يؤمنون بحقيقة من الحقائق إلهية كانت أو إنسانية.
1358
وقد نفَى سبحانه عنهم الإيمان بأي شيء، ولذلك لم يكن ثمة حاجة بعد هذا إلى نفي القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن ذلك يقتضي الإيمان بالفضائل والمعاني الإنسانية، وهم لَا يؤمنون بشيء منها، وإن ذلك ليس خيرا لهم في شيء؛ لأنهم بذلك تنحل جماعتهم، وتتفرق وحدتهم، ونفي الإيمان عن أهل الكتاب ليس نفيا له عن الكل، بل هو نفي عن الأكثر؛ لذا قال سبحانه: (مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) المؤمن هو المذعن للحق إذا قامت بيناته أو دلت أماراته، وهو ينشأ عن استقامة القلب، والتزام الجادة، والاتجاه دائما إلى الطريق المستقيم بإخلاص ونزاهة نفس عن الهوى، ولذلك كان غير المؤمن خارجا عن الاستقامة، ولذا يسمى فاسقا، باعتباره خرج عن منهاج الاستقامة، وترك طريق الحق، وسلك سبل الشيطان، ويسمى كافرا باعتباره جحد الحق، وستر ينابيع الإدراك في نفسه، وناسب أن يذكر وصف الفسق بالنسبة لغير المؤمنين من أهل الكتاب، لأنهم خرجوا عن منهاج الكتاب المنزل، وفسقوا عن أمر ربهم وتركوه وراءهم ظهريا.
وإن منهاج القرآن هو العدالة في الحكم دائما، ولذا لم يصفهم كلهم بالفسق وإن كان قد عمهم، بلِ وصف بعضهم وإن كان الأكثر، ومثل ذلك قوله تعالى:
(مِنْهُمْ أُمَّةٌ مقْتَصِدَةٌ وكثيرٌ منْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ)، ولكن من هم المؤمنون ومن هم الفاسقون؛ سنبين ذلك في تفسير الآيات الآتية، والله سبحانه وتعالى هو وحده العليم بالصواب.
* * *
(لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (١١١) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ
1359
بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢)
* * *
بين الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة منزلة المؤمنين من غيرهم إذا أخذوا بأحكام الإسلام واهتدوا بهديه، وكوَّنوا منهم جماعة فاضلة تؤمن بالله تعالى حق الإيمان، وتذعن لشريعته حق الإذعان، وتتواصى بينها بالحق والصبر، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وبين أن ذلك هو عصام الأمة وجامع وحدتها، والرابط بينها بأرسان (١) من الهداية الربانية، فيستتر الشر ويختفي، ويظهر الخير وينكشف، وإن تلك المنزلة جعلها الله تعالى خير المنازل، وبين سبحانه أن أهل الكتاب الذين عادوا المسلمين، وهم يعلمون أنهم أهل الحق وأهل الإيمان لو آمنوا بما أنزل على الذين آمنوا لكان خيرا لهم، ولكن آثروا مجافاة الحق على اتباعه، وعداوة أهل الإيمان على موادتهم، ولقد بين سبحانه من بعد أن عداوتهم - لَا تضر المؤمنين ضررا بليغا له أثر، ما دام أهل الإيمان مستمسكين بما رفع منازلهم وأعلى درجاتهم، ولذا قال تعالى:
________
(١) جمع رسن، وهو الحبل. وقد سبق.
1360
(لَن يَضُرُّوكمْ إِلَّا أَذًى):
في هذا النص الكريم بيان أن الذين أوتوا الكتاب، ثم كفروا به وبالبينات لما جاءتهم، لن يضروا المؤمنين ضررا يبقى أثرا في جماعتهم، ويؤثر في قوتهم، وإن وقع منهم أذى؛ وذلك لأن الضرر قسمان: ضرر يترك أثرا في الأمة، فيضعف قوتها، ويوهن أمرها. وضرر لَا أثر له: كالأذى بالقول أو الفتنة في الدين تتناول الآحاد، أو محاولة التأثير في ضعاف الإيمان، أو محاولة بث روح النفاق بين الجماعة من غير أن يعم ويشيع، وقد نفى الله سبحانه وتعالى النوع الأول من الضرر نفيا مؤكدا بلفظ (لَن) فإنها تدل على تأكيد النفي باتفاق علماء اللغة، وقال الزمخشري وطائفة كبيرة من اللغويين: إنها تدل على تأبيد النفي وعلى ذلك يكون الاسعتثناء متصلا، ولا يكون منقطعا، لأن الأذى مهما ضؤل نوع من الضرر، وإن لم يبق أثرا.
1360
وإن الشرط في نفي الضرر الذي يؤثر في الجماعة الإسلامية أن تكون مؤمنة بالله حق الإيمان آخذة بتعاليمه مهتدية بهديه، وأن يسودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو خاصتها، ورباط وحدتها، وإلا فإن الضرر البالغ يصيبها؛ لأنها فقدت مشخصاتها ومكوناتها.
ولقد بين سبحانه بعد ذلك حال أولئك الكفار من اليهود والنصارى مع المؤمنين الصادقي الإيمان:
(وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ) هذه الحال التي ذكرها الله سبحانه تفصيل لبيان ما تضمنته الجملة السامية من قبل، فإنها تضمنت أن هؤلاء لا يمكن أن يصيبوا المسلمين بضرر بليغ يبقى له أثر، وإنه من تفصيل بعض ذلك أنهم ينهزمون في قتال المسلمين، ومعنى قوله تعالى: (وَإِن يقَاتِلُوكُمْ يوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ) أنهم إن قاتلوا ينهزمون، وعبر عن انهزامهم بتوليهم الأدبار، لأن من ينهزم في ميدان القتال لَا يقابل عدوه بوجهه، ولكنه يطلب النجاة بالفرار، ولسان حاله يقول: النجاء النجاء، والتعبير عن الهزيمة بتوليتهم الأدبار؛ فيه إشارة إلى جبنهم، وأنهم يفرون فرارا أمام خصومهم، وكذلك كان الشأن في قتال المسلمين الأولين للكفار اليهود والنصارى، فقد قاتل المؤمنون بني النضير وبني قريظة ويهود خيبر وغيرهم، وكانوا يفرون فرارا، وقد كتب الله على بعضهم الجلاء، وعلى بعضهم الفناء، وعلى بعضهم البقاء في ذلة، وكذلك كان الشأن مع النصارى بالشام ومصر.
وقد ذكر سبحانه وتعالى أنهم مع انهزامهم في القتال لَا يمكن أن ينتصروا على المؤمنين ما دام المؤمنون على الشرط الذي ذكرناه، ولذا قال سبحانه وتعالى مخبرا: (ثُمَّ لَا ينصَرُونَ) أي أنهم لَا يمكن أن ينصروا أبدا، وهذه الجملة خبرية ليس لها صلة لفظية بالجملة الشرطية، فليست معطوفة على جواب الشرط، فهي إخبار عن نفي الانتصار غير مرتبط بكونه في قتال أو غير قتال، ولقد وضح الزمخشري في الكشاف هذا المعنى أكمل توضيح، فقال: (فإن قلت: هلا جزم
1361
المعطوف في قوله (ثُمَّ لَا يُنصرُونَ)؟ (قلت) عدل به عن حكم الجزاء إلى حكم الإخبار ابتداء، كأنه قيل ثم أخبركم أنهم لَا ينصرون، فإن قلت: فأي فرق بين رفعه وجزمه في المعنى؟ (قلت) لو جزم لكان نفي النصر مقيدا بقتالهم كتولية الأدبار، فحين رفع كان نفي النصر وعدا مطلقا، كأنه قال: ثم شأنهم وقصتهم التي أخبركم عنها وأبشركم بها بعد التولية أنهم مخذولون منتفٍ عنهم النصر والقوة، لَا ينهضون بعدها بجناح، ولا يستقيم لهم أمر، وكان كما أخبر حال بني قريظة، وبني النضير، وبني قينقاع، ويهود خيبر).
وكان العطف الخبري بـ " ثم " على مضمون الجملة الشرطية كلها، وكان التراخي لتقرير عدم النصر، إذ إنّ عدم النصر المطلق الذي يكون بالقتال وغيره ينشأ من توالي الانهزام، إذ إن توالي الانهزام يلقى في قلوبهم بروح اليأس فلا تكون لهم من بعد ذلك نصرة في أية ناحية من النواحي.
ذلك خبر الله تعالى، وخبر الله تعالى صادق إلى يوم القيامة، ولكن الذي نراه منذ قرون هو انهزام المسلمين، وتوالي انتصار النصارى من أهل الكتاب، بل إن بلية البلايا أن ينتصر اليهود، فهل أخلف الله وعده؟! كلا، ما أخلف الله موعدا، وإن وعد الله لحق، وخبره صادق، ولكن الذي تغير هو حال المسلمين، فقد اشترطنا لتحقق نصر الله أن يكونوا مؤمنين بالله حق الإيمان، مذعنين لأحكامه حق الإذعان، متعاونين فيما بينهم، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فعندئذ يكونون أنصار الله تعالى: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ).
فهل كان المسلمون على هذا الشرط عندما انهزموا؛ لقد تغيرت حالهم، فلم يذعنوا لأحكام الله تعالى، ونقص إيمانهم به، ولم يتواصوا بالحق والصبر، ولم يعودوا أشداء على الكفار رحماء بينهم، بل صار بأسهم بينهم شديدا، وأخذ يأكل بعضهم بعضا، وبذلك تغيرت حالهم فغير الله تعالى بهم، كما قال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (١١).
ولئن عادوا إلى الإيمان
1362
والإذعان والتعاون والتواصي بالحق ليعودن النصر، فإنه وعد الله تعالى، والله لا يخلف الميعاد.
ولقد بين سبحانه حال الذين كذبوا بآيات الله تعالى، ولم يذعنوا للحق بعد خذلانهم في كل مجال:
* * *
1363
(ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ... (١١٢)
* * *
أي أحاطت بهم الذلة كما يحيط السرادق بمن فيه، وكما تحيط القبة بما في داخلها، فهم في نشاطهم وحركتهم في ذلة، لَا ينتقلون من ذل إلا إلى ذل، و (أَيْنَ مَا ثُقِفُوا) معناها أينما وجدوا جماعات ووحدانًا، فجماعاتهم في ذلة، وآحادهم في جبن، ذلك بأنهم فقدوا الإيمان بالله، والاعتزاز بعزته، فاعتمدوا على عزة من الناس، ومن اعتمد على أن يستمد عزته من غير الله فهو الذليل، فأولئك الذين فقدوا الإذعان لأحكام الله تعالى قد استعانوا بغير الله فحقت عليهم كلمة الذلة.
ولقد استثنى سبحانه حالا يرتفعون فيها من الذلة فقال تعالى: (إِلَّا بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ منَ النَّاسِ). والحبل معناه في أصل اللغة ما يربط بين شيئين، ويطلق على العهد، وقد فسره جمهور المفسرين هنا بهذا المعنى وهو العهد، فالمعنى لا ترفع الذلة عن هؤلاء اليهود إلا بعهد من الله تعالى وعهد من الناس، وذلك العهد هو عقد الجزية الذي يربط بينهم وبين المسلمين، فهو حبل من الله تعالى يصلهم بأهل الإيمان إذ هي بأمر الله تعالى، والوفاء بها وفاء بعهد الله ورسوله، إذ يقول سبحانه: (وَأَوْفُوا بِعَهْد اللَّه إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كفِيلًا...). والجزية أيضا حبل يربطهم بالمؤمنين؛ إذ يكونون بهذا العهد بين المسلمين، ترعى حقوقهم وتحفظ أموالهم ودماؤهم، ويكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم.
وهذا تفسير حسن، وهو مشتق من قواعد الإسلام ذاتها وأحكامه المقررة الثابتة، ولكن يلاحظ أن الله سبحانه قرر في الاستثناء أن حبل العزة هو حبل من الناس، ولم يذكر أنه حبل من المؤمنين، إذ يقول سبحانه: (إِلَّا بِحَبْل مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ
1363
مِّنَ النَّاسِ). ولذلك يصح أن يفسره بما هو أعم من الجزية، فإن حبل الناس أوسع من معنى الجزية، وإن ذلك يفسره بعض الوقائع التي تجري في العصور الأخيرة، فقد كانت لهم عزة وقتية بسبب اتصالهم ببعض الناس، وتخاذل المسلمين عن الأخذ بحكم الكتاب والسنة والهدْي الإسلامي، ولكنه على كل حال استثناء؛ لأن الله ضرب عليهم الذلة، وإنه ليرجى أن يعود الإسلام كما بدأ في قلوب أهله، فيتحقق وعد الله لهم، إذا تحققت أسبابه.
(وَبَاءُوا بِغَضَب مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ) أصل معنى " باء، ساوى، فيقال باء فلان بدم فلان، أي: ذهب وساواه، ومن ذلك ما جاء في بعض أقاصيص العرب على لسان المهلهل أخي كليب: " بُؤْ بشسع نعل كليب " أي أنه لا يساوي إلا هذا، ويطلق البواء بمعنى الإقامة، ومنه المباءة والبيئة أي شكل الإقامة، والمعنى الجملي أنهم قد صاروا في غضب، ويعتبر هذا مباءتهم التي باءوا بها والتي هم يستحقون، وقد ضربت عليهم المسكنة، أي أحاطت بهم واستولت عليهم، والمسكنة ضعف نفسي، وصغار ينال القلب، فيستصغر الشخص نفسه، ويحس بهوانها مهما تكن لديه أسباب القوة متوافرة متضافرة، والفرق بينها وبين الذلة أن الذلة هوان تجيء أسبابه من الخارج بأن يكون بفرض من قوى، أو يكون نتيجة انهزام حربي، أما المسكنة فهي هوان ينشأ من النفس لعدم إيمانها بالحق، واتباعها للمادة، وإن توارث الذلة قرونا طويلة يورث هذه المسكنة، إن بواء اليهود والنصارى بغضب الله، وضرب المسكنة عليهم، لَا استثناء فيه، بل هو أمر مستمر إلى يوم القيامة ما داموا على حالهم، ولا يغرنك ما عند النصارى وتقلبهم في البلاد، بل انظر إليهم إن أصابت فريقا منهم هزيمة فإنهم يخرون للأذقان يبكون صاغرين، مما يدل على أن المسكنة في طبيعتهم؛ إذ عزة الحق قد فارقتهم. ثم ذكر سبحانه وتعالى السبب في استحقاق أهل الكتاب ذلك فقال تعالت كلماته:
(ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) الإشارة إلى هزيمتهم المستمرة، وأنهم لَا يمكن أن ينتصروا، وأن الذلة ضربت عليهم إلا بحبل
1364
من الله وحبل من الناس، وأنهم في غضب من الله، وأن المسكنة قد ضربت عليهم إلى يوم القيامة، فالصغار ملازمهم، لَا يفارقهم أبدا، لأن الصغار والإيمان بالباطل متلازمان لَا يفترقان. وقد ذكر سبحانه أن السبب في كل هذا أنهم كانوا يكفرون بآيات الله أي بأمارات الحق وأدلته التي يقيمها الله سبحانه وتعالى عليهم في كتبه وخلقه وعلى ألسنة رسله، وأنهم لَا يكتفون بجحود الحق بعد قيام البينات عليه، بل يعتدون على الداعي إليه، فيقتلون الرسل الذين ينادون به، ويجاهدون دونه، ولقد قال سبحانه وتعالى: (وَيَقْتلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) والحكمة في ذكر هذا أنهم لم يكونوا في اعتدائهم لهم أية شبهة حق، ولذا نكر كلمة حق، وقد بينا هذا من قبل، ولماذا كان ذلك الكفر، وهذا الجحود المستمكن الذي يدفع إلى قتل الداعي إلى الحق؛ ذكر سبحانه ذلك بقوله: (ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ): أي أن الذي أورث في قلوبهم الجحود بالحق، والتمادي في الباطل، هو ارتكاسهم في المعاصي، وتعودهم الاعتداء على الناس، فإن المعاصي تنكت نكتا سوداء في القلب، فإذا استمر الشخص عليها وضعت عليه أغلفة من الظلمة تمنع أن يصل الحق إليه، فعمى القلب عن الحق وصم، ولذا قال تعالى: (مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا...)، وقانا الله شر المعاصي، وجعل قلوبنا تشرق بنور حكمته، ووفقنا لقصد السبيل، وجنبنا جائره، إنه سميع الدعاء.
* * *
(لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥)
* * *
1365
هذا من إنصاف القرآن، فهو لَا يعمم حكمه إلا حيث يكون التعميم هو الحق الذي لَا شك فيه، وإن كان في قوم من هم جديرون بالثناء ذَكَرهم، وكذلك كان الشأن في ذكر أهل الكتاب، فيقول: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بقنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا...).
ويقول سبحانه: (وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وبِهِ يَعْدِلُونَ).
وفي هذه الآية يذكر بالخير العظيم طائفة من هؤلاء فيقول الحكم العدل تعالت كلماته:
1366
(لَيْسُوا سَوَاءً).
أي ليسوا متساوين في هذه الأعمال وتلك الأخلاق، أو ليسوا متساوين مطلقا، فليسوا جميعا أشرارا. وإن الله سبحانه وتعالى لم يخلق طائفة كبيرة من الناس اجتمعت على الشر اجتماعا مطلقا، بحيث يرتضيه الجميع ويقصدونه ويريدونه ويبتغونه عامدين مريدين معتدين، بل إن منهم الضال، ومنهم المضل، ومنهم الناطق بالحق الذي لَا يجد داعيا، أو يحمل على السكوت في وسط نكران الضالين، ففي وسط طغيان فرعون، وانقماع قومه في إرادته، وجد مؤمن آل فرعون، ينطق فيهم قائلا كما حكى الله تعالى عنه: (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (٢٩).
وبعد أن ذكر سبحانه أنهم ليسوا سواء، وقد ذكر أحوال أشرارهم، أخذ يبين أحوال أخيارهم.
(مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ) أي من أهل الكتاب الذين ذكرنا أوصاف الكثرة منهم - طائفة تُؤم وتُقصد موجودة حاضرة ليست ماضية خالية، فمعنى قائمة على هذا موجودة، وفسر الزمخشري
1366
كلمة قائمة بمعنى مستقيمة على العدل والحق، مأخوذة من قولهم أقمت العود فقام واستقام. وقد ذكر سبحانه وتعالى في هذا الجزء من الآية الكريمة وصفين اثنين: أنهم يتلون آيات الله، والثاني أنهم يسجدون، ومعنى يسجدون أي يخضعون ويتطامنون للحق ولا يجحدون، ويتجهون إلى ربهم. يرجون رضاه، ولا يستكبرون عن نداء الحق إذا دعوا، فكنى بالسجود عن الخضوع المطلق الذي يعد السجود مظهره، ويصح أن يراد به السجود الذي يقع في صلاة المسلمين على ما سنبين، وقد ذكر ذلك الوصف مصدَّرًا بـ " هم " إذ يقول: وهم يسجدون، فلم يقل ويسجدون؛ للإشارة إلى أن الخضوع والإذعان للحق شأن من شئونهم، وليس حالا تعرض لهم، إذ إن ذكر الضمير فيه تقوية الإسناد وتوثيق لدوامه واستمراره.
وما هو الكتاب الذي يتلونه كما أشار الوصف الأول؟ إن الجواب عن هذا السؤال يستدعي بيان مَنْ هذه الطائفة التي استحقت تلك الأوصاف الجليلة التي وصفها الله تعالى بها، ونقول في ذلك: إن العلماء قد اختلفوا في ذلك على رأيين:
أحدهما: أنها طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالله - تعالى - وبرسوله محمد - ﷺ - وأذعنوا للحق الذي جاء به ودعا إليه، ومن هؤلاء عبد الله بن سلام وطائفة من اليهود الذين كانوا يقيمون مع النبي - ﷺ -، وهو ينطبق على النصارى وغيرهم الذين يهتدون بهدْي الإسلام، ويرتضونه عن بيّنة دينا لهم، وقد قال النبي - ﷺ - فيهم وفي أمثالهم ممن يكونون في قابل الأيام: " ثلاثة لهم أجران: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد، والعبد المملوك إذا أدى حق الله وحق مواليه، ورجل كانت عنده أمَة فأدبها وأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها فله أجران " (١) وعلى هذا الرأي يكون تفسير قائمة بمعنى موجودة؛ لأنها قد وجدت حقيقة، وارتضت الإسلام دينا.
________
(١) متفق عليه، وقد سبق تخريجه.
1367
الرأي الثاني أن هذه الطائفة من أهل الكتاب ولم تعتنق الإسلام، وكانت قبله أو بعده ولم تبلغها الدعوة على وجهها، ولم تحرف التوراة أو الإنجيل أو لم تأخذ بالمحرف منهما، وقد أثر ذلك الرأي عن بعض السلف، فقد روي عن ابن عباس أنه قال في معنى أمة قائمة: " أمة مهتدية قائمة على أمر الله لم تنزع عنه وتتركه كما تركه الآخرون وضيعوه " وروي عن قتادة أنه كان يقول في الآية: " ليس كل القوم هلك، لقد كان فيهم بقية ".
ويكون معنى (قَائِمَةٌ) على هذا التفسير بمعنى مستقيمة مهتدية مؤمنة بالحق مذعنة له.
وقد اختار التفسير الثاني الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده فيما نقله عنه صاحب المنار، فيقول: (وظاهر أن هذا كالذي قبله في أهل الكتاب حال كونهم على دينهم).
وآيات الكتاب التي يتلونها على ذلك هي البقية الصحيحة من كتبهم التي تشتمل على أدعية كلها توحيد وضراعة ونحو ذلك من أمثال بعض مزامير داوود، مثل ما جاء في المزمور الخامس والعشرين: (إليك يا رب أرفع نفسي، عليك توكلت، فلا تدعني أَخْزَى، لَا تشمت بي أعدائي، كل منتظريك لَا يخزون، ليخز الغادرون بلا سبب، طرقك يا رب عرفني، سبلك علمني، وربني في حقك وعلمني). وأمثال هذه الأدعية والمناجاة لعلها البقية الباقية من تلك الكتب التي حرف فيها الكلم عن مواضعه.
وعندي أن الآية الكريمة في أهل الكتاب الماضين الذين استقاموا على الحق، ولم يدركوا عصر النبي - ﷺ -، وذلك لأن القرآن الكريم تكلم عن ماضي أهل الكتاب وحاضرهم، فحاضرهم كان سوءا، وذكر ما ضيهم فبين أن بعضه كان سوءا وكان منهم أمة مقتصدة، فهذه الأوصاف في الأمة المقتصدة التي مضت، ويصح أن تطلق على المخلصين من أهل الكتاب الذين لم يبلغوا دعوة الإسلام، وكان فيهم إخلاص للحق وطلب له وإجابة لداعيه إن دعوا إليه، ويكونون داخلين بالقياس على الماضين.
1368
وقد ذكر سبحانه أوصافهم فقال تعالت كلماته:
* * *
1369
(يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ... (١١٤)
* * *
هذا النص الكريم فيه بيان حال من أحوالهم، وهي الحال الدائمة المستمرة التي جعلتهم مستقيمين على الحق مهتدين بهديه، فإن الإيمان بالله تعالى حق الإيمان يجعل المؤمن يذعن للحق، ويخلص في كل ما يطلب، ولا يحب الشيء إلا لله، ويكون الله تعالى سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، فلا يكون منه إلا ما يكون للحق جل جلاله، وتكون كل مشاعره وأهوائه تبعاً لأوامر الله تعالى ونواهيه. هذا هو الإيمان بالله، أما الإيمان باليوم الآخر، فإنه يعرف به حقيقة هذه الدنيا، وأنها لعب ولهو، وزينة وتفاخر، وأنه في هذه الحياة الآخرة يلقى الله سبحانه وتعالى، وأنه إذ يلقاه يجد كل ما عمل من خير محضرا، وما عمل من شر يود لو أن بينه وبينه أمدا بعيدا، وإذا عمل حساب ذلك اللقاء ما أقدم على شر إلا مضطرا أو لماما.
(وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) هذا هو العمل الذي يفيضون به على غيرهم، ويشعرون بأن عليهم حقا بالنسبة للحق الذي أدركوه، وهو أن يتواصوا بالحق، ويتناهوا عن الباطل، ويأمروا بالمعروف الذي تقره العقول، ولا تنكره الفطرة المستقيمة، فإن المؤمن المذعن للحق يدعو إليه، ولا يسكت على باطل ولا يرتضيه، وتلك صفة أهل الخير من أهل الكتاب، وعلى عكس ذلك أهل الشر، فإنهم كانوا لَا يتناهون عن منكر فعلوه. ولذا قال تعالى في أهل الشر منهم: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩).
(وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ) هذه حال من أحوالهم المستمرة، وهي أنهم في خير مستمر، لَا يجدون لحظة إلا يقومون فيها بخير، ولا تلوح لهم فرصة خير إلا يقدمون عليها.
1369
ولقد ذكر بعض العلماء هنا وجه البلاغة في التعبير بـ (في) دون (إلى) إذ كان مقتضى الظاهر أن يقال يسارعون إلى الخيرات، ولكنه سبحانه وتعالى قال: يسارعون في الخيرات، للإشارة إلى أن هؤلاء يسيرون في كل أعمالهم في سبيل الخير، فهم ينتقلون من خير إلى خير، في دائرة واحدة هي دائرة الخير، ينتقلون بين زواياها وأقطارها، ولا يخرجون منها، فهم لَا ينتقلون مسارعين من شر إلى خير، بل إنهم ينتقلون من خير إلى خير، فكان التعبير بـ " في " له موضعه من البيان.
(وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) الإشارة هنا إلى الموصوفين بالصفات السابقة، من تلاوة الكتاب في خشوع وخضوع وتعرف لمراميه ومعانيه، وإذعان لحقائقه ومغازيه، ومن خضوعهم المطلق لله سبحانه وتعالى، ومن إيمانهم حق الإيمان بالله تعالى، وتصديقهم لكل ما جاء عن الله تعالى ببيناته وأدلته، ورجائهم لليوم الآخر، وخوفهم من عذابه، وترقبهم في كل ما يعملون لحسابه، فهذه الأوصاف كلها سلكتهم في عداد الصالحين، ولم تجعلهم في زمرة الفاسقين الذين ذمهم الله سبحانه وتعالى: والصالحون الذين دخل هؤلاء في جماعتهم هم الذين صلحت أحوالهم واستقامت أمورهم، وفي التعبير بقوله تعالى: (مِنَ الصَّالِحِينَ) إشارة إلى أنهم بهذه المزايا، وتلك الصفات قد انسلخوا من عداد أهل الكتاب الذين ذمهم الله تعالى: وذكر أن أكثرهم فاسقون، فهم قد خرجوا من صفوف المذمومين إلى صفوف الممدوحين.
* * *
1370
(وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥)
* * *
في هذا النص الكريم بيان أن الله تعالى يحتسب ما يفعلون من خير، ويثيبهم عليه، و " ما " هنا شرطية، ولذا جزم الفعل بعدها، و " مِن " هنا تفيد العموم، أي: إن يفعلوا أي خير قليلا كان أو كثير فلن يحرموا ثوابه، وقد أكد احتسابه بـ " لن "، لأن النفي بـ " لن " يفيد التوكيد، و " كَفَرَ " بمعنى ستر، وهي لَا تتعدى إلى مفعولين، ولكن لتضمنها معنى " حرم " تعدت إلى مفعولين، ويقول في ذلك الزمخشري: " فإن قلت: لم عدى إلى مفعولين وشكر وكفر لَا يتعديان إلا إلى واحد، تقول: شكر النعمة وكفرها؟
1370
(قلت): ضمن معنى الحرمان فكأنه قيل فلن يحرموه، بمعنى فلن يحرموا جزاءه " وفى حذف هذا المضاف وهو الجزاء إشارة إلى أن الجزاء ثمرة الفعل دائما، وأن عمل العامل خيرا أو شرا يتضمن كسب الجزاء إن خيرا أو شرا، وذلك بالنسبة للثواب تَفَضّل من الله تعالى دائما.
وفى هذا النص الكريم إشارة إلى أن النية الطيبة في الخير مع سلامة العقيدة ونزاهة النفس تجعل العمل طيبا مرجو الثواب دائما، لأن الأساس دائما تقوى القلوب، ولذا قال تعالى في تذييل الآية: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمتَّقِينَ).
وفى هذا التذييل الكريم إشارات إلى أمور ثلاثة:
أولها: أن تقوى القلوب هي أساس لكل خير، وهي المجنب من كل شر.
والثاني: أن التقوى إذا كانت شأنا من شئون النفس، صار الشخص لا يوصف إلا بأنه من المتقين، وصار عمل الخير كسجية له من السجايا.
والثالث: أن الله عليم بكل ما تخفيه القلوب وهو يجزي بما يعلم، اللهم وفقنا لتقواك، وأنِرْ بصيرتنا، وطهر قلوبنا من رجس الهوى، إنك سميع الدعاء.
* * *
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (١١٦) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٧)
* * *
بعد أن بين سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أعمال الكافرين، أشار إلى مبعث جحودهم، وهو اغترارهم بأموالهم وأولادهم، واعتزازهم بما يملكون من
1371
حطام الدنيا وما فيها، وقد أشار إلى هذه الأموال وأولئك الأولاد ببيان أنها لن تغني عنهم من الله شيئا، ولذا قال سبحانه:
1372
(إِنَّ الذِينَ كَفَرُوا لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا).
يقال: أغناه عن هذا الأمرِ فلان أي كفاه، ومن ذلك قوله تعالى: (مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (٢٩)، وقوله تعالى: (مَا أَغْنى عَنْهم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ)، وقوله تعالى: (لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعتُهُمْ شَيْئَا...).
وهي في كل هذا بمعنى لَا يكفي عنه، وهي هنا من هذا الاستعمال، فمعنى قوله تعالى: (لَن تغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا) لن تكفي عنهم بدل الله شيئا من الغَنَاء، فمن هنا هي التي تستعمل بمعنى بدل، والغناء يتضمن هنا أمرين: أحدهما سد الحاجة، والثاني دفع الأذى، وإن الله سبحانه وتعالى قد قرر أن هؤلاء الكفار لن تدفع عنهم أموالهم أذى، ولن تسد عنهم حاجة قط، في وقت هم في أشد الحاجة إلى معونة، وقرر ذلك بصيغة التأكيد، وذلك بالتعبير بـ " لن " لأن " لن " تفيد تأكيد النفي.
وإن أولئك الكفار ما كانوا يعتزون إلا بالمال والولد، فهذا قائلهم يقول: (أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا). ولقد كانوا يربطون بين المال وكل المعاني السامية، فكانوا يظنون أن كل الخير وكل الفضائل للأغنياء، وكل الرذائل للفقراء، فلا يتصور من الأغنياء إلا الخير، ولا يتصور من الفقراء إلا الشر، ولقد أخذ منهم العجب عندما أرسل الله محمداً - ﷺ - وهو فقير، فقد قال الله تعالى عنهم: (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢).
وفي هذا بيان خطا نظرهم، فالغنى والفقر لَا يتجاوز كل منهما أنه قسمة الله تعالى للمعايش في هذه الحياة، أما رفع الدرجات فأمر آخر ليس مرتبطا بالمال قلة أو كثرة، ويشير إلى أن الرفعة تكون للفقراء ليسخر الأغنياء منهم، فيزداد الأولون من الله قربا، ويزداد الآخرون من الله بعدا.
1372
وإن الله سبحانه إذ قد حكم بذلك، وهو أن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا، فقد أشار إلى أن السبب في ذلك كفرهم؛ لأن التعبير بالموصول يشير إلى أن سبب هذا الحكم هو الكفر. ولماذا اعتبر النص الكريم الكفر سببا لعدم غناء الأموال والأولاد، مع أن طبيعة هذا الوجود تجعلها غير مغنية مؤمنا أو كافرا؟ والجواب عن ذلك أن المؤمنين لَا يعتقدون أن أموالهم وأولادهم تغني عنهم من الله شيئا، فلم يكن ثمة حاجة للنفي بالنسبة لهم، وفوق ذلك فإن المؤمنين يتخذون من الأموال والأولاد سبيلا لرفع منار الحق وعزته، فهي تكفيهم بعض الكفاء، وإن كانت لَا تغنيهم عن الله تعالى، ولأن كلمة " تغني " في معناها دفع الأذى، والله سبحانه وتعالى منزل الأذى بالكافرين عقابا لجرائمهم ولشرورهم، وما تعرض المؤمن لهذا الأذى، فلا حاجة لهذا الدفع.
وفى ذلك النص السامي بحث لفظي، وهو تكرار النفي في قوله تعالى: (أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُم) فـ " لا " هنا تفيد ثلاثة أمور: أولها - مزيد تأكيد للنفي الثابت بـ " لن ". وثانيها - أن تكرار " لا " يفيد أنهم كانوا يعتزون بالأموال والأولاد مجتمعين ويعتزون بأحدهما منفردا، فنفَى سبحانه وتعالى الغناء عنهما مجتمعين ومنفردين أيضا. وثالثها - أن المال يكون قوة في مواضع، والولد يكون قوة في مواضع، فتكرار النفي يستبين أنه لَا قوة تدفع مقت الله وغضبه لَا من المال ولا من الولد. وقد بين سبحانه تبعد ذلك عذاب الله تعالى الواقع الذي ليس له من دافع، ولا يغني فيه المال ولا الولد، فقال تعالى: (وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ):
الإشارة هنا إلى الذين كفروا، ليس لهم أمام الله ولي ولا نصير، ولا عون ولا دفاع، فالله سبحانه وتعالى يحكم عليهم وهو خير الحاكمين بأنهم أصحاب النار الخالدون فيها. فمعنى المصاحبة هنا الملازمة الدائمة المستمرة، و " لعل " في هذا التعبير إشارة إلى أنهم بعد أن كانوا يصطحبون في الدنيا أموالهم مفاخرين بها وأولادهم مستنصرين بهم، يصاحبون بدلهم في الآخرة نار الله الموقدة، وعذابه الأليم، وبعد أن تركوا نعيما غير مقيم استقبلهم شقاء دائم مستمر.
1373
وقد أكد سبحانه وتعالى الحكم العادل بعدة تأكيدات منها التعبير بالإشارة المتضمن السلب من كل قوة كانوا يعتزون بها، ومنها ذكر مصاحبتهم للنار، ومنها بيان قصرهم على النار لَا يتجاوزونها، ومنها ذكر الضمير (هم) فهو لتأكيد الحكم.
وقد يقول قائل: لماذا لَا ينفعهم في الآخرة ما كانوا ينفقون من مالهم في الدنيا، وقد كان منهم جود وسخاء؛ بين الله سبحانه مغبة ذلك الإنفاق وعاقبته، فقال تعالت كلماته:
* * *
1374
(مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ... (١١٧)
* * *
وفي هذا التشبيه بّين سبحانه أن هذا الإنفاق ليس خالصا من الضرر في ذاته، فهو يحمل في ذاته ما يفسده ويجعله ضارا لَا نفْعَ فيه، وشرا لَا يمازجه خير، فقد شبه سبحانه إنفاقهم في هذه الحياة من حيث اشتماله على الضار، وعدم إثماره وإنتاجه، بالريح التي لا ترسل لواقح، ولا تكون نسيما عليلا تلقي في النفوس بالبشر والحبور، ولا تكون ريحا يحمل للزرع عوامل النماء إذ يكون فيها غذاء، بل يكون فيها ما يميت الزرع والضرع، وهي الريح التي يكون فيها صِرٌّ، والصر معناه البرد الشديد المميت للنبات، ومعنى اشتمالها على الصر وصفها به أي أنها ريح صر فهي ريح قارة باردة مهلكة مفنية وليست منمية مبقية، وهنا يرد سؤال: لماذا ذكر الصر على أنه في الريح وأنها مشتملة عليه، وهي له ظرف وهو مظروف؟ وقد أجاب الزمخشري عن ذلك بأنه ضرب من ضروب المبالغة، وبأن " صر " مصدر في أصله فجيء به على أصله، كما تقول: ثوب فيه جمال، والكلام بمعنى جميل، وقد خرج تخريجات أخرى ليست واضحة.
ونحن نرى أن التعبير بقوله تعالى: (فِيهَا صِرٌّ) يشير إلى أن الرياح فيها بطبيعتها رجاء، ولكنها اشتملت على ما يذهب بخيرها، وفي ذلك وصف من أوصاف من المشبه، وذلك لأن الإنفاق في ذاته قد يرجى منه النفع، ويظن فيه، ولكنه اشتمل في ذاته ما يذهب بخيره، ولا ينبت إلا باطلا، وذلك أنه بمقاصده
1374
التي لَا يقصد بها وجه الله ولا نفع الناس، ولكن يقصد التفاخر والتباهي والتنافر، والاستطالة على الناس بفضول القول، يذهب كل خيره، فالتعبير بقوله سبحانه: (فِيهَا صِرٌّ) فيه إيماء إلى أن الأذى والضرر الذي لابس المشبَّه وهو الإنفاق لم يكن من ذاته، ولكن من قلب المنفق ونينه، وغايته من الإنفاق، وإن هذا الإنفاق - كما قلنا وكما أشار النص القرآني الكريم - يحمل في ذاته موجب رده، وقد بيّن سبحانه أنه ضار مؤذ في الشطر الثاني من التشبيه، إذ قال سبحانه في وصف الريح: (أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْم ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَأهْلَكَتْهُ).
الحرث هو الزرع، وأصل كلمة " حرث " فَلْح الأرض وإلقاء البذر فيها، ثم أطلقت في مجاز مشهور على ما هو نتيجة ذلك وهو الزرع، وقد أطلق على كل موضع يكون فيه إنتاج ولو لم بكن أرضاً وزرعا، كما قال تعالى: (نِسَاؤكُمْ حَرْثٌ لكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُم...).
ومعنى التشبيه في جملته - كما دل على ذلك هذا النص الكريم والنص الذي سبقه - أن حال هذا الإنفاق الذي لم يقصد به وجه الله تعالى بل قصد به التفاخر وكسب الثناء وتحدث الناس بالعطاء، كمثل الريح التي تكون باردة بردا شديدا يتوقع منها الناس الخير لزرعهم، فتهلكه وتبيد خضراءه وتجعله حطاما، والجامع في هذا التشبيه بين المشبَّه والمشبه به هو أن كليهما كان يرجى خيره، ولكن بما لابسه من ضر وأذى صار مؤذيا.
وفى هذا التشبيه بيان أن الضرر لاحق بهم من هذا الإنفاق، ولاحق بالناس، لأنهم كانوا يعينون به على الشر، إذ كانوا ينفقونه في محاربة الرسول - ﷺ - وإيذاء المؤمنين؛ وهو سبب في استعلائهم واستكبارهم، ولو حرموا المال والإنفاق لكان خيراً لهم.
في النص القرآني إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى يعاقب بالريح من يظلمون أنفسهم بارتكاب المعاصي، فقال سبحانه: (أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنفُسَهُم فَأهْلَكَتْهُ)، فإن هذا النص السامي يومئ إلى أن الله تعالى يرسل في الدنيا عقابا
1375
على أموال الظالمين فيهلكها، ولو اتخذو لأسباب وما يجب اتخاذه من احتياط لحفظ الأموال، وإن ذلك التخريج لَا يوجد ما يمنع من قبوله، بل الإذعان له لأن تدبير العبد واحتياطه، لَا يمنع تقدير الرب وقضاءه، وإن الريح كانت سببا في نصرة النبي - ﷺ - في غزوة الأحزاب، فإن الله تعالى أرسل على المشركين ريحا ألقت الرعب في قلوبهم مع كمال العدة والعدد، وقال تعالى في ذلك: (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا). ولقد روي عن النبي - ﷺ - أنه قال: " نُصِرْتُ بالصَّبَا وَأُهْلكَتْ عَاد بِالدَّبور " (١).
وإذا كان ذلك ثابتا فلماذا نستبعد أن يعاقب بعض الظالممِن في الدنيا بإصابة حرثهم بريح، لفساد نياتهم، ولاستخدامهم المال في غير مواضعه، وإن الذين يستبعدون ذلك هم الذين يُفْرِطُون في الإيمان بالأسباب العملية، ولا يذعنون للأحكام القدرية، وإن الزرع بالذات ليس لأحد أن يدَّعِي أنه يستطيع حمايته من الرياح والآفات، مهما يتخذ من الاحتياط، فإن للأجواء أثرها، وللآفات الوبائية حكمها، ولا سبيل إلى التوقي الكامل منها.
وإذا كان الزرع وغيره مهما يتخذ من احتياط لحفظه لَا يتقي الريح والآفات، فإنه لَا يصح أن يكون ذلك نتيجة للمصادفة، فإن المصادفة بالنسبة لمداركنا، أما بالنسبة لأعمال الله تعالى فإن كل شيء عنده بمقادير، ومقصود بإرادته السرمدية، وهو يكون ثوابا أو عقابا أو إملاءً يُملي الله به للظالمين حتى حين، كما قال تعالى: (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كيْدِي مَتِينٌ)، وقد قال تعالى: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (١٢) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (١٣).
________
(١) رواه البخاري: الجمعة - قول النبي - ﷺ -: نصرت بالصبا (٩٧٧)، ومسلم: الاستسقاءَ في ريح الصبا وريح الدبور (٩٠٠). الصبا: ريح تهب من المشرق. والدبور: ريح تهب من المغرب.
1376
إذن فالأمر في الريح يصيب الله بها بعض الظالمين لظلمهم حق لَا ريب فيه، ولقد أخبر الله تعالى أن الظالم يسيء إلى نفسه دائما، فقال: (وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).
والضمير هنا يعود إلى الذين أُصيب حرثهُم بسبب ظلمهم، أي أن الله تعالى ما ظلمهم بالريح تصيبهم، إنما هم الذين ظلموا أنفسهم بفساد قلوبهم ونيتهم، واعتقادهم أنهم يستطيعون التحكم في القدر، وفي هذا إشارة إلى أولئك الذين أنفقوا في الإفساد للافتخار والخُيَلاء والاستكبار، في أن الله ما ظلمهم بإبطال إنفاقهم، إنما هم الذين ظلموا أنفسهم بأن تجنبوا إنفاق المال في الحلال بنية الحلال، بل أنفقوه في الحرام، وما أنفقوه في حلال إلا بنية الحرام.
وجوز الزمخشري أن يعود الضمير إلى الذين ينفقون في هذه الحياة، وهو ظاهر كل الظهور. ونضرع إلى الله أن يلهمنا الإنصاف في أقوالنا وأفعالنا، وأن يرزقنا صدق القول، والإخلاص في أعمالنا له، إنه سميع الدعاء.
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (١١٩) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (١٢٠)
* * *
1377
هذه الآية " وما وَلِيَها من آيات فيها عود إلى التحذير مما يريده أهل الكتاب والمنافقون من أهل الإيمان والإخلاص، فقد قال تعالى من قبل:
1378
(يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ).
وبين وجوب الاعتصام بحبل الله تعالى وهو كتابه تعالت كلماته، وعظمت آياته، لتتم الوحدة الإسلامية، ثم ذكر من بعد ذلك بعض أحوال أهل الكتاب، وما عساه قد يكون في بعضهم من خير، وما عليه سائرهم من شر، وفى هذه الآية يحذر تحذيرا شديدا من نوع آخر، فقد كان التحذير متجها إلى الحث على اليقظة الفكرية، حتى لَا يفسد أهل الكتاب على المؤمنين دينهم الذي ارتضوا، فبين أنه لَا يصح الاسترسال في إرضائهم، فإنه لَا يرضيهم من المؤمن إلا أن يخرج عن دينه ويطرحه وراءه ظهريا، وأن يسير وراء ركبهم، ولقد قال شأنه: (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ... ).
فالتحذير هنالك للخوف على العقيدة أن يفسدها هؤلاء، أما التحذير هنا فهو للخوف من أن يفسد أولئك المنافقون من أهل الكتاب الجماعة الإسلامية، وينشروا فيها الاضطراب، وألا يكون نظام قائم ثابت الدعائم، ولذا قال سبحانه:
(يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِن دُونِكُمْ) بطانة الرجل: خاصته الذين يعرفون خفايا أمره، ومكنون سره، ويستبطنون ما يخفى على غيرهم، فيعرفون موضع قوته وضعفه، ويتخذ منهم مستشاريه الذين يستشيرهم، ويستنصحهم إن احتاج إلى نصيحة، وأصل البطانة خلاف الظهارة، وتطلق على الثوب الخفي الذي يكون باطنا غير ظاهر، وقد استعير اللفظ للدلالة على الذين يختصون بالاطلاع على باطن أمر الشخص، وكأنه شبه الذين يختصون بشئون الشخص خفيها وظاهرها ببطانة الثوب التي تلاصق الجسم أو تقاربه، لقوة الاتصال في كل منهما، ولأن كليهما يمس ذاته وشخصه: بطانة الثوب تمسه حسا، وبطانة الرجل تمسه معنى، وكما أن الأولى أدرانها تكون أمكن في الأذى وتكون أسرع، كذلك الثانية تكون أمكن وأقوى تأثيرا وأسرع.
1378
ومعنى النص الكريم أنه لَا يجوز للمؤمنين أن يتخذوا مستشارين ونصحاء، يستبطنون أمورهم من دونهم أي من غيرهم، فمعنى " دونكم " هنا " غيركم " الذين لم يبلغوا ما أنتم فيه من قوة الإيمان والإخلاص للحق، ومثل ذلك قوله تعالى: (وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ...)، أي غيره الأقل منه.
وصدر النداء بوصف الإيمان للإشارة إلى أن مقتضى الإيمان ألا يستعينوا بأولئك الذين كفروا بآيات الله تعالى، وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم، فقضية إيمانكم وكفرهم توجب ألا تأمنوهم في خاصة أموركم، ولقد كان السلف الصالح يأخذون بذلك الهدى القرآني، فقد كان عمر رضي الله عنه ينهى عن اتخاذ الأعوان من أهل الكتاب وغيرهم، فقد قال رضي الله عنه: (لا تستعملوا أهل الكتاب، فإنهم يستحلون الرشا، واستعينوا على أموركم ورعيتكم بالذين يخشون الله تعالى) وقيل لعمر رضي الله عنه: إن ها هنا رجلا من نصارى الحيرة لا أحد أَكْتَبَ منه، ولا أخَطَّ بقلم، أفلا يكتب عنك؟ فقال الإمام النافذ البصيرة: (لا آخذ بطانة من دون المؤمنين).
وقد ذكر سبحانه الأوصاف والأحوال التي توجب الامتناع عن اتخاذ بطانة منهم، فذكر لهم أحوالا ثلاثة: أولها، وهي كافية في إبعادهم عن أسرار الدولة، وهي التي قال الله تعالى فيها: (لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا).
الخبال كالخبل: الاضطراب والفساد وهما متلازمان، فلا اضطراب إلا ومعه فساده ولا فساد إلا يترتب عليه اضطراب، فهما معنيان متقاربان ومتلازمان، ومعنى " يألو " بقصر في بذل الخير ويبذل الأذى غير مقصر ولا متوان، بل ينتهز الفرص، وهي تتعدى إلى مفعول واحد، وقد تتعدى إلى مفعولين إذا تضمنت معنى المنع، ومعنى قوله تعالى: (لا يَألونَكُمْ خَبَالًا) (لا يقصرون في جهد يبذلونه لضركم، ولا يمنعونكم خبالا واضطربا في الأمور)، أي لَا يمنعونكم باذلين الجهد في تحقيق مقصدهم ومرادهم فسادا واضطرابا في الأمور، ليفسدوا عليكم دينكم، ويقوضوا دعائم دولتكم، ويخضدوا شوكتكم، ويكون أمركم بوارا بالفتن التي يبثونها، والريب التي يثيرونها.
1379
ولقد صدق الله تعالى كلماته، فمن وقت أن صارت بطانة الملوك والأمراء من أهل الكتاب، وأمور المسلمين فوضى، تختفى الفوضى السياسية عندما يكون الأمير أو الملك قويا، ولكن تكون في بث أفكار فاسدة، وآراء تحل الوحدة، وقد كان أول من اتخذ كُتَّابا من أهل الكتاب معاوية بن أبي سفيان، وحسبك أن تعلم أنه في عهده انتشرت الإسرائيليات، والأفكار التي تثير الريب في الحقائق الإسلامية، وقد كان يوحنا الدمشقي كاتب عبد الملك بن مروان وأبوه الذي كان كاتبا لمعاوية يبثان الأفكار الفاسدة بين المسلمين، مثل ادعائهم عشق النبي - ﷺ - لزينب بنت جحش، ومثل إثارة الكلام في الطلاق الثلاث، بل الكلام في أصل الطلاق، وإثارتهم الكلام في أن الله متصف بصفة الكلام أو غير متصف، وأن القرآن قديم أو غير قديم، ومثل إثارتهم الكلام في الجبر والاختيار.
وبذلك كانوا يحلون الوحدة الفكرية، ليتسنى لهم من بعد حل القوة الإسلامية، كما ظهرت النتائج من بعد.
(وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ) هذا هو الوصف الثاني، أو الحال الثانية من أحوالهم، وهي سبب لإرادتهم البوار والفساد للمسلمين، فالأولى مظهر ونتيجة، والثانية باعث ودافع، فهم لَا يودُّون للمسلمين السعادة والرفاهية والخير والقوة بل يودون لهم الشقاء والتعس والأذى، وليس لعاقل أن يطلع خفايا أموره ويستنصح من لا يود له إلا الشر والأذى.
ومعنى قوله تعالى: (وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ) أي ودوا عنتكم وهلاككم، وإجهادكم وإنزال المشقة بكم، التي يترتب عليها تفريق جمعكم، وذهاب قوتكم. و " ما " في قوله تعالى: (وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ) هي ما المصدرية التي يسميها علماء النحو الموصول الحرفي، وهي تؤول هي وما بعدها بمصدر.
(قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) البغضاء: البغض الشديد المستمكن الثابت الذي لَا يتغير ولا يزول، فهي صفة ثابتة، وفرق بين البغض والبغضاء فالبغض حال تقبل الزوال، وأما البغضاء فهي كراهية يبعد
1380
زوالها، وهي على ذلك أخص من البغض المطلق، إذ هي بغض مقيد، وهي تظهر من عباراتهم وكلماتهم، كما قال تعالى: (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ...).
وليس معنى ذلك أن البغضاء لَا تبدو إلا في الأقوال، بل تظهر أيضا في الأفعال، ولكن عند الفحص الدقيق، والوزن الصحيح، وإن ما يظهر على اللسان هو طفح مما امتلأ به القلب، فهي فيض الإناء وما يسيح منه، وما في الإناء أكثر وأغزر، وهو المادة الوفيرة التي كان منها طفح الكيل، ولذلك قال تعالى: (وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) أَىْ ما يطوون في صدورهم وتنطوي عليه نفوسهم أكثر مما يظهر، إذ إن ما يظهر هو الجزء الذي انبثق من الوكاء، أو هو في الحقيقة الرشح الذي ظهر من المسام التي تخفى ما وراءها.
وهذا الوصف هو في الحقيقة توبيخ لأولئك الذين يأتمنونهم، وحالهم في البغضاء ظاهرة مكشوفة، غير مخفية ولا مستورة.
(قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ) ختم الله تعالى هذه الأحوال بهذا النص الكريم، ليدعوهم إلى التفكير فيما هم مقبلون عليه، وليدعوهم إلى الحذر وتخير خاصتهم وبطانتهم، وخصوصا الحكام منهم، فإن البطانة تكون خيرا إن حضت على الخير، وتكون شرا إن حرضت على الشر، والعميق النظر المدرك المتعقل فيما يفعل هو الذي يدرك الأخيار من الأشرار، ولقد قال النبي - ﷺ - فيما روى البخاري: " ما بعث الله من نبي، ولا استخلف من خليفة، إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالخير، وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر، وتحثه عليه، والمعصوم من عصمه الله " (١).
والآيات المراد بها تلك البينات التي ذكرها صفات وأحوالا لهؤلاء يعرفون بها، وقد بينها الله للحكام إن كانوا يدركون الأمور بعقولهم لَا بشهواتهم
________
(١) رواه البخاري: الأحكام - بطانة الإمام وأهل مشورته: البطانة: الدخلاء (٦٦٥٩)، كما رواه النسائي: البيعة - بطانة الإمام (٤١٣١)، وأحمد: مسند المكثرين (١٠٩١٤)، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
1381
وأهوائهم، فمعنى (إِن كنتُمْ تَعْقِلُونَ) تدركون الأمور بعقولكم، وإن ذلك لحق، فما رأيت حاكما يتخذ خاصته من غير المؤمنين إلا إذا كان ممن غلبت عليه شهواته وأردته ودولته أهواؤه، وما رأيت حاكما مسلما يتجنب هؤلاء إلا إذا كان ممن غلب عقله هواه، وممن جنبه الله الزلل في الحكم.
بعد هذا أخذ سبحانه يقابل بين إخلاص المؤمنين، وحقد الكافرين الذين يتخذ بعض المسلمين منهم بطانة فقاك:
1382
(هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ... (١١٩)
الإشارة إما أن تكون لعامة المؤمنين: من يتخذون بطانة من الكافرين، ومن لا يتخذون، ويكون المعنى ها أنتم أولاء أيها المؤمنون تحبونهم وترجون لهم الهداية والتوفيق، والخير والرشاد، وتؤمنون بالكتاب كله أي بالكتاب المنزل الذي يحوي شريعة الله تعالى التي لَا تتغير ولا تتبدل، فالكتاب هنا جنس للكتب المنزلة كلها، وهم لَا يحبونكم ولا يريدون الرشاد، واستمرار الهداية، بل يريدون إفساد أموركم.
وإما أن يكون الخطاب للذين يخطئون ويتخذون منهم خاصة وبطانة ويطلعونهم على سر الأمور، ويكون المعنى ها أنتم أيها الذين أخطأوا تحبونهم وتقربونهم وتجعلونهم خواص لكم وهم لَا يحبونكم، وأنتم أكمل إيمانا وأقوى يقينا، لأنكم تؤمنون بالكتاب المنزل كله، ففي ضمن إيمانكم التصديق بالصادق عندهم، وهم ناقصو الإيمان، فكيف تثقون بهم وهم منكرون جاحدون لما عندكم؟
ثم ذكر سبحانه حالا لهم تكشف عن كراهيتهم وبغضهم ونفاقهم، فقال سبحانه: (وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ).
هذا بيان لنفاقهم، ولا يمكن أن يكون في بطانة المؤمنين إلا المنافق منهم، سواء أكان من المنافقين الذين أعلنوا الإسلام في ظاهر أحوالهم وعامة شئونهم
1382
وأضمروا غيره، أم كان من الذين لم يدخلوا في ضمن المسلمين ظاهرا، إذ لا يمكن إلا أن يكون في قلبه حظ كبير من النفاق ما دام قد قبل أن يعمل خاصة وبطانة لمؤمن؛ لأنه لَا يمكن أن يصل إلى هذه المنزلة إلا إذا أَبْطن غير ما يظهر، إن لم يكن في شئون الاعتقاد ففي غيرها، فمن كان شأنه كذلك يكون منافقا لا محالة.
ويصح أن يكون المراد المنافقين الذين أضمروا الكفر وأظهروا الإسلام، ويكون هذا واضحا، ويؤيده قوله تعالى: (وَإِذَا لَقوكُمْ قَالُوا آمَنَّا) لأنهم يعلنون الإيمان، ولكن واضح أيضا أن قوله تعالى: (يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا). عامة تشمل المنافقين وغير المؤمنين، فكيف نذكر بعد ذلك أوصاف المنافقين فقط؟ والجواب عن ذلك أن النهي عام، وقد ذكر التعليل خاصا بالمنافقين، لأنهم الأقرب لئلا يعهد إليهم بخواص الأمور، إذ هم يعلنون الإسلام، ويبطنون غيره، فهم مظنة أن يخدع الحاكم فيهم، فدعاه القرآن الكريم إلى أن يتخير بطانته، وغيرهم لسان حالهم ينفر منهم إلا إذا كان الأمير أو الحاكم ممن لَا يحسنون الحكم ولا معرفة المصلحة.
وعلى النظر الأول، وهو أن يكون الكلام في قوله تعالى: (وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا) عاما لكل الكافرين يكون معنى: (قَالُوا آمَنَّا) أنهم يظهرون الرضا بحكم الإسلام والاطمئنان إليه، وأنهم يريدون قوة الدولة الإسلامية وعزتها، فليس الإيمان على حقيقته، بل معناه الرضا بقبول الحكم الإسلامي.
ولا شك أن التخريج الآخر أوضح وأبين ومعنى (وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) أن الحقد يأكلهم ولا يستطيعون إظهار الألم الشديد في حضرة المؤمنين، فيدخرون إظهاره حتى إذا خلوا أظهروه في أقسى مظاهره، وهي عض الأنامل من الغيظ، والأنامل قيل هي أطراف الأصابع، وقيل الأصابع نفسها، والمغيظ المحنق دائما يعض الأنامل، فهذا
1383
مظهر لأعلى درجات الغيظ، وإن لم يقع من بعض الناس بالفعل، ولذا قال الشاعر:
فأقتلُ أقوامًا لئاما أذلةً يعضون من غيظٍ رؤوسَ الأباهِم (١)
فهذا التعبير كناية عن بلوغ أقصى درجات الغيظ، وفي هذا إشارة إلى أن من يكون إحساسهم نحو المؤمنين كذلك لَا يصح أن يوثق بهم في مهامهم؛ لأنهم منافقون، والمنافق ليس جديرا بالثقة، ولأنهم لَا يسرهم من المؤمنين إلا أن يكونوا في خبال.
وإنهم ما داموا لَا يريدون إلا الشر بأهل الإيمان، فإنه يجب أن يستمروا على حالهم من الغيظ، لأن الخير فيما يغيظهم، ولذا قال سبحانه: (قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيم بِذَاتِ الصُّدُورِ).
الخطاب للنبي - ﷺ - ابتداء، ولكل مؤمن بالتبع له عليه الصلاة والسلام، وقوله (موتُوا بِغَيْظِكُمْ) ظاهره الأمر بالموت أو الدعاء بالموت، وحقيقته الدعوة إلى استمرارهم على غيظهم ما دام غيظهم سببه نجاح الإسلام ودعوته، وعموم هدايته وصلاح شأن المسلمين، فالأمر هنا طلب استمرارهم على غيظهم، فالمعنى استمروا على غيظكم، والاستمرار على الغيظ استمرار لسببه وهو نجاح الإسلام وقوته، وصيغة الأمر هنا للتهكم عليهم.
وقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدورِ) لإفادة أن ما يبيتونه للمسلمين يعلمه الله ويحاسبهم عليه ويعذبهم، فحالهم في الدنيا شر حال، وفي الآخرة العذاب الأليم، فلهم كمد الدنيا، وعذاب الآخرة، وقد جوز الزمخشري أن تكون تلك الجملة من مقول القول المأمور به في " قل " وأن تكون من قول الله تعالى، والمؤدى واحد، وهو أن الله عليم بالسرائر والضمائر، وفيها تطيب لنفوس النبي والذين آمنوا بأن الله تعالى ناصرهم وكاشف أمر أعدائهم إذا أطاعوا أوامره،
________
(١) الأباهم: جمع الإبهام.
1384
واجتنبوا نواهيه، ولم يجعلوا من أولئك الأعداء بطانة لهم، حتى لَا يمكنوهم من دخائل أمورهم، فيكون سر المسلمين مكشوفا، وأمر هؤلاء مستورا.
* * *
1385
(إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا... (١٢٠)
* * *
هذه صورة واضحة لأنهم لَا يحبون المؤمنين، ويغيظهم صلاح حال المؤمنين، وإمداد الله تعالى بالنصر لهم، والمعنى إن أنزل الله لكم نعما ونصرا وأمرا حسنا نافعًا في ذاته ويحسن في نظركم وينفعكم ساءهم ذلك، وأثار غيظهم وحسدهم، وإن نزلت بكم شديدة وأمر يسوء يفرحوا، وتستطار ألبابهم سرورا وحبورا، وقد عبر سبحانه وتعالى في جانب الحسنة بقوله: (إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ) وفي جانب السيئة بقوله: (وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا) للإشارة إلى تمكن الحقد والحسد في قلوبهم بحيث إن أي حسنة ولو مست ولم تغمر وتعم - تسؤهم؛ لأنهم يستكثرون كل خير للمؤمن مهما ضؤل كالشأن في كل الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، ولا يفرحون بالمصيبة التي تمس، فإنها لَا تشفي غيظهم بل لَا يفرحون إلا بالمصيبة التي تغمر وتعم وتستمر.
وإن هذا كله يدل على أنهم يكيدون للمؤمنين ويبالغون في الكيد لهم، وإن دفع هذا الكيد يستدعي الصبر والتقوى، ولذا قال سبحانه: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئً).
أي وإن تصبروا، فتضبطوا أنفسكم ولا تنساقوا في محبة من لَا يستحق المحبة، وتتحملوا مشاق التكليفات، وتقاوموا العداوة بمثلها، وتردوا اعتداءهم بمثله، وتتقوا الله تعالى، وتتقوا أذاهم، فلا تتخذوا منهم بطانة - إن فعلتم ذلك لا يضركم كيدهم وتدبيرهم السيئ شيئا من الضرر مطلقا، وإن لم تفعلوا ذلك فلم تأخذوا حذركم منهم، وسهلتم دخول الغفلة عليكم، ولم تضبطوا أنفسكم عن محبتهم، فإنهم يستمكنون منكم بكيدهم، ولا منجاة لكم من شرهم.
وقد قُرئ قوله تعالى: (لَا يَضُرُّكُمْ) بالضم على أن ذلك من قبيل التخلص من التقاء الساكنين بالضم، فإن الفعل مجزوم، فيفك الإدغام، ويتخلص
1385
من التقاء الساكنين بالضم أو الفتح، وقد قرئ بالفتح، كما قرئ (لَا يَضِرْكُمْ) من ضار يضير بمعنى ضر يضر.
(إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) ذَيَّلَ الله سبحانه الآية بهذا النص، ليطمئن
المؤمنين ويهدد الكافرين، فالمعنى: الله تعالى محيط بما يعملون إحاطة علم وإحاطة قدرة، وإحاطة العلم فيها بيان أنه لَا تخفى عليه خافية من كيدهم، وإحاطة القدرة مؤداها أنه محبط كل ما يدبرون (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ). هذه وصايا الله تعالى للنبي - ﷺ - وللمؤمنين بالنسبة لسياسة أمورهم مع مخالفيهم، يحترسون منهم، ولا يفرطون في الثقة بهم، فلا يتخذوا منهم بطانة وخاصة، وإلا كان الدمار والبوار والخبال، وهكذا نحن الآن، اللهم هيئ لنا من أمرنا رشدا.
* * *
(وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١) إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٢٢) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣)
* * *
في الآيات السابقة بين سبحانه وتعالى ما بيته أعداء المسلمين من خبال وأذى ينزلونه بهم إن اتخذوا منهم بطانة يلقون إليهم بالمودة ويكشفون سرائرهم لهم، وبين أن أولئك المنافقين تسوءهم مصلحة المؤمنين، وتسرهم مساءتهم، وأنه
1386
لا علاج إلا أن تحذروهم وتصبروا عليهم، وتتقوا الله تعالى، وتصونوا أنفسكم عن تمكينهم من الأذى، وفي هذه الآيات يشير سبحانه إلى بعض صنيعهم في شديدة للمسلمين، وكيف كانوا يبثون الشك والفوضى في نفوس المجاهدين، مما جعل بعضهم يفكر في أن يفشل ويعجز وتخور عزيمته، ولقد أشار سبحانه في ذلك إلى غزوة أحد وغزوة بدر، فقال سبحانه:
1387
(وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ) هذه الآية وما تليها نزلت في غزوة أحد، إذ خرج النبي - ﷺ - في السحر من السابع من شوال في السنة الثالثة من حجرة عائشة، وأخذ يصف المؤمنين للقتال، ويقف كل فريق منهم في موقفه، وقد جعل الرماة من وراء المقاتلين، وأمرهم بأن يكونوا وراء ظهور المقاتلين ينضحون عنهم بالنبل، وقال لأميرهم: " انضح الخيل عنا بالنبل لَا يأتونا من خلفنا، إن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك، لَا نؤتين من قبلك " وأمر الجيش كله ألا يتحرك إلا عندما يأذنه بالحركة، حتى إن أحد الأنصار استشرف للقتال وتمناه عندما رأى قريشا قد سرَّحت أفراسها وإبلها في زروع المسلمين، وقال: " أترعى زروع بني قيلة (يعني الأنصار) ولما تضارب ".
وهذا مؤدى قوله تعالى: (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ) ومعنى غدوت: أصبحت مبكرا مسارعا إلى تنظيم جيش المؤمنين جيش الله تعالى، والغدوة والغداة أول النهار، ويذكر الغدو والغداة أول النهار، ويذكر الغدو مقابلا بالآصال أي وقت العصر وقبل المغرب، ومن ذلك قوله تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (٣٦).
وقوبلت الغداة بالعشي، ويطلق الغدو على الذهاب ويكون مقابلا للرواح، ومن ذلك قوله تعالى في الرياح: (غذوّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ...)، وذلك لأن الذهاب عادة يكون في البكور، وتبوئ معناه تسهل وتنظم وتثبت، وأصله من البواء وهو مساواة الأجزإء في المكان، وبوأت له مكانا سويته، ومن ذلك قوله تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى موسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكمَا بِمِصْرَ بيُوتًا...).
1387
وعلى ذلك يكون معنى قوله تعالى: (تُبَؤِئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ) أي تسوي لهم بالتنظيم والترتيب مقاعد للقتال، فهي إذا تتضمن معنى التنظيم والتهيئة والاستعداد، ولقاء المشركين صفا واحدا، كأنهم بنيان مرصوص.
وهذا التنظيم إنما هو بيان مواقف القتال، وموضع كل فريق في الموقف الذي يقفه، ولكن النص السامي الكريم قال: (مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ) فعبر عن المواقف بالمقاعد للإشارة إلى وجوب الثبات والسكون، حتى لَا يتحركوا إلا بأمر من القائد الأعظم وهو النبي - ﷺ -. وقد كان الثبات سبب النصر في غزوة أحد، والهزيمة كان سببها عدم الاستمرار في البقاء في مواقفهم، ذلك أن الرماة عندما رأوا المؤمنين قد انقضوا بأمر النبي - ﷺ - على المشركين يقتلونهم ويزيلونهم عن مواقفهم، تركوا مواقفهم وذهبوا وراء المؤمنين يغنمون ويأخذون، فانقض عليهم من ورائهم فرسان المشركين، فتفرقوا، وهذا قوله تعالى:
(حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ...)، ومن هنا كانت إصابة
المسلمين في موقعة أحد.
(وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ذَيَّلَ الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بهذا النص السامي لبيان أنه تعالى مطلع على ما كان يجري بين المؤمنين وبين النبي - ﷺ - من مشاورات، وما استقر عليه رأى كثرتهم، ثم نزوله عليه الصلاة والسلام عند رأى الكثرة، ثم عدول الكثرة إلى رأى النبي - ﷺ -، ثم قول النبي لهم معتزما إمضاء ما قرروا أولا، وإن كان غير رأيه الذي مال إليه، ليعلمهم أن التردد ولو للصواب المحتمل ضرره أكثر من المضي ولو في الرأي المحتمل للخطأ، فإن صواب الحروب وخطأها، لَا يتبين، وإن التردد فيها يقتل، والمضاء فيها ينصر، وبين بهذا التذييل أيضا أن الله تعالى عليم بخفايا القلوب، فهو يعلم ما تهم به قلوب المؤمنين، وما توسوس به قلوب المنافقين، وما يبثونه من روح الذعر والهلع في نفوس المؤمنين، وبحديثهم مستجابا في قلوب ضعفاء الإيمان، وهم الذين قال القرآن عنهم: (فِي قُلُوبِهِم مَّرضٌ...).
1388
ولقد علم الله ما كان من المؤمنين والمنافقين من مناقشات عندما ساور المدينة المشركون في العام الثالث، وأرادوا أن يثأروا من الدماء التي أصابتهم في بدر، فقد جمع النبي - ﷺ - أصحابه ليستشيرهم في الأمر، أيخرجون إليهم، أم يبقون حتى يجيء العدو إليهم في الديار، فقال بعض المؤمنين: (أقم يا رسول الله بالمدينة، ولا تخرج إليهم، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه، فكيف وأنت فينا؟ فدعهم فإن أقاموا أقاموا بشر محبس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة، وإن رجعوا رجعوا خائبين). وعارض ذلك الرأي الأكثرون ممن لم يحضروا بدرا فقالوا: (اخرج بنا يا رسول الله إلى هؤلاء الأكْلُب لَا يرون أنَا قد جَبُنَا عنهم). وما زال لم ولئك الذين لم يحضروا بدرا بالرسول حتى نزل عند رأيهم، وقد كان إلى الأول أميل.
وتركهم وعاد إلى أهله ليلبس لأْمَةَ الحرب، فتلاوم المسلمون فيما بينهم، وقال قائلهم: بئسما صنعنا، نشير على رسول الله - ﷺ - والوحي يأتيه؛ فلما جاء إليهم الرسول قالوا: اصنع يا رسول الله ما رأيت، فقال الرسول - ﷺ - ذو العزم: " ما كان لنبي لبس لأْمَتَه أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه " (١).
وقد خرج رسول الله - ﷺ - في ألف من أصحابه، وكان عدد المشركين ثلاثة آلاف، وكان مع المسلمين طائفة من المنافقين، على رأسهم عبد الله بن أبي ابن سلول، فرأى أن يحدث الخلل في الصفوف فرجع ومعه نحو ثلاثمائة ممن على شاكلته وضعاف الإيمان، وبرز تخاذله بأنه كان يرى ألا يخرج إليهم المؤمنون وأن يبقوا بالمدينة، ومنهم من زعم أنه لَا قتال، وقالوا: (لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَّاتَّبَعْنَاكُمْ...)،
________
(١) جاء في البخاري في ترجمة " بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى (وَأمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ). وأحمد: باقي مسند المكثرين (١٤٢٦٠).
1389
وقد ظهرت عداوة المنافقين، وبرزت نياتهم، وتكشفت سرائرهم، حتى إن أعمى منهم قد مر النبي في بعض أصحابه بحائطه (أي بستانه) فأخذ يحثو التراب في وجوههم، ويقول وقد أخذ حفنة بيده: لو أني أعلم أني لَا أصيب بها غيرك يا محمد لضربت بها وجهك فابتدره القوم ليقتلوه، فقال النبي - ﷺ -: " لا تقتلوه فهذا الأعمى أعمى القلب، أعمى البصر " وفي وسط تلك الزوبعة التي أثارها المنافقون بانشقاقهم عن الجمع وعودتهم إلى المدينة ألقوا الرعب في قلوب بعض الضعفاء، حتى لقد هم بعض المؤمنين بالفشل، وهذا هو ما يشير إليه قوله تعالى:
* * *
1390
(إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا... (١٢٢)
* * *
الهمُّ هو حديث النفس واتجاهها إلى أمر معين من غير تنفيذ، فحديث النفس هو ما يأخذ طريق التنفيذ، فإذا أخذ طريق التنفيذ فهو إرادة وعزيمة، ومن ذلك قوله تعالى: (وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا) والفشل ضعف مع جبن، ومن ذلك قوله تعالى: (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ...)، ومن ذلك أيضا قوله تعالى:
(حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ) ومعنى النص اذكر أيها النبي الكريم أنت وأمتك أثر إفساد المنافقين إذ اتخذتم منهم بطانة، اذكر ذلك إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا، أي إذ حدثت نفسها طائفتان من المؤمنين لَا من المنافقين أن تفشلا وتضعفا في وقت الشديدة والكريهة، ، مع أن الله تعالى وليهما وناصرهما، ومن يكون الله معه لَا ينهزم إلا إذا خالف أوامر الله وأوامر نبيه وقائده الأعلى، فذكر ولاية الله تعالى في هذا المقام لسببين:
أحدهما: أن المنافقين استطاعوا أن يؤثروا في المؤمنين ذلك التأثير السعي مع أن المؤمن يشعر دائما بولاية الله تعالى وعزته، وأنه سبحانه وتعالى ينصر من
1390
ينصره، وهو القوي العزيز، وأن هذا يوجب أن يعمل الهادي والمرشد على أن يصون نفوس المؤمنين من أن يدخل إليها شياطين الإنس من المنافقين والمخادعين.
الثاني: أن ذلك فيه معنى التوبيخ لأولئك الذين تأثرت نفوسهم بأولئك المنافقين لأنه ما كان ينبغي لهم أن يستمعوا إلى دعاية المنافقين، أو أن يفتحوا لها بابا تدخل منه إلى قلوبهم، ولكن هكذا البشر تتسرب إلى نفوسهم وسوسة الشيطان من حيث لَا يشعرون.
وإن الطائفتين اللتين همتا بالفشل هما بنو حارثة من الأوس وبنو سلمة من الخزرج، وكانا جناحي العسكر يوم أحد، وقد ذكر البخاري عن جابر قال: فينا نزلت: (إِذْ هَمَّت طَائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا). نحن الطائفتان بنو حارثة وبنو سلمة، وما نحب أنها لم تنزل لقول الله عز وجل: (وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا) (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) وإذا كان الله سبحانه وتعالى وليّ المؤمنين حتى من يهم أن يضعف متأثرا بحركات المنافقين، فإنه سبحانه وتعالى هو الذي يتوكل عليه المؤمنون، والمؤمن بوصف كونه مؤمنا لَا يعتمد على حليف أو نصير، وإنما يعتمد على الله تعالى وحده، فإذا كان المنافقون قد خذلوا المؤمنين في ساعة العسرة فإن الله معهم وناصرهم، ولن يخذلهم ما داموا آخذين بأوامره منتهين عن نواهيه، ولن يتمكن منهم في هذه الحال أعداؤهم (وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيط).
والتوكل الحقيقي لَا يستدعي ترك الأسباب، فإنه لَا توكل إلا بعد الأخذ بالأسباب، إذ إن حقيقة التوكل الذي طالب الله تعالى به هو أنه يأخذ بالأسباب ويستعد، ثم يترك الأمور لله تعالى، فإنه قد يعرض للإنسان ما ليس في حسبانه، فعليه أن يترك تلك المنطقة الغيبية لعلام الغيوب، والدليل على أن التوكل في القرآن والسنة يستدعي اتخاذ الأسباب، أنه يجتمع مع الجهاد والمشاورة، فالله
1391
تعالى يقول (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ... ).
وفى الآية التي نتكلم في معانيها السامية جاء الأمر بالتوكل بعد أن أخذ النبي - ﷺ - يبوئ المؤمنين مقاعد للقتال، ويأخذ الأهبة ويستعد، وإذا كان التوكل ترك الأسباب فَلِمَ كان الأمرُ بالعمل والقتال وغيره من التكليفات التي تكون سببا لنتائج شرعية.
* * *
1392
(وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ... (١٢٣)
* * *
بعد أن أشار سبحانه إلى تأثير أهل السوء مع كثرة المؤمنين - في غزوة أُحد وكيف حاولوا أن يوهنوا عزائم المؤمنين أخذ سبحانه وتعالى يبين غزوة بدر، وقد كانت وليس بين المؤمنين منافقون، لأن أولئك المنافقين ما دخلوا إلا بعد أن وجدوا أن كلمة الله هي العليا، فأظهروا الإسلام وأبطنوا غيره، وكان منهم يهود ومنهم مشركون، فكان المسلمون قلة، ولكن لأنه لم يكن بينهم منافقون، ولم يتخذوا بطانة من غيرهم نصرهم الله سبحانه وتعالى. والمعنى أن الله تعالى نصركم والحال أنكم كنتم قليلا وكنتم مستضعفين في الأرض كما قال تعالى: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٢٦).
وإن ذكر هذا يدل على أمرين: أحدهما: أنه لابد من التفويض إلى الله تعالى مع أخذ الأسباب، والثاني: أن القلة مع نقاء القلوب وتلاقي العزائم يكون معها النصر، لأن توحيد الغرض قوة في ذاته تكافئ قوة العتاد والعدة، وقد - يقول قائل: كيف يعبر القرآن الكريم عن المسلمين بأنهم كانوا أذلَّة قبل بدر، والذلة أمر نفسي، وما كانوا كذلك في أي دور من أدوارهم، فأولئك الضعفاء الذين كانوا يفتنون في دينهم فلا يغيرون هم في عزة نفسية أكثر من مضطهديهم، والله تعالى يقول: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ...).
1392
المنافقون، ويقول في وصف المؤمنين: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (٥٥).
ويقول تعالى: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ...)؟.
والجواب عن ذلك أن الذتَة التي وصف بها المؤمنون قبل بدر هي مظاهرها من ضعف العدة، وقلة العدد وقلة المال، حتى إنه لم يكن معهم ظهر، وقد خرجوا للقاء المشركين في بدر، وقد قال الزمخشري في معنى كلمة أذلة: " والأذلة جمع قلة، والذلان جمع الكثرة، وجاء بجمع القلة، ليدل على أنهم على ذلتهم كانوا قليلا، وذلتهم ما كان بهم من ضعف الحال، وقلة السلاح والمال، والمركوب، وذلك أنهم خرجوا على النواضح، يعتقب النفر منهم على البعير الواحد، وما كان بينهم إلا فرس واحد، وقلتهم أنهم كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر، وكان عددهم في حال كثرة زهاء ألف مقاتل، ومعهم مائة فرس والشكة والشوكة).
فليست الذلة ذلة النفوس إنما هي ظاهر الحال وما كان فيه من ضعف.
(فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) إذا كان النصر من عنده تعالى، وهو ولي المؤمنين، فعليهم أن يتقوه، والتقوى معناها استشعار هيبته وجبروته وعظمته وقوته، وأنه إن أراد بقوم خيرا فلا يستطيع أهل الدنيا أن يمنعوه، وإذا أراد بقوم سوءا فلا يستطيع أن يمنعه من قوة الله تعالى، فلا عزة إلا منه، ولا ذلة إلا في عصيانه، وأن التقوى على هذا المعنى توجب الشكر، ولذلك قال بعد الأمر بالتقوى: (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي اتقوا الله تعالى وهابوه، وأقروا بأن الكبرياء له وحده في السماوات والأرض، رجاء أن تشكروه بهذه التقوى، والرجاء من العبيد لا من الله تعالى، فهو الغني الحميد، فالتقوى هي في الحقيقة شكر الله تعالى، لأنه سبحانه هو المنعم وهو المتفضل في كل ما يتعلق بالإنسان من نعم هذا الوجود، وشكره أن تعرف حق ما أسدى، وما تدل عليه النعم من جلال الله وعظمته، فاللهم وفقنا لتقواك، ليتحقق منا شكرك، إنك أنت العلي الوهاب.
* * *
1393
(إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (١٢٧)
* * *
اختلف المفسرون في هذه الآيات، أهي في غزوة بدر الكبرى التي جعل الله فيها الكلمة العليا للمسلمين، والكلمة السفلى للمشركين، والتي خرجت بالمؤمنين من حال الضعف في الأرض إلى حال القوة فيها؛ أم هي في غزوة أحد التي اختبر الله المؤمنين إذ لم يتبعوا أمر الله تعالى الذي يتضمن الطاعة للرسول ولأولي الأمر، فبين لهم سبحانه وتعالى نتيجة المخالفة بذلك الاختبار الشديد، قال بعض المفسرين: إن الآية في غزوة بدر الكبرى، لأن الله تعالى يعَول قبل هذه الآية مباشرة: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).
فقد ذكر النصر مجملا في هذه الآية فيكون ما بعدها تفصيلا لمجملها، وتكون هذه الآيات الكريمة التي نتكلم في معانيها السامية بياناً لأسباب هذا النصر، وهذا يتفق مع السياق.
وقال أكثر المفسرين: إن هذه الآيات في غزوة أحد، فقوله:
1394
(إذْ تَقُول لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبّكُم بِثَلاثَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُنزَلِينَ)، في موضعِ البيان أو البدل من قوله تعالى: (إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ).
1394
إن الرواية تؤيد ذلك إذ روي عن كثيرين من التابعين أن إمداد الله بالملائكة كان في بدر بألف، كما قال تعالى: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائكَةِ مُرْدفِينَ). وقد ذكر الضحاك في قوله تعالى: (أَلَن يَكْفِيَكُمَْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بثَلاثَةِ آلاف) أن هذا كان موعدا من الله يوم أحد، عرضه الله على نبيه محمد - ﷺ - وقد روى أن المجاهدين قالوا لرسول الله - ﷺ - وهم ينظرون المشركين: أليس الله تعالى يمدنا كما أمدنا يوم بدر، فقال رسول الله: (أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاثَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ).
ويرجح شيخ المفسرين ابن جرير أن هذه الآية في غزوة أحد.
وإنا نختار ذلك الرأي؛ لأن الآيات من بعد ذلك ستتكلم على نتائج غزوة أحد في تفصيل بيِّن، وما كانت الإشارة إلى بدر إلا من قبيل التذكير بحال المجاهدين في الغزوتين، وأن حالهم في الأولى أوجبت النصر، وما كان في أثناء القتال أنتجت ذلك القرح الذي أصاب المسلمين في تلك الغزوة وهي أحد: (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبّكُم بِثَلاثَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُنزَلِينَ).
على الرأي المختار وهو أنها في غزوة أحد تكون كلمة " إذ " ظرف زمان بدل من " إذ " في دوله تعالى: (إِذْ هَمَّت طَائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا) ففي هذا النص السامي بيان حال الوهن الذي أصاب بعض المؤمنين، وفي هذه الآيات التي نتكلم في معناها، عمل الله ونبيه على علاج هذا الوهن، وهو بالبشرى التي يزفها لهم من تأييد لهم بالملائكة ينزلون إليهم. وإن ذكر عدد الملائكة هنا مناسب لعدد المشركين؛ لأن عدد المشركين كان نحو ثلاثة آلاف أو يزيدون، وعدد المسلمين كان نحو ألف؛ انخذل منهم نحو ثلثهم قبل القتال، وهم أولئك الذين اتبعوا رأس النفاق عبد الله بن أُبيِّ، كما أن عدد الملائكة كان مساويا لعدد المشركين كانوا نحو ألف، وعدد المؤمنين نحو ثلاثمائة، وإن هذا مما يزكي أن الآية التي نتكلم في معانيها السامية نزلت في غزوة أحد.
1395
وقوله تعالى على لسان نبيه (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ) تومئ إلى أن حالا من الخور قد اعترت نفوس بعض المحاربين، إذ إن الاستفهام كان منصبا على (لن) التي تفيد النفي المؤكد، والمعنى: أمن المؤكد أنه لَا يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين، وهذا فرق ما بين الاستفهام إذا دخل على " لا " والاستفهام إذا دخل على " لن " فالأول استفهام منصب على نفي غير مؤكد، والثاني استفهام منصب على نفي مؤكد، وذلك يدل على خور قد اعترى بعضهم، فكانت الحال في الابتداء عن بعض المحاربين تومئ إلى احتمال هزيمة.
ومعنى الآية الكريمة في الجملة: تذكر حالهم أيها النبي الكريم فبعضهم هَمَّ بأن يفشل، وأن قوما قد نكصوا على أعقابهم، وأثر ذلك في نفوس غيرهم، وأنك بأمر ربك وعدتهم بأن يمدهم الله تعالى بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين، أي ينزلهم الله تعالى إلى أفئدتهم فؤادا فؤادا، ويكون منهم النصر العزيز بأمر الله تعالى، وإن هذه الحال، وهي ابتلاء الوهن على نفوس بعض المسلمين، جعلت النبي - ﷺ - بأمر ربه يعدهم وعدا أوْفَى، ويزيل احتمال عدم الكفاية من مدد الله، ويؤكد الكفاية فيقول تعالى:
* * *
1396
(بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥)
* * *
" بلى " هنا إجابة لحاجتهم من المعونة الروحية، وفيها معنى الإضراب عن الإمداد الكثير إلى الإمداد الأكثر، والمعنى: يكفيكم أن يمدكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة، ونرى من المقابلة بين النصين الكريمين أن النص الأول فيه استنكار للنفي المؤكدب " لن " من أن ثلاثة آلاف لَا يكفي، وفي هذا النص تأكيد بأنه يكفيهم خمسة آلاف، ولكن الكفاية لَا تتحقق في ثلاثة آلاف أو خمسة آلاف إلا بشرط، وهو الصبر، والتقوى، ولذا قال تعالى: (بَلَى إِن تَصْبِرُوا) أي إن تسربلتم سربال الصبر، واستشعرتم تقوى الله، وعلمتم أن النصر من عنده، فإنكم لَا محالة منتصرون، وسيمدكم الله بروح منه، أولئك الملائكة الأطهار، وإن الصبر هو قوة الحروب، والصبر يتقاضى أن يضبط المجاهد نفسه فلا ينساق وراء
1396
هوى المال، وأن يضبط نفسه فلا يفر في لقاء، والتقوى تتقاضى التوكل بعد الأخذ في الأسباب، والاعتماد على القوي القهَّار الغالب على كل شيء، فبالتقوى والصبر تفيض الروحانيات المؤيدة التي هي مدد الله من الملائكة. ومعنى (وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ) أي من ساعتهم، والأصل في الفوركأنه مأخوذ من فوران القدر، ونحوها، ثم استعير للسرعة، ثم صار بمعنى التعقيب وعدم التراخي، ويطلق على كل حال لَا تأخير فيها ولا بطء. ومعنى (مسَوِّمِينَ) أي مكلفين أو مرسلين.
ومعنى النص الكريم: إن تصبروا وتتقوا ويأتوا من ساعتهم وقد استعددتم له أتم استعداد، فإن الله - تعالى - ممدكم بخمسة آلاف من الملائكة - يرسلها تأييدا لكم.
ولقد قرر بعض العلماء أن الله أمد المؤمنين في بدر بالملائكة، ولم يمدهم بها في أحد، وقد قال في ذلك الطبري: إن الله أخبر عن نبيه محمد - ﷺ - أنه قال للمؤمنين: ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة، ثم وعدهم بعد الثلاثة آلاف بخمسة آلاف إن صبروا لأعدائهم، ولا دلالة في الآية على أنهم امتدوا بالثلاثة آلاف، ولا بالخمسة الآلاف ولا على أنهم لم يمدوا بهم ولا خبر عندنا صح من الوجه الذي يثبت أنهم أمدوا بالثلاثة آلاف، ولا بالخمسة، وغير جائز أن يقال في ذلك إلا بخير تقوم الحجة به، غير أن في القرآن دلالة على أنهم أمدوا يوم بدر بألف، وذلك قوله تعالى: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩).
أما في أحد فالدلالة على أنهم لم يمدوا أبين منها في أنهم أمدوا، وذلك أنهم لو أمدوا لم يهزموا ونيل منهم ما نيل منهم ".
ونحن نوافق شيخ المفسرين في ذلك، ذلك أن شرط الإمداد كان الصبر والتقوى، والصبر أي ضبط النفس لم يكن من الرماة الذين أمرهم النبي - ﷺ - أن يحموا ظهر المؤمنين، فلا يتحركون سواء أكانت الجولة الأولى للمؤمنين أم كانت عليهم.
1397
ولكن ما معنى الإمداد؟ وهل نزل الملائكة إلى الأرض حاملين السيوف مقاتلين في صفوف المؤمنين؟ لقد ذكر بعض الرواة أنهم نزلوا ذلك النزول، ويكون معنى الإمداد هو الإمداد الحسي الذي يرى ويسمع ولكن ليست هذه الرواية هي المشهورة وإن الحق في الموضوع أنهم لم يروا مقاتلين، ولا محاربين.
وإذن كيف كان الإمداد؛ الإمداد من مده بمعنى بسطه، ثم أطلق على الزيادة في المال والقوة، ويصح أن يطلق بمعنى الإمداد الروحي، وليس معنى الإمداد الروحي هو تقوية العزيمة فقط، بل معناه أن الله يفيض بأرواح الملائكة المطهرين، فتكون في قلوب المؤمنين تثبتهم وتقويهم، وتطهر نفوسهم، وتجعلها نحو الدين، ثم تفيض هذه الأرواح من الملائكة فتثبط المشركين وتخذلهم وتلقي الرعب في قلوبهم، فعمل الملائكة تثبيت المؤمنين وإلقاء الرعب في قلوب المشركين، ولذا قال تعالى في غزوة بدر الكبرى: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ...)، وعلى ذلك نحن نميل إلى أن نزول الملائكة نزول روحي، والأرواح الطاهرة المطهرة تحل في قلوب أهل الحق، إذا وجد عندهم الاستعداد لتلقيها، والاستعداد لتلقيها يكون بالتقوى وتخليص النفس من أهوائها، وضبط المشاعر والإحساس، حتى يكون الجو الروحي الذي يمكن أن تنزل فيه تلك الأرواح التي هي نور خلقه الله تعالى، ولذلك كان الشرط في نزول الملائكة، وإمدادهم للمؤمنين، أن يصبر المؤمنون جميعا ويتقوا. ولا يكون في فريق منهم ما يجعل للهوى في قلبه سبيلا فيمنعه من ذلك التلقي الروحي. وإن ذلك هو رأي الطبري فقد ذكر ذلك في تفسير قوله تعالى: (فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنوا) إذ قال: (قووا عزائمهم، وصححوا نياتهم، في قتال عدوهم من المشركين، وقيل كان ذلك بمعونتهم إياهم بقتال أعدائهم) ونرى بهذا أنه اعتبر من قال إنهم قاتلوا معهم قوله ضعيف، ولذا عبر عنه بقيل، وقد أنكر أبو بكر الأصم من فقهاء الحنفية قتال الملائكة، وقرر أن ذلك إن كان فهو من أعظم المعجزات ولم يذكر قط أنه معجزة، ولأن ملكا واحدا يكفي لدك مدائن،
1398
فلا تكون ثمة حاجة لعدد من الملائكة ألفا أو ثلاثة آلاف أو خمسة آلاف، وإنما المراد تقوية القلوب والعزائم.
هذا، وإننا ننتهي من هذا إلى أن الملائكة وهي الأرواح المطهرة نزلت، وامتزجت بأرواح أولئك الصديقين الأطهار في يوم بدر، وكان النصر من عند الله تعالى. وأن الأرواح الطاهرة من الملائكة قد تلابس أرواح أمثالها، ولا دليل من العقل يمنع وقد قام الدليل من النقل، والله سبحانه وتعالى أعلم.
* * *
1399
(وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ... (١٢٦)
* * *
أي وما جعل الله تعالى ذلك الوعد الذي ساقه على لسان رسوله لكم إلا تبشيرا لكم بالنصر إن أخذتم الأهبة، وسلكتم الجادة واستقمتم في إطاعة القائد الحكيم، والمدبر العظيم، وقد كنتم في حاجة إلى هذا الوعد، إذ أصاب بعضكم الوهن عندما رجع المنافقون بجموعهم وهم ثلث الجيش يقولون: " لو نعلم قتالا لاتبعناكم " حتى لقد همت طائفتان منكم أن تفشلا، ولذلك قال تعالى: (وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ) فهذا الوعد الإلهي الذي جاء على لسان النبي الأُميّ كان للتبشير بالفوز إن صبروا واتقوا، ولتطمئن قلوبهم به وليذهب فزع الذين أصابهم الفزع عندما كان من المنافقين ما كان.
ولقد يقول قائل: كيف تكون البشرى مع أن النتيجة لم تكن نصرا، والبشرى يكون فيها الفوز ولا فوز هنا، والله سبحانه وتعالى لَا يتخلف قوله ولا وعده؟ ونقول في الجواب عن ذلك: إن تلك البشارة مقرونة بشرطها من جانبهم وهي أن يتقوا ويصبروا، وما صبروا أو على الأقل ما صبر الرماة منهم لأنهم ما ضبطوا أنفسهم، بل خالفوا نهى النبي - ﷺ -، واتبعوا هواهم فكان ما كان، وفوق ذلك فإن البشرى قد تحققت في أن الله تعالى ألقى في قلوب المشركين الرعب عندما تلاوموا فيما بينهم بعد أن أصابوا من المؤمنين قرحا، وقال قائلهم: " لم تصنعوا شيئا، أصبتم شوكتهم وحدهم وقد بقي منهم رءوس يجمعون لكم، فارجعوا حتى نستأصل شأفتهم " وما زالوا حتى أجمعوا الكرة على المؤمنين ولكن
1399
الله تعالى أركسهم وخذلهم، وألقى في قلوبهم الرعب، فرضوا من الغنيمة بالإياب.
(وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) هذا تقوية لمعنى البشرى، ورد على كل الأوهام التي ثارت، وفيها أمر لهم بالتفويض لربهم، وأنهم إن كانوا قد أصابتهم جراح لأخطاء ارتكبوها، ومخالفات للطاعة وقعوا فيها، فإن الله تعالى لم يتخل عنهم، ولا نصر إلا من عنده، لأن كل شيء بيده، وقد حرم المشركين من ثمرات ما فعلوا حتى عادوا من غير نصر نالوه، وإنه يعدكم النصر منه متى أخذتم بالأسباب، وتركتم عوامل الخذلان، وقد وصف ذاته الكريمة بأنه عزيز حكيم؛ لأن ذلك هو الذي يناسب المقام، فالله سبحانه عزيز غالب قهار لا يغلب، وهو حكيم لَا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وقد وعد بالنصر، فالنصر آت لَا ريب فيه.
* * *
1400
(لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (١٢٧)
* * *
في هذا النص الكريم بيان لثمرات نصر الله تعالى، وفيه يتبين أن نصر الله لعبادة المؤمنين ينتهي إلى غايات منها: أن يقطع طرفا من الذين كفروا، وفسر العلماء ذلك بأن يقتل فريق منهم ويؤسر فريق، فإن ذلك قطع لهم، وعندي أن قطع طرف من الذين كفروا يتحقق بذلك، ويتحقق بما هو أقوى منه، وهو أن تنقص عليهم الأرض من أطرافها، ويستولي على جزء من أرضهم، حتى يتحقق قوله تعالى: (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ...). ومن غايات النصر ونتائجه أن يكبت الله تعالى الذين كفروا بسبب كفرهم، والكبت يطلق بعدة معانٍ، فيراد به الرد العنيف، ويراد به شدة الغيظ، وقيل: إن أصله الكبد، أي إصابة الكبد وتقريحه بالغيظ الشديد، ويطلق ويراد به الخزي، والمعنى أن من غايات نصر الله تعالى للمؤمنين أن يصاب الذين كفروا بالغيظ الشديد والخزي والألم النفسي، حتى يخبو صوت الكفر، ويعلو صوت الإيمان، ويصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعند الناس ينقلبون، أي يعودون خائبين. وفي التعبير عن العودة بالانقلاب
1400
إشارة إلى أن مقاصدهم قد انقلبت، فقد أرادوا اقتلاع الإسلام فما وهن المسلمون، وأرادوا أن يطفئوا النور فما انطفأ، فالانقلاب عودة من غير تحقق المقاصد، وفي هذا إشارة إلى أن الجراحات التي أصابت المؤمنين لم تكن نصرا للكافرين، بل قد كانت ثمرة النصر للمؤمنين، إذ قد انقلب الكفار خائبين: (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا...)، (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنونَ).
* * *
(لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (١٢٨) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢٩) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (١٣١) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢)
* * *
الكلام متصل بغزوة أحد وما فيها من عِبَر، فإنه يروى في الصحاح عن أنس: أن النبي - ﷺ - كسرت رباعيته يوم أُحد، وشج وجهه الكريم، حتى سالَ منه الدم الزكي، فقال عليه الصلاة والسلام: " كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم " (١) فأنزل الله تعالى:
________
(١) ذكر ذلك البخاري في الترجمة: المغازي - باب (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ)، ورواه مسلم في صحيحه: الجهاد والسير - غزوة أحد (١٧٩١). كما رواه الترمذي: تفسير القرآن (٢٩٢٨)، وابن ماجه: الفتن (٤٠١٧)، وأحمد: باقي مسند المكثرين (١١٥١٨).
1401
(لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ).
1401
وسواء أكان هذا هو السبب في النزول أم لم يكن، فإن الخبر صحيح في ذاته، والآية الكريمة متصلة بما قبلها، وهو اتصال تفسير وتتميم على بعض التخريجات، أو اتصال موضوع على تخريج آخر، إذ إن موضوعها متصل بغزوة أحد كالآيات قبلها، والتخريجان يظهران في تفسير قوله تعالى: (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ)، فإن بعض العلماء يعتبرها معطوفة على قوله تعالى في الآية السابقة: (أَوْ يَكْبِتَهُمْ)، ويكون قوله تعالى: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ) جملة معترضة، والمعنى على هذا: إن النصر من عند الله العزيز الحكيم يعطيه عباده المؤمنين ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم، بأن يخزيهم ويرد كيدهم في نحورهم، أو يتوب عليهم أو يعذبهم، ولكن الأمر في هذا ليس لك، إنما هو لله تعالى، لأنه يتصل بتدبيره سبحانه الكوني، وتقديره الأزلي، وليس لك إلا أن تدبر ما تستطيعه، وتقدر ما يدخل في حسبانك، وتنفيذ ما تكلف بتكليفه وقد رجح هذا التخريج الزمخشري، وقال فيه: (المعنى أن الله مالك أمرهم، فإما أن يهلكهم أو يهزمهم أو يتوب عليهم إن أسلموا، أو يعذبهم إن أصروا على الكفر، وليس لك من أمرهم شيء إنما أنت عبد مبعوث لإنذارهم ومجاهدتهم).
هذا هو التخريج الأول في قوله تعالى: (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهمْ)، وهناك تخريج آخر مؤداه أن الاتصال ليس اتصال عطف بين الآيتين، إنما هو اتصال موضوع فقط، وهذه الآية تكون لأمر جديد في الموضوع، وهو بيان أن هؤلاء منهم من يفلح فيتوب، ومنهم من يصر على الكفر فيعذب، وتكون نصب (أو يتوب) على تقدير (أن) الناصبة، وتكون (أو) بمعنى (حتي) والمعنى: ليس لك من أمرهم شيء فيما يتعلق بمستقبلهم حتى يتوب الله عليهم فتفرح بتوبتهم، أو حتى يصروا فيعذبهم فترى آية الله فيهم وصِدْقَ وعده لأنبيائه، إذ قد وعد، ووعده حق وصدق.
وقيل إن (أو) هنا بمعنى (إلا)، والمعنى: ليس لك من أمرهم شيء إلا أن يتوب الله عليهم فتفرح، أو يعذبهم فيذهب غيظ المؤمنين، والمؤدى واحد سواء كانت (أو) بمعنى " حتى " أو " إلا ".
1402
وقوله تعالى: (فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ) تعليل لعذابهم عند إصرارهم، فالسبب في التعذيب بعد هذا الإصرار أنهم ظالون، لأنهم اعتدوا على المؤمنين ففتنوهم عن دينهم الذي ارتضوا، واعتدوا على النبي - ﷺ - بإيذائه والسخرية منه، واعتدوا مرة ثالثة بقتال المؤمنين، ومحاولة اقتلاع مدينتهم الطاهرة، واعتدوا على الحقائق فموهوها وزيفوها، واعتدوا على أنفسهم فأضلوها وأفسدوها؛ اعتدوا كل هذه الأنواع من الاعتداء فكانوا ظالمين ومستحقين للعذاب، وقد أكد سبحانه وتعالى وصفهم بالظلم بـ " إنَّ " المؤكدة للحكم، وبالجملة الاسمية، وبوصفهم بالظلم كأنه شأن من شئونهم وطبيعة في نفوسهم، إذ لم تهدهم إلى الحق الحجج الدامغة، ولا الآيات البينة ولا القوة الغالبة.
* * *
1403
(وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ... (١٢٩)
* * *
هذا تأكيد للنفي السابق في قوله تعالى: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ) إذ الأمر في السماوات والأرض كله لله تعالى، وسلطانه تعالى على ما في السماوات والأرض سلطان المنشئ والمدبر والمالك والعالم بماضي ما فيها وحاضره ومستقبله، خلق كل شيء فقدره تقديرا، وهو يعلم بما يجري فيه، وما سيكون من شأن له في المستقبل فهو علام الغيوب الذي لَا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وإذا كان كذلك فلا سلطان لأحد سواه، وليس لأحد مهما أعلى الله تعالى منزلته، واختصه بفضله ورحمته، شيء من الأمر، وهو سبحانه وتعالى يعلم توبة التائب قبل أن يتوب، وإصراره على الذنب قبل أن يموت، وهو الذي يغفر إن شاء، ويعذب من يشاء، ولذا قال بعد ذلك للدلالة على كمال سلطانه: (يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيعَذِّبُ مَن يَشَاءُ).
وسلطانه تعالى في هذا مطلق لَا قيد يقيده، لأنه الحكم المطلق الذي لَا يرد حكمه، والقادر المهيمن القاهر فوق عباده، ولقد قيد الزمخشري الغفران بالتوبة، ويقول في ذلك: (عن الحسن البصري) يغفر لمن يشاء بالتوبة ولا يشاء أن يغفر إلا للتائبين، ويعذب من يشاء) ولا يشاء أن يعذب إلا المستوجبين لعذابه، وعن عطاء: (يغفر لمن يتوب إليه، ويعذب من لقبه ظالما..) ويشير إلى اختيار ذلك
1403
الرأي الذي نقله، ويقرر أن السياق يؤدي إلى هذا، لأن هذا تفسير لقوله تعالى من قبل: أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون، إذ تكون المغفرة عند التوبة والعذاب عند البقاء على الظلم، ويرمى الذي يسوغون الغفران لغير التائبين بأنهم يتصامون ويتعامون عن آيات الله فيخبطون خبط عشواء!.
والأمر في هذه القضية يرجع إلى أن المعتزلة يقررون أن الذنب لَا يُغفر إلا بالتوبة، لصدق وعد الله ووعيده وقد وعد المتقين والتائبين بالثواب، وأوعد الظالمين بالعقاب، والله سبحانه وتعالى منجز وعده ووعيده، وأكثر العلماء على أن الله تعالى وصف نفسه بالغفران، وقال: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ...)، ولقد ذيل سبحانه وتعالى النص الكريم بقوله:
(وَاللَّهُ غَفورٌ رحِيمٌ) وصف سبحانه وتعالى ذاته العلية بصيغة المبالغة في الغفران، فقال " غفور " أي كثير المغفرة يحبها ويريدها، وهو رحيم، والرحمة أوسع معنى وأشمل من مطلق التجاوز عن الذنب، بل إن الرحمة قد تعم العقاب كما تعم الثواب، فاقتران الرحمة بالغفران يدل على ثلاثة أمور.
أولها: أن الله تعالى لَا يكتفي بغفران الذنوب عن العصاة التائبين، بل يثيبهم على ما يفعلون من حسنات، وإن الحسنات عنده سبحانه وتعالى يذهبن السيئات.
ثانيها: أن الغفران من الرحمة، وما دام من الرحمة فلا قيد يقيده، والله أعلم بمن يكون موضع رحمته، ومكان مثوبته.
ثالثها: أن العذاب للمصر على الذنب الذي يعيث في الأرض فسادا، ويفتن الناس عن دينهم يعد من الرحمة؛ لأن رحمة الله تعالى عامة لَا خاصة، ومن الرحمة بالعامة عقاب العصاة المفسدين، وثواب الطائعين الأبرار.
1404
بعد أن أشار سبحانه إلى أن التفرق وعدم الطاعة للرسول كان سببا للهزيمة يوم أحد، والتعاون والاتحاد كان أساس القوة والنصر والتأييد من الله تعالى يوم بدر أخذ يبين أن قوة الأمة تكون بالتعاون.
ولعل أبعد الأمور عن معنى التعاون - الربا، ولهذا نهى الله سبحانه وتعالى عن الربا في هذا المقام؛ فقال:
* * *
1405
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً... (١٣٠)
* * *
ولقد ذكر القفال - من علماء الشافعية - أن بين هذه الآية الناهية عن أكل الربا أضعافا مضاعفة، وغزوة أحد مناسبة ظاهرة، وذلك أن المشركين في غزوة أحد أنفقوا على عساكرهم أموالا كثيرة جمعوها من الربا، ولعل ذلك يدعو بعض المسلمين إلى الإقدام على الربا، حتى يجمعوا المال وينفقوه على العسكر ويتمكنوا من الانتقام منهم، فلا جرم نهاهم عن ذلك.
لقد ابتدأ الله سبحانه وتعالى الآية بالنداء بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) لبيان أن أكل الربا ليس من شأن أهل الإيمان، وإنما هو من خواص أهل الكفر والعصيان، فإذا كان المشركون يأكلون الربا ويتقوَّوْنَ به، ويكاثرون أهل الإيمان بأموالهم التي اكتسبوها من السحت فليس لأهل الحق أن يجاروهم، بل عليهم أن يحرموه على أنفسهم، ولا يأكلوا إلا حلالا طيبا.
و" الربا " معناه الزيادة، والمراد بها هنا الزيادة على الدَّين، وهو ربا الجاهلية، ذلك أن الرجل منهم كان يكون له على رجل منهم مال فإذا حل الأجل طلبه من صاحبه، فيقول المدين: أخر عني دينك.
ولقد قال عطاء: كانت ثقيف تداين بني المغيرة في الجاهلية، فإذا حل الأجل قالوا: نزيدكم وتؤخرون، ولقد قال زيد بن ثابت: إنما كان ربا الجاهلية في التضعيف يكون للرجل دين فيأتيه إذا حل الأجل فيقول: " تقضيني أو تزيدني ".
وبهذه الأخبار الصحاح تبين أمران أولهما: أن ربا الجاهلية كان أساسه الزيادة في الدَّين للزيادة في الأجل من غير نظر إلى سبب الدَّين، وأن هذا الربا
1405
المنصوص عليه في الآية هو ربا الجاهلية، وهو الذي ذكره النبي - ﷺ - في خطبة الوداع، إذ قال: " ألا إن ربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أبدأ به ربا عمي العباس بن عبد المطلب " (١) ويبين بهذا أن المضاعفة هي في الزيادة لَا في أصل الدَّين، فهي التي لتضاعف سنة بعد أخرى، وذلك هو معنى اللفظ في واضح معناه؛ لأن المضاعفة في الآية موضوعها الربا، والربا ليس هو أصل الدَّين، إنما هو الزيادة عليه، وإن كلمة الربا مرادفة لكلمة الفائدة في لغة الاقتصاديين، فإذا قال قائل: لا تأكلوا الفائدة أضعافا مضاعفة، أفيكون المراد مضاعفة الدين أم مضاعفة الزيادة؟ وإن ضِعف الشيء معناه مثله ومعنى الإضعاف إضافة أمثاله، ومعنى ضاعفها أكثر من الإضعاف سنة بعد أخرى.
وهذا النوع من الربا هو الذي يسمى في لغة الصحابة والفقهاء بالنسيئة، وهو حرام لَا شك، وقد قال الإمام أحمد بن حنبل إنه يكفر من يجحد تحريمه، وقال ابن عباس: لَا ربا إلا ربا النسيئة.
ويقابل ربا النسيئة ربما البيوع، وهو المنصوص عليه في حديث: " البُر بالبُر مثلا بمثل يدا بيد، والذهب بالذهب مثلا بمثل يدا بيد، والفضة بالفضة مثلا بمثل يداً بيد، والشعير بالشعير مثلا بمثل يدا بيد، والتمر بالتمر مثلا بمثل يدا بيد، والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد، فمن زاد أو استزداد فقد أربى " (٢) وقد اتفق العلماء على أن بيع هذه الأصناف لابد أن يكون بغير زيادة إذا كانت بمثلها كقمح بقمح، ولابد من قبضها، وإذا اختلف الجنس كقمح بشعير جاز الزيادة، ولابد من القبض في المجلس، والتأخير يسمى ربا النَّساء، والزيادة المحرمة تسمى ربا الفضل، وما يماثل هذه الأصناف يكون لها مثل حرمتها كالأرز، والزيت ونحو ذلك، وقد اختلفوا في تعيين من يماثلها اختلافا طويلا قد دون في كتب الفقه، وأقرب الآراء في نظري هو قول حذاق المالكية: " إن علة التحريم هو الثمنية والطعم معا قبل
________
(١) رواه مسلم: الحج - حجة النبي - ﷺ - (١٢١٨)، أبو داود: المناسك (١٦٢٨)، وابن ماجه (٣٠٦٥)، والدارمي (١٧٧٨) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
(٢) رواه مسلم: المساقاة - الصرف وبيع الذهب بالورِق (١٥٨٤)، وأحمد: باقي مسند المكثرين (١١٢٠٨).
1406
الادخار؛ لأن نظام المقايضة في هذه الأموال يؤدي إلى احتكارها في يد منتجيها، ويريد الإسلام الاتجار فيها بتوسيط النقدين لكيلا يكون تغرير ولا غرر، ولذلك قال بعض الصحابة للنبي - ﷺ -: عندي تمر وأريد رطبا، فقال عليه الصلاة والسلام: " بع التمر واشتر الرطب " (١). ولا شك أن ذلك يمكن من ليس عنده تمر ولا رطب من أن يأكل، ولأن السعر يكون مضبوطا، وتحريم المقايضة في الذهب والفضة إلا بالمثل لأنهما مقاييس لضبط قيم الأموال فلا يصح أن تكون موضع اتجار حتى لا يقيد التقويم.
وربا الجاهلية المنصوص عليه في الآية يحرم كل زيادة قلت أو كثرت، أيا كان سبب الدين، إذ يقول سبحانه في آخر البقرة وهيِ آخر آيات الربا نزولا: (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ).
وقد ادعى بعض الذين يريدون أن يطوعوا الشريعة لتخضع للنظام الربوي اليهودي القائم - أن ربا القرآن هو ربا الديون الاستهلاكية أي الديون التي تقترضها لغرض: ليأكل أو ليسكن أو ليشترى ثيابا، وذلك قول باطل؛ لأن تخصيص عموم القرآن لَا يكون بالتحكم في عباراته، بل يكون تخصيصه بنصوص، أو بقواعد مستمدة من نصوص الدين عامة، ولأن العرب لم تكن حياتهم عريضة، ؛ لأن عيشهم كان ساذجا ولم يكن معقدا، إذ حياتهم تقوم على التمر واللبن وسكنى الأخبية، فلماذا يكون الاقتراض للاستهلاك؟! ولأن ربا الجاهلية كان حيث التجارة، فقد كان في مكة والمدينة وهما يتجران كما هو ثابت في التاريخ إذ ينقلان بضائع الروم إلى الفرس، وبضائع الفرس إلى الروم عن طريق القواقل في الصحراء، وقد قال الله تعالى: (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (١) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (٢)، ولأن الدائنين الذين كانوا يرابون في الجاهلية لَا يتصور منهم أن يجيئهم محتاج للمال ينفقه في حاجاته الضرورية
________
(١) روى الترمذي: البيوع - ما جاء في النهي عن المحاقلة والمزابنة (١١٤٦).
1407
فيمتنع عن إعطائهم إلا بربا، فهذا العباس الذي كان يسقي الحجيج جميعا نقيع الزبيب والتمر لَا يتصور منه أن يجيء إليه محتاج، فلا يعطيه إلا بفائدة، إنما يتصور أن يعطي تاجرا يتجر في ماله ولا يحد له الكسب إلا بزيادة محدودة مستمرة لَا بنسبة من الربح؛ ولأن المدينين الذين جاءت الأخبار بذكرهم لم يكونوا من الفقراء، بل كانوا من التجار، فبنو المغيرة الذين كانوا مدينين لبعض ثقيف هم تجار لَا فقراء.
وبهذا يتبين أن تحريم الربا في الإسلام لإيجاد نظام اقتصادي تمنع فيه الأزمات، وقد بينا ذلك من قبل في عدة بحوث ومقالات، ولذا قال سبحانه: (وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكمْ تفْلِحُونَ).
أي اجعلوأ بينكم وبين غضب الله تعالى وقاية، فأطيعوه في أوامره ونواهيه، ولا تحاولوا التخلص منها بما تزعمون من أوهام لَا أصل لها، فلا تأكلوا الربا، ولا تعينوا عليه، ولا تحرفوا الكلم عن مواضعه، لعلكم تفلحون، أي لترجوا أن تنالوا الفلاح والفوز في الدنيا والآخرة، وهذه إشارة إلى أن تحريم الربا فيه صلاح الدنيا، وأن أولئك الذين يزعمون أن المصلحة في إباحته في عصرنا ويتأولون الشريعة ليخضعوها لتلك المدنية الآثمة، واهمون في معنى المصلحة، لأن علماء الاقتصاد يقررون أن نظام الفائدة هو سبب الأزمات، وهو نظام مؤقت حتى يجدوا ما يحل محله، وعندنا نظامنا، وأكثر البلاد الخاضعة للنظام الروسي أو آخذة به حرمته، والاشتراكية الوطنية الألمانية قبل الحرب حرمته، ولم يضر مصلحتها شيء، بل حمت مصالح البلاد:
1408
(وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) أي اجعلوا بينكم وبين النار التي أعدها الله تعالى للكافرين وقاية من الطاعة، ولا تنحرفوا عن الشرع ومقاصده إلى أهواء الكافرين ومنازعهم، وقد اقترنت هذه الآية بآية تحريم الربا لتهديد المعاندين أو الذين يمارون في الشرع ويجادلون فيه، وهذا كقوله تعالى في آية تحريم الربا في البقرة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨)
1408
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ...)، فالذين يأكلون الربا أو يدعون إليه، أو يسهلون أمره أو يوطئون أحكام الشريعة لأحكام الكافرين يحاربون الله ورسوله.
* * *
1409
(وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢)
* * *
جاء الأمر بالطاعة لله ولرسوله بعد ذلك النهي القاطع، لأن ما يتعلق بالأموال يتحكم فيه الأهواء، وتستولي عليه المنازع المختلفة فيكون مظنة العصيان بتأويل فاسد، أو تحريف مقصود، أو انحراف بسبب الطمع فينساق الشخص في طاعة من لَا يطاع، ويترك طاعة الله والرسول، وفى ذكر طاعة الرسول مقترنة بطاعة الله في قرن واحد إشارة إلى أن طاعة الرسول طاعة الله، وأن الرسول مطاع فيما يقول عن الله، ومعنى النص: أطيعوا الله والرسول رجاء أن تكونوا في رحمة لَا في شقاء، وفي هذا إشارة إلى أن تحريم الربا فيه رحمة عامة شاملة، اللهم اجعلنا في طاعتك وطاعة رسولك دائما.
* * *
(وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (١٣٦)
* * *
1409
هذه الآيات موصولة بالآيات التي قبلها إذ الآيات التي قبلها ختمت بالأمر بطاعة الله ورسوله، فقد قال سبحانه: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكمْ ترْحَمونَ) وفى هذه الآيات بيان معنى هذه الطاعة المطلوبة التي تؤدي إلى التراحم والتواصل والتواد، ولذلك كانت هناك رواية بالقراءة من غير وصل بالواو (سَارِعوا) (١) بدل) وَسَارِعوا. وإن رواية القراءة من غير وصل واضحة من حيث النسق في أنها تفصيل لمعنى الطاعة المطلوبة، والقراءة المشهورة التي عليها القراء السبعة فيها ما يدل على أنها لبيان معنى الطاعة بالمعاني لَا بالنسق.
________
(١) قرأها بلا واو: نافع وأبو جعفر المدنيان، وابن عامر الشامي، وقد رسم هذا الحرف بغير واو قبل السين في مصاحف أهل المدينة والشام.
1410
(وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ من رَّبِّكُمْ) المسارعة هنا معناها المبادرة والاتجاه الذي لا تراخي فيه، ومعنى المسارعة إلى مغفرة الله تعالى المبادرة باتخاذ طريقها، بأن يطهر قلبه من المعاصي ونفسه من الأدران، ويتجه إليه سبحانه بقلب سليم قد رحض عنه المعاصي كما رحض الثوب من الأوساخ، ولقد فسر ذو النورين قوله تعالى (إِلَى مَغْفِرَةٍ من رَّبِّكُمْ) بالإخلاص، أي بادروا بالإخلاص وتنقية القلوب إلى مغفرة الله تعالى فإن ذلك هو الطريق المستقيم لطلب رضا الله تعالى، ولقد عظَّم سبحانه وتعالى شأن المغفرة التي ينبغي طلبها والاتجاه إليها فذكر بأنها تجيء من ربكم الذي خلقكم ونماكم ورعاكم، فهي مغفرة تعلو بعلو مصدرها وهي الأمان والاعتصام.
ويلاحظ أن القرآن يعدى المسارعة في الخير بـ " إلى "، والمسارعة في الشر بـ " في "، فيقول سبحانه: (يسارعون في الكفر)، ويقول هنا: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ)، لأن المسارعة في الكفر تنقُّل في براثنه فهم في قبته المظلمة التي تحيط بهم يتنقلون بالضلال في أرجائها، وهم في مرتبة واحدة، أما المسارعة إلى الخحِر، فإنها انتقال من رتبة إلى رتبة، ومن مقام صالح إلى مقام أصلح منه.
1410
(وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) هذا عطف على مغفرة، وفيها إشارة إلى أن مغفرة الله سبحانه تُطلب وحدها؛ لأن فيها طلب رضا الله تعالى، ورضا الله تعالى أكبر غايات المتقين، ولذا قال تعالى في جزاء المتقين: (وَرِضْوَانٌ منَ اللَّهِ أَكْبَرُ). فأكابر المتقين يطلبون رضا الله لذاته لا خوفا من ناره ولا طمعا في جناته.
فالمطلب الأكبر هو المغفرة، والمطلب الذي يليه هو " جنة عرضها السماوات والأرض " وهو ما يطلبه الذين دون الصدِّيقين والشهداء، والعَرض ضد الطول، وهو أقصر منه في الغالب، والنص لبيان سعة الجنة، لأنها رحمة الله تعالى بعباده الأتقياء، ولذا عبر عن هذه السعة بأوسع ما يدركه الحس، وأوسع ما يعلمه الناس من خلقه سبحانه، وقد يقول قائل: لِمَ ذكر العرض، ولم يذكر الطول، وهو أدل على الانفراج والبسط؟ والجواب عن ذلك أن ذكر العرض أبلغ في الدلالة، لأنه إذا كان عرضها كعرض السماوات والأرض فإنه يذهب العقل في إدراك طولها كل مذهب، ويتصور الكثير من الصور، وذلك كقول الله تعالى: (بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ...)، فإنه إذا كانت البطانة من الحرير الثمين فكيف يكون ما فوق البطانة مما تراه الأعين ويسر الناظرين؛ وقد يقال إن ذكر العرض ذكر للطول فإن تنسيق البيان يوجب المساواة بين طول الجنة وطول السماوات والأرض، كما أن عرضها كعرضهما، ويكون ذلك من الإيجاز البليغ.
وقد فسر أبو مسلم الأصفهاني - العرض هنا - بالأشياء القيمية المعروضة للبيع التي جمعها عروض، ومن ذلك قول النبي - ﷺ -: " ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس " (١)، ويكون المعنى على هذا التفسير أن الجنة في قيمتها وعلوها وسموها ومكانتها تعادل السماوات والأرض في قيمتهما، فهي الحياة وهي النعيم المقيم الدائم: (أُعِدَّتْ لِلْمُتَقِينَ) أي هيئت ووضعت للمتقين، وهم
________
(١) متفق عليه رواه البخاري: الرقاق - الغنى غنى النفس (٥٩٦٥)، ومسلم: الزكاة: ليس الغنى عن كثرة العرض (١٠١٥) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
1411
الذين جعلوا بينهم وبين الشر وقاية أي جعلوا أنفسهم في حصن فلا مدخل للشيطان إليها، ولا سارب له في قلوبهم، وصار ذلك شأنا من شئونهم حتى كان وصفا وحالا دائمة مستمرة لهم.
وقد أخذ بعد ذلك يبيّن سبحانه وتعالى الصفات التي رفعتهم إلى هذه الرتبة، والتي جعلتهم يصلون إلى هذه المنزلة فذكر خمس صفات كلها ذات صلة وثيقة ببناء مجتمع سليم قوى ثابت، وقد ذكر الصفة الأولى فقال سبحانه:
* * *
1412
(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ... (١٣٤)
* * *
ومعنى النص السامي أنهم ينفقون، ويتجدد إنفاقهم آنًا بعد آنٍ، ولذا عبر المضارع؛ لأن التعبير بالمضارع يفيد التجدد المستمر، والتعبير بالماضي يفيد الواقع المنقضي، ومعنى قوله تعالى: (فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) أنهم ينفقون في حال مسرتهم، وحال مساءتهم، وهذا يشمل أحوالا كثيرة، فهم ينفقون في حال الغنى والفقر واليسر والعسر، وكل حال بمقدارها، وفى حال الصحة والمرض، وفي السرور والحزن، وحال عرس أو مأتم أو حبس، والمغزى في هذا أنه لَا تشغلهم أنفسهم عن حاجة الناس إليهم أو إلى أموالهم، ولا تشغلهم همومهم الخاصة عن هموم الناس، والإنفاق منهم ليس لمناسبات تعرض وتزول، ولا لأحوال تجيء ثم تحول، بل هو لطبيعة ثابتة فيهم مستقرة غير مفترقة لَا تزايلهم. وقدم الإنفاق على غيره من الصفات، لأنه وصف إيجابي وما عداه سلبي أو يتصل به، والإيجابي في أكثر أحواله أشق من السلبي، ولأنه أدل على الإخلاص، ولأنه في صدر الإسلام كان المجتمع أشد احتياجا إليه من غيره، إذ كان الفقر كثيرا، وكانت الحاجة إلى المال في الجهاد أشد؛ إذ كان ذلك ابتداء دولة، ولذلك قرن الأمر بالإنفاق بالنهي عن التعرض للتهلكة، فقال تعالى: (وَأَنفِقوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلكَةِ...).
(وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) كظم الغيظ أن يمسك على ما في نفسه، فيحملها على الصبر، ولا يظهر أثر لهذا الغيظ، ولقد قال الراغب الأصفهاني في مفرداته: (الغيظ أشد الغضب وهو الحرارة التي يجدها
1412
الإنسان من فوران دم قلبه). والغيظ بلا شك يدفع إلى الثورة وهي مظاهر الغضب فكظمه إبقاؤه في النفس وعدم ظهور آثاره في القول أو في الفعل، وأصل كظم من كظم السقاء إذا ملأه وسد فاه، والكظامة ما يسد به مجرى الماء، وكظم البعير إذا لم يجتر.
وإن هذا الوصف ليس فيه منع للألم الذي يحدث من الأذى، بل إنه يدعو إلى كبح جماح الغضب ومنع نفسه من الاسترسال في مجاوبة الشر بمثله، وإن هذا لَا ينال إلا بشق الأنفس وقوة الإرادة: ولذلك قال النبي - ﷺ -: " ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب " (١) ولقد اعتبر النبي - ﷺ - أقرب القربات ألا يغضب، واعتبر أن إبعاد المؤمن الغضب عن نفسه إبعاد لغضب الله تعالى عليه، فقد سأله أنس رضي الله عنه عما يبعد غضب الله تعالى، فقال له عليه الصلاة والسلام: " لا تغضب " (٢).
وإن غضب المؤمن يجب أن يكون لأجل حقوق الله، وغيظه يجب أن يكون لانتهاك حرمات الله تعالى. ولقد قال النبي - ﷺ -: " ما من جرعة يتجرعها العبد خير له وأعظم أجرا من جرعة غيظ في الله تعالى " (٣).
هذا هو الوصف الثاني من أوصاف المتقين، أما الوصف الثالث فهو العفو، وهو ثمرة لكظم الغيظ، وإنه يجب أن يكون معه لأن الغيظ الشديد إذا لم يصحبه عفو فإنه يمض القلب، ويفسد النفس، وينهك القوى فلابد أن يقترن بالكظم العفو لمصلحة الشخص ولمصلحة الناس، ولكيلا تتولد الإحن (٤)، وتتكاثر المحن، وليس العفو هو الستر على الجرائم العامة، فإن الجرائم العامة إذا ظهرت وجب
________
(١) متفق عليه؛ رواه البخاري: الأدب - الحذر من الغضب (٥٦٤٩)، ومسلم: البر والصلة والآداب - من يملك نفسه عند الغضب (٢٦٠٩) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(٢) رواه أحمد: مسند المكثرين (٦٣٤٦) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو أنَّهُ سَألَ رَسُولَ اللَّهِ - ﷺ -: مَاذَا يُبَاعِدُنِي مِنْ غَضَب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: " لا تَغْضَبْ ".
(٣) رواه ابَن مآجه: الزهد - الحلم (١٤١٧٩) عن ابن عمر رضي الله عنه.
(٤) الإحن: جمع إحنة، وهي الحقد، الصحاح.
1413
العقاب لأنه تقليم لأظفارها، وقطع لآثارها فلا يصح العفو عن زان يعلن جريمته، ولا عن سارق اعتاد السرقة واستهان بالحرمات، وروع الآمنين، كما لا يصح العفو عن فساق الألسنة، الذين يقذفون الناس، ويرمونهم بالسوء، ويعملون بذلك على إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، فإن العفو في هذه الأمور استهانة بحرمات الله تعالى، إنما العفو المطلوب هو الذي يكون في أنواع الأذى الشخصي وهي التي ينطبق عليها قول الله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)، وقوله تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)، ولقد ذكرت عائشة في وصف النبي - ﷺ - أنه كان لَا يغضب إلا أن تنتهك حرمات الله، فإذا انتهكت حرمات الله لَا يقوم لغضبه شيء حتى ينتقم لله (١).
ولقد ختم سبحانه هذه الآية بقوله تعالى: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) وهي الصفة الرابعة، وقد ذكرها الله سبحانه وتعالى بهذه الصفة لتوجيه النظر إليها، ولبيان أنها أعلى منازل التقوى، وأنها تنال بها محبة الله تعالى، والإحسان معناه الإتقان والإجادة، وهو يطلق في عبارات القرآن الكريم بإطلاقين: أحدهما أن يراد به الإجادة المطلقة في كل ما يطالب الله تعالى به عباده، ومن ذلك قوله تعالى: (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا)، وقوله - ﷺ - إحسان العبادة: " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " (٢).
والثاني: أن يكون العمل أكثر من المكافأة، فهو لَا يكافئ بالعدل بل يزيد، ومن ذلك قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَامُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإيتَاءِ ذي الْقرْبَى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ...)، وقوله تعالى: (وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ...)، والإحسان بالإطلاق الأول يتعدى بنفسه ويذكر بجواره العمل، والثاني يتعدى بـ " إلى " ويذكر بجواره المحسن إليه، وأقرب الإطلاقين في
________
(١) رواه البخاري: المناقب - صفة النبي - ﷺ - (٣٢٦٩)، ومسلم: الفضائل - مباعدته - ﷺ - للآثام (٢٣٢٧).
(٢) متفق عليه وقد سبق تخريجه من رواية البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
1414
الآية الكريمة هو الثاني، فإنها تومئ إلى أن البر التقي يكظم غيظه، ويعفو عمن ظلمه بل يحسن إليه إن كان للإحسان موضع، وإن الله سبحانه وتعالى أمر أهل الفضل بألا يذهب غيظهِم بإحسانهم فقد قال تعالى: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ...)، فقد نزلت هذه الآية عندما حلف أبو بكر ألا يعطي بعض قرابته الذين خاضوا في حديث الإفك بالنسبة لعائشة زوج رسول الله - ﷺ - وإن هذه الدرجة هي أقصى ما تصل إليه السماحة البشرية، وهي لا تكون إلا لنفس محبة للناس، ولذلك كانت المكافأة هي حب الله تعالى:
* * *
1415
(وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ... (١٣٥)
* * *
هذا هو الوصف الخامس من أوصاف المتقين الذين أعدت لهم الجنان التي عرضُها كعرض السماوات والأرض، والفاحشة هي المعصية الزائدة التي تكون خارجة على مقتضى الطبيعة الإنسانية الفاضلة، وقد غلبت على الزنا، وبذلك فسر بعض العلماء الفاحشة هنا، وعلى هذا الرأي يكون المراد من قوله تعالى: (أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ) كل ذنب غير المعصية، وقال آخرون: الفاحشة الذنب الكبير، وظلم النفس الذنب الصغير، وبعض المفسرين يقول الفاحشة ما يتعدى أذاها إلى غيره، وظلم النفس ما لَا يتجاوز الأذى نفسه، ويكون هذا كقوله تعالى: (وَمن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ...)، وهذا كله على أن الفاحشة وظلم النفس أمران متغايران؛ وبعض العلماء على أنهما وجهان للمعصية، وأن كل معصية كبيرة فيها هذان الوجهان وتكون " أو " بمعنى " الواو "، ويكون المعنى: من يرتكب فاحشة ويظلم نفسه، ويتذكر ألله عند ارتكابها فيعود إلى ربه يكون من المتقين؛ وإلى هذا نميل، والتعبير بصيغة الشرط (إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ) يفيد اقتران الجواب بالشرط، أي أن ذكر الله يكون عند الارتكاب ولا يكون بينهما تراخ يجعل الشر يفرخ في النفس، فالتوبة إلى الله تكون فور الارتكاب لَا تراخي بينهما ولا يستمر في المعصية حتى تحيط به خطيئته، وهذا ما صرح الله تعالى به في
1415
قوله: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (١٧). ومعنى قوله تعالى: (ذَكَرُوا اللَّهَ) أي تذكروا أوامره ونواهيه وتذكروا عظمة الله تعالى وجلاله وقوته، ولذكر الله تعالى مرتبتان (إحداهما) ذكر أوامره ونواهيه وما أعده للمذنبين وما أعده للمتقين (والثانية) وهي العليا ذكر جلاله وعظمته وعلمه بما تخفي الصدور وهذه لَا ينالها إلا الأبرار المقربون.
وإن ذكر الله تعالى لابد أن يتبعه لَا محالة الاستغفار والإنابة، ولذا عقبه سبحانه بقوله: (فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) فهو ثمرة ملازمة ونتيجة محتمة للذكر.
(وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوِا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) الكلام موصول بالكلام السابق، وقوله تعالى: (ومن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ) فيه بيان إجابة الاستغفار وفِيه بيان أنه لَا مفزع من الله إلا إليه، ولذا يقول الزمخشري في قوله تعالى: (ومَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّه) " وصف لذاته بسعة الرحمة وقرب المغفرة، وإن التائب من الذنب عنده كمن لَا ذنب له، وإنه لَا مفزع للمذنبين إلا فضله، وأن عدله يوجب المغفرة للتائب لأن العبد إذا جاء في الاعتذار والتنصل بأقصى ما يقدر عليه وجب العفو والتجاوز، وفيه تطييب لنفوس العباد وتنشيط للتوبة وبعث عليها، وردع عن اليأس والقنوط، وإن الذنوب وإن جلت فإن عفوه أجل وكرمه أعظم ". وذلك كلام مستقيم لولا أنه أوجب المغفرة حيث التوبة، والله تعالى لا يجب عليه شيء، وإن رحمة الله بعباده مع علمه بطبيعة تكوينهم الذي يتنازعه الخير والشر جعلت المغفرة قريبة، ولذا ورد عن النبي - ﷺ - أنه قال: " والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ويستغفرون فيغفر لهم " (١) وشرط الاستغفار المجاب ألا يصر المذنب على ذنبه، ولذا قال تعالى: (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي لم يصروا على الفعل الذي فعلوه بأن تكون
________
(١) رواه مسلم: التوبة - سقوط الذنوب بالاستغفار توبة (٩ ٢٧٤)، وأحمد: باقي مسند المكثرين (٧٧٣٦).
عن أبي هريرة رضي الله عنه.
1416
عندهم النية إلى العودة إليه، وقد فعلوه وهم يعلمون أمر الله تعالى فيه ونهيه، ولذلك قال العلماء: (لا توبة مع الإصرار) وإن الاستغفار مع الإصرار ذنب في ذاته وقد قال الحسن البصري: (استغفارنا يحتاج إلى استغفار) وإن من الإصرار على الذنوب أن يعلن التوبة، وللناس عنده مظالم لَا يردها، فحقوق العباد لا تقبل التوبة فيها إلا بعد ردها إلى أصحابها، وإن التائب المعترف بذنبه المستكبر له التائب عنه مقرب إلى ربه حتى إن الصوفية يقولون: (إن معصية أورثت ذلا وانكسارا خير من طاعة أورثت دلا وافتخارا).
* * *
1417
(أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا... (١٣٦)
* * *
أي أولئك الذين اتصفوا بهذه الصفات بسببها قد استحقوا برحمة الله تعالى جزاءهم وهو ثلاثة: أعلاها مغفرة من ربهم الذي خلقهم وهذه المغفرة دليل رضاه، وهو أعلى جزاء، والثاني الجنات التي تتوافر فيها أنواع النعيم، وثالثها الخلود، فهو نعيم ليس على مظنة الانتهاء، إذ إن توقع الزوال ينقص من قدره، ولذلك قال بعد ذلك سبحانه: (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) أي ذلك الجزاء جدير بأن يُرغب فيه، ويتنافس فيه المتنافسون، ويطلبه كل عارف لحقيقته لم تلهه الدنيا بما فيها، فذلك المدح للحث على طلبه والعمل على استحقاقه وعدم التخلف عن الاتجاه إليه، اللهم اغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين.
* * *
(قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١٣٧) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (١٤١)
* * *
1417
أشار سبحانه في الآيات السابقة إلى غزوة أحد وإمداد الله بالملائكة للمؤمنين في الحروب إن صبروا في اللقاء، ولم يختلفوا على قائدهم في المعركة، وجعلوا ما عند الله تعالى الغاية والمرمى، ثم ذكر من بعد ذلك سبحانه ما هو دواء القلوب، وغذاء الإيمان، وهو الطاعة والتعاون، وألا يأكل أحد حق أخيه أو ماله بالباطل، وأن المال الحلال هو قوة الحروب، والمال الحرام كمال الربا سُحت، وطلبه من ضعف الإيمان، ويربي خور العزائم إذ إن شهوة المال، والشجاعة وحب الفداء خلال لَا تجتمع في قلب رجل واحد، ثم بين سبحانه أن أعظم الذخائر هو تربية النفوس على التقوى وطلب مغفرة الله سبحانه وتعالى.
ولقد جاء بعد ذلك الكلام على أثر غزوة أحد في نفوس المؤمنين، وقد نهاهم سبحانه عن الضعف والوهن والحزن، وأمرهم أن يتخذوا من الهزيمة سبيلا للنصر، وإنها سنة الله في خلقه فعليهم أن يخضعوا لها ويقروا في ذات أنفسهم بها، ولذا قال سبحانه:
1418
(قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ).
" خلت " معناها مضت وثبتت وتقررت، والسنن جمع سنة، وهي تطلق بمعنى الطريق المسلوك المعبد، وتطلق بمعنى المثال الذي يتبع، ولقد قيل إنها من قولهم سن الماء إذا صبه صبا متواليا فشبهت العرب به الطريقة المستقيمة المتبعة المستمرة، والمعنى أنه قد مضت وتقررت من قبلكم سنن ثابتة ونظم محكمة فيما قدره الله سبحانه وتعالى من نصر وهزيمة، وعزة وذلة، وعقاب في الدنيا وثواب فيها، فالحق يصارع الباطل، وينتصر أحدهما على الآخر بما سنَّه سبحانه من سنة في النصر والهزيمة، من طاعة للقائد، وإحكام في التدبير، وقوة إيمان، واستعداد للفداء، وهكذا، (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (٨) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (٩).
وإن من سنن الله تعالى الثابتة ألا يمكن من الظلم وأن ينتصر أهل الحق إذا عملوا على نصرته، وتضافروا على إقامته ولم ينحرفوا عن طاعته، وأن أهل الباطل قد ينتصرون إن اتحدوا واستعدوا، فينالون الظفر لتخاذل أهل الحق
1418
وانقسامهم، أو إرادتهم عرض الدنيا، أو عدم الصبر على طاعة القائد العظيم كما كان الشأن في أحد.
وإن من سنن الله تعالى أن يجعل العاقبة للصابرين الصادقين، فإن أَمْلى للكافرين سنة فإنه سيأخذهم من بعد أخذ عزيز مقتدر، وينصر عليهم أهل الحق، وإنما قدر الله تعالى نصرتهم الوقتية على أهل الحق ليصقل أهل الإيمان، وليهديهم هداية عملية إلى طريق الانتصار، وليميز من بينهم ضعيف الإيمان، ويظهر نفاق أهل النفاق، وبذلك تتبين الصفوة المختارة التي يعتمد عليها، ويذهب الذين مردوا على النفاق بنفاقهم، فلا ينخدع بهم أحد، ولا يرجفون بكيدهم في الجماعة، ولقد بين سبحانه لأهل الإيمان عاقبة المكذبين تثبيتا لقلوبهم، وتأييدا لهم فقال جل من قائل: (فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذبِينَ).
أي أنه إذا كانت سنة الله تعالى في خلقه، أو العاقبة دائما للمتقين، فسيروا في الأرض، فانظروا الحال التي قد انتهى بها الكاذبون. والتعبير بلفظ (كيف) الدال على الاستفهام يقصد به التصوير وتوضيح الحال في صورة تدعو إلى العجب وتثير الاستغراب، أي أن عاقبتهم التي انتهوا إليها من تدمير ديارهم، وتعفية آثارهم بعد أن طغوا وبغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد، تثير العجب والدهشة لمن ضعف إيمانه، وتلقي بالطمأنينة والصبر والرضا لمن قوى إيمانه. وفى هذه الآية وأمثالها من الآيات التي تدعو إلى السير في الأرض والبحث لمعرفة أحوال السابقين دعوة إلى أمرين: أحدهما - دراسة تاريخ الأمم بشكل عام، فإن التاريخ كتاب العبر، وسفر المعتبر، وهو رباط الإنسانية التي يربط حاضرها بماضيها.
والأمر الثاني - دراسة أحوال الأمم من آثارها فإنها أصدق من رواية الرواة وأخبار المخبرين، فقد يكون التاريخ المكتوب أكاذيب، أما الآثار فصادقة لمن يعرف كيف يستنطقها، وإن الملوك وأشباههم يزيفون الأخبار المنقولة، وإنه ليحكى أن
1419
أحد الملوك كلف كاتبا أن يكتب تاريخ دولته فسأل بعض أصحاب الكاتب عما يكتب فقال: " أكاذيب ألفقها وأباطيل أنمقها ".
* * *
1420
(هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨)
* * *
الإشارة في النص السامي إلى ما تضمنته الآية السابقة من الحث على السير في الأرض وتعرف سنن الله تعالى من آثار المكذبين الذين طغوا أولا ثم ذلوا وأُخذوا من حيث لَا يحتسبون - وقد ذكر أن هذا بيان للناس أجمعين، يدركه كل من له بصر يبصر به، وفهم يفهم به، وتحقق البيان لَا يقتضي تحقق أثره وهو المعرفة التي تهدي إلى الإيمان وتوجب الاتعاظ، إنما تكون الهداية من البيان والاتعاظ به للمتقين دون غيرهم، ولذلك جعل سبحانه البيان للناس جميعا، والهداية والموعظة للمتقين منهم فقط؛ إذ إن الهداية بالبيان تقتضي إشراقا روحيا، واستعدادا قلبيا، وإخلاصا في طلب الحقيقة، والموعظة وهي الاستفادة من العبر، تقتضي قلبا متفتحا لإدراك الحقائق والاتجاه إليها بقصد سليم، وذلك كله لَا يتوافر إلا للمتقين الذين أخلصوا أنفسهم لله، وطلبوا الحق، وسلكوا سبيله لَا يبغونه عوجا، ومثل البيان مثل البذر يلقى في الأرض، فإذا أصاب صحراء قاحلة جف ولم ينتج، وإذا أصاب أرضا خصبة أنبتت نباتا حسنا، وقد مثل النبي - ﷺ - العلم بالغيث وبين اختلاف الناس في تلقيه، فقال: " مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الهُدَى وَالعِلْمِ، كَمَثَلِ الغَيْثِ الكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ، قَبِلَتِ المَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الكَلَأَ وَالعُشْبَ الكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ، أَمْسَكَتِ المَاءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءً وَلاَ تُنْبِتُ كَلَأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ " (١).
وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد بين هذا البيان فيجب على المؤمنين أن يعتبروا بسنن الله تعالى وأن يعرفوا أن ما أصابهم في أحد فبسنن الله، وعليهم أن
________
(١) رواه البخاري: العلم - فضل من عمل وعلم (٧٧)، ومسلم: الفضائل - بيان ما بعث الله به النبي - ﷺ - (٢٢٨٢) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وقد سبق تخريجه بألفاظه.
1420
يأخذوا الأهبة للمعركة القابلة، ولا تأسر تفكيرهم المعركة السابقة إلا بمقدار ما فيها من عظة وعبرة، ولذا قال سبحانه:
* * *
1421
(وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩)
* * *
الوهن: ضعف النفس، وقد يؤدي إلى ضعف الجسم عن العمل، والحزن ألم نفسي يصيب الإنسان عند فقد ما يحب أو عدم إدراكه، أو عند نزول أمر يهم النفس، ويجعلها في هم دائم، ومعنى النهي عن الوهن والحزن - وهما أمران نفسيان - هو النهي عن الاسترسال في الألم مما أصابهم، والمغزى: لَا تسترسلوا في الهم والألم مما كان يوم أحد، فإن ذلك يؤدي إلى ضعفكم عن القتال، فليس النهي منصبا على أصل الوهن والحزن، ولكنه منصب على سببهما الذي هو في قدرة المؤمن وهو الاسترسال في الوهن والحزن.
والآية الكريمة تضمنت ذلك النهي، وتضمنت بشارة وتسلية، كما تضمنت فوق ذلك بيان سبب النصر وهو صدق الإيمان.
فاما النهي فقد بينا ما يتجه إليه، وأما البشارة والتسلية، فهي قوله: (وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ) فهي تسلية للنبي وأصحابه من حيث إن فيها بيانا لأنهم أعلى، ومعنى العلو أنهم قد كان لهم غلب أكثر مما كان للمشركين، فقتلى المشركين يوم بدر أكثر من قتلى المؤمنين يوم أحد، والمؤمنون في أحد ذاتها قد كانوا أعلى منزلة من الكفار؛ لأن قتلى المؤمنين في الجنة، وقتلى المشركين في النار؛ ولأن قتال المؤمنين في سبيل الحق، وقتال المشركين في سبيل الطاغوت، وأي علو للإنسان أكثر من أن يشعر بأنه يقاتل لنصرة الحق، ويغالب في سبيله، فإن الحق في ذاته عزة وعلو، وفوق ذلك في النص بشارة بأن العاقبة للمتقين، وهو العلو في الأرضِ كما قال تعالى: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةَ وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ).
وأما سبب النصر فهو صدق إيمان المؤمنين، فإن صدق الإيمان يصفي النفوس من أدرانها ويبعد عنها آثامها، ويجعل القصد هو إعلاء كلمة الحق، فيقدم
1421
المؤمن على القتال وهو يعلم أنه يفوز بإحدى الحسنيين الشهادة أو النصر، وكلتاهما غاية الطلب.
فالآيات تساق لمقاصد سامية منها إلقاء البشرى، والتسلية والتعزية، فقد بيّن الله سبحانه أن ما أصاب المسلمين في أحد قد أصاب المشركين مثله، وفي ذكر ذلك دعوة إلى تجديد الجهاد بقلوب مستبشرة، ونفوس مطمئنة، فقال تعالى:
* * *
1422
(إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ... (١٤٠)
* * *
القَرْحُ بفتح القاف: الجرح، وبضمها: الألم الذي يترتب عليه، وقال الكسائي والأخفش: اللغتان بمعنى واحد وهو الجرح وأثره، وبهما قرئت الآية (١)، ولقد جاء في المفردات للأصفهاني: (القرح الأثر من الجراحة من شيء يصيبه من الخارج، والقرح أثرها من الداخل، كالبثرة ونحوها). فالقرح على هذا أثر الجراحات في الظاهر، وبالضم أثرها في الباطن وإذا كان القرح هنا معنويا، فيصح أن نقول: إنه بالفتح ما يعقب المعركة من ألم واضح للهزيمة، وهو بالضم الغم والحزن الذي يستولي على النفوس حتى يكون النصر من جديد، وإن الظاهر هنا أن الفتح أوضح؛ لأن الله عبر عن أثره بأنه مس فقال: (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ) والمس إنما يتناول الظاهر فقط.
والقرح الذي أصاب المشركين هو يوم بدر، وما أصاب المسلمين هو يوم أحد، وقد قرر الزمخشري أنه يجوز أن يكون القرح الذي أصاب المشركين هو يوم أحد، لأن المشركين قتل منهم عدد، فكان فيهم مقتلة كما في المسلمين فقد قال الله تعالى: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّه وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهم (٢) بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصيْتُم مِّنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تحِبُّونَ...).
________
(١) قرأها بضم القاف: حمزة والكسائي، وخلف وأبو بكر. وقرأ الباقون بالفتح. [غاية الاختصار لأبي العلاء الهمداني: (٢ ص ٤٥٣).
(٢) تحثونهم: تقتلونهم.
1422
ولكن الظاهر هو الأول، ليتحقق معنى قوله تعالى في بيان سننه إذ قال: (وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ).
هذه هي الفائدة الأولى التي تستفاد مما أصاب المسلمين يوم أحد، وهذه الفائدة هي أن يروا سنة الله قائمة، فلا نصر يدوم، ولا هزيمة تدوم، لأنه لو دام النصر لكان الغرور، ومع الغرور الطغيان، ووراء ذلك الترف، وإذا أصاب الترف نفوس الشعوب ذهبت نخوتها وضؤلت قوتها كما توقع الصِّدِّيق خليفة رسول الله - ﷺ - للعرب عندما يتوالى انتصارهم: (والله لتألمن من النوم على الصوف الأذربى (أي صوف أذربيحان) كما يتألم أحدكم من النوم على حسك السعدان) (١).
والداولة معناها تبادل النصر، وقد كان ذلك في أول الإسلام مرة واحدة لكيلا يأخذ الترف السابقين من المؤمنين، وفسر الزمخشري مداولة الأيام بتبادل النصر وقال: (المراد بالأيام أوقات الظفر والغلبة. نداولها: نصرفها بين الناس نديل تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء)، وأصل كلمة نداول من الدولة، وهو مصدر لدال يدول بمعنى انتقل من حال إلى حال، أو من يد إلى يد، ومن ذلك قوله تعالى: (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ...)، أي يتدولون المال فيما بينهم، ولا يصل إلى أيدي الفقراء منه شيء.
والمعنى الجملي: فعلنا ذلك إجراء لسنة من سن ألله التي خلت من قبلكم وهي مقررة في قوله تعالى: (وَتلْك الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا) ولذا عطف عليه قوله تعالى: (ولِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ):
هاتان فائدتان أخريان لما أصاب المسلمين يوم أحد، فأولاهما - تحقق علم الله تعالى وإظهاره المؤمنين الثابتين، والذين ينافقون، فمعنى علم الله تعالى هو تحقق ما قدره في الأزل، فيعلمه الناس، ويعلمه الله تعالى واقعا حاضرا، ولقد
________
(١) حسك السعدان: نبات شوكي وهو من أفضل مرعى الإبل، وفي المثل. مرعى ولا كالسَّعدان. الصحاح.
سعد.
1423
ذكر الزمخشري في تفسير علم الله في هذا المقام أنه على وجهين: أحدهما أن يراد تمييز قوى الإيمان من ضعيف الإيمان فيتميز الخبيث من الطيب، ويكون هذا من قبيل التمثيل، أي فعل الله تعالى ذلك فعل من يريد أن يعلم من الثابت على الإيمان منكم من غير الثابت، والوجه الثاني - أن يكون علم الله الذي ثبت بالواقعة هو علم الجزاء أي يتحقق فيهم جزاء الله تعالى وفي الحق أن المؤدى في الأقوال كلها واحد وهو أن يظهر صادقو الإيمان وينكشف نفاق المنافقين، ويعلن بذلك للناس علم الله تعالى المكنون.
والفائدة الأخرى في الآية هي اتخاذ شهداء - أي وقوع الشهادة في المؤمنين أي قتل المؤمنين الذين يشهد لهم بالجنة ويشهد لهم بالفداء، وإن هذه فائدة؛ لأن هؤلاء يكونون مُثُلًا عليا في الفداء يَقتدِي بهم غيرُهم، ويستهينون بالموت في سبيل إعلاء كلمة الحق، وخفض كلمة الباطل، ولأن هذا يجعل المجاهدين يعلمون أن الحرب مع نصر الله غير خالية من الشدائد والاستعداد لها، والإصابة فيها.
(وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) إذا كان من هؤلاء الذين تقدموا للقتال من كانوا من أهل الحق، ومنهم من كان من أهل الدنيا، وقد علم الله تعالى الفريقين، فإنه لا شك أن الذين لم يثبتوا على القتال وقد دخلوا، والمنافقين الذين ثبطوا الذين آمنوا حتى همت طائفتان منهم أن تفشلا - ظالمون، وإذا كانوا ظالمين، فمن نتائج المعركة أن يتميزوا وأن يعلموا أنهم ليسوا من أهل الله، لأنهم فقدوا محبته، وفي هذا النص إشارة إلى ظلم الذين اتبعوا الغنائم، وتركوا موضع الرماية وكشفوا ظهر المؤمنين إذ إن هذا كان سبب الهزيمة، والله لَا يحب الظالمين، ولا يحب أفعالهم، ولذلك قدر الهزيمة مع هذا الفعل، فعلى القائد أن يختار جنده من الصفوة دون غيرهم، وبهذا يكون ذلك النص فائدة رابعة.
* * *
1424
(وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (١٤١)
* * *
هاتان فائدتان، أولاهما تمحيص الذين آمنوا، والتمحيص هو التخليص، أي تخليص المؤمنين من ذنوبهم والمنافقين، وقد جاء في أساس البلاغة للزمخشري: " محص الشيء محصا،
1424
ومحصه تمحيصا خلصه من كل عيب، ومحص الذهب بالنار خلصه مما يشوبه "، والمعنى على هذا أن هذا القرح الذي أصاب المؤمنين خلصهم مما كان يشوب قلوبهم من أعراض الدنيا، وخلصهم ممن كانوا يخالطونهم من ضعاف الإيمان والمنافقين، إذ تبين خبثهم، فصاروا لَا يجدون لقولهم سامعا، ولا لدعوتهم إلى التردد والهزيمة مجيبا.
والفائدة الأخرى قررها الله سبحانه وتعالى بقوله: (وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) أي ينقصهم، إذ المحق معناه النقصان، ومنه المحاق لآخر الشهر، لأن الهلال يبلغ أقصى مدى النقصان فيختفي، والمعنى أن هذه الإصابة التي ترتب عليها تخليص المؤمنين من الشوائب يترتب عليها أن يختفي عَلَم الكفر فلا يظهر، وتنقص قوتهم فلا ينتصرون من بعد، لأن العزائم قد تحفزت حذرة لمنازلتهم، فكانت الهزيمة سبيلا للنصر، وكان الجرح سبيلا لإعلاء كلمة الله تعالى.
هذه عبرة ساقها العزيز القدير لهزيمة المؤمنين يوم أحد، وقد نبه سبحانه إلى طريق الاستفادة من الهزيمة، بأن نخلص أنفسنا من شوائبها، ونمحص جماعتنا، فهل لنا أن نستفيد من ذلك؟! إن الله تعالى يداول بين الناس وقد دالت علينا الأزمان بما فعلنا وبما ظلمنا أنفسنا وباستخذائنا وضعفنا، وقد بدت البشائر بأن الدولة أوشكت أن تعود إلينا، اللهم أجعلنا ننتِفع بمواعظ القرآن، وهداية الرسول - ﷺ -: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (٢٨٦).
* * *
(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣) وَمَا مُحَمَّدٌ
1425
إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤)
* * *
هذه الآية موصولة بما قبلها؛ لأن موضوعهما واحد، إذ الكلام في أثر غزوة أحد في نفوس المؤمنين، ومداواة العزيز الحكيم لهذه النفوس بالعبر يسوقها، وسننه تعالى يبينها، وآياته في الآفاق والأنفس يكشفها، وقد بين سبحانه وتعالى في الآية السابقة مداولة الله سبحانه في الأمم بالنصر والهزيمة، وأن العاقبة للمتقين، وفي هذه الآيات يبين أن الجماعات تصقل بالمحن، والمجاهدين يتميزون عند وجود الشدائد، وأنه لَا تخلص النفوس وتطهر إلا بالاختبار الشديد، ولذا قال تعالى:
1426
(أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنةَ وَلَمَّا يَعْلَم اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكمْ) " أم " هنا إما أن تكون للإضراب، ويكون المعنى: بل حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم، والإضراب هنا معناه الانتقال من طريق للبيان إلى طريق آخر، ففي الأول بين العبر والسنن بطريق التقرير، وفي هذه الآية يبين سنة أخرى بطريق الاستفهام الإنكاري، وفيه فضل تنبيه وفضل تقرير، والمعنى: أن سنة الله تعالى في نعيمه أنه لَا يستحقه على كماله إلا من بذل المهجة في حياته، وصبر في السراء والضراء، وهذا كقوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ...). وكقوله تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْثَنونَ).
ويصح أن تكون " أم " هنا. للمعادلة، أي تكون متصلة لَا منقطعة، ويكون المعنى على هذا: أعلمتم أن لله تعالى سننا في خلقه وأنه يداول النصر بين الناس،
1426
وأن الحرب لَا تخلو من فرح ونكاية، أم حسبتم وظننتم أنكم تدخلون الجنة من غير أن يصيبكم الجرح، وتدموا (١) في الحروب، ويكون منكم شهداء. وقوله تعالى: (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ).
المراد من العلم فيها المعلوم، أي ولا يستبن لكم أمركم، ويظهر لكم جهاد المجاهدين وصبر الصابرين، فالمعنى ظهور علم الله الواقع فيكم وبيانه لكم، وذلك لأن الله يعلم الأمور قبل وقوعها، فلا يتصور أن يكون غير عالم حتى تقع، بل المراد وقوع ما علمه الله تعالى وظهوره وكشفه وإعلانه مُحَسا واقعا، بعد أن كان خفيا لَا يعلمه إلا علام الغيوب، وقد تكلموا في الحكمة في أن الله تعالى عبر في نفي المعلوم الواقع بنفي العلم الثابت، فقال: (وَلَمَّا يَعْلَم اللَّهُ) ولم يقل: ولا يقع معلوم الله، ونقول: إن حكمة ذلك هو تعليمنا بألا نحكم إلا بما يظهر ويقوم عليه الدليل المحسوس، ولا يحكم أحد بما يتوقع، فالله العليم بكل شيء يرشد إلى أنه يترك الحكم في الأمر حتى يقع ما حكم به محسوسا ملموسا.
وقد نفى الله تعالى " العلم " بكلمة " ولا " وهي في معنى لم، بيد أنها تمتاز عنها بأنها تنفي الآمر في الماضي والحاضر، وتؤمى إلى وقوعه في المستقبل، ففي الآية إيماء إلى أن المعلوم وهو المجاهدون، لم يكونوا معلومين قبل الاختبار، وكانوا بعد الاختبار، وظهرت تلك الصفة فيهم. (وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ).
أي ويقع المعلوم الثاني الذي قدره الله تعالى، وهو أن يتميز الصابرون من غيرهم، فالابتلاء الشديد أظهر نوعين من الرجال: أولهما - المجاهدون الذين يخالدون ولا يفرون ولا يولون الأدبار، ولا يذهب ببأسهم قوة عدوهم، وفشل فريق من إخوانهم. والفريق الثاني الذي أظهره هم الذين صبروا ولم تذهب قلوبهم شعاعا، ولم يذهب تفكيرهم، ولم يضع رشدهم، ولم تطش أحلامهم، وقد يقول قائل: إن الجهاد يتضمن الصبر، كما قال النبي - ﷺ -: " إنما الصبر عند
________
(١) من دَمِي: إذا تلوث بالدم. الصحاح. والمقصود هنا ما أصابهم من جراحات وقتل.
1427
الصدمة الأولى " (١)، وإن الصبر عدة الجهاد الأولى، فلماذا خُصَّ الصابرون بالذكر، وخص الصبر بالتنويه، ونقول في الإجابة عن هذا السؤال: إن الصبر ولو أنه عدة الجهاد ينفرد بمعنى آخر غير الجلد والصبر تحت حر القتال وفي بريق السيوف، فإن الصبر يتضمن ثبات الفكرة واطمئنان القلب إلى الحقائق المقررة، وعدم طيش الأحلام، فإن الأخبار التي تثبط العزائم في الحروب إذا كانت كاذبة قد يصدقها المجاهد، ولكن شجاعته تدفعه إلى مواصلة القتال، وعدم التأثر، والصابر المطمئن النفس يمحص الأخبار في وسط الاضطراب النفسي، فإذا أشيع في ميدان القتال أن القائد قد قتل، كان الأبرار من الجند فريقين: أحدهما - المجاهدون الشجعان الذين يستمرون على القتال، ولو كان الخبر صادقا، ويندفعون في الميدان. والفريق الثاني المجاهدون الذين نالوا حظ الأولين وكان لهم مع ذلك قدرة على التأمل أصادق الخبر أم كاذب، وإذا كان صادقا حثوا غيرهم على الاستمرار وبينوا لهم أن الواجب صار أشد وأقوى وألزم، فهذا فريق الصابرين، وإن هذا النوع من الصبر هو أعلى أنواع الصبر؛ لأنه ثبات الجنان، وتحمل التبعات بأبلغ أحوالها وأشد صورها، فهو صبر في جهاد الفكر، وجهاد النفس، وتحمل عبء الجاهلين الأغرار، وتولى إرشادهم وتوجيههم.
والنص يفيد أن الطريق إلى الجنة ليس سهلا يسلكه كل إنسان، إنما هو محفوف بالمكاره والشدائد، ولا يصل إلى غايته إلا الذين جاهدوا وصبروا وصابروا، ولذا قال النبي - ﷺ -: " حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات " (٢) وذلك لأن المعاصي أسبابها اندفاع الشهوات الإنسانية، وانطلاق الغرائز المنحرفة، فليس فيها جهاد بأي نوع من أنواعه، بل فيها تلذذ وانحراف، وأما الجنة فسبيلها جهاد للنفس ومغالبة للهوى، ومنازلة بين الحق والباطل، وتكليفات يجب القيام
________
(١) سبق تخريجه من رواية البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
(٢) رواه مسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (٢٨٢٣)، والترمذي: صفة الجنة (٢٤٨٢)، وأحمد: باقي مسند المكثرين (١٢١٠١)، والدارمي: الرقاق - حُفت الجنة بالمكاره (٢٧٢٠) عن أنس رضي الله عه.
1428
بها، وكل هذه مشاق يحتاج احتمالها إلى جهد في دائرة الطاقة، و (لا يكَلفُ اللَّه نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا...).
ولقد أشار سبحانه وتعالى إلى أن المؤمن الصادق الإيمان يعرف طريق الجنة، وأن الموت في سبيلها هو شكر لنعمة الله تعالى فيما أنعم في الحياة الدنيا، وفيما ينعم في الجنات في الحياة الآخرة، وإن الذين قاتلوا في غزوة أحد الذين سيقت لهم هذه العبر يعلمون ذلك ويعرفونه ويؤمنون به، وينفذونه، ولذا قال سبحانه وتعالى:
* * *
1429
(وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ... (١٤٣)
* * *
كان المؤمنون يتمنون الموت حقا وصدقا، وصدق الله العظيم، ذلك أنهم كانوا يتشوقون للشهادة ويريدونها ويطلبون أسبابها، وفي غزوة أحد بالذات ما كان للنبي - ﷺ - رأى في الخروج من المدينة، ولكن شباب المجاهدين أرادوا اللقاء خارجها، فنزل عليه الصلاة والسلام على حكم الشورى وقادهم، وما كانوا يريدون عرضا من أعراض الدنيا، ولا غاية لهم إلا أن ينالوا إحدى الحسنيين الظفر أو الشهادة، وفي كلتيهما إعلاء كلمة الحق، وخفض كلمة الباطل.
ومعنى تمنى الموت: تمنى لقاء سببه وهو الحرب، وكان الله سبحانه وتعالى ينبههم إلى أنهم بتمنيهم لقاء الأعداء في الميدان يجب أن يفرضوا أن الموت ينالهم كما أن الحياة العليا قد ينالونها، فكان عليهم أن يتوقعوا الموت عند تمنى اللقاء، وأن يعلموا أن تمنيهم للقاء هو في ذاته تمن للموت، وأن تمنى الموت هو سبيل النصر وطريق الظفر، فإن الشجاع هو الذي يدخل الميدان طالبا الشهادة، فإنه لا يموت إلا إذا قتل عددا، ولقد وُصِفَ فارس الإسلام علي رضي الله عنه بأنه كان إذا تقدم إلى الميدان لَا يدري أيقع على الموت أم يقع الموت عليه، فكان يقع رضي الله عنه على الموت يصيب به أعداء الله وأعداءه.
ولقد أورد الزمخشري في الكشاف اعتراضا خلاصته: كيف يتمنى المؤمنون الموت، وفي الموت غلبة ونصرة للأعداء فكأنهم يتمنون ذلك النصر لأعدائهم؟ وقد أجاب عن ذلك بأنهم يتمنون فضل الشهادة من غير نظر إلى ما يجره ذلك
1429
على الأعداء من ظفر، ونحن نجيب جوابا آخر، وهو أن تمنى الموت هو تمنى الحرب في سبيل نصرة الله، ومن دخل الحرب متمنيا الموت فإنه لَا يترتب على قتله نصر للأعداء بل يترتب عليه هزيمة لهم، كما أشرنا قريبا، وقد كان السبيل الحق إلى النصر أن يدخل المجاهدون غير حريصين على حياتهم، إنما يحرصون على النصر، ولو كان يموت آحاد منهم، ولا يتحقق ذلك إلا إذا كان كل واحد لا يحرص على الحياة، ولكن يطلب الموت، وَإِنَّ طلب الموت يؤدي إلى الحياة، كما قال الصدِّيق: (اطلب الموت توهب لك الحياة، وفر من الشرف يتبعك الشرف)، وإن الحرص على الحياة يؤدي إلى الجبن، والجبن يؤدي إلى الهزيمة، وإن المجاهد الذي يستحق شرف هذا الاسم يتقدم مريدا عزة الحق، وقابلا الموت، بل يتمناه ليكون شهيدا، وإذا وقع يكون أمرا قد توقعه، ومن بقي من بعد عليهم أن يجددوا العزيمة، ويعيدوا الكرة عليهم، ولذا عتب الله سبحانه وتعالى على المؤمنين إذ أصابهم الغم عندما اشتدت شديدة الحرب عليهم فأصابهم ما أصابهم بل أمرهم أن يثبوا مرة أخرى، وإذا كانوا قد تمنوا الموت، فقد وقع لبعض منهم ما تمنوا، ولذا قال سبحانه وتعالى: (فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ).
الفاء هنا للإفصاح، فهي تفصح عن شرط مقدر دل عليه صدر الكلام، ومعناه: إذا كنتم تمنيتم الموت فقد رأيتموه رأي العين وشاهدتموه، فوقع ما توقعتم، وقوله تعالى: (وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ) تأكيد لحال الرؤية أو تصوير لرؤيتهم؛ لأن الجملة حالية والتعبير بالمضارع يفيد التصوير، وإحضار الصورة الواقعة في الماضي كأنها واقعة في الحاضر، فيستحضرها العقل كما وقعت، وكما ظهرت في الوجود، والنظر الذي قرره سبحانه بقوله تعالى: (وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ) يتضمن النظر إلى الموقعة كلها، وكيف كان الانتصار في ابتداء الأمر عند الطاعة، ثم كيف كان الانهزام عند المخالفة إرادة عرض الدنيا من بعضهم كما قال تعالى: (مِنكم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مٌن يُرِيدُ الآخِرةَ...).
ويتضمن النظر بعد وقوع الانهزام كيف تفرقت الإرادات، وقد كانت إرادة واحدة، وكيف تضعضعت بعض الهمم، وكيف كثرت الظنون، وكيف أصابكم
1430
الغم، ولم تفكروا في إعادة الوثبة، ولذلك كان قوله تعالى: (وَأَنتُمْ تَنظُرُون) متضمنا تأكيد الرؤية ومصورا لها، ومتضمنا مع ذلك العتب أو اللوم؛ لأن حالهم لم تكن متفقة مع ما كانوا يتوقعونه من قبل، إذ إن حالهم من بعد انتهاء الموقعة تفيد أنهم كانوا يريدون النصر رخاء سهلا من غير عقبة تحول يجب تذليلها، ومن غير شدة عنيفة يجب الصبر عليها.
ولقد حدث في أثناء الموقعة أن زاغت الأبصار، فظن بعض المجاهدين أن النبي - ﷺ - قتل، فاضطربت عزائم، واسترخت همم، واستضعف أقوياء، وقد لامهم الله تعالى على ذلك أشد اللوم، وكأنما كان الظن الذي غلبهم ليبين الله لهم حقيقة غابت عنهم، وهي أن محمدا بشر كالبشر، يموت كما يموتون، ويحيا كما يحيون، ولذا قال سبحانه:
* * *
1431
(وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ... (١٤٤)
* * *
تقرير لحقيقة ثابتة وأمر واقع، وهو أن محمدا بشر من البشر، وأنه يموت كما يموت سائر البشر، وقد قرر هذه الحقيقة ومعها دليلها، وذلك ببيان حقيقتين كل واحدة منهما تصلح مقدمة في دليل لإثبات أنه ميت لَا محالة كما قال تعالى: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتون).
الحقيقة الأولى أو المقدمة الأولى: أن محمدا رسول فقط فليس أكبر من رسول، ولذا قال تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ) أي ليس له صفة تميزه على الناس إلا الرسالة، والحقيقة الثانية: أن الرسالة لَا تقتضي البقاء، فقد مضى رسل من قبله وماتوا، وقد قررها سبحانه بقوله: (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ).
ومن مجموع الحقيقتين يثبت أن محمدا سيموت؛ لأنه إذا كان ليس إلا رسولا، والرسل من قبله قد ماتوا، فهو سيموت لَا محالة.
وإذا كان محمد سيموت لَا محالة فإن رسالته لَا تموت من بعده، ولا يصح أن ينقلب المؤمنون من بعده، بل عليهم أن يحملوا العبء من بعده، وقد بلغ
1431
رسالات ربه، وأتم بيان دينه، ولذا وبخ المؤمنين على ما كان منهم يوم أحد إذ ذاع في وسطهم أن محمدا قد قتل، فقال تعالى: (أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ).
الفاء هنا لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أو للإفصاح عن شرط مقدر، والاستفهام للتوبيخ، والمعنى: أإذا مات وقد علمتم أن موته حق لَا ريب فيه، أو قتل في الميدان والقتل طريق من طرق الموت، انقلبتم على أعقابكم، أي عدتم كفارا بعد أن آمنتم، وعباد أوثان بعد أن صرتم من أهل التوحيد، وضلالا بعد أن اهتديتم، والتعبير عن ذلك بقوله تعالى: (انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ) تصوير سامٍ لمن ضل بعد أن اهتدى، فهو تصوير لمن يرجع إلى الوراء وبصره إلى الأمام، وأعقابه هي التي تقوده، وهو منكس جعل رأسه في أسفل وعقبه في أعلى، وذلك أقبح منظر يكون للإنسان.
ولكن هل وقع ذلك الضلال أو كان ما يدل على احتمال وقوعه. يروى في ذلك أن عبد الله بن قمئة الحارثي أقبل يريد قتل النبي - ﷺ -، فتصدى له مصعب بن عمير حامل راية المؤمنين فقتله المشرك، وظن أنه الرسول فأذاع ذلك في المشركين، وانتقل الخبر إلى بعض المؤمنين، إذ قد اختلط الحابل بالنابل، فريعت قلوب بعض المسلمين وولوا مدبرين، وانطلق المنافقون يقولون: لو كان نبيا ما قتل، وثبت المؤمنون الصادقون، وقد مر أنس بن النضر، ووجد قوما خارت عزائمهم فقال لهم: يا قوم إن كان محمد قتل فإن رب محمد حي لَا يموت، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله - ﷺ -، فقاتلوا على ما قاتل عليه، وموتوا على ما مات عليه.. اللهم أعذر إليك مما يقول هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل. وقد مر بعض المهاجرين بأنصاري يتشحط (١) في دمه، فقال له: أشعرت أن محمدا قد قتل؟ فقال: إن كان قد قتل فقد بلغ، فقاتلوا على دينكم، ولقد صاح بعض المجاهدين في وسط ذلك البلاء: يا معشر المؤمنين إن كان محمد قد أصيب أفلا تمضون على ما مضى عليه نبيكم حتى تلحقوا به.
________
(١) أي يتخبط فيه ويضطرب وتمرغ.
1432
وبهذا يتبين أن المحاربين كانوا فريقين: أحدهما رعب واضطرب، والثاني ثبت وجاهد، ولقد ذكر اللَّه حال الفريقين، ومقام كل واحد من الحق ودعوته فقال تعالت كلماته في الفريق الأول: (وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا).
أي ومن ينقلب على عقبيه بعد وفاة النبي - ﷺ - فلن يضر دين الله تعالى في شيء، ولأن دين الله تعالى بعد أن بلغ النبي رسالة ربه، وأكمل البيان لهذا الدين، قد ظهر وصار حقيقة ثابتة في الوجود، فلا عبرة بمن يخرج، كما قال تعالى: (مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ...).
وفى هذا تنبيه إلى ثلاثة أمور:
أولهما: أن من يجاهد عليه أن يجاهد لحقيقة من الحقائق الثابتة الخالدة التي لا تفنى ولا تنتهي، ولا يقاتل لأجل الأشخاص الذين ينتهون ويفنون، فالمعاني خالدة، والأشخاص ميتون.
الثانية: أن من يفسد قلبه فيرتد بعد إيمان ويكفر بعد يقين، لَا يضر دين الله بل يضر نفسه؛ لأن الضال المضل يضر نفسه قبل أن يضر غيره.
ثالثها: إخبار الله تعالى بأن هذا الدين خالد ثابت باقٍ إلى يوم القيامة؛ لأنه سبحانه قد قرر أنه لَا يضره من يخرج عنه أو يمرق عن أحكامه، أو يتركها مستهينا، فإن للإسلام ربا يحميه، ورجالا صدقوا ما عاهدوا الله عليه. ثم بين سبحانه من بعد ذلك جزاء الصابرين الذين لم يرعبوا ولم يضطربوا، فقال سبحانه: (وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ).
أي وسيجزي الله سبحانه وتعالى الذين صبروا في هذه الشديدة وشكروا الله تعالى في السراء والضراء، فلم يزعجهم البلاء كما لم تبطرهم النعماء، فصفة الشكر كصفة الصبر كلتاهما تظهر في السراء والضراء معا، فالصبر يكون في النعمة بالقيام بحقها، وفي الكريهة باحتمالها، من غير تململ وتضجر.
1433
وقد يقول قائل لماذا عبر هنا بالشاكرين ولم يعبر بالصابرين، والصبر هنا هو الأظهر؟ فنقول: إن الشكر في هذا المقام هو أعلى درجات الصبر، وذلك أنهم لم يحتملوا البلاء فقط، بل تجاوزوا حد الصبر إلى حد الشكر على هذه الشديدة، فالشكر هنا صبر وزيادة، وقليل من يكون على هذه الشاكلة، ولذا قال تعالى: (وَقَلِيلٌ منْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ).
وإنا نضرع إلى الله تعالى أن يجعلنا من الصابرين في البلاء، الشاكرين في الضراء والسراء معا، إنك سميع الدعاء.
* * *
(وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (١٤٧) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٤٨)
* * *
الكلام في هذه الآيات موصول بالآيات قبلها، ففي الآيات السابقة أشار سبحانه إلى اضطراب بعض المؤمنين عندما بلغهم كذبا أن النبي - ﷺ - قد قتل، فضعفت نفوس، ووهنت قلوب، واضطربت عقول، فبين الله سبحانه وتعالى أن محمدا رسول من البشر، وأنه يموت كما يموت سائر البشر، وأن له أجلا ملموسا، وأن الدعوة الإسلامية كاملة ما دام النبي - ﷺ - قد بلغها وأتم تبليغها، وبهذا
1434
أتم ما عهد إليه، فإذا مات حمل هذه الأمانة مَن بعدُه ونقلوها إلى الأخلاف، ثم أشار سبحانه وتعالى إلى أن النفوس جميعها بيد الله، وأنه سبحانه قد جعل لكل أجل كتابا.
1435
(وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا) والمعنى ما تحقق وما ثبت لنفس أن تموت إلا بإذن الله تعالى، وقد كتب لها كتابا مؤجلا، ومعنى الإذن هنا يتضمن أن لله تعالى الإرادة المطلقة في قبض النفوس وإرسالها، فهي لَا تموت إلا بمشيئته، ولا تحيا إلا بإرادته، وقد عبر سبحانه وتعالى عن الإرادة بالإذن، وذلك للإشارة إلى أنه إذا كان القتل في الحروب سببا للموت، فإنه ما دام لم يجئ الإذن الذي يعلن مشيئة الله تعالى وإرادته فإن المقاتلين مهما يكونوا أقوياء لَا يمكن أن يصيبوا نفسا لم يشأ الله تعالى قتلها، فهذا النص الكريم يؤكد معنيين: أحدهما: أن الموت بالإرادة الأزلية، وبالمشيئة الإلهية، فما لم يأذن فلا موت. والثاني: أن القتال مهما يكن شديدا فلن تموت نفس لم يكتب الله تعالى لها الموت، وهناك إشارات في الآية كثيرة: منها أن الموت لَا يحتاج بالنسبة لله تعالى إلى أسباب، فليس إلا أن يأذن بقبض الروح فيكون الموت من غير أي مجهود يبذل، ومنها تحريض المؤمنين على الجهاد، وتشجيعهم على لقاء الأعداء، فإن الحذر والحرص على الحياة لَا يمنعان ما قدر الله تعالى، فإذا كان قد أذن للنفوس أن تلقى ربها فلا مانع يمنعها، ولا دافع يدفع عنها أسباب المنايا، ومنها الإشارة إلى حفظ الله تعالى لنبيه - ﷺ - وقد تربص به الأعداء، وأحاطوا به من كل جانب، وصار قريبا من نهزة المختلس، ولكن الله تعالى أحاطه بكلاءته وعنايته، ومنها بيان أن الله سبحانه وتعالى قابض نبيه - ﷺ - مهما يطل الأمد أو يقصر.
وقوله تعالى: (كتابًا مّؤَجَّلًا) مفعول مطلق لفعل محذوف معناه: كتب كتابا مؤجلا، أي له أجل معلوم لَا يتقدم ولا يتأخر، وهو آت لَا محالة.
(وَمَن يرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نؤْتِه مِنْهَا) وإذا كان الأجل مكتوبا، فإن ذلك لَا يمنع أن العمل مكسوب، فعلى كل أن يعمل، وكلٌّ
1435
ميسر لما خلق له، وكل يكون جزاؤه في الدنيا والآخرة، فمن يرد ثواب الدنيا أي جزاءها والنتائج المطلوبة فيها، ويسلك السبيل القاصد الذي يوصل إلى الغاية، وينتهي إلى النهاية، يمكنه الله تعالى من الأسباب، ويسهل له الحصول على النتائج، ومن كان يريد الآخرة ويقصد وجه الله تعالى في كل ما يعمل، ويقصد إلى الدنيا لَا لذاتها، بل على أنها مزرعة الآخرة، فإن الله تعالى يؤتيه من ثواب الأخرة ما ادخره لعباده المتقين، وهذا كقوله تعالى: (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ...). وكقوله تعالى: (من كَانَ يُرِيدُ حَرْث الآخِرةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ومن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا ومَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ).
فالنص الكريم يثبت أن الدنيا لها وسائل، والنجاح فيها له أسباب توصل إلى النتائج، والآخرة لها أسباب وذرائع، وعلى ذلك لَا يكون النجاح في شئون الدنيا دليلا على القرب من الله تعالى، ولا الفشل فيها دليلا على البعد عن الله تعالى، ذلك قول الفجار، الذين يتخذون من سطوة الكفار مع كفرهم دليلا على أنهم أقرب إلى الله من المؤمنين، ويغفلون عن قول الله تعالى: (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (٣٣) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (٣٤) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (٣٥).
وفى النص الكريم إشارات بينات، فهو يشير إلى الذين اتبعوا الغنائم وتركوا طاعة الرسول يوم أحد بأنهم أرادوا الدنيا، ولكن لم يسلكوا مسالكها، ويشير إلى الذي يقاتلون طلبا للغنائم، وأنهم لَا ينالونها إلا إذا استقاموا على مناهج القتال الصحيحة، ويشير إلى فضل الذين صبروا ويصبرون في الحرب، ويطلبون بها وجه الله تعالى لَا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا، ويشير إلى أن القتال يجب أن يقصد به وجه الله تعالى، لعمارة الأرض ومنع الفساد فيها، ثم يبين سبحانه أن أولئك هم الذين ينالون الجواب، ولذا قال تعالى:
1436
(وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) شكر النعمة القيام بحقها، وأداء ما ينعم الله تعالى به من نعم في مواضعه، فإذا أُعطي فشكر العطاء بإنفاقه في مواضع الإنفاق، وإذا منح القوة فشكرها أن يجعلها لنصرة الحق وخفض الباطل، وإذا أُعطي نعمة الحكمة والفكر السليم، فيكون الشكر بتسخير ذلك لنفع العباد، وهدى الناس، وإرشادهم إلى طرق البحث وتذليل الأرض لهم، وأن يكون ما ينتجه للعمارة لا للخراب.
وهنا نجد النص لم يبين الجزاء، ولم يبين من الذين يتصفون بالشكر من طلاب الدنيا أو طلاب الآخرة، وقد ترك الجزاء من غير بيان ليعم الجزاء الدنيوي، والجزاء الأخروي، فمن طلبوا الدنيا واتخذوا أسبابها، ونصروا الضعيف، وخذلوا القوى، وعمروا الأرض ولم يفسدوها، ولم يطرحوا ما عند الله تعالى بل طلبوه، كانوا من الشاكرين. واستحقوا الجزاءين: جزاء الدنيا بأن يصلوا إلى النتائج التي قصدوها، وهي العلو في الأرض من غير طغيان، والجزاء في الآخرة عند تجلي الرحمن.
ولم يبين سبحانه من هم الشاكرون؟ أهم طلاب الدنيا أم طلاب الآخرة، وذلك لأن المطلبين ليسا متضادين، بل إنهما يتلاقيان، وإنه عند التحقيق لَا يعد طالب الدنيا سالكا طريقها إلا إذا طلب الآخرة فيها، وأذعن لقدرة الخالق في طلب الحياة الدنيا، فكل شيء عنده بمقدار، فمن اعتمد على الأسباب الدنيوية وحدها من غير تفويض الله معها فإنه يعاند قدرة الله، ولا ينجح له تدبير، ولا ينتهي إلى غاية في تفكير، (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ).
ولذلك كان الشكر مشتركا عند طلاب الدنيا إن طلبوها على وجهها وطلاب الآخرة، وإنه عند التحقيق أيضا طلب الآخرة لَا ينقطع تماما عن طلب الدنيا، فإن الزهد في الإسلام طلب الحلال وليس إعراضا عن الدنيا، وإن من
1437
يحتطب لقوت أهله أَعْبَدُ ممن ينقطع في صومعة للعبادة، ولذلك ورد في بعض الآثار " رهبانية أمتي في الجهاد " (١).
* * *
________
(١) سبق تخريجه من رواية الإمام أحمد وغيره عن أنس رضي الله عنه.
1438
(وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا... (١٤٦)
* * *
كلمة (وَكَأَيِّنْ) بمعنى كم الخبرية الدالة على الكثرة، أي كثيرون من الأنبياء قاتل معهم ربيون كثيرون، وهناك قراءة و " كائن " (٢)، وهي لغة جائزة في كأين، وقد جمع بينهما الشاعر في قوله:
كَأَيِّنْ أَبَدْنَا مِن عَدُوٍّ بعزِّنا... وَكَائِنٌ أجَرْنَا مِنْ ضَعِيفٍ وخَائِفِ
والربيون هم المؤمنون الصادقون الإيمانَ الذين يقاتلون ابتغاء ما عند الرب، فهم منسوبون للرب سبحانه وتعالى لخلوصهم له، واتجاه قلوبهم إليه وحده، وقال الزمخشري: إنها نسبة غير فيها النسب، وقد قرئ بفتح الراء وضمها وكسرها، ولذا قال الزمخشري: " والربيون هم الربانيون، وقرئ بالحركات الثلاث، فالفتح على القياس والضم والكسر من تغييرات النسب ".
والمعنى كثيرون من الأنبياء قاتل معهم مؤمنون صادقو الإيمان وكانوا يصابون، والقتال يتعاور فيه المقاتلون الجروح والدماء، فليس القتال ريحا رخاء سهلا، بل هو عاصفة وملحمة بشرية يدال بين المقاتلين في الميدان، فكانوا بهذه الجراح راضين صابرين لم يهنوا ولم يضعفوا ولم يستكينوا ويذلوا، وهذا الكلام للاعتبار بحال الماضين الذين قاتلوا من قبل مع الأنبياء، ما ضعفوا عندما أصابهم القرح، فكذلك أنتم ما كان يليق أن تضعفوا إذا أخطاتم فجرحتم يوم أحد.
________
(٢) وبها قرأ ابن كثير، وأبو جعفر المدني وليَّن الهمزة. [غاية الاختصار لأبي العلاء الهمداني: ج ٢ ص ١٤٥٣.
1438
وقد فهم بعض العلماء أن المراد أن بعض الأنبياء قتل في الميدان فما وهن جيشه بقتله ولا ضعف، فما كان يسوغ لهم أن يضطربوا ذلك الاضطراب يوم أحد.
ولكنا نرى أنه ليس في الآية ما يشير إلى هذا المعنى، حتى يتعين مرادا لها، والحق أن العبرة في كون النبيين كانوا يقاتلون ومعهم مؤمنون صادقو الإيمان، يصيبهم جراح، وتصيب أعداءهم، وما كانت جراحهم توهنهم أو تضعفهم أو تجعلهم يستكينون ويذلون، وقد نفَى الله تعالى عن أولئك الربانيين ثلاثة أوصاف لا تتفق مع الإيمان:
أولها: الوهن فقد نفاه سبحانه وتعالى بقوله تعالى: (فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) والوهن اضطراب نفسي، وانزعاج قلبي، فهو يبتدئ في الداخل، وإذا وصل إلى الخارج كان ضعفا وتخاذلا، وإذا أنتج الضعف نتائجه كانت الاستكانة والذل، ولذلك ابتدأ بنفي الوهن، وقرن نفي الوهن بكون سببه ما أصابهم في سبيل الله للإشارة إلى أن الوهن ينافي قوة الإيمان، لأن من كان يقاتل في سبيل الله عليه أن يعلم الغاية من القتال، وهي توجب تحمل كل الشدائد، والعاقبة للمتقين.
الوصف الثاني: الضعف والتخاذل الذي يوجبه اليأس والاضطراب، وهذا كما قلنا نتيجة للوهن.
والوصف الثالث: الاستكانة، وهي الرضا بالذل والعيش مع الهوان، وذلك ليس شأن المؤمن.
وقد نفَى سبحانه هذه الأوصاف الثلاثة مع أن واحدا يكفي نفيه لنفيها، لأنها متلازمة، لبيان قبح ما يقعون فيه لو سلطوا وصفا منها على نفوسهم فاستمكن فيها.
1439
(وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) الله سبحانه وتعالى يشير بهذا إلى أن الذين لا يصيبهم وهن بسبب اشتداد المعركة ولا ضعف ولا ذل ولا استكانة واستسلام هم الصابرون حقا وصدقا. والله سبحانه وتعالى يحبهم. ونقف هنا وقفة قصيرة عند معنى الصبر، واستحقاقه للمحبة لَا لمطلق الجزاء، إن الصبر ليس هو احتمال الشدائد، فقط، بل هو ألا يتضعضع عند نزولها، وألا يضطرب التفكير عند اشتداد الشديدة، وأن تنفي مطامع النفس إلا ما كان منها إجابة لداعي الحق ونصرته، وأن تخلص القلوب عن شوائب الشهوات فلا تخضع لها ولا تذل، بل تتحكم كل نفس في أهوائها، وألا يكون أنين ولا شكوى ولا ضجيج، وهذا هو الذي سمى الصبر الجميل، والصبر على هذا المعنى هو أجل الصفات الإنسانية وأكملها؛ لأنه ضبط النفس، وكمال العقل، وسيطرة الحكمة وقوة الجنان، وهو يتضمن في ثناياه معنى الشكر، فهو عنصر من عناصره، ومظهر من مظاهره، وكان الجزاء أعلى جزاء، وهو المحبة من الله، ومحبة الله تعالى تتضمن رضوانه، وتتضمن ثوابه، وهي مرتبة أعلى منهما، ولا ينالها إلا الصابرون.
* * *
1440
(وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا... (١٤٧)
* * *
أي أن هؤلاء الصابرين ليس لهم شأن في ميدان القتال وفي عموم الأحوال إلا الاتجاه إلى ربهم ضارعين شاعرين بالتقصير في جنب الله سبحانه وتعالى، فمعنى قوله تعالى: (وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا) وما ثبت وتحقق لهم من قول إلا أن قالوا: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا) فنفى الله تعالى عنهم كل قول إلا الاستغفار وطلب النصر، فلم تكن منهم صيحات الفزع والاضطراب، ولا صيحات الأخذ من الأسلاب والغنائم، إنما قولهم هو في علاج نفوسهم والطب لأدوائها، وطلب النصر من ربهم على أعداء الحق الكافرين به، وتلك غاية الغايات عندهم.
1440
ولقد كانت ضراعتهم إلى ربهم بالدعاء تتجه إلى ثلاثة أمور:
أولها: طلب غفران الذنب والإسراف، والذنب هو التقصير في حق الله تعالى، والإسراف في الأمور هو تجاوز الحد في الأمور، وأمرهم هو كل ما يتعلق بإجابة الله تعالى، فهم يستغفرون من التقصير في حق الله تعالى، وتجاوز حدود الله تعالى، وإن ذلك الدعاء مناسب للقتال لأن المقاتل إما أن يقصر فيتخاذل، وإما أن يتجاوز الحد فيقتل في غير حاجة إلى القتال، فكان هذا الدعاء في موضعه، وإن الإسراف في القتل من غير حاجة إلى القتل مؤاخذ عليه كالتقصير، فمن يقتل امرأة أو عاملا غير مقاتِل أو شيخا هرمًا لَا رأى له في القتال، أو يقتل أسيرا، أو يقتل بعد الأمان، يكون مسرفا في أمره، فيكون مؤاخذا، ولذلك طلبوا الاستغفار من الأمرين: التفريط والإفراط.
وإن طلبهم هذا يدل على سلامة قلوبهم، واستصغار عملهم، وذلك شأن الأتقياء، ولذا جاء في الكشاف في هذا المقام: (هذا القول، وهو إضافة الذنوب والإسراف إلى أنفسهم مع كونهم ربانيين كان هضما لها واستقصارا) ولقد كان دعاء النبي - ﷺ -: " اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني " (١).
الثاني: طلب تثبيت الأقدام بألا يهزموا ولا يفروا، بل يلاقوا الأعداء بصدورهم ولا يولوهم الأدبار، وفي تقديم الدعاء بالغفران إشارة إلى أنهم يقدمون طهارة نفوسهم وتزكية القلوب واعتبارها أساس الثبات والصبر في مواطن القتال، وجاء في الكشاف: " والدعاء بالاستغفار مقدما على طلب تثبيت الأقدام في مواطن الحرب والنصرة على العدو ليكون طلبهم إلى ربهم عن زكاة وطهارة وخضوع وهو أقرب إلى الاستجابة ".
________
(١) رواه البخاري: الدعوات - قول النبي - ﷺ - اللهم.. (٥٩٢٠) واللفظ له، ومسلم: الدعوات - التعوذ من شر ما عمل (٢٧١٩).
1441
الثالث: طلب النصر على الكافرين، وهو غاية القتال؛ لأن الانتصار عليهم رفع لاعتدائهم، وتمكين لأهل الإيمان في الأرض، ومنع للفتنة في الدين، وإزالة الحواجز التي تحول بين النبي ودعوته، وذلك نصر لحق الله تعالى.
* * *
1442
(فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ... (١٤٨)
* * *
الفاء هنا لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي أنهم بسبب ذلك الصبر والاطمئنان نالوا جزاء الدنيا وثوابها بالنصر والغنيمة وجعل كلمة الله تعالى هي العليا، ومكن لهم في الأرض، وبسبب هذا أيضا نالوا حسن ثواب الآخرة، أي نالوا النعيم المقيم، وجنات عدن، وما فيها مما لَا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ونالوا ما هو أعلى من ذلك وهو رضا الله تعالى ثم محبته، وهي أعلى الدرجات، ووصف ثواب الآخرة بالحسن؛ لأنه الثواب الذي لَا يعكره معكر، ولا تكليف فيه، ولا مشقة تحتمل في سبيله، فهو حَسَن بإطلاق، وأما ثواب الدنيا فحسنه إضافي إذ فيه تكليفات ومشقات، إذ الدنيا قد اختلط حلوها بمرها، وسراؤها بضرائها، وشقاؤها براحتها، ولذلك كان ثوابها غير حسن إلا حسنا إضافيا نسبيا، أما ثواب الآخرة فحسن باستمرار وإطلاق (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).
ذيَّل الله سبحانه وتعالى الآية التي تتعلق بالجزاء باعظم جزاء وهو محبته الكريمة، وأشار إلى أن هؤلاء الربانيين قد استحقوه بسبب إحسانهم وإتقانهم لما عملوا وما جاهدوا فيه، وصبرهم في الشدائد والمكاره، وتلقيهم للأحداث بجنان ثابت وقلب رابط.
وإننا نجد أن الله تعالى وصف المؤمنين بثلاث صفات، وكل واحدة منها قد استحقت جزاء، فالوصف الأول أنهم شاكرون، فقال: (وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ)؛ لأن الشكر أول أبواب الطاعة، والرغبة في الفداء؛ إذ هو الإحساس بحق المنعم فيما أنعم به.
والوصف الثاني هو الصبر؛ لأن الإيمان الذي هو أول ثمرات الشكر يقتضي ضبط النفس عن أهوائها ومنع الاضطراب في (الصدمات) والرضا بكل شديدة من
1442
غير أنين، والصابرون يحبهم الله، والوصف الثالث الإحسان، وهو نتيجة للصبر، وهو أن تكون النفس كلها لله، تراقبه في كل عمل تعمله، وكل قول تقوله، وكأنها ترى الله، وقد قال النبي - ﷺ -: " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك " (١) وبذلك يكون ممن يحبهم الله، ولقد قال النبي - ﷺ - عن ربه في العبد الذي يحبه: " إذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها " (٢).
اللهم إنا ما عملنا عملا نستحق به محبتك، ولكنَا مع ذلك نطمع فيها، فإن أعطيتها فبفضلك، وإن منعتها فبحقك، وإنا لنضرع إليك من بعد ألا نكون ممن غضبت عليهم وسخطت أعمالهم، إنك غفور رحيم.
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (١٤٩) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١)
* * *
كانت غزوة احد فيها العبر، وهي عركة نفسية عركت بها قلوب المؤمنين، وتميزت فيها نفوس المترددين، وقد اتخذ القرآن الكريم منها درسا نبه المجاهدين إلى ما ينبغي أن يعلموه في المواقع والحروب، نبههم إلى أن النجاح في الأعمال
________
(١) سبق تخريجه من رواية البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(٢) رواه البخاري: الرقاق - التواضع (٦٠٢١).
1443
مهما يكن أساسه التنسيق والتوزيع، وتخصيص كل طائفة لما تحسن، حتى تتلاقى الجهود كلها في ثمرات مفيدة للجماعة، والجهاد عمل من الأعمال، فلا بد أن تنسق فيه الأعمال، ويكون كل لما يخصص له، فإذا خرج عما هيئ له وأُسند إليه، انتثر العقد، واضطربت الأمور، وخفت الثمرات، وذلك ما كان في أحد، ولقد قرر الله تعالى أن يصاب المسلمون بذلك الجرح الدامي لتكثير العبر، فقد افترى من افترى فادعى أن النبي عليه الصلاة والسلام قد قتل، فاضطربت الأفهام، إذ لو كان الخبر صادقا لأوجب على المجاهدين أن يتضافروا على حمل العبء لَا أن تذهب نفوسهم شعاعا. ولقد أصابت الهزيمة قلوبهم، وأصابهم غم شديد، فأخذ يبين الله أن القتال تتعاوره الهزيمة والنصر، وأن الهزيمة بسبب خطأ لا توجب الوهن، ولكن توجب تجنب الخطأ.
ولقد وجد ناس وقد اشتد البلاء، وأظلمت نفوس، وذهب ما فيها من أضواء الحق، فتنادى بعضهم أن يوسطوا المنافقين ليتخذوا لهم عند أبي سفيان زعيم الشرك إبان ذاك عهدا بالأمن والاستسلام، وقد بين الله سبحانه بعد ما بين من عبر أن هذه هي الخطة الذليلة، وهي المنزلة الدون، والمكان الهون، فقال عز من قائل:
1444
(يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَردُّوكمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ) النداء للمؤمنين بوصف كونهم مؤمنين، وفيها بيان أنه لَا يليق بهم بوصف كونهم مؤمنين أن يطيعوا الذين كفروا؛ فإن الكفر والإيمان نقيضان لَا يجتمعان، ولا يكونان في قلب رجل واحد، ولقد أشار سبحانه إلى بعد احتمال أن يطيع المؤمنون الكافرين بالتعبير في أداة الشرط بـ (إن) دون (إذا)؛ إذ إن: (إذا) للتحقق أي تحقق الشرط، وتحقق الجزاء، أما (إن) فإنها لَا تفيد تحقق الشرط، وبالتالي لَا يتحقق الجزاء. والمعنى في هذا هو التحذير من مسايرة الكافرين بأي نوع من أنواع المسايرة؛ إذ كل مسايرة طاعة، ولا يليق بالمؤمن أن يطيع كافرا؛ لأنه يجب أن يكون في حذر دائم، وإنه لو فرض وأطاعوهم فإنهم يرتدون على أعقابهم خاسرين.
1444
والنداء متجه ابتداء للمؤمنين المجاهدين الذين حضروا أُحدا، ووجد بينهم المنافقون ينادون بالويل والثبور وعظائم الأمور، ويرجفون في المدينة، ووجد أيضا المترددون الضعفاء الذين استجابوا أو كانوا على استعداد للاستجابة، إذ دعا بعض المنافقين بأن يتوسطوا عند أبي سفيان لينجوا بأجسامهم.
ومع أن الخطاب ابتداء لهؤلاء له وجه عام، وهو نداء المؤمنين في كل الأجيال وفي كل الأحوال بألا يسايروا الكافرين، رجاء نصر، أو تحقق نفع، وألا يمالئوهم بأي نوع من أنواع الممالأة، فإن الكافرين في كل العصور لَا يريدون بالمؤمنين إلا خبالا، ولا يرجون لهم إلا أن يكونوا قوما بورا، فالآية الكريمة تحذر المؤمنين تحذيرا عاما بألا يطيعوا الكافرين، ولا يستنصروا بهم، ولا يجعلوا لهم ولاية عليهم، لأن ولايتهم غير ولاية الله، وولاية الله هي الولاية الحق، وهم موضع غضب الله تعالى دائما، والذي يتولاهم ويستنصر بهم، فإنما يتولى قوما غضب الله عليهم، والله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (١٣).
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى نتيجة إطاعة الكافرين في أي عصر من العصور إن كان هناك احتمال لذلك. فذكر في جواب الشرط نتيجتين، كلتاهما مترتبة على الأخرى، أولاهما: أشار إليها بقوله سبحانه: (يَردُّوكمْ عَلَى أَعْقَابكمْ)، والثانية المترتبة عليها: أشار إليها بقوله عز من قائل: (فَتَنقَلِبوا خَاسِرِينَ). ولنتكلم بكلمة موجزة في كل واحدة من هاتين النتيجتين المتلازمتين اللتين يقتضي وجود إحداهما وجود الأخرى:
فالنتيجة الأولى، وهي ردهم على أعقابهم، معناها أن يرجعوا إلى موضع الذلة الذي كانوا فيه قبل أن يؤذن لهم بالجهاد أو يرجعوا إلى ما كانوا عليه في غير انتظام وفي اضطراب، والمضطرب دائما لَا يملك زمام نفسه، والأعقاب جمع عقب، وهو مؤخر القدم، والتعبير بـ: (يَرُدُّوكمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ)، فيه إشارات إلى أمور ثلاثة، أولها: أن هذا مطلب للكافرين، فإن أطعتموهم فقد حققتم لهم
1445
مقصدهم، وهو أن يردوكم، ولذا أسند الرد إليهم، ولم يقل ارتددتم، وثانيها: أن طاعتهم التي يترتب عليها ما ذكره سبحانه هي أقصى الهزيمة وهي الكبوة التي لا قيام بعدها، ولذلك عبر عن هذا بالرجوع على الأعقاب، فهو رجعة إلى الوراء وليس وثبة إلى الأمام، والأمر الثالث الذي يشير إليه النص هو أن زمام المؤمنين يكون نهائيا بأيدي الكافرين إذا أطاعوهم، وهذا هو ما آل إليه أمر المسلفين في العصور الأخيبرة، وفي هذا تذكرة لمن يخشى.
والنتيجة الثانية هي الانقلاب خاسرين، والتعبير بالانقلاب في قوله سبحانه: (فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ) يفيد أن إطاعة الكافرين يكون حتما فيها تغيير حال أهل الإيمان، ولكنه تغيير هو انقلاب، وجعل أعلى ما فيهم أسفل، فهو نكسة تصيبهم، ويعز عليهم من بعد أن يعودوا مستقيمين يضعون أغلى ما فيهم وهو الإيمان في موضعه، وإن ذلك الانقلاب تلابسه لَا محالة الخسارة المؤكدة التي لا احتمال فيها؛ إذ يخسر المؤمنون إيمانهم، ويخسرون من وراء ذلك الآخرة، وينطبق عليهم قوله تعالى: (خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِين)، وإن أولئك الذين يستخذون للكافرين ويسايرونهم، بل يطيعونهم وينتقلون من العزة والكرامة إلى الذلة والمهانة ويعتقدون القوة في الكافرين فيعطونهم الولاية، ينسون الله تعالى وولايته، ولذلك قال سبحانه مطمئنا المؤمنين الصادقين الذين لَا يرضون بولاية الكافرين:
* * *
1446
(بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠)
* * *
المولى هنا هو النصير، وإذا كان الله ناصره، فإنه لَا محالة غالب، فهو نعم المولى ونعم النصير. والمولى لَا تدل على النصرة فقط، بل تدل على كمال الصلة والمحبة والقرب، والنصرة تجيء لازمة لهذه المعاني، و " بل " هنا للإضراب وهو إضراب انتقالي؛ إذ هو انتقال من الكلام في موالاة الكافرين، وما يترتب عليها من نكوص على الأعقاب، واضطراب بين الحق والباطل، واستكانة وذلة وخسران مبين، إلى الكلام فيما هو سبب العزة والرفعة والكرامة والقوة والسؤدد والنصر المؤزر الثابت، وهو موالاة الله تعالى، وعبر عن ذلك بقوله تعالى: (اللَّهُ
1446
مَوْلاكمْ) أي أن الله الخالق لكل ما في الوجود، والذي بيده مقاليد كل شيء، والمسيطر القوي الجبار القاهر فوق عباده هو مولاكم، فعليكم أن تطلبوا ولايته، ومن اعتصم به فقد آوى إلى ركن ركين، وحصن حصين، وذكر هذا الأمر بصيغة الخبر للإشارة إلى أن المؤمن بمقتضى كونه مؤمنا هو في ولاية الله تعالى فلا يخرج عنها، وولاية الله تعالى تقتضي أن يكون في ولاية المؤمنين، لَا يخرج عن جماعتهم ولا يسلك غير سبيلهم، ولا يطيع أعداءهم، أو يمالئهم، أو يسايرهم، فإن ذلك يكون محادة لله ولرسوله ومشاقة لله ولرسوله، والله تعالى يقول: (لا تَجدُ قَوْمًا يؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَن حَادَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ...)، ويقول سبحانه جلت حكمته: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (١١٥).
وإذا كانت النفوس الضعيفة تجد في الالتجاء إلى الكافرين بعض الحماية فلتعلم أن المعاذ والنصرة من عند الله؛ ولذا قال سبحانه: (وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ).
أي أن الله تعالى هو الذي ينصر المؤمنين، ونصره هو المؤكد المحتوم الباقي، وهو نصر مالك القوى كلها، والمسيطر على العالم بكل ما فيه ومن فيه وما تجري به الأسباب، وما ارتبطت به شئون الناس والكون، ولذلك كان نصره خير نصر، إذ هو أدومه وأقواه، وما عند الناس من نصر فهو ظاهري، ولا يتحقق إلا بأسباب قدَّرها، فهو المسيطر المريد لكل ما يقع في الكون، ونصر الله تعالى معه العزة، ونصر الناس معه الذلة، فمن استنصر بالله عز، ومن استنصر بالناس ذل، وهذا على أن، خير " وهي من أفعل التفضيل على بابه، وقيل: إن أفعل التفضيل هنا على غير بابه، وأن المعنى أنه لَا ناصر إلا الله، ولا ناصر سواه، فنصره هو النصر، ونصر غيره ليس بنصر. ثم بين سبحانه بعضا من أسباب نصره، فقال:
* * *
1447
(سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا... (١٥١)
* * *
1447
الرعب الخوف والانزعاج، أو استلاء النفس بالخوف والانزعاج، حتى تضعف الجماعة مع وجود أسباب القوة، وأصله من الملء مع الاضطراب، يقال سيل راعب، يملأ الوادي ويضطرب به، ورعبت الحوض ملأته، ومعنى إلقاء الله تعالى بث روح الخوف والفزع في قلوبهم، وإن إلقاء الله تعالى الرعب في قلوب المشركين كانت له مظاهر شتى: منها أن يضع سبحانه وتعالى فيهم الفزع، فيخافون عند النصر لهم من متابعته، كما كان عقب أحد، فإن المشركين سارعوا بالعودة وبينما هم في الطريق ندموا وقال قائلهم: بئس ما صنعنا، قتلناهم حتى لم يبق منهم إلا الشريد ثم تركناهم ارجعوا فاستأصلوهم، ولما عزموا على ذلك ألقى الله في قلوبهم الرعب، فانصرفوا لايلوون على شيء، ومن مظاهره النصر بالريح، كما كان في غزوة الأحزاب، فقد جاءت إلى المشركين ريح شديدة قذفت في قلوبهم الرعب، فعادوا ولم ينالوا شيئا، وقال تعالى في ذلك: (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا).
وقد روى في الصحيحين أن رسول الله - ﷺ - قال: " أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأحلت لي الغنائم، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس جميعا " (١).
وقد ذكر سبحانه وتعالى السبب في إلقاء الرعب في قلوب أعداء أهل الإيمان فقال سبحانه وتعالى: (بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا) والسلطان هنا هو الحجة والدليل، كما قال تعالى: (الَّذَينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ...)، وكما قال تعالى: (فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبينٍ)، وقال: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ).
________
(١) سبق تخريجه، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاح (٥٢٥).
1448
فالمعنى أنهم أشركوا بالله أحجارا لم ينزل الله بها حجة مثبتة لصحة عبادتها، لأنه لَا دليل على سلامة هذه العبادة، ولا يوجد دليل قط يؤيدها.
ويصح أن يفسر السلطان هنا بمعنى القوة والتمكن، والمعنى على هذا أنهم أشركوا بعبادة الله تعالى أشياء لم ينزل أي لم يجعل فيها قوة تنفع وتضر، فهم يعبدون ما لا يملك نفعا ولا ضرا، ويشركونه في العبادة مع الذي يملك كل شيء، وهو الذي ينفع ويضر من غير شريك.
والسببية التي أشار إليها سبحانه وتعالى في قوله: (بِمَا أَشْرَكوا بِاللَّهِ) لها توجيهان:
أحدهما: أن الله تعالى يلقي الرعب في قلوبهم لأنهم عاندوا الله سبحانه، وحادوه، وأشركوا معه في العبادة، ولأنهم ينشرون بهذا التفكير الفاسد الشر والفساد في الأرض، والله تعالى لَا يحب الفساد، وهو ينصر الخير على الشر، والصلاح على الفساد، فالسببية هي إرادة الله تعالى التي بها قوام كل معوج وصلاح كل فاسد.
وثانيهما: أن السبب في إلقاء الرعب من حالهم هم، ذلك لأنهم يعبدون ما لا ينفع ولا يضر، ولا تقوم عندهم حجة ولا شبه حجة على صلاحية ما يعبدون للعبادة، ويكون الوهم هو الذي سيطر، والهوى هو الذي تحكم، ومن تتحكم فيه أهواؤه وأوهامه يكون مضطرب النفس مزلزل القلب تزعجه الكوارث، ويضطرب عند نزول أي حادث، فكان الشرك وتحكمه في النفس هو السبب في الرعب والخوف والفزع، إذ هم يخافون من غير مخوف، ويفزعون في غير مفزع.
تلك هي حال الكافرين الذين ناوءوا أهل الإيمان، كان سبحانه يلقي الرعب في قلوبهم، ويثبت قلوب المؤمنين، فهل هذه سنة أهل الإيمان مع المشركين وأشباههم دائما؟
والجواب عن ذلك: أنه شأن المؤمنين حقا وصدقا إذا لم يضعفوا ولم يذلوا، ولم يوالوا أعداء المؤمنين على المؤمنين، بل يأخذون الأهبة، ويغلبون الهدى على
1449
الضلال، ويجعلون الله مولاهم، فإذا رأينا الحال قد تغيرت، فليس ذلك لتغير سنة الله في خلقه، ووعده لأنبيائه والصديقين معهم، بل لتغير حال المؤمنين، (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ)، ولقد تنبأ - ﷺ - بما آل إليه المسلمون، وبين أن ذلك سببه الوهن الذي يتولد عن حب الدنيا، وكراهية الموت، وإنه عندما تصاب القلوب بهذه الإصابة ذكر النبي - ﷺ - أن الله ينزع من قلوب أعدائهم المهابة منهم، فقال عليه الصلاة والسلام: " ولينزعن من قلوب عدوكم المهابة منكم " (١).
فإذا كنا نرى المؤمنين قد أُلقي في قلوبهم الرعب بدل الكافرين، فليس في هذا مخالفة لوعد الله؛ لأن بعض المسلمين في هذه الأيام وَالَوْا الكافرين على المؤمنين، وذلُّوا تحت ولايتهم واستخذوا لهم واستَعْدُوهم على أهل الإسلام، فنزع الله المهابة من أهل الإيمان، فكان ما كان، وشرط إلقاء الرعب في قلوب الكافرين ألا نطيعهم، فقد وقعنا إذن في المنهي عنه في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَردّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ كَمَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ).
ولقد أطعناهم وواليناهم دون المؤمنين، ولم نتخذ الله مولى لنا، فخسرنا خسرانا مبينا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
(وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) المأوى اسم مكان من أوى يأوي وهو الذي يرجع إليه الشخص ويعود إليه، ويقيم فيه إقامة طويلة، والمثوى اسم مكان من ثوى يثوي أي أقام إقامة لَا نهاية - لها، والمعنى أن الكافرين إذا ألقى الله في قلوبهم الرعب خسروا وباءوا بخسرانهم في الدنيا، وليس لهم مأوى في الآخرة إلا النار، وبئس هذه النار موضع إقامة دائمة لهم، وقد أظهر سبحانه وتعالى الاسم في موضع الإضمار، فلم يقل تعالت كلماته: وبئس النار مثواهم، بل
________
(١) رواه أبو داود ولفظه عَنْ ثَوْبَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا»، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: «بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ»، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: «حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ ".
1450
قال: (وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) للإشارة إلى أن هذا المآل جزاء وفاقا لظلمهم فهو عقاب يستحقونه بسبب الظلم؛ إذ قد ظلموا أنفسهم فأضلوها وصدوها عن الحق وسبيله بسبب الغواية التي ارتضوها، وظلموا الحق فصدوا الناس عنه، وظلموا المؤمنين وحاولوا أن يفتنوهم عن دينهم واعتدوا عليهم وعثوا في الأرض مفسدين، وخضبوها بالدماء البريئة، فكان ما لقوه من هزيمة ورعب وخسران في الدنيا بعض الجزاء، والجزاء الأوفى في الآخرة. اللهم قنا عذاب النار، اللهم اهدنا فيمن هديت، وتولنا فيمن توليت، وقنا شر ما قضيت. اللهم أعزنا بعزتك، اللهم قنا شر الاستخذاء والولاية لغيرك، إنك سميع الدعاء.
* * *
(وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٥٣)
* * *
في الآيات السابقات إشارات إلى بعض ما كان في غزوة أحد من اضطراب القلوب، والرجفة التي أصابت الصفوف، وشيوع القالة المثبطة للعزائم الممزقة
1451
للوحدة "، وإنتاج هذه المقالة نتائجها؛ في قلوب ضعيفة، ونفوس مريضة بالنفاق.
وفى هذه الآيات وما وليها يذكر الله سبحانه وتعالى سبب الهزيمة مقترنا بنتائجها في نفوس المؤمنين الثابتين في إيمانهم، الأقوياء في عزيمتهم، الذين احتسبوا النية لله رب العالمين، فقال سبحانه:
1452
(وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) وعد الله تعالى الذين آمنوا بالنصر وعدا عاما عندما أذن لهم بالقتال، ووعدهم في أحد وعدا خاصا، فقد قال سبحانه وتعالى في الوعد العام: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠).
والوعد الخاص في أُحد جاء ذكره في قوله تعالى: (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥).
ونرى الوعد بالنصر في الآية الأولى التي كان الوعد فيها عاما كان مقيدا بأن ينصروا الله في قتالهم، لَا يريدون مأربا دنيويا ولا عرضا من أعراض الدنيا، كما ترى الوعد في أُحد خاصة كان مقيدا بأن يصبروا، وقد تخلف الشرطان في أحد، فإن فريقا منهم أراد عَرَضا من أعْراض الدنيا في أثناء المعركة، ولم يصبِرُوا؛ إذ لم يضبطوا إرادتهم ولم تستحصد عزائمهم في طاعة القائد، فإن طاعة القائد من سبل النصر، وتحتاج إلى صبر وضبط نفس، ولذلك لم يكن في أحد ما ينافي صدق الله وعده لنبيه، وصدق النبي في وعده لهم بإذن من ربه سبحانه وتعالى.
ومعنى صدق الوعد في قوله تعالى: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ) أن يقع الأمر في الوجود كما وعد الله تعالى وهنا (صَدَقَ) متعدية إلى مفعولين، والمعنى
1452
قد أوقع الله سبحانه وتعالى الأمر في الوجود، كما وعدكم، بروح منه، ولكنكم أنتم الذين لم تلتزموا الجادة، ولم تكونوا ناصرين الله تعالى في المعركة كلها؛ إذ لم يكن قتالكم لله تعالى في هذه المعركة من مبتدئها إلى انتهائها، ولم تضبطوا أنفسكم، وإن وعد الله تعالى لكم بتأييد الملائكة، وهي الأرواح الطاهرة المطهرة، كان مقيدا بالصبر النفسي، ولم تصبروا أنفسكم وبين سبحانه وتعالى وقت النصر، وهو وقت ابتداء الحرب، فقال سبحانه: (إِذْ تَحسُّونَهم بِإِذْنِهِ) ومعنى تحسونهم أي تصيبون حِسَّهم بإزالته، وذلك يكون بقتله، فمعنى حَسَّه أصاب حسه، مثل كبده أصاب كبده، وفأده أصاب فؤاده، وشغفه أصاب شغاف قلبه، ولقَد قال في ذلك الأصفهاني: " حَسَسْت، وحسَيْتُ، وأحسست " يقال على وجهين: أحدهما - يقال أصبته بحسي (أي أدركته بإحساسي، ومنه شيء محسوس) والثاني - أصبت حاسته نحو كبدته، وفأدته، ولما كان ذلك قد يتولد عنه القتل عبر به عن القتل، فقيل: (حسسته أي قتلته).
والمعنى كان وعد الله صادقا كل الصدف عندما كنتم تقتلونهم بإذنه، مؤيدين منصورين، ومعنى الإذن هنا يتضمن معنى التأييد والتقوية والتثبيت، ولكنكم أنتم الذين أبعدتم أنفسكم عن نصر الله تعالى، وأشار إلى ذلك سبحانه بقوله: (حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ) أي حتى إذا ضعفت نفوسكم وعجزتم عن مقاومة أهوائكم، وَتنازعتم فيما بينكم أنتبع الغنائم نجمعها، أم نطيع الرسول؟ وانتهى أكثركم إلى العصيان من بعد ما أراكم الله - تعالى - ما تحبون من نصر مؤزر ثابت أو من غنائم تحبونها، وتهواها أنفسكم. وهذا يفيد أن الترتيب النفسي يتفق مع الترتيب في الذكر؛ وذلك لأن الفشل، ومعناه العجز النفسي عن الصبر والاحتمال، ترتب عليه التنازع وعصيان الرسول، ولابد أن نذكر هنا بعض ما روي عن ذلك في غزوة أحد، فقد روى البخاري عن البراء بن عازب: " لما كان يوم أحد، ولقينا المشركين أجلس رسول الله - ﷺ - أناسا من الرماة، وأمَّر عليهم عبد الله بن جبير، وقال لهم: " لا تبرحوا مكانكم، وإن رأيتموهم قد
1453
ظهروا علينا فلا تعينونا عليهم " فلما التقى القوم وهزمهم المسلمون حتى نظرنا إلى النساء يشتددن في الجبل (١) وقد رفعن عن سوقهن قد بدت خلاخلهن فجعلوا (أي ناس من الرماة) يقولون: الغنيمة الغنيمة، فقال لهم عبد الله: امهلوا أما عهد إليكم رسول الله - ﷺ - ألا تبرحوا؟ فانطلقوا، فلما أتوهم صرف الله وجوههم وقتل من المسلمين سبعون رجلا " (٢).
وإن الرماة لم يذهبوا جميعا إلى الغنائم يجمعونها، بل بقي منهم عدد قليل، قيل إنهم عشرة، ولكن نسب العصيان إليهم جميعا، بل نسب إلى الجيش كله، مع أن غير الرماة كانوا الفريسة لعصيان كثرة الرماة؛ وذلك لأن ما يعم أثره ينسب إلى الجميع، باعتبار ذلك الأثر، وأنهم جميعا كان عليهم أن يتواصوا بالطاعة المطلقة للقائد الخبير، وذلك كقوله تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً...)، فعلى كل جماعة أن تتضافر في منع ما يضر أثره بها كلها، لَا بالظالمين فقط منها، وإن إثم الآثمين في الجماعات والأمم، ينشأ من سكوت أهل الحق والعدل، ويعيش في ظل صمتهم، ولذلك ينسب العصيان إلى الجميع، ولقد بين سبحانه أن العصيان وإن نسب إلى الجميع كان فيهم من أراد الحق، وفيهم من أراد الدنيا من غير طريقها، فقال سبحانه: (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ).
هذا تفصيل للتنازع الذي كان بين الرماة، وما كان في الجيش نفسه، وهو خطاب لجمهور الذين اتبعوا النبي - ﷺ -.. منكم أيها المحاربون من يريد الدنيا بإرادة الغنائم، والقصد إليها، وقد غلبته على نفسه حتى نسى الطاعة الواجبة والخطة المرسومة، وهو إذ يطلب الدنيا في هذا المقام، إنما يطلبها بغير الأخذ في أسبابها الحقيقية التي توصل إلى الغاية فيها، ولذلك ذهب طمعهم بالغنيمة والنصر معا، ولو صبروا حتى سارت الحرب في طريقها، والخطة إلى غاياتها، لنالوا
________
(١) قال المصنف رحمه الله تعالى: يسرن مسرعات بشدة من الفزع.
(٢) رواه البخاري: المغازي - غزوة أحد (٣٧٣٧) عَن البرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ.
1454
النصر والغنيمة معا، فإنه لَا غنيمة إلا بالنصر المستقر، ولا نصر إلا بالتزام خطة القائد الرشيد، ومنكم أيها المجاهدون من يريد الآخرة، وهم أنتم الذين ضبطوا أنفسهم عن الغنيمة، ولم يعصوا ما أمر به رسول الله - ﷺ -، ولو ذهبت الغنائم، وأنتم الذين صبرتم في فتنة الهزيمة العارضة بعد أن اضطربت القلوب وأرجف المرجفون، وتنادى الكاذبون بأن محمدا قد مات، فقد صبرتم وصابرتم، وجاهدتم ونازلتم في الشديدة، والقوي حقا من يملك نفسه عندما تضطرب النفس، ويثبت عندما تكون دواعي الهزيمة، وأولئك أرادوا الآخرة؛ لأنهم ما طلبوا غنيمة، وكان ثباتهم في وقت الفزع دليلا على امتلاء قلوبهم بالإيمان بالله واليوم الآخر. وهنا بحث لفظي يثيره العلماء، وموضوعه (إذا) في قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا فَشِلْتمْ وَتَنَازَعْتمْ). فقد ذكر الزمخشري وغيره أن فيها وجهين: أحدهما - أن تكون " حتي " بمعنى " إلى "، وأن تكون (إذا) لمجرد الوقت أي أن النصر كان حليفكم تقتلون فيه القتل الذريع، إلى وقت أن فشلتم وتنازعتم في الأمر.
والوجه الثاني أن تكون شرطية، وجواب الشرط محذوف، وإن كان مفهوما أنه شر لَا خير فيه، وضرر لَا نفع معه؛ لأن ما يكون مقدمه عجزا واضطرابا نفسيا.
وتنازعا في أمر، ثم عصيانا يترتب عليه عدم تنفيذ خطة القائد الحكيم - لَا يكون التالي المترتب عليه خيرا قط، ولم يُذكر لتذهب فيه العقول كل مذهب، وللإشارة إلى أنه شر عظيم لَا يكتنه كنهه، ولا يتصورون حقيقته. وإنه كان من نتائج ذلك الضرر أنكم لم تنالوا بغيتكم من المشركين، ولذا قال تعالى: (ثم صَرَفَكمْ عَنْهمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ).
أي النتيجة التي صرتم إليها غير المقصد الذي قصدتم إليه، لقد خرجتم إليهم من مدينتكم لتقتلوهم وتنالوا منهم ما نلتموه في بدر، ولم تريدوا أن تكونوا في المدينة يأتون إليكم، بل أردتم أن تواجهوهم في الميدان لَا في الأزقة وبين الجدران، ولكن بسبب ذلك العصيان من بعضكم صرفكم الله عنهم، أي انصرفتم عنهم بمارادة الله تعالى، ورضيتم أن تعودوا مقهورين، وقد خرجتم لتعودوا
1455
منصورين بتأييد الله، ولتفاوت ما بين المقصد الأصلي، والنتيجة التي انتهوا إليها بسبب هذا الخطأ الجزئي - عطف سبحانه وتعالى بـ " ثم " بدل الواو أو الفاء.
وكان التعبير بكلمة (صرفكم) بدل (هزمتم) لأن ما حدث في أُحُد لم يكن هزيمة، وإن لم يكن نصراً؛ لأن الهزيمة تقتضي أن يولي المسلمون الأدبار، وأن يتحكم الأعداء، وليس ما حدث أكثر من أن القتلى في المؤمنين كانوا أكثر من القتلى في المشركين، ولم ينل المشركون بذلك مأربا، فكأن الله سبحانه وتعالى يشير لهم بأن ما حدث لَا يصح أن تبتئسوا له، ولا يصيبكم الحزن؛ لأنه ليس هزيمة، بل هو نوع من الصرف عن الغاية التي من أجلها خرجتم. وكان هذا لابد منه ليمحص قلوبكم، وليختبركم بالشدائد التي تصقل نفوسكم، وتجعلها مستعدة لما يأتي به القدر، ولبيان أن الطاعة للقائد الحكيم هي أساس الظفر، والعصيان سبب للاندحار.
(وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) في هذا النص السامي يبين سبحانه عفو الله تعالى ليرفع من نفوسهم، ويذهب الحسرة من قلوبهم، ويحيي موات العزة التي اختفت في وسط ذلك المضطرب، ولقد أكد سبحانه وتعالى عفوه بعدة تأكيدات أولها: بالتعبير بـ " قد "، فإنها للتحقيق، واستعمالها في أكثر آي القرآن للتحقيق، وثانيها: باللام. وثالثها: بالتعبير بالماضي. ولماذا أكد سبحانه وتعالى عفوه بهذا التأكيد؛ لأن أولئك الأبرار الذين أخلصوا دينهم لله تعالى قد تجسم في نفوسهم خطؤهم، حتى توهموا أنه غير قابل للغفران، فإن المؤمن التقى يستكثر هفوته، ويستصغر حسنته؛ لأنه يحس بحق الله تعالى عليه، ووجوب شكر النعم التي أنعم بها، وبمقدار قوة الإيمان يغلب المؤمن خوف العقاب على رجاء الثواب.
ولقد ذيل سبحانه الآية بقوله تعالى: (وَاللَّهُ ذو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) لبيان فضل الله تعالى العميم على عباده المؤمنين، فكل شيء بفضله، فنصرهم في بدر بفضل منه، ونصرهم في الابتداء في أُحد كان بفضل منه، وخذلانهم بفشلهم
1456
وتنازعهم فيه فضل بتعليمهم حق الجهاد وواجبه، وعفوه عنهم هو الفضل كله، ولقد تأكد فضل الله تعالى في الآية بقوله: (ذو فَضْلٍ) أي صاحب فضل، والمرمى أن الفضل يلازمه، ولا ينقطع عنه سبحانه وتعالى أبدا.
* * *
1457
(إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ... (١٥٣)
* * *
هذا بيان لبعض ما جرى للمسلمين في أحد، بعد أن نزل الرماة إلى ميدان الغنيمة في غير الوقت المحدود، وهو يصور جيش الحق، وقد اضطرب بسبب ذلك الغلط الذي كان يبدو صغيرا لمن وقعوا فيه، وله نتائج خطيرة، والصورة البيانية التي تستمد من النص الكريم ترينا كيف كان المقاتلون يسيرون على غير مقصد يقصدون إليه، لا إلى النجاة بأنفسهم يسعون، وقد أحيط بهم، ولا إلى العدو يقصدون، وقد أظهر أنه استعلى عليهم مؤقتا وظنوا هم في أنفسهم الظنون، ولا فوضى في جند أكثر من أن يسير على غير مقصد، وجيش الإسلام وهو في هذه الحيرة وهذا التيه كان النبي - ﷺ - في آخره يدعو جنده قائلا فيما روي عنه: " إليَّ عبَادَ الله إليَّ عبَادَ الله، أنا رسولُ الله، من يكرُّ فله الجنة " (١).
ومعنى (تُصْعِدُونَ) تسيرون في بطن الوادي؛ لأن الصعود معناه الارتفاع، والإصعاد مغناه السير في بطن الوادي؛ وقال أبو حاتم في هذا: (أصعدتَ إذا أمْضَيْتَ حيال وجهك، وصعدت إذا ارتقيت في جبل أو غيره). وقال قتادة: أصعدوا يوم أحد في الوادي. ومعنى (تلوون) تعطفون في سيركم إلى مقصد تقصدونه. ولقد جاء في المفردات للأصفهاني: يقال فلان لَا يلوي على أحد إذا أمعن في الهزيمة.
والمعنى: عفا الله عنكم في الوقت الذي وقعتم فيه في الفوضى والاضطراب، وأصبحتم تسيرون في بطن الوادي لَا تقصدون، ولا تبتغون أمرا،
________
(١) ذكره بهذا اللفظ في تفسيره: الرازي، والنسفي، والبيضاوي، والألوسي، والزمخشري، ورواه ابن جرير الطبري في تفسيره جامع البيان، عن ابن عباس بلفظ: إليَّ عباد الله ارْجِعُوا، إليَّ عباد الله ارْجِعُوا! وراجع البداية والنهاية. غزوة أحد.
1457
ولا تتبعون غاية أيا كانت، بل تضربون في الأرض وتخبطون خبط عشواء، ولقد ذكر النتيجة الحتمية لهذا الاضطراب، وهي الغم الشديد، فقال تعالت كلماته: (فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ) أثاب معناه أعاد وأعقب ما ارتكبوه كنتيجة غما بغم، فمعنى الثوب عودة الشيء ورجوعه إلى الأمر الذي كان مقدرا له على أنه غايته ونتيجته، والغم أصل معناه في اللغة التغطية، ومنه غُم الهلال إذا غطاه الغمام فلم يُرَ، والغَم يطلق على الألم الذي يغطي العقل والإحساس والمشاعر، والذي يكون الشخص معه في حال استسلام لا يدري ما الخلاص منه، فهو من الغُمَّة، وقد جاء في أساس البلاغة: (وأنه لفي غُمة من أمره إذا لم يهتد للخروج منه). والباء في قوله تعالى: (بِغَمٍّ) يحتمل أن تكون للسببية، ويحتمل أن تكون بمعنى (على) أو دالة على المصاحبة، وعلى الأول يكون المعنى: أعقبكم الله تعالى غما بأن فاتكم النصر، ونزلت بكم الجراح، وقتل من قتل منكم بسبب الغم الذي أنزلتموه على الرسول - ﷺ - بالمخالفة وعصيان أمره، وعلى الثاني يكون المعنى أعقب الله تعالى فيكم غما بعد غم أو غما مصطحبا بغم، فقد أصابكم غم فوات الغنيمة، وغم فوات النصر، وغم الإرجاف بقتل الرسول - ﷺ -، وغم الاضطراب.
وكان ترادف الغموم هذه كنتيجة لمخالفتكم الأولى له غاية ونتيجة مؤكدة إن اعتبرتم واتعظتم، هو: ألا تحزنوا على ما فاتكم من غنائم ونصر، وما أصابكم من جراح وتقتيل، بل تستحصدون العزائم، وتتقون الخطأ من بعد. ويقول الزمخشري في تعليل ترتب عدم الحزن على ترادف الغموم: (لكيلا تحزنوا: لتتمرنوا على تجرع الغموم، وتضْروا (١) باحتمال الشدائد فلا تحزنوا فيما بعد على فائت من المنافع ولا مصيب من المضار)، وإن ما ذكرنا من ترتب عدم الحزن أظهر في نظرنا، والله - سبحانه - أعلم بمراده.
________
(١) يقال: ضَرِيَ الكلبُ وأضْراهُ صاحِبُه أي عوده وأغراهً بالصيد، ويُجْمع على ضَوار. [لسان العرب - باب الضاد - ضرا]. والمقصود هنا أنهم تدربون على احتمال الشدائد ومواجهة الصعاب؛ فيصيرون شجعانا تشبيها لهم بالسباع الضارية.
1458
(وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) ذيل الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بهذا النص للإشارة إلى أن ما وقع كله كان في علم الله، يعلمه علما دقيقا قد أحصى فيه كل أعمالكم قبل وقوعها، وقدر نتائجها ونهاياتها، وما يعقبه بعد ذلك من عبرة يحملكم على الطاعة المطلقة للقائد الحكيم الذي يهديكم سبيل الرشاد، وأنه لا نصر مع المعصية، ولا هزيمة مع الطاعة واحتساب النية، والله بكل شيء محيط.
* * *
(ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (١٥٤) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥)
* * *
الآية الكريمة موصولة بما قبلها، فهي تبين ما أصاب القلوب التي توهمت أنها انهزمت بعد موقعة أحد، وقد بين في الآيات السابقة أنها أصابها غم كان كثيفا على النفوس، وفي هذه الآية يبين ما حدث بعد الغم، فذكر سبحانه أن قلوب المؤمنين بعد هذا الغم اعتراها الاطمئنان إلى قدر الله تعالى المقدور، وثقتهم في المستقبل تحقيقا لوعده بنصر عبده ونبيه محمد - ﷺ - والاطمئنان هو سبيل التدبير المحكم، والقلق لما كان في الماضي يجعل العقل مأخوذا بحوادثه فلا يفكر ولا
1459
يدبر، ولا يتحفز ويتوثب للمقاتلة مرة أخرى، ولقد قال تعالى في وصف حال المؤمنين التي أفاضها عليهم بعد الغم المتولى:
1460
(ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنْ بَعْد الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِّنكُمْ) أمنة: مصدر بمعنى الأمن، وقرئ: (أَمْنَةً) بتسَكين الميم، وهي مصدر بمعنى المرة من الأمن، وقد بين سبحانه نوع الأمن أو مظهره، بقوله:
(نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ) والنعاس فتور مع استراحة من غير فزع ولا قلق وهو النوم الهادئ، ومعنى يغشى: يغطي، أي أنه يغطي الحس، ويستر الإدراك والتنبه، والمعنى أنه سبحانه وتعالى أفاض وأنزل بعد الغم الذي غمر النفوس بالألم أمنا كان مظهره نعاسا اطمأنت فيه النفوس واسترخت الأعضاء واستسلمت لمقادير الله تعالى وإرادته في خلقه ونصره دينه، مطرحين الماضي مكتفين منه بالعبرة ومتخذين منه نورا يضيء للمستقبل بخطئه وبصوابه.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى النعاس مظهرا للاطمئنان قبل واقعة بدر، فقال تعالى: (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (١١). وفى غزوة أحد كان النعاس مظهر الاطمئنان والتسليم لله سبحانه وتعالى والثقة بالمستقبل - بعد الفزع والهلع والاضطراب.
وتلك الطائفة التي غشيها النعاس واطمأنت بعد الاضطراب، وآمنت بأن ما كان كان بخطأ من بعضهم، وأنه عبرة لأولى الأبصار - هم المؤمنون الصادقو الإيمان الذين يريدون ما عند الله تعالى، ولا يبتغون غير رضاه، ولقد اعتبرهم القرآن وحدهم الأهل للخطاب، لأنهم هم الذين يعدون ذخيرة المستقبل، وجند الله الغالب، ولذلك قال: (ثُمَّ أَنزلَ عَلَيْكُم مِّنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً). وإن أمنهم ونومهم مع أن الجراح قد أثقلتهم، والاضطراب كان قد أذهلهم، دليل على عمران قلوبهم بذكر الله وصدق وعده: (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).
1460
والطائفة التي لم تكن على هذه القوة والإيمان ذكرها سبحانه على أنها خارجة على الخطاب، وكأنها ليست من المؤمنين فقال تعالى: (وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهمْ أَنفسُهُمْ يَظنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ).
لأن نسق الآية يومئ إلى أنها بعيدة عن الخطاب، قال أكثر العلماء: إنها من المنافقين، أي أن هذه الطائفة ليست مؤمنة، بل كافرة تظهر الإسلام وتبطن غيره، ولكن الأوصاف التي ذكرت لها من بعد تومئ إلى أنهم من ضعاف المؤمنين الذين وصفهم الله تعالى بأن في قلوبهم مرضا - في غير هذا الموضع؛ وذلك لأن الله تعالى يصفهم بأنهم يظنون ظن الجاهلية، وهذا يفيد أنهم ليسوا من أهل الجاهلية، وهم يعتذرون لأنفسهم بالقضاء والقدر، والله سبحانه وتعالى بيّن أن ما نزل كان للابتلاء والتمحيص وأدخلهم فيه، وليس كذلك المنافقون، والنص يومئ إلى أنه كانت فيهم جراح، والمنافقون لم يخوضوا غمار الحرب، فلا جراح فيهم، ولا قتل، وهؤلاء كان فيهم قتل.
وفى الحق إن غزوة أُحد كان فيها عدد من ضعاف الإيمان، إذ قال سبحانه: (إِذْ هَمَّت طَائِفَتَانِ مِنكمْ أَن تَفْشَلا وَاللَّه وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنونَ).
وعلى ذلك نقول: إن هؤلاء كانوا من ضعاف الإيمان لَا من المنافقين.
ولقد وصف الله سبحانه وتعالى هؤلاء بأنهم أهمتهم أنفسهم، وبأنهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية، وكلمة " أهم " مأخوذ من الهم. والهم ما يهم به الإنسان، وما يحزنه، يقال: همني الأمر بمعنى أذابني من الحزن، ومعنى أهمتهم أنفسهم، جعلتهم لَا يجعلون لهم أمرا يهتمون به سواها، فلا يهمهم شأن الإسلام، انتصر أو انهزم، ولا شأن النبي - ﷺ - وصحابته، بل الذي يهمهم وحده هو أنفسهم، أو يكون المعنى: أوقعوا أنفسهم في الهم والحزن بعدم اطمئنانهم وعدم صبرهم وجزعهم المستمر.
1461
وإن المرء إذا لم يكن له تفكير إلا في نفسه، ولا يهمه شيء سواها، أضفى عليها المعاذير إذا قصرت، وجعل السبب من غيرها لَا منها، ومن هنا يجيء الوصف الثاني، وهو (يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَن الْجَاهِلِيَّةِ) والظن هنا ليس هو الاعتقاد الجازم، بل هو الوهم الملازم للضعف، المسيطر على النفس، وقوله (غَيْرَ الْحَقِّ) مفعول مطلق وصف لمصدر محذوف، والمعنى يظنون ويتوهمون بالله ظنا ليس هو الحق، ولا الذي يجب أن يظن بالله تعالى، وهو العدل والمعاونة الصادقة، والتأييد عند الثبات، وقد بين سبحانه وتعالى ذلك الظن غير الحق والذي لَا ينبغي أن يظن بالله تعالى، بينه بطريق عطف البيان، أو البدل المبين فقال: (ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ) وشأن أهل الجاهلية أن يطرحوا عن أنفسهم التبعات، ويدعوا ألا مسئولية عليهم، وأن الأمر للمقادير وحدها إذ كانت النتيجة على غير ما يبغون.
ولذا قال سبحانه في تفسير ظن الجاهلية: (يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِن الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ).
هذا القول هو مظهر الظن الباطل الذي ظنوه بالله سبحانه وتعالى: والاستفهام هنا استفهام إنكاري بمعنى النفي المطلق الشامل، والمعنى: ليس لنا من الأمر شيء أي شيء، فلسنا مسئولين عن الهزيمة إن انهزمنا، إنما الأمر كله لله تعالى، فأمر النصر والهزيمة بيده، وقد وعدنا بالنصر ولم ننتصر، فهم يلقون عن أنفسهم كل تبعة وكل مسئولية. وإن هذا إنكار للأسباب، وظن جاهلي؛ لأن الجاهلي إذا انتصر فرح وأشر وبطر، وأصابته عزة النصر غير ملتفت إلى إرادة غير إرادته، وإن أصابته كارثة حسبها من المقادير ملقيا عن نفسه كل تبعة، وقد رد سبحانه وتعالى وهمهم بأن أمر النبي بقوله: (قلْ إِنَّ الأَمْرَ كلَّه لِلَّهِ) أي أن تقدير الأمور كلها لله سبحانه وتعالى، لَا أمر النصر والهزيمة، فكل شيء عنده بمقدار، ولكنه سبحانه وتعالى خلق كل شيء بحكمته ومشيئته وإرادته وحده، وهو الذي قدر الأسباب ومسبباتها، وربط بين الأفعال ونتائجها، فمن اختلفوا ولم يطيعوا
1462
قائدهم، وأقدموا على الغنائم في غير الوقت المعلوم فلا بد أن يحدث عن فعلهم الهزيمة والاضطراب، لأن هذا هو النظام الذي سنه رب البرية في الارتباط بين الأسباب ومسبباتها، فكون الأمر كله لله لَا ينفي عنكم التبعة، بل يؤكدها وقوله تعالى: (قلْ إِنَّ الأَمْرَ كلَّهُ للًه) جملة سامية معترضة بين متلازمين، وهو قولهم: (هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ) وقوله تعالى من بعد ذلك: (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا). ظاهر الجملة السابقة أنهم يلقون عن أنفسهم التبعة بتقرير أن أمر النصر بيد الله تعالى، وأنه قد حرمهم منه، وفي هذه الجملة يبين الله سبحانه وتعالى أن لهم غاية يقصدون إليها من وراء هذه الجملة، وهو إثبات أن الذي كان سبب قتلهم ووقوع الهزيمة عليهم هو خروجهم إلى هذا المكان، ولو بقوا في أماكنهم بالمدينة ما قتلوا، وكان في ذلك إشارة إلى ما كان من خلاف عند مجيء المشركين إلى المدينة أيخرج المؤمنون إليهم ليقاتلوهم في أحد أم يبقون في المدينة حتى يقاتلوهم في الأزقة ومن وراء الجدران فلا يبقوا منهم أحدا، وأن الذي اختارته الكثرة هو الخروج، وأن النبي - ﷺ - نزل على حكمها وإن كان يرى غيره. إلى آخر ما كان في هذه المشاورة، وعلى هذا تكون خلاصة المعنى: يخفون بقولهم هل لنا من الأمر من شيء أمرا لَا يريدون إبداءه، وهو أنهم لو كان لهم رأى يطاع، وقول يُسمع ما خرجوا إلى هذا المكان وقتلوا فيه، بل بقوا في ديارهم آمنين، ولكنه أمر الله تعالى وتقديره، وتطوى هذه الجملة الإشارة إلى أمرين: أحدهما - أنهم ما كانوا يريدون القتال، ولكنه قدر الله وأمره لهم، وهذا يذكر بقوله تعالى: (إِذْ هَمَّت طَائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلا وَاللَّه وَلِيهُمَا...). والأمر الثاني الذي يشير إليه النص - أنهم ما كانوا يرون الخروج من المدينة للقتال؛ بل ينتظرون حتى يجيء إليهم الأعداء، وأنه لو كان لهم شأن ما خرجوا وما قاتلوا.
وهم في كلتا الحالين يلقون تبعة الهزيمة عن أنفسهم، ويشيرون إلى أن الخروج لم يكن رأيا حسنا، ولكنه قضاء الله وقدره جعلهم يقعون في هذا الخطأ.
1463
وقد رد سبحانه وتعالى ذلك عليهم بقوله:
(قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذينَ كتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ) أي أن الله سبحانه قدر الأمور تقديرا، ولكلِّ أجل كتاب، فأولئك الذين كتب عليهم أن يقتلوا في الميدان، لابد أن يقتلوا، فلو كنتم في بيوتكم، لخرجوا إلى الأماكن التي قتلوا فيها وقتلوا، ومعنى " برز " أي خرج من مكمنه المستور الذي لَا يظن الخروج منه، والمضاجع جمع مضجع، وهو مكان النوم، والمراد هنا مكان قتلهم الذي قتلوا فيه وصرعوا وناموا إلى يوم البعث والنشور؛ وهو المكان الذي خرجوا إليه في أحد وماتوا فيه، وفي هذا يدعوهم رب البرية أن يستسلموا لحكمه، ويخضعوا لقدره، ويرضوا به، ويطمئنوا إليه؛ لأن الاطمئنان إلى القدر بعد أخذ الأسباب رضا بحكم الله وقبول لإرادته في خلقه، وعدم الرضا بالقدر تمرد على الخالق، وانزعاج نفسي لَا علاج له؛ وإذا كان من الناس من يعيب الرضا بالقدر فهي نزعة إلحاد في النفس، والذين يشكون من المقادير، ويتمردون عليها لَا يرضون برب المقادير حكما عدلا وهو اللطيف الخبير، السميع البصير، والرضا بالقدر يلقي في النفس بالاطمئنان والصبر والرضا والقدرة على الاحتمال، والاستعداد للقابل وعدم الالتفات إلى الوراء، فمن لَا يؤمن بالقضاء قصير النظر، ومن يؤمن به متجدد الفكر؛ نظره إلى الأمام دائما ثم قال سبحانه: (وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهَ مَا فِيْ صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ).
الواو هنا عاطفة؛ والمعطوف عليه فعل دل عليه ما طوي في الكلام السابق، من معنى الدعوة إلى الصبر والاطمئنان والاستجابة للدعوة، لتتعودوا الصبر والاطمئنان والاستجابة للدعوة، ولتتعودوا تحمل الشدائد ولتعرفوا أن الحياة قد اختلط حلوها بمرها، وليبتليكم.
ومعنى قوله سبحانه: (وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صدُورِكُمْ) يعاملكم معاملة المختبر لنفوسكم، فيظهر ما تنطوي عليه فيعالج هذه الأوزار التي تظهر بما يذهب
1464
بوضرها (١) ويوجهها نحو الخير، ومعنى يمحص قلوبكم، يزيل ما عساه يعلق بها من أدران، ويطهرها مما يخالطها من ريب يحدث من الشدائد، وذلك لأن مَحَصَ ومَحَّصَ في أصل معناهما تخليص الذهب مما يختلط به من مواد غريبة عنه.
وخلاصة معنى النص الكريم: نزل بكم ما نزل لتتعودوا تحمل الشدائد والمحن، وليظهر الله ما في صدوركم فيصلحها، ويخرج من قلوبكم ما يخالط الإيمان من بعض الأوهام.
(وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) وهو إذ يفعل ذلك يعلم بما في صدوركم، يعلم ما يخالطها وما توسوس به ويعلم مَوَاضع أدوائها، وما تنطوي عليه نفوس الأبرار الأقوياء، ونفوس الضعفاء ونفوس الأشرار، وقد أكد سبحانه وتعالى علمه بخفايا النفوس، بثلاثة تأكيدات: التأكيد الأول - التعبير بالجملة الاسمية، والثاني - التعبير بوصف عليم، فهو يعلم صغائر الأمور وجليلها، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، والثالث - التعبير بذات الصدور، فهذا من قبيل ما يشبه التأكيد المعنوي، فمعناه يعلم الصدور ذاتها، فلا يقتصر علمه على ما في الوعاء، بل يعلم الوعاء ذاته، ولقد فتح الله سبحانه وتعالى باب التوبة بعد ذكر بيان السبب في الذنب، فقال تعالت كلماته:
* * *
________
(١) الوَضَرُ، محرَّكةً: وسَخُ الدَّسَم واللبنِ، أو غُسالَةُ السقاء والقَصْعَة ونحوِهما، وما تَشُمّه من ريح تَجِدُها من طَعامٍ فاسدٍ. [القاموس المحيط - فصل الواو - وضَر]. والمقصَود هنا آَثار الذنوب والأوزار.
1465
(إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا... (١٥٥)
* * *
التولي يستعمل بمعنى الإقبال وبمعنى الإدبار، فإن كان متعديا بنفسه كان بمعنى الإقبال، ومن ذلك قوله تعالى: (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا...)، و (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَولَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ...).
وإذا كانت متعدية بـ " عن " أو غير متعدية أصلا كانت بمعنى الإعراض ومنه الإدبار عن الزحف والأمر في وقته، وهي هنا لذلك، والتولي الذي وقع فيه أولئك الذين ذكرهم سبحانه يوم التقى الجمعان كان في أحد ويشمل
1465
فريقين: أحدهما الذين أقبلوا على الغنيمة وتركوا مواقعهم من الرماية فأُولئك بتركهم مواقعهم وإقبالهم على الغنيمة كانوا مدبرين يشبهون الفارين (والفريق الثاني) الذين فروا من القتال يوم أن اضطربت الموقعة وأصيب المؤمنون بجراح، وكانت فيهم مقتلتهم. وقد ذكر سبحانه السبب فقال تعالى: (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كسَبُوا) ومعنى استزلهم الشيطان طلب لهم الزلل وسهله لهم ببعض ما كسبوا من صغائر؛ فإن تضافر الصغائر، وطلب الدنيا من شأنه أن يسهل ارتكاب الخطايا فإن النفس تمرد عليها (١) وتسير في طريقها، ولقد قال في ذلك الراغب الأصفهاني: استزله إذا تحري زلته. وقوله تعالى: (إِنَّمَا اسْتَزَلًهُمُ الشَّيْطَانُ) أي استخرجهم حتى زلوا فإن الخطيئة الصغيرة إذا ترخص الإنسان فيها تصير مسهلة لسبيل الشيطان على نفسه، ومعنى هذا أن الشيطان لَا يفتح معاقل النفس، ويغزو مواضع الفضيلة، إلا بالصغائر التي تسهل الرذائل، فإذا فتح النفس من هذا المعقل هجم بكل أسلحته، فتحكم الهوى والشيطان واستضعفت النفس وذلت، وأحاطت بها الخطايا، وسدت عنها منافذ الهداية والنور.
والمعنى الجملي أن أولئك الذين كانوا سبب تلك الجراح أو فروا من الموقعة قد وقعوا فيما وقعوا فيه بسبب أن نفوسهم لم تتجه إلى الله بكليتها ولهذا استزلهم الشيطان، وأمامهم الفرصة لتطهير نفوسهم، وقد أعلن سبحانه العفو عنهم فقال: (وَلَقَدْ عَفَا اللَّه عَنْهمْ إِنً اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ).
وقد أكد سبحانه عفوه بأربعة تأكيدات أولها: باللام فهي تنبئ عن القسم، والثاني: قد، فإنها تفيد تأكيد تحقق القول، والثالث: وصف الله تعالى بالمغفرة فإنه يؤكد أن العفو شأن في شئونه سبحانه، والرابع: الوصف بالحلم فإنه سبحانه لَا يسارع بالعقاب: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ...).
________
(١) المرود على الشيء: المرون عليه. الصحاح. ومنه قوله تعالى في سورة التوبة (١٠١): (مَرَدوا عَلَى النفَاقِ) أي مرنوا عليه وأقاموا فلم يتوبوا.
1466
وقد أكد سبحانه أمر العفو، لتذهب عن نفوسهم حيرتها، ولتنخلع من الماضي ولتستقبل الحاضر والمستقبل بقلب جريء ثابت، ولتشعر بعون الله وتوفيقه وتأييده وتسديده.
ربنا اعف عنا واغفر لنا وارحمنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨)
* * *
ما زالت النصوص القرآنية الكريمة تذكر العبر في هزيمة أُحُد، وكأن هذه الهزيمة التي لم تكن فاصلة، بل رجع فيها المنتصرون لم يلووا على شيء - فيها دروس فائدتها أكبر من فائدة النصر، وفيها كشف لأحوال نفسية، ومعرفتها ذريعة إلى الاستمرار على القتال والانتصار فيه، وفي هذه الآيات بين الله سبحانه وتعالى الفرق بين النفس المؤمنة إذا فقدت أحبابها أو أصفياءها في جهاد أو ما يشبهه، والنفس الكافرة إذا أصيبت بمثل هذه الإصابة، وفي هذه الآيات أيضا يبين سبحانه أن النظر إلى الماضي المؤلم من غير الاقتصار على الاعتبار يؤدي إلى الحسرة والحزن الدائم، فالنفس الدبرية التي تلاحقها دائما بآلام الماضي لَا تسعد في ذاتها، ولا تتأهب لعمل يحتاج إلى تضافر الهمم وتحفز العزائم، فإن تقرِّحُ القلب بآلام
1467
الماضي كفرٌ بالله، وعدم تفويض إليه سبحانه، وعدم إيمان بالمستقبل الذي يكون يوم القيامة، ويكون الأمر فيه كله لله تعالى، وإن هذه الروح الدبرية هي روحِ الكافرين، وقد نهى الله سبحانه عن أن يكونوا مثلهم، فقال تعالى:
1468
(يَا أَيُّهَا الَّذين آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ...).
الخطاب واضح بأنه للمؤمنين الصادقي الإيمان، وهو نهي عن التشبه بالذين كفروا، في حالهم التي يبينها سبحانه وتعالى، وفي التعبير بالذين كفروا إشارة إلى أن الجزع للحاضر أو الماضي، والالتفات إلى الماضي، والنظر إلى وجوب تغييره، وقد سجل في الوجود، وأصبح لَا سبيل إلى تغييره؛ لأن ما وقع لَا يكون - كل هذا من شأن الكافرين الذين يأسرهم ما يقع، ويتخذون " لو " التي هي سبيل الشيطان دائما وسواسا لنفوسهم، يكررون ما كان يجب، وقد وقع ما وجب، والبصير الذي آتاه الله نعمة الهداية والتوفيق لَا يفكر إلا فيما يجب في المستقبل على ضوء ما وقع في الماضي وصيغة النهي التي عبر بها سبحانه: (لاتَكونوا كَالَّذِينَ كَفَروا) تفيد تباعد ما بين المقامين: مقام الإيمان، ومنزل الكفران، وأنه لا يصح بالمؤمن أن ينزل إلى المرتبة الدون، بعد أن علا بالإيمان إلى مقام الأعلين الأبرار، وفي هذا تقبيح المنهي عنه بأبلغ تعبير، وأرق تصوير؛ إذ حسب الذين أهمتهم أنفسهم، وقالوا عن إخوانهم في حال يأس مستولٍ: (لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنَا هَا هُنَا..)، أن يكونوا في هذا كالذين كفروا؛ إذ يوسوس إليهم الجزع بأن يقولوا مثل هذه المقالة - حتى يبتعد المؤمنون عنها، ويجانبوها كل المجانبة، والأمر نهي عن المماثلة فيما حكاه سبحانه يقول: (وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا).
ضربوا في الأرض معناها سافروا وأبعدوا في السفر، ولم يكن سفرا قاصدا، بل كان سفرهم فيه مشقة وجهد، وتعرض فيه المسافر للأذى. وغُزًّى: جمع غاز، كراكع ورُكَّع، وصائم وصُوَّم، ونائم ونُوَّم، وشاهد وشُهَّد، وغائب وغُيَّب، واللام في قوله تعالى: (لإِخْوَانِهِمْ) إما أن تكون دالة على موضع
1468
الخطاب، ويكون المعنى أن هؤلاء الذين كفروا لفرط جزعهم على الذين فقدوهم يقولون لإخوانهم الأحياء: لو كانوا مقيمين معنا، وملازمين بيوتهم، ولم يضربوا في الأرض ولم يغزوا فيها ما ماتوا وما قتلوا، فالأحياء يتبادلون الكلام في شأن الذين قتلوا أو ماتوا.
ويقول الزمخشري: إن اللام هنا ليست دالة على الخطاب، إنما هي للتعليل، والمعنى: يقول أولئك الذين نجوا لأجل ما فقدوه من إخوانهم، تحسرا وأسفا عليهم: لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا.
وهذا القول ينبعث من قلوب غير مؤمنة يسيطر عليها غم حاضر وهم غابر، وهو يدل على ضيق العقول، ومصادمة لكل معقول تحت تأثير الهوى الجامح المسيطر، فإنهم ما داموا قد خرجوا مختارين، فليس لكلمة " لو " مقام بعد ذلك في اعتبارهم، ثم إن هذا الكلام يضعف العزيمة، ويفتح القلوب للخور، فالمأسور بهزيمة الماضي لَا ينتصر في المستقبل، وفوق هذا فإن ذلك القول يدل على عدم تفويض الأمور لله سبحانه، فهو مسير كل شيء، وكل شيء عنده بمقدار، وعلى المؤمن أن يعمل ويجد، ويترك تقدير الأمور لرب العالمين، وما حاول إنسان أن يضبط شئون المستقبل كما يجب إلا أصابه الله سبحانه وتعالى بما يخالف تقديره، ويبطل تدبيره، وهذا القول لَا يصدر أيضا إلا عن قوم لَا يؤمنون بالله واليوم الآخر، ولا يرجون ما عند الله سبحانه وتعالى، ولذلك ذكر سبحانه أنه من خواص الذين كفروا بالله واليوم الآخر، وإن تلك الحال اليائسة القاتلة شأن من شئون الذين يلحدون في الله دائما، وهي عقاب دنيوي لهم، ولذا قال سبحانه: (لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ).
اللام هنا هي التي تسمى لام العاقبة، وهي تدل على المآل، ولا تدل على التعليل الباعث، وذلك مثل قوله تعالى: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا...)، فإنه ما كان الباعث على الالتقاط هو أن يكون لهم عدوا وحزنا، بل كانت النتيجة هي العداوة.
1469
ويصح أن تكون اللام للتعليل، ويكون المعنى أن الله سبحانه وتعالى خلق الكفار على هذه الأخلاق اليائسة، أو قدر لهم هذه الأحوال الموئسة ليلقي الحسرة في قلوبهم، والغم في نفوسهم، والضلال بهذه الأقوال في عقولهم.
والحسرة هي الهم المعيي الكاشف للنفس الذي يلقي بالحزن المستمر فيها، وقد قال الأصبهاني في هذه المادة: " الحاسر من لَا درع له، والحاسر المُعْيا لانكشاف قواه، ويقال للمُعيا حاسر ومحسور، أما الحاسر فتصور أنه قد حسر بنفسه قواه، وأما المحسور فتصور أن التعب قد حسره، وقوله عز وجل: (يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ)، يصح أن يكون بمعنى حاسر وأن يكون بمعنى محسور، وقال تعالى: (فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا)، والحسرة الغم على ما فاته، والندم عليه، كأنه انحسر عنه الجهل الذي حمله على ما ارتكبه، وانحسرت قواه من فرط غم، وأدركه إعياء عن تدارك ما فرط منه، قال تعالى: (لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قلُوبِهِمْ) (وَإنَّه لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ). ومن هذا يتبين أن معنى الحسرة يتضمن هما وحزنا وإعياء، وتكشفا للآلام يلقى تشاؤما وارتياعا وانزعاجا مستمرا.
والكلام السابق على أساس أن الحسرة نتيجة لقولهم واعتقادهم الفاسد، ذلك أنها تلقي في قلوبهم ضعفا وألما، فالسبب في الحسرة على هذا التوجيه من أنفسهم التي ركبها الله سبحانه وتعالى ذلك التركيب، ويصح أن تكون الحسرة نتيجة للنهي، وتكون اللام للتعليل، ولا تصلح أن تكون للنتيجة والمآل، ويكون المعنى على هذا: يَا أيُّهَا المؤمنون لَا تكونوا كالذين كفروا إذ يشغلهم الماضي ولا يفكرون في الحاضر، بل اتخذُوا من الماضي عبرة، وفوِّضوا الأمور إلى الله تعالى ليجعل الله لكم بهذا قوة، ويكون ذلك حسرة في قلوب الكافرين؛ إذ يرونكم مستبشرين بنعمة من الله وفضل. دائما، فلا تألمون لمن تفقدون، ولا تتخاذلون بمن يقتلون من صفوفكم، بل تأخذون الأهبة، وتتقدمون طالبين الشهادة أو النصر المؤزر، وذلك هو سبب الحسرة.
1470
(وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) في هذه الجملة السامية ترشيح وتقوية لمعنى النهي السابق، وتأكيد لضلال الكفار ومن يحاكونهم في انشغال أنفسهم بمن ماتوا، وظنهم أن الخروج هو الذي كان سببا في قتل من قتلوا، كما قال الكافرون: (لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا)، ففي هذه الجملة يبين سبحانه أن الأرواح كلها بيد الله تعالى يقبضها إن شاء، ويرسلها إن أراد، فهو سبحانه لا يتقيد بخروج للقتال، فالقعود لَا يضمن الحياة، والخروج لَا يكون معه التلف، بل ربما كانت فيه النجاة، وهذا مثل قوله تعالى: (أَيْنَمَا تَكونُوا يُدْرِككّمُ الْمَوْت وَلَوْ كنتُمْ فِي بروجٍ مُّشَيَّدَة...)، وإنه إذا كانت الحياة والموت بيد الله وحده قد جعل لكل أجل كتابا ومن جاء أجله لَا يستأخر ساعة ولا يستقدم، وأن الله سبحانه وتعالى خالق الأسباب ومسبباتها، وهو الذي يربط بينهما برباط السببية لحكمة يراها، والأسباب لَا تلزمه سبحانه، لَا يسأل عما يفعل، وهم يسألون، والله سبحانه في أفعاله كلها بالإحياء والإماتة يتصرف تصرف العليم الخبير، ولذا قال سبحانه: (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي أن الله تعالى عليم عِلْم من يرى ويبصر بأعمالكم التي تعملونها، يعلم البواعث والنتائج ويعلم الحقائق والوقائع، فلا تذهب أنفسكم حسرات على الماضي، واستعدوا، وقد بين سبحانه أن الله غافر ما كان منكم من خطأ في ماضيكم، ومجازيكم بخير مما ينال هؤلاء، ولذا قال تعالى:
* * *
1471
(وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧)
* * *
اشتمل الكلام على قسم وجملة شرطية واقعة، فالله سبحانه وتعالى يقسم وهو العزيز الحكيم بأن من يموت أو يقتل في سبيل الله طالبا رضاه محتسبا النية في جهاده يناله جزاءان عظيمان: أحدهما - أن يغفر الله تعالى ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وتلك نعمة عظيمة، لَا يشعر بها إلا من يشعر بتقصيره ويحاول رضا مولاه، ويغلب الخوف على الرجاء، ويستصغر حسناته بجوار ما يرتكب من هفوات، وتلك مرتبة الصديقين والشهداء والصالحين، وذلك ما يتضمنه الوعد
1471
بالمغفرة من رضحون الله تعالى، فإن الله تعالى لَا يغفر إلا لمن يرضى عنه، ويذهب عنه سخطه سبحانه وتعالى، ففي الوعد بالمغفرة نعمة الغفران، ونعمة الرضوان، وهو أكبر.
الأمر الثاني - الرحمة من الله تعالى، ورحمة الله تعالى تتضمن الثواب، والنعيم المقيم يوم القيامة، وذكر رحمة الله تعالى في هذا المقام لكيلا تذهب نفوس المؤمنين حسرة على ما ماتوا منهم، فإنهم ليسوا في شقاء بل هم في نعيم، (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩).
وهنا بحوث ثلاثة حول هذا النص الكريم:
أولها: أنه سبحانه وتعالى صرح بأن مغفرته ورحمته خير مما يجمع المشركون من أموال وعقار وكل أغراض الدنيا، ويقول ابن عباس فيما روي عنه من تفسير: (خير من طلائع الأرض ذهبة حمراء) أي خير من ملء الأرض ذهب أحمر، و " خير " أفعل تفضيل، وهو هنا ليس على بابه فإن الخيرية في مغفرة الله تعالى، ولا خيرية فيما يكنزون، فإنها تُكوَى بها جباههم وجنوبهم، أو تقول أفعل التفضيل على بابه، ويكون المراد من الخير مطلق النفع، ولا شك أن رحمة الله ومغفرته أنفع لأنهما أبقى.
ثانيها: أنه ذكر أن الموت قد يكون في سبيل الله وذلك إذا كان المؤمن يعيش طول حياته مخلصا لله وللحق وللمعرفة والهداية يحب الشيء لَا يحبه إلا لله تعالى، وكان الله ورسوله أحب إليه من نفسه، فإن من يكون كذلك يعيش لله وفى سبيل الله ويموت في سبيل الله.
ثالثها: أنه قدم (قُتلتم) في هذا المقام لأنه المناسب؛ لأن الكلام الكريم في أعقاب مقتلة أصابت المسلمين وأصابهم هم بسببها فناسب تقديم (قتلتم) على (متم) وإن الخطاب هنا للمؤمنينِ الذين جاهدوا، وهو مبين لجزائهم وقال سبحانه:
* * *
1472
(وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨)
* * *
1472
الخطاب الأول للتبشير بالنسبة للمجاهدين كما أشرنا والخطاب هنا يعم المجاهدين وغيرهم، ولذا قدم فيه (متم) على (قتلتم)، وبين أن الجميع سيلقون ربهم، وأنهم سيحشرون إليه، أي سيجمعون جميعا يوم الحشر مسوقين إليه سبحانه وتعالى، والتعبير بالحشر إشارة إلى أن الجميع يجتمعون لَا يفلت منهم أحد، فالمنافقون والمشركون والمؤمنون الذين قتلوا والذين نجوا مجموعون عند ربهم، وسيلقاهم، وسيحاسب كل امرئٍ بما كسب، للمجاهدين مقامهم، ولغيرهم مهواهم الذي هووا إليه، ففي هذا إنذار وتبشير وتذكير بلقاء الله العلي الكبير، اللهم هب لنا من لدنك رحمة، إنك أنت الغفور الرحيم.
* * *
(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠)
* * *
بين سبحانه حال المؤمنين قبيل المعركة في غزوة أحد، وبعدها، وفي أثنائها وما أصابهم من غم، ثم بين سبحانه دواء أسقامهم، ودعاهم إلى استئناف الجهاد، وإن يكونوا قد مسهم قرح، فقد مسَّ القوم قرح مثله، وقد بين سبحانه أسباب الهزيمة ليتوقوها، فإن الغلط الذي يعلِّم الصواب خير، وليس بِشَرّ، ولقد بين بعد ذلك سبحانه حال النبي - ﷺ - في القيادة الحكيمة، وما اتبعه وما تحلى به، وأمره سبحانه وتعالى بالاستمرار عليها، فبين سبحانه أن القيادة الحكيمة تكون مع العزيمة رحيمة، ومع استقبال الأحداث بقوة تكون خالية من الفظاظة والقسوة، وتلتزم الصفح عن الخطأ ليعتزموا الصواب، والاستغفار من الذنب لتجدد التوبة،
1473
ولذا قال تعالى في حال النبي - ﷺ -، وما انبعث منه في موقفه يوم أحد، فقال تعالت كلماته:
1474
(فَبِمَا رَحْمَةٍ منَ اللَّه لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ).
" الباء " هنا باء السببية، و " ما " زائدة في الإعراب، ولكنها في المعنى لتقوية معنى الرحمة، والمعنى: بسبب رحمة أي رحمة عظيمة فياضة أفاضها المولى العلي القدير كنت لئنا معهم في كل أحوالك، وكنت لينا لهم بعد الأخطاء التي وقعوا فيها، والكارثة التي نتجت عن مخالفتك، فما لمُتَهُم، ولا عنَّفْتَهم بل سكت حيث رأيت ما أصابهم من غم استغرقهم، وحزن استولى عليهم، ولقد شكر الله سبحانه وتعالى لنبيه ذلك اللين؛ إذ لم يؤاخذهم، ولم يفرط في القول معهم؛ لأن اللوم على الماضي يُيئس النفس من غير جدوى، وهو رجعة إلى الوراء، والقائد الحكيم يتجه إلى الأمام، ولا يلتفت إلى ورائه إلا بمقدار ما ينير له السبيل أمامه، وبمقدار ما يجنبه خطأ وقع فيه، وبمقدار ما يحفز همة من معه، ويشحذ عزيمتهم، وإن المبالغة في اللوم على ما وقع في الماضي يلقى باليأس، وفي اليأس الهزيمة، واليأس والقنوط إسراف على النفس بالهموم، ولا نجاح لمن في هم دائم، وحزن واصب، فكان لين النبي - ﷺ - معهم في هذه الآلام التي أصابتهم كالبلسم الشافي لأسقامهم، والقائد الماهر الحكيم يجب أن يجمع إلى العزيمة القوية الموجهة إلى العمل البِشْر ولين العريكة، وتسهيل الخروج من أوضار الخطأ، حتى لَا يعنتهم ولا يبهظهم (١)، وحسبُهم ما أصابهم، وإن الشدة في مثل هذه الأحوال والغلظة في القول والعمل تنفر ولا تجمِع، وقد بين ذلك سبحانه وتعالى بقوله: (وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حولِكَ).
وهذا النص الكريم يثبت أن النبي - ﷺ - ليس فظا ولا غليظا ولا قاسيا؛ لأن (لو) تدل على نفي الجواب لنفي الشرط، والمعنى أنك لست فظا ولا غليظ
________
(١) بهَظَه الحِمل: أثقله وعجز عنه، فهو مبهوظ، وأمر باهظ: أي شاق. الصحاح - بهظ.
1474
القلب، وهذا هو الذي يتفق مع صفات النبوة والقيادة الحكيمة الرشيدة الهادية الموجهة إلى أمثل الطرق الجامعة للقلوب، لأنك لو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك. والفظاظة خشونة المظهر، والعشرة السيئة، وسوء القول، وتجهُّم الوجه، وغلظ القلب قسوته، وقد نفى الله سبحانه وتعالى عن نبيه الغلظة في المظهر والباطن، فالغلظة في المظهر هي الفظاظة، والغلظة في الباطن قسوة القلب وكلا الوضعين من شأنه أن ينفر، ولقد قال الله تعالى في وصف نبيه: (لَقَدْ جَاءَكمْ رَسولٌ منْ أَنفسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رحِيمٌ). وكان النبي - ﷺ - باشًّا لطيف المعشر متسامحا رحيما لَا يقسو ولا يعنِّت أحدا ولا يغضب ولا يسْب، وما ضرب أحدا بيده قط، وكان سهلا في معاملاته متسامحا، وكان طلق الوجه دائما، رآه أعرابي، فاسترعاه بشاشته وطلق محياه فقال له: أأنت الذي تقول عنه قريش إنه كذاب؟ والله ما هذا الوجه بوجه كذاب!. وأسلم إذ دعاه النبي - ﷺ -.
ولقد وصف عبد الله بن عمرو بن العاص النبي - ﷺ -، فقال: (إنه ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزي السيئة بمثلها، ولكن يعفو ويصفح) (١). وكان عليه الصلاة والسلام لَا يثير غيظه شيء، ويداري الناس إلا أن يكون في المداراة حق مضيع، ولقد روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - ﷺ - قال: " إن الله أمرني بمداراة الناس كما أمرني بإقامة الفرائض " (٢).
وإذا كانت الغلظة منفرة فالعفو جامع، ولذلك أمر الله تعالى نبيه الكريم بما يترتب على الرفق والبشاشة، وهو العفو فقال: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمرِ).
________
(١) رواه بنحوه البخاري: تفسير القرآن - (إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا) (٤٤٦١)، والدارمي: المقدمة - صفة النبي - ﷺ - (٦)، وأحمد مسند المكثرين (٦٣٣٣) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه.
(٢) جمع الجوامع (٤٧١٣)، والسلسلة الضعيفة للألباني (٨١٠)، والفتح الكبير ج ١، ص ٢٦٩، وكنز العمال جزء ١، ص. ٥١.
1475
الفاء هنا تفيد ترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي أنه يترتب على اتصافك بالعفو والرحمة والبشاشة، والبعد عن الفظاظة وغلظ القلب أن تكون عفوا، ولذا أمره سبحانه بالعفو عن المخالفة التي وقعوا فيها، وترتب عليها ما ترتب من هزيمة وفوات فرصة، وإن العفو في هذه الحال ليس للرحمة فقط، بل هو للمصلحة أيضا؛ لأنه يشحذ العزائم، إذ هو يقيل من العثرة، ويرفع من الكبوة، وعندئذ تستقيم القلوب نحو الحق، كما قامت الأجسام بعد الوقوع.
وأمره سبحانه بأن يستغفر لهم، بأن يطلب من الله أن يغفر لهم ما أساءوا، وأن يغفر هو لهم هذا الخطأ، وإن في استغفاره الله تعالى لهم، وإعلانه ذلك الاستغفار بينهم تأكيدا لعفوه، وتشجيعا، وضراعة إليه سبحانه أن يجعل حاضرهم وقابلهم خيرا من ماضيهم الذي أخطأوا فيه.
وقد أمر نبيه بأمر ثالث، وهو أن يشاورهم، وإن المشاورة من بعد ما كان منهم دليل على عفو النبي - ﷺ - بعد عفو الله تعالى وغفرانه؛ لأن مما أخطأوا فيه في الماضي أن النبي - ﷺ - شاورهم في أمر الخروج إلى لقاء المشركين في أحد، وأنه كان يميل إلى البقاء حتى يدخلوا المدينة، وشبابهم كان يريد الخروج، فنزل عليه الصلاة والسلام عند رأيهم، ثم كان ما كان منهم من أن طائفتين همَّتا بأن تفشلا، ثم ما كان من خروج الرماة عن مواقفهم، ولو بقوا في المدينة ما وقع هذا، ولكن الله سبحانه مع ذلك أمره بمشاورتهم للإعلان عن سماحته المطلقة، ولأن المشاورة إن أخطأت فيها النتيجة مرة، فصوابها كثير.
والشورى أصل من أصول الحكم في الإسلام، قد التزمها النبي - ﷺ - في كل أمر كان يمس أمور المسلمين العامة فقد استشار في غزوة بدر قبل وقوعها، واستشار في الأسارى غِبَّ وقوعها، واستشار في أحد، واستشار في غزوة الأحزاب، وكان من نتائج الشورى حفر الخندق والتحصن وراءه، واستشار في القتال يوم الحديبية، والتزم أبو بكر ومن بعده عمر الشورى، وما اضطرب حبل الأمور من بعد إلا عندما منعت أمر الشورى.
1476
والأمر الذي وجه للنبي - ﷺ - في الشورى قال بعضهم إنه أمر إلزام، وقال آخرون إنه بالنسبة للنبي - ﷺ - ليس أمر إلزام، بل طلب استحباب، ولكن الأكثرين على أنه أمر إلزام، بدليل التزام النبي - ﷺ - للمشاورة في كل أمر يمس مصلحة المسلمين في السلم أو في الحرب، ولم يكن تبليغا لرسالة ربه؛ وإن أفعال النبي - ﷺ - تعليم لنا.
ومن المتفق عليه أن الشورى لازمة بالنسبة لغير النبي - ﷺ -، ولذلك قال تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهمْ...)، أي الأمر الجامع للمسلمين يكون بالشورى وتبادل الآراء، والتعاون والإخلاص في القول، ولذا يقول النبي - ﷺ -: " الدين النصيحة، قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم " (١). والنصيحة لعامة المؤمنين هي بالشورى التي تُبْدَى فيها الآراء لله وحده، لَا لشيء سواه، ولا لطلب الجاه عند الناس. ولقد قال البخاري: " وكان الأئمة بعد النبي - ﷺ - يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها " (٢).
ومع اتفاق الفقهاء على أن الشورى أصل من أصول الحكم في الإسلام لم نجد نصا قرآنيا وضع منهاجا لها، ولم نجد النبي - ﷺ - وضح أسسها وطرائقها، نعم إنه كان يستشير من معه من أهل المدينة، وكذلك كان يفعل الشيخان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فلماذا لم يبين ذلك في كتاب ولا سنة؛ والجواب عن ذلك أن مناهج الشورى تختلف باختلاف الجماعات وباختلاف الأحوال، وباختلاف الموضوعات ولا يوجد نظام ضابط لكل ذلك، بل ترك سن النظام للناس، ولابد أن يتحقق معنى الشورى في النظام على أن يكون أهل الشورى من ذوي العلم والخبرة، ففي أمور الحروب يستشار أهل الحرب، وفي أمور القانون يستشار الفقهاء
________
(١) رواه مسلم: الأيمان - الدين النصيحة (٥٥)، وذكره البخاري في الترجمة: الإيمان - الدين النصيحة، كما رواه النسائي: البيعة - النصيحة للإمام (٤١٢٦)، والترمذي: البر والصلة - ما جاء في النصيحة (١٨٤٩) عن تميم الداري رضي الله عنه.
(٢) من كلام البخاري في ترجمة باب: الاعتصام بالكتاب والسنة - (بَاب قَوْل اللَّه تَعَالَى: وَأمْرُهُمْ شُورَى بَيْنهمْ، وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْر).
1477
والمشرعون، وفي أمور العمران يستشار أهل الهندسة، ولذلك تتألف اللجان في المجالس النيابية من أهل الخبرة في كل أمر من أمور العامة.
وفى الجملة فإن الشورى مطلب كالعدل، يجب تحققه من أقرب الوسائل إليه توصيلا، ولقد جاء في تفسير القرطبي ما نصه:
" والشورى بركة، وقال عليه الصلاة والسلام: " ما ندم من استشار، ولا خاب من استخار " (١) وروى سهل بن سعد الساعدي عن رسول الله - ﷺ -: " ما شقي قط عبد بمشورة، وما سعد باستغناء رأي " (٢).
وإنه يجب أن نعلم حقيقتين ثابتتين:
أولاهما: أن الشورى إحساس نفسي من الحاكم يدفعه إلى طلب أمثل الطرق للحكم وتحقيق العدالة والمصلحة، فإن لم يكن في الحاكم ذلك الخلق، فإنه لا ينتفع بأي نظام للشورى مهما يكن، وإذا لم يكن المستشار يحس بأن إبداء القول في الشورى واجب عليه وليس مجرد حق له فإنه لَا يمكن أن يكون من رجال الشورى.
ثانيهما: أنه لَا يعادي الشورى من الحكام إلا أحد اثنين إما رجل قد أصابه داء الغرور، فظن أن قوله الحق الذي لَا يخالطه باطل، وإما رجل يخاف من اطلاع الناس حتى لَا يظهر شيء من أموره.
والمشاورة لها وقت معلوم، وهو وقت الدراسة والفحص، فإذا تمت المشاورة وجب الأخذ بالعزيمة في الأمر والإقدام على العمل، ولذا قال سبحانه بعد الأمر بالشورى: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ).
________
(١) جاء في مجمع الزوائد: ج ٨ ص ١٨١ (٧٥٣١) عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - ﷺ -: " مَا خَابَ مَنِ اسْتَخَارَ، وَلاً نَدمَ مَنِ اسْتَشَارَ، وَلاً عَالَ مَنِ اقْتَصَدَ ". رواه الطبراني في الأوسط والصغير من طريق عبد السلام بن عبدَ القدوس، وكلاهما ضعيف جداً.
(٢) القضاعي في مسند الشهاب: ج ٢، ص ٦ (٧٧٣) عن سهل ابن سعد الساعدي قال: قال رسول الله - ﷺ -: (ما شقي عبد قط بمشورة، وما سعد باستغناء برأي، يقول الله تعالى -. (وشاورهم في الأمر) وقال تعالى (وأمرهم شورى بينهم).
1478
العزيمة عقد النية على إتمام الأمر بعد الاستشارة، والنبي - ﷺ - اشترط لتحقق العزم سبق الاستشارة فاعتبر الشورى ركنا من أركان العزم، فقد سئل - ﷺ - عن العزم، فقال: " مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم " (١). وفي النص القرآني الكريم، والحديث النبوي الشريف إشارة إلى أنه بعد تعرف كل وجوه الرأي يكون الاعتزام ثم يكون العمل، ولا يصح أن تكون مشاورة أخرى بعد الدراسة العميقة السابقة إلا إذا جد أمر لم يكن في الحسبان ولم يكن في تقدير الذين استشيروا أولا فإنه يعاد النظر إليهم، وفي غير هذه الصورة تكون العودة إلى الاستشارة ترددا يدعو إلى الهزيمة والاضطراب، ولا يصح أن يكون التعصب لرأي إذا لم يؤخذ به باعثا على إعادة النظر، فإن ذلك استبداد من أصحاب هذا الرأي، وفوضى في الشورى؛ لأن ما يعتزم من آراء بعد الشورى هو رأى الجميع، ويجب أن يفنى معه كل رأى معارض وإن النبي - ﷺ - مع أنه في غزوة أحد كان يرى البقاء في المدينة حتى يجيء إليها المشركون فيضيعوا في طرقها وأزقتها، وتكون الدور حصونا يرمون منها ولكن الكثرة رأت غيره، فنزل على رأيها، وأمضى الأمر، ولما وجدت حركة تدعو إلى رأيه وتكونت له كثرة، قال الرسول الحازم الرشيد: " لا ينبغي لنبي يلبس لأْمَته أن يضعها، حتى يحكم الله " (٢) واللأمة: الدرع أو السلاح.
ولقد أمر سبحانه وتعالى بالتوكل بعد المشاورة وأخذ الأهبة، وأن يكون التوكل مصاحبا للعزيمة والإقدام على العمل، وإن ذلك يستفاد منه أن التوكل على الله تعالى حق التوكل لابد أن يقترن بالعمل، وأن يسبقه دراسة للموضوع من كل نواحيه، وإن التوكل بعد ذلك أمر لابد منه؛ لأن العلم بالحق الأمثل من المناهج والأعمال عند علام الغيوب، فمهما يكن علم الإنسان فهو ناقص، فالتوكل عليه سبحانه فيه معنى الشعور بالنقص الإنساني مهما يظهر كماله، ولأن
________
(١) أورده السيوطي في الدر المنثورج ٢ ص ٣٥٧.
(٢) سبق تخريجه قريبا.
1479
الله تعالى خالق الأسباب والمسببات، وهو القادر على تغييرها، أو جعل الأمور على غير ما توجبه أسبابها، فالتوكل عليه ضراعة وإحساس بالكمال المطلق لله تعالى وقدرته الشاملة الكاملة على كل ما خلق، وإن عدم التفويض مع العمل غرور من الإنسان، واستعلاء بغير سبب، وإنه مهما يدبر الإنسان فقد يخطئه التنفيذ كما كان في غزوة أحد.
ويجب أن نقرر هنا حقيقتين: " إحداهما: أن قدرة الله تعالى واضحة في نتائج الأفعال، فعليه المعتمد. ألم تر إلى رجلين يبذران بذرا، ويلقيانه في قطع متجاورات من الأرض، ويأتي الله لأحدهما بأبرك الثمرات، والآخر تأكل الآفات زرعه وكلاهما احتاط وأخذ بالأسباب. " والثانية " أن الاتكال على الله تعالى ذكر لله، فتطمئن القلوب ويذهب الخوف والجزع ويكون الإقدام.
ولهذه المعاني النفسية العالية في التوكل الحق صرح بحب المتوكلين المولى العلي القدير فقال تعالت كلماته: (إِنَّ اللَّهَ يحِبُّ الْمُتَوَكلِينَ) وأي منزلة أعلى في الوجود من هذه المحبة التي تتضمن الرضا، ورضوان الله أكبر من كل شيء، فكيف تكون محبته، والمتوكل على الله حق توكله قد تسامى بنفسه عن أعلاق الأرض، ودرج بنفسه في مدارج الروحانية؛ لأنه اعتبر إرادته وعزيمته وتدبيره وعمله ليست بشى بجوار قدرة الله.
وقد أكد سبحانه وتعالى طلب التفويض والتوكل بعد التدبير وأخذ الأهبة بقوله تعالى:
* * *
1480
(إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ... (١٦٠)
* * *
أي أنه إذا أراد الله تعالى أن ينصركم، واستحققتم نصره فإنه لَا يوجد قوم من شأنهم أن يغلبوكم، والتعبير باسم الفاعل في قوله تعالى: (فَلا غَالِبَ لَكُمْ) يفيد أنه لَا يوجد مَن عنده القوة ومَنْ شأنه أن يغلبكم؛ لأنه إن كان قويا في نفسه فالله معكم وهو القاهر فوق عباده، وهو الحفيظ عليهم، وخلق
1480
الإنسان ضعيفا مهما تكن قوته، وإن استحقاق نصر الله يكون بأخذ الأهبة ومبادلة الرأي، وتعرف أسباب النصر، ثم التوكل على الله تعالى، وتفويض الأمور إليه. وإن النبي - ﷺ - بعد أن أعد الأهبة أخذ يدعو الله تعالى بالنصر، ويكرر هذه العبارة: " اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لَا تعبد في الأرض " (١).
وإنه إذا فقد المؤمن نصر الله فلا ناصر له من غيره، ولذلك قال سبحانه: (وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ).
أي إن يكتب الله سبحانه وتعالى لكم الخذلان، ويحرمكم من معونته وتأييده، فلا أحد ينصركم من بعده أي ممن هو دونه أو من بعد خذلانه، لأنه لا أحد عنده قدرة تقف أمام قدرة الله تعالى، والاستفهام هنا إنكاري بمعنى النفي، وقد جاء النفي على صيغة الاستفهام ليوجه أنظار المخاطبين إلى البحث عن قوى تكون قدرته كافية للوقوف أمام إرادة الله تعالى الخذلان، فإنهم سيبحثون عن قوى لا تكون قوته إلى بقاء، ولن يجدوه، فعندئذ يحكمون بأن الله وحده الكبير المتعال، ولا ناصر سواه (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ).
أي عليه وحده لَا على شيء سواه، وأفاد ذلك تقديم (عَلَى اللَّهِ) أي أن المؤمنين لَا يتوكلون إلا على الله سبحانه وتعالى فالاتكال عليه وحده، والإيمان متلازمان لَا ينفصلان، فغير المؤمن يعتمد على الأشخاص الفانين، أما المؤمن فلا يعتمد على أحد سوى الله تعالى، والاتكال على الله من مقتضيات الإيمان بالله وحده؛ لأف جزء من الوحدانية، فالذين يعتمدون على غير الله من العباد يصيبهم نوع من الشرك الخفي؛ لأنهم يفرطون في تقدير العباد، بل قد تفرط منهم عبارات
________
(١) وذلك يوم بدر، وقد رواه مسلم بنحوه في حديث طويل: الجهاد والسير (١٧٦٣)، والترمذي: تفسير القرآن - ومن سورة الأنفال (٣٠٠٦) عن عمر بن الخطاب عن ابن عباس رضي الله عنهم. كما رواه: مسند العشرة (٢٠٣).
1481
التقديس، وقد كان بعض الذين لَا دين لهم يعبرون عن بعض الملوك بالذات العالية، وذلك شرك بلا ريب، وأهل الإيمان الصادق لَا يعتمدون إلا على الله بعد أخذ الأسباب؛ لأنهم لَا يؤمنون إلا بالله: (رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإلَيْكَ الْمَصِيرُ).
* * *
(وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (١٦١) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (١٦٣) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (١٦٤)
* * *
الكلام في غزوة أحد وما فيها من عبر وما بينه الله سبحانه وتعالى من أحكام لمناسبة ما كان فيها، وفي هذه الآيات يبين ما يجب من مراعاة الأمانة بالنسبة للغنائم في الحروب، ذلك أن الرماة الذين خالفوا أمر النبي - ﷺ - قد خالفوه لأنهم خشوا أن ينفرد المقاتلون بالغنيمة دونهم؛ إذ ظنوا أن من يستولي على شيء فهو له، وهم بموقفهم موقف الحراسة لظهور المقاتلين سيُحرمون إن لم يقاتلوا، فبينت هذه الآيات بالإشارة أنه لَا قسمة قبل انتهاء المعركة، وأن الغنيمة لَا يختص بها فريق دون فريق، وأن الغنيمة نتيجة النصر، والنصر ثمرة تعاون الجميع، فحق أن تقسم الثمرة على الجميع، ولقد روى أن النبي - ﷺ - قال للرماة: " أظننتم أنا نغل ولا نقسم لكم " (١).
________
(١) ذكره الواحدي في أسباب النزول عن الكلبي ومقاتل.
1482
وإن الله سبحانه وتعالى يسن الأحكام العامة للمناسبات الخاصة، ليكون السبب موضحا للحكم، وإن كان الحكم عاما، ولذا قال سبحانه:
1483
(وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
ابتدأ سبحانه بنفي وصف الغلول وهو الخيانة في الغنائم عن النبي - ﷺ -، وذلك لبيان أن التسوية في القسمة مطلوبة من الجميع لَا فرق في ذلك بين قائد وقائد، ولو كان أحد يسوغ له ألا يسوي في القسمة لما كان رسول رب العالمين، ولكنه أول من ينفي عنه هذا الوصف، ولأن الرماة تعجلوا خشية ألا يأخذوا، فبين الله لهم أن عدم تسويتهم في الغنيمة غلول، وما كان الغلول من شأن النبي - ﷺ -، ولبيان أن عدم توزيع الغنيمة بالعدل خيانة، فلا يستكبر قائد عن أن يوصف بها إذا وقع منه عدم التسوية.
ومعنى قول الله تعالى: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ) ما ساغ وما صح لنبي أن يخون، فالنفي هنا نفي للشأن، أي ليس من شأن النبي أن يخون، والتنكير هنا للتعميم، فليس من شأن أي نبي يتكلم عن الله تعالى أن يخون، وإذا كان التنكير للتعميم لأنه تنكير في مقام النفي، فمؤدى الكلام أن النبوة والغلول نقيضان لا يجتمعان، فما كان لأحد أن يظن أن النبي سوف لَا يقسم بالسوية، وإذا وقع ذلك الظن فهو من الظن الإثم: (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ...).
وأصل الغلول من الغلَلَ، وهو دخول الماء في وسط الشجر كما جاء في مفردات الراغب الأصفهاني، وسميت الخيانة في الغنيمة غلولا؛ لأنها تدخل المِلك من غير حله وفي خفاء، كجريان الماء بين الأشجار في خفاء، ويقال - تغلغل في الشيء دخل فيه واختفى، ويطلق الغِل بكسر الغين على الحقد لأنه يكون دفينا متغلغلا في كيان النفس الإنسانية ويفسدها.
وإن المعنى الذي يجري عليه جمهور المفسرين بأن المراد بالغلول المنفي عن الرسول وسائر الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين هو الغلول المادي في شئون المادة، ولم تتعرض الآية الكريمة للغلول المعنوي وهو كتمان ما أنزل الله
1483
تعالى وعدم بيانه؛ ولكن قال بعض العلماء: إن الغلول النفي عن الأنبياء هو كتمان ما أنزل الله تعالى وعدم بيانه؛ لأن الغلول المادي غير متصور الوقوع، ولكن السياق لَا يؤيد هذا المعنى؛ لأن السياق كله فيما قبله وما بعده يدل على أنه في الحرب وما يتعلق بها من غنائم أغرت الرماة وأخرجتهم من مَحَارسِهم (١)؛ ولما يجئ بعد ذلك من تعميم الحكم لكل من يغل غير الأنبياء من حيث إنه يأتي بما غل يوم القيامة؛ ولذلك قال تعالى: (وَمَن يَغْلُلْ يَات بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
والمعنى أن من يخون في الغنائم أو غيرها بأن يكون ذا سلطان على مال، فيخص نفسه مثه بما شاء يأتي يوم القيامة مأخوذا بإِثم ما غل يوم القيامة، صغيرا كان أو كبيرا، حقيرا كان أو خطيرا، فالمراد على هذا التفسير من قوله سبحانه: (بِمَا غَلَّ) وزره؛ وذلك كقوله تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨).
فما يراه الإنسان يوم القيامة هو عمله المبرور وعمله الموزور، وأما موضوع العمل فلا وجود له إذ هو يرى الوزر أو يرى البر. وظاهر كلام المفسرين أنه يرى ذات الشيء الذي غله، لظاهر قول النبي - ﷺ - فيما رواه الشيخان: " لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول له: لَا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لَا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك.. " (٢) فإن ظاهر هذا الحديث أن موضوع الغلول يجيء بذاته يوم القيامة، ومثل ذلك ما روي عن النبي - ﷺ - من الغلول في جمع الصدقات، فقد روى أن رجلا اسمه ابن اللتبية جمع الصدقات، ثم قال: هذا لكم وهذا أُهْدِيَ لِي، فوقف النبي - ﷺ - خطيبا، وحمد الله وأثنى عليه ثم قال: " ما بال العامل نبعثه، فيجيء، فيقول هذا لكم، وهذا
________
(١) جمع محْرَس، اسم مكان من " حرس "، والجمع محارس، أي: أماكن الحراسة.
(٢) رواه البخاري بنحوه: الجهاد والسير - الغلول وقول الله عز وجل (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ) (٢٨٤٤).
ورواه مسلم: ك الامارة - غلظ تحريم الغلول (١٨٣١).
1484
أُهْدِيَ لِي، ألا جلس في بيت أمه أو أبيه فينظر أيهدي له أم لَا، لَا يأتي أحد منكم بشيء إلا جاء به يوم القيامة، إن كان بعيرا فله رغاء، أو بقرة فلها خوار، أو شاة تيعر، ثم رفع يديه حتى رأينا عُفرتي إبطيه، ثم قال: اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت " (١).
والذي نراه أن هذه الأحاديث إنما هي تصوير لما يكون يوم القيامة من أن وزره يكون قائما بين يديه، وصُور ما وقع وموضوع أوزاره تكون قائمة في كتابه كانها حاضرة بأعيانها، هذا هو الذي تدل عليه الألفاظ، ولا نقول إن حضور ذات الأشياء مستحيل على الله، فإن الله على كل شيء قدير، ولكن نقول: إن ذلك هو ما يؤدي إليه الذوق البياني العربي، وإن ذلك يومئ إلى دقة الحساب، وقيام الموازين بالقسط، ثم بين سبحانه نتيجة هذا الحساب، فقال سبحانه: (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ).
وبعد الحساب العسير لهؤلاء الذين يأكلون الأموال بالباطل، ويغلون في الغنائم؛ ويغلون في أموال الدولة - يوفون جزاء ما كسبوا من غير ظلم، وفي النص الكريم عدة إشارات بيانية، الأولى: التعبير بـ (ثم) وهي تفيد التراخي بين إحضار الأعمال بأوزارها ثم يتولى جزاءها، فإن هذا التراخي يفيد طول الحساب، وطول الحساب عذاب في ذات نفسه، وهو في الوقت ذاته يدل على دقته إذ تقام الموازين بالقسط. والثانية: التعبير بـ (توفى) فإن فيه إشارة إلى أنه لَا ينقص شيء مما عملت إن خيرا وإن شرا، إلا أن يتغمده الله برحمته فيعفو عن بعض السيئات وهو العفو الغفور، والثالثة: أنه عبر سبحانه وتعالى عن المساواة بين العمل والجزاء بقوله سبحانه (مَّا كسَبَتْ) فإن هذا التعبير يفيد بظاهره أن الوفاء يكون بالعمل ذاته، ولكن المعنى: جزاء ما كسبت ولكنه سبحانه عبر بهذا التعبير للدلالة على
________
(١) متفق عليه؛ وقد رواه بألفاظ متقاربة البخاري: الأحكام - هدايا العمال (٦٦٣٩)، ومسلم: الامارة (١٨٣٢)، كما رواه أبو داود: الخراج والإمارة والفيء (٢٥٥٧)، وأحمد: باقي مسند الأنصار (٢٢٤٩٢)، والدارمي: الزكاة (١٦٠٩). تيعر، من اليعار وهو صوت الشاة. والعفرة: بياض غير ناصع مشرب بحمرة أو سمرة.
1485
كمال المساواة بين العمل وجزائه، حتى كأن الجزاء هو العمل ذاته، الرابعة قوله تعالى: (وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) فيه تأكيد للمساواة وفيه أيضا نفي للظلم نفيا مؤكدا بالتعبير بالجملة الاسمية، إذ المعنى أنهم ليس من شأنهم أن يظلموا، لأن الله تعالى خالقهم والله تعالى لَا يظلم مطلقا، لأنه لَا يليق بكماله تعالى، ولأنه كتب العدل على نفسه، كما ورد في الحديث القدسي (١).
وإن التسوية بين الجزاء والعمل هي القانون العادل الذي سنه رب العالمين، فلا تستوي الحسنة ولا السيئة، ولا يستوي الخير والشر ولذا قال سبحانه:
* * *
________
(١) إشارة إلى الحديث القدسي الذي رواه مسلم في صحيحه: البر والصلة - تحريم الظلم (٢٥٧٧) عَنْ أبِي ذَر عَنْ النَّبي - ﷺ - فيمَا رَوَى عَنْ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى أنَّهُ قَالَ: " يَا عِبَادِي إِني حرَّمْتُ الظلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلتهُ بَيْنَكمْ مُحَرَّمًا فَلا تَظَالَمُوا " الحَديث.
1486
(أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ... (١٦٢)
* * *
هذا هو القانون السامي الذي وضعه سبحانه، وهو التساوي بين العمل وجزائه، وأنهم لَا يتساوون في ذات أنفسهم، وفي الجزاء إذا اختلفت أعمالهم، ويفيد النص أن الجزاء يتحد إذا اتحد العمل، ويختلف إذا اختلف العمل، وفي النص الكريم عدة إشارات بيانية:
الأولى: أنه ساق الكلام مساق الاستفهام الإنكاري الذي يفيد النفي أي إنكار الوقوع، وهذا يفيد أن ذلك القانون بدهي لَا تختلف فيه العقول، بحيث لو سئل كل واحد من الناس عن ذلك لأجاب بأنه لَا يستوي من اتبع رضوان الله، مع من يبوء بغضب الله.
والثانية: أن الله سبحانه وتعالى سمى الأمناء الذين لَا يغلون ولا يخونون في أي شيء، وخصوصا في الغنائم: يتبعون رضوان الله تعالى، وذلك لأنهم يخرجون مجاهدين في سبيل الحق ورفع كلمة الله وقد قدموا أنفسهم لمرضاته، وكانوا ممن شَرَوْا أنفسهم لله، ومن المؤمنين الذين اشترى الله سبحانه وتعالى أنفسهم، وفي ذلك رضوان الله تعالى، وهو أعظم جزاء في الدنيا والآخرة.
1486
والثالثة: أنه عبر عن الذين يغلون ويخونون بأنهم يبوءون أي يعودون على أنفسهم بسخط الله تعالى، والسخط ليس هو الغضب المجرد، بل هو الغضب الذي يصحبه أو يترتب علية العقاب، وفرق بين عملين: أحدهما يجلب أبلغ الرضا، وثانيهما يجلب أبلغ الغضب وأشد العقاب، وإن ذكر هذه المقابلة ليعرف الذين يغلون بالغنائم أنهم لَا يكسبون لأن ما يخسرونه أضعاف ما يكسبون من عرض لَا بقاء له، والعبرة بفاضل ما بين الكسبين، أما الذين قد اختاروا الأمانة سبيلا، فإنهم لَا يخسرون شيئا؛ لأن مال الخيانة لَا يعد كسبا، بل هو سحت لا كسب فيه، ومع أنهم لَا يخسرون شيئا، وكسبهم عظيم لَا حد له، وهو رضوان الله تعالى.
والرابعة: أنه سبحانه عبر عن اتباع أوامر الله ونواهيه باتباع رضوانه، لأن الطاعة المخلصة تؤدي إلى رضوانه سبحانه وتعالى، فطلب رضا الله في طاعته.
ولقد عقب سبحانه ذكر سخطه بذكر عقابه؛ لأن السخط والعقاب متلازمان، كما أشرنا، ولذا قال سبحانه: (وَمَأوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي أن عودتهم بغضب الله الشديد يتبعه حتما ذلك المصير يوم القيامة، وهو أن يكون المستقر الذي يستقرون فيه وينتهون إليه، هو جهنم، وهي الهاوية التي يهوون إليها في النار، جزاء هاوية الخيانة التي أصابتهم في الدنيا، وبئس ذلك المصير الذي صاروا إليه، وكان لهم نهاية، وإن لم يريدوه لهم غاية.
وإن نتيجة عدم التساوي بين من يتبع رضوان الله تعالى ويطلبه بإقامة الطاعات على وجهها الأكمل، ومن يختارون الشر سبيلا - هي أن يكون الناس درجات بحسب مقدار طلب الرضوان، ومقدار اتباع السخط، ولذا قال سبحانه:
* * *
1487
(هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (١٦٣)
* * *
الدرجة هي الرتبة والمنزلة، ومنهَا الدرج بمعنى السلم، لأنه يُعلى عليه رتبة بعد رتبة، وأكثر ما تكون كلمة الدرجة في القرآن بمعنى المنزلة الرفيعة، ومن ذلك قوله تعالى: (وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ
1487
فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ)، وأما المنزلة غير الرفيعة فيعبر سبحانه بالدركة؛ ولذا يقول سبحانه: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا)، ولقد قال الراغب الأصفهاني في المفردات " الدرك كالدرج، لكن الدرج يقال اعتبارا بالصعود، والدرك اعتبارا بالحدور، ولهذا قيل درجات الجنة، ودركات النار ".
والضمير في قوله تعالى: (هُمْ دَرَجَاتٌ) يعود على الفريقين الذين اتبعوا رضوان الله تعالى، والذين اتبعوا سخطه سبحانه، وإطلاق " درجات " على الفريقين وفيهم الأشرار من قبيل التغليب، وهو تغليب له مغزاه؛ إذ هو تغليب الخير على الشر، وتغليب رضا الله على سخطه، وتغليب الأبرار على الفجار، وإن الآية الكريمة تشير إلى معنى جليل، وهو تفاوت درجات الأبرار، وتفاوت دركات الأشرار، فالذين يسيرون في الخط الذي رسمه الله تعالى لطاعته متفاوتون في مقدار ما يقطعونه من ذلك الطريق النوراني الذي ينتهي بطاعته سبحانه وهم بذلك درجات عند الله تعالى بمقدار اتباعهمْ ما فيه رضوانه، وهو الأوامر والنواهي، والآخرون متفاوتون في مقدار انهوائهم في الشر بمقدار ما يخالفون أمر الله ونواهيه، وإن تلك الدرجات المتفاوتة هي نتيجة العمل، ولذا قال سبحانه: (وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) أي أن الله سبحانه وتعالى يعلم عمل كل إنسان علم من يراه ويبصره، فلا يغيب عنه سبحانه مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض، وإنه سبحانه سيجزي كل نفس بما كسبت، على مقتضى علمه الكامل، وإن هذه الدرجات التي يضع الناس فيها هي بمقتضى علمه سبحانه.
وإن النبي - ﷺ - قد خولفت أوامره في غزوة أحد، فنزل بالمؤمنين فيها ما نزل، ولقد ناسب أن يبين الله سبحانه وتعالى للمؤمنين نعمته عليهم في إرسال الرسول الأمين، ويشير إلى الهداية التي اشتملت عليها رسالته، وأن اتباعه اتباع رضوانِ الله، ومخالفته اتباع لسخط الله، فقال سبحانه:
* * *
1488
(لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ... (١٦٤)
* * *
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ تعالى، ونعمه على المؤمنين كثيرة، باختيار رسول الله محمد - ﷺ -، والله أعلم حيث يجعل رسالته، فلقد كان حكيما أمينا فيهم من قبل الرسالة، وكان رفيقا بهم لا يعنتهم بعد الرسالة، لانَ لهم، ولم يكن فظا غليظا بهم، وفي هذا النص السامي يبين أن ذات رسالته نعمة، فقال: (لَقَدْ مَنَّ)، أنعم وأعطى ووهب، وأكد عظيم المنة والعطاء باللام، ولقد كانت منته في بعث الرسول من أنفسهم، ومعنى (مِّنْ أَنفُسِهِمْ) يصح تخريجها تخريجين:
الأول: أن يكون من نفس العرب، ومن قومهم، ويكون كلمة المؤمنين خاصة بمؤمني العرب.
والثاني: أن يكون من أنفسهم، أي أنه بشر مثل سائر البشر آتاه الحكم والنبوة، وكان رسول رب العالمين ليرسم لهم طريق الهداية ويكون لهم أسوة حسنة؛ إذ لَا يمكن أن يكون أسوة حسنة لهم إلا إذا كان من جنسهم، وكان بشرا مثلهم، يأكل مما يأكلون ويشرب مما يشربون، وما يأتيه من خير يكون جنسه في طاقة البشر، وإن كان مقام النبي - ﷺ - فيه أعلى وأزكى وأوفر خيرا، وقد بين سبحانه وجه النعم في هذا البعث المحمدي فقال:
(يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) التلاوة القراءة المتابعة المرتلة التي يكون بعضها تلو بعض، أي يعقبه في نظام محكم دقيق، والتلاوة في أكثر أحوالها لَا تكون إلا في آيات مقروءة، والآيات تطلق على الآيات الكونية باعتبارها أمارة وشاهدا على قدرة الله تعالى ووحدانيته، وتطلق على الآيات المتلوة باعتبار أن كل آية من كتاب الله تعالى دليل على أنه من عند الله، وظاهر السياق أن الآيات التي تتلى هنا هي الآيات القرآنية، والمعنى في ذلك أن الله سبحانه يلقي على نبيه القرآن الكريم فيتلوه عليهم متحديا العرب أن يأتوا بمثله، وقيل: إن المراد بالآيات.. الكونية، ومعنى تلاوتها تلاوة القرآن المشتمل على أنبائها، وعلى توجيه الأنظار إليها، وإن الظاهر هو الأول، ولا يخلو الرأي الثاني من تكلُّف؛
1489
وإنه من أعظم منن الله أن يخاطَب المؤمنون بكتاب يتلى عليهم من السماء، وأن يوجه إليهم الخطاب مباشرة من الله تعالى.
والتزكية هي العمل الثاني من عمل النبي - ﷺ -، وهي تطهير نفوس المؤمنين من أدران الجاهلية، وننميتهم وتقويتهم، فالرسالة المحمدية كأن آثارها في المؤمنين تتجه إلى ثلاث نواح: تهذيب نفوسهم آحادا، والربط بين قلوبهم جماعات، والعمل على رفع شأنهم والتمكين لهم في الأرض بأسباب القوة، كما قال تعالى: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ). والكلمة (وَيُزَكيهِمْ) تشتمل على كل هذه المعاني التي ترفع من - شأن أهل الإيمان.
وتعليم الكتاب هو تعليمهم ما اشتمل عليه من أحكامه ببيان ما عساه يكون فيه من نصوص تعلو على مداركهم، وتفصيل المجمل فيه، وتطبيقه عليهم، فتعليم علم الكتاب غير تلاوته إذ تلاوته قراءته مرتلا مفهوما، وتعليمه بيان أحكامه، فقد أمر بالصلاة، والنبي - ﷺ - علمها، وأمر بالحج، والنبي - ﷺ - علمه، وهكذا، وقيل: إن تعليم الكتاب هو تعليم المؤمنين الكتابة ونقلهم من الأمية إلى العلم، فتعليم العلم في ذاته غاية من غايات الإسلام، ولذا كانت أولى آيات القرآن: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (٥).
وتعليم الحكمة، فسره الشافعي بأنه تعليم السنن العملية، ويصح أن تفسر الحكمة بما هو أعم من ذلك وأشمل، فتشمل العلم بأسرار الكون، وأسرار النفوس، والسلوك القويم الذي يسدد الخطأ في الدنيا، ويرضي الله سبحانه وتعالى في الدنيا والآخرة.
(وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) أي إن حال الناس، وخصوصا العرب، أنهم كانوا من قبل بعث النبي - ﷺ - في ضلال واضح بيِّن، تنفر منه العقول المستقيمة وتأباه الأذواق السليمة، ألم يكن العرب في عمياء من أمورهم
1490
متنابذين متدابرين يئدون بناتهم؛ وألم تكن فارس في اضطراب ونزاع وانحلال؛ وألم يكن الرومان ومن أخضعوهم في طغيان واضطراب عقائد؛ كل ذلك كان وقت أن بزغ فجر الإسلام، اللهم أتم علينا نعمة الهداية والتوفيق.
* * *
(أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (١٦٧) الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٦٨)
* * *
الكلام إلى الآن موصول في غزوة أحد وأعقابها، وفي هذه الآيات يبين سبحانه أنه ما كان يليق بالمترددين الذين أصاب اليأس قلوبهم، أن يعجبوا لماذا كانت الهزيمة، وإنه لَا يصح أن تأخذهم روح الانهزام إلى هذا الحد؛ لأنهم إذا كانوا قد أصيبوا في هذه الواقعة بقتلى فقد أصيب أعداؤهم بضعف ما أصيبوا، ولأنه لَا عجب في أن يهزموا لأنهم خالفوا قائدهم، والله سبحانه وتعالى قدر لهم تلك الهزيمة لكي يعتبروا، ويحسنوا التدبير، ويحسنوا الطاعة، ويحترموا حق القيادة الحكيمة الرشيدة، ولكي يتخذوا من الهزيمة علاجا للأخطاء التي سببتها وتوقيا في المستقبل لها، ولكي يبث في نفوس أهل الإيمان أن الحرب ليست نصرا
1491
مستمرا، ولكن العاقبة في النهاية لأهل الحق والعدل والرشاد، وهناك فائدة للهزيمة أنها تبين الصادق الإيمان من المنافق الذي لَا يؤمن بشيء، ففي المحنة يتميز الخبيث من الطيب، وإذا كان النصر في بدر قد فتح باب النفاق، فدخل في الإسلام من لم يؤمنوا به، وأعلنوا الاعتقاد من يبطنون خلافه، ويخفون ما لا يبدون، فإن الهزيمة في احد قد كشفت النفاق والمنافقين، بل إن غزوة أحد من أول أمرها قد كشفت النفاق، فقد أخذ المنافقون يثبطون، حتى همت طائفتان أن تفشلا والله وَلِيُّهُمَا، فلما كانت النتيجة أخذوا يبثون الأوهام الفاسدة، ليضعضعوا عزائم المؤمنين، ويشككوا ضعفاءهم في اعتمادهم على الله، فغزوة أحد قد كشفت النفاق في أولها وفي آخرها، وحسبها ذلك فائدة.
1492
(أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا) المصيبة أصلها في اللغة الرمية التي تصيب الهدف، ولا تخطئه، ثم أطلقت على النائبة التي تنزل، ولا تكاد تستعمل في القرآن في معنى الخير، وأما الفعل " أصاب " فيستعمل في الخير والشر، ومن ذلك قوله تعالى: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ...)، وقوله تعالى: (إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ...)، والمِثل هو المساوي، والمثلان هما ضعف المساوي، والمعنى: أوَلَمّا أصابتكم مصيبة قد أنزلتم بالأعداء ضعفها أصابكم الشك والتردد وقلتم انَى هذا؛ وقد أصابوا من المشركين ضعف ما أصاب المشركون منهم، فقد قتلوا منهم مقتلة في بدر، قتلوا نحو سبعين، وأسروا مثلهم، وقتلوا منهم مقتلة في أول الحرب في أحد، والاستفهام هنا إنكاري للتوبيخ، وموضع التوبيخ هو قولهم: " أنَّى هذا "، لأن ذلك يدل على التردد والشك أو تسربه إلى قلوبهم، ومعنى " أنَّى هذا ": من أين هذا؟ أي من أين جاءت هذه الهزيمة، وهذا لَا يقوله إلا ضعاف الإيمان، لأن المؤمنين الصادقين يدركون خطاهم، ويعرفون تقصيرهم، ويغلبون إسناد عيبهم إليهم على إسناد العيب إلى غيرهم، فكأن حل النسق البياني الرائع هو هكذا: أقلتم من أين هذه الهزيمة لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها، بالمقتلة
1492
العظيمة فيهم في بدر، والمقتلة العظيمة في أول الغزوة في أحد، ويصح أن يقال: إن انذين قالوا من أقوياء الإيمان؛ لأنهم يستعجلون نصر الله تعالى لإعزاز دينه، ويَخْشوْن أن يكون الله تعالى تخلى عن نصرتهم لعيوب فيهم، وقد أمر الله تعالى أن يجيبهم، ويزيل تعجبهم، فقال: (قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفسِكمْ).
أي أن سبب المصيبة منكم أنتم، وقد أكد أنه منهم بإبراز الضمير في الإجابة (١)، وبالإتيان بالظرف وهو عند، وبالتعبير بـ " أنفسكم " التي تدل على التوكيد، وكان سبب الهزيمة منهم لأنهم لم ينتظروا في المدينة حتى يجيء إليهم الأعداء ويقضوا عليهم، فالنبي - ﷺ - خرج من المدينة نزولا على حكم الشورى، وعلى رأيهم، فعليهم أن يتحملوا تبعته، وهم فوق ذلك هموا بأن يفشلوا، ولأنهم عندما رتب النبي - ﷺ - جيشه ترتيبا حكيما، وأخذ المقاتلون ينفذونَ الخطة بإحكام، والرماة يحمون ظهورهم، حتى أخذوا يَحسُّونهم بإذنه، وقتلوا من المشركين مقتلة عظيمة، وفروا أمامهم، ترك الرماة أماكنهم، فكان الاضطراب في جيش الحق، وفوق ذلك فإن الشك قد أصاب القلوب الواهنة، حتى أخذ يضرب بعضهم رقاب بعض، وضعف صوت الهادي الرشيد، وانطلق المنافقون يعلنون قتل النبي - ﷺ -، فبسبب ذلك كله كانت الهزيمة.
بيد أن هذه الهزيمة كانت إرادة الله سبحانه وتعالى ليمحِّص المؤمنين، وليبين لهم بالعمل أن طاعة القائد الرشيد سبب النصر، وأن قدرة الله تعالى فوق كل شيء، فهو قادر على كل شيء، كان يستطيع أن ينصركم في هذا المضطرب، وقد فعل فإنه صرف المشركين عن أن يعودوا إلى المدينة وقد أثخنتكم الجراح وأثقلكم الاضطراب، ولكن الله خوَّفهم فَرَضُوا من الغنيمة بالإياب، ولذا قال سبحانه مؤكدا قدرته:
(إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ) وهذا رد على ضعفاء الإيمان الذين يقولون كيف ننهزم والله معنا، فبين سبحانه أن قدرته فوق كل شيء، وأنه سبحانه أراد
________
(١) أي الضمير " هو " في قوله تعالى: (هو من عند أنفسكم).
1493
لكم تلك النتيجة وحماكم من أن تؤثر في مجرى تاريخكم فصرفهم ذلك الصرف، حتى كأنهم المهزومون وأنتم المنصورون، وقد أكد سبحانه قدرته بلفظ " إنَّ "، وبذكر لفظ الجلالة الذي يربي المهابة من الخلاق العليم في قلب المؤمن، وبعموم قدرته سبحانه على كل شيء وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير، وقد بين سبحانه عموم إرادته وقدرته فقال:
1494
(وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ) أي إن ما أصابكم يوم التقى الجمعان في أحد وكلاهما قد أصر على أن يكون الموقف حاسما لمصلحته، قد كان بإذن الله تعالى، أي بإرادته الأزلية، وتقديره الحكيم، وقضائه المحكم، فما كان بغير إرادته: بل كان على مقتضى حكمته، ذلك أن الله سبحانه ربط الأسباب بمسبباتها والمقدمات بنتائجها، فمن سلك طريق النصر ينتصر إن خلصت نيته، واستقامت إرادته، وتوكل على الله تعالى، ولا يبغي إلا وجهه سبحانه، وإن طريق النصر أوله انصراف عن المادة لأنها تضعف العزيمة، ثم تنظيم محكم ووضع لكل شخص في موضعه الذي يحكم القيام به، ثم طاعة وإصرار وعزيمة على امتثال الخطة المثلى، ثم ثبات جَنَان وتصرُّف في الشديدة، ولم تكونوا كذلك في هذه المعركة الطاحنة التي اختبرتم فيها اختبارا شديدا، وهو سبيل النصر إن انتفعتم به، فقد شابت نفوس بعضكم المادة وهمت طائفتان أن تفشلا فلم تكن النية المحتسبة. وخالفتم القائد الرشيد، وأفسدتم النظام المحكم، وذهب الهلع بنفوس أكثركم إذ اشتدت الشديدة وقوي البلاء.
وهنا بحثان لفظيان: أحدهما: أن الله تعالى عبر في غزوة أُحد عن الموقعة بقوله: " (الْتَقَى الْجَمْعَانِ) وفي ذلك إشارة إلى قوة التجمع في الفريقين، وذلك يدل على أن كل فريق مُصر على القتال، مُريد للنصر فيه، فهزيمة بدر جمعت المشركين في أحد وجعلت لهم عزيمة مريدة ماضية، وإيمان المؤمنين جعل في أقويائهم رغبة في النصر أو الاستشهاد.
1494
والثاني: أنه سبحانه وتعالى عبر عن إرادته الأزلية بالإذن؛ لأن الإذن هو - الإعلان، وقد علمت تلك الإرادة بهذا الأمر الذي وقع، وقد كانت تلك المصيبة التي نزلت لها فوائد، أولها: ضرورة الاستمساك بأسباب النصر، وطلبه بأسبابه، وقد أشرنا إلى ذلك، وثانيها وثالثها: ما أشار إليه سبحانه وتعالى بقوله: (وَلِيَعْلَمَ لْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا)
أي ليعْلَم الله سبحانه وتعالى وقوع ما قدره في علمه الأزلي، فيعلم المؤمنين الثابتين الأقوياء الذين لَا يبغون مادة، بل يبغون إعلاء كلمة الله تعالى، وجعلها هي العليا، وكلمة الشرك هي السفلى، وليعلم وقوع ما قدره في علمه الأزلي وهو ظهور المنافقين في هذه الشدة، ولتقريب المعاني قول: إن الله تعالى يعلم ما يقع في المستقبل علما أزليا كما قال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ...)، فإذا وقع ما قدره علمه سبحانه واقعا، وما يتغير بذلك علم الله تعالى، بل الذي يتغير هو المعلوم من أنه سيقع إلى أنه واقع، وعلم الله واحد.
ويصح أن يقال: إن معنى علم الله تعالى في هذه الآية الكريمة وما يشبهها من آيات هو ظهور ما قدره سبحانه وتعالى بحيث يعلمه الناس، وهو من قبل في علم الله المكنون، ولوحه المحفوظ.
ومرمى النص الكريم أن تلك الشدة التي نزلت تميز بها الصادقون من أهل الإيمان من المنافقين الذين كانوا يبثون روح الهزيمة في أوساط المؤمنين كما قال تعالى: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ...).
لقد دخل المنافقون صفوف المؤمنين بعد غزوة بدر، فكان لابد أن يُميزوا ويُعرَفوا ليتوقى المؤمنون شرهم، ولا يكون ذلك إلا بتجربة تعرك فيها النفوس، وتلك التجربة كانت في غزوة أحد، فعلم أمر أهل النفاق من بعدها، حتى صاروا يعرفون بسيماهم وأقوالهم وأفعالهم، وقد عبر الله سبحانه
1495
عن المنافقين بقوله
1496
(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا) لبيان أن النفاق حدث جديد، قد وجد في صفوف المؤمنين، ولم يكن قبل بدر الكبرى، فالقوة في بدر قد أوجدته، والتجربة القاسية في أحد قد كشفته.
ولقد قال سبحانه وتعالى في مظاهر المنافقين، وأوصافهم، وأحوالهم، وإعراضهم عن الجماعة في الشدة:
(وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ) هذه الجملة السامية فيها بيان حال أولئك المنافقين، وعدم مجاوبتهم نفسيا مع المؤمنين، وقد أشار سبحانه بهذا إلى أنهم كانوا معوِّقين (١) في ابتداء القتال، قيل لهم من النبي - ﷺ - ومن الذين يعاشرونهم ويجاورونهم، ومن أهليهم وعشيرتهم: تعالوا، أي تساموا بأنفسكم وارتفعوا لتقاتلوا في سبيل الله تعالى مجاهدين مبتغين مرضاته بالدفاع عن الحق، فإن لم تسمُ نفوسكم إلى حد القتال طلبا لمرضاة الله، فلتقاتلوا دفاعا عن الوطن والعشيرة، فالمعنى: قاتلوا لرضا الله، أو ادفعوا عن أنفسكم عار الذل وعار سيطرة قريش عليكم إن لم تقاتلوا، وقيل إن معنى ادفعوا أن يكثروا سواد المسلمين، فيلقي ذلك الرعب في قلوب الأعداء فيعرفوهم بهذا التكثير، وعن سهل بن سعد الساعدي وقد كف بصره قال: لو أمكنني لبعت داري ولحقت بثغر من ثغور المسلمين، فكنت بينهم وبين عدوهم، قيل: كيف وقد كف بصرك؟ قال: لقوله تعالى: (أَوِ ادْفَعُوا) وعبر بالمجهول في قوله تعالى: (وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا) للإشارة إلى كثرة القائلين فقيل لهم من النبي، ومن الأصحاب، ومن أهلهم وعشيرتهم المؤمنين، ولكنهم امتنعوا لامتلاء قلوبهم بالنفاق. (قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ).
________
(١) أي مثبطين، قال تعالى: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا).
1496
ظاهر المعنى أنهم يوهمون دعاتهم للخروج معهم أنهم لَا يعتقدون أن قتالا يقع، وأن الأمر ينتهي بغير قتال، ولكن الزمخشري فسر بغير هذا الظاهر، فقرر أن المعنى أننا لو نعلم أنكم تخرجون لقتال رتبت أسبابه وأخذ فيه بالاحتياط، ولكنه زلل، وإلقاء بالتهلكة، وكان خيرا أن تبقوا بالمدينة، حتى يجيء العدو إليكم، وكأنهم بهذا يرجحون الرأي الأول، وهو البقاء في المدينة، ولو بقوا في المدينة لوجدوا السبيل لبث الفتنة بطرق أخرى، فهم لَا يبغون إلا الفتنة، وذلك لأنهم خرجوا معهم، ولكنهم قبل أن يصلوا إلى أحد رجعوا فرجع كبيرهم عبد الله بن أبي بن سلول في ثلاثمائة ممن على شاكلته ليخذلوا المؤمنين.
(هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بَأفْوَاهِهِم مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) تضمن ذلك النص حكما على أعمال المنافقين، وبيانا لحقيقتهم، فأما الحكم فهو أنهم في هذا اليوم المشهود الجليل الذي ميزهم وعرف بهم - كانوا أقرب إلى الكفر من الإيمان، وأما الوصف فهو أنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم مغررين مظهرين الإيمان، وكاتمين الكفر، ويذكرون لبث روح الهزيمة بين المؤمنين أمورا يعرفون كذبها، وينشرون أراجيف يعلمون بطلانها.
والحكم الذي حكم الله به عليهم، وهو أنهم في هذا اليوم، أقرب للكفر منهم للإيمان، ظهرت بوادره فقد كانوا يتمنون نصر المشركين ويعملون لبث روح الهزيمة في صفوف المسلمين، فهم بلا شك كانوا أقرب للكافرين منهم للمؤمنين بإرادة نصر الأولين، وهزيمة الآخرين، مع أنهم عشراؤهم وخلطاؤهم، ومنهم من تربطه ببعض المؤمنين قرابة قريبة فمنهم من كان أبا لبعض المؤمنين أو أخا، ولكن نفاقهم جعلهم ينسون تلك الوشائج من القربى، فكانوا يقطعون ما أمر الله به أن يصل. فالمراد بـ " الكفر " أهله، ومحط في قوله تعالى: (فَلْيَدْعُ نَاديه)، ويصح أن يقال: إن المراد من قربهم إلى الكفر هو بالنسبة لأقوالهم وأفعالهم، فأفعالهم وأقوالهم في يوم أحد كانت تدل بظواهرها على قربهم إلى الكفر وبعدهم عن الإيمان، وإن كانت لَا تدل على كل حقيقتهم؛ وذلك لأن تلك
1497
الحوادث قد كشفتهم، وبينت قربهم من الكفر، إذ حرصهم على ألا يظهروا بحقيقتهم جعلهم لَا يعلنون كل أمرهم، ولكن الجزء الذي ظهر، وإن لم يكن الكل، دل على حقيقة النفاق الذي يسكن قلوبهم، وكان مظهرهم به أقرب إلى الكفر، وأما الوصف الذي وصفهم الله سبحانه وتعالى به وهو أنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، فتلك طبيعة النفاق دائما فهو ستر للباطن، وإعلان ما يناقضه، وقد أظهروا أنهم يريدون مصلحة المسلمين، وهم يريدون خذلانهم وأظهروا أنهم يقولون الحق عندما كانوا يثبطون المؤمنين، وهم لَا ينطقون بالحق، ولا يريدونه.
ثم ختم الله سبحانه النص الكريم بقوله: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكتمُونَ).
أي أنهم يخادعون المؤمنين، ويبدون ما لَا يخفون، ويحسبون أنهم يخادعون الله والذين آمنوا، وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون، فالله سبحانه وتعالى عليم بالسرائر وما يبيتونه للمؤمنين، وقد كشف الله تعالى بعض شئونهم، ليحترس المؤمنون منهم، ولكيلا ينخدعوا بهم، ولكي يتجنبوهم في الشدائد حتى لا يحدث لهم بسببهم محنة، وإن أولئك قد كتموا الرغبة الشديدة في الكيد للنبي وأصحابه، وأنهم كلما ثار حقدهم على النبي - ﷺ - ازداد كيدهم، وما كان يثير حقدهم إلا نصر يؤيد الله تعالى به نبيه، وقد كتموا موالاتهم لأعداء الإسلام من اليهود وغيرهم، وإن أولئك المنافقين لَا يكتفون بتخذيلهم والمعركة قد ابتدأت، بل يظهرون الشماتة بعد أن وقعت، لكي يثبطوا المؤمنين عما يكون من قتال من بعد، وقد حكى الله سبحانه وتعالى عنهم، فقال:
* * *
1498
(الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا... (١٦٨)
* * *
في هذا النص قولهم بعد انتهاء الحرب، وقد قالوه ليبعثوا الريب في جماهير المؤمنين، وليعلنوا تخلي الله عن نصرتهم، والمعنى: هؤلاء قالوا لإخوانهم الذين هم مثلهم لو أطاعنا المؤمنون ما قتلوا، فقد دعوناهم إلى العودة إلى المدينة والامتناع عن الخروج ولكنهم خالفونا، فانتهوا إلى القتل، فالتقاول كان بين المنافقين أنفسهم، أو نقول: إن
1498
إخوانهم هم ذوو رحمهم وعشائرهم من المؤمنين الذين استشهدوا في أحد، والمعنى على هذا أن الذي فالوه لأجل أو في شأن إخوانهم، فاللام للتعليل وبيان الباعث على القول، فهم لَا يتألمون لإخوانهم وذوي رحمهم، ولكن يلقون باللوم عليهم.
وخلاصة القول: إنهم فرحون بأنهم لم يقتلوا لأنهم لم يخرجوا، ولائمون لمن خرجوا وقتلوا، شامتون فيهم، وهم بهذا يقررون أن موتهم سببه الخروج للقتال، وقد رد الله سبحانه وتعالى ذلك عليهم ببيان أن الموت مكتوب على الإنسان، وتقدر أسبابه، فقد يكون قتال ولا موت، وقد يكون موت من غير قتال، فقال سبحانه: (قلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كنتُمْ صَادِقِينَ).
الفاء هنا هي التي تسمى فاء الإفصاح وهي تفصح عن شرط مقدر، والمعنى: إذا كنتم تظنون أنكم دفعتم عن أنفسكم الموت بامتناعكم عن الذهاب إلى الميدان وقعودكم في الديار، فادرءوا أي ادفعوا عن أنفسكم الموت المكتوب الذي لا تفرون منه أبداً وهذا كقوله تعالى: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُروجِ مُّشَيَّدَةٍ...)، والمرمى في هذا النص أنهم يعتقدون أنهم نجوا من الموت بقعودهم، فهل يعتقدون أنهم نجوا منه نهائيا؛. إنه ملاحقهم، وما دام ملاحقهم وهو حقيقة مقررة يثبنها الحس المستمر، فلماذا تفرون من القتال؟ والتعليق في قوله تعالى: (إِن كنتُمْ صَادقِينَ) لإفادة كذب حسهم، وكذب قولهم في زعمهم إن القعود سبب للنجاة، فإن الله سبحانه وتعالى يذكر لهم أنهم إن كانوا صادقين في أن القعود سبب للنجاة فليدفعوا عن أنفسهم الموت، لأن الموت لا يدفعه قعود ولا يستعجله خروج، ولتوضيح هذا الذي نقصده نقول: إن كلام هؤلاء المنافقين ككلام الكافرين الذي حكاه الله تعالى آنفا في قوله تعالى: (يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَّوْ كَانوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ...).
1499
وإن هؤلاء قد زعموا أن القعود دافع للموت مانع من نزوله، فإن كان في إمكانهم بقعود أو نحوه أن يدفعوه فليدفعوه إذا جاء إن كانوا صادقين في هذا الزعم الذي زعموه، والمؤدى أن الموت إذا جاء الأجل ليس له من دفاع، فلا ينجي منه القعود، ولا ينزله الخروج، فَزَعمُهُم بأنهم كانوا ينجون لو لم يخرجوا زعم باطل، وإن كانوا صادقين فليدفعوه إذا نزل.
اللهم اجعل لنا في الموت عبرة، واجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم لقائك يارب العالمين.
* * *
(وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١) الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢)
* * *
ما زالت النصوص الكريمة في ذكر أعقاب غزوة أُحد التي كانت أبلغ درس إسلامي للغزاة خاصة، وللمؤمنين عامة، وقد كانت المسبار (١) الذي سبرت به النفوس، وتكشفت به قلوب المؤمنين، وأظهرت قلوب المنافقين، ولقد كانت عباراتهم فيها شماتة بأهل الإيمان، وقد بين اللَّه سبحانه وتعالى في هذه الآيات ما ناله أهل الشهادة باستشهادهم، وما هم عليه من روح وريحان، وما يستقبلونه من جنات النعيم، وقد بين في هذه الآيات الكريمة ما أعده الله سبحانه للمؤمنين
________
(١) سبر الجرح: نظر ما غوره، والمسبار ما يسبر به الجرح. الصحاح. والمعنى هنا الكشف عن أغوار النفوس.
1500
المجاهدين الذين استجابوا لله ورسوله من بعد ما أصابهم القرح، من أجر لا يضيع، وعمل صالح يرى، وقول طيب هدوا إليه يسمع، وقد قال تعالى:
1501
(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ).
وفى هذا النص الكريم رد على شماتة المنافقين، وتحريض للمؤمنين، وتقرير لحقيقة إسلامية ثابتة، وهي أن الاستشهاد في سبيل الله تعالى ليس فناء، بل هو بقاءٌ، وأن الموت ليس إنهاء للحياة، ولكنه امتداد لها بصورة أكمل وأبقى، أو بعبارة أخرى هو انتقال من دور الحياة المادية إلى دور الحياة الروحية حتى تكون القيامة، وتجزى كل نفس بما كسبت، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. نهى الله سبحانه وتعالى نبيه الأمين عن أن يظن أي ظن بأن الذين قتلوا في سبيل الله تعالى أموات بل هم أحياء، والتأكيد هنا تأكيد للنهي، أي أن الله تعالى ينهى نبيه نهيا مؤكدا عن أن يظن ذلك الظن، فـ " نون التأكيد " ليست لتأكيد الظن المنهي عنه، بل هي لتأكيد النهي، كما يقال: لَا تفعلن كذا، فليست النون لتأكيد الفعل، بل هي لتأكيد النهي، ولا شك أن نهي النبي - ﷺ - نهي لغيره، وغيره أولى بهذا النهي منه وأجدر؛ لأن الناس منهم من ظنوا بالله الظنون، وقد أصابتهم حسرة شديدة، وبعضهم أصابتهم خيبة آمال، ومنهم من كان في ألم شديد للذين قتلوا منهم، وقد وجه النهي للنبي - ﷺ - ابتداء ليكون انتهاء النبي - ﷺ - أسوة حسنة لهم، والنبي أقرب البشر إلى الله سبحانه، فنهيه فيه تأكيد النهي لغيره.
والذين قتلوا في سبيل الله تعالى هم الذين قتلوا في سبيل الحق والدعوة إليه، سواء أكان ذلك في ميدان القتال، أم كان في ميدان الدعوة إلى الله تعالى وإلى صراط مستقيم، وكل داع لله إذا قتل في سبيله أو مات في طلبه فهو قد قتل في سبيل الله تعالى، ولقد قال النبي - ﷺ -: " أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر " (١) فمن قتل في هذه السبيل فقد قتل في سبيل الله تعالى.
________
(١) سبق تخريجه.
1501
وقد يقول قائل كل ميت فهو حي بروحه لأن الله تعالى قد بين في محكم آياته أن الموت ليس فناء، كما قال سبحانه: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ...). وقد بين النبي - ﷺ - بمخاطبته يوم بدر قتلى المشركين أن أرواحهم تسمع الكلام (١)، فلماذا إذن اختص الذين قتلوا في سبيل الله تعالى بأنهم أحياء؟.
والجواب أحد أمور ثلاثة:
(أولها) أن هذا النص الكريم رد على شماتة الذين شمتوا من اليهود، وتطييب لقلوب الذين فقدوا أحبتهم من المؤمنين، وتشجيع للذين يحملون السيوف على عواتقهم لجعل كلمة الله تعالى هي العليا، وكلمة الشرك هي السفلى.
(ثانيها) أن النص الكريم تذكير بحقيقة مقررة ثابتة وهي أن الموت ليس فناء، في وقت قد غامت فيه على النفوس غيمة من الألم المرير، وقد كان أقرب المتوفين ذكرا في هذا الوقت هم الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله تعالى.
(ثالثها) أن الله تعالى قد ذكر لأولئك الشهداء حياة ليست كحياة غيرهم، بل هي حياة فيها تكريم واستبشار ورزق كريم، ونعيم وسعادة ورضا بما كان منهم، وأنهم قد نالوا جزاء كريما بمجرد الاستشهاد، وأن هذه الحياة السعيدة لَا يصح أن يطلق عليها اسم الموت، وإن كان يصح إطلاقها على غيرهم.
وما هذه الحياة التي ينالونها بعد الاستشهاد وما كيفها؟ وإن كنا لَا نشعر بها ولا نراها، كما قال تعالى: (وَلا تَقُولُوا لِمْن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لَا تَشْعُرُونَ)؟ والجواب عن ذلك أنه قد وردت أحاديث كثيرة في هذا الباب تدل على حياة كريمة لهؤلاء الشهداء، فقد روى مسلم عن مسروق: إنا سألنا عبد الله بن عباس عن هذه الآية: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقونَ) فقال: إنا قد سألنا رسول اللَّه - ﷺ -
________
(١) رواه بهذا اللفظ مسلم: الإمارة - بيان أن أرواح الشهداء في الجنة (١٨٨٧)، وقد سبق تخريجه.
1502
فقال: " أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ، لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ، تَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ، فَاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمُ اطِّلَاعَةً»، فَقَالَ: " هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا؟ قَالُوا: أَيَّ شَيْءٍ نَشْتَهِي وَنَحْنُ نَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْنَا، فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَنْ يُتْرَكُوا مِنْ أَنْ يُسْأَلُوا، قَالُوا: يَا رَبِّ، نُرِيدُ أَنْ تَرُدَّ أَرْوَاحَنَا فِي أَجْسَادِنَا حَتَّى نُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ مَرَّةً أُخْرَى، فَلَمَّا رَأَى أَنْ لَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ تُرِكُوا " (١).
وهذا الحديث يدل على حياة كريمة، وهي حياة روحية لَا جسدية، وأقصى ما يدل عليه التجسيد هو أنها تكون في طيور خضر، وأن هذه الآية تشير إلى الجزاء الأوفى الذي يستقبلهم في الحياة الآخرة، وإلى أن الأرواح بعد الموت إما في شقاء، وإما في نعيم، وأن حياة أولئك الشهداء الأطهار في أحسن نعيم، وأكمله، ولذا قال سبحانه: (عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ).
في هذا النص الكريم ما يثبت أن حياتهم في هذه الفترة التي تكون بين الاستشهاد والحساب والثواب حياة كريمة سعيدة هنيئة؛ لأن فيه التصريح بأنهم عند ربهم الذي خلق الكون وخلقهم، والذي جاهدوا في سبيله، وقاتلوا وقتلوا، وإذا كانوا عنده فهم عند من يكرمهم ومن يجازيهم جزاء عاجلا، حتى يكون الجزاء الأوفى والنعيم المقيم، عندما تتصل أرواحهم الطاهرة بأجسامهم التي يعيدها الله سبحانه وتعالى إليهم في سعادة وحبور.
والرزق الذي يرزقهم الله تعالى رزق معنوي من سعادة وهناءة، وطيب مثوى تشعر به أرواحهم ويرون مقدمات جزائهم، ولا نقول إنه في هذه الفترة مادي؛ لأن الحياة في هذه الحال حياة أرواح قد انفصلت عن أجسادها، والرزق حينئذ يكون معنويا، وإن هذا معنى تقريبي؛ لأن كل الأحاديث النبوية الواردة في هذه الفترة تشير إلى أن الحياة روحية، ومن ذلك قوله - ﷺ - فيما رواه الإمام مالك
________
(١) رواه بهذا اللفظ مسلم: الإمارة - بيان أرواح الشهداء في الجنة (١٨٨٧)، وقد سبق تخريجه.
1503
رضي اللهِ عنه (نسمة المؤمن طائر يعلق في شجرة الجنة حتي يرجعه الله إلى جسده يوم مبعثه " (١).
ولقد قال النبي - ﷺ - مخاطبا صحابته من أهل بدر وأحد: " لما أصيب إخوانكم يوم أحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة، كل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم، قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا في الحرب " (٢).
وإن هذا الحديث وإن ذكر طعاما ماديا يتناوله الطير الخضر التي حلت فيها الأرواح هو يدل على أن الحياة روحية، إذ الأرواح ليست في أجسادها.
وقد بين الله سبحانه وتعالى حالهم فقال سبحانه:
* * *
________
(١) رواه الإمام مالك في الموطأ: الجنائز - حديث السيدة عائشة رضي الله عنها (٥٠٤).
(٢) رواه بهذا اللفظ الأمام أحمد: مسند بني هاشم (٢٢٦٧) عن ابن عباس رضي الله عنهما، كما رواه أبو داود بنحوه: الجهاد - فضل الشهادة (٢١٥٨).
1504
(فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ... (١٧٠)
* * *
أي أنهم في هذه الحياة التي يحيونها يشعرون بسعادة عظيمة، لأنهم يرون ثمرات أعمالهم من الجهاد في سبيل الله، ويشعرون برضا الله سبحانه وتعالى، وأنهم في تكريم، وقد آتاهم الله تعالى نعمة الطاعة ونعمة الجهاد، وأشعرهم بالسعادة المطلقة في حياتهم الروحية، ورحابه الكريم. وأن الملائكة أولئك الأرواح الطاهرة تحفهم بالتكريم والترحيب، ويروى في ذلك البخاري أن جابرا، قال: لما قتل أبي جعلت أبكى وأكشف الثوب عن وجهه، فجعل أصحاب رسول الله - ﷺ - ينهونني، والنبي - ﷺ - يقول: " لا تبك، ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفع " (٣) فأرواح الشهداء في تكريم من الملائكة الأطهار، والله
________
(٣) رواه البخاري: الجنائز - الدخول إلى الميت (١١٦٧)، ومسلم: فضائل الصحابة - فضائل عبد الله بن عمرو ابن حرام (٢٤٧١).
1504
سبحانه وتعالى يتغمدها برضاه وتقريبها حتى إن النبي - ﷺ - ليذكر أن الله تعالى يخاطبها كفاحا، أي مواجهة، وأي تكريم أعلى من ذلك وأسمى؛ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
وإن أرواح الشهداء الأبرار لترضى بجهاد الذين أعقبوهم في الميدان فلم يخلوه، ولذا قال سبحانه: (وَيسْتَبْشِرُونَ بِالَّذينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْف عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).
الاستبشار: طلب البشرى، والبشرى هي الأمر الذي يدخل السرور في النفس، لأمر كان يتوقع منه مرهوبا أو محبوبا فتجيء البشرى بالمحبوب دون المرهوب، وفي بيان استبشار أولئك الشهداء الأبرار تخريجان: أحدهما - أن يكون المراد طلبهم البشرى بأن الذين لم يلحقوا بهم في الاستشهاد وخلفوهم في الميدان، لا خوف عليهم من أن يستمكن العدو منهم ولا ينتصر عليهم، ولا هم في حزن أو غم بسبب أنهم لم ينالوا ما يرغبون من نصرة كلمة الحق، ورفع كلمة الدين، فهم على اطلاع بما يجري للمؤمنين، ويريدون أن تجيء إليهم البشرى بالانتصار الباهر، والفوز الظاهر الذي يذهب معه الخوف ويكون بدله الأمن، ولا يكون حزن من هزيمة، أو غم من قرح يصيبهم وتكون كلمة يستبشرون معناها يطلبون البشرى.
التخريج الثاني: أن يكون معنى الاستبشار طلب البشرى ونيلها، فالاستجابة معناها طلب الإجابة ونيلها، والمعنى أنهم في سرور وحبور مما آتاهم الله تعالى من فضله، ولأنهم جاءتهم البشرى بأن الذين لم يلحقوا بهم في الاستشهاد لَا خوف عليهم ولا هم يحزنون، بل يقبلون على الجهاد طالبين الاستشهاد من غير خوف، ولا رهبة، ولا حزن، بل تلقيا لأسباب المنون بإيمان قوي؛ لأنها إما الشهادة في عزة وكرامة، وإما الانتصار وإعلاء كلمة الله تعالى.
ولقد بين سبحانه وتعالى استبشارهم بحسن الجزاء فقال سبحانه:
* * *
1505
(يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١)
* * *
1505
هذه الجملة بيان للاستبشار السابق، والتخريج في معنى كلمة الاستبشار الذي ذكرناه في النص السابق يجري فيها.
والمعنى أن هؤلاء الشهداء يطلبون البشرى بنعمة من الله تعالى، وهي نعمة جزيلة كريمة فاضلة لأنها صادرة عن مانح النعم لهذا الوجود كله ومسديها لكل حيّ، والنعمة هنا هي نعمة الانتصار، والفضل هو ما يسبغه الله تعالى على أهل الحق من عزة، وطلب له شاعرين بأن الموت في سبيل الله هو عين البقاء، والحياة في باطل هي عين الفناء، فالاستبشار من هؤلاء الأطهار استبشار بالعزة لدينهم وللحق الذي افتدوه بأجسامهم وخفقت من بعد ذلك أرواحهم، فهم يستبشرون بنعمة النصر وفضل العزة للذين جاءوا من بعدهم، فنعمتهم هم وفضل الله عليهم في نصرة الإسلام بعدهم، وكون الله تعالى لَا يضيع أجر المؤمنين، بأن يعطيهم النصر والعزة والكرامة جزاء جهادهم، وليس الاستبشار هنا بما ينالونه هم، بل بما ينال الإسلام والمؤمنين من بعدهم، والدليل على ذلك أن الاستبشار هنا بيان للاستبشار الذي سبقه، والاستبشار الذي سبقه كان لأن الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم لَا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وأيضا فإن المؤمنين الذين لَا يضيع جزاؤهم في الدنيا بالنصر، ولا في الآخرة بالنعيم المقيم، بينوا بأنهم الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم، وهم الذين قال الله تعالى فيهم:
* * *
1506
(الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ... (١٧٢)
* * *
أصل استجابوا: طلبوا الإجابة، والمعنى هنا أنهم عالجوا أنفسهم وطلبوا إجابة داعي الله إلى النصر، فأجابوا، فالاستجابة لأن السين والتاء للطلب تدل على أنهم راضوا نفسهم على إجابة الله تعالى، ونالوا ذلك الشرف العظيم؛ إذ أجابوا داعي الله ورسوله من بعد ما أصابهم ذلك الجرح ولم ينهنه من قوتهم، بل استرسلوا في قوة وصبر وعزيمة، واستثارهم الجرح ولم يضعفهم، وأنهم أجابوا الداعي فور الواقعة، فإنه يروى في ذلك أنه لما رجع المشركون قالوا: (لا محمدًا
1506
قتلتم، ولا الكواعب أردفتم (١)، بئسما صنعتم، ارجعوا). فسمع رسول الله - ﷺ - بذلك فندب المسلمين، فانتدبوا حتى بلغوا حمراء الأسد، ولكن خذل الله المشركين، وقوى المؤمنين، فرجع المشركون من حيث جاءوا، ويروى أن النبي - ﷺ - عندما ندب المؤمنين أذن مؤذن رسول الله بطلب العدو، وأذن مؤذنه " ألا يخرجن معنا إلا من حضر أُحدا (٢)، فخرجوا فهؤلاء هم الذين استجابوا لله والرسول، لأنه لم تأخذ الهزيمة من نفوسهم، وإن أصيبوا بكلوم في أجسامهم، وقد قال سبحانه وتعالى في جزائهم.
(لِلَّذِينَ أَحْسَنوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْر عَظِيمٌ) اختص سبحانه وتعالى من أولئك الذين جاهدوا ولم يستشهدوا بعد بأن لهم أجرا عظيما، وهنا يلاحظ ثلاثة أمور: (أولها) أن الله لم يذكر الأجر لهم جميعا، لأنهم كانوا أحياء، والحيّ قد يغير ويبدل، فكان لابد من التقييد بالإحسان والتقوى، أي يستمر على ما هو عليه.
(وثانيها) أن الإحسان هنا غير التقوى، إذ الإحسان هو إجادة الخطة، واتباع المنهج المستقيم في القتال، وذلك لابد منه في الانتصار، والطاعة المطلقة للقائد من إحكام الخطة.
(ثالثها) أن التقوى - وهي وقاية النفس من الغرض والهوى والاتجاه إلى الله وإخلاص وقلب سليم خال من الشوائب - أساس الأجر العظيم، والله سبحانه وتعالى بكل شيء عليم.
* * *
________
(١) أخرجه النسائي: السنن الكبرى ج ٦، ص ٢٧٦ (١٠٩٧٩). وفي مجمع الزوائد: ج ٦، ص ١٧٦ وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير محمد بن منصور الجواز، وهو ثقة. وذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري (باب قوله تعالى: (الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح).
(٢) السيوطي: الدر المنثورج ٢ ص ١٠٢، وعزاه لابن جرير عن عكرمة.
1507
(الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥) وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١٧٦)
* * *
الكلام متصل بالكلام في أعقاب أحد، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى الذين استجابوا لله وللرسول من بعد ما أصابتهم الجراح، ولم تمنعهم هذه الجراح من أن يجيبوا داعي الله، ويستعدوا، ويتقدموا؛ ويتغلبوا على روح التردد والهزيمة التي كان يبثها المنافقون، وترشح لها الجراح، وإن أبا سفيان قد هم أن يرجع إلى المدينة، فخرجوا للقائه، ولكن ثبطه الله، فعادوا، ولقد كان أولئك الذين استجابوا لداعي الجهاد، وهم في تلك الحال، لهم موقف آخر جليل ذو شأن في الجهاد، وأثر في الإسلام، ولقد ذكر الله ذلك الموقف بقوله تعالت كلماته:
1508
(الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهًمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا).
وقوله تعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ) الموصول فيها بدل من الموصول في قوله تعالى: (الَّذينَ استجابوا لله والرسول) فهم طائفة واحدة لم تتعدد، ولكن تعدد عملهم، فهم في الأول لم تثقلهم الجراح عن أن يجيبوا الرسول - ﷺ -، وهم في الثاني لم ترهبهم أقوال الناس.. المتضافرة عن أن يتقدموا للقتال، وقد
1508
تكاثرت أسباب الرهبة، وأخبار الاستعداد، فهذا موقف آخر، وإن كان الذين نالوا الفضلين طائفة واحدة، وذلك الموقف هو أن أبا سفيان ومن معه لما رجعوا لا يلوون على شيء، قال للنبي - ﷺ -: موعدكم بدر القابل فقبل النبي ذلك التهديد، وكان ذلك في شوال من السنة الثالثة، وكان تجار قريش يقدمون إلى بدر في ذي القعدة، ويسمون ذلك بدرا الصغرى، فاستعد النبي - ﷺ - للقائهم بعد نحو شهر من أحد، وخرج أبو سفيان في أهل مكة ولكن ألقى الله الرعب في قلوبهم، فبدا له أن يرجع، فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي وقد قدم معتمرا، فقال: يا نعيم إني أوعدت محمدا أن نلتقي بموسم بدر، وإن هذا عام جدب، ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر، ونشرب فيه اللبن وقد بدا لي، ولكن إن خرج محمد ولم أخرج زاده ذلك جرأة فالحقْ بالمدينة فثبطهم ولك عندي عشرة من الإبل، ويروى أن الذين دسهم أبو سفيان ليبثوا الهزيمة في قلوبهم هم ركب عبد القيس، ويظهر أنه تكرر ذلك الدس من أبي سفيان، ولذلك قال الله تعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهم النَّاسُ) أي تضافرت الأخبار من هؤلاء الناس الذين اندفعوا يثبطون، ويقولون إن الناس - أي مشركي مكة - قد جمعوا لكم، وكانوا يقولون في أخبارهم المثبطة الملقية بالرعب لمن لَا يعتمد على الله تعالى وقد وجدوا المؤمنين يتجهزون للمعركة: (ما هذا برأى، آتوكم في دياركم وقراركم، فلم يفلت منكم أحد إلا شريدا، أفتريدون أن تخرجوا، وقد جمعوا لكم عند الموسم؛ فوالله لا يفلت منكم أحد) فقال - ﷺ -: " والذي نفسي بيده لأخرجن ولو لم يخرج معي أحد " (١) فخرج في سبعين راكبا، وقيل ألف راكب.
وقوله تعالى حكاية عنهم: (قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) قد حذف فيه المفعول، فلم يقل جمعوا جيشا، وذلك ليذهب الخيال كل مذهب في مقدار ما جمعوا من
________
(١) رواه ابن جرير الطبري في التفسير بلفظ: وإن رسول الله ندب الناس لينطلقوا معه، ويتبعوا ما كانوا متبعين، وقال: " إنّما يرتَحلُونَ الآنَ فَيَأتُونَ ولا يَقْدِرُونَ على مِثْلِها حَتّى عام مُقبل " فجاء الشيطان فخوّف أولياءه فقال: إن الناسَ قد جمعوا لكم. فأبى عليه الناس يتبعوه، فقال: " إني ذاهِب وإنْ لم يَتْبَعْني أحَدٌ لأحضضنَّ الناسَ ".
1509
أسلحة، ومقدار من جمعوا من الرجال وأموالهم، فيكون ذلك أشد تخويف، ولكن لم يثبط ذلك من عزيمة المسلمين وإرادتهم القتال، وقد حكى سبحانه حال المؤمنين بقوله تعالى: (فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكيلُ).
أولئك المثبطون الدساسون قالوا ما قالوا، وقالوا: اخشوهم، أي قَدِّرُوا أنهم سينزلون بكم الأذى الشديد والقتل الذريع إن خرجتم، فهو إفزاع عن المستقبل، والفرق بين الخوف والخشية أن الخوف يكون من أمر حاضر، والخشية من أمر متوقع، وهي إن كانت في الحاضر تكون خشية من قوى لما يكون منه في القابل. وكان أثر ذلك الدس المرهب أمرين:
أحدهما: زيادة الإيمان، والثاني التفويض إلى الله تعالى.
فأما زيادة الإيمان هنا فمعناها قوة اليقين ومحدم تضعضع الثقة في الله تعالى.
والأمر الثاني الذي كان أثرا لذلك الكلام المدسوس المثبط أنهم قالوا:
(حَسْبُنَا اللَّه وَنِعْمَ الْوَكيل) ومعنى حسبنا أي كافينا، أي إذا كانوا هم يستنصرون بقواتهم يحشدونها، وعددهم يستكثرون به، ويعدون ذلك كفايتهم، فنحن كفايتنا من الله تعالى، وقد وعدنا بالنصر، وهو نعم النصير المعاون، فالوكيل هنا معناه النصير الكفيل المعاون، والوكيل الذي يستعان به في الدنيا إنما يكون لفضل قوته أو خبرته أو حكمته، فكيف يكون والمستعان هو الله سبحانه وتعالى، وهو نعم المولى ونعم النصير، فالوكيل هنا هو القادر الذي توكل إليه الأمور.
ويتكلم العلماء حول قوله تعالى: (فَزَادَهُمْ إِيمَانًا) فيقولون هل الإيمان يزيد وينقص؟ لقد قال بعض العلماء إنه لَا يزيد ولا ينقص لأنه اعتقاد وإذعان، وتلك حقيقة ثابتة إما أن توجد كاملة وإما ألا توجد، ويكون معنى الزيادة على هذا الرأي ليست زيادة أصل الإيمان، إنما زيادة الثقة بنصر الله تعالى وعونه، وذلك من ثمرات الإيمان، لَا من أصله، وهو شعبة منه، وليس جوهره.
1510
وقال آخرون وهم الأكثرون: إن الإيمان يزيد وينقص، وقد قال الزمخشري في تصوير ذلك الرأي من هذه الآية: لما أخلصوا النية والعزم على الجهاد، وأظهروا حمية الإسلام كان ذلك أثبت ليقينهم وأقوى لاعتقادهم، كما يزداد الإيقان بتناصر الحجج، ولأن خروجهم على أثر التثبيط - إلى العدو طاعة عظيمة، والطاعات من جملة الإيمان لأن الإيمان اعتقاد وإقرار وعمل، وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان يأخذ بيد الرجل، فيقول: قم بنا نزدد إيمانا، وعنه: " لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان هذه الأمة لرجح ".
ولقد قالوا: إن قوة الإيمان بإشراقه في القلب، وشدة ذلك الإشراق، وروي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. عن النبي - ﷺ -: " إن الإيمان ليبدو لَمْظَة بيضاء في القلب، وكلما ازداد الإيمان ازدادت اللمظة " (١). أي كثر الصفاء وأشرق البياض، وكان العمل الصالح.
والإيمان هو اليقين الجازم القاطع واليقين وهو من حيث أثره في النفس ثلاث مراتب:
أولاها: علم اليقين، وهي أن تتوافر الأدلة والاطمئنان حتى يكون اليقين الجازم القاطع الذي لَا يكون معه شك ولا ريب، ولا إنكار أو جحود، بل تسليم وإذعان من غير مماراة.
وثانيها: عين اليقين، وهو أن تكون أعماله كلها وفق ذلك الاعتقاد الجازم، فيكون اليقين قد رؤى عيانا في الجوارح والأعمال.
والثالثة، وهي المرتبة العليا: حقيقة اليقين، وهي أن يصل إلى درجة تشبه المشاهدة أو تكون من جنسها وهي التي قال فيها النبي - ﷺ -: " اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " (٢) وهذه مرتبة المشاهدة ولقد وصل إليها الأبرار من أصحاب النبي - ﷺ - مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، ولقد قال علي كرم الله
________
(١) ذكره القرطبي في التفسير: آل عمران (١٧٣)، وأحسبه موقوفا على علي رضي الله عنه.
(٢) سبق تخريجه.
1511
وجهه (لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا) لأنه - رضي الله عنه - وصل إلى مرتبة المشاهدة. وفي الجملة فإننا نرى أن الإيمان يزيد وينقص والله سبحانه وتعالى عليم بذات الصدور.
* * *
1512
(فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ... (١٧٤)
* * *
بعد أن خرج أولئك الأبرار الأطهار، وقد استعدوا إلى اللقاء عادوا من بدر إذ لم يجدوا (١)، فمعنى انقلبوا عادوا. والانقلاب في العودة تصوير للحال الحسية عند العودة، لأنهم بعد أن كانوا مستقبلين بدرا استدبروها وبعد أن استدبروا استقبلوها، وهذا التعبير يدل على أنهم عادوا كما خرجوا لم يقتلوا ولم يقاتلوا، ولكن صحبهم في هذه العودة أمور أربعة: أولها - نعمة الله عليه إذ خذل أعداءهم وثبطهم وألقى الرعب في قلوبهم وأحسوا بأنهم وحدهم لَا قِبَلَ لهم بمحمد - ﷺ - والذين آمنوا معه، ولذلك لما عادوا إلى القتال ومحاولة ضرب المدينة ضربة قاصمة جمعوا العرب بشتى قبائلهم في غزوة الأحزب في العام الثاني، وثانيها - الفضل من الله، وقد فسر كثيرون الفضل بأنه فضل مالي؛ لأن المسلمين لما لم يجدوا قتالا اتجروا في بدر، ويروى أن عيرا كبيرة مرت ببدر في هذا الموسم من سوقها فاشتراها النبي - ﷺ - فربح مالا، وقسمه بين أصحابه وذلك الربح هو الفضل، وقد روى البيهقي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما (٢) ولا مانع من أن نعتبر ذلك الفضل معنويا، وهو فضل الجهاد والنية المحتسبة وقد باعوا أنفسهم لله تعالى، ولعل الأولى أن نقول: إن الفضل يشمل النوعين الربح المالي، والشرف المعنوي، وكلاهما قد نالوه.
وثالث الأمور - أنهم عادوا سالمين، وهذا معنى: (لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) أي لم تنزل بهم جراح، بل إنه حتى الأمر الذي يسوءهم لمْ يمسَسْهم بل قد عادوا
________
(١) أي لم يجدوا قتالا.
(٢) رواه البيهقي عن ابن عباس - في قول الله (فانقلبوا بنعمة من الله وفضل) قال: النعمة أنهم سلموا، والفضل: أن عيرا مرت في أيام الموسم فاشتراها رسول الله - ﷺ - فربح فيها مالا فقسمه بين أصحابه.
1512
فرحين مستبشرين، ورابع الأمور - أنهم اتبعوا رضوان الله، أي اتبعوا أمر الله تعالى، وساروا في الطريق الذي يكون فيه رضوانه تبارك وتعالى، ورضوان الله أعظم ما يناله المؤمن، وحسبه أن يكون في عمل فيه رضوان الله الذي هو أكبر النعم لينال حظي الدنيا والآخرة، وإن هذه النعم التي نالوها هي من فضل الله تعالى:
(وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) ختم الله سبحانه وتعالى هذه الآية الكريمة بذلك النص السامي وهي تصف المولى العلي الكريم بأنه صاحب فضل عظيم لَا تكتنه حقيقته، ولا يحده الحصر، وقد بدا فيما أسبغه الله تعالى من نعم على الناس أجمعين، وما أنقذ به عباده المؤمنين من شر الكافرين، وما وفقهم له من طلب رضوانه وما نصرهم به من نصر مؤزر، والتنكير في الفضل ووصفه لإفادة كثرته وقوة أثره.
ومن أفضل نعم الله أنه ثبت قلوب المؤمنين، فلم يفزعوا عندما دست الأخبار لإفزاعهم وترويعهم، فلم يروعوا لأن الله حاميهم وهم اعتمدوا عليه وهو وليهم؛ والترويع من الأوهام إنما يكون لأولياء الشيطان، ولذلك قال سبحانه موازنا بين أهل الإيمان وأهل الكفر والشيطان:
* * *
1513
(إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ... (١٧٥)
* * *
الخطاب في الآية للمؤمنين الأقوياء أي إن الإرهاب والإفزاع يكون من أولياء الشيطان (١)، وهو يخوف أولياءه ونصراءه بهذا التخويف وذلك الإفزاع، لأن أولئك لَا يهمهم إلا الحياة الدنيا، ودائرة سلطان الشيطان في أن يحملهم على ألا يؤمنوا بالحياة الأخرى، وما دامت الدنيا همهم اللازم، فإنه لَا يهمهم إلا الفوز الحاضر، ومن هنا يجد الشيطان موضع ثقته ووسوسته، فأولياء الشيطان إذا كانوا قد خوَّفوا المؤمنين بالكثرة والعدد والهزيمة القريبة، فذلك هو منطقهم ومنطق الشيطان، أما المؤمنون فهم أولياء الله ولا يعتمدون إلا عليه، ولهم إحدى الحسنيين إما النصر العاجل
________
(١) قال القرطبي: " قال ابن عباس وغيره: المعنى يخوفكم أولياءه؛ أي باوليائه.
1513
ومعه الجزاء، وإما الاستشهاد والثواب المقيم، ورضوان الله أكبر، وهو ثابت في الحالين، ولذلك لَا يفزعهم مثل هذا التهديد الذي حملته رسل أبي سفيان، ويكون المعنى على هذا، إن تخويف الشيطان المبني على الإفزاع والإرهاب إنما يكون أثره في أوليائه من الكافرين والمنافقين، ولا يمكن أن يكون له أثر في قلوب المؤمنين، والإشارة في قوله تعالى: (إِنَّمَا ذَلِكمُ) هي للعمل الذي قام به أولئك الذين دسوا القول المفزع المثبط في النبي - ﷺ - والذين آمنوا معه، وجعل المسند إليه من قبيل ذكر السبب وإرادة المسبب، فالمعنى: إنما ذلكم القول المدسوس هو الشيطان أي عمله وتدبيره، ولا يمكن أن يكون إلا في أوليائه، والله ولي الذين آمنوا، والشيطان على هذا هو إبليس اللعين الذي أضلهم ويخوفهم، هم ومَن هم على شاكلتهم من المنافقين.
ولقد أكد الله سبحانه ولايته لهم، ونصرته لهم فقال تبارك وتعالى: (فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) أي فلا تخافوا تهديدهم الذي هو تدبير الشيطان، فإنه إذا كنتم أولياء الله، ولا يهمكم إلا رضاه، ولستم أولياء الشيطان، ولا أثر له في قلوبكم، فلا يصح لكم أن تخافوا أولياء الشيطان، ولا تدبيره، والله معكم، ولذلك لَا تخافوا سواه ما دام الإيمان شأنكم ووصفكم، فضعوا في نفوسكم ولاية الله ونصرته وتقواه، وضعوا أيضا في نفوسكم خشية عقابه ورجاء رضاه، فإن فعلتم خفتم الله وأرضيتموه، واتبعتم طريق السداد، وكنتم في أمن من الشيطان وأوليائه.
والخوف أمر نفسي لَا قدرة للإنسان على منعه، فكيف يكون النهي عنه؛ والجواب عن ذلك أن النهي عن الخوف نهى عن أسبابه، ودعوة إلى رياضة النفس على الصبر؛ وذلك لأن سبب الخوف والجبن حب الدنيا وكراهية الموت، وعدم عمران القلب بذكر الله وعدم الإحساس بولاية الله تعالى، وضعف الثقة بالنفس وبالله، فالله سبحانه وتعالى إذ نهى المؤمنين عن الخوف من الشيطان فمعناه النهي عن أسباب الخوف والأخذ في أسباب القوة، بالتقوى وذكر الله تعالى، والاتكال
1514
عليه تعالى بعد الأخذ في الأسباب، والإيمان بأن الله تعالى ناصر دينه، وناصر من استمسك به وأخذ بعروته ولم يتركها قط.
والمقابلة بين النهي عن الخوف من أولياء الشيطان، والأمر بالخوف منه سبحانه، فيها بيان علاج النفس إذا ضعفت وخافت من الشيطان وأوليائه، فدفع الخوف من أولياء الشيطان يكون بالخوف من الله تعالى، فمن خاف الله تعالى حق الخوف منه لَا يخاف أحدا من العباد إذا عاندوا وحادوا الله ودينه، لَا يخاف أهلَ الضلال من يخافُ الله سبحانه وتعالى (١).
ولقد كان المشركون بعنادهم المستمر ومقاتلتهم النبي - ﷺ - وأصحابه بعد فتنتهم يوغلون في الكفر، والنبي - ﷺ - تذهب نفسه عليهم حسرات، فهو لَا يخاف منهم، ولكن يشفق، ويتمنى أن يجيئوه مؤمنين، بدل أن يأخذهم مقتولين، ولقد نهاه سبحانه عن الحزن عليهم فقال تعالى:
* * *
________
(١) أي فهما ضدان، والضدان لَا يجتمعان.
1515
(وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا... (١٧٦)
* * *
والمعنى لَا يحزنك ولا تكن في نفسك حسرة على الذين يسارعون في الكفر أي يوغلون فيه وينتقلون من درجة إلى درجة فينتقلون من الضلال والجحود إلى التضليل ومن التضليل إلى الفتنة ثم القتال، ثم التدبير الخبيث والمكر السيئ، ولقد فسر الزمخشري كلمة (يُسَارِعُون فِي الْكُفْرِ) بمعنى الوقوع فيه سريعا من غير تريث وتدبر وتفكير، والأول عندي أوضح، لأن الكلام ليس في الذين وقعوا فيه من جديد، وإنما هو في الذين مردوا عليه وأوغلوا فيه واستمروا عليه، والنهي عن الحزن نهي عن الاسترسال فيه، ونهي عن أسبابه، وهو الظن بغلبة الضلال على اليقين والكفر والإيمان، ولقد طمأن الله تعالى نبيه تأكيدا للنهي، ونفيا لمبرراته، فقال سبحانه:
(إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا) أي إنهم مهما يتماد شرهم وطغيانهم وفتنتهم الناس عن دينهم، فلن يضروا الله شيئا من الضرر ولو صغيرا. فلن ينقص كفرهم
1515
من سلطان الله، ولن يزيد إيمانكم من سلطان الله تعالى، فالله غالب قاهر فوق عباده، فعظمة الله لَا يُنقصها كفر، وقد زكى سبحانه النهي عن الحزن بأمر آخر وهو بيان أن الله أراد لهؤلاء ما هم عليه، وإن كان باختيارهم، ولذا قال سبحانه:
(يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ) أي أنه لَا يصح أن تحزن لمسارعتهم في الكفر وانحدارهم في مهاويه؛ لأن الله سبحانه هو الذي لم يجعل لهم حظا في الآخرة، فما عصوا الله تعالى غالبين لإرادته، بل عصوا بإرادتهم وإرادته سبحانه، وإن كان لَا يرضى لعباده الكفر، وفرق ما بين الرضا والإرادة، فالله سبحانه وتعالى لم يرد أن يجعل لهم حظا في الآخرة، ولكنه لَا يحب الكفر ولا يرضاه.
فالمعنى أن كفرهم ليس مراغمة لله - سبحانه - حتى تحزن وإنما هو بإرادته لأنه أراد ألا يكون لهم حظ من الخير في الآخرة ولهم بدل الحظ من الخير عذاب عظيم، ولذلك قال سبحانه: (وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم)، لتهديدهم بما يستقبلهم فوق الخزي العظيم في الدنيا، ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار.
* * *
(إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٧٧) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (١٧٨) مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩)
* * *
1516
النص الكريم في بيان معاملة الله تعالى للذين تركوا الحق، ويتبعون الضلال، ويُحادُّون الله ورسوله سرا وإعلانا، وقد بين سبحانه في الآية أنه لا يصح أن تكون مسارعة الكفار في الكفر وتنقلهم من حال إلى حال فيه سببا في حزنك، وإلقاء الغم في قلبك، لأنهم لَا يضرون إلا أنفسهم ولن يضروك شيئا ما دام الله سبحانه معك، ولن يتخلى عنك، وفي هذه الآيات يبين معاملة الله تعالى لهؤلاء الكافرين، واختباره سبحانه للمؤمنين، وأنه سبحانه وتعالى قد قدر كل ذلك في علمه المكنون الذي لَا يطلع عليه أحد، وقد قال سبحانه في أوصاف الكافرين:
1517
(إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
هذه الآية تبين حال الذين عاندوا الرسول، ولم يخلصوا في طلب الحق، وهؤلاء أقبلوا على الكفر راغبين فيه طالبين له، حتى إنهم ليجعلون الإيمان الذي أودعه الله تعالى النفوس في تكوينها، وجعله موضع النور في كيانها - ثمنا يقدم في نظير الكفر الذي يأخذونه، وفي هذا دلالة على أمرين:
أولهما: أن الكافرين طمس على قلوبهم فاستبدلوا بفطرة الإيمان التي فطر الله الناس عليها كفرا قامت الدلائل على بطلانه فكان هذا دليلا على تمكن الضلال، وكل ما يقع منهم بعد ذلك من شر يجب أن يكون متوقعا، فيهون أمره، ويضعف في النفس أثره.
ثانيهما: أن الإيمان في ملك كل إنسان، وهو الأصل الذي يجب أن يهتدى إليه عندما تلوح ظواهره وبيناته فإن الله تعالى قد ألهم كل نفس فجورها وتقواها، والبينات الشاهدة الواضحة المؤيدة الهادية تجعل الإيمان في قبضة يد طالب الحق، فإذا فتح قلبه للكفر، فقد باع أغلى شيء في الوجود، وهو الإيمان، بأحقر شيء في الوجود وهو الكفر، والكلام بعد ذلك فيه استعارة تمثيلية، وهي تصوير الكافر الذي يترك بينات الله وآياته، وإنها لكثيرة، ويختار الضلال مع قيام الأدلة على بطلانه، بمن يكون في يده أجود بضاعة، ويبيعها بأرخص الأثمان، بل بشيء
1517
لا يفيد قط، وفيه إشارة إلي أن الكافرين يعلمون أم ما هم عليه هو الباطل، ولكنه العناد والطغيان، وقد ذكر ذلك سبحانه وتعالى بقوله: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ...).
وقد بين سبحانه أن هؤلاء الذين اتجروا بإيمانهم وجعلوه سلعة تباع - مغبة فعلهم عليهم وحدهم دون سائر الناس، ولن يضروا المؤمنين إلا أذى والعاقبة للمتقين، ولذا قال سبحانه: (لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا) أي ليس في طولهم ولا في طاقتهم أن يضروا دين الله تعالى ولا رسول الله - ﷺ -، ولا المؤمنين بالله تعالى شيئا من الضرر الذي تكون عاقبته انتصارهم إلى النهاية، فإن الله تعالى ناصر دينه خاذل أعداء الحق، فإضافة إرادة الضرر إلى الله تعالى على حذف مضاف، أي وتقديره دين الله أو رسوله أو المؤمنين بالله، وفي حذف المضاف إشارة إلى أن ما يفعله المشركون ويوجهونه إلى المؤمنين إنما يوجهونه إلى الله تعالى رب العالمين، وذلك إعلاء للدين وللرسول وللمؤمنين.
وإذا كان أولئك لَا يضرون الله فهم لَا يضرون إلا أنفسهم، وبين سبحانه الضرر الذي يلحقهم بقوله سبحانه: (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أي عذاب مؤلم شديد الإيلام لهم في الدنيا وفي الآخرة، فآلامهم في الدنيا هزائم تتلوها هزائم، وخزي وسقوط لهم عن علياء طاغوتهم إلى الدرك الأسفل، وفعيل هنا بمعنى فاعل، (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ...)، بمعنى مبدع.
ولقد يسأل سائل: لماذا يتمتع هؤلاء بالسلطان، ولماذا ينتصرون أحيانا؛ فبين سبحانه أن ذلك إملاء لهم، فقال:
* * *
1518
(وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ... (١٧٨)
* * *
قد يرد على الخاطر: إذا كان أمر الله هو الغالب فَلِمَ يترك هؤلاء في هذا النعيم؟ فقال سبحانه ذلك النص الكريم.
1518
الإملاء: الإمهال والتخلية بين العامل والعمل ليبلغ مداه، من قولهم: أملى لفرسه إذا أرخى له الطول ليرعى كيف شاء، ويطلق الإملاء على طول العمر، وهو من أملى بمعنى أعطاه ملاوة أو مهلة من الزمان. جاء في مفردات الراغب الأصفهاني: " الإملاء: الإمداد، ومنه قيل للمدة الطويلة ملاوة من الدهر، وملى من الدهر ".
وهنا في النص الكريم قراءتان إحداهما بالياء أي: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ) ويكون النهي عن الظن متجها للذين كفروا، والمعنى على هذا لَا يجل بخواطر أولئك الكافرين أن إملاءنا لهم بإعطائهم نعيما في الدنيا، وإرخاء العنان لهم، وتمتيعهم وعدم القضاء عليهم دفعة واحدة - فيه خير لهم، ويكون مفعولا يحسب قد سد مسدهما " أنْ " المصدرية و " ما " بعدها فإن ذلك كثير في القرآن وكثير من كلام العرب، كقولك عن شخص: لَا يحسب أنه عالم.
وعلى القراءة الثانية (١)، (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ) يكون الخطاب بالنهي متجها إلى النبي - ﷺ -، ويكون المفعول الأول هو (الَّذِينَ كَفَرُوا)، و (أَنَّمَا نُمْلِي لُهُمْ خَيْرٌ لأَنفسِهِمْ) بدل من الذين كفروا، وسد مسد المفعول الثاني، ويصح أن يكون هو المفعول الثاني، ويكون المعنى على هذا: لا تظن يا محمد ولا يظن أحد من أمتك الذين كفروا قد أُمْلِي لهم لخير يأتي هم، ويكون توجيه الظن إلى الذين كفروا له فائدة؛ لأن الظن قد سبق إلى المؤمنين من أشخاصهم، وما أوتوا من مال وقوة وعزة نفر، وبقاءهم على هذا أمدا طويلا.
وقد صرحِ سبحانه من بعد ذلك بنتيجة الإملاء فقال سبحانه: (إِنَّمَا نمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مهِينٌ).
________
(١) أي: (ولا تحسبن) قرأها بالتاء خطابا: حمزة، وقرأ الباقون بالياء فيها، وكذلك في الآية (١٨٠) التي بعدها من نفس السورة. غاية الاختصار ج ٢ ص ٤٥٦.
1519
والمعنى أننا لَا نملي للذين كفروا إلا لنتيجة واحدة مقررة ثابتة، وهي أن يزدادوا إثما، وينالهم عذاب مهين مذل لهم في الدنيا والآخرة، فإنهم إن كانوا قد نالوا في هذا الإملاء نعيما وعزا، فإنهم بعد ذلك سينالهم العذاب الأليم المهين الذي لَا يكون لهم قِبَلٌ بدفعه.
و" اللام " هنا لبيان العاقبة لَا للتعليل والغاية وذلك كقوله تعالى: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا...)، وذلك بيان للنتيجة، لأن نتيجة الالتقاط كانت كذلك، وإن كان الباعث في الحقيقة هو أن يتخذوه لهم وليا وموضع سرور، وبهذا تكون الآية مبينة لغاية عملهم، وأن النتيجة شر لهم لا محالة.
وقد يقول قائل: إن من الكافرين من تكون زيادة الإملاء له سببا في زيادة خير يقوم به وإن كان كافرا، وإن من هؤلاء الكافرين من يؤمن ويحسن إيمانه، فكان حقا أن الإملاء أنتج خيرا إذ مكنهم من الإيمان.
ونقول في الإجابة عن الأول إن زيادة الإثم، لَا تمنع وجود فعل خير، وهم يزداد إثمهم باستمرارهم على الكفر ومشاقة الله ورسوله على أن ما يفعلون من خير يحبطه جحودهم وإنكارهم ومعاندتهم لله سبحانه إذ تنقصهم عند فعل الخير النية الطيبة.
وعن الثاني نقول: إن زيادة الإثم مشروطة باستمرارهم على الكفر، لأن الإملاء ينقطع بإيمانهم، وإن الإملاء إنما هو لأجل مشاقة الله ورسوله وإعلان الكفر ومحادة الحق، وبإيمانهم تنتهي هذه المشاقة فيزول سبب الإملاء، وإن زيادة الإثم إنما هي منوطة بوصف الكفر، فبانتهائه تزول الزيادة، بل يغفر الله سبحانه وتعالى ما سبق كما قال تعالى: (قُل لِّلَّذِينَ كَفَروا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ...).
1520
وقد وصف عذاب هؤلاء بأنه مهين ليتعزى المؤمنون عما يرون من عزة هؤلاء وسلطانهم ببيان أنهم سيكونون من بعد في أشد الذلة؛ لأن عذاب الله سبحانه سيريهم الهوان الحقيقي الدائم الذي لَا رفعة معه.
وقد بين سبحانه أن تلك الشدائد التي تنزل بالمؤمنين هي خير لهم ليتبين الطيب من الخبيث، ولذا قال سبحانه:
* * *
1521
(مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ... (١٧٩)
* * *
كانت هذه الشديدة التي نزلت بالمسلمين في غزوة أحد سببا في أن عُرف المؤمنون الصادقون من المنافقين وضعاف الإيمان، وقد بين سبحانه أن شأن الله تعالى في عباده أن يختبرهم، ويصهر جماعتهم بالشدائد لينفصل عنهم الخبث، كما ينفصل الخبث عن الذهب بصهره، و " يذر ": معناها يترك، وقوله: (عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْه)، من اليسر، وعدم التعرض للشدائد، ومعنى (يَمِيزَ) يفصل، وقرئ (يميِّز) (١) أي يحدد ويبين، والطيب هو الصادق الإيمان، والخبيث هو المنافق ومن يثق به من ضعاف الإيمان، ومعنى النص الكريم: ما كان من شأن الله تعالى وسنته في عباده، ومعاملته لأهل الإيمان والصدق أن يتركهم في حال من اليسر الذي لَا صعوبة معه، فإن ذلك يجعلهم مختلطين لَا مميز يميز من دخل في الإيمان وأشرب قلبه حبه، ومن دخل في الإسلام ولم يذق حلاوته، ومن أضمر الكفر وأظهر الإيمان، وما كان الله تعالى ليتركهم غير متميزين حتى يبين الخبيث من الطيب، وتنفصل الأقسام، وتتميز كل جماعة بحقيقتها. وهذا على أن قوله تعالى: (عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْه) من نصر مستمر، لَا مشقة فيه ولا ابتلاء، وعلى أن قوله تعالى: (عَلَى مَا أَنتَمْ عَلَيْهِ) بمعنى مختلطين غير متميزين يكون السياق واضحا، وقد بينه الزمخشري بقوله: (لا يترككم مختلطين حتى يميز الخبيث من الطيب بأن يكلفكم التكاليف الصعبة التي لَا يصبر عليها إلا الخلَّص الذين امتحن الله قلوبهم كبذل الأرواح في الجهاد، وإنفاق الأموال في سبيل الله، فيكون عيارا
________
(١) أي بتشديد الياء؛ وبها قرأ حمزة والكسائي ويعقوب وخلف. المرجع السابق.
1521
على عقائدكم، وشاهد بضمائركم، حتى يعلم بعضكم ما في قلب بعض من طريق الاستدلال، لَا من جهة الوقوف على ذات الصدور والاطلاع عليها فإن ذلك مما استأثر به علم الله).
وإن أولئك المنافقين الذين يتخذون من الهزيمة دليلا على عدم صدق الرسول لكاذبون، لأن الله لَا يطلع على غيبه أحداً، وماكان لكم معشر المؤمنين أن تعلموا حقيقة المنافقين وضعاف الإيمان فإن ذلك من الغيب.
(وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ) الغيب ضد المشاهد، وهو ما غيب عنا مما لَا نعلمه بطريق الحس ولا تصل عقولنا المجردة إلى معرفته، كالعلم بما يكون في المستقبل، وحقيقة الملائكة وذواتهم، وغير ذلك مما غيب الله عنا علمه، و " اجتبى " معناها اختار واصطفى، والمعنى: من شأن الله تعالى أن لَا يطلع عباده المؤمنين على الغيب من الأمور، حتى يعرفوا ما يكون لهم في الغد، بل إنه يغيب المستقبل عنهم ليجدّوا ويجتهدوا، ويعلموا، وسيرى الله عملهم ورسوله والمؤمنون، ومع ذلك يصطَفي من رسله من يطلعهم على بعض الغيب، كما كان يطلع رسوله أحيانا على بعض ما يدبر له كاطلاعه على ما دبره اليهود لاغتياله، وكاطلاعه على من حملت رسالة إلى قريش تخبرهم بسر غزوته لهم، وكمكاشفته بالوحي لجبريل الأمين، وهكذا من شئون الغيب، ويستفاد من هذا أن الله سبحانه وتعالى قد اختص بعلم الغيب، كما فقال تعالى: (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ...)، وأن الأنبياء قد يصطفي الله منهم من يعطيه علم بعض المغيبات، فما يعطيهم يعلمونه، وإنه لنزر قليل لا يعد شيئا ولقد قال سبحانه على لسان نوح عليه السلام: (وَلا أَقُول لَكمْ عِندِي خَزَائِن اللَّه وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُول إِنِّي مَلَكٌ...)، وقال تعالى عن النبي - ﷺ -: (وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيرِ...).
(فَآمِنًوا بِاللَّهِ وَرُسُلِه وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) أي إذا علمتم أن الله تعالى لَا يطلع على غيبه أَحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يتعين أن تؤمنوا بالله
1522
حق الإيمان بأن تعرفوه متصفا بصفات الكمال منزها عن المشابهة للحوادث، ليس كمثله شيء، وأن تؤمنوا برسله فتعرفوا حقيقة رسائلهم وأن تؤمنوا بالله حق الإيمان، وبالرسل وما جاءوا به وتتقوا الله وتجعلوا وقاية لأنفسكم بالطاعات تقومون بها وتؤدونها على وجهها فلكم أجر عظيم.
* * *
(وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠) لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (١٨١) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢)
* * *
بين الله سبحانه وتعالى العبر في غزوة أحد وما كان فيها، وقد أشار سبحانه في آخر بيان العبر إلى ما عليه أهل الكفر من نعيم دنيوي، وتمكين من أسباب الحياة، وأشار سبحانه وتعالى بالشدائد، مع رؤية نعيم الكافرين، ليميز الله سبحانه وتعالى الخبيث من الطيب، وأشار سبحانه إلى أن هذا الإملاء للكافرين ليس خيرا لهم، بل إن عقباه ستكون شرا لهم؛ لأنهم بهذا العطاء سيستمرئون الشر، ويوغلون فيه إيغالا، ووراء ذلك العذاب الأليم، والخزي في الدنيا والآخرة، وفي هذه الآيات يصرح سبحانه بما يكون منهم في النعمة التي اختبرهم سبحانه وتعالى بها؛ إذ إنهم لَا يجعلونها سبيلا للخير، بل يحبسونها على أنفسهم حبسا، فتكون شرا لَا خير فيه لأحد، ولذا قال سبحانه:
1523
(وَلا يَحْسَبَنَّ الَذين يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّه مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُم بَلْ هُوَ شَر لَّهُمْ).
1523
البخل هو الحرص الشديد فيما يملك الإنسان من مال أو علم أو أي ضرب من ضروب القدرة التي يستطيع أن يعين بها غيره، وعلى ذلك يشمل البخل كل شح، سواء أكان موضوعه المال، أم لم يكن موضوعه المال، وقد فسر بعض العلماء البخل في هذه الآية بكتمان العلم، ذلك أن اليهود كتموا أوصاف النبي - ﷺ - وتبشير التوراة به، وضنوا بها فلم يعلنوها ليضلوا، أو ليمنعوا الهداية.
وقد فسر الأكثرون البخل بمعناه الظاهر المتبادر، وهو البخل في المال، ويتفق هذا مع سياق الكلام، إذ إن الله سبحانه وتعالى قد حكى عن هؤلاء الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله، أن منهم من يقول إن الله فقير ونحن أغنياء، ولأن الله سبحانه وتعالى ذكر بعد بيان بخلهم أن الله سبحانه وتعالى له ميراث السماوات والأرض، والتعبير بكلمة ميراث يومئ إلى أن موضوع البخل هو المال.
والنهي عن الظن وأن البخل المالي فيه خير في قوله تعالى: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) يدل على النفي المؤكد، فالمعنى لَا يصح لهم أن يظنوا بأي حال من الأحوال أن ذلك البخل فيه خير لهم، بل فيه شر لهم، وفي الآية الكريمة إشارة إلى أن سبب البخل نسيان أصل المال، إذ أن البخيل يحسب أن ما يأتي إليه من مال إنما هو بجهوده وكسبه فقط، وليس فضلا من الله، وينسى أن الله سبحانه وتعالى هو المعطي المانع، وأنه يرزق من يشاء بغير حساب، وأن الرجلين يسعيان ويتخذان الأسباب، فتأتي جائحة لهذا تأكل الأخضر واليابس، وينجو مال ذاك، والله على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم، ولذا بين الله سبحانه أن المال الذي يجيء إليهم إنما هو بفضل من الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال: (يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّه مِن فَضْلِهِ)، فهو يبين لهم أن المال مال الله تعالى، وأن الله تعالى يعطي من يشاء، ويمنع من " يشاء.
والضمير في قوله تعالى: (هُوَ خَيْرًا لَّهُم) تأكيد لمعنى البخل المفهوم من قوله تعالى (يَبْخَلُونَ)، ونرى أن الضمير ضمير الفصل لتأكيد نفي الظن في الخيرية.
1524
وقد بين سبحانه أنه شر لهم، فقال سبحانه: (بَلْ هُوَ شَرٌّ لهُمْ) وفي إعادة الضمير، وذكر الجملة الاسمية تأكيد لمعنى الشر في البخل، والبخل شر في الدنيا وفى الآخرة؛ وذلك لأنه يدفع إلى الحقد في الدنيا، والحقد في الآحاد يؤدي إلى النزاع المستمر، وتقطع العلاقات الأدبية، وهو في الجماعات يؤدي إلى الخراب والدمار. ولقد روى مسلم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله - ﷺ - قال: " اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم " (١).
(سَيطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) التطويق إما من الطاقة، والمعنى سيكلفون أقصى ما يطيقون ليخسروا المال الذي بخلوا به يوم القيامة، ولكنهم لا يملكون في هذا اليوم من أمرهم شيئا، فلا يستجيبون لنداء، ولا لكلام، لأنهم لا يستطيعون، وذلك على حد قوله تعالى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ).
وقد يكون وهو الأرجح من الطوق، والمعنى أنه سيكون ما بخلوا به طوقا في أعناقهم، وغِلا فيها يشعرهم بما كان منهم في الدنيا، وهو طوق مؤلم، مَثَلهُ النبيُّ - ﷺ - بثعبان، فقد روى البخاري عن أبي هريرة أن النبي - ﷺ - قال: " من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مُثِّلَ له شجاعا (٢) أقرع له زبيبتان يطوَّقه يوم القيامة فيأخذ بلهزمتيه (٣) يقول: أنا مالك أنا كنزك ثم تلا قوله تعالى: (سَيطَوَّقُونَ مَا بَخلُوا به يَوْمَ الْقِيَامَةِ) " (٤).
________
(١) رواه مسلم: البر والصلة والآداب - تحريم الظلم (٤٦٧٥) عن جابر رضي الله عنه.
(٢) قال الإمام رحمه الله: الشجاع: هو الثعبان الذكر الذي يقوم على ذنبه ويوائب الراجل والفارس.
والأقرع هو الذي يكون أملس الجلد كثير السم، والزبيتان علامتان سوداوان فوق عينيه، وهما تكونان الأخبث الحيات.
(٣) اللهزمتان بكسر اللام والزاى: شدقاه.
(٤) رواه البخاري: الزكاة - إثم مانع الزكاة (١٣١٥). كما رواه النسائي: الزكاة - مانع زكاة ماله (٢٤٣٦)، وأحمد - باقي مسند المكثرين (٧٣٠٧) كلهم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
1525
والنص القرآني والحديث النبوي استعارة تمثيلية لإحاطة البخل بصاحبه يوم القيامة، وإنها إحاطة إيلام، وفيها بيان أن السعادة الوقتية للاكتناز والبخل في الدنيا ستكون يوم القيامة بؤسا شديدا، وشقوة وإيلاما.
بهذا النص الكريم تبين قبح البخل، ويتبين مقام الإنفاق في سبيل الله ولكن ما حد البخل؛ وما حد السرف؟ وبهذين الحدين يتبين الإنفاق الحلال والقصد.
لقد قرر العلماء أن الإنفاق في سبيل الله تعالى لَا إسراف فيه قط، ولو كان بكل المال وأنه يروى أن عمر بن الخطاب تبرع في إحدى الغزوات بنصف ماله، وأن أبا بكر الصديق تبرع بكل ماله، فسأله النبي - ﷺ - قائلا: " ما أبقيت لأهلك؟ " فقال صديق هذه الأمة: " الله ورسوله " (١) وقد كان ذو النورين عثمان بن عفان يجهز الجيش كله أحيانا، كما فعل في ساعة العسرة، ولم يعد ذلك إسرافا.
وقد اتفقوا أيضا على أن الامتناع عن الإنفاق في سبيل الله تعالى في عسرة الدولة، ومداهمة الأعداء لها، بخل بل هو أقبح البخل وأشده، ولذلك أجاز الفقهاء فرض ضرائب إذا داهمت الأمة الإسلامية الأعداء وامتنع الأغنياء عن الإنفاق، وهذا النوع من البخل هو المقصود بهذا النص الكريم.
وقد اتفقوا أيضا على أن كل درهم ينفق في معصية هو إسراف، والخلاصة أن الحد ما بين الإسراف والبخل هو الإنفاق في غير ما أمر الله تعالى، ولذلك يقول ابن عباس: إنفاق ألف في سبيل الله لَا يكون إسرافا، وإنفاق درهم في معصية يكون إسرافا.
(وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) هذا النص الكريم يفيد أربعة معان تؤكد وجوب الإنفاق في سبيل الخير، والجهاد في سبيل الله تعالى:
________
(١) رواه الترمذي وقالَ هَذَا حَديث حسن صَحيح: كتاب المناقب - في مناقب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كليهما (٣٦٠٨). كما روَاه أبو داود في الزكاة - في الرخصة في ذلك (١٤٢٩)، والدارمي: الرجل يتصدق بجميع ما عنده (١٦٠١)، وذكره الحافظ ابن حجر في الفتح (باب لَا صَدَقةَ إِلا عَن ظَهر غِنى).
1526
المعنى الأول - أن المال كله لله تعالى، فهو الذي أعطى كما عبر سبحانه وتعالى: (بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ)، وأن مآل المال إليه سبحانه وتعالى في ضمن ما يئول إليه كل شيء في هذا الوجود، بلا استثناء مطلقا، ومن يبخل لورثة يرثونه، فليعلم أن الميراث كله لله تعالى، وأنه سيعطيهم إن أراد سبحانه، وإن لم يرد لهم عطاء فسينفقونه إسرافا وبدارا.
والمعنى الثاني - هو بيان سلطان الله تعالى على كل ما في الوجود، فهو ملكه، وهو الذي يئول إليه، وفي ذلك بيان كمال سلطانه، وتأكيد لمعنى أنه المعطي الوهاب، والقوي الرزاق المتين، ولذلك لم يعبر عن الميراث بأنه ميراث الأموال التي نعرفها، بل ميراث كل ما حوته السماء وما حوته الأرض.
والمعنى الثالث - أن العطاء الذي يعطيه الله تعالى بعض عباده، ويختصهم به يوجب عليهم تكليفات مالية فيه، فإذا كان سبحانه وتعالى قد ابتلى الفقراء بالفقر، فقد ابتلى الأغنياء بالمال، وأوجب عليهم أن يعطوا، وهم محاسبون على مالهم، (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُم الْمُفْلِحُونَ)، وقد فهم هذا من ذكر علم الله تعالى الدقيق العظيم، ولذلك قال سبحانه وتعالى: (وَاللَّه بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).
والمعنى الرابع - أن الجزاء سيكون شاملا كاملا؛ لأن علم الله دقيق لَا يترك
صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨). ولذلك عبر سبحانه عن علمه بأعمالنا بأنه خبير، والخبرة هي العلم الدقيق الشامل.
ولقد كان الشح في موضع الإنفاق يسرى إلى المسلمين من اليهود الذين كانوا يجاورونهم، ولذلك ذكر بعض شنائع اليهود ليَنْفُر المسلمون منهم، ولا يقلدوهم في خساستهم، فقال سبحانه وتعالى:
* * *
1527
(لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ... (١٨١)
* * *
1527
لقد كان اليهود يحرضون المؤمنين على الشح وعدم الإنفاق في سبيل الله تعالى بطرق شتى، وكانوا يحاولون أن ينالوا من إيمان أهل الإيمان، فلما نزل قوله تعالى: (مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرضًا حَسَنًا...) أخذوا يتهكمون على القرآن، وعلى دعوة الرسول - ﷺ -، ويصفون الله سبحانه بما لا يليق، وذلك لِيُوهِنُوا قلوب المؤمنين، ويشككوهم في دينهم، أو ليبعثوا فيهم روح الشح. ويروى في ذلك عن ابن عباس أنه لما نزلت هذه الآية: (مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) جاءت اليهود إلى النبي - ﷺ -، فقالوا: يا محمد ربك فقير يسأل عباده القرض (١)، ويظهر أن ذلك قد تكرر منهم، وتجرءوا به على ذات الله سبحانه، أو اتجهوا إلى تكذيب ما في القرآن بالتهجم على ما اشتمل عليه في هذا المقام، ولقد بين سبحانه أنه عليم بقولهم علم من يسمع القول، ولذلك قال سبحانه: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا...) وفي هذا التعبير بيان أن الله تعالى مُطَّلِعٌ عليهم، ومراقب لهم مراقبة من يستمع إليهم، وفي ذلك من التهديد ما فيه، إذ إنه إشعار بأن ذا الجلال القوي القهار القادر على كل شيء والذي يملك الوجود ومن فيه وما فيه، مستمع لما يقال في شأنه، وما يتجرءون به عليه، كما يقول القائل لن يجده يتجرأ على عظيم: إنه يسمع قولك ويعلم به، فارتقب عواقب ما تفعل، واستشعر الهيبة والمخافة والخشية: (ولِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، وقد عقب سبحانه ذلك بنتائج تلك المراقبة، وصرح بالتهديد الشديد في قوله تعالى: (سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمً الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ).
في هذا الكلام تهديد شديد لهم، وذلك لأن المعنى: سنثبت عليهم في سجل الله تعالى قولهم هذا وتجرؤهم عليه سبحانه، وليس المراد مجرد الكتابة، بل المراد نتيجتها وهو الحساب عليها، والجزاء من العذاب الأليم، والتعبير بالكتابة كناية عن العلم المستتر الثابت الذي تترتب عليه نتائجه وثمراته، ولما تضمنته الكتابة
________
(١) رواه ابن أبي حاتم، وابن المنذر عن ابن عباس بسند حسن، وذكره الواحدي في أسباب النزول.
1528
من معنى العقاب الرادع الذي لَا مناص منه عبر بالمضارع فقال سبحانه: (سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا) والتعبير بـ (مَا قَالُوا) فيه إشارة إلى ما فيه من تجرؤ على الله تعالى، وتهجم على مقامه الأعلى سبحانه.
وقد قرن سبحانه ذلك القول الجرىء بعمل جرىء من أسلافهم، وقد ارتضوه، فكان من الحق أن ينسب إليهم، وهو ما عبر عنه سبحانه وتعالى بقوله: (وقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) وذلك لإثبات جرأتهم في الشر، واستهانتهم بالحقائق الدينية، وشرههم إلى الفساد، وقد أثبت الله سبحانه وتعالى بذلك فساد فعلهم بهذا القتل الشنيع، وفساد قولهم بذلك القول الفاسد الجرىء على الله سبحانه وتعالى.
وهنا تثار ثلاثة أمور نتكلم فيها بإيجاز:
أولها: في قرن هاتين الجريمتين، وقد أشرنا إلى أنهما من نوع واحد، وهو التجرؤ على الله سبحانه وتعالى، فالقديمة تجرؤ على رسالة الله، والثانية تجرؤ على ذات الله، وبذلك يكونون قد عتوا عتوا كبيرا، وضلوا ضلالا بعيدا. ثانيها: أن نسبة القتل إلى الحاضرين صحيحة لأنهم رضوا به، وإن لم يكونوا قد باشروه، ومن رضي بجريمة فقد فعلها، وقد قال النبي - ﷺ -: " إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فأنكرها من غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها " (١).
وثالثها: أنه وصف قتلهم للنبيين بأنه بغير حق - مع أن هذا النوع من الإجرام لَا يمكن أن يكون بحق أبدا، وذلك للإشارة إلى شناعة أفعالهم، وعظم شرهم، وأنهم لَا يبالون أكان فعلهم في موضعه أم في غير موضعه.
وقد قلنا إن هذه الكتابة هي للعقاب، وقد قال سبحانه بعد ذلك مصرحا بالعقاب: (ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ).
________
(١) رواه أبو داود: الملاحم - الأمر والنهي (٣٧٨٢) عن العُرس بن عميرة الكندي.
1529
الذوق هو الإحساس، وهو هنا الإحساس بالألم، والتأصل في الذوق أن يكون في أمر مرغوب في ذوقه وطلبه، وهو هنا للألم، فالتعبير فيه تهكم عليهم، كما قال تعالى: (فَبَشِّرْهم بِعَذَابٍ أَلِيم)، والحريق النار الملتهبة، وهذا الكلام فيه إيجاز حذف، إذ أن السياق تضمن حذف كلمات دل فيها ما ظهر على ما طوى، إذا المعنى سنكتب ما قالوا وما فعلوا ونلقيهم في جهنم وبئس المصير، ونخاطبهم وهم يَصْلون نارها بقولنا: ذوقوا عذاب تلك النار الملتهبة وآلامها، وذلك مثواهم، وقد صرح سبحانه بالسبب في ذلك العذاب الأليم، وإن كان ما مضى دالا عليه فقال:
* * *
1530
(ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢)
* * *
أي ذلك العذاب الشديد الأليم بسبب ما قدمت أيديكم وما تكلمتم به، والتعبير بـ (بِمَا قَدَّمَتْ)، وتخصيص الأيدي بالذكر؛ للدلالة على التمكن من الفعل وإرادته، ولأن أكثر الشر يكون ببطش اليد، ولأن نسبة الفعل إلى اليد تفيد الالتصاق به، والاتصال بذاته.
وإذا كان ذلك العذاب لأجل هذا العمل، فهو لَا ظلم فيه، وفوق ذلك فإنه لو أهمل حسابهم لكان الله ظلاما لعباده بتسوية المحسن بالمسيء، فكان العذاب لينفي عن ذات الله تعالى الظلم، وأبلغه وأقصاه بأن يتساوى الحسن والمسيء، وقد نفى الله سبحانه وتعالى عن ذاته الكريمة تلك التسمية، كما قال تعالى: (أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ). ربنا إننا ظلمنا أنفسنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين.
* * *
1530
(الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٨٣) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (١٨٤) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (١٨٥)
* * *
الكلام مستمر في وصف اليهود وأخلاقهم واستيلاء المادة عليهم، وغلظ قلوبهم وقسوتها، حتى لقد بلغ بهم الجحود أن يقولوا عن الله تعالى وقد سمعوا من الرسول - ﷺ - أن من يتصدق يقرض الله قرضا حسنا - إن الله فقير ونحن أغنياء، وفي هذه الآيات يبين أن من نتائج جحودهم أن يطلبوا معجزة غير المعجزة التي جاء بها النبي - ﷺ -، فيطلبون دليلا غير الدليل الذي قام حجة عليهم، ولقد سألوا موسى من قبل أكبر من ذلك، فقالوا: أرنا الله جهرة، ومع أنه قد جاء على يد موسى عليه السلام من المعجزات الحسية العدد الكثير كانوا يطلبون غيرها، لأنهم معاندون والمعاند لَا يزيده الدليل البين إلا عنادا وكفرا وجحودا. لقد سألوا النبي معجزة، وكذبوا فيها فقال الله فيهم:
1531
(الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ).
تذكر كتب التفسير أن من معجزات بعض الرسل الذين جاءوا من قبل أن يُقَدمَ القربان، وهو الصدقة من التعم، فتكون أمارة قبوله أن تنزل نار من السماء
1531
بيضاء تأكله، وقد ادعى اليهود أن ذلك عُهد من الله عهد إليهم، وهو ادعاء باطل، فهذا الأمر إذا كان معجزة لرسول لَا يستلزم أن يكون معجزة لكل رسول، وآيات الله تعالى لإثبات رسالات الرسل متعددة النواحي، مختلفة المناهج، لكل أمة منهاج من الإعجاز يناسبها، وكون هذا كان حجة من الحجج الدالة على الرسالة وصدق الرسول في زمن - لَا يقتضي أن يكون حجة في كل الأزمان.
ولا شك أن ذلك النوع من الإعجاز قد وقع، وذلك لأن الله تعالى يقول: (قلْ قَدْ جَاءَكمْ رُسُلٌ من قَبْلِي بِالْبَياتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ)، والذي قالوه هو أن يأتي هم بقربان تأكله النار.
ولتتميم الكلام في النص لابد أن نتعرض لتفسيرات لفظية لبعض الكلمات، ومن هذه الكلمات كلمة (نؤمن لرسول)، وكلمة (قربان)، وكلمة (يأتينا)، وكلمة (تأكله).
ومعنى (نُؤْمِنَ لِرَسول): أي نذعن لما يدعو إليه ونخضع؛ إذ المطلوب منهم هو الإذعان للحق والخضوع له والتسليم به، لَا التصديق الجرد الذي يصوره مجرد إيمان، فالفرق بين الإيمان بالرسول والإيمان له أن الأول يتضمن معنى التصديق، وإن لم يكن معه إذعان والتسليم والخضوع لما يدعو إليه.
ومعنى (يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ) أن الرسول هو الذي يأتي بالقربان من النعم وهو ما يتقرب به إلى الله تعالى من النعم، ويقدمه هو، تنزل النار البيضاء من السماء فتأكله، فليسوا هم الذين يقدمون القربان الذي تأكله النار، بل الذي يفعل ذلك هو الرسول إعجازا، ولبيان أنه رسول، ولا يقال حينئذٍ إنه إذا كان كل قربان تأكله النار لَا تكون ثمة فائدة يستفيدها الفقراء من القرابين، بل هذه حال خاصة يأتي ها النبي من الأنبياء، ويقوم بها فتكون تلك الأمارة التي على التأييد من السماء، كانقلاب العصا حية، وانبجاس الماء من الحجر، وانفلاق البحر اثنا عشر فرقا كل فرق كالطود العظيم.
1532
ولقد بين سبحانه وتعالى أن هؤلاء الذين سألوا النبي - ﷺ - قوم يتعنتون والمتعنت لَا يُلْتَفَتُ إلى مطالبه، وقد ذكر سبحانه الرد مع الدليل على تعنتهم، فقال: (قلْ قَدْ جَاءَكمْ رُسُلٌ من قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ).
الخطاب للنبي - ﷺ - و " البينات " المراد منها الحجة المبينة المثبتة لرسالة الرسل، و " بالذي قلتم "، والمعنى بموضوع القول الذي قلتموه، وهو الإتيان بقربان تنزل عليه نار بيضاء من السماء فتأكله، وقد يطلق القول ويراد منه موضوع القول، كأن يقول قائل: قلت لك إن الأمر سيكون على وجه كذا، وقد كان ما قلت، أي قد كان معنى القول الذي قلت وتحقق موضوعه.
والمعنى: إن عليك يا محمد أن تقول في محاجتهم ولبيان تعنتهم قد جاءكم رسل بالبينات من قبل، وتحقق من الأنبياء ما تطلبون، وهو أنهم أتوا بقربان تأكله النار، فلم تؤمنوا ولم تصدقوا، وقد دل على هذا المعنى بقوله تعالى: (فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) إذ إن القتل لَا يكون إلا أثرا من آثار التكذيب العنيد، والجحود الشديد، فيكون نسق القول الكريم هكذا: لقد كذبتم وأبلغتم في الكذب بادعائكم أن إيمانكم مرتبط بالقربان تأكله النار، فقد جاءكم هذا ولم تؤمنوا، بل كذبتم وأعنتم حتى بلغ بكم الأمر والاستهانة بالداعي أن قتلتموه، ولو كنتم صادقين في ادعائكم ارتباط الإيمان بالإتيان بقربان تأكله النار فَلِمَ كان القتل؟.
فالصدق المنفي هو صدق الارتباط بين الإيمان وتلك الحجة التي يطلبونها، والاستفهام إنكاري ينفي أن يكون ثمة مبرر للقتل على أي وجه كان المبرر، وينفي أيضا صدقهم.
وسياق الخطاب الموجه للنبي - ﷺ - هو لبيان تعنتهم، وأنهم لَا يطلبون حجة لنقص الدليل، بل يتعنتون، وأنهم فعلوا مع من أتوا لهم بهذا الدليل أشد مما فعلوا معك وهنا أمر يجب التنبيه إليه، وهو أن القتل والتكذيب مع هذه الحجة كان من أسلافهم، والخطاب للذين حضروا عصر النبي - ﷺ -، ومن يجيء بعده ممن على
1533
شاكلتهم، ولقد وجهت إليهم جريمة الماضين منهم؛ لأن وصف التعنت الذي أدى إلى ما كان من الأسلاف قائم في الأخلاف، ولأنهم راضون عن أعمالهم، فكان حقا أن يخاطبوا بجريمتهم؛ ولأنهم تكلموا عن الماضين منهم بأنهم منهم فقالوا: إن الله عهد إلينا، مع أن الأمر كان في هؤلاء الماضين لَا فيهم، لذلك كان عليهم أن يتحملوا وصف الإجرام الذي وقع من الماضين حتى يتخلصوا من تلك الأمة الخاسرة، ويدخلوا في أمة الإيمان وأهل الإذعان.
ولقد بين الله لنبيه أن هؤلاء جنس قائم بذاته تعود التكذيب، فلا تبتئس بما كانوا يفعلون، ولذا قال سبحانه:
* * *
1534
(فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (١٨٤)
* * *
البينات هي الآيات المبينة للحق، الموضحة له، وهي الأدلة التي يتحدى بها النبي من الأنبياء قومه ليثبت لهم رسالته، والزبر جمع زبور، وهو الصحيفة أو الكتاب أو هو جَمْعُ جَمْع لزَبْر، وهو الأمر الشديد، وخص الزبور بالكتاب المنزل على داود عليه السلام وقال تعالى: (وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا)، وقُرئ (زُبُورًا) بضم الزاى (١) كقولهم في جمع ظريف ظروف، أو يكون جمع زَبْر وزبْر مصدر سمي به كالكتاب، ثم جمع على زُبُر كما جمع كتاب على كتب، وقيل بل الزبور كل كتاب صعب الوقوف عليه من الكتب الإلهية، وقال بعضهم: الزبور اسم للكتاب المقصور على الحكم العقلية دون الأحكام الشرعية، والكتاب اسم لا يتضمن الأحكام الشرعية.
وخلاصة القول أن الله تعالى يخفف عن نبيه - ﷺ - تكذيب أولئك الضالين الجاحدين فيبين أن الأنبياء قبله قد جاءوا بالمعجزات القاطعة المثبتة للرسالة، ومعهم الأوامر الإلهية المشددة الزاجرة، ومعهم الكتاب المبين التي اشتمل على ما فيه مصلحة الدنيا والآخرة، ومع ذلك كفروا بآيات ربهم، وأنكروا الرسالة مع قيام
________
(١) وهي قراءة حمزة وخلف، وقرأ الباقون بفتح الزاي. غاية الاختصار ج ٢ ص ٤٦٨.
1534
الأدلة التي لَا مجال لإنكارها، ومع أن ما يدعو إليه معقول في ذاته، وفيه مصلحتهم في الدنيا والآخرة، وإذا كانت الطاعة في الدنيا غير ثابتة، فإن الله سبحانه وتعالى جعل الآخرة دار الطاعة والقرار، ودار الجزاء والثواب والعقاب، وما الحياة الدنيا إلا سبيل لما يكون يوم القيامة، ولذا قال سبحانه:
* * *
1535
(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ... (١٨٥)
* * *
ذكر سبحانه وتعالى هذه الكلية الثابتة لبيان الجمع الحاشد يوم القيامة الذي يتقدم فيه كل امرئٍ بما قدم من عمل، إن خيرا فجزاؤه خير، وإن شرا فجزاؤه شر، وهنا إشارات بيانية رائعة ككل إشارات القرآن؛ وذلك لأنه عبر عن إقبال الموت بذوقه، للإشارة إلى أنه عند ذوق الموت سيكون المذاق إما مرا حنظلا يومئ إلى ما يتبعه من عقاب، وإما أن يكون المذاق حلوا هنيئا، فيكون إيماء إلى ما يكون يوم القيامة من نعيم مقيم، والتعبير عن حلول الأجل في الدنيا بذوق الموت فيه استعارة بتشبيه الموت عند إقباله الرهيب أو الرغيب بالأمر الذي يذاق فيؤلم، أو يذاق فيسعد.
وهنا إشارة بيانية أخرى رائعة هي أنه أسند ذوق الموت إلى النفس، ولم يسنده إلى الشخص؛ لأن النفس روح، والشخص جزءان جسم ونفس، وإن النفس تبقى بعد مفارقة الجسم، فهي التي تذوق الموت، كما ذاقت الحياة الدنيا، فإسناد الذوق إليها لأنها باقية، وقد تغيرت حياتها من حال إلى حال، فبعد أن كانت في غلاف من جسم من الطين، قد تجردت أبدا منه حتى تلتقي به يوم البعث والنشور.
وبعد أن تذوق النفس طعم تلك النقلة من متاع الدنيا الزائل إلى الآخرِة، يكون الجزاء من نعيم أو جحيم، ولذا قال سبحانه: (وَإِنَّمَا تُوَفَوْنَ أُجورَكمْ يوْمَ الْقِيَامَةِ).
والأجر هو العطاء خيرا أو شرا، والقيامة هي قيام الساعة لرب العالمين، وتقويم أعمالهم من خير وشر بالميزان الدقيق، والحساب الذي لَا يترك صغيرة ولا
1535
كبيرة إلا أحصاها. فيوم القيامة هو الذي يقوم الناس فيه لرب العالمين، وتقوم أعمالهم من بين أيديهم وتنطق بها جوارحهم، وتُقَوَّم تلك الأعمال بقيمتها الحقيقية، ويذهب الزيف ولا يكون إلا الحق الخالص، ومعنى توفية الأجور إعطاؤها كاملة لَا نقص فيها، وإذا قلنا إن الأجر هو العطاء فإن مجازاة المسيء بقدر إساءته هو العطاء العدل.
والخطاب هنا للأشخاص لَا للنفوس وحدها، فذوق الموت للنفوس، ولكن الجزاء للأشخاص إذ تلتقي الجسوم بالنفوس، ولذلك خاطب الأشخاص فقال سبحانه: (وَإِنَّمَا تُوَفَوْنَ أجُورَكُمْ).
وإن السياق الذي ذكرنا عليه أكثر المفسرين وهو أن توفية الأجر تشمل الثواب والعقاب، ولكن أرى أن روح الآية وما اقترن بها من بعد يدل على أن الجزاء هنا هو العطاء الصرف بنعيم يوم القيامة لمن يستحقونه، فالخطاب للمؤمنين تعزية للنبي - ﷺ - والمؤمنين عند تكذيب الكذبينِ، ولذا قال سبحانه إن أول عطاء هو البعد عمت النار، فقال سبحانه: (فَمَن زُحْزِح عَنِ النَّارِ وَأدخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ).
الزحزحة عن النار الإبعاد عنها، والتنحية عنها، وهو تكرار الزح بمعنى الإبعاد، والمعنى أن من أبعد عن النار بعد تكرار التنحية عنها فقد فاز فوزا مطلقا، والنص يشير إلى أن أعمال الإنسان ترديه ولا تنجيه، وأنه لكي يبعد عن النار ويتجنبها يكون كالمحتاج لمجهود، وتكرر الزح والتنحية كشيء ثابت ملازم لها، لا يبعد عنها إلا بمجهود، وذلك تصوير دقيق لعفو الله ورحمته وغفرانه، وأن المرء لا يبعد عن النار إلا بعد تكرار الرحمة والمغفرة، وأن البعد عن النار ثم دخول الجنة هو أي الفوز، وهذا كله على أساس أن الزحزحة والتنحية في الآخرة التي هي دار الجزاء، ويصح أن يكون المعنى في الدنيا، بالأخذ في أسباب التوقي من النار، ودخول الجنة، ويكون السياق هكذا: من غالب شهواته وجاهد أهواءه وإنها لصعبة المراس تحتاج إلى صبر وضبط، فإنما يزحزح نفسه عن النار بتوقي أسبابها، ويدخل نفسه الجنة، واتخاذ الوسائل الموصلة إليها، فالزحزحة هي جهاد الأهواء التي هي أسباب النار، وليس ذلك التفسير ببعيد، وإن كان الأول أوضح وأبين.
1536
ولقد بين سبحانه أن سبب العذاب هو الغرور في الدنيا، ولذا قال سبحانه وتعالى: (وَمَا الْحَيَاة الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ).
في هذا النص الكريم قصر الحياة الدنيا على حال واحدة، وهي أنها متاع يستمتع به الإنسان ويغريه حتى ينسيه متاع الآخرة، إن استولى عليه واستغرق حسه ونفسه، والمعنى ليست هذه الحياة القويبة منا التي نشاهدها ونراها، وهي في ذاتها الحد الأدنى للحياة، إلا متاعا يستمتع به المغتر بها الذي يظن أنها كل شيء، وأما من يؤمن بأنها قنطرة الآخرة، فإنها تكون جهاد النفس، والسيطرة على الأهواء، ولقد قال الزمخشري في تفسير متاع الدنيا: " شبه الدنيا بالمتاع الذي يُدلس به على المُسْتام (١)، ويغره حتى يشتريه، ثم يبين له فساده ورداءته، والمدلس هو الشيطان الغرور، وعن سعيد بن جبير: إنما هذا لمن آثرها على طلب الآخرة ".
اللهم لَا تغرنا بهذه الدنيا، ووفقنا لأن نطلب ما عندك، وامنحنا ياذا الجلال والإكرام رضوانك، فهو أعلى ما يبتغيه المؤمن؛ إذ رضوانك أكبر من كل ما في الوجود يا رب الوجود.
* * *
(لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (١٨٧) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٨٨)
* * *
________
(١) من السوم في المبايعة، تقول منه (ساومه سِواما)، و (استام) عليَّ و (تساومنا). الصحاح.
1537
لقد بين الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أن محنة أُحد كانت فيها العِبَر، وكانت تمحيصا لقلوب المؤمنين وصقلا لنفوسهم، وبين الله سبحانه وتعالى في تلك الآيات أيضا أنه سبحانه لَا يذر المؤمنين على ماهم عليه حتى يتبين الخبيث من الطيب، وقوى الإيمان من ضعيفه، وذكر سبحانه ما كان يلقيه المشركون واليهود من أقوال جارحة، وبعضها يمس ذات الله تعالى، كقولهم - لعنهم الله - إنَّ الله فَقِير ونحنُ أغنياءُ.
ولقد ذكر سبحانه من بعد ذلك أن المستقبل سيكون من جنس الماضي، وأنه سينزل بالمؤمنين ضروب من البلاء كالتي نزلت أو أقوى، وأن واجب التبليغ والإيمان يتقاضاهم أن يتحملوا ذلك بصبر وتقوى واحتياط، ولذلك قال سبحانه وتعالى:
1538
(لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا).
ففي هذا النص السامي إخبار لهم بأن البلاء الذي ذاقوا بعضه مستمر، وهو خير لهم، وذلك ليستعدوا لتلقيه من غير فزع ولا جزع، فإن الشدة المتوقعة يسهل احتمالها، أما الشدة التي تقع من غير توقع، فإنه يصعب احتمالها، وقد ذكر سبحانه وتعالى مواضع الابتلاء، وكلها عزيز يحرص عليه، وهذه المواضع هي المال والنفس، والدين.
والمال والنفس قال فيهما سبحانه وتعالى: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ)، وقد أكد سبحانه وقوع الابتلاء بالقسم، واللام الموطئة للقسم، ونون التوكيد الثقيلة، وقد أكد بهذه التأكيدات ليكون الوقوع مستيقنا، وليستعدوا بالصبر والمجاهدة، والاعتماد على الله تعالى؛ والابتلاء في المال بإنفاقه في سبيل الله تعالى، وتبديده بغارات الأعداء، وبالتكليفات الكثيرة المتعلقة به، وقد ابتدأ به لأنه أدنى الدرجات، فالترتيب في الابتلاء متدرج يبتدئ من الأدنى، وهو المال، والاختبار فيه شديد قاس، والاحتمال يحتاج إلى صبر وعزم، وقد يكون الاختبار في المال بالجوائح تنزل به، فكل هذا اختبار بالمال، وإنه ليسمى نفيسا؛ لأنه قرين
1538
النفس، وإن كان دونها، وهي أغلى منه، والمعنى: ليست أحوال المؤمن رخاء دائما، بل فيها شدة وبلاء يقتضي الصبر، وفيها نعمة وإحسان يقتضي الشكر.
والابتلاء في الأنفس يكون بالخوف من مساورة (١) الأعداء، وتربصهم دائما، وبالجوع، وبهلاك النفوس في الحروب، وبالشدائد فيها، والابتلاء في المال والأنفس قد ذكره سبحانه وتعالى بهذه الآية، وفي كثير من الآيات.
والدرجة العليا من الابتلاء هي ما يخص الدين، وقد خصها سبحانه وتعالى بالذكر المؤكد، فقال: (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا) والأذى الذي كانوا يسمعونه هو الافتراء على الله تعالى، والتهكم على القرآن، والسخرية من الشرع الإسلامي، من مثل قولهم: (إِن اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ...)، ومثل قول المشركين: (أَئطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ...)، وهكذا مما يمس الحقائق الدينية، وقد جعله الله سبحانه وتعالى في المرتبة العليا من الابتلاء، لأن المؤمن يسهل عليه التأذي في ماله ونفسه، ولا يسهل عليه الأذى في دينه، وإنه يحتمل كل شيء في سبيل الدين، فإذا اتخذت الحقائق الدينية ذاتها هزوا ولعبا فإن ذلك فوق الاحتمال، ولذلك لم يحتمل أبو بكر الصديق كلام (فنحاص) عندما تهجم على ذات الله فضربه وشج رأسه (٢)، مع ما اشتهر به الصديق من رقة وعطف، حتى شبهه النبي - ﷺ - باللبن السائل للينه وسهولته.
وفى النص الكريم إشارات بيانية نبينها، فإن في بيانها ذكرًا لمرامى النص الكريم:
أولها: أنه عبر عن المخالفين الذين كفروا بالنبي - ﷺ - بما يشير بأنهم قسمان: قسم أوتي علم الكتاب الذي نزل على بعض الأنبياء من قبل النبي - ﷺ -، والقسم
________
(١) المساورة من معانيها المواثبة والمقاتلة، وسورة الغضب: وثوبُه. الصحاح - لسان العرب (سور). فالمعنى هنا مهاجمة الأعداء.
(٢) سبق قريبا تخريج هذه الرواية.
1539
الثاني المشركون الذين لَا يؤمنون بكتاب، ولا يهتدون بهدي، وقد جمع القرآن القسمين في أمر واحد، وهو معاداة النبي - ﷺ -.
وقد دفعتهم المعاداة إلى الجحود، وما كانت المعاداة لشخصه، بل كانت لما جاء به، وما يدعو إليه، وفي الجمع بين العالم بالكتاب والجاهل به إشارة إلى أنه عند وجود المعاندة يستوي العالم والجاهل، فإن الجاهل يَعْمهُ في عمياء جهالته، والعالم يطمس الله تعالى على قلبه، فيكون هو والجاهل سواء.
والثاني: الإشارة إلى أنه إذا كان سبب معاندة المشركين جهلا فسبب معاندة الكتابيين هو الحسد، إذ يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، ذلك أنهم بمقتضى كونهم أوتوا الكتاب من قبل ظنوا ذلك اختصاصا اختصوا به، وأنهم أولى أن تكون الرسالة فيهم دون غيرهم، (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ...)، وبذلك سكن قلبهم الحقد والحسد، وحيث كان الحسد كانت العداوة وكان العمى عن إدراك الحقائق.
الثالث: التعبير عن نزول الأذى بسماعه، وقال سبحانه:
(وَلَتَسْمَعنَّ مِنَ الَّذِينَ أوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا) والذي يُسمع هو كلام، وعبر عنه بالأذى لأنه يؤدي إلى أذى، وموضوعه أذى، وهو في ذاته أذى، فكأن الأذى في ذات القول، ولذلك كان مفعولا للسماع، ووصفه سبحانه وتعالى بأنه أذى كثير، وذلك ليبين لهم ما يوجب استعدادهم لسماعه، من أذى ليس بقليل في مقداره، ولا في نوعه، ولا في موضوعه، فالكثرة ليس المراد منها المقدار فقط، بل الكثرة تشمل المقدار والنوع، والطريقة والموضوع.
وقد بين سبحانه وتعالى العلاج في هذا البلاء: (وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ).
الصبر ضبط النفس وحبسها عن الجزع، وحبسها على العمل واتخاذ الأهبة، وحبسها أيضا مع أهل الإيمان كما قال تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ
1540
رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ...)، فالصبر يتضمن ضبط النفس عن الجزع، وقوة الاحتمال، والتضافر مع الجماعة، وقد وصف النبي - ﷺ - صبر الأنصار فيما روي عنه من أنه قال فيهم: " يقلون عند الطمع، ويكثرون عند الفزع " (١).
(تَتَّقُوا) معناها أن تتخذوا الوقاية بطلب رضا الله تعالى، ورجاء ما عنده، وأن تستعدوا، وتدفعوا الاعتداء بالحق وتعملوا على الخروج من المحنة، فليس شأن المؤمن استسلاما للمصائب تنزل به، بل شأنه صبر من غير جزع، وعمل من غير طمع، وجد وجهاد ودفع للشر.
وقد بين سبحانه أن التقوى والصبر هما من الأمور التي أمر الله تعالى بها لأنها تؤدى إلى النجاح، ولذلك قال سبحانه: (فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) أي إن ذلك مما يعقد الأمور ويربطها ويوثقها ويؤكدها، ويجعلها قوية منتجة مثمرة، فالصبر والتقوى بهما النجاح في الأمور.
وقد بين سبحانه أن أهل الكتاب فيما يصنعون قد خالفوا ما أخذ عليهم من مواثيق، فقال تعالى:
* * *
________
(١) جزء من حديث رواه العسكري في الأمثال كما جاء في جامع الأحاديث والمراسيل ١٣٤٩٢ - ج ١٩، ص ٣٧.
1541
(وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ... (١٨٧)
* * *
الميثاق هو العهد الموثق المؤكد، وقد أخذ الله سبحانه وتعالى على الذين أوتوا الكتاب العهد المؤكد الذي لَا يقبل تأويلا ولا احتمالا أن يبثوا علم الكتاب ويعلنوه، ولا يقصروا العلم به على طائفة من الناس خاصة، والضمير في (لَتُبَيِّنُنَّهُ) يعود إلى الميثاق، ويكون المراد من العهد الذي وثقه الله تعالى هو تعاليمه وشرعه ونوره، وعلى ذلك يكون ثمة احتمالان في عود الضمير، أحدهما أن يعود إلى الكتاب، والثاني أن يعود إلى الميثاق نفسه، والأظهر أنه يعود إلى الكتاب، والالتفات من الغائب إلى الخطاب؛ إذ إنه كان متحدثا عنهم، ثم فسر
1541
الميثاق بالخطاب، لتأكيد أخذ الميثاق بإعلان أنهم ما كانوا غائبين عند أخذه، بل كانوا حاضرين مخاطبين، فالعهد قد أخذ عليهم بألسنتهم، وقوله تعالى: (وَلا تَكْتُمُونَهُ) معطوف على قوله تعالى: (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ) وهنا يسأل سائل: لماذا أكد قوله تعالى: (لَتُبَيِّنُنَّهُ للنَّاسِ) بعدة توكيدات، بالقسم وبلامه، وبنون التوكيد الثقيلة، ولم يؤكد (ولا تَكتمونه)؛ وذلك لأن طلب البيان مشدد ومؤكد، وبذلك يتأكد عدم الكتمان بتأكد طلب البيان، ولو أن أدوات التوكيد لحقت " ولا تكتمونه " لأوهم الأسلوب أن المنفي هو الكتمان المؤكد المبالغ، أما غيره فلا ينفي، فلو قيل: " ولا تكتمنه " لأوهم الأسلوب أن المراد النهي عن المبالغة في الكتمان، فغير المبالغة في موضع الإباحة، وذلك غير معقول، ومع هذا العهد الموثق لم يبينوا، ولذلك قال سبحانه: (فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا).
النبذ الطرح، والتعبير بوراء ظهورهم كناية عن أنهم لن يعودوا إلى ما نبذوه، والكلام تصوير لعملهم في عدم الوفاء بعهد الله الذي أخذه عليهم، إذ إنهم أهملوه، ولم يفكروا في العودة، وأهملوه إهمال استخفاف واستهانة، كما ينبذ الشيء الحقير.
والضمير في " نبذوه " على هذا يعود إلى الميثاق، باعتبار أنه هو موضع الحديث ابتداء، ويصح أن يعود إلى الكتاب، لأن الميثاق هو الشرائع والأحكام والكتاب وعاؤها، فنبذ الكتاب نبذ للعهد، فهم لم يكتفوا بالامتناع عن البيان لغيرهم، بل أضافوا إليه إهمال الكتاب إهمالا مطلقا.
وإن هذا النبذ للكتاب وتعاليمه، وللميثاق المؤكد وإعلانه - سببه الهوى الدنيوي، وحب السلطان والغلب، والاستطالة على الناس بما عندهم، والإدلال عليهم بالعلم من غير أن يعملوا به، ولذلك قال سبحانه: (وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا) أي تركوا كتاب الله تعالى والعمل به وبشرائعه، وإعلانه، في نظير ثمن تافه قليل، وكل ثمن للإعراض عن كتاب الله تعالى والعمل به هو قليل مهما يكبر في نظر التاركين، ولذا قال سبحانه: (فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) أي أنه مذموم قبيح ما يطلبون من أعراض الدنيا في نظير إهمال الشريعة والعهد الموثق.
1542
وإن هذا الكلام يدل على وجوب إعلان الحقائق الدينية والدعوة إليها، ومجابهة مخالفيها بإثم المخالفة، ومن أحسن ما قرأت في ذلك ما قاله الزمخشري في التعليق على هذا: (كفى به دليلا على أنه مأخوذ على العلماء أن يبينوا الحق للناس، وألا يكتموا منه شيئا لغرض فاسد، من تسهيل على الظلمة، وتطييب لنفوسهم، واستجلاب لمسارّهم، أو لجرِّ منفعة وحطام دنيا، أو لتقية، أو لبخل بالعلم وغيره من أن ينسب إلى غيرهم، وعن النبي - ﷺ -: " من كتم علما عن أهله ألجم بلجام من نار " (١).
* * *
________
(١) رواه ابن ماجه: المقدمة (٢٦١) عن أبِي سَعِيد الْخُدْرِيً. كما رواه أحمد: مسند المكثرين (١٠٠٨٢) عن أبي هريرة.
1543
(لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا... (١٨٨)
* * *
هذا وصف آخر لليهود في ماضيهم، وفي حاضرهم، فهم يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، ويفرحون بما أتوا، وتلك طبيعة الضال دائما، فالضال يفرح بكل ما يعمله، ويزين له سوء عمله فيراه حسنا، ويحب أن يحمد بما لم يفعل، فيدعي لنفسه من المحاسن ما شاء، وينكر محاسن غيره. والنهي موجه للنبي - ﷺ -، وهو نهي مؤكد عن حسبان الخير فيهم فالتأكيد في قوله تعالى: (لا تَحْسَبَن الذِين يَفْرحُونّ) هو تأكيد للنهي، وليس بتوكيد للظن، فليس النهي منصبا على الظن المؤكد، وغيره لَا يكون منهيا عنه، بل التوكيد هو لأصل النهي، أي ينهى الله سبحانه وتعالى نبيه نهيا مؤكدا عن أن يظن فيهم خيرا، أو يصيبهم خير، و " تحسب " لها مفعولان أصلهما مبتدأ وخبر، والمفعول الأول هو (الذين يفرحون بما أتوا) إلى آخره، والمفعول الثاني محذوف دل عليه ما بعده، وتقدير الكلام هكذا: ولا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا موفقين أو مهتدين، أو صالحين، وحذف لدلالة ما بعده عليه، وليذهب العقل كل مذهب فيما يتناسب مع الوصف الذي وصفهم سبحانه به، وهو أنهم يزينون أعمالهم، ويرغبون في المدح الكاذب، فإن ذلك هو الضلال البعيد، وليرتب السامع عليه ما شاء من عدم الهداية وعدم التوفيق، والبعد عن الخير والنفع، فكل ذلك وغيره يتضمنه الكلام المحذوف.
1543
وقد صرح سبحانه بهلاكهم، فقال سبحانه: (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ منَ الْعَذَابِ) أي إذا كانوا بهذا الوصف الذي وُصفُوا به، وهو الضلال المبين فلا تَحْسبنَّهم بمفازة أي بمنْجَاة من العذاب، والتعبير عن النجاة من العذاب الأليم بقوله تعالى: (بِمَفَازَةٍ) الإشارة إلى أن أقصى ما يكون لهم من فوز أن ينجوا من العذاب الأليم أي المؤلم، ولكنهم لن ينجوا منه أبدا، ولذا أكد النهي بالخبر، فقال: (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أي عذاب مؤلم أشد الإيلام، أو بكل ما يتصور العقل من إيلام، ولذلك جاءت كلمة أليم نكرة، فذكر سبحانه عذابهم الأليم بالسلب والإيجاب، فنفي أولا أنهم بمنجاة منه وأخبر ثانيا بأنهم واقعون وهنا بيان لطرق الشيطان إلى النفس. إنه يجعل الشخص يحمد كل ما يأتيه أي يصدر عنه، ويجعل نفسه هي مقياس الخير والشر، ويحبب إليه الثناء بغير الحق، وذلك هو الغرور، وهو الضلال، وهو الضعف النفسي، والفرح بما لم يفعل، وإن الثناء الكاذب ضار بمن يكون موضع الثناء، وضار بالمجتمع ولذلك قال - ﷺ -: " إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب " (١)، وقال - ﷺ -: " لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله " (٢) اللهم اكفنا شر النفاق، وامنعنا من الغرور، وثبت قلوبنا وألسنتنا وأقلامنا على قول الحق، إنك سميع الدعاء.
* * *
________
(١) جزء من حديث رواه مسلم في صحيحه: الزهد والرقائق - النهي عن المدح إذا كان فيه إفراط (٥٣٢٣).
كما رواه الترمذي: الزهد (٢٣١٦)، وأبو داود: الأدب - كراهية التمادح (٤١٧٠)، وابن ماجه: الأدب - المدح (٣٧٣٢).
(٢) رواه البخاري: أحاديث الأنبياء - قول الله تعالى: (واذكر في الكتاب مريم) (٣١٨٩)، وأحمد مسند العشرة المبشرين أول مسند عمر بن الخطاب رضي الله عنه (١٤٩)، والدارمي الرقاق لَا تطروني (٢٦٦٥)
1544
(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (١٩٠) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (١٩٢) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (١٩٣) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (١٩٤)
* * *
أنذر سبحانه وتعالى في الآيات السابقة وبشَّر، وأرشد وزجر، وبين غرور الذين كفروا بزخارف الدنيا، والتمكين لهم فيها مما دلاهم بغرور، وجعلوا يعتقدون أن السلطان فيها دليل السلطان في الآخرة. وفي هذه الآية الكريمة يبين سلطانه سبحانه، وهو الذي وعد وأوعد، وهدد وحرض، ولذلك قال سبحانه وتعالى:
1545
(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
أي لله وحده سبحانه ملك السماوات والأرض بما فيهما ومن فيهما، وتقديم لفظ الجلالة لإفادة الاختصاص والانفراد، وفي ذلك إشارة إلى أنه وحده المتصرف، وهو الذي يعطي ويمنع ويحاسب ويعاقب، وقد أعطى من أعطى في الدنيا ليتمتعوا حتى حين، وأبقى ما أبقى في الآخرة ليجزي الصابرين، وينال
1545
عهده المتقون، وإن عطاءه لحكمة، ومنعه لحكمة، وفيه إشارة إلى كمال قدرتها، وأنه إن أوعد بالعقاب، ووعد بالثواب فهو القدير على تنفيذ ما وعد وأوعد.
وبعد أن بين سبحانه ملكه للسماوات والأرض أشار إلى ما فيهما من عبر، فقال تعالى:
* * *
1546
(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (١٩٠)
* * *
وقد قال فخر الدين الرازي في علاقة هذه الآيات بما قبلها: " اعلم أن المقصود من هذا الكتاب الكريم جذب القلوب والأرواح من الاشتغال بالخلق إلى الاستغراق في معرفة الحق، فلما أطال الكلام في تقرير الأحكام والجواب عن شبهات المبطلين عاد إلى إنارة القلوب بذكر ما يدل على التوحيد والإلهية والكبرياء والجلال فذكر هذه الآيات ".
وفى الحق، إن هذه الآيات تدعو إلى التدبر والتفكر في هذا الكون العظيم، وصانعه الحكيم، ومبدعه ومنشئه من العدم، والآيات: الأمارات الواضحة الدالة على قدرة الصانع وسلطانه وكمال حكمته، واختلاف الليل والنهار هو تعاقبهما، مع تخالف مظاهرهما، فهذا نور ساطع، وذلك ظلام حالك، وفي النهار الشمس التي تمد الأرض بحرارتها وأشعتها، وبها يحيا النبات ويحيا الإنسان، وفي الليل النجوم الزاهرة، والقمر الباهر، وأولو الألباب هم أهل العقول المدركة التي تنفذ إلى لب الأشياء، ولا تكتفي بظواهرها، وما أحسن ما قاله الزمخشري في وصف أولي الألباب: " الذين يفتحون بصائرهم للنظر والاستدلال والاعتبار، ولا ينظرون إليها نظر البهائم غافلين عن عجائب الفطرة، وفي النصائح الصغار: " املأ عينيك من زينة هذه الكواكب، وأَجِلهما في جملة هذه العجائب، متفكرا في قدرة مقدرها متدبراً في حكمة مدبرها، قبل أن يسافر بك القدر، ويحال بينك وبين النظر " وليس كل أولي الألباب يفهمون الآيات، بل لابد من قلب خاشع، وعقل متفكر، ولذلك ذكر لأولي الألباب أوصافا أخرى لهم: أولها - نوه إليه سبحانه بقوله:
* * *
(الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ... (١٩١)
* * *
1546
ذكر الله تعالى استحضار عظمته والإحساس بجلاله، واستشعار النفس بنعمه، وقد يدخل هذا في معنى قول النبي - ﷺ -: " اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " (١) فذكر الله يتضمن كل معاني العبودية والإحساس بالألوهية والنعم التي أسبغها على خلقه ظاهرة وباطنة، وذكر الله لب كل عبادة، وغاية كل نسك، لذلك قال الله تعالى: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعونَ)، وقد وصف الله تعالى أولي الألباب الذاكرين بأنهم يذكرون الله تعالى في كل أحوالهم، فهم يذكرونه قائمين، وقاعدين، وهم على جنوبهم، فقوله تعالى: (قِيَامًا وقُعودًا وَعَلَى جُنوبِهِمْ) إشارة إلى أن الذكر يكون في عامة أحوال الإنسان في الحياة، وظن بعض المفسرين أن المراد بالذكر الصلاة لما روى أن النبي - ﷺ - قال لعمران بن الحصين: " صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب " (٢) والحق أن الذكر أعم من الصلاة، وأن الصلاة الحقيقية التي تثمر ثمراتها ضرب من ضروبه، وكل العبادات من مسالكه، وقوله تعالى: (قِيَامًا وَقُعُودًا) مصدران وضعا موضع الوصف وموقعهما في الإعراب أنهما حالان.
وذكر الله تعالى على هذا النحو من أكمل العبادات، ولو ذكر المؤمن ربه في عامة أحواله لساد المجتمع الإنساني كله الوئام، وما كثر الخصام، وما امتشق الناس الحسام، بل ما تنازع اثنان، وفوق ذلك من يذكر الله يعلو عن آلام الحياة واضطرابها وما ينزعج له الناس ويتحيرون فيه، ولذا قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقلُوبُ).
(وَيَتَفَكُّرونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) هذا هو الوصف الثاني بعد أوصاف أولي الألباب الذين يدركون آيات الله الدإلة على جلاله وعظمته في خلقه، والتفكر: ترداد الفكرة في النفس لتصل إلى أقصى ما تؤدى إليه، وقد جاء في
________
(١) سبق تخريجه.
(٢) رواه البخاري: الجمعة - إذا لم يطق قاعدا (١٠٥٠)، والترمذي: الصلاة: ما جاء في صلاة القاعد (٣٣٩)، وأبو داود: الصلاة - صلاة القاعد (٨١٥)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (١٢١٣).
1547
مفردات الأصفهاني: " الفكرة قوة مطرقة للعلم، والتفكر جولان تلك القوة بحسب نظر العقل، وذلك للإنسان دون الحيوان، ولا يقال إلا فيما يمكن أن يحصل له صورة قى القلب، ولهذا روى: " تفكروا في آلاء الله، ولا تفكروا في الله، إذ كان الله منزها عن أن يوصف بصورة.. " (١) قال بعض الأدباء: (الفكر مقلوب عن الفرك، لكن يستعمل الفكر في المعاني، وهو فرك الأمور وبحثها طلبا للوصول إلى حقيقتها).
والتفكر في السماوات والأرض له ثلاث درجات بعضها أعلى من بعض، أدناها أن ننظر إلى السماء وما فيها من نجوم وكواكب وشمس وقمر وأبراج، وما فيها من نظام بديع محكم، وهذه هي النظرة العامة التي تكون لذوي الألباب وغيرهم، لأن هذه النظرة أساس الحس وإشراق المحسوس.
والمرتبة الثانية التفكر في خلقها وأسرار وجودها ونواميسها وقوانينها، وهذا ما يفكر فيه علماء الكونيات الذين يعرفون ما اشتمل عليه الكون من قوى وما أودعها الخالق من أجرام وقوانين لسيرها.
المرتبة الثالثة وهي أعلاها، وهي النظرة التي تتجه إلى الخالق من وراء المخلوق، فيتدبر الكون وما فيه ليدرك عظمة المبدع، فيتعرف من جمال الصنعة جلال الصانع، وهذا النوع هو المذكور في هذه الآية وهو أعلى مراتب العبادة، وقد روي عن النبي - ﷺ - أنه قال: " لا عبادة كالتفكر " (٢) وقد كان بعض الصحابة يقول: " إن ضياء الإيمان التفكر ".
وإن هذا النوع الأخير مِن التفكر يجعل القلب يخضع واللسان يخشع فينطق مستشعرا عظمة الله قائلا: (ربَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).
________
(١) جاء في الفتح الكبير (٥٤٣٠) ج ٢، ص. ٣١: تَفكرُوا في كُلٍّ شَيء ولا تَفكَّرُوا في ذات الله تعالى فإنَّ بَيْنَ السَّماء السَّابعَة إلى كُرْسيه سَبْعَةَ آلافِ نُور وَهُوَ فَوْق ذَلكً (أبو الشيخ في العظَمة) عن ابن عباس. وذكرة الحافظ ابن حجر فَيَ الفتح (باب ماً يذكر في الذات والمنعوت وأسامي الله): جاء في كتاب الله لعبد الله بن أحمد - من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس: " تفكروا في كل شيء ولا تفكروا في ذات الله، فإن بين السماوات والأرض سبعة آلاف نور وهو فوق ذلك " موقوف وسنده جيد.
(٢) رواه القضاعي في مسند الشهاب ج ٢، ص ٣٩: (٨٣٨).
1548
تلك الضراعة التي بدت على الألسنة هي أولى ثمرات التفكر، لقد وصلوا بمفكرهم إلى إدراك ربهم فقالوا (ربنا) ونادوه سبحانه بذلك النداء الخاضع الضارع الشاكر لنعمائه، وقد وصلوا بتفكيرهم وتدبرهم إلى أن هذا الكون لَا يمكن أن يخلق باطلا، أي لَا يكون لغير غاية، ولا لغير حكمة، فمعنى البطلان هنا العبث وعدم الغاية وإنهم ليعلمون أن ذلك مستحيل على الله تعالى، ولذا أردفوا هذا بقولهم: (سبحانك)، أي تنزهت ذاتك وتقدست، وبذلك ارتفعوا إلى مقام التقديس وهو كمال العبودية والألوهية، ثم اعترتهم وقد وصلوا إلى هذا النوع من العلمِ خشية العلماء، مصداقا لقوله تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عزِيزٌ غَفُورٌ)، ولذلك غلب عليهم الخوف من عذاب الله تعالى فقالوا مرتبين على تفكرهم ما أدى إليه: (فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) فهذه ضراعة إلى الله تعالى أن يقيهم عذاب النار، والوقاية من عذاب النار تكون بأمرين: أولهما - أن يوفقهم لتجنب ما لَا يرضيه، والثاني - أن يغفر لهم ما أفرطوا في جنبه سبحانه وتعالى.
وقد كان ترتيب الخوف على التفكر له موضعه لأن نهاية التفكر هو الخوف، إذ ينتهي إلى أعلى درجات الشعور بالمهابة لله تعالى، وهو يجعل المؤمن يستصغر حسناته، ويستكثر سيئاته، وإن الصوفية الحق يبالغون في التفكر، حتى إنهم يفضلونه على صلوات النفل فهو من أفضل مقامات العبودية.
* * *
1549
(رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (١٩٢)
* * *
هذا في مقام التعليل لضراعتهم بالوقاية من النار، وهو تعظيم لأمر العقاب يوم القيامة، وفيه فوق ذلك شعور بالعدالة إذا وقع العقاب، إذ إنه يكون من ظلم المرتكب، وفيه أيضا بيان أن العقاب إن أراده الله فلا مناص منه، ولا منجاة بنصر ناصر، أو شفاعة شفيع، وأعظم العقاب ما فيه من الخزي أمام الله واهب الوجود، ومولي النعم وذي الجلال والإكرام، والخزي في أصل معناه الوقوع في بلية، وقد يطلق على الوقوع في البلايا المعنوية بأن يكون قد ارتكب أمرا يتعير به أمام الناس
1549
ولا مناص لرد اعتباره، وقوله تعالى (فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) يتضمن هذه المعاني، فقد أوقعهم سبحانه في بلية لَا يستطيعون التخلص منها، وهم في عار معنوي لأنهم نالوا سخط الله تعالى، وذلك بظلمهم، وقد أكدوا استحقاق المجرمين، وعدم خلاصهم منه بقولهم (وَمَا لِلظالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) أي أن المذنبين ظالمون فهم معاقبون بحق ولا ناصر لهم، و (مِنْ) دالة على استغراق النفي، أي لَا ناصر لهم أيا كان، وفى ذلك إشارة إلى انفراد الله تعالى بالسلطان.
* * *
1550
(رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا... (١٩٣)
* * *
إذا كان ذكر الله يربي القلب، والتفكر يهديه، وهما معا يرفعان المؤمن إلى مرتبة الخوف من الله، فإن التذكر لله والتفكر في خلقه يفتح أيضا القلب للتصديق والإذعان للحقائق الدينية، ولذلك كان من ثمرات التفكر إجابة نداء الحق، والإيمان بالله ورسوله والغيب، ولذلك كان شأن أولئك المتذكرين المتفكرين في خلقه أنهم بمجرد أن سمعوا نداء الإيمان أجابوا.. وهنا بحوث لفظية:
أولها: أن أولئك سمعوا نداء المنادي، ولكن أسند السمع إلى الشخص لكمال الانتباه إليه، ولأن شخص المنادي له أثر في حسن الاستماع لأنه رسول من عند الله، فما اقتنعوا بالحق لذات الحق فقط، بل لأن الداعي صادق أمين.
ثانيها: أنه أطلق المنادي، ثم ذكر بعد ذلك أنه ينادِي بالإيمان وذلك لما فيه من إبهام بعده بيان، فيكون البيان أكثر ثباتا، ولأن الإطلاق أعطى المنادي تفخيما وتكبيرا، ولأن النداء إلى الحق اعتبر كالعنوان له.
وثالثها: أن الإيمان ذكر مطلقا على أنه إيمان بالرب، وذلك للدلالة على الإذعان المطلق لله وللحق والهدى.. اللهم هبنا إيمانا بالحق وإذعانا له، وقد أجابوا نداء الإيمان فقالوا (فآمنا).
وسماع النداء لَا يلزم أن يكون من شخص المنادي، بل يعم السماع من شخصه وتتبع رسالته من بعده.
1550
(رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُئوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنَا وَتَوَفَنَا مَعَ الأَبْرَارِ) كان التفكر والتذكر لله سببا في قوة إحساسهم بهفواتهم ونسيانهم حسناتهم وتواضعهم أمام ربهم خاضعين خاشعين، ولذلك طلبوا ثلاثة أمور: أولها: الغفران إحساسا بتقصيرهم وفضل ربهم. وثانيها: تكفير السيئات، أي الأمور التي تسيء في ذاتها، والفرق بين الذنب والسيئة، أن السيئة عصيان فيه إساءة، والذنب فيه تقصير وتبطؤ عن الخير والغفران، والتكفير كلاهما ستر، ولكن الأول يتضمن معنى عدم العقاب، والثاني يتضمن ذهاب أثر الإساءة. والمطلب الثالث الذي طلبوه هو أن الله يتوفاهم مع الأبرار، أي يميتهم مع الأبرار بأن يسلكوا طريق الاستقامة في الدنيا حتى يخرجوا منها مع المستقيمين الأبرار الأخيار.
* * *
1551
(رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ... (١٩٤)
* * *
لقد ترقوا في الطلب، فانتقلوا من طلب الغفران إلى طلب الثواب، فمعنى النص الكريم: أعطنا يوم القيامة ما وعدتنا به على ألسنة رسلك الأكرمين، وقد أخروا ذلك لشعورهم بهفواتهم أكثر من شعورهم بحسناتهم التي يستحقون عليها الثواب، وقوله: (عَلَى رُسُلِكَ) على حذف مضاف أي ألسنة رسلك، وقالوا على رسلك، ولم يقولوا على رسولك للإشارة إلى أن ثواب المطيع وعقوبة العاصي مما جاء به كل الرسل، ولتأكيد طلب إعطاء الثواب، ومع بلوغهم مرتبة الرجاء كان يغلب عليهم الخوف، ولذلك أردفوا الرجاء بقولهم: (وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وختموا ضراعتهم بقولهم: (إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ). وقد أكدوا رجاءهم في أن يوفوا أجرهم وتغفر لهم ذنوبهم.
هذا وننبه إلى أمرين:
أولهما: أنهم كرروا في ضراعتهم كلمة (ربنا) وذلك لأن تفكيرهم وذكرهم أداهم إلى الاعتراف بكمال الربوبية.
ثانيهما: أن النبي - ﷺ - تلا هذه الآيات، ثم قال: " اللهم اجعل في قلبي نورا، وفي سمعي نورا، وفي بصري نورا، وعن يميني نورا، وعن شمالي نورا،
1551
ومن بين يدي انورا، ومن خلفي نورا، من فوقي نورا، ومن تحتي نورا، وأعظم لي نورا يوم القيامة " (١).
* * *
(فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (١٩٥) لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (١٩٦) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (١٩٧) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (١٩٨) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (١٩٩) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠)
* * *
________
(١) روى مسلم: صلاة المسافرين - الدعاء في صلاة الليل وقيامه) ١٢٨). كما رواه أبو داود: الصلاة - صلاة الليل (١١٤٨)، وأحمد: مسند بني هاشم (٣٣٦٠).
1552
هذه إجابة الدعاء المتكرر الذي ابتهلوا به لربهم، وقد تكررت ضراعتهم لله تعالى بتكرار كلمة (ربنا)، إذ قد تكررت خمس مرات، وقد قال الحسن البصري: (ما زالوا يقولون ربنا حتى استجاب لهم) وقال الإمام جعفر الصادق: (من حزبه أمر، فقال خمس مرات (ربنا) أنجاه الله مما يخاف، وأعطاه ما أراد، قيل: وكيف كان ذلك؛ قال: اقرءوا إن شئتم: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (١٩٢) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (١٩٣) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (١٩٤).
والمراد من قول حفيد الرسول - ﷺ - أن نذكر (ربنا) ضارعين خاضعين خاشعين، مدركين معنى الربوبية والألوهية، ومذعنين لأحكامه.
* * *
1553
(فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى... (١٩٥)
* * *
الفاء للترتيب، فالاستجابة معقبة لهذا الدعاء الضارع، والاستجابة معناها هنا الإجابة، وأصل معنى الاستجابة التحري والتهيؤ للجواب، وإذا كان معناها هنا الإجابة، فالمؤدى أنها إجابة مهيأة معدة لهم قد محصوا قبلها، وإجابة الله لهم دليل على استحقاقهم لرحمته، وقد أجابهم سبحانه إجابة تدل على كمال عدله، فقد قال سبحانه: (أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ منكم) فإذا كان سيجزيهم الجزاء الأوفى فلأنهم عملوا خيرا، وسبحان الله الشاكر العليم، هم يطلبون الجنة منحة من الله، لأنهم لا يعتقدون أن عملهم يدخلهم الجنة استصْغارا لأعمالهم بجوار نعمة رب العالمين عليهم، والله الكريم المنان يبين لهم أن ما ينالون من خير من عملهم، وأن الله إذا لم يثبهم لكان مضيعا لعمل ابخير الذي قاموا به، وإن الله لَا يضيع أجر من أحسن عملا، ففي الآية الكريمة إشارة إلى عدله ورحمته، وبيان القانون الأمثل للعدل، وهو أن يكون الجزاء من جنس العمل (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨).
1553
وبين سبحانه تعميم الجزاء لكل عامل بذكر النوعين اللذين خلقهما الله تعالى في هذا الوجود، فقال: (مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى) فلا فرق في الجزاء بين الذكر والأنثى. ويروى أن السيدة أم سلمة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله ألا أسمع ذكر النساء في الهجرة بشيء فأنزل الله تعالى: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيع عَملَ عَامِلٍ منكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى) (١).
وفى التعبير باللفظ السامي (ربهم) إشارة إلى أن الذي يجزيهم هو خالقهم ومربيهم والمنعم عليهم، وفيه مشاكلة بين لفظ الدعاء والإجابة، ومعنى قوله تعالى: (بَعْضُكُم مِّنْ بعْضٍ) أي أن الذكر من الأنثى والأنثى من الذكر، فأنتم جنس واحد يتمم بعضه بعضا، فلا تُحرَم الأنثى جزاء ولا يحابى الذكر دونها، فهذا النص السامي فيه تعليل لمعنى التسوية في الجزاء بين الذكر والأنثى. وبعض العلماء فسر قوله تعالى: (بَعْضُكُم مِّنْ بَعْضٍ) أنها لعموم أجناس الناس، أي أنكم جميعا أيها الناس بعضكم من بعض لَا فرق بين عربي وأعجمي، ولا أسود ولا أبيض، فالجزاء من جنس العمل أيا كان العامل (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ...)، وهذا النص الكريم يشير إلى عدة معان سامية:
أولها: أن المرأة ليست شيطانة ولا نجسا، بل لها كل ما للرجل وإن كان له درجة في الدنيا لتنظيم الحياة.
وثانيها: أن العمل له جزاؤه من غير نظر إلى قبيلة العامل أو لونه.
ثالثها: أن استجابة الله ثابتة من وقت عمل العامل.
وقد بين سبحانه الأعمال التي استحقت الإجابة من هؤلاء الأبرار، فقال: (فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ).
________
(١) رواه الحاكم أبو عبد الله في صحيحه، وأخرجه الترمذي: تفسير القرآن - ومن سورة النساء (٢٩٤٩).
1554
في هذا النص تعداد للأعمال الصالحات التي قام بها هؤلاء المؤمنون الأولون، واستحقوا بها نعيم الجنة، وتوقوا بها عذاب النار، وهي أمور ثلاثة: آخذ بعضها بحجز بعض، ومتلاقية في معناها ومغزاها.
أول هذه الأمور أنهم هاجروا وأخرجوا من ديارهم فهم هجروا مغانيهم التي تربوا فيها غير راغبين ولا محبين للخروج، بل ملجئين مضطرين، ولذلك روى أن النبي - ﷺ - قال مخاطبا مكة عندما خرج منها: " إنك أحب أرض الله إليَّ، ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت " (١) ويروى أن ورقة بن نوفل قال للنبي - ﷺ -: ليتني أكون جذعا إذ يخرجك قومك. فقال له عليه الصلاة والسلام: " أو مخرجيّ هم " قال: ما أوتى أحد بمثل ما أوتيت إلا عودي (٢) والله تعالى يقول: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ...)، فكان الإخراج سبب الهجرة.
ولقد جاء في التفسير الكبير للفخر الرازي أن كلمة هاجروا يراد بها الهجرة اختيارا، والإخراج هو الإخراج اضطرارا، وإني أقول: إن هذه التفرقة لم تكن في عصر النبي - ﷺ -، وربما تكون من بعد ذلك، فمن الناس من يخرج من ديار الشرك أو الكفر مختارا ليكون قوة لأهل الإسلام، ومنهم من يخرج اضطهادا وإيذاء، كما فعل كفار اليوم باللاجئين المسلمين.
والأمر الثاني الذي استحقوا به الجزاء الأوفى هو أنهم تحملوا الأذى في سبيل الله تعالى، فهم أوذوا في مكة قبل الهجرة، واستمر الإيذاء بعدها، وكل ذلك في سبيل الله، وفي سب بل الحق وإعلائه، وجعل كلمته هي العليا، وكلمة الباطل هي السفلى، وإن هذا يزكي الخير فيهم، فإنهم ما أخرجوا من ديارهم، وهجروا أحباءهم وذويهم إلا في سبيل الله تعالى.
________
(١) رواه الترمذي: المناقب - فضل مكة (٣٨٦٠). ورواه أحمد: أول مسند الكوفيين (١٧٩٦٦)، والدارمي: السيرَ إخراج النبي - ﷺ - (٢٣٩٨)، كما رواه ابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنه: المناسك - فضل مكة (٣٠٩٩).
(٢) متفق عليه، رواه في حديث طويل البخاري: بدء الوحي (٣)، ومسلم: الايمان - بدء الوحي (٢٣١) عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها.
1555
والأمر الثالث أنهم قاتلوا في سبيل الله تعالى فجاهدوا الأعداء واستشهدوا في هذا القتال، فلهم فضلان: فضل القتال والتقدم، وفضل الاستمرار فيه والشهادة في سبيل الحق، وقد بين سبحانه وتعالى الجزاء بقوله تعالت كلماته: (وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ).
السيئات هي ما تسوء، ومعنى تكفيرها المبالغة في سترها، حتى تعتبر نسيا منسيا، وهذا أولى الجزاء، والثاني: إدخالهم الجنة، وقد صورها بأقرب صور نراها للنعيم في الدنيا، وهي الجنة التي تجري الأنهار من تحتها. هذا، وإن نعيم الجنة حسي، وهو فوق ما نراه في الدنيا، وإن كان تصويره لَا يكون إلا بما نراه، فإن فيها ما لَا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وفي تقديم تكفير السيئات على إدخال الجنة ما يسميه العلماء التخلية قبل التحلية، أي تطهيرهم مما كان منهم من سيئات، ثم تحليتهم بأعظم نعيم يكون في الآخرة.
وقد أكد سبحانه وتعالى ذلك الجزاء بـ " اللام " الدالة على القسم، و " بنون التوكيد " الثقيلة، وبتوكيد معنى الكلام كله بالمصدر (ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ) إذ هو مصدر لما تضمنه معنى (لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ) ومعناه: لأثيبنهم ثوابا، وقد أكد ذلك الثواب بأنه من عند الله تعالى ذي الجلال والإكرام، وإذا كان من عند الله فهو يتضمن رضوانه، ورضوانه سبحانه وتعالى أكبر، كما قال تعالى: (وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَر...).
والثواب أصله من رجوع الشيء إلى حالته، فكأن الجزاء على العمل رجوع بالعمل إلى الحال التي يكون عليها أو يستحقها، وقد قال الراغب في ذلك: " والثواب ما يرجع إلى الإنسان من جزاء أعماله، فيسمى الجزاء تصورا أنه هو هو (أي أن الجزاء هو ذات العمل) ألا ترى كيف جعل الله الجزاء نفس العمل: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ)، ولم يقل جزاه، والثواب يقال في الخير والشر، لكن الأكثر المتعارف في الخير، وعلى هذا قوله عز وجل: (ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ).
1556
وقد ختم سبحانه وتعالى النص الكريم بقوله تعالى: (ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ) لبيان اختصاصه سبحانه بالثواب الحسن كأن كل جزاء للأعمال في الدنيا لَا يعد حسنا بجوار ما أعده الله تعالى للمحسنين من عباده وما في الدنيا من ثمرات الأعمال لَا يعد شيئا، وهذا تمهيد لقوله سبحانه:
* * *
1557
(لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (١٩٦)
* * *
في الآيات السابقة إشارات إلى سطوة المشركين، إذ آذوا المؤمنين، وأخرجوهم من ديارهم، وقاتلوهم وقتلوا منهم، وقد بين سبحانه أنه سيجزي المؤمنين على صبرهم وهجرتهم، وجهادهم، ولكن قد يعرض للخاطر: لماذا يكون هؤلاء المشركون في هذه القوة وتلك النعمة الدنيوية؛ فجاء النهي الكريم ليمنع من توسوس له نفسه من أن يغتر بما عليه هؤلاء المشركون من قوة وسطوة ومتاع دنيوي، والنهي موجه للنبي - ﷺ -، ومعناه: لَا يصح أن تُغر بما عليه المشركون من قوة ومال، وهو نهى لكل المؤمنين، وفيه إشارة إلى أن هذه الحال من شأنها أن تغر وتخدع من لَا يؤمن بالله واليوم الآخر، فكان النهي لهذا، وليس من مقتضى النهي أن يكون قد وقع من النبي - ﷺ - غرور، فالنهي عن أمر من شأنه أن يقع في النفوس ليس دليلا على وقوعه، ولذلك روى أن قتادة قال: والله ما غروا نبي الله - ﷺ - حتي قبضه الله. ولقد قال الزمخشري في توجيه النهي للنبي - ﷺ -: " فيه وجهان " أحدهما: مدرة (١) القوم ومتقدمهم خاطب بشيء فيقوم خطابه مقام خطابهم جميعا، فكأنه قال لَا يغرنكم. والثاني: أن رسول الله - ﷺ - كان غير مغرور بحالهم، فأكد ما كان عليه وثبت ما كان على التزامه كقوله: (وَلا تَكُن مَّع الْكَافِرِينَ)، (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِين)، ومعنى غره أصاب غِرته، والغرة غفلة في اليقظة.
والتقلب التصرف، ومن ذلك قوله تعالى: (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ)، ومعنى تقلب هؤلاء الأعداء في البلاد تصرفهم فيها حاكمين
________
(١) مِدرةُ القوم (بالدال): أي المقدم فيهم.
1557
مسيطرين أقوياء ينتقلون أحرارا من بلد إلى بلد، وجملة معنى النص الكريم لا يصح أن يُخدع أحد بما عليه أولئك الناس من قوة وسطوة وتصريف في شئون البلاد، فإن هذا إلى أمد قصير، وهو متاع قليل، ولذا قال سبحانه:
1558
(قَلِيلٌ ثمَّ مَأوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ).
المتاعِ الشيء الذي يجعل الانتفاع به ولا يبقى طويلا، من ذلك قوله، تعالى: (ومَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)، وهي هنا خبر لمبتدأ محذوف دل عليه الكلام الذي قبله، والمعنى أن تقلبهم وتصرفهم في البلاد متاع قليل، فهو انتفاع عاجل ومقداره قليل، ثم تعقبه بعد ذلك حسرات، ولذلك ذكر ما يعقبه فقال: (ثُمَّ مَأوَاهمْ جَهَنَّم) العطف بـ " ثم " ليس للدلالة على التراخي الزمني فقط، بل للدلالة على تفاوت ما بين حالهم في الدنيا، وما يكونون عليه في الآخرة، والمأوى هو المكان الذي يأوي إليه الشخص ليستقر فيه ويطمئن، فكان استقرارهم هو جهنم، وهي اسم لنيران يوم القيامة، والمهاد هو المكان الممهد والفراش اللين، ويكون التعبير عن مآلهم بالمهاد من قبيل التهكم. ويصح أن يقال إنهم هم الذين مهدوه لأنفسهم، ويكون المعنى بئس الذي مهدوا به لأنفسهم، أي أنهم بأعمالهم في الدنيا قد مهدوا لأنفسهم فراشا من اللظى والجحيم وبئس هذا المهاد.
وفى هذا تعزية للمؤمنين أبلغ تعزية، وقد روى الترمذي أن رسول الله قال:
" ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه في اليم، فلينظر بما يرجع " (١).
* * *
________
(١) الترمذي: الزهد - باب منه (٢٢٤٥)، ورواه مسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها - فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة ٥١٠١١). وأحمد: مسند الشاميين (١٧٣٢٢)، عن مستورد بن شداد بن عمرو.
(لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا... (١٩٨)
* * *
الاستدراك هنا بـ " لكن " للمقابلة بين المتقين الأبرار والمشركين الفجار بالنسبة للمآل، فالكفار مآلهم جهنم ومتاعهم دنيوي قليل، والمتقون لربهم المدركون لمعنى الربوبية الشاكرون لنعمته مآلهم جنات تجري من تحتها الأنهار، وليست مدتها
1558
قليلة، بل لهم فيها الخلود، فالنعيم كثير والزمن طويل، بينما الآخرون نعيمهم ضئيل قصير، وعذابهم دائم كثير.
(نُزُلًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ للأَبْرَارِ) " النُّزُل " ما يعد للضيف لإكرامه والحفاوة به، ونصب (نزلا) على التمييز كما تقول كان لك هذا هبة، أي من نوع الهبة، وفي هذا بيان لمقدار عناية الرحمن الرحيم بهم، وإدخالهم مدخل صدق، وإنزالهم منزلا مباركا، وقد بين العطاء الروحي بعد العطاء المادي، فقال سبحانه:
(وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْر لِّلأَبْرَارِ)، وقد حاول بعض المفسرين أن يقول إن الأبرار مرتبة أعلى من مرتبة المتقين، سيرا على قاعدة (حسنات الأبرار سيئات المقربين)، ويكون تفسير النص السامي على نظرهم، ومعناه أن ثمة للأبرار منزلة روحية، وتكريما رضوانيا هو خير من المذكور، ومع هذا لَا مانع من أن نقول إن الذين اتقوا هم الأبرار، والمعنى إن الله أعد لهم شيئا خيرا من النزل، وهو الرضوان والنعيم الروحي مع النعيم المادي.
* * *
1559
(وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا... (١٩٩)
* * *
بين سبحانه ما كان من أهل الكتاب، وما كانوا ينزلونه بالمؤمنين، وما يسمعونهم من أذى، كما قال سبحانه: (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثيرًا...).
وفى هذا النص الكريم يبين الله سبحانه باب الرحمة المفتوح لهم، فذكر سبحانه مؤكدا القول بـ " إن " وبـ " اللام " الدالة على القسم اهتداء فريق منهم، وذلك أن هؤلاء المهتدين قد تحلوا بخلال خمس: أولها أنهم يؤمنون أقوى الإيمان وأخلصه، والإيمان يزيل العناد والغطرسة فيطلبون الحق لذات الحق. والثانية أنهم يؤمنون بما أنزل على النبي - ﷺ - بأن يعلموا أنه آخر لبنة في صرح النبوة، وأنه لو كان موسى حيا لآمن بمحمد. والثالثة أن يؤمنوا بحقيقة ما أنزل إليهم، ويعرفوا أن الرؤساء حرفوا الكلم عن مواضعه، وأن يعرفوا أن ما أنزل إليهم أو إلى أسلافهم
1559
هو ما جاء به محمد مخبرا عنه والرابعة الخشوع، وهو الخوف من الله تعالى مع الضراعة إليه وطلب رضاه دون سواه. والخامسة ألا يؤثروا شيئا على آيات الله تعالى هي أماراته البينات، وقد ذكرت هذه في آخر الآية بقوله سبحانه: (لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا) أي لَا يتركون آيات الله البينة لشرعه ودينه في نظير ثمن هو عرض من أعراض الدنيا فهو قليل مهما يكن كثيرا في نظر الضالين، وهذه الأمور الخمسة يترتب بعضها على بعض، فيترتب على الإيمان الصادق بالله الإيمان بمحمد والإيمان بما نزل على النبيين الصادقين، ويترتب على هذا كله الخشوع، وأولى ثمرات الخشوع ألا يتركوا آيات الله تعالى لأي عرض من أعراض الدنيا، هؤلاء ينالون جزاءهم، ولذا قال سبحانه: (أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ) أي أولئك المتصفون بهذه الصفات التي تدل على الخلوص لله لهم جزاؤهم عند ربهم، وإنه عاجل لهم في الآخرة، كما أن العذاب لمن لم يؤمنوا عاجل، ولذلك قال سبحانه مؤكدا: (إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ).
* * *
1560
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠)
* * *
كانت سورة آل عمران مبينة لألوان الجهاد الذي يقوم به المؤمنون، ففيها جهاد بالحق والبرهان، وجهاد بالقتال وتحمل مرارة الهزيمة، ولذلك ختمها سبحانه بهذا النداء السامي الذي يجب أن يكون شعار كل مؤمن، وابتدأ النداء بـ يا أيها الذين آمنوا، لإشعارهم بأن ما يطلب منهم هو من ثمرات الإيمان ومن مقضياته، وقد أمر بأمور أربعة: الصبر، والمصابرة، والمرابطة، والتقوى. والصبر: معناه ضبط النفس عن أهوائها، وتحمل المكاره راضيا غير ساخط، والقيام بالطاعات على وجهها، وتجنب العاصي، وتحمل آثار الهزيمة، والعمل على النهوض بعد الكبوة، وتحمل أذى الأعداء وسخريتهم، فالصبر معنى نفسي في الصابر يجعله يعلو على الحوادث والنوازل، ويستولي على نفسه، ويحملها على ما تحب وتكره، والصبر كما يكون في الفقر يكون في الغنى، وصبر الغني بقمع شهواته، وعدم البطر، وعدم الفرح السرف الفاخر المستعلي.
1560
والمصابرة هي المغالبة بالصبر، وهي تكون في الجهاد مع الأعداء في الملحمة، أو في المجادلة، أو في أي مغالبة على أي لون كانت، والمرابطة هي القيام على الثغور الإسلامية لحمايتها من الأعداء، فهي استعداد ودفاع وحماية للديار الإسلامية، وقد قال عليه الصلاة والسلام: " رباط يوم في سبيل الله خير عند الله من الدنيا وما عليها " (١)، وكان كبار الزهاد يرابطون نصف السنة، ويطلبون قوتهم بالعمل في النصف الآخر: والتقوى هي لب كل عمل صالح، وهي النية المحتسبة للخير، فالمرابطة والمصابرة إن لم تكن منبعثة من التقوى لإرضاء الله تعالى فإنه لَا خير فيها، وإن هذه الأمور الأربعة هي التي يرجى بها الفلاح، أي الفوز في الدنيا والآخرة، ولذا قال سبحانه: (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي رجاء أن يكتب لكم الفوز بالنصر في الدنيا والجزاء في الآخرة. اللهم اكتبنا برحمتك في عبادك الفائزين برضاك.
________
(١) جزء من حديث رواه البخاري: الجهاد والسير - فضل رباط يوم في سبيل الله (٢٦٧٨) عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْد الساعدي رَضيَ اللَّهُ عَنْه. كما رواه الترمذي بلفظ (وما فيها): فضائل الجهاد - ما جاء في المرابط (١٥٨٧)، َ وَرواه أحَمد: باقي مسند الأنصار - حديث أبي مالك سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه (٢١٨٠٢).
1561
(سُورَةُ النِّسَاءِ)
* * *
تمهيد
* * *
قبل أن نتجه إلى التفسير التحليلي لآيات هذه السورة، لابد من تمهيد موجز يعطي القارئ صورة لما اشتملت عليه.
لقد اتفق الرواة على أن هذه السورة مدنية، أي نزلت بعد الهجرة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم، وأن ما اشتملت عليه يدل على أنها نزلت بعد أن كان للإسلام دولة تنظم علاقاتها بغيرها، وبعد أن منَّ الله تعالى على الذين استُضعِفُوا في الأرض وجعلهم أئمة يهدون بأمر الله تعالى فيها. وقد روي أن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: " ثماني آيات نزلت في سورة النساء خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت. أولهن: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكمْ سننَ الَّذِينَ مِنِ قَبْلِكُم وَيَتُوبَ عَلَيْكمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) والثانية: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوِاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظيمًا)، والثالثة: (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا)، والرابعة: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْهَا وَيُؤْت مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا)، والخامسة: (وإِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكًفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُم وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا)، والسادسة:
(إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يشْرَكَ بِهِ وَيغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لمَن يَشَاءُ وَمن يشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضلالًا بَعِيدًا)، والسابعة: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا)، والثامنة: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (١١٠).
1562
وإن صحت هذه الرواية عن ابن عباس (١) فإنها تدل على أنه اتجه إلى عدل الله ورحمته بعباده، وفتحه باب التوبة والمغفرة. وإلا فإن القرآن كله بكل سورة وآياته خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت.
وسورة النساء هي سورة الإنسانية، ففيها عَيَّن القرآن الكريم العلاقات الإنسانية التي تربط الناس بعضهم ببعض، وما ينبغي أن تنهجه المجتمعات الفاضلة في جعل العلاقة الإنسانية الأصيلة تسير في مجراها الطبيعي الذي رسمه رب العالمين بمقتضى الفطرة، وفيها ما حده الله - تعالى - لعلاج الانحراف الذي ينحرف به ذوو الأهواء من الآحاد والجماعات.
ابتدئت السورة الكريمة ببيان الارتباط الإنساني الجامع الذي تلتقي عنده البشرية جميعها، فقال - سبحانه -: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَبئَ مِنْهَا زَوْجَهَا...)، وإذا كان الناس جميعا ينتهون إلى أصل واحد فإنه لَا بد من التساوي، ولا بد من التراحم لهذه الرحم الواصلة، ثم إن أول مظاهر التراحم هو الأخذ بيد الضعفاء، وأوضح الضعفاء مظهرا أولئك اليتامى الذين لَا عائل يعولهم، وإن اليتيم المقهور هو الذي يتولد فيه الانحراف، ومن الانحراف تكون العداوة، ويكون الشر المستطير، ولذلك ابتدئت السورة بعد إثبات الوحدة الجامعة بعلاج اليتم لتكون الجماعات في طريق المودة.
واليتيم لَا يحتاج فقط إلى الغذاء والكساء بل يحتاج إلى المودة والإصلاح في نفسه وماله: (وَلْيَخْشَ الَّذين لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا).
وفى سبيل بيان حقوق اليتامى يبين - سبحانه - نظام التوزيع المالي للأسرة عندما يموت واحد منها، فيبين الميراث وأنه حد لله تعالى للحقوق المالية لمن يخلفون المتوفى في ماله، وأن الانحراف عنه عصيان لله تعالى.
________
(١) رواها ابن جرير الطبري في تفسيره، وروى الحاكم بإسناد صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، عن ابن عباس أنه قال: سلوني عن سورة النساء؛ فإني قرأت القرآن وأنا صغير.
1563
وبعد ذلك أخذ يبين الله سبحانه وتعالى تكوين الأسرة الإسلامية، وأساس التكوين هو العلاقة بين الرجل والمرأة، أو بتعبير القرآن السامي العلاقة بين النفس وزوجها، فنفى أن تكون العلاقة بينهما كالعلاقة بين أنثى الحيوان والذكر، بل العلاقة بينهما أسمى وأعلا، ولذلك أشار إلى عقوبة من ينزل إلى مرتبة الحيوان فقال: (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (١٥).
وبين أن باب التوبة مفتوح لمن يقع في هذه الخطيئة الحيوانية، ثم أخذ يرسم - سبحانه وتعالى - الطريق السليم للعلاقة بين الرجل والمرأة، وهو الزواج، وحرم ما كان عليه أهل الجاهلية من وراثة النساء وسمَّى ذلك مقتا، ثم أخذ يبين سبحانه شرائط العقد الصحيح، والنساء اللائي يحرمن في الزواج، ثم نفَى سبحانه أن يكون اتخاذ الأخدان سبيلا من سبل تكوين الأسرة ومن اتخاذ الأخدان ما يسمى بالمتعة وهو اتخاذ المرأة لأمد محدود في نظير أجر معلوم.
وبعد أن بين سبحانه العماد الذي تقوم عليه الأسرة، وهو الزوجان، أخذ يبين علاقة الإنسان بغيره من الناحية المالية فقال سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (٢٩).
ولقد كانت العلاقة بين الرجل والمرأة موضع نظر الماضين كما هي الآن موضع النظر والقول، فوضع الله سبحانه وتعالى الحدود التي تبين حقوق كليهما، فبين الله سبحانه وتعالى أن لكل منهما نصيبه من الكسب (... لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ ممَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا). وبين مع ذلك أن للرجال فضل الرياسة والقوامة، وأن ذلك يظهر فيما للرجل على امرأته من ولاية التأديب، وقد ذكر سبحانه ضروب التأديب التي يملكها الرجل على زوجه، وكلها من غير قسوة ولا شذوذ ولا طغيان، ثم بين سبحانه العلاج إذا أصابت الأسرة آفة الشقاق، فقال سبحانه
1564
وتعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (٣٥).
وبعد أن بين سبحانه ماهو قوام الأسرة وعمادها - وقد أشار إلى العلاقات المالية بين الناس، وأن أساسها التراضي - أخذ سبحانه وتعالى يبين لنا العلاقة بين العبد وربه، والعلاقة بين العبد والناس بغير التجارة، فَأما العلاقة بين العبد وربه فهي العبادة لله وحده، لَا يشرك به أحدا، وأما العلاقة بينه وبين الناس فهي الإحسان، وأول من يجب له الإحسان الوالدان، ثم الإحسان إلى ذوي القربى واليتامى أيَّان كانوا؛ لأنهم إن أهملوا تربت بينهم وبين المجتمع روح العداوة، ثم الإحسان إلى الجار المجاور، والجار القريب لك، ومن تصاحبه في طريق أو عمل، والإحسان إلى ابن السبيل والضعفاء جميعا، والتضامن والتواضع، ولذا قال تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (٣٦).
وبين سبحانه التلازم بين الاختيال والفخر والبخل، وبين عاقبة كليهما، وذكر أن من المختالين البخلاء من ينفقون أموالهم رئاء الناس، وأن هذه العيوب النفسية هي من وسوسة الشيطان، وبين سبحانه وتعالى عقاب هؤلاء في الدنيا والآخرة وكيف يحضرون يوم القيامة: (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (٤٢).
وقد بين سبحانه وتعالى الأساس الذي تقوم عليه العلاقة الإنسانية، وهو الضمير، والضمير لَا يتربى إلا بالصلاة، ولذلك أخذ يشير إلى أحكامها، مشيرا إلى تحريم أم الخبائث وهي الخمر، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا...).
1565
ثم بين سبحانه حال أولئك الذين ماتت ضمائرهم مع ما أُوتُوه من علم الكتاب، وهم اليهود، فقد اتخذوا منه ذريعة للسلطان والسيطرة، وبذلك عملوا على إضلال غيرهم، وإفساد عقائد مَن كانوا يجاورونهم، وبين في هذا محاولتهم إيذاء النبي والتهكم عليه في دعوته، وفي أثناء بيان رسالته، وربط سبحانه وتعالى حاضرهم بماضيهم، وأشركهم سبحانه مع المشركين في قرن، وقد بين سبحانه أن الباعث على هذا الضلال والتضليل هو إرادتهم الملك والحسد، ولذا قال سبحانه: (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (٥٣) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (٥٤).
وبين سبحانه من بعد ذلك عاقبة الذين يكفرون بآياته سواء أكانوا ممن أُوتوا الكتاب من قبل أم كانوا من المشركين. وقابل هذه العاقبة بما أفاضَهُ الله - تعالى - من نعيم أُخرَوي على المؤمنين.
وقد بين سبحانه وتعالى من بعد ذلك أساس الحكم الإسلامي، فذكر أنه العدل والأمانة، وأن أمثل طريق لتحري العدل والأمانة هو إطاعة الله ورسوله، وأن الحاكم عليه أن يردَّ كل تنازع إلى حكم الكتاب والسنة، وأن التحاكم إلى غير كتاب الله تعالى وسنة رسوله تحاكم إلى الطاغوت، وأن المنافق هو الذي يرتضي حكم الطاغوت بدل حكم الله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا)، وقد بين أن أمارة الإيمان هو تحكيم الكتاب والسنة (فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
وإن الحق يجب أن ينصر، وإن المؤمن لَا يصح أن يستسلم للاعتداء، وإذا كان العدل وأداء الأمانة وإطاعة الله ورسوله أساس الحكم الإسلامي، فإن العدل مع المخالفين هو أساس العلاقة بين المسلمين وغيرهم، وإن القتال إذا كان العدل يستوجبه يكون أمرا لازما، فإذا اعتُدِي على الإسلام وأهله وجب القتال، ووجب أخذ الأهبة، وكان الحذر من الأعداء بقتالهم: (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ
1566
الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (٧٤) وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (٧٥).
وإن الخروج للقتال هو العلاقة المميزة بين أقوياء الإيمان وضعفاء الإيمان ومنهم المنافقون، فهؤلاء وأولئك يقولون: (... لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ...). وشأن الضعاف أن يزيلوا عن أنفسهم مظنة التقصير، وينسبوا ما يصيبهم من سيئة لغيرهم، وينكروا فضل ذوي الفضل: (... وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (٧٨).
وإن أولئك يخالفون الرسول، فالله سبحانه أكد لهم أن من يطع الرسول فقد أطاع الله، وأن ذلك كله من هجرهم لأوامر القرآن، وعدم تدبرهم لإعجازه ومراميه، وأن عليهم أن يردوا ما يستغلق عليهم فهمه إلى سنة الرسول وإلى العلماء منهم.
وإن أولئك المنافقين معوِّقون، ولذا أمرالله نبيه بألا يلتفت إليهم: (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِين كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا).
وقد بين سبحانه أن المعاملة بالمثل هي أساس الإسلام، وأن الجزاء مجانس للعمل دائما، والله سبحانه وتعالى سيجمع الناس جميعا يوم القيامة.
وقد ذكر سبحانه وتعالى ما ينبغي أن يعامل به المنافقون الذين هم كالداء الوبيل في جسم الأمة، فبين الله سبحانه وتعالى أن يعاملوا باحتراس ولا يتخذوا نصراء ولا أولياء، فلا تتخذوا منهم أووصاء حتى يخلصوا في دين الله تعالى، وإذا
1567
خرجوا من دياركم أيها المؤمنون فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا. إلا إذا لجأوا إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق، أو قوم ليس بينكم وبينهم حرب ولا يريدون أن يحاربوكم، فإن قاعدة الإسلام احترام المواثيق، وأن من سالم أهله لَا يرفع عليه سيف، ولذا قال سبحانه وتعالى: (.... فَإِن اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّه لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً). وإذا كان العدل هو أساس الحكم الإسلامي، وأساس العلاقات الإسلامية، فإن من الواجب أخذ الجاني بجريمته، ولذلك اتجه إلى بيان ما ينبغي لحماية الأنفس في الداخل بعد أن بين طريق حمايتها في الخارج، وهذا بالقتال، وكانت الحماية في الداخل بالعقوبات المقررة الثابتة في الإسلام، فذكر عقوبة القتل الخطأ من المؤمنين أو من قوم بيننا وبينهم ميثاق، ثم ذكر عقوبة القتل العمد الأخروية لأنه ذكر القصاص في سورة البقرة، وقال سبحانه: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ...).
وبهذا بين الله سبحانه احترام الإسلام لحق الحياة، ولذلك لَا يُطل دم (١) في الإسلام، وهو لَا يحترم حق الحياة للمسلمين فقط، بل يحترمها للناس كافة إلا في حال الاعتداء، ولذلك أمر بالاحتراس في الحرب من أن يقتل غير مقاتل، أو يحارب غير محارب، وأمر المؤمنين عند القتال والخروج إليه ألا يقتلوا من يلقى السلام، فقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (٩٤).
وإن العدل لَا تقوم أركانه في الأرض إلا بأمرين: أحدهما: استعداد أهل الحق لدفع شر الأعداء للحق، وإن للمجاهد فضلا على من لم يجاهد، ولذا قال
________
(١) أي: لَا يُهدَر.
1568
سبحانه: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً...).
الأمر الثاني: ألا يرضى مؤمن بالبقاء في ذلة تحت سلطان عدو الله وعدو الحق، بل عليه أن يهاجر من أرض الذلة، ولذا قال سبحانه: (إِنَّ الذِينَ تَوَفَاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِروا فِيهَا...).
وقد بين سبحانه وتعالى وجوب الهجرة على القادر عليها، وفضلها.
وإن الجهاد فريضة محكمة، والصلاة ذكر الله، ولذلك لَا تسقط فريضة الصلاة في الجهاد، بل هي واجبة، ولها نظام خاص يلتقي فيها الجهاد مع أداء الصلاة جماعة بإمام واحد، فيبتدئ الإمام مع فريق والآخر يحرس الجماعة المجاهدة من الغارة، حتى إذا كان نصف الصلاة ذهب الذي ابتدأ معه للحراسة، وجاء الذي لم يبتدئ، وأتم الإمام صلاته معه، ثم يكمل كل ما فاته. وله فضل الجماعة.
وإن الصلاة قد اتخذت منها قوة معنوية، ولذلك أمرهم بالثبات بعد الصلاة، فقال سبحانه: (وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (١٠٤).
وإن النبي - ﷺ - في جهاده إنما يجاهد للحق، وهو الحكم العدل، ثم بين سبحانه وتعالى العدو الداخلي وهو النفاق والمنافقون، وكيف كان - ﷺ - لَا يكشفهم ولا يظهرهم، فيقول سبحانه: (وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (١٠٧) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (١٠٨)، وبين سبحانه عدله الكامل، ورحمته الشاملة، أما عدله فبجعله الجزاء موافقا للعمل (وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ...).
1569
وأما الرحمة فبفتحه باب التوبة وباب المغفرة (وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا). وإن الفضلِ والرحمة والعدالة فيما أنزل سبحانه: (... وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا).
وقد بينِ سبحانه أن الاستخفاء بالأقوال والأفعال عن الرسول أكثره لَا خير فيه: (لا خَيْر فِي كَثِيرٍ من نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ...)، فالنفاق استخفاؤه ضلال، والإيمان استخفاؤه إصلاح، ونفع، ثم بين أن الموالاة بين المنافقين والمشركين مشاقة لله ورسوله، (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (١١٥)
ولقد بين الله سبحانه وتعالى دعوة الله تعالى ودعوة الشيطان. فدعوة الله تعالى إلى تحكيم العقل، ودعوة الشيطان إلى الضلال والغواية، فالشيطان يدعو إلى تقطيع آذان الأنعام، وتغيير خلق الله، ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا، وبين عاقبة المتبعين لله ولرسوله، وعاقبة المتبعين لأهوائهم، وكيف يرجون الخير ولا يعملون إلا الشر، وهي أماني كاذبة (وَمَنِ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ولا يُظْلَمًونَ نَقِيرًا)، وقد أشار سبحانه إلى أحسن الأديان، وهو الاتجاه إلى الله وحده وإحسان العمل، واتباع النبيين.
وإن الإسلام هو القسط، وقد اتجه سبحانه إلى إصلاح الأسرة بمنع الظلم عن المرأة، فإن شكَتْ مِنْ زوجها نشوزا عالجته هي بالإصلاح، فإن لم تجد استعانت بمن يصلحه من أقارب، وإن لم يجد إصلاحا (وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِّن سَعَتِهِ...)، وإن تقوى الله في كل الأعمال هي المطلوبة، وهي التي تصلح النفوس. ولذلك صرحت الآيات الكريمة بأنها أمر الله الدائم إلى يوم القيامة، أمر به من سبقوا ومن لحقوا.
1570
وبعد هذا بين سبحانه وتعالى أمره الخالد، وهو العدالة المطلقة التي لا تعرف وليا ولا عدوا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا...).
وأمر بعد ذلك سبحانه بالإيمان بالله ورسوله، وبهذا يشير إلى أن العدالة قرين الإيمان.
وبعد هذا البيان الرائع الذي يصور حقيقة الإيمان وعماده أخذ يصور حقيقة النفاق والمنافقين تصويرا قرآنيا، وإن أدق صورة بيانية للنفاق والمنافقين قوله تعالى: (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا). والله سبحانه برحمته التي وسعت كل شيء يفتح باب التوبة حتى للمنافقين ثم يقول: (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا). أدبنا سبحانه وتعالى أدبا عاليا، وهو منع الجهر بالسوء؛ لأن الجهر به دعوة إليه، ولكن رخص للمظلوم أن يتكلم في ظالمه بالحق (لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا)، وقد بين سبحانه بعد ذلك أحوال اليهود، فقد فرقوا بين الرسل، آمنوا ببعض وكفروا ببعض، وقد بين تعنت الماضين، مع أنهم أُوتُوا تسع آيات بينات، ومع ذلك طلبوا أن يَروُا الله جهرة، ثم اتخذوا العجل إلهًا من بعد ما جاءتهم البينات، ورفع الجبل فوقهم وأُخِذت عليهم العهود الموثقة، وأُمِروا ألا يَعْدُوا في السبت، ومع كل هذا خالفوا، فطبعت قلوبهم على القسوة، وعقولهم على الإنكار، والبينات تجدي طالب الهداية فقط ولم يطلبوها، وقد استمروا على افترائهم فافتروا على مريم البتول، وادعوا أنهم قتلوا المسيح (... وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّة لَهُمْ...).
وبهذا الظلم وتلك القسوة والجشع المادي حرم الله عليهم طيبات أحلت
1571
لهم؛ ليفطم نفوسهم - وليسوا جميعا سواء؛ ولذلك ذكر الله تعالى الراسخين في العلم منهم ومقامهم من الحق والإيمان بهم.
ولقد بين سبحانه وحدة الرسالة الإلهية، فما أوحي إلى النبي هو ما أوحي إلى الأنبياء قبله، وإن الله يشهد والملائكة يشهدون بصدق ما جاء به، وإن الكافرين صدوا عن سبيله وضلوا وطريقهم إلى جهنم. ثم بين سبحانه ضلال أهل الكتاب، فقد غالوا في أنبيائهم، فقال النصارى: الله ثالث ثلاثة! وذلك ليس الحق (لَن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِّلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ...).
ثم بين سبحانه وتعالى أن القرآن حجته فيه، فقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ من رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا).
وقد ختم سبحانه وتعالى السورة بما ابتدأ به، وهو أمر بعض أحكامِ الأسرة، لبيان أن الأسرة هي حمى المجتمع وموضع صيانته، فقال سبحانه: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٧٦).
هذه إشارة موجزة إلى ما اشتملت عليه السورة التي تعلو بالإنسانية إلى أعلى مراتبها، قدمناها بين يدي تفسيرها ليكون التفسير تفصيلا لهذه الإشارات، والله تعالى هو الذي يمدنا بعونه وتوفيقه. إنه هو الحكيم العليم.
* * *
1572
معاني السورة الكريمة
قال تعالى:
* * *
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (١) وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (٢)
* * *
قلنا في الاستعراض الذي ذكرناه لسورة النساء: إنها سورة المجتمع الإنساني، وتنظيم العلاقات بين الآحاد والجماعات والدول، فهي تنظم الأسرة، والمجتمع الصغير، والمجتمع في الأمة الإسلامية، وحالها في الدفاع عن نفسها، ودفع عناصر الفساد فيها، وتنقيتها من كل بواعث السوء، وعلاقتها بغيرها ممن ألقوا السلم، وممن نابذوها العداوة. ولذلك كان ابتداؤها بهذا النص السامي الشامل في معناه، فقال سبحانه:
1573
Icon