تفسير سورة ص

التفسير القرآني للقرآن
تفسير سورة سورة ص من كتاب التفسير القرآني للقرآن المعروف بـالتفسير القرآني للقرآن .
لمؤلفه عبد الكريم يونس الخطيب . المتوفي سنة 1390 هـ

بسم الله الرحمن الرّحيم

الآيات: (١- ١١) [سورة ص (٣٨) : الآيات ١ الى ١١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (٢) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (٣) وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٤)
أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (٥) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (٦) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (٧) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (٨) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩)
أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (١٠) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (١١)
التفسير:
قوله تعالى:
«ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ».
«ص» هو حرف من حروف المعجم، بدئت به السورة، كما بدئت كل من سورتى «ق» و «ن» بحرف واحد، على خلاف السور التي بدئت بحروف، حيث بدىء بعضها بحرفين، مثل (طه) و (يس) وبدىء
1046
بعضها بثلاثة أحرف، مثل «الم» و «الر»، وبعضها بأربعة مثل «المر» وبعضها بخمسة مثل: «كهيعص» و (حم عسق)..
والملاحظ أن هذه السور الثلاث التي بدئت بحرف واحد، قد جعل الحرف اسما لها، وإن كان غلب على سورة «ق» اسم القلم، وكذلك الشأن فيما بدىء بحرفين، وهما «طه» و «يس».. أما السور الأخرى التي بدئت بأكثر من حرفين فلم تكن الحروف التي بدئت بها، علما عليها.. ولعل فى هذا ما يشير إلى أن هذه الحروف ليست حروفا بالمعنى المفهوم لها فى النحو، وإنما هى أسماء، ذات دلالات، وأن الحرف هنا قد صار اسما على السورة، وعلما عليها..
وعلى هذا يصح أن يكون «ص» - والله أعلم- اسما مقسما به، ويكون «وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ» معطوفا عليه، فيكون المقسم به هو (ص)، والقرآن معا..
وإذ كان قوله تعالى: «وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ» معطوفا على مقسم به وهو «ص» - كان «ص» ذا شأن جليل، وجلال عظيم، كشأن القرآن وجلال القرآن..
والقرآن الكريم، هو كلام الله، وكلام الله صفة من صفات الله، وصفات الله هى ذات الله.
وإذن فيكون القول بأن «ص» هو اسم من أسماء الله، أو صفة من صفاته، قولا له مفهوم على هذا الاعتبار..
ويصح أن يكون «ص» - والله أعلم- إشارة مجملة إلى ما استقبل به النبىّ والمؤمنون قوله تعالى فى آخر الصافات: «سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» أي سبّحنا بحمدك ربّنا وحقّ ص والقرآن ذى الذكر، الذي آمنا به..
1047
وعلى القول الأول يكون جواب القسم محذوفا، ويكون المعنى: وحقّ الله، وحقّ القرآن ذى الذكر، لقد تنزهت ربّنا عن الشريك والولد، فلك الحمد، ولرسلك السلام.. ولكن الذين كفروا «فى عزة» أي غرور بأنفسهم، «وشقاق» أي منازعة فى هذا الأمر الذي سلّم لك به الوجود كله..
وعلى القول الثاني، يكون جواب القسم، هو ما ختمت به سورة الصافات، وهو قوله تعالى «سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ»، وقد تقدم الجواب على القسم.
وقوله تعالى: «بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ».
وصف المشركين بالعزة، هو فى مقابل قوله تعالى فى آخر «الصافات» «سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ».. فهذه العزة التي للمشركين هى عزة باطلة مدّعاة، هى عزة غرور، وحمق وجهل، تلك العزة التي يخيل لمدعيها أنه واحد هذه الدنيا، ومالك أمرها، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى شأن مدعى هذه العزة الكاذبة: «وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ» (٢٠٦: البقرة)..
فعزة الكافرين هى من هذه العزة، التي تملأ كيان صاحبها غرورا وتعاليا..
وفى حرف الجر «فى» الذي يفيد الظرفية، إشارة إلى أن هذه العزة الكاذبة، مستولية على أهلها، مغطية على أبصارهم، فلا يرون على صفحة مرآتها إلا أنفسهم، فى هذا الثوب الزائف الذي لبسوه.
والشقاق الذي، فيه هؤلاء الكافرون، هو منازعتهم لله فى عزته، واستكبارهم عن أن يستجيبوا لله، ويؤمنوا به قوله تعالى:
«كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ».
1048
«كم» هنا خبرية، تفيد التكثير.. أي ما أكثر ما أهلكنا قبل هؤلاء الكافرين الذي لبسوا هذه العزة الزائفة- ما أكثر ما أهلكنا قبلهم من أمم ظالمة، كانت أكثر منهم قوة، وأعز سلطانا، فلما جاءهم بأسنا نادوا مستغيثين، فلم يغاثوا، إذ كان قد فات أوان الغوث: «وَلاتَ حِينَ مَناصٍ».
و «لات» أداة تفيد النفي، بمعنى «لا» والتاء زائدة، لتأكيد النفي وتقويته..
و «المناص» المفرّ، والملجأ.. ومنه الناصية، وهى الرأس من كل شىء.
وناصية الجبل أعلاه الذي يعتصم به.
قوله تعالى:
«وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ».
أي أن هؤلاء المشركين، قد عجبوا أن جاءهم رسول بشر منهم، وقال الكافرون عن هذا الرسول، «هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ» فرموه بالسحر، واتهموه بالكذب! وفى قوله تعالى: «وَعَجِبُوا» إسناد للعجب إليهم جميعا.. فهذا العجب هو الذي استقبل به المشركون بعثة الرسول فيهم.. ثم كانوا فريقين: فريقا لم يتلبث كثيرا فى عجبه من هذا الرسول البشر.. فما هى إلا وقفة- طالت أو قصرت- ثم رجع إلى عقله، وثاب إلى رشده فآمن بالله.. وفريقا ظل على عجبه هذا، فتولد منه الإنكار والكفر، وعلى حين قال المؤمنون: آمنا بالله، ورسول الله، قال الكافرون: هذا ساحر كذاب..
قوله تعالى:
«أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً؟ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ»..
هو من مقولة المشركين، الذين قالوا هذا القول المنكر فى النبي: «ساحِرٌ كَذَّابٌ»..
1049
وهم بقولهم: «أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً» هو تعجب من دعوة الرسول لهم إلى توحيد الله، ونبذ ما يعبدون من دونه من آلهة.. إنها دعوة غير معقولة وغير مقبولة عندهم..
إذ كيف تكون الآلهة إلها واحدا؟ وكيف ينزل كل إله منها عن سلطانه إن شيخ القبيلة، أو زعيم الجماعة، لا يقبل أن ينزل عن مكانه من الرياسة لزعيم آخر، ولو كان هذا معقولا ومقبولا، لكانت قريش مثلا تحت زعيم واحد.
فإذا كان هذا غير ممكن فى مجتمع القبائل، فكيف يمكن هذا فى مجتمع الآلهة؟
«إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ».. أي مثير للعجب، الذي ليس وراءه عجب! قوله تعالى:
«وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ» أي أنه لم يطل العجب منهم، بل أعطوا ظهورهم لما سمعوا من كلام الله، وتنادوا: أن اصبروا على آلهتكم، وتمسكوا بها.. أما هذا الذي سمعتموه من محمد، فإنما هو كيد من كيده، يريد به حاجة فى نفسه!! قوله تعالى:
«ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ.. إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ».
أي إن هذا القول لم نسمع به فى الديانة الآخرة. وهى المسيحية، التي هى آخر الديانات السماوية.. فهاهم أولاء يرون أتباع المسيحية- وهم أهل الكتاب- يجعلون لله ابنا، هو المسيح، ويجعلونه إلها، كما يجعلون أمه إلها.. فكيف إذن يكون الإله إلها واحدا؟ وأين تذهب ألوهية المسيح، وأمّ المسيح؟ «إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ» أي كذب وافتراء على الله.. إذ لو كان الله يأبى أن يكون معه آلهة لما قبل أن يكون المسيح، وأم المسيح إلهين معه!! قوله تعالى:
«أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا؟ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي.. بَلْ لَمَّا
1050
يَذُوقُوا عَذابِ»
. وإذا اطمأنوا إلى هذا المنطق السقيم، الذي أقاموا منه الحجة الباطلة على كذب النبي ودعوته أن يكون الآلهة إلها واحدا- راحوا ينظرون فى النبي ذاته مع صرف النظر عن محتوى رسالته، بعد أن أظهروا بطلانها- بزعمهم- فرأوا أنه على فرض التسليم بصدق ما جاء به- أنه ليس أهلا لأن يتلقى من الله هذا الذكر، وفيهم من هو أكثر مالا وولدا.. فكيف تتخيره السماء دونهم؟ وأين عين السماء عن هؤلاء السادة منهم؟ وهذا ما يشير إليه قوله تعالى على لسانهم: «لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» (٣١: الزخرف).
وفى تقديم متعلق الفعل «عليه» على فاعله «الذكر» - إشارة إلى أن الإنكار للقرآن هنا، ليس منظورا إليه منهم، بقدر إنكارهم لاختيار الرسول لهذا الأمر، وترك ساداتهم ورجالاتهم.. ولهذا جاء قوله تعالى: «بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي» - إضرابا على إنكارهم لشخص الرسول فيهم.. فإن الأمر ليس أمر الرسول، وإنما هو أمر ما أرسل به، والذي كان أولى بالنظر فيه، وإلى مواقع الصدق منه، وإلى محامله من الهدى والخير.. إنّ ذلك هو الذي كان ينبغى النظر إليه والوقوف عنده، والتعرف عليه، ثم قبوله أو التوقف فيه..
ثم إذ كان لهم نظر فى حامل الرسالة بعد هذا، فليكن نظرا قائما من وراء النظر فيما يحمل إليهم.. ولكنهم قلبوا الأوضاع، فنظروا إلى الرسول بمعزل عن هذا الذي يحمله إليهم، فلم يروا فيه إلا واحدا منهم.. ثم إنهم إذ نظروا إليه فى هذا الوضع، لم ينظروا إلى القيم الإنسانية العالية التي يشتمل عليها كيانه، من مكارم الأخلاق، وصفاء الروح، وعظمة النفس، فكل هذا لا حساب له فى موازينهم التي يزنون بها الرجال، تلك الموازين التي لا يقام وزن الرجال
1051
فيها إلا بكثرة المال والأولاد! ومحمد- صلوات الله وسلامه عليه- إذا وزن بهذا الميزان المادي، لا يكاد يقام له وزن، ولو أنه كان فى ميزان الروح والنفس يرجح العالمين جميعا.!!
وإنهم ليسوا فى شك من الرسول وحسب، بل إنهم فى شك من الرسالة التي يحملها إليهم، وفى القرآن الكريم الذي يتلوه عليهم.. وإنهم كما نظروا إلى محمد ووزنوه بهذا الميزان الفاسد، نظروا إلى ذكر الله، ووزنوه بميزانهم المضطرب المختل، فقالوا عنه: هو شعر، وهو سحر، وهو أساطير الأولين..
إلى آخر تلك المقولات التي قالوها فى كلام الله..
وفى قوله تعالى: «بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي» - وفى إضافة الذكر إلى الله- إشارة إلى أن حكمهم على القرآن، وتكذيبهم له، ليس حكما، على محمد، ولا تكذيبا له، بل هو حكم على الله وتكذيب لله، فهذا القرآن قرآنه، وهذا الكلام كلامه.. وإذن. فإن حسابهم ليس بينهم وبين محمد، وإنما حسابهم بينهم وبين الله..
وفى قوله تعالى: «بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ» - إضراب على الحديث إليهم بمنطق الحق، وإنهاء لهذا الموقف معهم، إذ لا تجدى معهم حجة.. وإذن فليذوقوا العذاب الذي يسوقه الله إليهم، بعد أن رفضوا هذه الرحمة المهداة لهم..
وفى قوله تعالى: «لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ» تهديد لهم بالعذاب الذي لم يذوفوا طعمه بعد، وأنه آت لا ريب فيه..
قوله تعالى:
«أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ».
1052
أي وإلى أن يقع العذاب المرسل إلى هؤلاء المشركين، فلينظروا فى هذه القضية، وليجيبوا منها على هذا السؤال: أعندهم خزائن رحمة الله، حتى يتصرفوا فى هذه الرحمة كما يشاءون، فيسوقوها إلى من شاءوا، ويصرفوها عمّن شاءوا؟ وإذا كانت رحمتنا قد شاءت لها إرادتنا أن تجىء إلى «محمد» وأن تجعله الرسول المصطفى لرسالة السماء من بينهم، فهل فى مقدورهم أن يتحكموا فى إرادتنا، وأن يصرفوا هذه الرحمة عنه، وأن يسوقوها إلى الرجل الذي يتخيرونه منهم؟ أليس ذلك مصادمة منهم لمشيئة الله، وتحديا لإرادته؟ «أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ؟ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ» (٣٢: الزخرف).. فهل هم يقسمون فيما بينهم رحمة الله فيما أفاء عليهم من نعم، فأغنى وأقنى، ومنح ومنع؟
وفى وصف الله سبحانه وتعالى «بالعزّة».. إشارة إلى أن مشيئته لا تغلب، وأن إرادته لا تنازع «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ» (٥٤: الأعراف)..
وفى وصفه سبحانه «بالوهاب».. إشارة أخرى إلى أن هباته وعطاياه سبحانه- كثيرة لا تنفد، وأنه ليس لهم- وتلك هى هبات الله الشاملة، وعطاياه الغامرة- أن يحسدوا «محمدا» على ما أعطاه الله، فإن لهم من هذا العطاء شيئا كثيرا لو أرادوا أن ينالوا منه.. فهذا الخير الذي بين يديه، هو خير مسوق إليهم، وهذه الرحمة التي وضعها الله بين يديه، هى لهم، فليردوا مواردها، وليستقوا من ينابيعها، فإنها رحمة السماء إلى الناس جميعا..
قوله تعالى:
«أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما؟ فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ».
أي ألهؤلاء المشركين ملك ما فى السموات والأرض، ليشاركوا الله فى
1053
تصريفه، ويكون لهم ما شاءوا من منح ومنع، وإحسان وحرمان؟ إن لم يكن لهم ذلك، أو شىء منه، فليقفوا عند حدّهم، وليأخذوا بالأسباب التي فى أيديهم.. تلك الأسباب، التي لو أحسنوا استخدامها لامتلأت أيديهم من فضل الله وإحسانه.. فما لهم إذن يتطلعون إلى السماء وأسبابها، ويعترضون على أحكامها ومقدّراتها، وبين أيديهم الأسباب القريبة التي ينالون بها الخير من قريب؟.. وما بالهم لا يتخذون طريقهم إلى كتاب الله، وينظرون بعقولهم فى آياته وكلماته؟. إنهم لو فعلوا لأصابوا كلّ خير، ولظفروا بالسعادة فى الدنيا والآخرة.. ولكنهم فى ضلال يعمهون.. إنهم ينظرون إلى مقادير السماء، ولن يصلوا، وإنهم يعمون عما فى أيديهم فلم ينالوا شيئا.. وذلك هو الخسران المبين..
ويجوز أن يكون هذا تعجيزا لهم، وتحديا لهذا المدّعى الذي يدّعونه فيما تنطق به حالهم من تكبر واستعلاء، واعتراض على ما لله سبحانه وتعالى من تصريف فى ملكه، فيعطى ويحرم، ويغنى ويفقر.. فإن كان لهم مع سلطان الله سلطان، فليمدّوا أسبابهم إلى السماء، وليرتقوا إلى السماء، وليقوموا على سلطانها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا» (٤٢: الإسراء).
قوله تعالى:
«جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ».
أي هم جند.. مبتدأ وخبر.. وقد أضرب عن ذكرهم، إهانة لهم، واستخفافا بهم.. وأنهم مغلوبون مهزومون فى الأرض بجند من جند الله، فكيف يكون لهم سلطان وغلب فى السماء؟
1054
و «ما» نكرة، تفيد العموم.. أي هم جند ما، من تلك الجند الكثيرة، ويجوز أن تكون للتنكير استخفافا بهم، وتهوينا لشأنهم أي هم جماعة من تلك الجماعات، التي تجتمع على الضلال، وتتحزّب على الباطل، فى كل زمان ومكان.. ومن هؤلاء قوم نوح وعاد وفرعون، وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة.. فهؤلاء هم الأحزاب الذين أشارت إليه الآيتان (١٢، ١٣) من هذه السورة..
وهزيمة هؤلاء الجند، هى هزيمتهم فى مواقع الحق، وخذلانهم فى مجانى الخير.. فهم لا يعرفون حقا، ولا ينالون خيرا..
وفى وصفهم بالجند، إشارة إلى أنهم فى حرب مع الله، ومع جند الله..
هذا هو ما تشير إليه الآية الكريمة من قريب، إلى موقف هؤلاء المشركين..
وفى الآية الكريمة إشارة إلى أبعد من هذا، وهى هزيمتهم فى موقعة الأحزاب، المعروفة بالخندق. فقد هزم المشركون، وما حزّبوا من أحزاب على النبي والمسلمين، وظاهرهم اليهود على هذا الذي أرادوه بالنبي والمؤمنين من سوء.. فهم وما جمعوا، جمع هزيل، لا قيمة له..
الآيات: (١٢- ٢٠) [سورة ص (٣٨) : الآيات ١٢ الى ٢٠]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (١٣) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (١٤) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (١٥) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (١٦)
اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (٢٠)
1055
التفسير:
قوله تعالى:
«كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ، وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ».
فى هذا العرض للأقوام الذين كذّبوا رسل الله أمران.
الأول: مواساة للنبىّ الكريم؟ بهذا الذي لقيه رسل الله من قبله من تكذيب أقوامهم لهم.. فليس النبىّ- صلى الله عليه وسلم- بدعا فيما ناله من قومه، من أدى وضرّ..
والثاني: هو تهديد لهؤلاء المشركين أن يلقوا هذا المصير المشئوم الذي لقيه المكذّبون برسل الله.
فرعون ذو الأوتاد، هو فرعون مصر الذي وقف من موسى هذا الموقف الذي انتهى به وبجنده إلى الهلاك غرقا.
وأوتاد فرعون، هى تلك الأهرام التي أقامها فراعين مصر، فكانت أوتادا على الأرض كالجبال.. فالجبال هى أوتاد الأرض، كما يقول تعالى:
«وَالْجِبالَ أَوْتاداً» (٧: النبأ).
وأصحاب الأيكة: هم قوم شعيب عليه السلام.. والأيكة الشجر الكثير المجتمع بعضه إلى بعض أشبه بالغاية..
1056
وفى عطف «عاد» على فاعل الفعل «كذبت» وهو «قوم» - إشارة إلى أن المكذّبين هم «عاد» لا قوم عاد، إذ كانت نسبة الأقوام هنا إلى أنبيائهم.. وعاد ليس نبيا.. وكذلك الشأن فى «ثمود» وأصحاب الأيكة..
أما عطف «فرعون» على عاد، فلأنه:
أولا: ليس نبيا، حتى يضاف القوم إليه فى هذا المقام، ثم إن قوم فرعون، ليسوا من قوم النبىّ موسى، حتى يضافوا إليه..
وثانيا: لو أضيف القوم إلى فرعون، لأشعر هذا بأنه غير داخل معهم فى التكذيب.. وهذا غير مراد..
وثالثا: تسليط فعل التكذيب على فرعون، يشعر بأنه كان هو الكيان المكذّب، الذي احتوى قومه جميعا فى كيانه هذا..
وقوله تعالى: «أُولئِكَ الْأَحْزابُ».. الإشارة إلى هؤلاء المكذبين الذين ذكرتهم الآيتان السابقتان.. وأنهم الأحزاب الذين جاء ذكرهم فى قوله تعالى:
«جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ» - أي فهؤلاء المشركون من قريش، هم جماعة من تلك الجماعات، وهم من أحزابهم التي اجتمعت على الكفر والضلال، وعلى التكذيب برسل الله.. وهؤلاء جميعا- ومنهم هؤلاء المشركون- محكوم عليهم بالهزيمة والخذلان.. وهذا ما يشير إليه:
قوله تعالى:
«إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ».
«إن» هنا نافية، بمعنى (ما). أي ما كلّ هؤلاء إلا كذّب الرسل، «فحق عقاب» فوجب عليه عقاب الله الراصد له..
وفى إسناد التكذيب بالرسل جميعا، إليهم فى مقام واحد- إشارة إلى أمرين:
1057
أولا: أن الرّسل جميعا على أمر واحد، وعلى دعوة واحدة، هى الإيمان بالله.. فمن كذب برسول من رسل الله، فهو مكذب برسل الله كلهم.. لأن الحق الذي معهم واحد، والدين الذي يدعون إليه دين واحد..
وثانيا: أن أهل الضلال، كيان واحد أيضا، لا اختلاف بين أولهم وآخرهم..
فالطريق الذي سار عليه أولهم، من الكفر بالله والتكذيب بالرسل، هو نفس الطريق الذي سلكه وسار عليه كل مشرك ضال..
قوله تعالى:
«وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ».
الفواق: البرهة القصيرة من الزمن، بين الجرعة والجرعة من الماء.. يأخذ فيها الشارب نفسه..
والإشارة هنا (بهؤلاء) إلى المشركين، وأنهم هم المقصودون فى هذا المقام بهذا الحكم المشار إليهم به..
والآية تهديد لهم بأنهم- وقد أهلك الله أمثالهم من المكذبين الضالين، وأنزل بهم العذاب الذي يستحقونه- لن يمهلوا طويلا حتى يأتيهم العذاب، وهو حين يأتى لا يدع لهم لحظة من الزمن يستردون فيها أنفاسهم.. إنها صيحة واحدة تخمد أنفاسهم بعدها..
والصيحة هنا، هى صيحة الموت.. فإن مشركى العرب لم يهلكوا بعذاب من عند الله فى الدنيا، إكراما لرسول لله صلوات الله وسلامه عليه، كما يقول سبحانه: «وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ» (٣٣: الأنفال) وصيحة الموت هذه، هى بالنسبة للكافر، الذي يموت على كفره،
1058
بلاء عظيم، إذ تقطعه عن الإيمان الذي كان يمكن أن يكون منه قبل أن يموت، فإذا مات على الكفر استحال أن يكون فى المؤمنين أبدا.. وكانت الصيحة عليه بالموت، هى المركب الذي يحمله إلى جهنم فى غير مهل!!.
قوله تعالى:
«وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ».
أي أن هؤلاء المشركين- وقد وعد الله نبيه فيهم، ألا يأخذهم بما أخذ به المكذبين قبلهم من عذاب الدنيا- لم يقبلوا هذا الإحسان من الله، بل ردوه فى قحة وتحدّ «وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ» يقولون هكذا «ربّنا» ولا يستحيون أن يتحدوه هذا التحدي، ولا يخشوا عذابه!.
والقط: هو النصيب المقسوم من الشيء.. ولعلها كلمة جاءت إلى اللسان العربي من ألسنة الأمم المجاورة للعرب.. ولعل أصلها «القط» وهو جزء من أصل الشيء، ومنه القسطاس، وهو الميزان الذي توزن به الأشياء، ويحدّد به قدرها..
وفى قولهم: «قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ» مع أنهم يكذبون به، استهزاء وسخرية، ومبالغة منهم فى التكذيب بهذا اليوم.. يوم الحساب الذي يوعدهم الرسول به، وهو غير واقع فى تصورهم..
قوله تعالى:
«اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ».
الأمر بالصبر: هو دعوة من الله سبحانه وتعالى إلى النبي الكريم، بالمصابرة، واحتمال المكروه من هؤلاء المكذبين، وما يقولون من منكر القول، كقولهم هذا: «عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ!» - فإن لهؤلاء الظالمين يوما يجعل الولدان شيبا..
1059
وقوله تعالى: «وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ» أي واذكر فى هذا المقام الذي تدعى فيه إلى الصبر- «اذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ.. إِنَّهُ أَوَّابٌ» ففى ذكره فى هذا المقام ما تجد فيه الروح الأنس، لما يتمثل لك من سيرته، التي يقصها الله عليك..
والأيد: القوة.. وهى مأخوذة من اليد، التي تتمثل فيها قوة الإنسان الجسدية.. ثم إنها ليست يدا واحدة، بل أيديا كثيرة.. وإذن فهى قوة خارقة..
والقوة هنا ليست قوة جسدية- وحسب- بل هى قوة روحية ونفسية أيضا، تشتمل على طاقات عظيمة، من الصبر على المكاره، واحتمال الشدائد..
والأوّاب: كثير الأوب، والأوب هو الرجوع إلى المكان الذي كان منه الذهاب.. فهو رجوع بعد ذهاب.. وقد غلب الأوب على المعنويات، كما غلب الإياب على الماديات..
والمراد بالرجوع هنا، الرجوع إلى الله، والاستقامة على طريقه، بعد ميل عنه.. فالأواب: هو الراجع إلى الله مرة بعد مرة.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً» (٢٥: الإسراء).
والسؤال هنا هو:
لماذا كان داود عليه السلام هو المثل الذي يقيمه النبي- صلوات الله وسلامه عليه- بين عينيه، وهو بشدّ عزمه بالصبر على ما يقول قومه من زور وبهتان فيه؟ وهل فى داود- عليه السلام- فصل خاص فى هذا المقام، لم يبلغه الأنبياء؟ إن القرآن يحدثنا عن إسماعيل، وإدريس، وذى الكفل، على أنهم المثل البارز فى الصبر الكامل.. فيصفهم سبحانه بالصبر، مجتمعين، فيقول
1060
سبحانه: «وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ» (٨٥: الأنبياء) ويقول سبحانه عن أيوب: «إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ» ويقول سبحانه على لسان إسماعيل لأبيه: «سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ» فما تأويل هذا؟.
والجواب- والله أعلم- هو من وجوه:
فأولا: ليس المراد بالأمر الموجه من الله سبحانه، للنبى- صلوات الله وسلامه عليه- بذكر داود عليه السلام، فى مقام إلفات النبي إلى الصبر، وإلى إقامة أمره عليه- ليس المراد به التأسى بهذا النبي الكريم، وإنما المراد به الحذر من أن تطرقه حال من أحوال الضعف البشرى، فيقع منه ما وقع من داود، فيما كان موضع ندم منه، واستغفار لربه، وتوبة إليه..
إن داود- عليه السلام- كان مع ما وصفه الله سبحانه به من قوة وأيد- غير قادر على مواجهة الفتنة التي ابتلى بها مواجهة كاملة، فكان منه هذا الذي وقع منه، والذي استغفر له ربه، فغفر له.. فالنبى عليه الصلاة والسلام، مطالب بأن يكون على عزم وقوة، أشد وأقوى مما كان عليه داود، من عزم وقوة، لأنه فى وجه فتنة أعظم وأشد من فتنة داود..
فالأنبياء- صلوات الله وسلامه عليهم- هم بشر قبل أن يكونوا أنبياء ورسلا.. والنبوة والرسالة، لم تنزع عنهم ثوب البشرية، وإن ألبستهم النبوة والرسالة حلل الصفاء، والنقاء، والطهر، ولكنها مع هذا، لم تسلبهم نوازع البشرية، وضروراتها.. وإلا لكانوا خلقا آخر غير خلق الناس، ولكانوا أبعد من أن يعيشوا فى دنيا الناس، وأن يألفهم الناس ويألفوا الناس..
والأنبياء- صلوات الله وسلامه عليهم- على هذا الحساب، ليسوا على درجة واحدة. وإن كانوا جميعا على قمة البشرية كلها، فهم درجات ومنازل
1061
عند الله.. وفى هذا يقول الله تعالى: «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ» (٢٥٣: البقرة).. ولو أنهم كانوا على الكمال المطلق، لكانوا درجة واحدة.. ولكنهم- على حدود الكمال البشرى- فى أعلى منازله.. وهم فى هذه الحدود، درجات ومنازل..
وثانيا: ليس هذا التأويل الذي ذهبنا إليه فى قوله تعالى: «وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ» - من أنه ليس مرادا به التأسى به، وإنما المراد هو تخطّى هذا الحد الذي وقف عنده داود عليه السلام وتجاوزه، فى مقام الصبر، والعزم- نقول ليس هذا التأويل بالذي ينقص من قدر هذا النبي الكريم، وإنما هو وضع له فى المقام الكريم الذي وضعه الله فيه، وإن كان فوق هذا المقام مقامات ومقامات!!.
وهذا كلام قد لا يهضمه كثير من أهل العلم، أو أدعياء العلم.. ويعدّونه تطاولا على مقام الأنبياء، وعدوانا على عصمتهم.. ومن يدرى فقد يذهب ببعضهم الشطط إلى أن يقولوا إن هذا كفر!! ونقول لهؤلاء مهلا.. فإننا على الإيمان بالله وبرسل الله، وعلى التوقير لهم، والصلاة والسلام عليهم..
ومع هذا، فإننا سنقول هذا القول، لأنه مما تنطق به آيات الله، وتجرى عليه سنة الحياة البشرية، وترضاه العقول السليمة، وتطمئن إليه القلوب المؤمنة.
ثم نسأل: إذا كان ما قلناه فى تأويل الآية الكريمة، مما يعدّ تطاولا على مقام هذا النبي الكريم.. فماذا عند من ينكر هذا التأويل- من تأويل لقوله تعالى للنبى صلوات الله وسلامه عليه: «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ» (٤٨- ٥٠: القلم)..
ماذا فى تأويل قوله تعالى: «وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ» ؟ أليس فى هذا
1062
إلفات للنبى الكريم، ألا يكون على حال من الصبر كحال هذا النبي الكريم، «يونس» عليه السلام؟ أليس هذا صريح منطوق الآية الكريمة؟ وهل هذا مما يضير يونس عليه السلام؟ وهل ينقص ذلك من قدره فى موازين الناس؟
وكلا، فإنه وهو على تلك الحال كان بمنزلته العالية، وبمقامه الكريم عند ربه، الذي يقول سبحانه عنه: «فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ».
وثالثا: لم يكن من محامل الآية الكريمة، وهى تحمل إلى النبي- صلوات الله وسلامه عليه- هذا التحذير الخفي من أن يكون على مستوى النبي الكريم «داود» فى مقام الصبر- لم يكن من محاملها شىء يمس مقام هذا النبي الكريم، بل لقد حملت الآية الكريمة مع هذا ألطافا كثيرة من عند الله إلى عبده «داود».. كلها تنويه به، ورفع لقدره، وإحسان بعد إحسان إليه، وكفى داود شرفا وفضلا أن يكون عبدا لله، مضافا إلى ذاته جل وعلا.. ثم إن فى قوله تعالى: «وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ» عدولا عن اللفظ الذي يدل على الاحتراس والحذر والتجنب، إلى اللفظ «اذكر» الذي لا يكون إلا فى مقام الإحسان وتذكر النعم.. ثم جاء بعد هذا إضافة داود إلى الله سبحانه وتعالى، إضافة عبودية، الأمر الذي لا يناله إلا المخلصون الأصفياء من عباد الله..
ثم جاء بعد هذا وصفه بأنه «ذو الأيد» أي القوة والصبر على ما يبتلى به من ربه من منح أو منع.. ثم أنبع هذا الوصف بوصف آخر، وهو أنه «أواب» أي كثير الأوب والرجوع إلى الله، إذا هو شعر بأنه لم يؤد لله ما يجب فى مواقع الابتلاء، من شكر، أو صبر..
ثم يذكر بعد هذا ما ساق الله إليه من سوابغ رحمته المادية ولروحية معا، فيقول سبحانه: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ».. فهذه وهى الجبال أبرز وجوه ما على الأرض من عوالم، تستجيب له، وتأنم به، وتسبّح لله معه.. وهذه الطيور التي تبسط سلطانها فى
1063
الجو، تحشر إليه- بقدرة الله- من كل صوب،. وكأنها بعض جنوده من البشر تسبّح الله معه، وتردد ما يسبح به..
ثم يقول سبحانه: «وَشَدَدْنا مُلْكَهُ» أي أعطيناه ملكا، وثبتنا له قواعده، «وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ» أي إلى جانب هذا الملك المتمكن، آتيناه نبوة، وعلما، تتكشف له بهما موارد الأمور ومصادرها، فيقيمها على ميزان العدل والإحسان.. ثم يقع لداود النبي- وهو قائم على سياسة هذا الملك الذي بين يديه- يقع له ابتلاء، فيهتز ميزان العدل فى يده، ويجد لهذا نحسة فى ضميره، فيرجع إلى الله تائبا مستغفرا، فيلقى من ربه قبولا ومغفرة، ويكسى حلل الرضا والإحسان، فيقول سبحانه: «فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ»
وهكذا يفعل الله لعباده المؤمنين.. يبتليهم، ثم يعافيهم، ليريهم مواقع رحمته بهم، وإحسانه إليهم، فيزدادون حمدا له، وقربا منه..
الآيات: (٢١- ٢٦) [سورة ص (٣٨) : الآيات ٢١ الى ٢٦]
وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (٢٤) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥)
يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (٢٦)
1064
داود.. وما خطيئته؟
قلنا إن الله سبحانه وتعالى، حين دعا النبي- صلى الله عليه وسلم- إلى الصبر، لفته- فى رفق ولطف- إلى ألا يكون كداود عليه السلام فيما ابتلى به، فلم يكن على المستوي المطلوب منه فى مواجهة هذا الابتلاء.. وقلنا إن ذلك لا ينقص من قدر هذا النبي الكريم، وإن كان يزيد فى قدر النبي محمد- صلوات الله وسلامه عليه- ويشير إلى المقام الذي يجب أن يرتفع إليه، متجاوزا مقام داود عليه السلام- وإن كان مقاما رفيعا عظيما..
والذي نريد أن نقف عنده هنا، هو: ماذا كان من داود عليه السلام، فيما ابتلى به، مما لفت النبي- صلوات الله وسلامه عليه- إلى أن يذكره فى مقام الصبر، وأن يكون له من ذكره عبرة وعظة.. ؟
فماذا كان من داود عليه السلام؟
تحدّث الآيات السابقة عن قصة حدثت لداود عليه السلام، وتذكر أن خصمين دخلا عليه مجلسه فى صورة غير مألوفة، إذ تسورا عليه السور، ولم يدخلا من المدخل الطبيعي إليه.. ففزع منهما، وتوقع الشر من دخولهما على تلك الصورة، التي يقتحمان عليه فيها مجلسه اقتحاما، من غير استئذان، وهو
1065
الملك، ذو البأس والسلطان، الذي تقوم على حراسته الجنود، والحجّاب..
فبأىّ سلطان دخل عليه هذان الخصمان؟ وكيف نفذا إليه؟ وأين عيون الجند والحرس؟ إن فى ملكه إذن لخللا، وإن فى سلطانه لثغرة يمكن أن ينفذ منها الشر إليه!! ولكن سرعان ما يكشف الخصمان عن شخصيتهما، فيهدئان من روعه، ويقولان له: «لا تخف» !! ومم يخاف وهو السلطان ذو البأس والقوة؟
وهل هما إلا بعض رعاياه؟ وهل يخاف الراعي من رعيته؟ وهو حصن أمنها، وموطن سكنها؟ وإذا كان ثمة خوف فهو خوف الرعية من سلطانها، لا خوف السلطان من رعيته!! إن فى الأمر إذن لشيئا. ويمضى الخصمان يعرضان أمرهما: «خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ» !! ويزداد داود عجبا إلى عجب، من هذا الأمر الصادر من المخصمين إليه: «فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ» هكذا بالأمر! وهل يحكم بغير الحق؟
وهل يتوقعان منه غير هذا؟ وإذا كانا يتوقعان غير ذلك، فهل لهما أن يصدرا إليه هذا الأمر؟ بل هل لهما أن يجهرا بما تحدثهما به نفسهما من جهته؟ إن فى الأمر لأكثر من شىء؟.. ثم لا يقف أمر الخصمين عند هذا الأمر الصريح لداود بأن يكون عادلا فى حكمه بينهما، بل إنه ليحذّر منهما بألا يشتط فى الجور، إن كان لا يملك أن يعدل أو لا يحسن أن يقيم ميزان العدل مستقيما..
«ولا تشطط» !! تلك هى مقدمات القضية.. أما القضية، فلم يرض الخصمان أن يعرضاها إلا بعد أن اشترطا لنفسهما على داود، أن يكون عادلا فى الحكومة بينهما، وألا يجور فى الحكم.. فإن قبل منهما هذا الشرط، عرضا عليه أمرهما، ورضياه حكما بينهما، وإلا كان لهما شأن آخر معه..! إن الأمر فيما يبدو هو محاكمة لداود، أكثر منه احتكاما إليه؟.
1066
وأعجب ما فى الموقف هنا، أن الخصمين يتفقان على هذا الأمر، ويقفان موقفا واحدا فيه، حتى لكأن كلا منهما قد وقع فى نفسه، ما وقع فى نفس صاحبه، من اتهام لداود فى عدله!.. والقضية- كما سنرى- واضحة لا تحتاج إلى نظر دقيق فى التعرف على وجه الحق فيها.. إذ كان الظلم فيها صارخا، يكاد يمسك بتلابيب أحدهما.. فكيف يساغ لهذا الظالم ذلك الظلم الصارخ، أن يطلب العدل، وأن يتشدد فى طلبه؟ إن فى القضية لأشياء وأشياء، تخرج بها عن مألوف ما يجرى بين الناس من قضايا، وما يقع من خصومات.
فما القضية؟.
إنها قضية موجزة، واضحة، قد جمعها القرآن الكريم فى كلمات:
«إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ» !!.
هذه هى القضية:
أخوان فى النسب، أو فى الإنسانية، لأحدهما تسع وتسعون نعجة، وللآخر نعجة واحدة.. وصاحب التسع والتسعين نعجة، لا يقنع بما فى يده، بل يمدّ عينه إلى أخيه صاحب النعجة الواحدة، ثم لا يزال به حتى يسلبه نعجته، ويخلى يديه من كل شىء، حتى يصبح هو صاحب مائة.. فيكمل بتلك النعجة ما يراه نقصا فى تمام العدد.. وإن تسعا وتسعين عدد ناقص، ومائة عدد كامل.. فلا بد إذن أن يكملّ هذا العدد، ولو كان بحرمان صاحب النعجة الواحدة، من نعجته..!
وماذا يفعل صاحب القليل بقليله هذا؟ إنه لا غناء له فيه، وإنه ليسدّ خللا فيما بين يدى صاحب الكثير، ويكمل نقصا واضحا فيه.. فماذا عليه
1067
لو ضاع منه هذا القليل، ليوضع فى موضعه الذي ينتظره عند صاحب الكثير؟
هكذا قدّر صاحب الكثير، وهكذا أمضى حكمه فى صاحبه!.
والظلم واضح صريح فى هذه القضية.. ولهذا بادر داود ببيان وجه الحق فيها، على حسب ما سمع من المدعى: فقال- معلقا على دعواه:
«لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ» ! إن الأمر- فيما يبدو- ظلم صارخ، وعدوان مبين.!
ولم يلتفت داود إلى الظالم، ولم يواجهه بالحكم الذي يقتضيه الموقف، بل عاش لحظاته تلك، مع هذا المظلوم، يواسيه، ويخفف عنه مرارة الظلم الذي تجرعه من يد أخيه.. فيقول له: «وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ.. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ».. فلست أنت يا صاحبى أول من ظلم من معاشريه ومخالطيه.. فما أكثر بغى الخلطاء بعضهم على بعض، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات من هؤلاء الخلطاء.. وقليل هم أولئك الذين لا يظلمون!.
وهنا يبحث داود عن هؤلاء القليل فى الناس، ويتفرس فى وجوههم، ثم يلتفت إلى نفسه، وهل هو واحد من هؤلاء القليل؟ وهنا يطلع عليه من صفحة أعماله ما يراه غير قائم على ميزان العدل.. وسرعان ما يرى نفسه طرفا فى هذه القضية التي بين يديه، وأنه يأخذ موقف المدعى عليه فيها، وأن هذا المدعى إنما يقيم دعواه عليه هو، لا على هذا الشخص الذي جاء به إليه.. إن هذا الشخص ما هو إلا المرآة التي يرى فيها داود نفسه!.
ومن إعجاز القرآن فى هذا، أنه لم يضع هذا المدعى عليه موضع اتهام،
1068
فلم يسأل فى هذا الادعاء المدعى عليه به، ولم يوجّه إليه أي حديث، بل كان الحديث كله بين داود وبين صاحب الدعوى.. إذ يقول له معلقا على دعواه:
«لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ».. وكان الموقف يقتضى أن يقول للمدعى عليه «لقد ظلمته بسؤال نعجته إلى نعاجك» !. فما جوابك على هذا؟.
لم يكن شىء من هذا.. بل لقد ذهب الخصمان، دون أن يفصل بينهما فيما اختصما فيه.. ويخليان مكانهما للخصمين اللذين هما أولى منهما بهذا الموقف:
داود وخصمه، الذي تمثّل له فى خطيئته..
وهنا يدرك داود أن هذين الخصمين، إنما هما ابتلاء من الله سبحانه وتعالى له، ليكشفا له عن أمر كان منه، فيه مشابه كثيرة من هذه القضية التي بين يديه، فيذكر هذا الأمر، ويكون له من ذكره امتحان وابتلاء، حيث يلتمس السبل فى تخليص نفسه مما وقع فيه، فلا يجد إلا التوبة إلى الله، والاستغفار لذنبه، وهو فى ذلك المقام يتقلب على جمر من الحسرة والندم، قد كربه الكرب واستبد به الجزع على ما فرّط فى جنب الله.. إنه أعرف بربه، وبجلاله وعظمته، وقدرته، وبالنعم السابغة التي أضفاها عليه، ثم هو أعرف بما لله من غيرة على حرماته، كما هو أعرف بما لله من حساب لأوليائه على صغائرهم، وهم فى هذا المقام الكريم الذي أنزلهم فيه..
ومن هنا كان داود فى فتنة قاسية، وابتلاء عظيم، بعد أن كشفت له تلك القضية عن حال من أحواله، لا يرضاه عنه ربه، فغامت نفسه، وضاقت عليه الأرض بما رحبت.. وقد ظل هكذا فى كرب وبلاء عظيمين، يستغفر ربه، ويذرف دموع الندم، إلى أن تلقى إشارة السماء بمغفرة الله سبحانه وتعالى له، ورضوانه عنه، وإحسانه إليه!!
1069
إنها هفوة من هفوات النفس البشرية، وهى فى حساب الناس لا تكاد تعدّ شيئا، بل حتى لا تحسب من اللمم المعفو عنه، ولكنها فى مقام الأنبياء والرسل شىء عظيم، وذنب كبير..!
ونكاد نقف عند هذا الحد من هذه القضية، أو القصة. فهذا ما نأخذه من آيات الله، ودلالاتها القريبة، دون تعسف فى التأويل، ودون استجلاب للمقولات الغريبة، التي تحمل عليها آيات الله حملا..
نقول، نكاد نقف عند هذا الحدّ من تلك القضية، وحسبنا أن نعرف مما تحدثنا به آيات الله، أنه كان من نبى من أنبياء الله الكرام هفوة، ثم كان له من الله سبحانه ألطاف، فتاب إلى الله واستغفر لذنبه، فغفر الله له، وزاد مقامه عنده رفعة- نقول- مرة ثالثة- كنا نريد أن نقف عند هذا الحد لا نتجاوزه، ولكنا نجد بين أيدينا، كتب التفاسير كلها، قد جاءت بمقولات من وراء دلالات الآيات القرآنية، وأكثرها مأخوذ عن روايات إسرائيلية يرويها اليهود عن كتابهم الذي حرّفوه، وألقوا فيه بأهوائهم الفاسدة، ومنازعهم الخبيثة..
ثم توسّع الرواة والنقلة فى هذه المقولات، وتصرفوا فيها كيف شاءوا، ومن وراء ذلك اليهود، يدسّون على المسلمين أحاديث عن الرسول، يضعون لها سلسلة من الرواة الذين اشتهر عنهم الحديث عن رسول الله، فتقع هذه الأحاديث المكذوبة من قلوب المسلمين موقعا، لا يجدون معه سبيلا إلى دفعها، وإذا حصيلة هذه الأحاديث المكذوبة، مجموعة من المتناقضات، يدفع بعضها بعضا، ويكذّب بعضها بعضا، فلا يدرى المرء ماذا يأخذ منها وماذا يدع. وفى أكثر الأحوال ينتهى الأمر إلى الشك فيها جملة.. إذ كانت لا تتصل بالعقيدة أو الشريعة..
1070
وهذه قضية قد عرضنا لها فى أكثر من موضع، وربما عرضنا لها فى دراسة خاصة- إذا شاء الله- بعد أن يعيننا الله سبحانه، على أداء هذه المهمة التي نقوم بها فى خدمة كتابه الكريم،. فإن مثل هذه الأحاديث التي تنسب إلى الرسول الكريم، وإن لم تكن ذات أثر فى العقيدة أو الشريعة، فإنها تسبب إزعاجا، وخلخلة فى نفس المسلم إزاء الأحاديث النبوية الشريفة، وتقيمه منها على مقام بين الشك واليقين، فى كل ما يعرض له من أحاديث تنسب إلى الرسول.. وتلك هى جناية الأحاديث المكذوبة والملفقة على السنّة، التي هى المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن الكريم.
ونعود فنقول:
إن الذي يدعونا إذن إلى الوقوف عند هذه القصة- قصة داود عليه السلام- هو تلك المقولات الكثيرة المتناقضة المتضاربة، التي قيلت عن الهفوة التي كانت من هذا النبي الكريم.. ولا نريد أن نعرض هذه المقولات، ونناقشها، ونعدّل أو نجرّح فيها، فهذا يحتاج إلى بحث طويل، يستنفد منا جهدا نحن حريصون على ألا يكون لغير كتاب الله..
وإذن فلن نقول هنا فى هذه الهفوة، وفى الكشف عن وجهها إلا قولا واحدا، نختاره من بين هذه المقولات، لأنه أقرب شىء إلى مفهوم تلك الإشارة الخصية التي يراها الناظر بقلبه وبعقله فى الآيات الكريمة التي نحدثت عن تلك القصة.
فالآيات القرآنية، تحدث عن أن داود عليه السلام، قد آتاه الله سبحانه ملكا، وقد مكّن له فى هذا الملك- إلى جانب النبوة التي اختصه الله سبحانه بها، فجمع لله سبحانه بهذا بين يديه السلطة الدينية والدنيوية معا..
1071
هذه واحدة..
وأخرى، هى أن هذا النبي الكريم، وإن لم تكن له رسالة خاصة فى قومه، فإن رسالته فيهم، كانت امتدادا لرسالة موسى. فهو- والأمر كذلك- لم يكن فى رسالته إليهم إلا أن يقيمهم على الشريعة التي فى أيديهم، وأن يحقق العدل الذي اختلت موازينه فى أيديهم..
وهذه ثانية..
وثالثة، هى أن معركة هذا النبىّ وميدانها، هو فى هذا الصراع الذي يقوم بين السلطتين اللتين فى يديه.. سلطة الدين الذي يمثل سلطان الله الذي وضعه فى يده بمنصب النبوة، وسلطة الدنيا التي تتمثل فى هذا الملك الذي يقوم عليه..
ومن هنا كان على داود- عليه السلام- أن يمسك ميزان العدل فى يديه، وأن يقيمه بالقسط، فلا يميل ولا ينحرف.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ» الآية..
ورابعة.. وهى أن إقامة هذا الميزان على حال سوى متوازن دائما، أمر لا تكاد تحتمله طاقة البشر، فقد يكون فى طاقة الإنسان أن يعمل للملك وحده، فلا يعطى للدين ولا للآخرة شيئا.. وقد يكون فى طاقته أن يعمل للدين وحده، فلا يعطى الدنيا من نفسه شيئا.. هذا وذاك أمران ممكنان.. وممكن كذلك، أن يجمع الإنسان بين السلطان فى الدنيا، والعمل للآخرة.. وذلك بأن يعمل للآخرة، وأن يمسك بطرف من السلطان الدنيوي أو أن يعمل للدنيا، ويمسك بطرف من الآخرة.. أما أن يجمع بين الدين والدنيا هذا الجمع المتوازن، المستقيم على خط هندسى.. فهذا هو لذى لا يمكن أبدا..
وننظر إلى داود- عليه السلام- فى موقفه هذا:
1072
إنه سلطان، يملك دنيا عريضة.. ولهذه الدنيا إغراؤها، وشهواتها..
وإنه نبى كريم. وللنبوة خطرها، وجلالها، وسموّها..
والمطلوب منه هنا، هو أن يجمع بين السماء والأرض.. أن يلبس الملك والنبوة معا.. فلا يرى فى حال من أحواله إلا ملكا نبيّا، أو نبيّا ملكا..
إنه ملك من عند الله، ونبىّ من عند الله، يسوس الملك بالنبوة، ويؤيد النبوة بالملك!..
ولا شك أن هذا فضل عظيم، ولكنه ابتلاء عظيم أيضا، ولهذا كان هذا الإلفات السماوىّ لداود، أن يأخذ حذره، إذ يقول له الحق جل وعلا: «يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ.. إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ». ولهذا أيضا كان تقبل الله سبحانه لداود، وتجاوزه عن ذنبه، إذ كان إنما حمل أمرا عظيما، تغتفر له فيه الهنات، وتقال فيه العثرات! فما هى هفوة هذا النبىّ الكريم، وما هى عثرته؟
إنها- والله أعلم- ملففة فى ستر من ألطاف الله ورحمته، فيما كان من تلك القضية التي عرضها عليه الخصمان: «خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ» إن القضية تمثل صراعا بين قوىّ وضعيف.. بين من يملك الكثير الكثير، ومن لا يملك إلا القليل القليل.. بين صاحب سلطان يعتز بسلطانه، ويمضى الأمور بكلمة تصدر من فمه، وبين من لا يملك الكلمة بقولها أمام هذا السلطان!..
1073
وداود- عليه السلام- يمثّل السلطان فى أعزّ مكان، وأقوى سلطان..
وبكلمة منه إلى أحد رعاياه نزل له هذا الرعية عن شىء- هو أعز ما يملك- كانت نفس داود قد مالت إليه، ورغبت فيه.. ولم يستطع هذا «الرعية» أن يقول: لا.. توقيرا وهيبة، أو خوفا وإشفاقا..
وفى قوله تعالى: «وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ» - إشارة إلى أن كلمة «داود» كانت حكما قاطعا، وقضاء نازلا، لم يستطع له هذا «الرعية» ردّا.
يقال: عز فلان، أي صار ذا عزة، وعز فلان فلانا، أي غلبه.
وفى المثل: «من عزّ بزّ» أي من قوى، غلب وسلب! وماذا أخذ «داود» من هذا الإنسان؟
إنه شىء ما، عزيز على هذا الإنسان، مستغن به.. قد يكون فرسا، يضمه داود إلى مقتنياته من جياد الخيل.. وقد يكون مزرعة بين مزارع داود.. وليس من الحتم أن يكون امرأة، كما ذهب إلى ذلك أكثر المفسرين، مستندين فى هذا إلى ما جاء فى قضية الخصمين، وإلى أن النزاع كان بينهما على «نعجة».. والنعجة تطلق فى لسان العرب على المرأة!! ولو سلمنا بهذا، لكان لنا أن نقول، إن هذا مثل، تراد دلالته، ولا تراد صورته..
فلو ذهبنا نأخذ صورة المثل هنا، لكان من الحتم أن يكون لداود تسع وتسعون امرأة.. وهذه الكثرة فى النساء، إن فرض التسليم بها، فلم يوقف بها عند هذا العدد بالذات؟. ولم لا تزيد أو تنقص؟
إن دلالة التسع والتسعين- كما قلنا- هى دلالة على أمرين:
أولا: كثرة الشيء ووفرته..
وثانيا: نقص هذه الكثرة، وحاجتها لشىء يبلغ به تمامها، حتى تكون مائة!.
1074
هذه هى القصة أو القضية.. وقد أدين فيها داود، أدان نفسه وحكم عليها بهذا اللوم الصارخ، وهذا الاستغفار الدائب، والضراعة السابحة فى دموع الندم.. ولعل هذا الصوت الشجى، المحمّل بزفرات الحسرة، ونشبج الحرقة، الذي كان يسبّح به داود، ويتلو به آيات الزبور، على أنغام مزاميره، فتهتز له الجبال، وتصغى إليه الطير- لعل هذا الصوت كان من مواليد هذه المحنة، التي ولدت لداود أكثر من مولود، ورفدته بأكثر من عطاء من عطايا الله ومننه..
أمّا ما تقول به التوراة، وما تلقاه عنهم المفسّرون، ودعموه بالأحاديث من أن داود قد وقع فى حب امرأة قائد من قواد جبشه اسمه «أوريا» وأنه أراد أن يستخلص المرأة لنفسه، بعد أن رآها من قصره وهى تستحم فى فى دارها القائمة تحت قصره، أو وهى تمشط شعرها- فكان من تدبيره لهذا أن بعث بهذا القائد فى مهمة حربية، وجعله فى مواجهة الموت الراصد له هناك.. فلما قتل فى المعركة تزوج داود امرأته- فهذا قول فيه جرأة على مقام هذا النبي، الأمر الذي كان لا يتورع عنه اليهود مع أنبياء الله، أحياء وأمواتا، أو قتلى بأيديهم، فضلا عن أن هذا العمل المشين مدفوع بأكثر من دفع، على حسب ما جاء فى القرآن الكريم، منطوقا ومفهوما، كما رأينا..
الآيات: (٢٧- ٢٩) [سورة ص (٣٨) : الآيات ٢٧ الى ٢٩]
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٩)
1075
التفسير:
قوله تعالى:
«وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ».
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة، قد ذكرت داود عليه السلام، وأشارت إلى أن شيئا ما، من العدوان على غيره، قد وقع منه..
وأنه- وقد كان خليفة الله فى الأرض- فإن الله سبحانه لم يدعه يذهب بما فعل، بل أوقفه موقف الحساب والمساءلة، وبعث إليه من يهجم عليه وهو فى محراب ملكه، وعلى كرسى سلطانه، وأن يجد نفسه بين هذين الخصمين اللذين تسوّرا عليه محرابه، وآتياه من عل، وهو فى قبضة الفزع والاضطراب، لا يجد من قوة سلطانه شيئا يردّ عنه ما حلّ به. إنه قصاص للرعية، وبيد الرعية، من هذا الراعي.. وهذا حسابه مع الناس. أما حسابه مع الله، فقد أدى ثمن هذا العدوان، بكاء وعويلا، وسهرا طويلا..
هكذا سنة الله فى خلقه، وحكمه بين عباده، فكما لا يظلمهم ربّهم شيئا، كذلك جعل الظلم محرّما بينهم، فمن ظلم اقتصّ الله له من ظالمه، فى الدنيا وفى الآخرة. وفى الحديث القدسي: «يا عبادى حرّمت الظلم على نفسى، وقد حرمته عليكم.. فلا تظالموا»
1076
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ» (٦٠: الحج)..
وعلى هذا نجد الصلة وثيقة بين قوله تعالى: «وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ» وبين الآيات السابقة عليها، التي تضمنت هذه القضية التي وضع فيها نبىّ من أنبياء الله موضع المحاسبة والمساءلة على ما كان منه من عدوان على أحد رعاياه.. فالله سبحانه وتعالى خلق السموات والأرض وما بينهما بالحق، وأقامهما على ميزاته، ولم يخلقهما باطلا، حتى يسمح للباطل أن يسكن إليهما، ويعيش فيهما.. بل إن الحق ليمسك بكل ذرة من ذرات هذا الوجود، وإنه ليس فى كائنات الوجود من ينحرف عن طريق الحق إلّا الإنسان، لماله من إرادة، تصدر عن تفكير وتقدير.
وهذا الانحراف، لا يدوم أبدا.. فما هى إلا لحظة عابرة من لحظات الزمن الأبدى، يضطرب فيها ميزان العدل بين الناس، ثم يعود هذا الميزان إلى توازنه، فيوفّى كلّ إنسان جزاء عمله يوم الجزاء: «لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ» (١٧: غافر).
وقوله تعالى: «ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا» الإشارة هنا إلى خلق السموات والأرض وما بينهما، أي أن الله سبحانه ما خلق السموات والأرض وما بينهما باطلا، ولكن الذين كفروا لا يؤمنون بهذه الحقيقة، بل يعيشون فى أوهام وظنون وراء هذا الحق الذي تنطق به آيات الله.. فلو كانوا يؤمنون بالله لآمنوا بهذه الحقيقة، ولا ستيقنوا أن الله هو الحق، وأن الحق لا يكون من صنعته إلا ما هو حق، وأنهم إذا ظلموا لن يتركوا وشأنهم، بل سيحاسبون ويعاقبون، وفى كفرهم بالله ظلم عظيم، يلقون عليه أشد
1077
العذاب.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ».
قوله تعالى:
«أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ» أي أحسب الذين كفروا أننا نسوى بين الأخيار والأشرار، وأن نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات، كالمفسدين فى الأرض، الذين كفروا بالله، وعصوا رسله، وآذوا خلقه؟ ذلك ما لا يتفق مع الحق الذي أقام الله عليه خلقه، والذي به خلق السموات والأرض.
قوله تعالى:
«كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ» أي هذا كتاب أنزلناه إليك «مبارك» أي فيه البركة التي تنال كل من يلقاه، ويتلقى منه الحكمة والموعظة الحسنة، فيتدبر آياته، ويستضىء بأضوائه ويهتدى بهديه.. ومناسبة هذه الآية لما قبلها.. أن الآيتين السابقتين عليها كانتا بيانا لحقيقة هذا الوجود، وأنه قائم على ميزان الحق والعدل، وأن الذين ينحرفون عن طريق الحق والعدل سيلقون سوء العذاب.. وهذه الآية، هى دعوة إلى كل من يلتمس طريق الحق، ويطلب النجاة لنفسه من عذاب الله..
وليس غير كتاب الله هاديا يهدى إلى الحق.. فمن التمس الهدى فى غيره ضلّ، ومن جاوز حدوده هلك..
1078
الآيات: (٣٠- ٤٠) [سورة ص (٣٨) : الآيات ٣٠ الى ٤٠]
وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (٣٢) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (٣٣) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (٣٤)
قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (٣٦) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩)
وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠)
[سليمان.. وشمسه.. والجسد الملقى على كرسيّه] التفسير:
قوله تعالى:
«وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ.. نِعْمَ الْعَبْدُ.. إِنَّهُ أَوَّابٌ» الواو للاستئناف، وعطف حدث على حدث.. أو هى للعطف على قوله تعالى: «فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ».. أي فغفرنا لداود ما كان منه، ووهبنا له سليمان.. ويكون ما بين المتعاطفين اعتراضا، يراد به التعقيب على القصة، والإلفات إليها، والوقوف موقف التأمل عندها.
1079
وأيّاما كان، فإن ذكر سليمان هنا، وأنه مما وهبه الله لداود، هو مما يشير إلى فضل الله سبحانه، وإحسانه إلى عبده داود، بعد خطيئته، واستغفاره وندمه، وقبول الله توبته. وهكذا يبتلى الله سبحانه المصطفين من عباده بما يبتليهم به من مكروه، ثم يخرجهم من هذا المكروه، أصفى جوهرا، وأضوأ نورا، وأكثر إشراقا وألقا. وأن سليمان هذا، إنما هو هبة من هبات الله العظيمة، وعطاء من عطاياه الجليلة المسوقة إلى عبد من عباده المحسنين، بعد هذا الابتلاء العظيم، وبعد تلك المحنة القاسية..
وفى قوله تعالى: «نِعْمَ الْعَبْدُ» ثناء عظيم من المولى سبحانه وتعالى، على سليمان، وعلى داود أيضا، إذ كان ذلك الابن هبة له من ربه..
وقوله تعالى: «إِنَّهُ أَوَّابٌ» إشارة إلى أنه كثير الأوب والرجوع إلى الله وأنه مع الملك العظيم الذي جعله الله بين يديه، كان على صلة وثيقة بربه..
فلم يقطعه الملك عن ذكر ربه، بل إنه كلما كانت له نظرة إلى ملكه كانت له إلى ربه نظرات..
وفى وصف سليمان بالصفة التي وصف بها أبوه داود، وهى «الأواب» إشارة إلى أنهما على درجة واحدة من الاتصال بربهم، والرجوع إليه دائما..
ثم إنه إشارة أخرى إلى أن سليمان سيقع منه ما وقع لأبيه من فتنة وابتلاء، ثم من استغفار وندم، ثم من توبة وقبول من الله، وعطاء جزل عظيم، بعد هذا القبول والرضا من رب العالمين..
قوله تعالى:
«إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ»
1080
«إذ» ظرف يبيّن حالا من أحوال سليمان فى أوبه إلى الله.. أي ومن أو به إلى الله ورجوعه إليه، موقفه هذا الذي كان منه حين عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد..
والصافنات: الخيل الواقفة على ثلاث قواتم، على حين تكون الرابعة قائمة على حرف الحافر.. وهذا من علامات الكرم والأصالة فى الخيل.. أما ذوات الحافر الأخرى، كالحمير والخيل غير الكريمة، فإنها تقف على قوائمها الأربعة، متمكنة من الأرض على سواء.. يقول عمرو بن كلثوم فى معلقته، يصف كرام الخيل التي يقتنونها، ويحاربون عليها:
وسيّد معشر قد توّجوه بتاج الملك يحمى المحجرينا
تركنا الخيل عاكفة عليه مقلّدة أعنتها صفونا
والجياد: جمع جواد، وهو اسم غلب على الذكر من الخيل.. وأصله من الجودة.. والخير: هو الخيل.. وتسمى الخيل خيرا، لأنها مظهر من مظاهر النعمة، حيث لا يملكها إلا أصحاب الثراء والجاه، فحيث كانت الخيل كان الخير معها.. وفى الحديث: «الخيل معقود بنواصيها الخير» والآيتان الكريمان تحدثان عن حال من أحوال سليمان، وموقفه من الاشتغال بملكه وذكره لربه..
فهو- عليه السلام- إذ يستعرض الخيل، كبعض من سلطانه الذي بين يديه، أو كنعمة من نعم الملك الذي آتاه الله- إنه إذ يفعل هذا، وإذ يرى كثرة هذه الخيل المجراة بين يديه، بسرجها، ولجمها، يستعظم هذه النعمة، ويرى أنها شىء كثير، ما كان له أن يستكثر منه إلى هذا الحد، وأن يحفل به إلى هذا المدى، وأنه لو استكثر من ذكر الله، وأعطى لهذا الذكر ذلك المجهود الذي بذله، فى انتقاء هذه الخيل، وفى استجلاب كرائمها من كل أفق- لو أنه فعل هذا لكان أولى، وأجدى..
1081
ولهذا، فإنه عليه السلام، ما إن يرى هذه الخيل تطلع عليه فى جمالها وروائها وروعة منظرها، حتى يلقى نفسه بهذا اللوم: «إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي» ! أي لقد آثرت حبّ الخير الدنيوي، على ذكر ربّى.. فهذا الحب للخيل، هو شهوة متمكنة فى النفس، وهو فتنة من فتن الدنيا، كما يقول سبحانه: «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ.. ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ». وللخيل فى ذاتها شهوة كشهوة المال، ولها فى النفوس موقع لا يعرفه إلا من عرف الخيل وشغف بها، وخاصة فى حياة البادية، التي ترى الخيل فيها وجها من وجوه الجمال والحسن، فى هذه المواقع المجدبة المكفهرة التي لا يلمح فيها الحسن إلا لمحات خاطفة..
وهذا ما تحدثنا به الحياة العربية- وخاصة فى الجاهلية- وما كان للخيل فيها من علقة بالنفوس، وهوى فى الأفئدة، حتى لقد عرفت الخيل بأسمائها، كما يعرف الأبطال، ومشاهير الفرسان. وحتى لقد كان للخيل أنساب كأنساب القبائل والعشائر، وحتى لقد وسعت اللغة العربية من الكلمات فى أوصاف الخيل، وفى وصف كل عضو من أعضائها، وكل شية من شياتها- ما لم يكن يجتمع لشىء آخر غيرها من حيوان أو إنسان.. ولهذه العناية العظيمة بشأن الخيل عند العرب والاحتفاء بها، كان ذلك النتاج العربي من كرائم الخيل وأصائلها، والتي لا تزال محتفظة بمكانها فيه، فوق عالم الخيل إلى اليوم.
وفى الشعر العربي ديوان كبير، يتمدح فيه الشعراء بالخيل، ويتغنون بها، ويكشفون عن مشاعرها، وأحاسيسها فى الحرب، وفى السلم.. كما نرى فى شعر عنترة، وعمرو بن كلثوم، وامرئ القيس.. وغيرهم..
يروى أن عربيا كان يملك فرسا اسمها «سكاب» وكانت من كرائم،
1082
الخيل.. وقد سامه أحد أصحاب السلطان أن يشتريها منه، أو أن يهبها له، إن ضنّ يبيعها، وارتفع بقدرها عن أن تنزل منازل السلع، فلم يجد العربي بدّا من أن يدفع هذا المكروه، متلطفا متوسلا بقصيدة يقول فيها.
أبيت اللّعن إن سكاب علق نفيس لا يعار ولا يباع
مفدّاة مكرمّة علينا نجاع لها العيال ولا تجاع!
فحبّ سليمان عليه السلام للخيل، هو من هذا الحبّ، خاصة وهو مولود فى بيت ملك، تربّى من صغره على الفروسية..
ونعود إلى القصة فنقول: إن سليمان- عليه السلام- إذ يقول هذا القول:
«إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي». إنما هو مراودة بينه وبين نفسه، وخاطر من خطرات اللوم يدفع بها الزهو والعجب عنه، وهو مواجهة هذه الفتنة، ثم هو مع هذا يمضى فيما هو فيه، ولا يقطع مراسم هذا الحفل العظيم الذي احتشد له رؤساء القوم وسادتهم فى هذا الاستعراض العظيم لجيشه مشاة وفرسانا.. وإنه لا بأس من أن يمضى فيما هو فيه الآن، ثم ليكن له بعد هذا حساب مع نفسه، وتدبير فيما يكون منه فى شأن هذه الخيل وغيرها، مما يشغل منه وقتا يقطعه فترات عن ذكر الله، بالاشتغال بهذا المتاع..
وهكذا ظل- عليه السلام- يستعرض الخيل، حتى دخل الظلام، فتوارت عن نظره بالحجاب، أي حجاب الظلام.. فلم يعد يرى ملامحها، ويتحقق من شياتها، وما ينكشف لعينيه من أعضائها، التي تعطى الصفة الملاءمة لكل جواد منها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ» أي أنه- عليه السلام- ما زال ينظر إليها، ويستعرض بعينه تناسب أعضائها، وتناسق ينائها، حتى توارت عنه بهذا الحجاب الذي أرخاه الليل عليها، إذ أن عرضها
1083
عليه قد كان فى أخريات النهار، كما يقول الله تعالى: «إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ»..
هذا، ولم يكن- عليه السلام- قد فرغ من الأمر الذي قصد إليه من هذا العرض للخيل، وهذا هو حجاب الظلام يحول بينه وبين تفرسها بعينيه، إذ كان العرض فى أخريات النهار بالعشي.. فماذا يفعل؟
لقد أراد القائمون على أمر هذا الاستعراض من حاشيته، أن يؤجّلوا ذلك إلى يوم آخر، وأن يذهبوا ببقية الخيل التي لم تعرض إلى مرابطها.. وربما همّ الرجال بهذا فعلا، بل وربما مضوا فى تنفيذه- بعد أخذ موافقته ضرورة- ولكن سرعان ما بدا له أن ينتهى من هذا الاستعراض فى مجلسه هذا، حتى لا يعود إلى هذه الفتنة من غد.. فقال وقد أخذت الخيل طريقها إلى مرابطها: «ردّوها علىّ!» فلما ردت إليه، أخذ يتحسسها سريعا بيديه، بالمسح بيديه على سوقها وأعناقها «فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ».. وأعراف الخيل، وأرجلها- وخاصة سيقانها- هى المواضع التي تنمّ عنها، وتحدّث عن مكانها من الأصالة والجودة.. وفى هذا يقول امرؤ القيس فى وصف جواده:
له أيطلا ظبى وساقا نعامة وإرخاء سرحان وتقريب تتفل
والأيطل: الكفل، وهو أعلى الفخذ.. والسرحان الذئب، والتتفل:
ولد الظبى.
فامرؤ القيس يصف ساق جواده بالضمور، وعدم الامتلاء، ويشبهه بساق النعامة فى دقته، وتجرده من اللحم. على حين يشبّه كفله بكفل الظبى فى الامتلاء باللحم..!
ونلخص مضمون القصة فنقول:
1084
إن سليمان- عليه السلام- استعرض ما يملك من خيل، وكان ذلك فى أخريات النهار، فلما طلعت عليه، هالته كثرتها، وكثرة ما تتزين به من سروج وقلائد، ولجم، فوقع فى نفسه، أن هذا حصيلة جهد كبير، بذله فى هذا الوجه، وأنه كان الأولى به أن يصرف جهده هذا فى ذكر الله..
وقد حدثته نفسه أن يردّ الخيل على أعقابها، وأن يلغى هذا الاحتفال، ولكن وجد أن ذلك قد يثير كثيرا من الأقاويل والشائعات، وأنه ربما يبلغ أعداءه عنه أنه انصرف عن اقتناء الخيل أو زهد فيها، وهى أقوى عدد الحرب يومئذ، فتحدثهم أنفسهم بحربه، ويجدون الجرأة على قتاله، فرأى لهذا أو لغيره أن يمضى فيما هو فيه، وكان الليل قد أرخى حجابه قبل أن يفرغ من استعراض الخيل، وكان من التدبير أن يؤجل بقية العرض إلى يوم آخر، ولكنه- لأمر دبره لنفسه- رأى أن يفرغ من هذا العرض، وأن يستعمل يديه فى التعرف على الجياد من هذه الخيل، وذلك بإمرار يديه على المواضع التي تدل على الجودة أو الرداءة منها، كل ذلك فى سرعة نراها فى قوله تعالى: «فَطَفِقَ» الذي يدل على الاستمرار مع التدفق والجريان للفعل.
أما الأمر الذي دبره سليمان عليه السلام فى نفسه بإنهاء هذا العرض فى هذا المجلس، فهو أن يأخذ نفسه بسياسة غير تلك السياسة التي كان يصرف فيها هذا الجهد باقتناء الخيل، والاحتفاء بها، وأن يجعل ذكر الله همّه وأن يفرغ فيه جهده، وأن يستغفر لما كان منه من تقصير أو تفريط فى جانب ذكره لربه..
هذه هى قصة الخيل.. ولها ذيول سنعرض لها فيما بعد.. بعد أن نفرغ من قصة الكرسي والجسد الملقى عليه..
1085
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً.. ثُمَّ أَنابَ»..
هذه الآية هى إشارة إلى هذه الفتنة التي فتن بها سليمان، وهو اشتغاله بهذا المتاع من الخيل، وحشد هذا الجهد منه ومن حاشيته، ورعيته فى سبيله..
ففى قوله تعالى: «وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً» - إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى قد فتنه بهذا المتاع الكثير، الذي ساقه إليه.. وأن هذا المتاع كان عبئا ثقيلا على «كرسيه» أي سلطانه، الذي كان ينبغى أن يكون مكان النبوة فيه أبرز وأظهر من مقام الملك.. وهذا هو السر فى كلمة «جسدا» الذي يمثل المتاع الدنيوي الذي يضمه هذا الملك.. إن كرسى سليمان قد ثقل فيه ميزان الملك، وكاد يجور على المكان الذي ينبغى أن يكون للنبوة فيه، الحظّ الأوفر، والنصيب الأوفى!.
ويجوز أن يكون قوله تعالى: «وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً» بمعنى وألقيناه على كرسيه جسدا، فيكون جسدا حال، بمعنى كائنا جسدا.. على حين أن روحه قد زايله فى تلك الحال، فرأى- من عالم روحه- وجوده الجسدى قائما على الكرسي، ملتصقا به.. وهذا ما يعرف فى الروحية الحديثة باسم «الطرح الروحي» حيث تستطيع بعض الأرواح أن تنفصل عن أجسادها فى حال اليقظة، فيرى الإنسان بروحه عوالم كثيرة بعيدة، ويشهد من وراء حجب المادة الكثيفة ما يشهده عن قرب وعيان.. ومما يشهده فى حاله تلك، وجوده الجسدى.
وقد يكون سليمان- عليه السلام- رأى فى حال من أحوال الطرح الروحي، ذاته الجسدية على كرسى ملكه، على حين رأى ذاته الروحية بعيدة
1086
عن هذا الكرسي، فأنكر مقامه على هذا الكرسي وهو على تلك الحال التي انفصلت فيها أو كادت تنفصل عنه النبوة!.
ولقد لفتنى إلى هذا المعنى الأستاذ العالم الأديب محمد شاهين حمزة، الذي ينفق من ذخائر علمه ويسعى بها إلى طلاب العلم، حاملا عنهم مشقة الطلب والسعى.. فجزاء الله عن العلم وأهله خير ما يجزى العالمين العاملين.
وفى قوله تعالى: «ثُمَّ أَنابَ» - إشارة إلى معطوف عليه محذوف.
تقديره: فشغل سليمان وقتا ما بهذا المتاع أي (الجسد) الذي ألقى على كرسيه.. «ثم أناب»..
أي رجع إلى ربه، وصحح هذا الوضع الذي صار إليه «كرسيه»..
فأفسح للنبوة فيه مكانها، وأعطاها كل حقها..
واقرأ الآية الكريمة: «وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ».
تجد مفهوما واضحا لكلمات الله على هذا التأويل الذي تأولناها عليه..
ثم تجد للعطف «بثم» مكانا مكينا فى الآية، حيث أن هذه الإنابة قد جاءت متراخية زمنا ما، كان لا بد منها لجمع هذه الأعداد الكثيرة من أصائل الخيل وجيادها، وما يتصل بها من عدد وفرسان..
قوله تعالى:
«قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ»..
هو بيان لإنابة سليمان إلى ربه، وأن إنابته هى قوله: «رَبِّ اغْفِرْ لِي
1087
وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ»
- ولهذا لم يفصل بين الفعلين «أناب» «وقال» بفاصل ما، من حرف عطف، أو نحوه..
وقد قرن سليمان فى إنابته إلى الله سبحانه- قرن طلب المغفرة بهبة هذا الملك الذي لا يكون لأحد من بعده! وفى هذا ما يشير فى وضوح إلى أن ما طلبه من أن يهب الله له هذا الملك الذي لا ينبغى لأحد من بعده- فيه إشارة واضحة إلى أن هذا هو ما يصحح إنابته إلى ربه، ويجعلها إنابة سليمة، خالية من كل معوق يعوقها عن الله! فكيف هذا؟ وهل بهذا الملك العجيب الذي لا يملكه أحد من بعده يكون أقرب إلى الله منه وهو على كرسى ملكه الذي هبت عليه منه ريح الفتنة؟
وهل كان ما كان منه من اشتغال- أكثر مما ينبغى- عن ذكر ربّه، إلا من الملك، وسلطان الملك وما يحف به من شهوات؟
فكيف يكون طلب هذا الملك الذي لم يكن لأحد غيره- إنابة ورجوعا إلى الله، وتخففا من الاشتغال بالملك؟
ندع هذا الآن.. وننظر فيما أجاب به الله سبحانه وتعالى هذا الطلب..
يقول الله تعالى:
«فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ» هذا هو ما أجاب به الله سبحانه، سليمان فيما سأل.. وقد جاءت الإجابة
1088
فى غير مهل.. دعاء فإجابة.. وهذا يدل على ذلك الرضا العظيم من الله سبحانه عند عن هذا الذي أقبل عليه بقلب سليم، منيبا إليه، طامعا فى رحمته ومغفرته! ولا بد من وقفة هنا:
فأولا: لقد أقام الله سبحانه سليمان فى منصب الملك، كما أقامه فى منصب النبوة.. فهو- بتكليف من الله سبحانه- ملك ونبىّ معا..
وثانيا: لقد جرب سليمان الحياة مع الملك والنبوة، فوجد سلطان الملك يكاد يطغى على مقام النبوة.. ولقد رأى رأى العين كيف شغلته الخيل عن أن يؤدى للنبوة حقها، وأن يذكر الله ذكر الأنبياء، ووقف من نفسه موقف اللائم المؤنب، فيقول لها: «إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي» ! وثالثا: بعد هذا العرض للخيل الذي رأى فيه سليمان وجه الفتنة كالحا مخيفا، يهجم على نبوته ويكاد يحتويها، رأى فى هذا الملك خطرا يتهدد نبوّته إن هو ظل قائما عليه، ممسكا به، ثم رأى- من جهة أخرى- أنه ملك من قبل الله، كما هو نبىّ من عند الله، وأنه لا سبيل له أن يخلى يده من هذا الملك..
إنه ملك ونبىّ معا..
ورابعا: لا بد إذن أن يكون سليمان ملكا، وقد رأى ما يسوق إليه الملك من فتنة.. فليكن إذن ملكا، ولكن ليكن هذا الملك على صورة غير هذا الملك الذي تجىء منه الفتن.!
وخامسا: فى طلب سليمان تغيير صفة هذا الملك، نراه يقول: «هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي».. إنه ملك، ولكنه على غير ما يملك
1089
الملوك، مما على هذه الأرض.. إنه ملك لا تجىء منه هذه الفتن التي، لا يملك دفعها الملوك، حتى الأنبياء..!
وأين هذا الملك الذي يكون على هذه الصفة؟..
إن سليمان لا يعرفه، ولهذا طلب إلى الله سبحانه أن يهبه إياه، وهو سبحانه لا يعجزه شىء، وهو سبحانه «وهاب» لا تقف هبانه عند حدود أو قيود! «إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ».
وسادسا: وجاء الملك الذي طلب سليمان!: «فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ»..
هذا هو ملك سليمان الجديد.. وهو ملك عجيب حقا.. إنه ليس جسدا. وليس فيه من عالم الجسد شىء.. ريح يمتطيها كما يمتطى الخيل. ،
وهى مطاياه التي أقامها الله سبحانه وتعالى له مقام الخيل بعد أن زهد فيها، وصرف نفسه عنها ابتغاء مرضاة الله.. فكان الجزاء الحسن من جنس العمل الحسن.. أضعافا مضاعفة.
ثم كان جنود من عالم الجن، يعملون له بدلا من عالم الإنس..!
وإذن فلا التفات إلى الخيل، وما يتصل بها.. ولا التفات إلى الناس، وإلى ما قد يقع عليهم من ظلم، فيما يقيم به دعائم الملك، من قلاع، وحصون، وقصور!..
فالريح تنقله إلى حيث يشاء، بلا خدم، ولا حشم، ولا حرس..
والجن.. «يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ.. مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ» !!
1090
وبهذا خرج سليمان من سلطان هذا الملك الذي يفتن به الملوك، وقام على ملك لا تخلص إليه منه فتنة..!! أو بمعنى آخر، لقد صفّى ملكه من تلك الشوائب التي تجىء منها الفتن، بما وضع الله سبحانه وتعالى فى يديه من قوّى يستغنى بها عما يكلف به الملوك رعاياهم، وما يحملونهم عليه من أمور، يحققون بها أبّهة سلطانهم، ويقيمون عليها عظمة ملكهم، فيكون الظلم والقهر والاستبداد..
هذه هى قصة سليمان، على هذا التأويل الذي تأولنا عليه آيات الله، التي عرضت لهذه القصة.. وهو تأويل، نرجو أن يكون- بتوفيق الله- أقرب إلى الصواب، وأدنى إلى موقع الحق.. فإننا لم نر أحدا من المفسرين- فيما بين أيدينا من أمهات كتب التفسير- قد تأول الآيات هذا التأويل، وأقامها على هذا الوجه..
وإنه لا بأس من أن نعرض هنا بعضا من وجوه التأويل التي ذهب إليها المفسرون، حتى ينكشف وجه الخلاف، ويكون للناظر فى تفسيرنا هذا أن يأخذ به، أو يأخذ ما يشاء من تلك المقولات:
فأولا: يذهب أكثر المفسرين لقوله تعالى: «حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ» يذهبون إلى أن الضمير فى «توارت» يعود إلى الشمس، وأن سليمان عليه السلام، شغل باستعراض الخيل، حتى توارت الشمس فى مغربها.. فلما غربت الشمس تنبه إلى أن وقت الصلاة قد فاته، فوقع فى نفسه الندم على هذا
1091
التفريط فى جنب الله، وقال ناعيا على نفسه هذا الذي كان منه: «إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ» !! ثم يختلف المفسّرون بعد هذا فى: هل كانت هذه الخيل خيل زينة، فيكون سليمان بهذا مقصرا فى حق الله؟ أم أنها كانت خيلا يعدّها للجهاد فى سبيل الله، فلا يكون ذلك محل لوم، كما حدث للمسلمين يوم أحد، حين فاتتهم صلاة العصر..
وثانيا: يذهب المفسرون لقوله تعالى: «رُدُّوها عَلَيَّ» إلى أن هذا أمر من سليمان إلى الشمس أن تعود من حيث غربت، فتظهر له على الأفق الغربي من جديد، حتى يؤدى الصلاة التي فاتته، فى وقتها..
ثم يختلف المفسرون فى هذا الأمر، وهل كان متجها به إلى الله، وأن ضمير الجمع للتعظيم، أم أنه أمر اتجه به إلى أعوانه وأتباعه كاللائم لهم أن لم ينبهوه إلى وقت الصلاة، وأن عليهم- وقد قصّروا- أن يعملوا المستحيل لإصلاح ما أفسدوا، وأن يعيدوا الشمس التي غربت!.
ولا يختلف المفسرون الذين يقولون بأن الضمير فى ردوها يعود إلى الشمس- وهم جمهور المفسرين- لا يختلفون فى أن الشمس قد ردّت إليه، فظلت على الأفق الغربي حتى أدى الصلاة فى وقتها..
ومن المفسرين من ذهب إلى أن الشمس لم تردّ، وإنما حبست، عن أن تغرب، وقد لامست الأفق، فظلت فى مكانها حتى أدى الصلاة..
ولهذا تأويلات وتعليلات أكثر من أن تحصر..
ثم إنهم يأتون لعودة الشمس من مغربها، أو إمساكها على الأفق بشواهد لمثل هذا الحدث، فى زمن النبوة، وفى غير زمن النبوة-
1092
تساق إليها كثير من الأحاديث والأخبار مسندة إلى ابن عباس وغيره من أعلام الصحابة..
وثالثا: يذهب المفسرون لقوله تعالى: «فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ» إلى أن سليمان بعد أن تنبه إلى مغيب الشمس، وطلب ردها إليه، اتجه إلى الخيل، وأخذ يضرب بالسيف فى سوقها وأعناقها، ليكفّر بذلك عن خطيئته فى اشتغاله بها حتى فاته وقت الصلاة..
فهذه الخيل هى التي شغلته، وهى التي يجب أن يتخلص منها، وأن يقدمها قربانا لله يأكل من لحمها الفقراء والمساكين!.
ولم يسأل الآخذون بهذا الرأى أنفسهم: ما ذنب هذه الخيل حتى تلاقى هذا المصير، وهى فى موضع الاحتفاء والتكريم؟.
ورابعا: اختلف المفسرون فى تأويل قوله تعالى: «وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً»..
فمن قائل، إن سليمان قال لنفسه مرة: لأطوفنّ الليلة على سبعين امرأة من نسائى فيولد لى منهن سبعون ولدا يجاهدون فى سبيل الله..!! قالوا، ولم يقل إن شاء الله، فلم تحمل من نسائه فى تلك الليلة غير واحدة، والذي ولدته جاء مسخا، على صورة نصف إنسان، فلما ولد جاءت به القابلة، وسليمان على كرسى مملكته، فوضعته بين يديه!.
والقصة كما ترى- تفضح نفسها بهذا الخبال الصبيانى المريض..!
ومن قائل، إن سليمان دخل الحمام، وكان جنبا- ودائما النساء وما يتصل بالنساء! - فخلع خاتم الملك فأخذه الشيطان، ولبسه، وظهر فى
1093
صورة سليمان، وجلس على كرسىّ المملكة، واتصل بنسائه، وسليمان ينادى فى الناس معلنا أنه سليمان، فلا يصدّقه أحد، حتى زوجاته.. وقد ظل سليمان هكذا زمنا لا يجد مكانا يؤويه، أو لقمة عيش يتبلغ بها، وهو دائب التوبة والاستغفار؟؟؟ قالوا، وكان الشيطان قد خاف أن يقبل الله توبة سليمان، وأن يعيد إليه الملك، فأمسك بالخاتم ورمى به فى البحر..
قالوا، ولما قبل الله توبة سليمان، وأراد ردّ ملكه إليه، دفع به إلى شاطىء البحر، فاصطاد سمكة فلما شقّ بطنها وجد خاتمه.. فلبسه، وعاد إلى ما كان عليه..!!
ثم تمضى القصة فتقول: إن سليمان أخذ هذا الشيطان فحبسه فى قمقم، ثم ختم عليه بالرصاص وألقاه فى البحر.. فهو فى هذا القمقم إلى يوم الدين!.
وهذه القصة أيضا أكثر من سابقتها سخافة وسذاجة، وتناقضا، وفسادا، فى كل حدث من أحداثها..
وهكذا تمضى الروايات حول تأويل هذا الجسد الذي ألقى على كرسى سليمان، وكلها من هذا العالم الخرافى، الذي لا مكان فيه للعقل، أو المنطق، إذ كل ما ينبت، فى هذا العالم هو أطياف وأشباح، يموج بعضها فى بعض، ويضرب بعضها وجه بعض!!.
الآيات: (٤١- ٤٤) [سورة ص (٣٨) : الآيات ٤١ الى ٤٤]
وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٤٣) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤)
1094
التفسير:
قوله تعالى:
«وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ»..
هو دعوة أخرى إلى النبي الكريم من الله سبحانه وتعالى، أن يذكر هذا الذي بذكره له ربّه من أمر عبد من عباده الصالحين، ونبى من أنبيائه المقربين، هو أيوب عليه السلام..
والذي يدعى النبي- عليه الصلاة والسلام- إلى تذكره، والوقوف على موضع العبرة والعظة منه، من أمر أيوب- عليه السلام- هو ضراعته لربه، ولجوؤه إليه، فيما مسه من ضرّ..
وأيوب- عليه السلام- إنما يقف على حدود هذا الأدب النبوي الرفيع، حين يرفع إلى الله- سبحانه- شكواه مما به، ولا يسأل العافية، وكشف الضر..
فذلك إلى الله سبحانه وتعالى، حسب مشيئته وإرادته فى عبده.. فقد يكون هذا البلاء خيرا له من العافية.. وإنه كبشر، يشكو إلى ربه ما يجد من آلام، ويفوض الأمر إليه سبحانه فيما يريد به.. ولو أنه استطاع ألا يشكو لفعل، فالله سبحانه وتعالى أعلم بحاله، ولكنها، أنّات موجوع، وزفرات محموم! «أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ».. والنّصب، كالنّصب، وهو الرهق والتعب، والعذاب: الألم الناجم عن هذا التعب.
1095
وفى إسناد المسّ إلى الشيطان، إشارة إلى أن هذا الّذى نزل بأيوب، هو من الأسباب المباشرة، التي تجىء من النفس الأمارة بالسوء، ومثل هذا ما كان من موسى عليه السلام، حين قتل المصري فقال: «هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ».
قوله تعالى:
«ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ».
وهذا جواب الحق سبحانه وتعالى على ما سأله أيوب، ولم يفصل بين السؤال والجواب فاصل، للإشارة إلى أن الإجابة كانت متصلة بالسؤال والطلب، من غير تراخ.. فما هو إلا أن سأل، حتى وجد ما طلب حاضرا..
وهذا يشير إلى أن أيوب صبر زمنا طويلا لا يشكو، فلما شكا، أزال الله سبحانه شكاته..
والركض: الجري، والمراد به الضرب بالرجل على الأرض بقوّة، حيث أن الرّجل تخدّ الأرض وتضربها أثناء الجري..
وقد ضرب أيوب برجله الأرض، كما أمره ربّه، فتفجر نبع من الماء! وماذا يعمل أيوب بهذا الماء؟ هكذا وقف عليه متسائلا.. فكشف له ربّه عمّا وراء هذا الماء، فقال له: «هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ».. إنه ماء عذب، بارد سائغ للشاربين.. فاغتسل به، واشرب منه.
قوله تعالى:
«وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ».
أي وهبنا له أهله، الذين كانوا قد نفروا منه، وتخلّوا عنه أثناء محنته، فلما لبس ثوب العافية، وخرج من ضباب المحة، عاد إليه أهله، وعاد إليه الغرباء، فكانوا له مثل أهله، تقرّبا إليه، وتودّدا له، إذ أفاض الله سبحانه
1096
وتعالى عليه من الخير، ما جعل العيون تتطلع إليه، والآمال تتجه نحوه..
وهكذا الناس.
والناس من يلق خيرا قائلون له ما يشتهى ولأمّ المخطئ الهبل
وفى التعبير بالهبة عن عودة أهله وغير أهله إليه فى قوله تعالى: «وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ» - فى هذا التعبير إشارة إلى أن هذا التحول فى حال «أيوب» من تلك العزلة الموحشة بينه وبين أهله وغير أهله، إلى إقبال القريب والبعيد عليه، وتوددهم له- إنما كان هبة من هبات الله له، ورحمة من رحماته، على هذا العبد الذي ابتلى هذا الابتلاء العظيم، فصبر راضيا بأمر الله سبحانه وتعالى فيه.. والله سبحانه وتعالى يقول: «إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ» (١٠: الزمر).. وفى ذلك ذكرى وموعظة لأولى الألباب، الذين يأخذون العبر من الأحداث التي تمر بهم، أو بالناس من حولهم.
قوله تعالى:
«وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ».
الضّغث: الخليط من كل شىء.. والمراد به هنا، مجموعة من العيدان الدقيقة، من حطب أو غيره.. والحنث: الذنب المؤثم، واليمين الغموس.
والآية معطوفة على قوله تعالى: «وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ» الذي هو اعتراض بين الآيتين اللتين يحملان خطابا من الله سبحانه وتعالى إلى «أيوب».. فالأمر الموجّه من الله سبحانه وتعالى إلى «أيوب» هو: «ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ...
وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ»
.. وقد جاء قوله تعالى: «وَوَهَبْنا
1097
لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ»
بين الأمرين- إشارة إلى أن هذه الأوامر ليست تكليفا، كما هو الشأن فى الأمر، وإنما هى دعوة إلى تناول هذا العطاء الكريم من ربّ كريم، إلى عبده الصابر الشكور.. فهذان الأمران، يحملان هبات من عند الله، كما يحمل الخبر فى قوله تعالى: «وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ»..
فإن قوله تعالى: «ارْكُضْ بِرِجْلِكَ» يحمل إليه الشفاء والعافية، وقوله تعالى:
«وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ» يحمل إليه الوفاء بيمينه، ويدفع عنه الحرج.. إذ كان قد حلف وهو فى حال مرضه أن يضرب امرأته، مائة سوط على أمر خرجت به عن رأيه.. وكان من لطف الله به وبامرأته، أن جعل تحلّة يمينه بأن يضربها بعرجون يحمل مائة أو أكثر من الشماريخ!!
الآيات: (٤٥- ٥٤) [سورة ص (٣٨) : الآيات ٤٥ الى ٥٤]
وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (٤٧) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (٤٨) هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩)
جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (٥١) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (٥٢) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (٥٣) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (٥٤)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ».
1098
أي واذكر- أيها النبىّ- وأنت تدعو نفسك إلى الصبر على ما تكره من قومك- اذكر فيمن تذكر من عبادنا الصالحين، إبراهيم وإسحاق ويعقوب.. فهؤلاء من ذوى الأيدى العاملة فى كل مجال للخير والإحسان، ومن ذوى الأبصار الكاشفة عما فى هذا الوجود من بعض جلال الله، وعظمته، وعلمه، وقدرته.. إنهم لم يؤنوا ملكا وإنما أوتوا نبوّة، وهم لهذا إنما يعملون بأيديهم، ويسعون فى تحصيل معاشهم بأنفسهم، لا يملكون سلطانا يعمل لهم العاملون فيه.. ثم إن لهم إلى جانب هذه الأيدى العاملة فى الدنيا، أبصارا عاملة فى التدبّر فى ملكوت الله، والتسبيح بحمده.
قوله تعالى:
«إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ».
هو بيان لقوله تعالى: «أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ».. أي إننا أخلصناهم لعبادتنا، إذ أخلينا أيديهم من الملك والسلطان، فلم يشغلوا بتدبير ملكهم وحراسة سلطانهم، عن ذكرنا، وذكر لقائنا.
فقوله تعالى: «بخالصة» متعلق بقوله تعالى: «أَخْلَصْناهُمْ».. أي نجيناهم من الفتنة بمنجاة، هى إقامتهم على تذكر الدار الآخرة.. وقوله تعالى:
«ذِكْرَى الدَّارِ» بدل من (بخالصة)..
قوله تعالى:
«وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ»..
أي، فهم لما أخلصناهم به، فى مقام عظيم عندنا، إنهم من المصطفين الأخيار من عبادنا..
1099
هذا، ويلاحظ أن ذكر إبراهيم وإسحق ويعقوب، قد جاء متأخرا عن ذكر داود وسليمان وأيوب، مع أن إبراهيم، هو الأب الأكبر لهم، كما أن إسحق ويعقوب، من آبائهم الأولين..
فما سر هذا الترتيب الذي جاء عليه النظم القرآنى، مخالفا الترتيب الزمنى؟
والجواب على هذا- والله أعلم- هو:
أولا: أن داود وسليمان، وأيوب، كانوا أصحاب دنيا عريضة، إلى جانب النبوة..
فقد كان داود وسليمان ملكين، يقومان على ملك عظيم، على حين كان أيوب ذا ثراء كبير، ومال وبنين، إلى جانب نبوته أيضا..
وهذا الملك، وذلك الثراء، هما ابتلاء وفتنة حيثما وجدا، سواء أكان ذلك مع الأنبياء، أو غير الأنبياء.. وهذا يقتضى ممن يبتلى بهما أن يكون على حذر دائم، ومراقبة متصلة لنفسه، فى كل ما يأتى وما يذر من عمل.. إنه فى مواجهة الفتنة أبدا، فإذا لم يكن على حذر منها، جرفه تيارها، فكان من المغرقين..
ثانيا: لم يكن إبراهيم وإسحق ويعقوب، أصحاب مال أو سلطان- كما قلنا- ولهذا فقد خلصت نبوتهم من عوائق الفتن الدنيوية، فأخلصوا لله وجودهم ووجوههم، فلم تكن منهم زلة أو هفوة..
وثالثا: فى هذه الصورة التي تفرّق بين الأنبياء الملوك أو أشباه الملوك، وبين الأنبياء المخلصين للنبوة- يرى النبىّ صلوات الله وسلامه عليه- أين منزلته التي جعله الله فيها.. فهو صلوات الله وسلامه عليه- نبى خالص النبوة، لا تشغله الدنيا، ولا تعرض له بفتنة من فتنها.. ومن ثم فهو فى عصمة من نبوته. فلا
1100
يذكر غير الله، ولا يلتفت إلى غير الرسالة التي فى يديه، يحوطها، ويرعاها، ويحتمل الضر والأذى فى سبيلها..
قوله تعالى:
«وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ».
وهؤلاء ثلاثة آخرون من أنبياء الله، هم على شاكلة إبراهيم وإسحق ويعقوب.. أنبياء لم يكن لهم مع النبوة ملك أو سلطان.. فهم «من الأخيار» كما أن إبراهيم وإسحق ويعقوب من (الأخيار)..
وليس يعنى هذا أن داود وسليمان وأيوب، لا يدخلون فى هذا الوصف الجليل.. وكلّا.. فهم أنبياء لله قبل أن يكونوا ملوكا.. ولكن الخيرية درجات..
وأنبياء الله فى مقامهم العظيم، هم درجات أيضا.. «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ» (٢٥٣: البقرة).
واليسع: هو إلياس، وهو الياسين..
وذو الكفل: هو- والله أعلم- زكريا عليه السلام، لأنه هو الذي كفل مريم، كما يقول الله تعالى: «وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا» (٣٧: آل عمران)..
قوله تعالى:
«هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ».
الإشارة هنا إلى ما ذكر من حديث عن هؤلاء الأنبياء- صلوات الله وسلامه عليهم- وفى الحديث، ذكر وموعظة، لمن يتذكر ويتعظ، فيكون بهذا من المؤمنين المتقين..
1101
قوله تعالى:
«جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ»..
هو بدل من «حسن مآب».. فالمآب الحسن، هو جنات عدن، أي جنات خلود، يجدها المتقون، وقد فتحت أبوابها لهم، يدخلونها من أي باب شاءوا، دون أن يحجبهم عنها حاجب..
قوله تعالى:
«مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ»..
الاتكاء هنا كناية عن الراحة من السعى وراء المطالب المعيشية.. فهم لا يعملون عملا فى سبيل ما يريدون.. بل إن كل شىء حاضر عتيد بين أيديهم، وما عليهم إلا أن يطلبوا فيجدوا ما طلبوا حاضرا.. إنهم يأكلون ما يشاءون، ويشربون ما يشتهون، مما كان قد فاتهم من حظوظ الدنيا.. هذا إلى ما أعدّ الله لهم، مما لم تره عين ولم تسمع به أذن، ولم يخطر على قلب بشر..
قوله تعالى:
«وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ»..
قاصرات الطرف: أي غاضّات البصر، حياء، وخفرا، وعفّة..
الأتراب: جمع ترب، والترب الشبيه والمثيل..
أي وبين يدى أهل الجنة حور عين، قاصرات الطرف، أي خاشعات الأبصار، حياء وخفرا، على صورة كاملة فى الجمال، والشباب.. كلهن على ميزان واحد فى الجمال، ليس فى أىّ منهن زيادة لمستريد.
1102
قوله تعالى:
«هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ».
أي هذا النعيم الخالد، بألوانه، وأشكاله، هو ما وعد الله به المؤمنين، حيث يلقونه يوم الحساب، والجزاء.
قوله تعالى:
«إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ».
أي هذا النعيم الخالد، هو الرزق الذي يرزقه الله أصحاب الجنة، وهو رزق لا ينفد أبدا، ولا ينقص منه شىء أبدا، على كثرة الواردين عليه.
الآيات: (٥٥- ٦٤) [سورة ص (٣٨) : الآيات ٥٥ الى ٦٤]
هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (٥٦) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (٥٨) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩)
قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (٦٢) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (٦٣) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤)
التفسير:
قوله تعالى:
«هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ».
1103
هذا هو الوجه المقابل لأصحاب الجنة، الذين ينعمون بهذا النعيم الخالد، ويهنئون بما أفاء الله سبحانه عليهم من رحمته ورضوانه.
فقوله تعالى: «هذا» إشارة إلى المؤمنين وأحوالهم فى الجنة، أي هذا شأن.. وشأن آخر، هو شأن الطاغين، من رءوس أهل الكفر والشرك والضلال.. فهؤلاء لهم شرّ مآب، وسوء منقلب، هو هذا العذاب الذي يلقونه فى جهنم، التي هى المهاد الذي يجدون فيه متكأهم وراحتهم.. إن لهم فى دارهم هذه مهادا ومتكأ، كما للمتقين فى دارهم مهادا ومتكأ! وشتان بين مهاد ومهاد! «هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ».
هو فى مقابل لقوله تعالى فى المؤمنين: «يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ»، فأهل الجنة يطلبون ما يشتهون، فيجدونه حاضرا..
أما أهل النار، فإنهم لا يطلبون شيئا.. وماذا يطلبون من النار، إلا النار؟..
ومع هذا، فإنهم لا بد أن يطعموا من ثمر جهنم، ويسقوا من شرابها، كما طعم أهل الجنة من فاكهة الجنة، وشربوا من شرابها..
وإنه إذ لم يطلب أصحاب النار طعاما ولا شرابا. فهذا طعام وشراب حاضر بين أيديهم.. هذا حميم وغساق. فليدوقوه!.
والحميم: اللهب، ومنه الحمم وهو قطع الجمر.
والغساق: القيح والصديد.
وإذا كان لأهل الجنة حور عين: «قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ» فإن لأهل النار كذلك أزواجا من شكل هذا الحميم والغساق «وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ»
1104
أي وعندهم إلى جانب هذا الطعام والشراب، من الحميم والغساق، أزواج مشكّلة على شاكلة هذا الحميم والغساق..!!
وليس هذا فحسب..!
إن أهل الجنة يدخل عليهم الملائكة من كل باب، يؤنسونهم، ويحيونهم قائلين «سلام عليكم»..
وإن هؤلاء الطاغين، ليرد عليهم بين حين وحين، من يصبّ عليهم اللعنات، من أتباعهم وأشياعهم: «هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ»..
إنهم قد سبقوا إلى النار، وتقدموا أتباعهم، فهم أئمتهم فى الدنيا والآخرة..
فإذا أخذوا أماكنهم من جهنم، دفع إليهم «فوج» أي فريق من أتباعهم، «مقتحم» أي يقتحم عليهم مكانهم الضيق الذي هم فيه، ليأخذ له مكانا..
فليقاهم الذين سبقوهم قائلين: «لا مَرْحَباً بِهِمْ، إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ».. ويجيئهم ردّ التحية من أتباعهم: «بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ.. أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا» أي أنتم الذين دفعتم بنا إلى هذا المصير المشئوم.. «فَبِئْسَ الْقَرارُ» الذي استقر بنا وبكم..
ولا يقف الأتباع عند هذا مع سادتهم، بل يدعون الله عليهم أن يقتصّ لهم منهم، وأن يضاعف لهم العذاب، إذ كانوا هم الذين زينوا لهم الضلال الذي أوردهم هذا المورد.. «قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ»..
وفيما هم فى هذا التلاحي والتخاصم، ينظرون فى وجوه من حولهم من أهل النار، باحثين عن أناس كانوا يعرفونهم فى الدنيا، ويرونهم أهل سوء، وأنهم أولى بالنار منهم..
1105
«وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ» ؟ فأين فلان وفلان، وفلان.. من الفقراء والضعفاء والعبيد والإماء؟ ألا ينزلون هذا المنزل؟ وإذا لم ينزله هؤلاء، فمن ينزله؟.
«أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا؟» أي أاتخذناهم سخريا، وكنا على خطأ فى استهزائنا بهم، وسخريتنا منهم فى الدنيا؟
«أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ» ؟ أم أننا كنّا على صواب فى سخريتنا واستهزائنا، وأنهم على ما كنا نقدّر، فهم موجودون هنا فى جهنم، ولكن أبصارنا زاغت عنهم؟ لا ندرى!.
«إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ».
أي إن هذا التخاصم والتلاحي بين أهل النار، هو حق واقع..
فمن كذّب، فلينتظر، وسيرى..
الآيات: (٦٥- ٨٨) [سورة ص (٣٨) : الآيات ٦٥ الى ٨٨]
قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٦٦) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩)
إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠) إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٧٤)
قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (٧٥) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩)
قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤)
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨)
1106
التفسير:
قوله تعالى:
«قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ».
بعد هذه المشاهد التي وقف فيها النبي صلوات الله وسلامه عليه، على أخبار بعض أنبياء الله ورسله، ممن ابتلاهم الله، ومن عافاهم، وبعد أن رأى المؤمنون ما أعد الله لهم فى جناته من نعيم خالد، ورضوان مقيم، ورأى المشركون جهنم وما يلقاه أهل الضلال والطغيان فيها من بلاء عظيم- بعد هذا كله- والمشاعر متوفزة والقلوب واجفة- يلتقى النبي مرة أخرى مع المشركين، يذكرهم برسالته فيهم، وشأنه بهذه الرسالة معهم.. وأنه إنما
1107
هو منذر» أي مبلّغ ما أمر به من ربه، وليس له عليهم من سلطان..
وقوله تعالى: «وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ» هو من مقول القول، الذي يقوله النبىّ للمشركين، وينذرهم به، وهو أن يؤمنوا بإله واحد، قهار، يذل الجبابرة، ويقصم ظهور الظالمين..
قوله تعالى:
«رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ».. هو من مقول القول أيضا، وهو عطف بيان على قوله تعالى: «الْواحِدُ الْقَهَّارُ».. أي ما من إله إلا الله الواحد القهار خالق السموات والأرض وما بينهما العزيز الغفار.. فهذه بعض صفات الإله المتفرد بالألوهة، المستحق للعبادة..
قوله تعالى:
«قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ.».
النبأ العظيم، هو ما حدثتهم به الآيتان السابقتان عن الله سبحانه وتعالى، وعما يليق له- سبحانه- من صفات الفردية والقهر والجلال، والعزة والمغفرة.. فهذا نبأ عظيم، يطلع على الناس بالهدى، ويقيمهم على طريق الفلاح، لو استقاموا عليه.. ولكن المشركين معرضون عنه، مستخفّون به، لا يعطونه آذانا مصغية، ولا يفتحون له قلوبا واعية..
قوله تعالى:
«ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ».
أي هذا النبأ العظيم الذي حدثتكم به، ليس من عندى، وإنما هو من عند الله..
1108
ولكنكم لا تصدقون أنى رسول الله، وأنى أتلقى ما يوحى به إلىّ من آياته وكلماته..
أنتم لا تصدّقون هذا، وتستكثرون فضل الله علىّ، أو تستكثرون أن يتصل الله ببشر..
فإذا كان هذا ظنكم بربكم، وهذا رأيكم فىّ.. فما قولكم فى هذه الأخبار السماوية، وتلك الأحداث التي وقعت فى العالم العلوي غير المنظور أو المسموع- ما قولكم فى هذه الأخبار التي تحدثكم بها آيات الله وكلماته؟ أهي من عندى أيضا؟ إنه «ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ».. فأنا معكم على هذه الأرض.. وهل لمن كان من عالم الأرض أن يتصل بالعالم العلوي، ويعلم ما يدور هناك، إلا إذا كان موصولا بهذا العالم، مدعوّا إليه من ربه؟.
والذي يختصم فيه الملأ الأعلى، هو ما ستعرضه الآيات التالية، من موقف الملائكة، وإبليس من خلق آدم، ومن أمر الله سبحانه، بالسجود له..
قوله تعالى:
«إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ».
فهذا الذي أحدثكم به، أو تحدثكم به آيات الله عن الملأ الأعلى، هو وحي من عند الله، وما أنا إلا بشر مثلكم، وما «يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ».. لا شىء أكثر من هذا.. إنى أبلّغ ما يوحى إلىّ به، لا أدخل عليه بشىء من عندى..
1109
قوله تعالى:
«إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ».
هذا ما كان من اختصام فى الملأ الأعلى، وهو مما لم يكن للنبى- صلوات الله وسلامه عليه- علم به، كما لم يكن لبشر أن يعلمه.. ولكن الله سبحانه وتعالى أخبره به وحيا من عنده، بهذه الآيات التي يتلوها على العالمين..
وفى التعبير عما كان بين الله سبحانه وتعالى، وبين إبليس- لعنه الله- فى التعبير عنه بالاختصام- إشارة إلى تطاول هذا اللعين، وإلى موقفه من ربه موقف جدل واختصام، وذلك لشقوته التي غلبت عليه، بما سبق من قضاء الله فيه..
وأنه إذا كان فى الملأ الأعلى من يكفر بالله، ويعمى عن طريق الهدى وهو فى عالم النور والصفاء والطهر، فإن فى العالم الأرضى، عالم الظلام والكثافة، كثيرين وكثيرين، ممن يكفرون بالله، ويركبون مراكب
1110
الضلال.. وأنه إذا كان الكفر بالله، والخروج عن طاعته، لا يعصم أهل الملأ الأعلى من أن يردّوا إلى عالم الظلام، وأن يكونوا فى الدّرك الأسفل من مخلوقات الله، فإن الكفر بالله والخروج عن طاعته، لا يعصم من كان فى العالم الأرضى، أن يردّ إلى ما دون هذا العالم، وأن يلقى به فى عذاب السعير..
ثم إنه- من جهة أخرى- إذا كان فى الملأ الأعلى ملائكة مقرّبون، لا يعصون الله ما أمرهم، فيزدادون بذلك قربا من الله- فإن فى العالم الأرضى من يرتفع عن هذا العالم، بإيمانه بالله، وولائه له، وينزل منازل الرحمة والرضوان، فى جنات النعيم..
وهكذا.. رجيم من العالم العلوي يهوى إلى الأرض، وشهب من الأرض، تصعد إلى السماء، وتتألق بين كواكبها ونجومها..!
فأىّ من هذين الفريقين من أهل الأرض يكون هؤلاء المشركون؟
أيظلون على كفرهم بالله، فيهوى بهم كفرهم إلى قرار الجحيم، أم يؤمنون بالله، ويسعون إلى مرضاته، فيرتفعون عن هذا التراب، ويصعدون إلى الملأ الأعلى، ويصبحون من أهله؟.
وقوله تعالى: «قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ» - هو قسم من الله سبحانه وتعالى بأن تمتلىء جهنم من إبليس، وممن شايعه واتبع سبيله من الناس.. وفى هذا وعيد شديد من الله، بأن لجهنم أهلها من بنى آدم، وهم كثير تمتلىء بهم على سعتها.. فليطلب كل إنسان السلامة لنفسه منها، والنجاة من أن يكون من أهلها، فإن لها أهلا- نعوذ بالله أن نكون منهم- وإنه لا نجاة إلا بالإيمان بالله،
1111
والعمل الصالح.. فاللهم اجعلنا من المؤمنين بك، الساعين فى مرضاتك، الفائزين برضاك ورضوانك..
قوله تعالى:
«قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ».
بهذه الآيات تختم السورة، ويلتقى ختامها ببدئها.. فقد بدأت بالقسم بالقرآن الكريم، ذى الذكر، تعظيما له، وإلفاتا إلى ما فيه من هدى ورحمة.. وختمت بالتذكير بالنبيّ، وبرسالته، وبالكتاب الذي بين يديه..
فالنبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- ليس إلا رسولا من عند الله يبلغ ما أرسل به، وإنه لا يسأل الناس على ما يدعوهم إليه أجرا، ولا يتكلف لدعوته ما يخرج به عن حدود التبليغ، فلا يقهر أحدا، ولا يختله أو يخدعه، حتى يستجيب له: «إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ».. أي ما هذا القرآن الذي بين يديه إلا ذكر للعالمين، والذكر مكانه العقول، وما يقع فيها من اقتناع بما تذكّر به.. «مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها»..
وقوله تعالى: «وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ».. تهديد للمشركين، ووعيد لهم، بما يلقون من عذاب شديد، يوم يكشف لهم الغطاء عما حجبه العناد والضلال عنهم.. ويومئذ يرون أنهم كانوا فى عمى وضلال، وأن ما فاتهم لا يمكن تداركه أبدا.. «يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا» يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتنى كنت ترابا»
1112
٣٩- سورة الزّمر
نزولها: مكية.
عدد آياتها: خمس وسبعون.. آية عدد كلماتها: ألف ومائة وسبعون.. كلمة عدد حروفها: أربعة آلاف وسبعمائة وثمانية أحرف.
مناسبتها لما قبلها
ختمت سورة «ص» بما بدئت به، من تنويه بشأن القرآن الكريم، وما فيه من هدى ورحمة. وكانت السورة كلها معرضا لمواقع الهدى من الناس، على مختلف منازلهم، من أنبياء أخلصهم الله بخالصة النبوّة، وأنبياء جمع الله لهم بين النبوة والملك، ومؤمنين اقتبسوا من هدى النبوّة، وكافرين، ضلّوا عن سواء السبيل، فكفروا بالله..
وهنا تبدأ سورة «الزمر» بذكر القرآن الكريم، والمتنزّل العالي الكريم تنزل منه.. ثم بدعوة النبىّ الكريم إلى الأخذ بهذا الكتاب الذي نزل عليه، وبإخلاص العبودية لله، لا يشغله عن ذلك ما يسوق إليه المشركون من كيد وأذّى..
1113
Icon