تفسير سورة الأحقاف

مراح لبيد
تفسير سورة سورة الأحقاف من كتاب مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد المعروف بـمراح لبيد .
لمؤلفه نووي الجاوي . المتوفي سنة 1316 هـ

سورة الأحقاف
مكية، إلا قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الآية وإلا ثلاث آيات من قوله تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ- إلى قوله تعالى- فَيَقُولُ ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ، أربع وثلاثون آية ستمائة وأربع وأربعون كلمة، ألفان وخمسمائة وخمسة وتسعون حرفا
حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ أي القوي بالنقمة لمن لا يؤمن به الْحَكِيمِ (٢) أي المتقن للأمور ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ أي إلّا لأجل الفضل والرحمة والإحسان وَأَجَلٍ مُسَمًّى أي وإلا لأجل مسمى أي إلا لوقت معين لإفناء الدنيا، فإن إله العالم ما خلق هذا العالم ليبقى مخلدا سرمدا، بل إنما خلقه ليكون دارا للعمل فيقع الجزاء في الدار الآخرة ولو لم توجد القيامة لتعطل استيفاء حقوق المظلومين من الظالمين، ولتعطل توفية الثواب على المطيعين وتوفية العقاب على الكافرين وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا أي خوفوا به مما في يوم القيامة مُعْرِضُونَ (٣) فلا يؤمنون به ولا يستعدون له قُلْ توبيخا لهم: أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي أخبروني ما تعبدون من الأوثان. وقرئ «أرأيتكم» أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أي أخبروني أي شيء خلقه الأوثان مما في الأرض أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ ف «أم» بمعنى الهمزة أي ألهم شركة مع الله تعالى فِي السَّماواتِ أي في خلقها، أو ملكها ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أي بكتاب دال على صحة دينكم كائن من قبل هذا القرآن الناطق بالتوحيد
وإبطال الشرك، أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ أي أو بمنقولة عن الأنبياء من علم سوى ما جاء في الكتب، وقرأ علي، وابن عباس، وزيد بن علي، وعكرمة «أثرة» دون ألف، وقرأ الكسائي «أثرة» بضم الهمزة وكسرها مع سكون الثاء، وقتادة، والسلمي بفتح فسكون أي أو ائتوني بخبر واحد يشهد بصحة قولكم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤) في دعواكم، وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أي لا امرأ أبعد عن الحق وأقرب إلى الجهل ممن يعبد الأصنام، وهي إذا دعيت لا تصح منها الإجابة لا في الحال ولا بعده إلى يوم القيامة، وإنما جعل غاية لأنه قيل: إن الله تعالى يحييها يوم القيامة وتقع بينها وبين من يعبدها مخاطبة، وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (٥) أي والأصنام عن دعاء من يعبدهم لا يسمعون وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً أي وإذا قامت القيامة، وحشر الناس كانت
405
هذه الأصنام تعادي هؤلاء العابدين، وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (٦) أي وكانت الأصنام مكذبين بكونهم معبودين يقولون: إنهم إنما عبدوا في الحقيقة أهواءهم لأنها الآمرة لهم بالإشراك. وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) أي وإذا يتلى على كفار أهل مكة القرآن واضحا قالوا من غير تأمل في شأن القرآن حين جاءهم هذا المتلو خيال ظاهر بطلانه أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ أي بل يقولون افترى محمد القرآن من عند نفسه. قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي قل لهم يا أشرف الخلق: إن اختلقت القرآن من تلقاء نفسي كما تقولون فإن الله تعالى يعاجلني بالعقوبة حينئذ، وأنتم لا تقدرون على دفعه عن معالجته إياي بالعقوبة، فكيف أجترئ على هذه الفرية وأعرض نفسي للعقوبة هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ أي أعلم بما تتكلمون فيه من التكذيب بالقرآن وتسميته سحرا تارة وفرية تارة أخرى كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أي كفى بالله شهيدا بيني وبينكم يشهد لي بالصدق والبلاغ، وعليكم بالكذب والإنكار، أو كفى بالقرآن شهيدا بيني وبينكم وقد شهد بصدقي وبعجزكم عن معارضة شيء منه، وَهُوَ الْغَفُورُ لمن رجع عن الكفر الرَّحِيمُ (٨) بعباده فلم يعالجكم بالعقوبة مع عظم ما ارتكبتوه من الذنوب قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ أي قل يا أكرم الرسل لهم لست أول الرسل فلا ينبغي أن تنكروا أخباري بأني رسول الله إليكم مع أن صفتي كصفة من سبق من الرسل، ولا أن تنكروا دعائي لكم إلى التوحيد ونهي لكم عن عبادة الأصنام، فإن كل الرسل إنما بعثوا بهذا الطريق.
وقرأ عكرمة، وأبو حيوة، وابن عبلة «بدعا» بفتح الدال، وقرأ أبو حيوة أيضا ومجاهد بفتح الباء وكسر الدال وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ أي ما أدرى ما يفعل بي أأموت، أم أقتل كما قتل الأنبياء قبلي ولا أدري ما يفعل بكم أيها المكذبون أترمون بالحجارة من السماء، أم يخسف بكم، أم يفعل بكم ما فعل بسائر الأمم كالمكذبين قبلكم إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ أي ما أفعل إلا اتباع ما يوحى إلي وهو جواب عن اقتراحهم الأخبار عما لم يوح إليه من الغيوب، وقال ابن عباس في رواية الكلبي: لما اشتد البلاء بأصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم بمكة رأى في المنام أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل وشجر وماء فقصها على أصحابه فاستبشروا بذلك، ورأوا أن ذلك فرج مما هم فيه من أذى المشركين، ثم إنهم مكثوا برهة من الدهر لا يرون أثر ذلك، فقالوا: يا رسول الله، ما رأينا الذي قلت ومتى تهاجر إلى الأرض التي رأيتها في المنام فسكت النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله تعالى: وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ وهو شيء رأيته في المنام وأنا لا أتبع الا ما أوحاه الله إليّ اه. وقرأ ابن أبي عبلة وزيد بن علي ما يفعل مبنيا للفاعل أي الله تعالى، وقرئ ما يوحي على البناء للفاعل وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩) أي أنهم كانوا يطالبونه صلّى الله عليه وسلّم بالمعجزات العجيبة وبالأخبار عن الغيوب فقال تعالى: قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ عقاب الله تعالى حسب ما يوحى إلي من الإنذار وليس القادر على الأعمال الخارجة عن قدرة البشر والعالم بالغيوب إلّا الله قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ
406
وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ أي قل يا أشرف الخلق لليهود أخبروني يا معشر اليهود إن كان القرآن من عند الله، وكفرتم به. وشهد شاهد من بني إسرائيل هو عبد الله بن سلام على صفة القرآن من كونه من عند الله وكونه معجزا للخلق عن معارضته فآمن هذا الشاهد بالقرآن، وتكبرتم يا معشر اليهود عن الإيمان به ألستم كنتم ظالمين أنفسكم؟ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠)
روي أنس أنه لما سمع عبد الله بن سلام بمجيء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة أتاه فنظر إلى وجهه فعلم أنه ليس بوجه كذاب، وتأمله فتحقق أنه هو النبي المنتظر، فقال له: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلّا نبي، ما أول أشراط الساعة، وما أول طعام يأكله أهل الجنة، وما ينزع الولد إلى أبيه أو أمه فقال صلّى الله عليه وسلّم: «أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل نزع له، وإذا سبق ماء المرأة نزع لها» «١» فقال: أشهد أنك لرسول الله حقا، ثم قال: يا رسول الله إن اليهود قوم بهت وإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني عندك فجاءت اليهود فقال لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أي رجل عبد الله فيكم» فقالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا، فقال: «أرأيتم ان أسلم عبد الله» «٢» فقالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج إليهم عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أإن محمدا رسول الله، فقالوا: شرنا وانتقصوه، فقال: هذا ما كنت أخاف يا رسول الله،
قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ما سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول لأحد يمشي على الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام، وفيه نزل وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ على مثله وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا بنو عامر، وغطفان، وأسد، وأشجع
لِلَّذِينَ آمَنُوا أي لأجل إسلام من أسلم وهم جهينة، ومزينة، وأسلم، وغفار لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ أي أن الكفار لما سمعوا أن جماعة آمنوا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم خاطبوا جماعة من المؤمنين الحاضرين وقالوا لهم زعما منهم أن الرئاسة الدينية ما ينال بأسباب دنيوية: لو كان هذا الدين خيرا ما سبقنا إليه أولئك الأراذل، فإن أكثرهم فقراء وموال ورعاة وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١) أي وإذ لم يهتدوا بالقرآن وظهر عنادهم فسيقولون هذا القرآن كذب قديم ولم يكتفوا بنفي خيريته، وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى أي قالوا ذلك والحال أنه كان كتاب موسى من قبل القرآن أي كيف يصح كون القرآن إفكا قديما وقد رجعوا إلى حكم كتاب موسى. وقرئ «ومن قبله كتاب
(١) رواه ابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق (٥: ١٦٧)، والبيهقي في دلائل النبوّة (٢:
٥٣١)، وابن حجر في فتح الباري (٧: ٢٥٠)، وابن كثير في البداية والنهاية (٣: ٢١١)، وأبو نعيم في دلائل النبوة ١١٤. [.....]
(٢) رواه الألباني في السلسلة الصحيحة (٣: ١٤).
407
موسى» أي وآتينا من قبل محمد التوراة إِماماً أي قدوة يقتدى به في دين الله تعالى وشرائعه، وَرَحْمَةً من الله تعالى لمن آمن به وعمل بما فيه. وَهذا أي القرآن كِتابٌ مُصَدِّقٌ لكتاب موسى في أن محمدا رسول الله لِساناً عَرَبِيًّا حال من «كتاب». وقيل: مفعول ل «مصدق» على حذف مضاف، أي مصدق ذا لسان عربي، وهو النبي صلّى الله عليه وسلّم، لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أي لينذر ذلك الكتاب مشركي مكة. وقرأ نافع وابن عامر بالتاء لخطاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (١٢) أي المؤمنين بأن لهم الجنة، و «هو» في محل نصب معطوف على محل «لينذر»، لأنه مفعول له، أو في محل رفع معطوف على «مصدق»، أو «كتاب»، ولا يوقف على «ظلموا»، أما إذا جعل مبتدأ وخبره للمحسنين فالوقف على «ظلموا» كاف. إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ وحده ثُمَّ اسْتَقامُوا على أداء فرائض الله تعالى واجتناب معاصيه، فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من لحوق مكروه وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣)، من فوات محبوب، أي إن الذين جمعوا بين التوحيد والاستقامة في أمور الدين فهم يوم القيامة آمنون من الأهوال، وزائل عنهم خوف العقاب، أما خوف الجلال والهيبة فلا يزول عن العبد ألبتة، أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤) في الدنيا، وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «إحسانا»، وهي قراءة ابن عباس أي أمرناه بأن يوصل إليهما إحسانا وهو ضد الإساءة، والباقون «حسنا» بضم فسكون، أي أمرناه بأن يوصل إليهما فعلا حسنا، وهو ضد القبح فعلا ذا حسن.
وقرئ بضم الحاء والسين. وقرأ عيسى والسلمي بفتحهما، نزلت هذه الآية في عبد الرحمن، وفي أبيه وأمه، وهما أبو بكر الصديق وأم رومان. وقالت عائشة. نزلت في خلال بن قلال حَمَلَتْهُ أُمُّهُ في بطنها كُرْهاً أي على مشقة وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً أي في مشقة.
قرأ عاصم وحمزة والكسائي وابن عامر، وابن ذكوان بضم الكاف. والباقون بالفتح وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً أي ومدة حمله ورضاعه ثلاثون شهرا، فإن أقل مدة الحمل ستة أشهر وإن مدة إتمام الرضاع أربعة وعشرون شهرا، ولما كان الرضاع يليه الفصال، لأنه يتم به سمي فصالا حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ. وقرئ «إذا استوى وبلغ أشده». وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً. والأصح أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق وأبيه عثمان بن عامر وأمه أم الخير سلمى بنت صخر. وذلك أن أبا بكر صحب النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو ابن ثمان عشرة سنة، والنبي ابن عشرين سنة في تجارة إلى الشام، فلما بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أربعين سنة أكرمه الله تعالى بالنبوة، واختصه بالرسالة، فآمن به أبو بكر الصدّيق وهو ابن ثمان وثلاثين سنة، ثم أسلم أبواه وأسلم ابنه عبد الرحمن، ثم ابنه محمد كلهم أدركوا النبي، ولم يكن أحد من أصحاب رسول الله أسلم هو وأبواه وأولاده وبناته كلهم، إلّا أبو بكر ووالده أبو قحافة، وأمه سلمى بنت صخر، فلما بلغ أبو بكر أربعين سنة دعا به وقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي، أي ألهمني ووفقني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ بها عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ، وهي نعمة
408
الدين. قال الذين قالوا: إن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق أن أبا بكر أسلم والداه ولم يتفق لأحد من الصحابة والمهاجرين إسلام الأبوين إلّا له، وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ.
قال ابن عباس: فأجاب الله دعاء أبي بكر، فأعتق تسعة من المؤمنين يعذبون في الله ولم يترك شيئا من الخير إلّا أعانه الله عليه، وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي أي واجعل الصلاح راسخا في ذريتي.
قال ابن عباس: لم يبق لأبي بكر ولد من الذكور والإناث إلا وقد آمنوا إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ عما يشغلني عن ذكرك وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١٥) الذين أخلصوا لك أنفسهم، أُولئِكَ أي أهل هذا القول الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا من الطاعات، فالمباح حسن لا يثاب عليه وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ. وقرأ الأخوان وحفص الفعلين بفتح النون. والباقون بياء مضمومة ببنائهما للمفعول، ورفع «أحسن». وقرأ الحسن والأعمش وعيسى بياء مفتوحة فيهما، والفاعل الله تعالى. فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ أي كائنين في جملتهم وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (١٦) أي وعدهم الله وعدا صادقا في الدنيا على لسان الرسول صلّى الله عليه وسلّم وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ عند دعوتهما له إلى الإيمان: أُفٍّ لَكُما أي قذرا لكما. وقرئ «أف» بفتح الفاء وكسرها بغير تنوين وبالحركات الثلاث مع التنوين لكن القراءات السبعية ثلاثة: كسر الفاء مع التنوين وتركه وفتحها من غير تنوين وهو صوت إذا صوت الإنسان به علم أنه متضجر كما إذا قال: أوه، علم أنه متوجع واللام في لكما لبيان المؤفف له معناه هذا التأفيف لأجلكما خاصة دون غير كما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ أي أن أبعث من القبر.
وقرأ هشام بإدغام النون الأولى في الثانية. وقرأ بعضهم بفتح النون كأنه استثقل اجتماع النونين والكسرين، والياء ففتح الأولى تحريا للتخفيف. وقرئ «أن أخرج» بفتح الهمزة وضم الراء. وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي أي وقد مضت الأمم من قبلي ولم يبعث منهم أحد، وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ أي ووالداه يدعوان الله أو يستغيثان بالله من كفره وإنكاره للبعث قائلين له:
وَيْلَكَ وهو دعاء بالهلاك. والمراد به التحريض على الإيمان آمِنْ أي صدق بالبعث إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالبعث بعد الموت حَقٌّ أي كائن. وقرئ «أن» بفتح الهمزة، أي آمن بأن وعد الله حق فَيَقُولُ مكذبا لهما ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧)، أي ما هذا الذي تسميانه وعد الله إلّا أكاذيب الأولين التي كتبوها في كتبهم من غير أن يكون لها حقيقة، أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أي ثبتت عليهم كلمة العذاب فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ أي مع أمم قد مضت مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أي من كفارهم، إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (١٨) أي قد ضيّعوا أعمارهم في الضلال.
قال ابن عباس والسدي: نزل قوله تعالى: وَالَّذِي قالَ إلخ في عبد الله ابن أبي. وقيل:
في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه كان أبواه يدعوانه إلى الإسلام فأبى وقال: أف لكما إلخ، ثم أسلم وحسن إسلامه وصار من أفاضل المسلمين فالّذين قالوا: والمراد بقوله تعالى: والّذي قال لوالديه: أف كل عاق لوالديه فأجر لربه قالوا: إن الوعيد في قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ
409
عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ
الآية مختص بهم فاسم الإشارة عائد إلى القائلين هذه المقالات الباطلة أما من قال المراد بنزول الآية سيدنا عبد الرحمن ابن سيّدنا أبي بكر فيقولون: إن اسم الإشارة عائد إلى القرون التي قبله، فالمراد أجداده والوعيد عليهم كان له جدان ماتا في الجاهلية جدعان، وعثمان ابنا عمرو، وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا أي ولكل واحد من الفريقين درجات من الإيمان، والطاعة، والكفر، والمعصية قال ابن زيد: درج أهل الجنة يذهب علوا ودرج أهل النار ينزل هبوطا، وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وهشام، وعاصم بالياء التحتية أي وجازاهم الله بذلك ليوفيهم أجزية أعمالهم، والباقون بالنون أي ونجازيهم «لنوفيهم» جزاء أعمالهم وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٩) بنقص ثواب الأولين وزيادة عقاب الآخرين قدر الله جزاءهم على مقادير أعمالهم، فجعل الثواب درجات والعقاب دركات وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أي يوم يعذبون بالنار يقال لهم: أَذْهَبْتُمْ قرأ ابن كثير بهمزة ومدة، وابن عامر بهمزتين بلا مد، وهشام بهمزتين ومد بينهما، والباقون بهمزة محققة طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها أي قد أخذتم ما قدر لكم من الراحات في الدنيا، وتمتعتم بالّلذات، واتبعتم الشهوات، فلم يبق لكم بعد استيفاء حظكم في الدنيا شيء منها في الآخرة فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ أي بالعذاب الشديد.
وقرئ «عذاب الهوان» بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (٢٠) أي بسبب استكباركم بغير استحقاق لذلك، أو بسبب خروجكم عن طاعة الله تعالى فالترفع ذنب القلب، والفسق ذنب الجوارح
وَاذْكُرْ يا أكرم الرسل لكفار مكة أَخا عادٍ هود بن عبد الله بن رباح إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بدل اشتمال أي وقت حذرهم عقاب الله إن لم يؤمنوا بِالْأَحْقافِ أي نازلين على رمال مشرفة على البحر في أرض الشحر من بلاد اليمن، وقال ابن عباس: هو واد بين عمان ومهرة. وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أي وقد مضت الرسل من قبل هود ومن بعده، أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ وهذا تفسير للإنذار وإنما كان هذا إنذار لأن النهي عن الشيء تخويف من مضرته أي صورة إنذار هود أن قال: لا تعبدون إلخ ف «أن» مخففة من الثقيلة وباء التصوير مقدرة معها ولا ناهية. إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١) أي هائل بسبب شرككم قالُوا أَجِئْتَنا يا هود لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا أي لتصرفنا عن عبادة آلهتنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من معالجة العذاب على الشرك إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢) في وعدك بنزول العذاب بنا قالَ لهم هود إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ أي لا علم لي بوقت عذابكم إنما علم وقت إتيان العذاب عند الله تعالى، وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ من التحذير عن العذاب، وأما العلم بوقته فما أوحاه الله إلي، وأما الإتيان بالعذاب فليس بمقدوري، بل هو من مقدورات الله تعالى وقرأ أبو عمرو بسكون الباء وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٣) حيث تصرون على طلب العذاب فإن لم يظهر لكم كوني صادقا لم يظهر لكم كوني كاذبا، فالإقدام على طلب العذاب جهل عظيم، فَلَمَّا رَأَوْهُ أي رأوا ما
410
يوعدون به عارِضاً أي سحابا يعرض في أفق السماء، وهو بدل من الضمير العائد على ما في «بما تعدنا». مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ أي سائر إلى أوديتهم استبشروا وقالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا أي هذا المرئي سحاب يأتينا بالمطر. قال هود: ليس الأمر كذلك، بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ من العذاب رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها أي تهلك كل شيء من الناس، والحيوان، والنبات بقدرة الله تعالى لأجل تعذيبكم.
وروي أن هودا لما أحس بالريح خط على نفسه وعلى المؤمنين خطا إلى جنب عين تنبع فكانت الريح التي تصيبهم ريحا لينة هادئة طيبة، والريح التي تصيب قوم عاد
ترفعهم من الأرض وتطير بهم إلى السماء وتضربهم على الأرض، وروي أنهم رأوا ما كان في الصحراء من رحالهم ومواشيهم يطير به الريح بين السماء والأرض، فدخلوا بيوتهم، وغلقوا أبوابهم، فقلعت الريح الأبواب وصرعتهم، وأحال الله عليهم الرمال، فكانوا تحتها سبع ليال وثمانية أيام لهم أنين، ثم كشفتها الريح عنهم فاحتملتهم فطرحتهم في البحر، فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ أي فصاروا بعد الهلاك لا ترى إلّا آثار مساكنهم، وقرأ حمزة، وعاصم يرى بضم الياء التحتية ورفع «مساكنهم»، والباقون «لا ترى» بفتح تاء الخطاب، ونصب «مساكنهم» أي لا ترى أنت أيها المخاطب، وقرأ الجحدري، والأعمش، وابن أبي اسحق، والسلمي، وأبو رجاء بضم التاء الفوقية ورفع «مساكنهم». كَذلِكَ أي مثل ذلك الجزاء الهائل نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥) وهذا تخويف لكفار مكة، وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ أي ولقد قررنا عادا في أمر عظيم لم نقرركم يا أهل مكة فيه من قوة الأبدان، وطول الأعمار، وكثرة الأموال، ومع ذلك ما نجوا من عقاب الله فكيف يكون حالكم وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ أي وأعطيناهم سمعا فما استعملوه في سماع الدلائل، وأبصارا فما استعملوها في تأمل العبر وأفئدة فما استعملوها في طلب معرفة الله تعالى، بل صرفوا كل هذه القوى إلى طلب الدنيا ولذاتها فما دفع عنهم هذه القوى شيئا من عذاب الله تعالى إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ أي لأجل أنهم كانوا ينكرون دلائل الله تعالى، وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٢٦) أي ونزل بهم العذاب الذي كانوا يطلبونه بطريق الاستهزاء، وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ يا أهل مكة مِنَ الْقُرى كحجر ثمود، وعاد أرض سذوم، وسبأ، ومدين، والأيكة، وقوم لوط، وفرعون، وأصحاب الرس وَصَرَّفْنَا الْآياتِ أي كررناها لهم لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧) أي لكي يرجعوا عن الكفر والمعاصي فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً أي فهلا خلصهم من العذاب الأصنام التي اتخذوها آلهة حال كونها متقربا بها إلى الله تعالى، بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ أي بل غابوا عنهم فنصرة آلهتهم لهم أمر ممتنع، وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٨) وذلك أي امتناع نصرهم أثر كذبهم الذي هو اتخاذهم الأصنام آلهة وأثر افترائهم الكذب على الله تعالى إثبات
411
الشركاء له تعالى، وقرأ ابن عباس «أفكهم» بفتح الهمزة وسكون الفاء، وقرأ عكرمة، والصباح «أفكهم» على صيغة الماضي أي، وذلك الاتخاذ الذي هو ضياع آلهتهم عنهم ثمرته صرفهم عن الحق، وقرأ أبو عياض، وعكرمة أيضا «أفكهم» بتشديد الفاء، وابن الزبير، وابن عباس أيضا «آفكهم» بمد الهمزة أي جعلهم آفكين، وقرأ ابن عباس أيضا «آفكهم» على صيغة اسم الفاعل بمعنى صارفهم وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ أي واذكر لقومك إذ وجهنا إليك جماعة كائنة من جن نصيبين في الجزيرة، وهي بين الشام والعراق يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ أي القرآن عند تلاوته قالُوا أي قال بعضهم لبعض أَنْصِتُوا أي اسكتوا لنسمعه.
روي أن الجن كانت تسترق السمع، فلما حرست السماء، ورجموا بالشهب قالوا: ما هذا إلّا لنبأ حدث، فنهض سبعة من نفر من أشراف جن نصيبين منهم: زوبعة، فسافروا حتى بلغوا تهامة، ثم اندفعوا إلى وادي نخلة فوافوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو قائم في جوف الليل يصلي، فاستمعوا لقراءته وذلك عند رجوعه من الطائف وذلك في السنة الحادية عشرة من النبوة، فَلَمَّا قُضِيَ أي فرغ من تلاوة القرآن، وقرأ أبو مجلز، وأبو حبيب بن عبد الله «قضى» بالبناء للفاعل أي أتم الرسول قراءته، وَلَّوْا أي رجعوا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩). روى محمد بن جرير الطبري عن ابن عباس: أن أولئك الجن كانوا سبعة نفر من أهل نصيبين فجعلهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رسلا إلى قومهم. قالُوا عند رجوعهم إلى قومهم يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أي قرآنا يقرأ أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى. روي عن عطاء، والحسن: إنما قالوا ذلك لأنهم كانوا يهودا، وعن ابن عباس أن الجن ما سمعت أمر عيسى عليه السلام مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أي لما قبله من كتب الأنبياء يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ من العقائد وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠) أي موصل إلى المقصود وهي الأعمال الصالحة
يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ محمدا صلّى الله عليه وسلّم أو كتابه، وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ أي يغفر الله بعض ذنوبكم، وهو حق الله تعالى، وحق الحربيين، فهو يغفر بمجرد إسلام الظالم ولا يتوقف على الاستحلال من المظلوم الحربي، أما مظالم العباد غير الحربيين فلا تغفر إلّا برضا أصحابها وهذه الآية تدل على أنه صلّى الله عليه وسلّم كان مبعوثا إلى الجن كما كان مبعوثا إلى الإنس.
قال مقاتل: ولم يبعث الله نبيا إلى الإنس، والجن قبله صلّى الله عليه وسلّم، وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٣١) أي ويمنعكم الله من عذاب أليم معد للكفرة. قال ابن عباس: فاستجاب لهم من قومهم نحو سبعين رجلا من الجن، فرجعوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوافوه في البطحاء، فقرأ عليهم القرآن وأمرهم ونهاهم، وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ محمدا أو من يبلغ عنه فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ له تعالى فِي الْأَرْضِ بهرب وإن هرب كل مهرب من أقطارها، أو دخل في أعماقها، وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أي من غير الله أَوْلِياءُ أي أنصار يدفعون عنه العذاب بالاستشفاع له، أو الافتداء به أُولئِكَ أي من لا يجيبون داعي الله فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٢) أي ظاهر، وهذا آخر كلام الجن الذين سمعوا القرآن،
412
أَوَلَمْ يَرَوْا أي ألم يتفكر كفار مكة ولم يعلموا علما جازما أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ابتداء من غير مثال وَلَمْ يَعْيَ أي لم يتعب بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى وإنما جاز إدخال الباء على خبر «أن» لأنه في تأويل خبر «ليس» فكأنه قيل أليس الله بقادر؟ ولذلك أجيب عنه بقوله تعالى: بَلى هو قادر على إحياء الموتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣) فإن تعلّق الروح بالجسد أمر ممكن إذ لو لم يكن ممكنا في نفسه لما وقع أولا، والله تعالى قادر على جميع الممكنات، فوجب كونه تعالى قادرا على إعادة الروح إلى الجسد، وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أي يوم يعذبون بالنار يقال لهم: أَلَيْسَ هذا أي العذاب بِالْحَقِّ أي بالعدل. قالُوا بَلى وَرَبِّنا إنه الحق أكدوا جوابهم بالقسم كأنهم يطمعون في الخلاص من العذاب بالاعتراف بحقيقة عذاب النار كما في الدنيا، وأنّى لهم ذلك. قالَ الله لهم: فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤) أي بسبب كفركم في الدنيا فَاصْبِرْ أي إذا كان عاقبة أمر الكفار ما ذكر، فاصبر على أذى قومك كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ أي كما صبر أصحاب الشرائع الذين اجتهدوا في تقريرها، وصبروا على تحمل مشاق معاداة الطاعنين فيها، وهم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى عليهم الصلاة والسلام، وقد ذكرهم الله على التعيين في قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وفي قوله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ الآية وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ أي لكفار مكة بالعذاب فإنه نازل بهم لا محالة كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ أي وعند نزول العذاب بهم في الآخرة يستقرون مدة لبثهم في الدنيا حتى يحسبونها ساعة من نهار، لطول مدة العذاب ولهول ما عاينوه من شدة العذاب، والمعنى: أنهم إذا عاينوا العذاب صار طول لبثهم في الدنيا والبرزخ كأنه ساعة يسيرة من النهار، أو كأنه لم يكن (بلغ) أي هذا الّذي وعظمتم به كفاية في الموعظة، أو هذا القرآن كفاية فيها.
وقرأ زيد بن علي، والحسن، وعيسى «بلاغا» نصبا إما على المصدر أي بلّغ أيها الرسول بلاغا، كما يؤيده قراءة أبي مجلز بلغ أمرا وإما على النعت «لساعة»، وقرأ الحسن أيضا «بلاغ» بالجر على أنه وصف «لنهار» على حذف مضاف أي ذي بلاغ أي أجل، فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (٣٥) أي فلا يهلك بالعذاب إلّا الخارجون عن الاتعاظ به، والعمل بموجبه، وقرأ ابن محيصن «يهلك» بفتح الياء وكسر اللام وبفتحهما، وقرأ زيد بن ثابت «يهلك» بضم الياء وكسر اللام، والفاعل الله وبنصب «الفاسقين» و «نهلك» بنون العظمة، ونصب «القوم» ووصفه، قال ابن عباس: إذا عسر على المرأة ولدها تكتب هاتين الآيتين والكلمتين في صفحة، ثم تغسل وتسقى منها وهي: بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلّا الله العظيم الحليم الكريم سبحان الله، ورب السموات، ورب الأرض، ورب العرش العظيم كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلّا عشية، أو ضحاها كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ الآية والله أعلم.
413
Icon