تفسير سورة سبأ

صفوة البيان لمعاني القرآن
تفسير سورة سورة سبأ من كتاب صفوة البيان لمعاني القرآن .
لمؤلفه حسنين مخلوف . المتوفي سنة 1410 هـ
مكية، وآياتها أربع وخمسون

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ وله الحمد في الآخرة ﴾ أي والحمد لله الذي له خاصة الحمد في الآخرة على ما أنعم به على المؤمنين فيها ؛ يقولون إذا دخلوا الجنة : " الحمد لله الذي صدقنا وعده " ١، " الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن " ٢، " الحمد لله الذي هدانا لهذا " ٣.
١ آية ٧٤ الزمر..
٢ آية ٣٤ فاطر..
٣ آية ٤٣ الأعراف..
﴿ يعلم ما يلج في الأرض ﴾ أي كل ما يدخل فيها ؛ كمطر وكنوز ودفائن وأموات.
﴿ وما يخرج منها ﴾ أي كل ما يخرج منها ؛ كنبات وحيوان وغيرهما. ﴿ وما ينزل من السماء ﴾ من مطر وبرد، وصواعق، وبركات وملائكة، وكتب ونحوها. ﴿ وما يعرج فيها ﴾ أي ما يصعد فيها من الملائكة والأعمال، والأرواح والدعاء، والطير والبخار ونحوها ؛ من العروج وهو الذهاب في صعود. والسماء : جهة العلو مطلقا.
﴿ لا تأتينا الساعة ﴾ أنكروا قيام الساعة فأمر صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم :﴿ بلى ﴾ أي ليس الأمر إلا إتيانها. وهي حرف جواب لرد النفي ؛ فتفيد إثبات المنفي قبلها. ثم أكد ذلك بقوله :﴿ وربي لتأتينكم ﴾. ﴿ لا يعزب عنه مثقال ذرة ﴾ لا يغيب عن علمه وزن أصغر نملة. يقال :
عزب الشيء يعزب ويعزب، إذا غاب وبعد. والمراد : أنه لا يغيب عن علمه شيء ما مهما دق وصغر.
﴿ والذين سعوا في آياتنا ﴾ بالقدح فيها وصد الناس عن الإيمان بها﴿ معاجزين ﴾ أي مسابقين ؛ يحسبون أنهم يفوتوننا فلا نقدر عليهم. يقال : عاجزه وأعجزه، إذا غالبه وسبقه. ﴿ لهم عذاب من رجز ﴾ أي من سيئ العذاب وأشده. ﴿ أليم ﴾ أي مؤلم موجع، صفة ل " عذاب ". وقرئ بالجر صفة ل " رجز ".
﴿ ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق... ﴾ أي يحدثكم أنكم – إذا متم وفرقت أجسامكم في الأرض كل تفريق، وصرتم رفاتا وعظاما، أو فرقت في كل مكان، من القبور وبطون الطير والسباع والبحار ونحوها – تبعثون وتحاسبون !. قالوا ذلك استهزاء وتعجبا. وتمزيق الشيء : تخريقه وجعله قطعا قطعا. يقال : ثوب مزيق وممزوق ومتمزق وممزق، أي مقطع مخرق.
﴿ أفترى على الله كذبا أم به جنة ﴾ الهمزة للاستفهام ؛ كما في : " أطلع الغيب " أي أختلق على الله كذبا فيما نسبه إليه من أمر البعث ! أم به جنون فهو يتكلم بما لا يدري !.
﴿ بل الذين لا يؤمنون بالآخرة... ﴾ أي ليس الأمر كما زعموا، بل هم في غاية الضلال عن الفهم وفيها يؤذى إليه ذلك من العذاب
ثم هددهم على ما اجترءوا عليه، وذكرهم بما يشاهدونه من أدلة القدرة فقال :﴿ أفلم يروا... ﴾ أي اعملوا فلم ينظروا. ﴿ نخسف بهم الأرض ﴾ كما فعلنا بقارون. ﴿ أو نسقط عيهم كسفا ﴾ قطعا﴿ من السماء ﴾ تهلكهم ؛ كما أسقطنا على أصحاب الأيكة لتكذيبهم وجحودهم﴿ إن في ذلك لآية لكل عبد منيب ﴾ راجع إلى الله تعالى بالتوبة.
﴿ يا جبال أوبي معه ﴾ أي وقلنا : يا جبال رجعي وودي معه التسبيح إذا سبح لله تعالى ؛ قال تعالى : " إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق " ١. يقال : أوب تأويبا، إذا رجع. وأصله آب أوبا بمعنى رجع ؛ فيعدى بالتضعيف. ﴿ والطير ﴾ أي وآتيناه الطير، بمعنى سخرناها له تؤوب معه.
﴿ وألنا له الحديد ﴾ صيرناه لينا في يده كالعجين ؛ يشكله كما يشاء، من غير إدخال نار ولا طرق بمطرقة.
١ آية ١٨ سورة ص..
﴿ أن اعمل سابغات ﴾ أي ألناه له لعمل دروع واسعات. والسابغة : الدرع الواسعة. يقال : سبغت الدرع، وسبغ الشيء سبوغا : طال إلى الأرض واتسع. ﴿ وقدر في السرد ﴾ أي أحكم نسج الدروع بحيث تدخل الحلق بعضها في بعض ؛ من التقدير، وهو هنا : التفكير في تسوية الأمر وتهيئته. والسرد : نسج الدروع. يقال : سرد الدرع سردا – من باب نصر – نسجها. وقيل : السرد اسم جامع للدروع وسائر الحلق.
﴿ غدوها شهر ورواحها شهر ﴾ جريها في الغدوة وهي من أول النهار إلى الزوال مسيرة شهر. وفي الرواح وهو من الزوال إلى الغروب كذلك ؛ أي ما تقطعه في هذه المادة يقطع عادة في شهر. ﴿ وأسلنا له عين القطر ﴾ وهو النحاس المذاب ؛ من قطر يقطر قطرا وقطرانا : إذا سال. أسأله له فنبع كما ينبع الماء في العين. ﴿ ومن يزغ منهم عن أمرنا ﴾ أي يعدل من الجن عما أمرناه به من طاعة سليمان
﴿ نذقه من عذاب السعير ﴾ في الآخرة. يقال : زاغ عن الأمر يزيغ زيغا، إذا عدل عنه.
﴿ من محاريب ﴾ أي قصور ومساجد. جمع محراب، وهو كل موضع مرتفع. ويطلق على مكان وقوف الإمام في المسجد. وعلى الغرفة التي يصعد إليها بدرج. وعلى أشرف بيوت الدار. ﴿ وتماثيل ﴾ أي صور للملائكة والأنبياء والصالحين من زجاج أو نحاس أو رخام ؛ تقام في المساجد ؛ ليراها الناس فيعبدوا الله وحده مثل عبادته. وكان اتخاذها في شريعته جائزا ؛ أما في شريعتا فمحرم ؛ سدا لذريعة التشبه بمتخذي الأصنام. ﴿ وجفان كالجواب ﴾ أي قصاع كبار كالحياض العظام. جمع جفنة وهي أعظم القصاع. وجابية وهي الحوض الضخم الذي يجبى فيه الماء للإبل أي يجمع ؛ ومنه جبيت الخراج جباية، والماء في الحوض جبيا : جمعته. ﴿ وقدور ﴾ هي ما يطبخ فيها الطعام من فخار أو نحاس أو غيره. ﴿ راسيات ﴾ أي ثابتات على الأثافي ١، لا تحمل ولا تحرك لضخامتها وعظمها.
﴿ اعملوا آل داود ﴾ اعملوا يا آل داود بطاعة الله. ﴿ شكرا ﴾ له تعالى على ما خصكم به من النعم، وعلى سائر خلقه. وحقيقة الشكر : الاعتراف بالنعمة للمنعم، والثناء عليه لإنعامه، واستعمال النعم في طاعته. و " شكرا " مفعول لأجله.
١ الأثافي: جمع أثفية – بضم الهمزة وتكسر – الحجر بوضع عليه القدر..
﴿ دابة الأرض ﴾ أي الدابة التي تفعل الأرض وهو أكل الخشب ؛ وتسمى الأرضة وسرفة وسوسة الخشب. يقال : أرضت الدابة الخشب أرضا – من باب ضرب – أكلته ؛ وإضافة دابة إليه من إضافة الشيء إلى فعله. ﴿ تأكل منسأته... ﴾ أي عصاه التي كان يتوكأ عليها. وسميت منسأة لأنه يزجر بها ويساق، وتؤخر بها الغنم وتدفع إذا جاوزت المرعى ؛ من نسأ البعير – كمنع – إذا زجره وساقه. أو أخره ودفعه ؛ كنسأه وأنسأه. وقد أكلت الأرضة شيئا منها فسقط. فعلمت الجن علما بينا كذب من يزعم منهم علم الغيب ؛ وإلا لعلموا بموته في حينه، فلم يلبثوا بعده في هذه الأعمال الشاقة.
﴿ لقد كان لسبأ في مسكنهم ﴾ هو في الأصل اسم رجل، وهو سبأ بن يشجب بن يعرب ابن قحطان بن هود، وهو أول ملوك اليمن. وكانت له عشرة أولاد، تيامن منهم بعد السيل ستة، وهم : الأزد وكندة ومذحج والأشعريون وأنمار وحمير. وتشاؤم منهم بعده أربعة، وهم : عاملة وغسان ولخم وجذام. والمراد به هنا : الحي أو القبيلة المسماة باسمه ؛ فيصرف على الأول، ويترك صرفه على الثاني ؛ وبهما قرئ. ومسكنهم : مأرب – بوزن منزل – باليمن على مسيرة ثلاث ليال من صنعاء. ويطلق عليها سبأ، وهي مدينة بلقيس. ﴿ آية ﴾ علامة على قدرته تعالى وإحسانه ووجوب شكره. أو دالة على أن من بطر النعمة ولم يقم بحق شكرها سلبه الله إياها، وبدله بها بؤسا وشقاء، فليتعظ بذلك من كفر بالله وغمط نعمه ؛ ككفار مكة. ﴿ جنتان عن يمين وشمال ﴾ طائفتان من البساتين : طائفة عن يمين بلدهم، وطائفة عن شماله ينعم الناس بثمارها ويستترون بظلالها.
﴿ فأرسلنا عليهم سيل العرم ﴾ العرم : اسم للوادي الذي كان يأتي السيل منه. وقيل المطر الشديد. وقيل : السيل الذي لا يطاق. وإضافة " سيل " إليه من إضافة الموصوف إلى الصفة مع التجريد. أي أرسلنا عليهم السيل الذي لا يطاق. وقيل : العرم جمع لا واحد له، أو واحده عرمة.
وهو الأحباس والسدود تبنى في أوساط الأودية لحجز السيول. وكانت السيول تأتي المدينة من الأودية، فبني سد عظيم لحجزها وللانتفاع بها في ري أراضيها على الدوام، فأخصبت ونمت الزروع وكثرت الأموال ؛ فبطروا معيشتهم وأعرضوا وأهملوا – لشدة ترفهم – إصلاحه فتصدع بناؤه، ولم يقو على مقامة السيل بعد. فلما جاء اجتاح أراضيهم واكتسح أموالهم، ومزقهم شر ممزق ؛ فتشتتوا في البلاد. وضرب بهم المثل، فقيل : ذهبوا أيدي سبا، وتفرقوا أيادي سبا. واليد : الطريق ؛ أي فرقتهم طرقهم التي سلكوها كما تفرق أهل سبأ في مذاهب شتى. فلحق كل فرع بجهة، ومنهم غسان لحق بالشام، والأوس والخزرج بيثرب، والأزد بعمان، وخزاعة بتهامة، وآل خزيمة بالعراق. ﴿ أكل ﴾ ثمر﴿ خمط ﴾ بدل منه، وهو ثمر الأراك. أو هو نبت مر لا يمكن أكله ؛ أي ثمر نبت مر. ﴿ وأثل ﴾ هو ضرب من الطرفاء، أو هو السمر، وهو نوع من العضاه مفرده سمرة. ﴿ سدر ﴾ هو الضال، وهو نوع
من السدر لا ينتفع به ولا يصلح ورقه للعسول، وله ثمرة عفصة لا تؤكل. أي أن ثمار أراضيهم التي كانت طيبة نافعة أصبحت بعد التبديل على العكس من ذلك ؛ جزاء إعراضهم بطرا وكفرا.
﴿ القرى التي باركنا فيها ﴾ قرى الشام﴿ قرى ظاهرة ﴾ متواصلة بحيث يظهر لمن في بعضها ما في مقابلته من الأخرى. ﴿ وقدرنا فيها السير ﴾ جعلنا نسبة بعضها إلى بعض على مقدار معين من السير كميل أو مرحلة ؛ فلا مشق يتحملونها في أسفارهم.
﴿ باعد بين أسفارنا ﴾ طلبوا بطرا وطغيانا أن يجعل الله بينهم وبين الشام مكان تلك القرى العامرة مفاوز وصحارى متباعدة الأقطار ؛ فأجابهم إلى ما طلبوا. ﴿ فجعلناهم أحاديث ﴾ صيرناهم أحاديث، يتلها الناس بأخبارهم، ويضربون بهم المثل، فيقولون : تفرقوا أيدي سبأ.
﴿ ولقد صدق عليهم إبليس ظنه ﴾ أي حقق عليهم إبليس بطاعتهم له وعصيانهم ربهم ما كان يظنه ظنا ؛ من أنهم بإغوائه إياهم يتبعونه ويطيعونه في معصية الله. وقرئ " صدق " بالتخفيف ؛ أي صدق في ظنه، بمعنى أصاب فيه.
﴿ قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله ﴾ فيما يهمكم من أموركم لعلهم يستجيبون لكم. والأمر للتوبيخ والتعجيز. ﴿ لا يملكون مثقال ذرة... ﴾ أي لا يملكون شيئا ما من خير أو شر، أو نفع أو ضر في أمر من الأمور ؛ فكيف يكونون آلهة تعبد ! ؟ والجملة مستأنفة في موقع الجواب عما قبلها.
﴿ وما له منهم من ظهير ﴾ أي ليس له تعالى من هؤلاء الآلهة الباطلة معين في تدبير أمر من أمور السموات والأرض.
﴿ ولا تنفع الشفاعة عنده ﴾ تعالى﴿ إلا لمن ﴾ أي لشافع﴿ أذن له ﴾ من النبيين والملائكة – ونحوهم من المستأهلين لمقام الشفاعة عنده – في الشفاعة لمن يستحقها. وظاهر أن الكفار لا يستحقونها، وأن الأصنام ليست أهلا لها ؛ ونظيره قوله تعالى : " من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه " ١، وقوله تعالى : " ولا يشفعون إلا لمن ارتضى " ٢. وهو تكذيب لقولهم : هؤلاء شفعاؤنا عند الله :﴿ حتى إذا فزع عن قلوبهم ﴾ أي كشف عنها الفزع. والتضعيف هنا للسلب ؛ كما في : قردت البعير : إذا أزلت قراده. ومنه التمريض. والفزع : انقباض ونفار يعترى الإنسان من الشيء المخيف. و " حتى " غاية لما فهم مما قبلها من أن ثم انتظارا وترقبا من الراجين للشفاعة والشفعاء، هل يؤذن لهم أولا يؤذن لهم، والكل في فزع وخوف في ذلك الموقف الرهيب. فكأنه قيل : يتربصون ويتوقفون مليا فزعين، حتى إذا كشف الفزع وأزيل عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم بكلمة من رب العزة في إطلاق الإذن، تباشروا بذلك فسأل بعضهم بعضا :﴿ ماذا قال ربكم قالوا الحق ﴾ أي القول الحق، وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى.
١ آية ٢٥٥ البقرة..
٢ آية ٢٨ الأنبياء..
﴿ وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ﴾ بعد أن عرف مما تقدم من هو على الهدى ومن هو على الضلال، أخبرهم الله بأنهم على الضلال على جهة الإنصاف في الحجة. فهو كقول المتبصر في الحجة لصاحبه : أحدنا كاذب ؛ وقد عرف أنه الصادق المصيب، وصاحبه الكاذب المخطئ.
ومثله في الإنصاف بكلام أبلغ وأسلوب أرفع : قوله تعالى :﴿ قل لا تسألون عما أجرمنا ﴾ أي كسبنا ﴿ ولا نسأل عما تعملون ﴾.
﴿ قل لا تسألون عما أجرمنا ﴾ أي كسبنا﴿ ولا نسأل عما تعملون ﴾.
﴿ ثم يفتح بيننا بالحق ﴾ أي يحكم بالعدل ؛ فيثيب المطيع ويعاقب العاصي. ﴿ وهو الفتاح ﴾ أي الحاكم في كل أمر بالحق﴿ العليم ﴾ بما يتعلق بحكمه من المصالح.
﴿ كلا ﴾ ردع لهم عن زعم الشرك.
﴿ أرسلناك إلا كافة للناس ﴾ أي إلا إلى الناس جميعا. وأصله من الكف بمعنى المنع، وأريد به العموم لما فيه من المنع من الخروج، واشتهر فيه حتى قطع فيه النظر عن معنى المنع بالكلية.
﴿ ولو ترى... ﴾ أي لو ترى حال الظالمين وقت وقوفهم للحساب راجعا بعضهم إلى بعض القول لرأيت حالة فظيعة. ﴿ موقوفون عند ربهم ﴾ أي محبوسون عنده تعالى في موقف الحساب.
﴿ بل مكر الليل والنهار ﴾ بل صدنا مكركم بنا في الليل والنهار ؛ وأضيف المكر إليهما لوقوعه فيهما. والمكر في الأصل : الاحتيال والخديعة. يقال : مكر به يمكر ؛ فهو ماكر ومكار.
﴿ ونجعل له أندادا ﴾ أشباها ونظراء وأمثالا نعبدها من دونه تعالى. جمع ند. ﴿ وأسروا الندامة ﴾
أي أخفوا الندم على ما كان منهم في الدنيا من الضلال والإضلال بالنسبة للمستكبربن، ومن الضلال فقط بالنسبة للمستضعفين لما عاينوا وهالتهم شدته. أو أظهر الندم عندئذ وأسر من الأضداد، تأتي بمعنى الإخفاء والإبداء، وهمزتها تصلح للإثبات والسلب ؛ فمعنى أسره : جعله سرا أو أزال سره، ونظيره : أشكيت. ﴿ وجعلنا الأغلال ﴾ أي القيود﴿ في أعناق ﴾ المستكبرين والمستضعفين﴿ الذين كفروا ﴾ جزاء ما كانوا يعملون.
﴿ قال مترفوها ﴾ أغنياؤها ورؤساؤها وجبابرتها المتسعون في النعم فيها، الباطرون بها.
﴿ ويقدر ﴾ يقتر ويضيق الرزق على من يشاء أن يقتر عليه. ضد يبسط. والأمر في كليهما على حسب ما تقتضيه الحكمة الإلهية.
﴿ تقربكم عندنا زلفى ﴾ أي قربى. منصوب على المصدرية من معنى العامل، والتقدير تقربكم قربى. ﴿ لهم جزاء الضعف ﴾ أي أن يجازيهم الله الضعف، مصدر مضاف لمفعوله، أو لهم الجزاء المضاعف ؛ من إضافة الموصوف إلى الصفة.
﴿ معاجزين ﴾ زاعمين سبقهم لنا، وعدم قدرتنا عليهم. ﴿ في العذاب محضرون ﴾ أي في جهنم يحضرهم الزبانية فيها.
﴿ يعبدون الجن ﴾ أي الشياطين ؛ حيث كانوا يطيعونهم فيما يسولون لهم من عبادة غيره تعالى.
﴿ ما هذا إلا إفك مفترى ﴾ أي ما هذا القرآن إلا كذب في نفسه، مفترى على الله من حيث نسبته إليه ؛ في " مفترى " تأسيس لا تأكيد.
﴿ وما آتيناهم من كتب يدرسونها... ﴾ أي لم نأتهم بكتب تدل على صحة الشرك ليعذروا فيه ؛ ولم نرسل إليهم قبلك نذيرا يدعوهم إلى الشرك، ويخوفهم العقاب على تركه. وفي هذا من التهكم والتجهيل لهم ما لا يخفى.
﴿ فكيف كان نكير ﴾ فكيف كان إنكاري عليهم بالتدمير والإهلاك ؛ فليحذر هؤلاء من مثله. وأصل النكير : تغيير المنكر ؛ أي إزالته بالعقوبة في الدنيا، إذ هي التي يحصل فيها تغييره.
﴿ إنما أعظكم بواحدة ﴾ أي إنما آمركم وأوصيكم بخصلة واحدة. أو أحذركم سوء عاقبة ما أنتم فيه بكلمة واحدة، هي :﴿ أن تقوموا لله مثنى وفرادى ﴾ أي تجتهدوا في الأمر بإخلاص لوجه الله
تعالى، متفرقين اثنين اثنين وواحدا واحدا﴿ ثم تتفكروا ﴾ في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته وما جاء به ؛ فيتعاضد الاثنان في التفكر والتأمل في أمره، وينظر الواحد في أمره بعدل ونصفه ؛ فعند ذلك تعلمون أنه على الحق. ﴿ ما بصاحبكم من جنة ﴾ من جنون وخبل ؛ حتى يتصدى لهذا الأمر العظيم من تلقاء نفسه، غير مبال بافتضاحه عند مطالبته بالبرهان وظهور عجزه ؛ بل هو من تعلمونه أرجح الناس عقلا، وأصدقهم قولا، وأفضلهم علما، وأحسنهم عملا، وأجمعهم للكمالات البشرية ؛ فما جاءكم به إنما هو وحي يوحى إليه من الله تعالى، وما هو إلا رسول بشير ونذير.
﴿ يقذف بالحق ﴾ أي يلقى الوحى إلى أنبيائه بسبب الحق أو متلبسا به. أو يقذف الباطل بالحق ؛ كما قال تعالى : " بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه " ١. أو يقضي ويحكم بالحق ؛ بتضمين " يقذف " معنى يقضى.
١ آية ١٨ الأنيياء..
﴿ قل جاء الحق ﴾ أي الإسلام والتوحيد، أو القرآن. ﴿ وما يبدئ الباطل وما يعيد ﴾ أي ذهب الباطل – وهو الشرك والكفر – ولم يبق له إبداء ولا إعادة. وهو كناية عن ذهابه واضمحلاله بالمرة ؛ " فإن الإبداء فعل الأمر ابتداء، والإعادة فعله ثانيا، ولا يخلو الحي عنهما، فعدمهما كناية عن هلاكه ؛ كما يقال فلان لا يأكل ولا يشرب، كناية عن هلاكه.
﴿ ولو ترى إذ فزعوا ﴾ أي لو ترى إذا اعتراهم فزع وهلع في الآخرة عند البعث ومعاينة العذاب لرأيت أمرا هائلا. ﴿ فلا فوت ﴾ فلا نجاة ولا مهرب لهم يومئذ من عذاب الله. ﴿ وأخذوا من مكان قريب ﴾ أي من موقف الحساب إلى النار.
﴿ وأنى لهم التناوش من مكان بعيد ﴾ أي ومن أين لهم في الآخرة تناول الإيمان والتوبة من الكفر ؛ وقد كان ذلك قريبا منهم في الدنيا فضيعوه ! وكيف يقدرون على الظفر به في الآخرة وهي بعيدة من الدنيا ! والتناوش : التناول. يقال : ناشه ينوشه نوشا تناوله ؛ ومنه : تناوشوا بالرماح، أي تناول بعضهم بعضا بها.
﴿ ويقذفون بالغيب ﴾ أي وكانوا يرجمون بالظن ويتكلمون بما لم يظهر لهم ؛ فينسبون إليه تعالى الشريك ويقولون : لا بعث ولا نشور ولا جنة ولا نار. ويقولون في القرآن : سحر وشعر وأساطير الأولين. وفي الرسول : ساحر شاعر كاهن مجنون. ﴿ من مكان بعيد ﴾ من جهة بعيدة عن أمر من تكلموا في شأنه وعن الحق والصدق. والعرب تقول لكل من تكلم بما لا يحقه : هو يقذف ويرجم بالغيب.
﴿ وحيل ﴾ في الآخرة﴿ بينهم وبين ما يشتهون ﴾ وهو الإيمان المقبول والتوبة المنجية. ﴿ كما فعل ﴾ في الآخرة﴿ بأشياعهم ﴾ أمثالهم ونظرائهم من كفار الأمم الماضية الذين كانوا﴿ من قبل ﴾ أي من قبلهم ؛ فقد حيل بينهم وبين ما يشتهون من ذلك في الآخرة. والأشياع : جمع شيع. وشيع جمع شيعة. وشيعة الرجل : أتباعه وأنصاره [ آية ٦٥ الأنعام ص ٢٢٧ ].
﴿ إنهم كانوا ﴾ جميعا على نمط واحد﴿ في شك ﴾ أي من أمر الدين والتوحيد والرسل والبعث﴿ مريب ﴾ موقع في الريبة ؛ من أرابه : إذا أوقعه في الريبة والتهمة. والله أعلم.
Icon