تفسير سورة الرّوم

التفسير الواضح
تفسير سورة سورة الروم من كتاب التفسير الواضح .
لمؤلفه محمد محمود حجازي .

سورة الروم
مكية، وعدد آياتها ستون آية: وهي تدور حول إثبات أن الأمر لله من قبل ومن بعد، مع ذكر بعض صفات الله الواجبة له، وتهديد المشركين، وبيان أن الإسلام دين الفطرة، وبيان طبيعة الإنسان، ويلاحظ فيها ذكر الآيات الكونية الدالة على العلم والقدرة والوحدانية كثيرا.
من أخبار الغيب [سورة الروم (٣٠) : الآيات ١ الى ٧]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤)
بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥) وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (٧)
المفردات:
الم فيها ما مر في أخواتها من حيث القراءة والمراد الرُّومُ: هي مملكة الرومان وعاصمتها القسطنطينية فِي أَدْنَى الْأَرْضِ المراد أقرب الأرض إلى العرب من جهة الشام مما يلي فارس فِي بِضْعِ سِنِينَ البضع: ما بين الثلاثة إلى التسع من السنين.
13
نزلت هذه الآيات عند ما غزا الفرس الرومان، وغلبوهم في مشارف الشام مما يلي بلاد العرب، ففرح بذلك مشركو العرب إذ قالوا: إن الفرس لا كتاب لهم مثلنا، والرومان لهم كتاب مثلكم لأنهم من النصارى، ولننتصرن عليكم كما انتصر الفرس فحلف أبو بكر بعد نزول الآية أن الرومان سيغلبون الفرس بعد هزيمتهم هذه، فقالوا له: اجعل لنا موعدا ونراهنك على ذلك، فضرب موعدا بسيطا، ثم استشار النبي صلّى الله عليه وسلّم
فقال له: زد في الرهان ومد الأجل فإن البضع من ثلاث إلى تسع.
ففعل وانتصر الرومان في السنة التاسعة، وأخذ أبو بكر الجعل، وتصدق به.
المعنى:
الم. غلبت الفرس الروم، ولكن الروم من بعد غلبهم وهزيمتهم سيغلبون الفرس، وذلك في بضع سنين، وتلك الأيام نداولها بين الناس، وكانت هاتان الدولتان هما المسيطرتان على العالم في ذلك الوقت، إحداهما في الشرق وهي فارس والأخرى في الغرب وهي الروم، وقد كانتا تتنازعان على السيادة على بلاد لستام وغيرها.
ولله الأمر كله من قبل هذا ومن بعده، إذ الكل منه وإليه، فلو كان الانتصار عن قوة ذاتية لما تخلف، ولو كانت الهزيمة عن ضعف ذاتى لما تخلفت، ولكنها إرادة الله وقدرته، فاعتبروا يا أولى الأبصار! فلا تغرنكم قوتكم يا قريش ولا تستهينوا بقوة المسلمين على ضعفهم، فلله الأمر من قبل ومن بعد، وأما أنتم أيها المسلمون فثقوا بالله واعتمدوا عليه، وتوكلوا فهو نعم المولى ونعم النصير.
ويومئذ ينتصر الروم وهم أهل الكتاب على فارس الوثنية يفرح المؤمنون لتحقق وعد الله، إنه ينصر من يشاء، وهو العزيز يعز أولياءه بقوته وقدرته. الرحيم بخلقه لا يدع القوى يتحكم في الضعيف.
وعدهم الله وعدا، ووعده لا يتخلف، وكيف يتخلف؟ وهو وعد من هو عالم بالأمور بواطنها وظواهرها، قادر على كل شيء، وله الأمر من قبل ومن بعد، فثقوا أيها الناس بوعد الله فإنه متحقق لا محالة، وما يحصل لكم أيها المسلمون فهو ابتلاء واختبار، وتربية وتهذيب وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ [آل عمران ١٤١]
14
ولكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك، وهم يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا، أى:
يعلمون جانبا ظاهريا فقط في الدنيا، وهو التمتع فيها مع الغرور بها وهم لا يعلمون بواطنها وأسرارها وحقيقتها، على أنها طريق الآخرة ومزرعتها، وأنها فانية غير باقية وبعضهم يفسر الآية على أن أكثر الناس لا يعلمون العلم النافع المفيد، العلم المنجى من يوم القيامة وعذابه، ولكنهم يعلمون علوم الدنيا الظاهرة، العلوم المادية التي بها يستخدمون الدنيا وما فيها من عناصر.
وهم عن الآخرة وما فيها من أهوال الحساب والجزاء، وما أعد فيها للصالحين والفاسقين من نعيم مقيم، وعذاب مهين. هم عن هذا كله غافلون لم يعملوا لذلك أبدا.
لفت أنظار المشركين وتهديد لهم [سورة الروم (٣٠) : الآيات ٨ الى ١٦]
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (٨) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١١) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (١٢)
وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (١٣) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (١٦)
15
المفردات:
وَأَثارُوا الْأَرْضَ: حرثوها وزرعوها السُّواى: مؤنث الأسوأ، والمراد بها النار يُبْلِسُ أبلس الرجل: إذا سكت وانقطعت حجته، ولا يؤمل أن تكون له حجة، والمبلس: الساكت المنقطع في حجته، اليائس من أن يهتدى إليها رَوْضَةٍ الروضة: الجنة، وأصلها النبات حول الغدير من البقول يُحْبَرُونَ: ينعمون ويسرون، من الحبور وهو السرور.
ما سبق يفيد أنهم ينكرون ما يجب لله بإنكار تحقيق وعد الله. وأنهم ينكرون اليوم الآخر لأنهم عن الآخرة غافلون، وفي هذا بيان أن ذلك الجهل والتقصير وعدم وضع الأمور في نصابها راجع لهم، وإلا فأسباب العلم الصحيح والفكر السليم الموصل إلى الحقائق الواجبة لله موجودة معهم، بل هي في نفوسهم وما حولهم.
المعنى:
أعموا ولم يتفكروا في أنفسهم من الذي خلقها فسواها؟ ومن الذي قدرها فهداها؟
أو لم يتفكروا في أنفسهم، وما انطوت عليه من دقائق ودلائل شاهدة على أن هذا الخلق خلق الله، وأن هذا التركيب العجيب تركيب الخبير البصير القوى الحكيم، إنك إن نظرت في نفسك إلى جهاز الإحساس لرأيت عجبا، أو إلى جهاز الدورة الدموية، وكيف تخرج من القلب ثم تتفرع إلى فروع فشعيرات تصل إلى جميع أجزاء الجسم ثم تتجمع ثانية في شعيرات ثم في فروع إلى القلب والرئة لتصهر وتخرج نقية نظيفة صالحة
16
للحياة، وهكذا وهكذا من ذلك كثير كما يعرفه علماء الطب والتشريح، ولقد صدق الله حيث يقول: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [سورة الذاريات آية ٢١].
أو لم يتفكروا في أنفسهم، وهي أقرب الأشياء إليهم فيعلموا أن خلق السموات والأرض وما فيها لا يمكن أن يكون إلا وفق حكمة الحكيم وتدبير الخبير البصير وأنه لا بد لهذا الكون من آخر، وله نهاية ينتهى إليها للحساب والعقاب، وأنه لا يعقل أبدا أن يخلق عبثا إلا لحكمة أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون ١١٥].
وقيل: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ معناه: أو لم يحدثوا التفكير في أنفسهم وفي قلوبهم الفارغة الخالية من الفكر والتفكير فيعلموا أنه ما خلق السموات والأرض إلا بالحق، أى: ما خلقهما باطلا وعبثا بغير غرض صحيح، وحكمة بالغة، وإنما خلقهما خلقا مقرونا بالحق مصحوبا بالحكمة، والتقدير إلى أجل مسمى عنده، ينتهى إلى قيام الساعة.
وإن كثيرا من الناس بعد هذا كله بلقاء ربهم لكافرون وجاحدون.
ثم انتقل بعد هذا إلى الدلائل المحسوسة والشواهد الناطقة بهلاك أمثالهم ومن هم أشد منهم قوة وأكثر مالا، وإثارة للأرض حتى عمروها لعلهم يعتبرون.
أو لم يسيروا في الأرض فينظروا إلى آثار من قبلهم من عاد وثمود وغيرهم من الأمم العاتية وقد كانوا أشد من كفار مكة قوة في المال والرجال! وكانوا أصحاب زرع وضرع، وعمارة وبناء، وقد عمروا الأرض أكثر مما عمرها العرب، وقد جاءتهم رسلهم بالبينات، وأمروهم بالمعروف، ونهوهم عن المنكر، فلما كذبوا رسلهم أخذهم ربك أخذ عزيز مقتدر وما كان الله ليظلمهم، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
ثم كان عاقبة الذين أساءوا هي السوأى، أى: أن ما تقدم من الهلاك كان عقابا لهم في الدنيا، وأما في الآخرة فلهم السوأى، أى: جهنم، لأنهم كفروا برسلنا وكذبوا بآياتنا، وكانوا بها يستهزئون، فانظروا يا آل مكة إلى أنفسكم، فأنتم أولى بالهلاك في الدنيا والعقاب الشديد في الآخرة فهل من مدكر؟؟
ولا غرابة في ذلك فالله يبدئ الخلق ثم يعيده، ثم إليه ترجعون، واذكروا يوما ترجعون فيه إلى الله، ويبلس فيه المجرمون، من شدة الأهوال فيسكتون وتنقطع عنهم
17
الأخبار، ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء يشفعون لهم أو يردون عنهم عذابا أو ألما، وكانوا بشركائهم وآلهتهم كافرين في ذلك اليوم.
ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون فمنهم شقي، ومنهم سعيد.
فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة من رياض الجنة فيها يحبرون ويسرون سرورا أبديّا بما يؤتون فيها من نعم مقيم، ولهم فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، ولهم فيها ما يدعون فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [سورة السجدة آية ١٧] ورضوان الله أكبر.
وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب مقيمون، كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها، وقيل لهم: ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون.
أوقات التسبيح والعبادة [سورة الروم (٣٠) : الآيات ١٧ الى ١٩]
فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١٩)
المفردات:
فَسُبْحانَ: علم على التسبيح، وهو التنزيه، وقيل: هو الصلاة تُمْسُونَ: تدخلون في المساء وهو انتشار الظلام وَعَشِيًّا العشى والعشية: من صلاة المغرب إلى العتمة، وقيل: العشاء: آخر النهار عند ميل الشمس إلى المغيب، وهو مأخوذ من عشا العين وهو نقص النور من الناظر، وذلك هو وقت العصر.
18
لما بين الله- سبحانه- أن المقام الأعلى لمن آمن وعمل صالحا حيث قال: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ قال: إذا علمتم ذلك فاعلموا أن الإيمان تنزيه بالجنان، وتوحيد باللسان وعمل صالح يشمل جميع الأركان، وكل هذا تنزيه وتقديس، وتحميد وتسبيح، فسبحان الله، أى: فسبحوا الله تسبيحا، علمه سبحان الله وهو بهذه المعاني إيمان وتوحيد وعمل- فإنه الموصل إلى الحبور، والجالب للسرور في جنان الخلد والنعيم.
سبحوه حين تمسون، وحين تصبحون، وفي العشى وحين تظهرون، عن ابن عباس- رضى الله عنه-: «الصلوات الخمس في القرآن» قيل له: أين؟ فقال: «قال الله: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ صلاة المغرب والعشاء وَحِينَ تُصْبِحُونَ صلاة الفجر وَعَشِيًّا صلاة العصر وَحِينَ تُظْهِرُونَ صلاة الظهر» ولعل تخصيص هذه الأوقات للعبادة إشارة إلى ما يجب عمله في تحصيل المعاش وجلب الرزق فالإسلام دين الجد والعمل لا دين الرهبانية والكسل.
ولله الحمد- سبحانه وتعالى- في السموات والأرض، نعم له الحمد من كل مخلوق، وهذه الجملة معترضة بين الأوقات للإشارة إلى أن هذا التسبيح لله في الصلاة إنما هو لأصحابه وألا يعود منه شيء على الله، فعليهم أن يحمدوه حمدا يوازى نعماءه وهدايته.
والله- سبحانه وتعالى- يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، ويحيى الأرض بالنبات بعد موتها وجدبها، ومثل ذلك الإخراج والانتقال من حال إلى حال مخالفة تخرجون وتبعثون من موت وفناء إلى حياة خاصة للثواب والعقاب.
وعلى هذا فالمراد بالتسبيح في الآية ما يعم الصلاة والتنزيه لله عن صفات النقص ووصفه بصفات الكمال والجلال، ولا شك أن الصلاة عماد ذلك الدين وعموده.
ولعل المناسبة بين هذه الآية والآية التي قبلها أن الإنسان في الصباح يخرج من الموت الأصغر وهو النوم إلى الحياة، فكذلك تبعثون من الموت إلى الحياة الآخرة.
وعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من سرّه أن يكال له بالقفيز الأوفى فليقل: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (الآية).
19
بعض آيات الله الناطقة بقدرته ووحدانيته [سورة الروم (٣٠) : الآيات ٢٠ الى ٢٧]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (٢٠) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (٢٢) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٢٣) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٤)
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (٢٥) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (٢٦) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧)
20
المفردات:
تَنْتَشِرُونَ أى: منتشرون في الأرض تبتغون من فضل الله لِتَسْكُنُوا إِلَيْها يقال: سكن إليه إذا مال إليه مَوَدَّةً وَرَحْمَةً قال السدى: المودة والمحبة والرحمة:
الشفقة الْبَرْقَ: هو الشرارة الكهربائية التي تظهر في الجو وخاصة عند السحب، وينشأ عنها الرعد قانِتُونَ: مخلصون في طاعته الْمَثَلُ الْأَعْلى: الصفة العليا.
وهذه بعض آيات الله الناطقة بوحدانية الله تعالى، الشاهدة بربوبيته، وأنه لا إله إلا هو، وأنه لا يستحق العبادة والتقديس سواه، وهذا كدليل على ما سبق من قوله فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ.. (الآية).
وقد ذكر الله- سبحانه وتعالى- في هذه الآيات بدء خلق الإنسان، وعمارته للأرض وبقاءه فيها بخلق الذكر والأنثى، ثم ذكر من مظاهر الكون السماء والأرض، ثم ذكر من لوازم الإنسان اختلاف ألسنته وألوانه، ومن عوارضه النوم والسعى في الرزق، ثم ذكر من عوارض السماء والأرض البرق والمطر، ومن لوازمهما قيامهما، وإنا نرى أن الله- سبحانه وتعالى- ذكر لفظ (ومن آياته) ست مرات جمع فيها بين بدء خلق الإنسان ونهايته خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ.. إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ.
المعنى:
ومن آياته الدالة على ربوبيته ووحدانيته أن خلقكم من تراب، على معنى أنه خلق أبانا من تراب، ثم خلق أبناءه من ماء مهين، ولنا أن نتوسع ونقول: نحن جميعا مخلوقون من تراب: أما أبونا آدم فظاهر فيه ذلك بنص القرآن الكريم، وأما ذريته فهم من ماء مهين، وهذا الماء من الدم، والدم من الغذاء. والغذاء يرجع في جملته إلى النبات، والنبات من الأرض، فتكون النتيجة أنا خلقنا من تراب، فإذا عبر القرآن بخلق البشر من التراب فهذا هو الأصل والأساس، وإن عبر بأنه خلقنا من ماء مهين فهذا هو الظاهر في ذرية آدم.
خلقكم من تراب يابس جاف لا حياة فيه ولا نمو ولا حركة ثم مع هذا كله إذا أنتم بشر أحياء عقلاء مفكرون تتصرفون في قوام معايشكم، وعمارة أرضكم، واستخدام
21
قوى الطبيعة لخدمتكم، أليس الله القادر على هذا كله بقادر على أن يحيى الموتى؟ بل إنه هو الواحد الأحد، القادر المنفرد بالألوهية! وانظر إلى تصوير القرآن ذلك التصوير العجيب المستفاد من قوله: (ثم إذا..) فإن كوننا بشرا يأتى بعد أطوار ذكرت في سورة المؤمنون وغيرها ولذا أتى بثم المفيدة للترتيب والمهلة فإنه بعد أطوار النطفة والعلقة إلى آخر ما مر فاجأ بالبشرية والانتشار.
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها، وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [سورة الروم آية ٢١].
نعم من آياته أنه خلق لكم من أنفسكم نساء أنتم وهن سواء في البشرية والآدمية وفي الطباع العامة والغرائز، خلقهن الله بهذا الوصف لتسكنوا إليهن، فإن النفس ميالة إلى ما يوافقها ويلائمها ويلتقى معها في الغرض العام، وهذا معنى قوله: من أنفسكم.
والإنسان الذي يجتمع مع المرأة في الحلال يدرك بوضوح معنى السكنى إليها والميل لها، والهدوء النفسي عند ما يزورها، ومن هنا سمى المكان الذي يلتقى فيه الرجل بالمرأة سكنا ومسكنا لأن فيه تسكن النفس وتهدأ، ويطمئن الرجل، ويستريح من وعثاء الطريق ومشاق الحياة الكادحة، وفي
الحديث «إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتّى تصبح».
وجعل بينكم مودة ومحبة، وصلة روحية قوية قد تفوق في غالب الأحيان صلتك بأقرب الناس إليك، والشرع الشريف يلاحظ هذا جيدا في تقدير الميراث والنفقات والمخالطة الداخلية، والإسرار إلى الزوجات بذات الصدور.
وجعل بينكم رحمة وشفقة، وعطفا عميقا، ليس مصدره الغريزة الجنسية والاتصال المادي، بل مبعثه اختلاط الأرواح، واتصال النفوس، والاجتماع لغرض واحد وبناء عش الزوجية على أسس كريمة، ودعائم قويمة هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ [البقرة ١٨٧].
إن ذلك لآيات ناطقة بوحدانية الله، وقدرته وحكمته. وأنه بصير، ولكنها آيات لقوم يتفكرون، لأن الفكر السليم يؤدى إلى الوقوف على تلك المعاني الحية في الحياة الزوجية، هذه يا أخى الحياة الزوجية الصالحة التي يمتن الله بها على عباده، أما ما يحدث من بعض الناس فهذا شيء لا يتحمله الدين، وليس عنوانا على الإسلام.
22
ومن آياته خلق السموات والأرض: وما فيها من عوالم لا يعلمها إلا خالقها، ومن آياته كذلك اختلاف ألسنتكم في اللغات واللهجات، إذ كل سكان العالم من أصل واحد، ومن أبناء رجل واحد وامرأة واحدة، فمن الذي أوجد اختلاف اللغات واللهجات؟! إنهم يقولون: إن اللغة في الإنسان نشأت لمحاكاته للأصوات التي يسمعها في بيئته، وهذا معقول وجميل، ولكن الذي أودع في الإنسان قوة المحاكاة، وفي الطبيعة تلك الأصوات المختلفة أليس هو الله؟! ومن هنا تدرك السر في اقتران اختلاف الألسنة والألوان بخلق السموات والأرض.
ومن آياته اختلاف الألوان والاتجاهات والمعاني النفسية والخلقية في كل نفس، وهذا الاختلاف يكون بين أبناء الرجل الواحد الذين عاشوا في بيئة واحدة.
إن في ذلك كله لآيات للعالمين بأسرار الكون سمائه وأرضه علويه وسفليه، ونظام الجماعات والأفراد والعلماء بعلوم الاجتماع واللغات والأخلاق، وليس القرآن يخاطب بذلك الفلاسفة وحدهم. لا بل هو خطاب عام، ولكن فهم تلك الآيات فهما واسعا دقيقا إنما هو للعلماء، ولا يمنع أن غيرهم يدرك إدراكا متناسبا مع قواه، ولعل هذا هو السر في قوله تعالى عند خلق الإنسان وخلق الزوجات.. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وهنا.. قال: للعالمين.
ومن آياته نومكم بالليل والنهار، وابتغاؤكم من فضله، وتصرفكم في طلب المعيشة بإرادته، نعم من آياته النوم بالليل والنهار. ولا شك أن النوم موت أصغر، وأن هذه الحساسية والتفكير والإدراك تختفى عند النوم الذي يلقى فيه الإنسان بنفسه بين أحضانه فيترك الدنيا ويستريح جزءا من الوقت يكون فيه أشبه بالميت ثم يعود ثانية إلى الحياة نشيطا مجدّا بلا كسل ولا ملل يبتغى من فضل الله ويسعى لجلب الرزق، فهذه القوى العقلية، وأجهزة الإدراك أين ذهبت حساسيتها؟ وكيف تعود؟ إن في ذلك لآيات شاهدة على الألوهية ولكن لقوم يسمعون القول فيتبعون أحسنه.
ومن آياته يريكم البرق الخاطف الذي يظهر بين السحب المتراكمة المحملة بالماء والذي يبهر الأنظار، أى: يجعلكم ترون البرق خائفين من صواعقه وأمطاره الضارة طامعين في خيره وبره، والله- سبحانه- هو الذي يعلم الضار والنافع، وهو الذي
23
خلق الخلق على أوضاع: فمنهم من يخاف المطر، ومنهم من يرجوه، وسبحانه من أودع في كل قلب ما أشغله! وهو ينزل من السماء ماء فيحيى به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يستخدمون عقولهم في إدراك تلك الحقائق الكونية، وكيف توجد النار وسط السحب، والنباتات في الأرض القاحلة، فلا غرابة أن توجد حياة بعد الموت والفناء.
ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره، فهو وحده الذي حكم بهذا، وهو الذي رفع السماء وبسط الأرض وحملهما بقدرته، وصيرهما بإرادته وأمره الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها [سورة الرعد آية ٢].
ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض، أى: وأنتم فيها، كما نقول: دعوته من أعلى البيت فنزل إلى.. تجيبون بلا مكث ولا انتظار كما يجيب الداعي الطائع من دعاه، وليس هنا أطوار ولا انتقالات في الخروج من القبور، بل بعث بسرعة وبلا مهلة ولذا لم يأت هنا بثم فقال: إذا أنتم تخرجون من قبوركم للبعث والحساب والثواب والعقاب.
وله من في السموات والأرض ملكا وخلقا وعبيدا وتصريفا، كل له قانتون ومخلصون في طاعته إن طواعية وإن كرها، فكيف بكم يا من تنكرون البعث وتستبعدونه ظنّا منكم أن الحياة بعد العدم ونفق الأجزاء ضرب من المحال إنه الذي يبدأ الخلق ثم بعد ذلك يعيده فهو أهون عليه بالنسبة لحكمنا العادي في الأمور العادية، وأما بالنسبة لله- سبحانه وتعالى- فكل شيء هين إذ قدرته شاملة، وله- سبحانه وتعالى- كل شيء.
وله المثل الأعلى والصفة الكاملة التي تتلخص في وصفه بكل كمال، وتنزهه عن كل نقص، وفي أنه لا إله إلا هو في السموات، والأرض، وهو العزيز في ملكه لا يعجزه شيء من خلقه، الحكيم في صنعه، خلق فسوى وقدر فهدى، سبحانه هو الله لا شريك له.
والله- سبحانه وتعالى- قد وصف السموات والأرض على ألسنة الخلق، وبأقلام الحق، وبنطق الآيات الكونية فيهما على أنه هو القادر الذي لا يعجزه شيء من بدء وإعادة، القاهرة فوق عباده لا راد لقضائه، الحكيم الذي يجرى كل شيء في الكون على مقتضى حكمته، ووفق علمه وإرادته، فحقّا: له المثل الأعلى في السموات والأرض.
24
المثل من أنفسكم [سورة الروم (٣٠) : الآيات ٢٨ الى ٢٩]
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٨) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٩)
المفردات:
مَثَلًا: صفة غريبة تشبه المثل في الغرابة نُفَصِّلُ: نوضح ونبين.
بعد ما ظهرت الآيات الناطقة بالوحدانية والقدرة في الإنسان وأطواره، وهذا الكون العجيب وأحواله، وثبت بهذا أنه له المثل الأعلى والصفات الجلى التي منها الوحدانية وغيرها. ضرب مثلا لهؤلاء المشركين حيث أشركوا بالله خلقا من خلقه كشف به سترهم، وقوض به حجتهم، وكان المثل في أقرب شيء لهم وهي نفوسهم.
المعنى:
ضرب الله لكم مثلا وانتزعه من أنفسكم التي هي أقرب شيء لكم: هل ترضون أن يكون لكم أيها المشركون شركاء فيما رزقناكم؟ وهؤلاء الشركاء من المملوكين لكم كالعبيد والأرقاء مثلا؟ هل لكم شركاء في أموالكم التي رزقكم الله من عبيدكم وإمائكم فتكونوا أنتم وهم في هذه الأموال سواء، تهابون أن تستبدوا بتصرف دونهم لأنهم شركاء كما يهاب بعضكم بعضا وأنتم أحرار!
وإذا كان الإنسان يأبى أن يكون عبده- وقد يبيعه في وقت أو يعتقه- شريكا له في ماله- الذي هو في الواقع رزق سيق إليه من الله- وهو يخافه ولا يتصرف فيه إلا بأمره، لكونه شريكا، إذا كان الإنسان يأبى أن يشاركه عبده في هذا المال مع أن هذا العبد يستوي معه في البشرية والعبودية لله فكيف يقول: إن لله شريكا في تصريف هذا الكون الذي هو ملكه، والشريك عبد دائم العبودية.
أظن أنه لا يقول بشركة الأصنام والأوثان لله إنسان عاقل كامل القوى.
مثل ذلك التفصيل والبيان في إلزام الخصم الحجة قوية نفصل الآيات ونوضحها لقوم يحكمون عقولهم فيما يعرض لهم.
بل اتبع هؤلاء المشركون الذين ظلموا أنفسهم وغيرهم، اتبعوا أهواءهم ولم يحكموا عقولهم فليس لهم في هذا الشرك سند من عقل أو نقل أو حجة أو منطق فهم قوم ساروا على غير هدى ولا علم ولا بصيرة فلا أمل في رجوعهم إلى الحق وإلى الطريق المستقيم.
وإذا كان أمر هؤلاء الناس كذلك فمن يهدى من أضله الله؟
لا أحد يقدر على هداية من خذله الله ولم يوفقه إلى الحق لأنه يستحق ذلك بطبعه، وما له من ناصر ينصره حتى لا يخذل، ويمنعه من عذاب الله حتى لا يعذب.
الإسلام دين الفطرة [سورة الروم (٣٠) : الآيات ٣٠ الى ٣٢]
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٠) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٣٢)
26
المفردات:
حَنِيفاً: مائلا عن جميع الأديان المحرفة فِطْرَتَ اللَّهِ: خلقة الله الْقَيِّمُ المستقيم على الطريق الحق مُنِيبِينَ إِلَيْهِ: مقبلين عليه شِيَعاً: جمع شيعة وهي الحزب والجماعة المتشيعة لإمامها حِزْبٍ الحزب: الجماعة المتحزبة المتجمعة حول رأى خاص.
المعنى:
إذا ظهر الحق ودلائله وبطل الشرك وأوهامه، وقامت البراهين القوية على ذلك، فأقم وجهك للدين حنيفا، على معنى: قوم وجهك، وعدل نفسك واتجه بذاتك كلها إلى الدين الحق الذي ظهرت آياته، حالة كونك مائلا عن كل ما عداه، وهذه العبارة- فأقم وجهك للدين حنيفا- تمثيل للإقبال على الدين، والثبات عليه والاهتمام بأسبابه، والأخذ بمبادئه، فإن من اهتم بشيء عقد عزمه عليه، وسدد وجهه إليه، وقوم ذاته نحوه، لا يميل عنه يمنة ويسرة، وهذا أمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو كذلك أمر لأمته، والزموا فطرة الله التي فطر الناس عليها، والفطرة هي الخلقة والطبيعة التي خلق الله الناس عليها، وقيل في تفسيرها: إنها الإسلام أو الدين الحق، ولكن الرأى الأول أرجح لقوله تعالى.. لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ. فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بمعنى خالق. إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ أى: خلقني، والفطرة بمعنى الخلقة يراد بها أن الله خلق الخلق مستعدين بفطرتهم وطبيعتهم إلى التوحيد قابلين له غير جاحدين ولا منكرين، فلو ترك الشخص وشأنه لما اختار غير الإسلام دينا له لأنه دين الفطرة والطبيعة، دين جاء يخاطب العقل، ويسير مع حاجات النفوس السليمة في كل أحكامه وضوابطه، هذا هو دين الفطرة الأولى صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً، ومن غوى من الناس فإنما يكون بوسوسة الشيطان. وتأثير الإنسان الذي يعاشره في بيئته- وخاصة أبويه- ومن هنا نفهم
الحديث القائل: «كلّ مولود يولد على الفطرة، وأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه»
وعليه
قوله صلّى الله عليه وسلّم فيما يرويه عن ربه: «كلّ عبادي خلقت حنفاء فاجتالتهم الشّياطين عن دينهم وأمروهم أن يشركوا بي غيرى»
27
أيها الناس: الزموا فطرة الله التي فطر الناس جميعا، ولا تبدلوا ما خلقه الله فيكم من التوحيد، ولا تغيروا فطرتكم الطبيعية باتباع وسوسة الشيطان وإغوائه، وعودوا إلى دين الفطرة دين الإسلام، وذلك هو الدين القيم، المستقيم على الصراط المستقيم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
والزموا فطرة الله حالة كونكم منيبين إليه مقبلين عليه، تائبين وراجعين إلى أحكامه، واتقوه، وأقيموا الصلاة، ولا تكونوا من المشركين، الذين فارقوا دينهم الطبيعي، وتركوا الإسلام وفرقوا دين الفطرة، وجعلوه أديانا وآراء، وكانوا شيعا، وكل حزب بما لديهم فرحون، يظنون أن باطلهم هو الحق لا شك فيه، ولا مرية، والحق ما أراده الله والخير فيما اختاره الله.
بيان طبيعة الناس مع توجيهات لهم [سورة الروم (٣٠) : الآيات ٣٣ الى ٣٩]
وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣٧)
فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩)
28
المفردات:
ضُرٌّ المراد: شدة وبلاء سُلْطاناً: حجة قوية تتسلط عليهم يَقْنَطُونَ القنوط: اليأس من رحمة الله يَبْسُطُ: يوسع يَقْدِرُ: يضيق وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً المراد: ما فعلتم من ربا وجئتم به الْمُضْعِفُونَ مأخوذ من أضعف: إذا صار ذا قوة ويسار.
المعنى:
لما بين الله- سبحانه وتعالى- التوحيد بالآيات والأدلة وضرب الأمثال، وأبان أن الإسلام والتوحيد دين الفطرة السليمة والطبيعة الكريمة بين هنا أن حالة الناس مع هذا عجب فهم في الشدة والضيق يلجئون للواحد القهار، وفي الغنى والرخاء يتجهون لآلهتهم من أنصاب وأوثان.
إذا مس الناس- وبخاصة المشركين- ضر أو شدة من مرض أو قحط أو أزمة من الأزمات دعوا ربهم مقبلين عليه، وضل عنهم ما كانوا يعبدون، ثم إذا أذاقهم- ولو قليلا- بدل العذاب والضر رحمة، إذا فريق منهم بربهم يشركون، يا عجبا لكم أفي الشدة والضراء لا تتجهون إلا إلى الله، وفي السراء والرخاء تنسون أنفسكم، وتشركون بربكم؟! والله إن أمركم لعجب!! يشركون ليكون إشراكهم كفرا بنعمة الإنقاذ من الضر والشدة، وإذا كان الأمر كذلك فتمتعوا أيها المشركون فسوف تعلمون عاقبة ذلك، وهذا الأمر في قوله: فَتَمَتَّعُوا للتهديد، نظير قوله: اعملوا ما شئتم! بل أنزلنا عليهم سلطانا وحجة قوية على ما يفعلون؟! فهو يتكلم بما كانوا يشركون، وإسناد الكلام إلى السلطان كقولك: إن كتابك ينطق بكذا، وهذه الآية تفيد تأكيد
29
التعجب من حالهم فإن الخطأ في شركهم ظاهر للعيان، والضرر اللاحق بهم لا يختلف فيه اثنان، فماذا بقي بعد ذلك؟ أعندهم حجة؟ بل أهم مأمورون بذلك حتى نلتمس لهم العذر؟ لا هذا ولا ذاك: ولكنهم في ضلالتهم يعمهون.
هذه حال المشركين في الشدة والرخاء، وهي حال ظاهر فيها الشرك وسوء الرأى كالشمس، وهناك حال أخرى قد تكون أخف، حال من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به ورضى، وإن أصابه شر أو سوء قنط به وسخط، وإذا ذاق نعمة من الله ورحمة فرح بها وسر، وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ «١» فهم لا يصبرون عليها صبرا قليلا لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا، ويهبهم من لدنه فرجا، ولكنهم قوم يستعجلون، لم تخالط بشاشة الإيمان قلوبهم، فهم يعبدون الله للدنيا والنعمة، وأما المؤمن حقّا فصابر على البلاء راض بالقضاء، شاكر ربه في السراء والضراء. وهو إن أعطى من الدنيا شكر، وإن حرم صبر..
أنسوا ولم يعلموا أن الله يبسط الرزق ويوسعه لمن يشاء بقطع النظر عن الكفر والمعصية والذنب؟ ويقتر الرزق على من يشاء بصرف النظر عن الإيمان وصالح الأعمال؟ فالدنيا عند الله لا تزن جناح بعوضة، وليست محل ثواب أو عقاب، فالمؤمن هو الراضي بقضاء الله الذي لا ييأس من رحمة الله، فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، ولا يبطر إن أصابته نعمة بل يقوم بالشكر والثناء لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ [سورة الحديد آية ٢٣] إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون.
وإذا كان الرزق من الله، وهو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويضيق على من يشاء، فآت كل ذي حق حقه، ولا تبخل بما آتاك الله، وجعلك خليفة عليه، أعط ذوى القربى حقهم والمسكين وابن السبيل، ذلك خير في نفسه، وأى خير؟ للذين يريدون وجه الله، ويقصدون بذلك رضاء الله لا يفعلون ذلك رياء وسمعة، وأولئك هم المفلحون الذين سعدوا في الدنيا والآخرة.
يقول العلماء: إن الربا نوعان: ربا لا إثم فيه، وربا فيه إثم كبير. أما الأول فهو من يهب أو يهدى قاصدا أن ترد هديته بزيادة له. والثاني الربا المحرم شرعا الذي يمحقه الله
(١) - سورة النساء آية ٧٩.
30
ويؤذن صاحبه بحرب لا هوادة فيها يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ «١» يقول الله:
وما آتيتم وفعلتم من هدية أو هبة بقصد الزيادة عند ردها- فسمى الهدية والهبة ربا لأن الزيادة هي المطلوبة له، والربا هو الزيادة- ليربو ويزيد في اجتلاب أموال الناس، فلا يربو ولا يزيد عند الله، ففي الحقيقة الذي حصلت له الزيادة هو الذي أعطيت له الهبة وأخذها لا من أعطى ليأخذ الزيادة، إذ هو شخص ارتكب مكروها، وهذا أدب قرآنى عادل وتوجيه لنا سام.
وما آتيتم من زكاة ودفعتموها لوجه الله فأولئك هم المضعفون الذين يضاعف الله لهم الثواب، وانظر يا أخى لمن يعطى قاصدا رد العطية وزيادة فكأنه مراب، ومن يعطى صدقة لا يبغى بها سوى وجه الله، فأولئك هم الذين يضاعف الله لهم الحسنات، ويجازيهم عليها عشرا أو سبعمائة وقد تزيد.
من دلائل التوحيد ونتائج الأعمال [سورة الروم (٣٠) : الآيات ٤٠ الى ٤٥]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٠) ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (٤٢) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (٤٤)
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٤٥)
(١) - سورة البقرة آية ٢٧٦.
31
المفردات:
الْفَسادُ: الجدب، وأخذ المال ظلما، والمفسدة: ضد المصلحة يَرْجِعُونَ: يثوبون إلى رشدهم ويؤمنون بربهم لا مَرَدَّ لَهُ: لا راد له ولا نافع منه. يَصَّدَّعُونَ: يتفرقون يَمْهَدُونَ: يوطئون لأنهم جعلوا لها فراشا ومسكنا وقرارا.
المعنى:
الله الذي لا إله إلا هو، ولا معبود بحق في الوجود سواه، هو الذي خلقكم على ما ترون من كمال الخلقة، وحسن الهيئة، وشرف الوضع والنظام الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ خلقكم ثم رزقكم بكل أنواع الرزق حيث خلق لكم ما في الأرض جميعا، ثم بعد ذلك يميتكم إذا انتهى أجلكم، ثم يحييكم ليأخذ كلّ جزاءه وافيا، ومن قدر على بدء الخلق فهو القادر على الإعادة، هل من شركائكم من يستطيع أن يفعل شيئا من ذلك؟! لا وأيم الحق إنها عاجزة عن دفع الذباب عن نفسها.
سبحانه وتنزيها له وتقديسا، أى: نزهوه ولا تصفوه بالإشراك، وتعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا، فهو لا يجوز عليه شيء من ذلك.
لقد كانت الدنيا تموج بالخير، وتسعد بالرخاء، ويعمها الأمن والسعة لقلة الطمع في المال، وعدم التكالب على الدنيا- ولعل قلة العدد لها مدخل في ذلك- وظل الإنسان يرفل في ثوب السعادة يعيش هنيئا حتى ظهر الحقد والحسد، واستشرى الفساد والطمع، وظهر في ألوان مختلفة، وانتهى الأمر إلى الشرك بالله، واتخاذ الآلهة من دونه، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ليحكموا بين الناس فيما اختلفوا فيه، فوقع الصراع
32
بين الحق والباطل، وكان لا بد من عقاب العصاة وإثابة المؤمنين، فكان الهلاك والتدمير لبعض الأمم، ونزعت البركة من الناس، وعوقبوا بنقص في الأموال والأنفس والثمرات كي يتوبوا ويثوبوا إلى رشدهم، وهذا معنى قوله تعالى: ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فكان القحط ونزع البركة وحلول بعض الآفات جزاء في الدنيا لأعمال الكفار والعصاة لعلهم يرجعون عماهم فيه، فإن من الناس من لا يستقيم أمره إلا بإيقاع العذاب عليهم سريعا.
ثم أكد تسبب المعاصي لغضب الله ونكاله حيث كلفهم بأن يسيروا في الأرض لينظروا كيف أهلك الله الأمم السابقة، وأذاقهم سوء العذاب لطغيانهم وسوء أعمالهم وكأن قوله- سبحانه وتعالى-: كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ كالبرهان على أن الشرك وحده لم يكن سبب التدمير وإيقاع العذاب، بل قد يكون ما دونه مما تحقر من الأعمال هو سبب البلاء والعذاب، نعم فالمسلمون الآن يؤمنون بالله، ولكنهم يأتون أعمالا هي سبب خذلانهم وضعفهم وإيقاع العذاب بهم، فهل من مدكر؟! لما نهى الكافر عما هو عليه، أمر المؤمن بالواجب عليه فقال مخاطبا الرسول إيذانا بخطر المأمور به، وعناية به:
إذا كان الأمر كذلك فأقم وجهك، واجعل قصدك خالصا للدين القيم الذي هو الإسلام فهو دين الفطرة الإنسانية، ولا تلتفت لغيره أبدا من قبل أن يأتى يوم الحساب والجزاء، وهو يوم لا يرده راد، ولا يتهيأ لأحد دفعه من دون الله. يومئذ يصدعون ويتفرقون، فريق في الجنة وفريق في السعير، وهذا شحذ للهمة، وتحريض على انتهاز الفرصة من قبل هذا اليوم.
من كفر فعليه وزر كفره وعاقبته، ومن عمل صالحا بعد الإيمان فلنفسه طلب الخير، ولها مهد مقعدا كريما وهيأ لها مسكنا مناسبا يتناسب مع ما قدم من العمل.
كل ذلك ليجزي ربك الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله إذ لا يدخل أحد منكم الجنة بعمله، ولكن بمحض فضل الله.
أما الكفار فإن ربك لا يحبهم، وناهيك بعدم المحبة فهي عنوان العذاب الدائم والألم الشديد بما كانوا يكسبون، وما ظلمهم الله، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون..
33
من آياته في الرياح والمطر [سورة الروم (٣٠) : الآيات ٤٦ الى ٥٣]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٤٦) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٤٩) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠)
وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (٥١) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٥٢) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٥٣)
34
المفردات:
مُبَشِّراتٍ: تبشر بالخيرجْرَمُوا
: فعلوا جرما وارتكبوا إثما فَتُثِيرُ:
تهيجه وتحركه فَيَبْسُطُهُ المراد: تنشره متصلا بعضه ببعض كِسَفاً: جمع كسفة وهي القطعة من الشيء لَمُبْلِسِينَ يقال: أبلس الرجل فهو مبلس: سكت فلم ينطق وقيل: أيس مُصْفَرًّا أى: رأوا الزرع مصفرّا لجفافه الرِّياحَ جمع ريح، قال أبو عمر: كل ما كان بمعنى الرحمة فهو جمع، وما كان بمعنى العذاب فهو مفرد، وعليه
قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اللهمّ اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا»
فَتَرَى الْوَدْقَ الودق: هو المطر.
المعنى:
ومن آياته الكونية التي تنطق بأن صاحبها قادر عالم مريد، له الأمر كله، ويحيى ويميت: الرياح التي يرسلها الله تبشر بالخير والبركة، كالمطر، وتلقيح الشجر، وتحريك السفن، وصلاح الأجواء.
أرسل الرياح لتبشر، وليذيقكم من رحمته بالمطر وغيره. ولتجرى الفلك على سطح الماء بأمره وإرادته، فليست كل الرياح تجرى الفلك فقد تكون عكسية في اتجاهها، ولتبتغوا من فضله بالتجارة وتلقيح النبات، ودنو ثمره، ولتشكروا الله على ما أنعم عليكم من نعمة الرياح، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها.
وتالله لقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم، فجاءوهم بالبينات وحملوا لهم من الكتاب المنزل عليهم الآيات، وأرشدهم إلى آيات من الكون واضحات، فآمن بهم من آمن، وكفر من كفر، فانتقم ربك من الذين كفروا وارتكبوا جرما وإثما، وكان ذلك حقا، وأما من آمن واهتدى، وصدق بالحسنى فكان على ربك نصر المؤمنين حقا، فاعتبروا يا أولى الألباب، واتعظوا بغيركم يا كفار مكة، قبل أن يأتى يوم لا مرد له، وما لكم من دون الله من ولى ولا نصير، أليس إرسال الرسل بالآيات نعمة من أجل النعم وآية من أقوى الآيات؟ وما ينزل على الرسل كالماء الذي يحيى الأرض بعد موتها؟ أليس هذا كافيا لسوق آية إرسال الرسل وسط آيات المطر؟.
35
الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا، وتهيجه وتحركه بعد أن كان ساكنا، فتبثّه في السماء- والمراد تنشره متصلا بعضه ببعض- على أى نحو يشاؤه من قلة وكثرة، وسرعة في المشي وإبطاء، وتارة يجعله قطعا متفرقة، فيصيب به على كل حال من يشاء من عباده، وهو على كل شيء قدير، أليس في هذا ما يدل على أن الأمور تجرى بميزان، وأن خالقها قادر واحد مختار؟
فإذا أصاب به من يشاء من عباده فاجأ استبشارهم نزوله، وفرحوا به بخصبه، وقد كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لآيسين من نزول المطر عليهم ساكنين من شدة الحزن الذي أصابهم من طول جدبهم وانتظارهم، وفي قوله تعالى: مِنْ قَبْلِهِ بعد قوله: وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ توكيد لحكمة غالية، ومعنى التوكيد هنا: (للدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول وبعد فاستحكم يأسهم وتمادى إبلاسهم فكان الاستبشار على قدر اغتمامهم بذلك) انتهى من الكشاف. ومن هنا كان تكريرا لحكمة سامية، وإشارة إلى معان عالية.
فانظروا نظر استبصار واستدلال لتستدلوا على أن من يقدر على ذلك قادر على إحياء الموتى.
انظروا إلى آثار رحمة الله إلى إحياء الأرض بعد موتها: بالخضرة والنبات، إن ذلك لمحيى الموتى، وهو على كل شيء قدير.
وتالله لئن أرسلنا ريحا مضرة، فأضرت زرعهم، فرأوه مصفرا لظلوا من بعده يكفرون ويجحدون سالف نعمة الله عليهم، فهم قوم قلوبهم خالية من الإيمان الكامل والاعتماد على الله حقا، فهم إذا أصابهم الخير فرحوا واستبشروا، وإن غاب عنهم القطر أبلسوا ويئسوا. وانقطعت أنفسهم حزنا وألما، وإن أصابهم جدب أو هلاك لزرع كفروا بنعمة الله، ونسوا ما أنعم عليهم به، فبئس هؤلاء القوم المترددون بين الإفراط في الفرح والتفريط في الحزن والكمد.
ولو أنهم مؤمنون حقا لكانوا متوكلين على الله في كل حال، إذا أعطاهم شكروا وعملوا الطيبات، وإن حبس عنهم خيره لجئوا إلى الاستغفار والدعاء والصلاة حتى ينزل عليهم الفرج، وما يئسوا من رحمة الله، وإذا أصابهم بلاء في المال أو النفس والزرع صبروا، وحمدوا ربهم على السراء والضراء، أولئك هم المؤمنون حقا.
36
وأما أنت يا محمد فقد سقت الأدلة، وضربت الأمثلة، وهددت بالوعد والوعيد فلم يزدهم هذا إلا عنادا واستكبارا، وجحدوا وفرارا، فلا تحزن عليهم ولا تيأس فإنك لا تسمع الموتى الذين ألفوا تقليد الأسلاف حتى ماتت قلوبهم، وعميت بصائرهم، ولا تسمع أولئك الصم عن الحق الذين صموا آذانهم، واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا، فهؤلاء الذين يصمون آذانهم عن الدعاء، ويولون الأدبار كيف تسمعهم الحق، وتهديهم إلى النور؟!! وما أنت بهادي العمى عن ضلالتهم بحال من الأحوال.
إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون. فأنت لا تسمع إلا من عنده استعداد للإيمان والإسلام ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة آية ٢].
هكذا الإنسان.. وختام السورة [سورة الروم (٣٠) : الآيات ٥٤ الى ٦٠]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (٥٤) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (٥٥) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٥٦) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٥٧) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨)
كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٥٩) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (٦٠)
37
المفردات:
ضَعْفٍ الضعف: ما قبل القوة شَيْبَةً أى: شيبا وهو بياض الشعر الأسود ساعَةٍ: مدة من الزمن قليلة يُؤْفَكُونَ يقال: أفك الرجل: إذا صرف عن الصدق والخير وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أى: لا يطلب منهم الإعتاب.
وحقيقة أعتبته: أزلت عتبة فالإعتاب إزالة العتب بفعل ما يرضى، يقال: استعتبته فأعتبنى، أى: استرضيته فأرضانى مُبْطِلُونَ أى: متبعون الباطل والسحر وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ يقال: استخف فلان فلانا، أي: استجهله حتى حمله على اتباعه في الغي.
المعنى:
وهذه الآية تتعلق بالإنسان ناطقة بإثبات القدرة والعلم والإرادة وغيرها من الصفات لله- سبحانه وتعالى- فهذا الانتقال والتحول من حال إلى حال دليل على القدرة، وآية على البعث الذي ينكره المشركون.
الله هو الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة، فالإنسان خلق من منى يمنى، من ماء مهين، من نطفة هي غاية في الضعف والصغر والقلة، حتى أنها تحوى ملايين صالحة لتلقيح بويضة المرأة. والشخص منا يكون واحدا منها، ثم يظل ينتقل الإنسان من ضعف: وهو في بطن أمه ثم وهو رضيع، ثم وهو يدرج حتى يصير في دور المراهقة والشباب والرجولة فتظهر عليه علامات القوة والفتوة والشباب، ثم جعل من بعد القوة ضعفا وشيبة. تلك مراحل لا بد من مرورها على الإنسان ويستحيل عليه أن يولد قويا، كما أنه يستحيل عليه أن يكون في دور الشيخوخة قويا بل لا بد فيها من ضعف وشيبة.
38
وانظر إلى أساس الاستدلال، وهو أن تلك الأدوار والأحوال التي في الإنسان والسحاب ليست طبيعية وإنما مردها إلى مشيئة الله يَخْلُقُ ما يَشاءُ [سورة المائدة آية ١٧] فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ [سورة الروم آية ٤٨].
وهو العليم بأحوال الخلق المجازى عليها بالخير والشر، القدير الذي يقدر على كل ذلك وها هو ذا يذكر بعض أحوال يوم القيامة فقال: ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون قائلين: إنهم ما لبثوا غير ساعة من الزمن، وذلك أن الذي يوعد بالشر يستقل المدة المضروبة له، على العكس: الموعود بالخير يستكثر المدة مهما قلت، وهؤلاء الناس حينما عرفوا أنهم إلى النار صائرون، وأنهم ضلوا السبيل بكفرهم حينما علموا هذا كله ساعة الموت استقلوا مدة لبثهم في القبر، وقالوا: ما لبثنا غير ساعة كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها [سورة النازعات آية ٤٦] مثل ذلك الصرف عن الحق والبعث كانوا يصرفون في الدنيا عن الحق والصدق.
أما الذين أوتوا العلم من كتاب الله وأوتوا الإيمان به قالوا: لقد لبثنا إلى يوم البعث مستكثرين هذا المكث لأنهم متطلعون إلى نعيم الجنة.
وقالوا: إن كنتم منكرين البعث أيها المشركون فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون.
فيومئذ لا تنفع الذين ظلموا معذرتهم، واعتذارهم عن أعمالهم، فلا يقبل منهم مثل قولهم: رَبِّ ارْجِعُونِ. لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ [المؤمنون ٩٩، ١٠٠].
ولا هم يطلب منهم الإعتاب، أى: إزالة العتب بالتوبة التي تزيل آثار الجريمة وكيف يقبل منهم عذر، أو توبة؟! ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ولم يحصل تقصير من جانب الرسل في تبليغ الدعوة إلى الله، فإن طلب الناس شيئا بعد تلك المعجزات والشواهد، وتوضيح الرسالة من الأنبياء فذلك عناد، ومن هان عليه تكذيب دليل لا يصعب عليه تكذيب الدلائل كلها كفرا وعنادا، لئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا: إن أنتم أيها المدعون للرسالة إلا مبطلون تتبعون السحر والباطل.
وليس هذا لسبب معقول، ولكن الله طبع على قلوب الكفار وختم عليها بالخاتم فلا يدخلها نور لأنهم مردوا على التكذيب والعناد، وملئت عقولهم بالخرافات والضلالات
39
كما طبع الله على قلوبهم حتى لا يفهموا الآيات، فكذلك يطبع على قلوب الذين لا يعلمون، فهي عادة في الإنسان ليست غريبة منه، فاصبر يا محمد إن وعد الله حق، ولا يستفزنك الذين لا يوقنون بالآخرة حتى تترك ما أنت عليه بل اثبت والله ناصرك وحافظك من الناس.
40
Icon