تفسير سورة الأنعام

تفسير السمرقندي
تفسير سورة سورة الأنعام من كتاب بحر العلوم المعروف بـتفسير السمرقندي .
لمؤلفه أبو الليث السمرقندي . المتوفي سنة 373 هـ

سورة الأنعام
وهي مائة وخمس وستون آية مكية بسم الله الرحمن الرحيم قال مقاتل: سورة الأنعام كلها مكية غير قوله تعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ الآية وقال ابن عباس في رواية أبي صالح: سورة الأنعام كلها مكية غير ست آيات قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ إلى آخر الثلاث وقوله: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ... وقوله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وقيل: نزلت جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَشَيَّعَهَا سَبْعُونَ ألف ملك. قال شهر بن حوشب: نزلت الأنعام جملة واحدة وهي مكية غير آيتين: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ وقال: بعضهم: كلها مكية. وقال كعب الأحبار: مفتاح التوراة قوله تعالى:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (٣)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وخاتمتها خاتمة سورة هود: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [هود: ١٢٣] وقوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ حمد الرب نفسه، ودلّ بصنعه على توحيده، الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ يعني: خلق السموات وما فيها من الشمس والقمر والنجوم، وخلق الأرض وما فيها وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ يعني: خلق الليل والنهار.
ويقال: الكفر والإسلام. وقال الضحاك: هذه الآية نزلت في شأن المجوس. قالوا: الله خالق النور، والشيطان خالق الظلمة، فأنزل الله تعالى إكذاباً لقولهم، ورداً عليهم، فقال: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ يعني: أن الله واحد لا شريك له، وهو الذى خلق السموات والارض، وهو الذي خلق الظلمات والنور ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني: المجوس بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ يعني:
يشركون. ويقال ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ يعني: مشركي مكة بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ يعني:
يعبدون الأصنام.
ثم قال: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ يعني: آدم، وأنتم من ذريته ومن نسله ثُمَّ قَضى أَجَلًا يعني: أجل ابن آدم منذ يوم ولد إلى يوم يموت. وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ يعني: البرزخ منذ يموت إلى يوم البعث، فهو مكتوب في اللوح المحفوظ فهذا قول مقاتل والحسن. وقال عكرمة: أَجَلًا يعني: أجل الدنيا وَأَجَلٌ مُسَمًّى يعني: أجل الآخرة. وهكذا قال سعيد بن جبير: ويقال أَجَلًا يعني: أجل واحد وَأَجَلٌ مُسَمًّى يعني: يوم القيامة ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ يعني: تشكون في البعث بعد الموت وفي الأجل المسمى.
ثم قال: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يعني: هو المتفرد بالتدبير في السموات وفي الأرض. وهذا كقوله: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ [الزخرف: ٨٤] يعني: وهو خالق السموات والأرض. ويقال: هو الذي يوحد ويقر بوحدانيته أهل السموات والأرض.
ويقال: عالم بما في السموات وبما في الأرض. يَعْلَمُ سِرَّكُمْ يعني: يعلم سر أعمالكم وَجَهْرَكُمْ يعني علانيتكم وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ من الخير والشر فيجازيكم بذلك.
ثم أخبر عن أمر المشركين فقال
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٤ الى ٦]
وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٦)
وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ ولم يتفكروا فيها ليعتبروا في توحيد الله تعالى. وذلك أن مشركي مكة سألوا رسول الله ﷺ أن يريهم علامة. وقالوا: إنا نريد أن تدعو لينشق القمر نصفين لنؤمن بك، وبربك، ونصدقك. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانشق القمر شقين، وذهب أحد النصفين إلى جانب حراء، والآخر إلى جانب آخر وهم ينظرون إليه.
وقال ابن مسعود: أنا رأيت حراء بين فلقتي القمر. فأعرضوا عنه فلم يؤمنوا. وقالوا: هذا سحر مبين.
فنزلت اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا [القمر: ١، ٢] ونزلت هذه الآية: وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ يعني: انشقاق القمر إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ.
يقول الله تعالى: فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ يعني: بالقرآن حين جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم، واستهزءوا بالقرآن بأنه ليس من الله تعالى.
فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ يعني: سيعلمون جزاء تكذيبهم واستهزائهم بالقرآن بأنه ليس من الله تعالى ويقال: يأتيهم أخبار مَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ من العذاب حين رأوها معاينة. فهذا وعيد لهم أنه يصل إليهم العذاب إما في الدنيا، وإما في الآخرة.
ثم وعظهم ليخافوا ويرجعوا فقال: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ يعني: من قبل كفار مكة مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ يعني: مكنّاهم وأعطيناهم من المال والولد مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ
يا أهل مكة وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً يعني: المطر متتابعاً كلما احتاجوا إليه.
وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ يعني: عذبناهم بِذُنُوبِهِمْ وبتكذيبهم رسلهم وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ يعني: وجعلنا من بعد هلاكهم قَرْناً آخَرِينَ قال الزجاج: القرن أهل كل مدة فيها نبي أو فيها طبقة من أهل العلم. كما قال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «خير القرون أصحابي ثم الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يلونهم».
ثم قال:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٧ الى ١٠]
وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لاَ يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ مَّا يَلْبِسُونَ (٩) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠)
وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ ذلك أن النضر بن الحارث وعبد الله بن أمية وغيرهما قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تنزل علينا كتاباً من السماء. قال الله تعالى:
وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ يقول: مكتوباً في صحيفة فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ يقول:
عاينوه وأخذوه بأيديهم ما يصدقونه لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني: يقول الذين كفروا: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ولا يؤمنون به وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ من السماء فيكون معه نذيراً.
فقال الله تعالى: وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً من السماء لَقُضِيَ الْأَمْرُ يعني لهلكوا إذا عاينوا الملك، ولم يؤمنوا، ولم يصدقوا ولنزل العذاب بهم ثُمَّ لاَ يُنْظَرُونَ يعني: لا ينتظر بهم حتى يعذبوا. ويقال: لو نزل الملك لنزل بإهلاكهم. ويقال: لو أنزلنا ملكاً لا يستطيعون النظر إليه فيموتوا.
ثم قال: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً يعني: لو أنزلنا ملكاً بالنبوة لَجَعَلْناهُ رَجُلًا يعني:
لأنزلناه على شبه رجل، على صورة آدمي. ألا ترى أنهم حين جاءوا إلى إبراهيم- عليه
السلام- جاءوا على صورة الضيفان. وعلى داود- عليه السلام- مثل خصمين. وكان جبريل- عليه السلام- ينزل على رسول الله ﷺ على صورة دحية الكلبي.
ثم قال: وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ مَّا يَلْبِسُونَ يعني لو نزل الملك على أشباه الآدميين لا يزول عنهم الاشتباه. والتلبس وروى بعضهم عن ابن عامر أنه قرأ: مَّا يَلْبِسُونَ بنصب الباء يعني:
جعلنا عليه من الثياب ما يلبسونه على أنفسهم. ظنوا أنه آدمي. والقراءة المعروفة: بالكسر.
يقال: لبس يلبس إذا لبس الثوب. ولبس يلبس: إذا خلط الأمر. وقال القتبي: وَلَلَبَسْنا يعني: أضللناهم بما ضلوا به مِن قَبْلِ أَن يبعث الملك.
ثم قال: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ يا محمد كما استهزأ بك قومك في أمر العذاب فَحاقَ بِالَّذِينَ يقول: وجب ونزل بالذين سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ بالرسل. ويقال: فَحاقَ أي: رجع. وقال أهل اللغة: الحيق ما يشتمل على الإنسان من مكروه فَعَلَتْه نفسه. كقوله: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر: ٤٣] وقال الضحاك: كان النبيّ صلّى الله عليه وسلم جالساً في المسجد الحرام مع المستضعفين من المؤمنين بلال بن رباح وصهيب بن سنان وعمار بن ياسر وغيرهم. فمر بهم أبو جهل بن هشام في ملأ من قريش وقال: يزعم محمد أن هؤلاء ملوك أهل الجنة فأنزل الله تعالى عل رسوله هذه الآية ليثبت بها فؤاده، ويصبره على أذاهم فقال: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ يعني: إن سخر أهل مكة من أصحابك فقد فعل ذلك الجهلة برسلهم فجعل الله تعالى دائرة السوء على أهل ذلك الاستهزاء.
ثم أمر المشركين بأن يعتبروا بمن قبلهم وينظروا إلى آثارهم في الأرض فقال:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١١ الى ١٢]
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١) قُلْ لِمَنْ مَّا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٢)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ يعني: قل لأهل مكة سافروا في الأرض ثُمَّ انْظُرُوا يعني:
اعتبروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ يعني: آخر أمر الْمُكَذِّبِينَ بالرسل والكتب. وقال الحسن:
سِيرُوا فِي الْأَرْضِ يعني: اقرءوا القرآن فانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المتقدمين في العذاب. فقال أهل مكة للنبي صلى الله عليه وسلم: إن فعلت هذا الفعل لطلب المال، فاترك هذا الفعل. إنا نجمع لك مالاً تصير به أغنى أهل مكة. فنزل قوله تعالى: قُلْ لِمَنْ مَّا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فإن أجابوك وإلا ف قُلْ لِلَّهِ يعني: ما في السموات وما في الأرض يعطي منها من يشاء.
ثم قال: كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ فلا يعذبكم في الدنيا. وروى عطاء عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «إنَّ لله مِائَةَ رَحْمَةٍ أَنْزَلَ مِنْهَا وَاحِدَةً فَقَسَمَها بَيْنَ الخَلائِقِ فِبِها يَتَرَاحَمُونَ، وَبِهَا تَعْطِفُ الوُحُوشُ عَلَى أوْلادِها، وَادَّخَرَ لِنَفْسِهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ رَحْمَةً يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». ويقال: كتب الرحمة حيث أمهلهم، ولم يهلكهم ليرجعوا ويتوبوا.
ثم قال: لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ يعني: ليجمعنكم يوم القيامة. وهذا كما يقال:
جمعت هؤلاء إلى هؤلاء أي ضممت بينهم في الجمع لاَ رَيْبَ فِيهِ يعني: في البعث أنه كائن.
ثم نعتهم فقال: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ قال بعضهم: هذا ابتداء وخبره لاَ يُؤْمِنُونَ. وقال بعضهم: هذا بدل من قوله: لَيَجْمَعَنَّكُمْ.
ثم عظم نفسه فقال:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٣ الى ١٦]
وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦)
وَلَهُ مَا سَكَنَ يعني: ما استقر فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ من الدواب والطير في البر والبحر.
فمنها ما يستقر في الليل وينتشر بالنهار. ومنها ما يستقر بالنهار وينتشر الليل.
ثم قال: وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ يعني: السميع لمقالتهم، العليم بعقوبتهم. ثم قال:
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا وذلك أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنّ آباءك كانوا على مذهبنا، وإنما تركت مذهبهم للحاجة فارجع إلى مذهب آبائك حتى نغنيك بالمال. فنزلت قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا يعني: أعبد ربا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني: خالق السموات والأرض.
ويقال: مبتدئهما. ومنه قول النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ» أي، على ابتداء الخلقة.
وهو الإقرار بالله حين أخذ عليهم العهد في أصلاب آباءهم. وإنما صار فاطِرِ كسراً لأنه من صفة الله تعالى يعني: أغير الله فاطر السموات والأرض. وقال الزجاج: يجوز الضم على معنى هو فاطر السموات والأرض. ويجوز النصب على معنى: اذكروا فاطر السموات، إلا أن الاختيار الكسر.
ثم قال: وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ يعني: يرزق ويقال: وهو يرزق ولا يعان على رزق الخلق. وقرأ بعضهم: وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ بنصب الياء يعني: يرزق ولا يأكل.
ثم قال: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ من أهل مكة يعني: أول من أسلم من أهل مكة، واستقام على التوحيد وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يعني: وقال لي ربي: لا تكونن من المشركين بقولهم: ارجع إلى دين آبائك.
وقوله تعالى: قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي يعني: إني أعلم إن عصيت ربي فرجعت إلى آبائي، وعبدت غيره. عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ يعني: عذاباً شديداً في يوم القيامة.
مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ سوء العذاب يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ يعني: غفر له وعصمه. قرأ ابن كثير ونافع وأبو عامر وعاصم في رواية حفص مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ بضم الياء ونصب الراء على معنى فعل ما لم يسم فاعله. وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر: مَنْ يُصْرَفْ بنصب الياء ومعناه: من يصرف الله عنه. ولأنه سبق ذكر قوله: رَبِّي فانصرف إليه.
ثم قال: وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ يعني: صرف العذاب: هو النجاة الوافرة. وروى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ أنه قال: «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا وَاعْلَمُوا أنَّهُ لا يَنْجُو أَحَدٌ بِعَمَلِهِ» قالوا: يا رسول الله ولا أنت؟ قال: «وَلا أنَا إلاَّ أنْ يَتَغَمَّدِني الله بِرَحْمَتِهِ» يعني: أن الخلق كلهم ينجون برحمة الله تعالى.
ثم خوّفه ليتمسك بدينه فقال:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٧ الى ١٩]
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩)
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ يعني: إنْ يصبك الله بشدة أو بلاء فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ يعني: لا يقدر أحد من الآلهة التي يدعونها ولا غيرها كشف الضر إلا الله تعالى.
وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ يقول: وإن يصبك بسعة أو صحة الجسم فإنه لا يقدر أحد على دفع ذلك. فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ من الغنى والفقر والعافية.
ثم قال: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ الغالب والعالي عليهم. ويقال: القادر والمالك عليهم وَهُوَ الْحَكِيمُ في أمره الْخَبِيرُ بأفعال الخلق.
ثم قال: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً وذلك أن كفار مكة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد ألا وجد الله رسولاً غيرك؟ وما نرى أحداً من أهل الكتاب يصدقك بما تقول فأرنا من يشهد لك أنك رسوله؟ فقال الله تعالى: قُلْ: لأهل مكة أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً يعني: حجة وبرهاناً ويقال: من أكبر شهادة؟ فإن أجابوك وإلا ف قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ بأني رسول الله.
والشهيد في اللغة: هو المبين. وإنما سمى الشاهد شاهداً لأنه يبيّن دعوى المدعي بأمر الله نبيه- عليه السلام- بأن يحتج عليهم بالله الواحد القهار الذى خلق السموات والارض، وجعل الظلمات والنور، وخلقهم أطوارا.
ثم قال: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ يعني: لأخوفكم بالقرآن يا أهل مكة وَمَنْ بَلَغَ يعني: ومن بلغه القرآن سواكم، فأنا نذير وبشير من بلغه القرآن من الجن والإنس. قال قتادة: قال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً من كتاب الله تعالى»، فمن بلغه فكأنما عاين رسول الله ﷺ وكلمه. وقال محمد بن كعب القرظي: من بلغه القرآن فكأنما رأى رسول الله ﷺ ثم قرأ: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ وقال مجاهد: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ يعني: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: وَمَنْ بَلَغَ يعني: من العجم وغيرهم.
ثم قال: أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى من الأصنام. فإن قالوا: نعم قُلْ لاَّ أَشْهَدُ بما شهدتم ولكن قُلْ أشهد إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ من الأصنام والأوثان.
قوله تعالى:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٢٠ الى ٢٣]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣)
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يعني: التوراة والإنجيل يَعْرِفُونَهُ يعني: محمدا ﷺ بنعته وصفته كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ وقال عبد الله بن سلام: أنا أعرف بالنبي ﷺ من ابني لأني أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أشهد لابني، لأني لا أدري ما أحدثت النساء بعدي.
ثم قال: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ يعني: كعب بن الأشرف ومن تابعه ممن طلبوا الرئاسة، آثروا الدنيا على الآخرة.
قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً يعني: ممن اختلق على الله كذبا باتخاذ الآلهة وقوله الشرك أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ يعني: بالقرآن أنه ليس من عند الله إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ يعني: أنه لا يأمن الكافرون من عذابه. قال في اللغة: إِنَّهُ: مرة تكون للإشارة مثل قوله: إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [يوسف: ٩٨] ومرة تكون للعماد مثل قوله تعالى: إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكافِرُونَ [المؤمنون: ١١٧] إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وقوله تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يوم القيامة ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ يعني: أين آلهتكم التي تزعمون. يعني: تعبدون من دون الله ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ وأصل الفتنة في اللغة:
هو الاختبار. ويقال: فتنت الذهب في النار إذا أدخلته لتعلم جودته وإنما سمي جوابهم فتنة لأنهم حين سئلوا، اختبروا بما عندهم بالسؤال فلم يكن الجواب من ذلك الاختبار فتنة إلا هذا القول. ويقال: ثم لم تكن معذرتهم وجوابهم إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ. قال مجاهد: إن المشركين لما رأوا يوم القيامة إن الله لا يغفر ذنوبهم يقول بعضهم لبعض: يا ويلكم جئتم بما لا يغفر الله لكم. هلموا الآن فلنكْذِبْ على أنفسنا، ونحلف على ذلك، فحلفوا. فحينئذٍ ختم على أفواههم، فتشهد أيديهم وأرجلهم عليهم. قرأ ابن عامر وابن كثير وعاصم في رواية حفص: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ بالتاء لأن الفتنة مؤنث فِتْنَتُهُمْ بضم التاء، لأنه اسم تكن. وقرأ حمزة والكسائي: ثم لم يكن بالياء، لأن الفتنة وإن كانت مؤنثة إلا أن تأنيثه ليس بحقيقي، ولأن الفتنة بمعنى: الإفتان فانصرف إلى المعنى فِتْنَتُهُمْ بالنصب، فجعلاه خبر تكن والاسم ما بعده. وقرأ أبو عمرو ونافع وعاصم في رواية أبي بكر: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ بالتاء والنصب وقرأ حمزة والكسائي: وَاللَّهِ رَبِّنا بنصب الباء. ومعناه: يا ربنا. وقرأ الباقون: وَاللَّهِ رَبِّنا بكسر الباء على معنى النعت. قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أي: كيف صار وبال تكذيبهم على أنفسهم.
ويقال: يقول الله تعالى للملائكة:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٢٤ الى ٢٦]
انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٢٦)
انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ يعني: انظر إليهم كيف يكذبون على أنفسهم وَضَلَّ عَنْهُمْ يعني: ذهب عنهم. ويقال: اشتغل عنهم الآلهة بأنفسها مَّا كانُوا يَفْتَرُونَ على الله من الكذب في الدنيا.
قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ يعني: إلى حديثك وقراءتك. يعني: يستمعون ولا ينفعهم ذلك وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ يعني: غطاءً مجازاً لكفرهم. وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً يعني: صمماً وثقلاً لا يفقهون حديثك. وقال قتادة: يسمعونه بآذانهم ولا يعون منه شيئاً، كمثل البهيمة التي تسمع القول ولا تدري ما هو.
ثم قال: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها يعني: انشقاق القمر وغيره حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يعني: يخاصمونك بالباطل، وينكرون أن القرآن من الله تعالى يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ وذلك أن النضر بن الحارث كان يخبر أهل مكة بسير المتقدمين وبأخبارهم فقالوا له: ما ترى فيما يقول محمد ﷺ قال: لا أفهم مما يقول شيئاً، ولا أدري أنه من أساطير الأولين الذي أخبركم به مثل حديث رستم واسفنديار. وقال القتبي: واحدها أسطورة واسطارة ومعناها: التَّرهات. والأباطيل البسابس، وهي شيء لا نظام له وليس بشيء.
وفي هذا دلالة نبوة محمد ﷺ لأنهم كانوا يتكلمون فيما بينهم بالسر، فيُظهِر الله أسرارهم للنبي صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ يعني: أهل مكة ينهون الناس عن محمد أن يتبعوه ويتباعدون عنه أي: يتنافرون. ويقال: نزل في شأن أبي طالب. كان يقول للنبي صلى الله عليه وسلم:
إن قريشاً لن يصلوا إليك حتى أوسد في التراب، فامض يا ابن أخي فما عليك غضاضة يعني:
ذلاًّ وكان لا يسلم لأجل المقالة فنزل وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ يعني: أبا طالب ينهى قريشاً عن إيذائه، وينأى عنه، ويتباعد عن دينه. وهذا قول الكلبي والضحاك ومقاتل. والقول الأول أيضاً قول الكلبي.
ثم قال: وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ يعني: وما يهلكون إلا أنفسهم وَما يَشْعُرُونَ بذلك.
قوله تعالى:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٢٧ الى ٢٨]
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧) بَلْ بَدا لَهُمْ مَّا كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٢٨)
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ قال الكلبي: يعني: حبسوا على النار. وقال مقاتل يعني: عرضوا على النار. وقال الضحاك: يعني: جمعوا على أبوابها. ويقال: وقفوا على متن جهنم والنار تحتهم. وروي في الخبر: أن الناس كلهم وقفوا على متن جهنم كأنها متن الأهالة، ثم نادى مناد خذي أصحابك، ودعي أصحابي.
ثم قال: فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ إلى الدنيا ولم يذكر في الآية الجواب، لأن في الكلام ما دل عليه فكأنه يقول: ولو ترى يا محمد كفار قريش حين وقفوا على النار، لعجبت من ذلك فقالوا: يا لَيْتَنا نُرَدُّ إلى الدنيا. وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قرأ حمزة وابن عامر وعاصم في رواية حفص: وَلا نُكَذِّبَ بالنصب وَنَكُونَ بالنصب وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وعاصم في رواية أبي بكر: وَلا نُكَذِّبَ وَنَكُونَ كلاهما بالضم على معنى الخبر. ومن قرأ بالنصب فلأنه جواب التمني. وجواب التمني إذا كان بالواو والفاء يكون بالنصب. كقولك: ليتك تصير إلينا ونكرمك. وقرأ بعضهم: وَلا نُكَذِّبَ بالضم ونَكُونَ بالنصب في رواية هشام بن عمار عن ابن عامر. وقرأ عبد الله بن مسعود: فَلا نُكَذّبَ بالفاء.
قوله تعالى: بَلْ بَدا لَهُمْ يعني: ظهر لهم ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ بألسنتهم. لأن الجوارح تشهد عليهم بالشرك، فحينئذٍ يتمنون الرجعة وَلَوْ رُدُّوا إلى الدنيا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ يعني: رجعوا إلى كفرهم وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في قولهم: وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا لأنهم قد علموا في الدنيا وعاينوه. وقد عاين إبليس وشاهد ومع ذلك كفر وكذلك هاهنا لو رجعوا لكفروا كما كفروا من قبل، لأنك ترى في الدنيا إنساناً أصابه مرض أو حبس في السجن، أخلص بالتوبة لله تعالى أن لا يرجع إلى الفسق، فإذا برأ من مرضه أو أطلق من الحبس رجع إلى الحال الأول.
قوله تعالى:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٢٩ الى ٣١]
وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى مَا فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ (٣١)
وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا يعني: ما هي إلا آجالنا تنقضي في الدنيا، فيموت الآباء، ويجيء الأبناء وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ بعد الموت. فيبيّن الله تعالى حالهم يومئذٍ فقال:
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا يعني: عرضوا وسيقوا وحبسوا عَلى رَبِّهِمْ يعني: عند ربهم وعند عذاب ربهم قالَ أَلَيْسَ هذا يعني: العذاب والبعث بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا أقروا في وقت لا ينفعهم الإقرار قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ به وتجحدونه.
قوله تعالى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ يعني: غبن الذين جحدوا بالله، وبالبعث حين اختاروا العقوبة على الثواب حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً يعني: فجأة ومعناه: أنهم جحدوا وثبتوا على جحودهم حتى إذا جاءتهم القيامة قالُوا يا حَسْرَتَنا يعني: يا ندامتنا وخزينا والعرب إذا اجتهدت في المبالغة في الإخبار عن أمر عظيم تقع فيه جعلته نداء كقوله:
يا حَسْرَتَنا ويا وَيْلَتَنا [الكهف: ٤٩] ويا ندامتنا عَلى مَا فَرَّطْنا يعني: ضيعنا وتركنا العمل فِيها يعني: فِي الدُّنْيَا مِنْ عَمَلٍ الآخرة وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ يعني: آثامهم عَلى ظُهُورِهِمْ يعني: إنهم يحملون آثامهم. وروى أسباط عن السدي قال: ليس من رجل ظالم يدخل قبره إلا آتاه ملك قبيح الوجه، أسود اللون، منتن الريح، عليه ثياب دنسة، فإذا رآه قال: ما أقبح وجهك فيقول: كذلك كان عملك قبيحاً. فيقول ما أنتن ريحك فيقول: كذلك كان عملك منتناً. فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا عملك. فيكون معه في قبره. فإذا بعث يوم القيامة قال له: إني كنت أحملك في الدنيا باللذات والشهوات، فأنت اليوم تحملني. فيركب على ظهره حتى يدخله النار.
قال: وذلك قوله: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ وذلك على سبيل المجاز يعني: يحملون وبال ذلك على ظهورهم وعقوبته. ويقال: وقرت ظهورهم من الآثام. ثقلت وحملت، وأصل الوزر في اللغة: هو الثقل ثم قال: أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ يعني: يحملون.
قوله تعالى:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٣٢]
وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٣٢)
وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ يعني: لعب كلعب الصبيان يبنون بنياناً، ثم يهدمونه.
ويلعبون ويلهون ويبنون ما لا يسكنون. كذلك أهل الدنيا يجمعون ما لا يأكلون، ويبنون ما لا يسكنون ويأملون ما لا يدركون.
ثم قال: وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ يعني: الجنة خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الشرك والفواحش أَفَلا تَعْقِلُونَ أي أن الآخرة أفضل من الدنيا. قرأ ابن عامر: وَلَدَارُ الاخرة بلام واحدة بالتخفيف، وبكسر الآخرة على معنى الإضافة. وقرأ الباقون: وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ بلامين، والْآخِرَةُ بالضم على معنى النعت. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية حفص: أَفَلا تَعْقِلُونَ بالتاء على معنى المخاطبة والباقون بالياء على معنى المغايبة.
قوله تعالى:

[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٣٣ الى ٣٥]

قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٣٣) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤) وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٥)
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ روى سفيان عن أبي إسحاق، عن ناجية بن كعب قال: قال أبو جهل للنبي ﷺ ما نتهمك ولكن نتهم الذي جئت به، فنزلت هذه الآية. وروى أبو معاوية عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح قال: جاء جبريل إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم وهو حزين فقال: ما يحزنك؟ قال: «كَذَّبَنِي هؤلاء». فقال: إنهم لا يكذبونك، يعلمون أنك صادق فنزلت هذه الآية: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ من تكذيبهم إياك في العلانية فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ في السر، ويعلمون أنك صادق. وكانوا يسمونه أميناً قبل أن يوحى إليه فلما أوحي إليه، كذّبوه، فقال: وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ وهم يعلمون أنك صادق.
والجحد يكون ممن علم الشيء ثم جحده كقوله تعالى: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ [النمل:
١٤] قرأ نافع والكسائي: فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ بالتخفيف. وقرأ الباقون بالتشديد. فمن قرأ بالتخفيف فمعناه أنهم لا يجحدونك كاذباً. ومن قرأ بالتشديد فمعناه: أنهم لا ينسبونك إلى الكذب، ولا يكذبونك في السر. وقرأ نافع: يَحْزُنكَ برفع الياء، وكسر الزاي. وقرأ الباقون لَيَحْزُنُكَ بنصب الياء، وضم الزاي، ومعناهما واحد.
ثم عزّاه ليصبر على أذاهم فقال: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ يعني: أن قومهم كذبوهم كما كذبك قريش فَصَبَرُوا عَلى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا يعني: صبروا على تكذيبهم وأذاهم حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا يعني: عذابنا لهلاكهم وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ يعني: لا مغيّر لوعد الله. فهذا وعد من الله تعالى للنبي ﷺ بالنصرة، كما نصر النبيين من قبله.
ثم قال: وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ يعني: من خبر المرسلين، كيف أنجيت المرسلين، وكيف أهلكت قومهم. فلما وعد الله تعالى بالنصرة للنبي ﷺ تعجل أصحابه لذلك، وأرادوا أن يعجل بهلاك الكفار فنزل: وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ خاطب النبي ﷺ وأراد به قومه فقال: إن عظم عليك إعراضهم عن الإيمان، ولا تصبر على تكذيبهم إياك فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ يعني: إن قدرت أن تطلب سِرْباً في الأرض والنافقاء إحدى جحري اليربوع أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ يعني: مصعداً إلى السماء فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ
فافعل ذلك على وجه الإضمار. وهذا كما قال في آية أخرى: مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ [الحج: ١٥] الآية.
وروى محمد بن المنكدر: أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن الله أمر السماء أن تطيعك، وأمر الأرض أن تطيعك، وأمر الجبال أن تطيعك، فإن أحببت أن ينزل عذاباً عليهم قال: «يا جبريل أؤخر عن أمتي لعل الله أن يتوب عليهم».
ثم قال: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى يعني: لهداهم إلى الإيمان. ويقال: ولو شاء لاضطرهم إلى الهدى كما قال في آية أخرى إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ [الشعراء: ٤] ومعناه: وَلَوْ شَآءَ الله لَجَمَعَهُمْ على الهدى قهراً وجبراً، ولكن ما فعل وكلفهم وتركهم فاختيارهم.
ثم قال: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ يعني: بأنه لو شاء لهداهم. وقال الضحاك: يعني: القدر خيره وشره من الله تعالى، فلا تجعل معرفة ذلك بعد البيان.
ثم قال:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٣٦ الى ٣٨]
إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٣٦) وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (٣٧) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ مَّا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨)
إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ يعني: يطيعك، ويصدقك الذين يسمعون منك كلام الهدى والمواعظ. قال الزجاج يعني: يسمع سماع قابل. فالذي لا يقبل كأنه أصم. كما قال القائل: أصم عما ساءه سميع. ويقال: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ بأنه يؤمن بك بعضهم، ولن يؤمن بك البعض. وإنما يؤمن بك الذي وفقه الله للهدى وهو أهل لذلك. وقال: إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ يعني: يعقلون الموعظة.
ثم قال: وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ أي: كفار مكة سماهم الله موتى، لأنه لا منفعة لهم في حياتهم يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ يعني يحييهم بعد الموت ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ يعني الكفار في الآخرة فينبئهم، فهذا تهديد لهم.
وقوله تعالى:
وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ يعني: الكفار. قالوا: هلاّ نزل عليه آية من ربه يعني: علامة لنبوته قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً كما سألوك وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ بأن الله قادر على أن ينزلها. ويقال: لاَّ يَعْلَمُونَ بما في نزول الآية لأنه لو نزلت الآية عليهم فلم يؤمنون به استوجبوا العذاب.
قوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ فذكر الجناحين للتأكيد لأنه يقال: طار في الأمر إذا أسرع فيه، فإذا ذكر الجناحين صار تأكيداً له. وقرأ بعضهم وَلا طائِرٍ بالضم لأن معناه: وما دابةٌ فِى الارض وَلاَ طائرٌ لأن مِنْ زيادة، فيكون الطائر عطفاً ورفعاً وهي قراءة شاذة.
ثم قال: إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ في الخلق، والموت، والبعث، تعرف بأسمائهم مَّا فَرَّطْنا يقول: ما تركنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ يعني: في اللوح المحفوظ مما يحتاج إليه الخلق إلا قد بيّناه. ويقال: في القرآن قد بيّن كل شيء يحتاج إليه ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ يعني: الدواب والطير يُحْشَرُونَ ثم يصيرون تراباً.
وروى جعفر بن برقان عن يزيد بن الأصم عن أبي هريرة قال: يَحْشُرُ الله تعالى الخلق كلهم يوم القيامة والبهائم والدواب والطيور وكل شيء، فيبلغ من عدله أن يأخذ للجمَّاء من القرناء، ثم يقول: كوني تراباً. وعن أبي ذر قال: انتطحت شاتان عند النبيّ صلّى الله عليه وسلم فقال: «يا أبَا ذَرَ هَلْ تَدْرِي فِيمَا انْتَطَحَتَا» ؟ قلت: لا قال: «لكن الله تَعَالَى يَدْرِي فَسَيَقْضِي بَيْنَهُمَا». وقال بعضهم: هذا على وجه المثل لأنه لا يجري عليهم القلم فلا يجوز أن يؤاخذوا به.
ثم قال:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٣٩ الى ٤٣]
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٩) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٠) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (٤١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يعني: محمدا ﷺ والقرآن صُمٌّ عن الخبر فلا يسمعون الهدى وَبُكْمٌ يعني: خرساً فلا يتكلمون بخير فِي الظُّلُماتِ يعني: في الضلالات مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ يعني: يخذله فيموت على الكفر وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يعني:
يستنقذه من الكفَر فيوفّقه للإسلام.
ثم قال: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ الكاف زيادة في بيان الخطاب إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ في الدنيا أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ يعني: القيامة، ثم رجع إلى عذاب الدنيا فقال: أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ ليدفع عنكم العذاب إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بأن مع الله آلهة أخرى.
قوله تعالى: بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ قال أهل اللغة: بل للاستدراك والإيجاب بعد النفي.
وإنما تستعمل في موضعين: أحدهما لتدارك الغلط، والثاني: لترك شيء وأخذ شيء آخر.
فهاهنا بيّن أنهم لا يدعون غير الله تعالى. وإنما يدعون الله عنهم ليكشف عنهم العذاب.
فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وإنما قرن بالاستثناء وبالمشيئة، لأن كشف العذاب فضل الله تعالى، وفضل الله تعالى يُؤْتِيهِ مَن يشاء.
ثم قال: وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ يعني: تتركون دعاء الآلهة عند نزول الشدة.
ثم ذكر حال الأمم الماضية لكي يعتبروا فقال عز وجل: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فكذبوهم على وجه الإضمار فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ يعني: بالخوف والشدة وَالضَّرَّاءِ يعني: الزمانة والفقر وسوء الحال والجوع. وقال الزجاج: البأساء: الجوع، والضراء: النقص في الأموال والأنفس لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ يعني: لكي يرجعوا إليه ويؤمنوا به.
قوله تعالى: فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا يقول: فهلا إذا جاءهم عذاباً تَضَرَّعُوا إلى الله ويؤمنون به حتى يرفع عنهم العذاب يعني: أنهم لو آمنوا لدفع عنهم العذاب، ولكن أصروا على ذلك فذاك قوله تعالى: وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ يعني: جفّت ويبست قلوبهم وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ من عبادتهم الأصنام.
ثم قال:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٤٤ الى ٤٥]
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٥)
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ يعني: الأمم الخالية حين لم يعتبروا بالشدة ولم يرجعوا:
فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ من النعم والخصب ويقال: إن الله تعالى يبتلي العوام بالشدة، فإذا أنعم عليهم يكون استدراجاً. وأما الخواص فيبتليهم بالنعمة والرخاء فيعرفون ويعدّون ذلك بلاء. كما روي في الخبر: أن الله تعالى أوحى إلى موسى بن عمران إذا رأيت الفقر مقبلاً إليك فقل: مرحباً بشعار الصالحين. وإذا رأيت الغنى مقبلاً إليك فقل: ذنب عجلت عقوبته فهؤلاء الذين أرسل إليهم، ابتلاهم الله تعالى بالشدة، فلم يعتبروا ولم يرجعوا، فتح عليهم أبواب كل خير عقوبة لهم لكي يعتبروا فيها.
قال الفقيه: حدثنا الخليل بن أحمد قال: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: حدثنا أبو عتبة قال: حدثنا محمد بن حمير عن شهاب بن خراش عن حرملة عن عقبة بن مسلم عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا رَأَيْتَ الله يُعْطِي عَبْداً مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَعْصِيَةٍ مِمَّا يُحِبَّ فإنَّمَا ذلك مِنْهُ اسْتِدْرَاج». ثم قرأ رسول الله ﷺ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ الآية. وقال الحسن: والله ما أحد من الناس بسط الله له في الدنيا فلم يخف أن يكون قد مكر له فيها إلا كان قد نقص عمله وعجز رأيه. وما أمسكها الله تعالى عن عبد فلم يظن أنه قد خير له فيها إلا كان قد نقص عمله وعجز رأيه. فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ يعني: تركوا ما وعظوا به فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ يعني: أرسلنا عليهم كل خير. ويقال: فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الرزق قرأ ابن عامر: فَتَحْنَا بالتشديد على معنى المبالغة.
والباقون بالتخفيف حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا من أنواع الخير فأعجبهم ما هم فيه أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً يعني: أصبناهم بالعذاب فجأة فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ يعني: آيسين من كل خير. وقال مجاهد: الإبلاس: الفضيحة. وقال الفراء: المبلس: المنقطع بالحجة. وقال الزجاج:
المبلس: الشديد الحسرة والآيس الحزين. وقال بعضهم: في الآية تقديم وتأخير. ومعناه:
فلما فتحنا عليهم أبواب كل شيء، ونسوا ما ذكروا به أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون.
ثم قال عز وجل: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا يعني: قُطع أصلهم فلم يبق منهم أحد وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ على هلاك أعدائه واستئصالهم ويقال: الحمد لله الذي ينتقم من أعدائه، ولا ينتقم منه أحد. ويقال: هذا تعليم ليحمدوه سبحانه على إهلاك الظالمين.
قوله تعالى:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٤٦ الى ٤٩]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٤٩)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ أَيُّ: قُلْ لاهْلِ مَكَّةَ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ فلم تسمعوا شيئاً وَأَبْصارَكُمْ فلم تبصروا شيئاً وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ فلم تعقدوا شيئاً مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يعني هل أحد يرده عليكم يَأْتِيكُمْ بِهِ يعني: يخلقها لكم.
ثم قال: انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ أي: كيف تبين لهم العلامات فيما ذكر من تخويفهم ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ يعني: يُعرضون ولا يعتبرون. قرأ نافع: أَرَأَيْتُمْ: بعد الألف بغير همز. وقرأ الكسائي بغير مد ولا همز. وقرأ الباقون: بالهمز. فهي كلها لغات العرب.
ثم قال: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً يعني: فجأة أو علانية هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ يعني: لا يهلك إلا القوم الكافرون.
ثم قال: وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ يعني: ليس لهم أن يقترحوا من أنفسهم، وإنما أرسلهم بتبليغ الرسالة مبشرين بالجنة لمن أطاعه، ومنذرين بالنار لمن عصاه.
فَمَنْ آمَنَ يعني: صدق بالرسل وَأَصْلَحَ يعني: سلك ٦ طريقهم، وأصلح العمل. ويقال:
أخلص العمل بعد الإيمان فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يعني: لا خوف عليهم من أهوال القيامة ولا هم يحزنون عند الصراط.
ثم قال: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ يعني: يصيبهم العذاب بكفرهم، ولا يعذب أحداً بغير ذنب.
ثم قال:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٥٠ الى ٥٢]
قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (٥٠) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١) وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢)
449
قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ يعني: مفاتيح الرزق وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ يعني:
متى ينزل العذاب بكم. هذا جواب لقولهم: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ [الأنعام: ٨] لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ [الأنعام: ٣٧] وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ من السماء، إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ يعني: ما أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ من القرآن قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ يعني:
الكافر والمؤمن أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ في أمثال القرآن ومواعظه.
قوله تعالى: وَأَنْذِرْ بِهِ يعني: خوّف بالقرآن الَّذِينَ يَخافُونَ يعني: يعلمون أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ في الآخرة. وإنما خصّ بالإنذار الذين يعلمون وإن كان منذراً لجميع الخلق، لأن الحجة عليهم وجبت لاعترافهم بالمعاندة وهم أهل الكتاب كانوا يقرون بالبعث.
ويقال: هم المسلمون يعلمون أنهم يبعثون يوم القيامة ويؤمنون به.
لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ يعني: يعلمون أنه ليس لَهُمْ مّن دُونِ الله. يعني: من عذاب الله وَلِيٌّ في الدنيا وَلا شَفِيعٌ في الآخرة لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ يعني: أنذرهم لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ المعاصي. ويقال: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ لكي يتقوا ويثبتوا على الإسلام. فإنهم إن لم يثبتوا لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ قوله تعالى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ روي عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: نزلت هذه الآية في ستة من أصحاب النبي ﷺ منهم عبد الله بن مسعود.
قالت قريش: تدني هؤلاء السفلة هم الذين يلونك أي: يصرونك. فوقع في قلبه أن يطردهم فنزل: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ وروى أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس قال: كان رجال يستبقون إلى مجلس النبيّ صلّى الله عليه وسلم فيهم بلال وصهيب، فيجيء أشراف من قومه وسادتهم فيجلسون ناحية فقالوا له: إنّا سادات قومك وأشرافهم فلو أدنيتنا؟ فهم أن يفعل فنزل وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ الآية. ويقال: إن أبا جهل وأصحابه اختالوا ليطرد النبيّ صلّى الله عليه وسلم أصحابه عن نفسه. فقالوا: إن محمداً يتبعه الموالي والأراذل فلو طردهم لاتّبعناه. فاستعانوا بعمر- رضي الله عنه- فأخبر عمر بذلك رسول الله ﷺ بأن يفعل ذلك. فنزل: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ يعني: يعبدون ربهم بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يعني:
يصلون لله تعالى في أول النهار وآخره يُرِيدُونَ وَجْهَهُ يعني: يريدون بصلواتهم وجه الله تعالى مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ يعني: ما عليك من عملهم من شىء وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ يعني: الإثم ويقال: معناه: فما عليك إن لم يسلموا، فليس عليك من أوزارهم شيء. ويقال: يعني به: الضعفة من المسلمين، فلا تطردهم لأنه ليس عليك من حسابهم من شيء أي: فليس عليك من أرزاقهم شيء لكن أرزاقهم على الله.
450
ثم قال: فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ يعني: لو طردتهم من مجلسك فتكون من الضارين بنفسك. قرأ ابن عامر: بالغدوة وقرأ الباقون: بِالْغَداةِ وهما لغتان.
ثم قال:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٥٣ الى ٥٤]
وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣) وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٤)
وَكَذلِكَ فَتَنَّا يقول: هكذا ابتلينا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ يعني: الشريف بالوضيع، والعربي بالمولى، والغني بالفقير لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا فلم يكن الاختبار لأجل أن يقولوا ذلك. ولكن كان الاختبار سبباً لقولهم.
وهكذا قوله تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص: ٨] فلم يأخذوه لأجل ذلك، ولكن كان أخذهم سبباً لذلك فكأنهم أخذوه لأجل ذلك، هاهنا ما كان الاختبار لأجل أن يقولوا هؤلاء منّ الله عليهم من بيننا لأنهم كانوا يقولون: لو كان خيرا ما سبقونا إليه. ومعناه: ليظهر الذين يقولون: هؤلاء منّ الله عليهم من بيننا.
قال الله تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ يعني: بالموحدين منكم من غيرهم. قال الكلبي: فلما نزلت هذه الآية جاء عمر- رضي الله عنه- فاعتذر. فنزلت هذه الآية: وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا يعني عمر فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ يعني: قبلتُ توبتكم. ويقال: قبل الله عذركم. ويقال: المعنى وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا يعني: الضعفة من المسلمين، فابتدئ بالسلام. وقل: سلام عليكم كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ يعني: أوجب الرحمة وقبول التوبة أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ يعني: من ركب معصية وهو جاهل بركوبها، وإن كان يعلم أنها معصية ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ بعد السوء وَأَصْلَحَ العمل فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ غفور يعني: متجاوز للذنوب رحيم حين قبل التوبة، ويقال: معناه: من عمل منكم سوءاً ثم تاب يغفر له، فكيف من كان قصده الخير فهو أولى بالرحمة.
وروى سفيان عن مجمع عن ماهان الحنفي قال: جاء قوم إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم قد أصابوا ذنوباً عظاماً فأعرض عنهم رسول الله ﷺ فنزل: وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ قرأ عاصم وابن عامر أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ: بنصب الألف. فإنه
غفور بالنصب على معنى البناء ومعناه: كتب أَنَّهُ وقرأ نافع: أَنَّهُ بالنصب على معنى البناء فَإِنَّهُ بالكسر على معنى الابتداء. وقرأ الباقون: كلاهما بالكسر على معنى الابتداء.
ثم قال:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٥٥ الى ٥٦]
وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (٥٥) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (٥٦)
وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ قال القتبي: يعني: نأتي بها متفرقة شيئاً بعد شيء، ولا ننزلها جملة متصلة. ويقال: نُفَصِّلُ الْآياتِ يعني: نبيّن الآيات بالقرآن وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ يعني: طريق المشركين لماذا لا يؤمنون، لأنهم إذا رأوا الضعفاء يسلمون قبلهم، امتنعوا. ويقال: وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ يعني: تفرقهم. قرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم في رواية حفص: وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ بالتاء وسَبِيلُ بالضم لأن السبيل مؤنث كقوله: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ [يوسف: ١٠٨] ومعناه: ليظهر لكم طريق المشركين. وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر: وليستبين بالياء سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ بالضم لأن السبيل هو الطريق. والطريق يذكر ويؤنث. وقرأ نافع: وَلِتَسْتَبِينَ بالتاء سَبِيلُ بالنصب يعني:
لتعرف يا محمد طريق المشركين.
قوله تعالى: قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني: الأصنام ويقال:
معناه قل إني نهيت عن طرد الضعفاء عن مجلسي، كما نهيت عن عبادة الأصنام.
ثم قال: قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ يعني: لا أذهب مذهبكم. ويقال: لا أتبع هواكم يعني:
لا أرجع إلى دينكم في بغض الفقراء ومجانبتهم قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً يعني: إن فعلت ذلك فقد ضللت إذاً. قرأ بعضهم: ضَلَلْتُ بالكسر وهو شاذ يعني: ضللت سبيل الهدى وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ يعني لم أكن على الحق.
ثم قال:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٥٧ الى ٥٨]
قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (٥٧) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (٥٨)
قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي يعني: على أمر بيّن. ويقال: على دين من ربي. وَكَذَّبْتُمْ بِهِ يعني: بالقرآن. ويقال: بالعذاب. وذلك أن النضر بن الحارث قال: إن كان ما تقوله حقاً فأتنا بعذاب الله فنزل: مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ يعني: العذاب إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يعني:
ما القضاء في ذلك إلا لله في نزول العذاب يَقُصُّ الْحَقَّ بنزول العذاب. وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم: يَقُصُّ الْحَقَّ بالصاد يعني: يبين الحق. ويقال: يأمر بالحق وقرأ الباقون: يَقْضِ الحق بالضاد، ولكن لا يكتب بالياء. لأن الياء سقطت في اللفظ لالتقاء الساكنين، ويقوم الكسر مقام الياء كقوله تعالى: سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ [العلق: ١٨] فحذفت الواو. وتفسيره يقضي قضاء الحق، وقرأ ابن عباس رضي الله عنه: يَقْضِي بِالْحَقِّ.
ثم قال: وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ يعني: الحاكمين القاضين ثم قال: قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ يعني: العذاب لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ بالعذاب وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ يعني: بعقوبة الظالمين، هو أعلم متى ينزل بهم العذاب.
قوله تعالى:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٥٩]
وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٥٩)
وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ يعني: خزائن الأرض والرزق ونزول العذاب. ويقال: عنده الوصلة إلى علم الغيب لاَ يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ يعني: يعلم ما يهلك في البر والبحر. ويقال: يعلم ما في البر من النبات والحب والنوى وما في البحر من الدواب وقوت ما فيها وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ من الشجر إِلَّا يَعْلَمُها يعلم من وقت سقوطه، وموضع مسقطه. وروى مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنه قال: ليس أحد من خلق الله تعالى أكثر من الملائكة، وليس من شجرة تخرج إلا وملك موكل بها. ويقال: إن الإنسان كالشجرة، وأعضاءه كالأغصان، والحركات منه كالأوراق، فهو يعلم حركة بني آدم.
ثم قال تعالى: وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ يعني: تحت الصخرة التي هي أسفل الأرضين السابعة. ويقال: الحبة التي تحت الأرض التي يخرج منها النبات.
ثم قال: وَلا رَطْبٍ يعني: الماء وَلا يابِسٍ يعني: الحجر ويقال: ولا رطب:
يعني العمران والأمصار والقرى وَلا يابِسٍ يعني: الخراب والبادية إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ
يعني في اللوح المحفوظ. ويقال: وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ يعني: لا قليل ولا كثير إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ يعني: في اللوح المحفوظ. ويقال: القرآن قد بيّن فيه كل شيء، بعضه مفسر، وبعضه يعرف بالاستدلال والاستنباط. وقرأ بعضهم: وَلا حَبَّةٍ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ كل ذلك بالضم على معنى الابتداء. وهي قراءة شاذة والقراءة المعروفة بالكسر لأجل: مِنْ.
قوله تعالى:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٦٠]
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٦٠)
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ يعني: يقبض أرواحكم في منامكم وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ يعني: ما كسبتم من خير أو شر بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ يعني: من النوم في النهار ويرد إليكم أرواحكم لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى يعني: ليتم أجلكم وتأكلون رزقكم إلى آخر العمر. قال بعضهم: إذا نام الإنسان تخرج منه روحه كما روي في الخبر «الأَرْواحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَة فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ» يعني: الأرواح إذا تعارفت وقعت الألفة بين الأبدان. وإذا لم تتعارف الأرواح تناكرت الأبدان وقال: إن الروح إذا خرجت في المنام من البدن يبقى فيه الحياة، فلهذا تكون فيه الحركة والنفس. وإذا انقضى عمره خرجت روحه وتنقطع حياته، وصار ميتاً لا يتحرك، ولا يتنفس. فإن قيل: لو خرجت روحه فكيف لا يتوجع لخروجه إذا نام؟ قيل: لأنه يخرج بطيبة نفسه، ويعلم أنه يعود. وأما إذا انقطع عمره خرج بالكره، فتوجع له. وقال بعضهم: لا تخرج منه الروح، ولكن يخرج منه الذهن. وهو الذي يسمى بالفارسية روان وقال بعضهم: إنما هو ثقل يدخل في نفسه، وهو سبب لراحة البدن وغذائه كقوله:
وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً [النبأ: ٩] أي: راحة ويقال: هذا أمر لا يعرف حقيقته إلا الله تعالى، وهذا أصح الأقاويل.
وقوله تعالى: ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ يعني: مصيركم في الآخرة ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من خير أو شر فيجازيكم بذلك.
وقوله تعالى:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٦١ الى ٦٢]
وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ (٦١) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (٦٢)
وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ يعني: القادر الغالب عليهم وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً والحفظة جمع الحافظ، مثل الكتبة والكاتب. يعني به: الملائكة موكلين ببني آدم، ملكين بالليل، وملكين بالنهار، ويكتب أحدهما الخير، والآخر الشر. فإذا مشى يكون أحدهما بين يديه، والآخر خلفه، فإذا جلس يكون أحدهما عن يمينه، والآخر عن شماله. كقوله: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: ١٧- ١٨] ويقال: لكل إنسان خمسة من الملائكة: اثنان بالليل، واثنان بالنهار، والخامس لا يفارقه لا ليلاً ولا نهاراً.
وقوله تعالى: حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ يعني: حضر أحدكم الوفاة عند انقضاء أجله تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا يعني: ملك الموت وأعوانه وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ يعني: لا يؤخرون طرفة عين. قرأ حمزة توفاه بلفظ التذكير بالإمالة. وقرأ الباقون: تَوَفَّتْهُ بلفظ التأنيث. لأن فعل الجماعة إذا تقدم على الاسم جاز أن يذكر ويؤنث. ويقال: معه سبعون من ملائكة الرحمة وسبعون من ملائكة العذاب، فإذا قبض نفساً مؤمنة دفعها إلى ملائكة الرحمة فيبشرونها بالثواب، ويصعدون بها إلى السماء. وإذا قبض نفساً كافرة دفعها إلى ملائكة العذاب، فيبشرونها بالعذاب، ويفزعونها، ثم يصعدون بها إلى السماء، ثم ترد إلى سجّين، وروح المؤمن إلى عليين ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ يعني: يرد أمورهم إلى الله تعالى أَلا لَهُ الْحُكْمُ ألا: كلمة التنبيه ومعناه: اعلموا أن الحكم لله تعالى في خلقه ما يشاء، ويقضي بينهم يوم القيامة وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ يعني: إذا حاسب فحسابه سريع. ويقال: وهو أحكم الحاكمين وأعدل القاضين.
وقوله تعالى:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٦٣ الى ٦٥]
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٦٤) قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (٦٥)
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ يعني: من أهواله وشدائدهِ، والظلمات كناية عن الأهوال والشدائد تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً وقال الكلبي: سراً وعلانية. وقال مقاتل:
يعني. في خفض وسكون. قرأ عاصم في رواية أبي بكر خُفْيَةً بكسر الخاء، والباقون بالضم. وهما لغتان وكلاهما واحد لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ يعني: من غمّ هذه الأهوال والشدائد
455
لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ يعني: من الموحدين. قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها يعني: من أهوال البر والبحر وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ يعني: ينجيكم من كل كرب. يعني: من كل غم وشدة ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ يعني: ترجعون إلى الشرك. وقرأ بعضهم يُنَجِّيكُمْ بالتخفيف والقراءة المعروفة بالتشديد وقرأ عاصم وحمزة والكسائي لَئِنْ أَنْجانا بالألف يعني: أنجانا الله تعالى. وقرأ الباقون لاِن أَنْجَيْتَنَا على معنى المخاطبة. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي قُلِ الله يُنَجّيكُمْ مّنْهَا بالتشديد. وقرأ الباقون بالتخفيف ومعناهما واحد. ويقال: أنْجَى يُنْجِي ونَجَّى يُنَجِّي.
وقوله تعالى: قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ يعني: الحصب بالحجارة كما فعل بقوم لوط، والغرق كما أرسل على قوم نوح. يعني: إن استكبرتم، وأصررتم، وكذبتم رسلي مثل ما فعل قوم نوح، أو فعلتم الفعلة التي فعل قوم لوط ثم قال:
أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ يعني يخسف بكم كما خسف بقارون ومن معه، إن استكبرتم واغتررتم بالدنيا كما فعل قارون.
ثم قال: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً يعني: الأهوال المختلفة، كما ألبس بني إسرائيل إن تركتم أمر رسولي، واتبّعتم هواكم كما فعل بنو إسرائيل وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ يعني يقتل بعضكم بعضاً بالسيف كما فعل بالأمم الخالية، إن فعلتم مثل ما فعلوا. فلما نزلت هذه الآية قال النبيّ: صلّى الله عليه وسلم «يَا جِبْرِيلُ ما بَقَاءُ أُمَّتِي عَلَى ذلك؟» قال له جبريل: إنما أنا عَبْدٌ مِثْلُكَ فادْعُ رَبَّكَ وَسَلْهُ لأمَّتِكَ فقام النبِي ﷺ فتوضأ، وأسبغ الوضوء، فأحسن الصلاة، ثم دعا فنزل جبريل فقال: إنَّ الله تعالَى سَمِعَ مَقَالَتَكَ، وَأَجَارَهُمْ مِنْ خَصْلَتَيْنِ، وَهُوَ العَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ، وَمِن تحت أَرْجُلِهِمْ. فَقَالَ: «يَا جِبْرِيلُ ما بَقَاءُ أُمَّتِي إذا كان فِيهِمْ أَهْوَاءَ مُخْتَلِفَةٌ وَيُذِيقُ بَعْضُهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ؟» فنزل جبريل بهذه الآية الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا [العنكبوت: ١- ٢] الآية وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «افْتَرَقَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ عَلَى إحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَتَفَتَرِقُ أُمَّتِي اثْنَانَ وَسَبْعُونَ فِرْقَةً كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إلاَّ وَاحِدَةَ». قالوا: يا رسول الله ما هذه الواحدة؟ قال: «أهْلَ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ الَّذِي أنا عَلَيْهِ، وأصْحَابِي». وفي خبر آخر. «السَّوَادُ الأعْظَمُ». وروى عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله أنه قال: لما نزلت هذه الآية قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعُوذُ بِوَجْهِ الله» فلما نزلت أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ قال: «هاتان أهون» ويقال: عذابا من فوقكم يعني: سلطاناً جائراً، أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ من سفهائكم يقلبون عليكم أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً، وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ يعني: الفتنة بين المحلتين أو القريتين.
ثم قال: انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ يعني: نبين الآيات من البلاء والعذاب في القرآن لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ يعني: يعقلون ما هم عليه.
456
ثم قال:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٦٦ الى ٧٠]
وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (٦٦) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٦٧) وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٦٨) وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٦٩) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠)
وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ يعني: بالقرآن وَهُوَ الْحَقُّ يعني: القرآن قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ يعني: بحفيظ ومسلط. وهذا قبل الأمر بالقتال. لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ المستقر: هو غاية ينتهي إليها. يقال: لكل قول وفعل حقيقة ما كان منه في الدنيا فستعرفونه، وما كان منه في الآخرة فسوف تبدو لكم، وستعلمون ذلك في الدنيا وفي الآخرة ويقال: معناه: سوف أؤمر بقتالكم إذا جاء وقته وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ في ذلك الوقت.
قوله تعالى: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا يعني: يستهزئون بالقرآن فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ يعني: قم من عندهم، واترك مجالستهم حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ أي: حتى يكون خوضهم واستهزاؤهم في غير القرآن وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ يقول: إن أنساك الشيطان وصية الله تعالى، فتجلس معهم فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يقول: قم إذا ذكرت، ودع القوم الظالمين. يعني: المشركين. قرأ ابن عامر: وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ بنصب النون، وتشديد السين. وقرأ الباقون: بالتخفيف والجزم. وهما لغتان: نسيته وأنسيته.
ثم قال: وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ يعني: الشرك والاستهزاء مِنْ حِسابِهِمْ يعني: من آثامهم مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى يعني: ذكروهم بالقرآن إذا فعلوا ذلك لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ يعني:
لكي يتقوا الاستهزاء. قال الكلبي: وذلك أن أصحاب رسول الله ﷺ قالوا: يا رسول الله: لئن قلنا كلما استهزءوا بالقرآن، قمنا من عندهم لا نستطيع أن نجلس في المسجد الحرام. فنزل وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ الآية.
قوله تعالى: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً قال الضحاك: يعني: كفار قريش نصبوا أصنامهم في المسجد الحرام إلى أنصاب الحرم، وقرطوها بالمقراط، وعلقوا بيض النعامة في أعناقها. فنزل وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وقال الكلبي: إِنَّ الله تعالى جعل لكل قوم عيداً يعظمونه، ويصلون فيه لله تعالى، وكل قوم اتخذوا دينهم يعني: عيدهم لعباً ولهواً إلا هذه الأمة، فإنهم اتخذوا عيدهم صلاة لله، وحصناً للصدقة، وهي الجمعة والفطر والأضحى. قال مقاتل: اتخذوا دينهم الإسلام لعباً يعني: باطلاً ولهواً عنه.
ثم قال: وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ يعني: عِظْ وَخَوِّفْ بالقرآن أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ يعني: لكي لا تهلك نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ يعني: بما عملت ويقال: تحبس نفس يعني تسلم نفس بذنوبها إلى النار وهذا قول الضحاك. وقال الأخفش: أن ترهن نفس بما عملت. ويقال:
تحبس. وقال القتبي: أي تسلم للهلكة. ويقال: تخذل ولا تنصر.
ثم قال: لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ يعني: إذا وقع في العذاب، لم يكن لها مانع يمنعها من العذاب وَلا شَفِيعٌ يشفع لها وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْها يقول: لو جاءت بعدل نفسها رجلاً مكانها أو يفتدي بما في الأرض جميعاً لا يؤخذ يعني: لا يقبل منها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا يعني: أهلكوا. ويقال: أسلموا بذنوبهم إلى النار لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ يعني: ماء حار قد انتهى حره وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ في الدنيا.
قوله تعالى:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٧١]
قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٧١)
قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا قال مقاتل: وذلك أن كفار مكة عذبوا نفراً من المسلمين، وراودوهم على الكفر. قال الله تعالى للمسلمين: قولوا لهم أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني: الأوثان مَا لاَ يَنْفَعُنا في الآخرة وَلا يَضُرُّنا في الدنيا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا نعود ونرجع إلى الشرك بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ إلى الإسلام كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ يعني: كمثل رجل كان مع قوم، فضلَّ الطريق، فحيره الشياطين ولَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى يعني: إلى الطريق أن ائْتِنا فإنا على الطريق، فأبى أن يأتيهم.
فذلك مثلنا إن تركنا دين محمد- عليه السلام-. وقال مجاهد: هذا مثل ضربه الله تعالى للكفار، يقول: الكافر حيران يدعوه المسلم إلى الهدى فلا يجيب الكافر. وقال ابن عباس في
رواية أبي صالح: نزلت الآية في عبد الرحمن بن أبي بكر، كان أبوه وأمه يدعوانه إلى الإسلام، فأبى أن يأتيهما وهو يدعوهما إلى الشرك. فضرب الله تعالى له المثل بالذي استهوته الشياطين يعني: أضلته.
قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى يعني: دين الله هو الإسلام وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ يعني: لنخلص بالعبادة والتوحيد بالله تعالى. قرأ حمزة استهواه بلفظ التذكير بالإمالة. وقرأ الباقون اسْتَهْوَتْهُ بلفظ التأنيث، لأن فعل الجماعة مقدم، فيجوز أن يذكر ويؤنث كقوله:
تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا [الأنعام: ٦١] قوله تعالى:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٧٢ الى ٧٣]
وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (٧٣)
وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ يعني: وأمرنا بالهدى وبالعمل: يعني: أقيموا الصلاة وَاتَّقُوهُ يعني: وحّدوه. ويقال: أطيعوه ويقال: هذا عطف على قوله: ولَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى وإلى إقامة الصلاة. ويقال: معناه: أمرنا بالإسلام، وبإقامة الصلاة وَاتَّقُوهُ يعني:
وحّدوه. وقيل: أطيعوه.
ثم خوّفهم فقال: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يعني: للحق والعبرة وَيَوْمَ يَقُولُ اليوم صار نصباً، لأن معناه: واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا. ويقال:
معناه واذكروا يوم يقول: كُنْ فَيَكُونُ يعني: يوم البعث يقول: انتشروا فانتشروا كلهم كقوله تعالى: يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ يعني: القبور كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ [القمر: ٧].
ثم قال قَوْلُهُ الْحَقُّ قَوْلُهُ رفع بالابتداء، وخبره الْحَقُّ يعني: قوله الصدق أنه كائن. قرأ ابن عامر فَيَكُونُ بالنصب على معنى الخير، وكذا في كل القرآن، إلا في موضعين: هاهنا، وفي آل عمران. وقرأ الباقون: بالرفع على معنى الخبر.
وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ يوم صار نصباً لنزع الخافض. ومعناه: وله الملك في يوم ينفخ في الصور وهذا كقوله عز وجل: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر: ١٦] وكقوله: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة: ٤] ويقال: هذا مبين لقوله الأول، ومعناه: يوم يقول له كُنْ فَيَكُونُ. يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وروي عن أبي عبيدة أنه قال: معناه: يوم يَنْفُخ الأرواح في الصور. يعني: في الأجسام. وهذا خلاف أقاويل جميع المفسرين لأنهم كلهم قالوا: هو نفخ
إسرافيل في الصور. وروي عن رسول الله ﷺ أنه قال: «كَيْفَ أَنْعَمُ وصاحب الصور قد التقمه» وفي خبر آخر «وَصَاحِبُ الصُّوَرِ قَدِ الْتَقَمَهُ يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤْمَرُ فَيَنْفُخَ فِيهِ».
ثم قال: عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الغيب ما غاب عن العباد والشهادة ما علم العباد به، ويقال السر والعلانية. ويقال عالِمُ بما يكون وبما قد كان. ويقال: عالِمُ بأمر الآخرة وبأمر الدنيا وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ يعني: الْحَكِيمُ في أمره الْخَبِيرُ بأفعال الخلق وبأمر البعث.
قوله تعالى:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٧٤ الى ٧٥]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٧٤) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥)
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ وكان اسم أبيه تارح بن ناخور بلغة قومه، وبلغة غيرهم كان آزر. وقال السدي: كان اسم أبيه آزر. وهكذا قال الكلبي. وقال بعضهم: لم يكن آزر اسم أبيه، ولكن كان اسم كبير أصنامهم. فقال أبوه لإبراهيم: ربي آزر. فقال إبراهيم على وجه التعجب: آزر.
أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً وقال مجاهد: آزر ليس اسم أبيه، وإنما هو اسم صنم. وقال الضحاك عن ابن عباس: أن في هذه الآية تقديماً فكأنه قال: أتتخذ آزر أصناماً آلهة يعني:
أتتخذ الصنم إلهاً. ويقال: آزر بلغتهم المخطئ الضال. ومعناه: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ يا آزر المخطئ أتتخذ أصناماً آلهة. وقرأ الحسن ويعقوب الحضرمي: آزَرَ بالضم ويكون معناه: وَإِذْ قَالَ إبراهيم لاِبِيهِ: يا آزر. والقراءة المعروفة بالنصب لأنه على ميزان أفعل. ينصرف فصار نصباً. وهو بموضع الخفض. ولأنه اسم أعجمي فلا ينصرف.
ثم قال إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ يعني: في خطأ وجهل بَيِّنٍ بعبادتكم الأصنام. ثم قال وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ والملكوت والملك بمعنى واحد. إلا أن الملكوت أبلغ مثل: رَهَبُوت وَرَحَمُوت كما يقال في المثل: رَهَبُوت خير من رَحَمُوت يعني:
لأن ترهب خير من أن ترحم. يعني: لما أن إبراهيم برىء من دين أبيه أراه الله ملكوت السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني: عجائب السموات والأرض وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ يعني: لكي يكون من الموقنين. والواو زيادة كقوله: وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ [العنكبوت: ١٢] يعني: لكي نحمل، وكذلك هاهنا لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ يعني: حتى يثبت على اليقين. قال بعضهم:
صارت فرجة في السماء حتى رأى إلى سبع سماوات. وصارت فرجة في الأرض حتى رأى
إلى تحت الصخرة. ويقال: حين عرج به إلى السماء، فنظر إلى عجائب السموات. وروي عن عطاء أنه قال: لما رفع إبراهيم في ملكوت السماوات، أشرف على عبد يزني فدعا عليه، فهلك. ثم أشرف على آخر يزني فدعا عليه، فهلك. ثم رأى آخر فأراد أن يدعو عليه، فقال له ربه عز وجل: على رِسْلِك يا إبراهيم، فإنك مستجاب لك، وإني من عبدي على إحدى ثلاث خلال: إما أن يتوب فأتوب عليه، وإما أن أُخرِج منه ذرية طيبة، وإما أن يتمادى فيما هو فيه، فأنا من ورائه أي أنا قادر عليه.
وروي عن سلمان الفارسي أنه قال: لما رأى إبراهيم ملكوت السموات، رأى عَبْداً على فاحشة، فدعا عليه فهلك، ثم رأى آخر على فاحشة، فدعا عليه فهلك، ثم رأى آخر على فاحشة فدعا عليه، قال الله تعالى: أنْزِلوا عبدي كي لا يهلك عبادي. ويقال: إنه كان يقول: أنا أرحم الخلق. فلما رأى المعصية فدعا عليهم، قال الله تعالى: إِنَّا أرحم بعبادي منك، اهبط لعلّهم يرجعون. ويقال إن نمرود بن كنعان قالت له كهنته: يولد في هذه السنة غلام ينازعك في ملكك، فأمر بذبح كل غلام يولد في تلك السنة. ويقال: رأى في المنام، أن كبشاً دخل عليه، فنطح سريره بقرنه، فسأل المعبِّرين فأخبروه، أنه يولد غلام ينازعك في ملكك. فأمر بذبح كل غلام يولد. فحملت أم إبراهيم بإبراهيم، ولم يتبيّن حملها، ولم يعرف أحد أنها حامل، حتى أخذها الطَّلْق فخرَّت إلى جبل من الجبال، ودخلت في غار فولدت إبراهيم.
وخرجت ووضعت صخرة على باب الغار. فجاءه جبريل- عليه السلام- ووضع إبهامه في فمه، وكان يمصه ويخرج منه اللبن، وكان يجعل سبّابته في فمه فيمصها، ويخرج منها العسل.
حتى كبر وأدرك في أيام قليلة. ويقال: إن أمه كانت تختلف إليه وترضعه حتى أرضعته سنتين، وتحمل إليه الطعام حتى أدرك في المدة التي يدرك فيها الصبيان فخرج من الغار فنظر إلى السماء، وإلى الأرض، وإلى الجبال، فتفكَر في نفسه ثم قال: إِنَّ لهذه الأشياء خالقاً خلقها.
والذي خلق هذه الأشياء هو الذي خلقني فذلك قوله وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ وكان في ذلك التفكير إذا نظر إلى نجم يضيء وهو المشتري، فرآه أضوَأ الكواكب. وقد علم أن الله تعالى أعلى الأشياء ولا يشبهه شيء من خلقه. ورأى الكواكب أعلى الأشياء وكان أحسنها.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٧٦ الى ٧٩]
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (٧٦) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩)
461
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي وقال: هذا بغير فكرة. فكان ذلك منه زلة. ويقال: إنما قال ذلك على سبيل الاستفهام أهذا ربي؟ فَلَمَّا أَفَلَ يعني: غاب الكوكب قالَ: لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ يعني: لا أحب ربنا يتغير عن حاله ويزول فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً يعني: طالعاً. ويقال: إن ذلك كان في وقت السحر، وكان ذلك في آخر الشهر. فرأى كوكباً يعني: الزهرة، حين طلعت، وكان من أضوء الكواكب. فلما ارتفع وطلع الفجر نقص ضوءه قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ يعني: لا أحب ربنا يتغير. فلما رأى القمر فرأى ضوءه أكثر قالَ هذا رَبِّي على سبيل الاستفهام فَلَمَّا أَفَلَ يعني: نقص ضوءه حين أسفر الصبح قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ يعني: لئن لم يحفظ ربي قلبي. لقد كنت اتخذت إلها ما لم يكن إلهاً فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً يعني: طالعة قد ملأت كل شيء ضوءاً ف قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ يعني: أعظم وأكثر نوراً فَلَمَّا أَفَلَتْ يعني: غربت. علم أنه ليس بإله.
فجاءته أمه فقال لها: من ربي؟ قالت: أنا. قال: ومن ربك؟ قالت: أبوك. قال: ومن رب أبي؟ قالت: نمرود بن كنعان. قال: ومن ربه؟ قالت له: اسكت. فقال لها: كيف هو؟ هل يأكل ويشرب وينام؟ قالت: نعم. قال: هذا لا يصلح أن يكون ربًّا وإلها. فرجعت الأم إلى أب إبراهيم، فأخبرته بالقصة فخرج إليه فسأله مثل ذلك. ثم قال له في آخره: تعال حتى تعبد الذي خلقني وخلقك وخلق نمرود. فغضب أبوه، فرجع عنه، ثم دخلت عليه رأفة الوالد لولده، فرجع إليه. وقال له: ادخل المِصْر لتكون معنا، فدخل فرأى القوم يعبدون الأصنام.
فدعوه إلى عبادة الأصنام ف قالَ لهم حينئذ: يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ فقيل له من تَعْبُد أنت يا إبراهيم؟ فقال أعبد الله الذي خلقني وخلق السموات والأرض.
فذلك قوله: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ يعني: أخلصت ديني وعملي لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ يعني: خلق السموات وَالْأَرْضَ حَنِيفاً يقول: إني وجهت وجهي مخلصاً مستقيماً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ على دينكم. ويقال: إن قوله هذا رَبِّي قال ذلك لقومه على جهة الاستهزاء بهم. كما قَالَ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا [الأنبياء: ٦٣] ويقال: أراد بهذا أن يستدرجهم فيظهر قبيح فعلهم، وخطأ مذهبهم وجهلهم. لأنهم كانوا يعبدون النجوم والشمس، والقمر. فَلَماَّ رَأَى الكوكب قال لهم: هذا رَبِّي. وأظهر لهم أنه يعبد ما يعبدون.
فلما غاب الكوكب قال لهم: لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فأخبرهم بأن الآفل لا يصلح أن يكون إلها.
ثم قال في الشمس والقمر هكذا. كما روي عن عيسى- عليه السلام- أنه بعث رسولاً إلى
462
ملك أرض. فلما انتهى إليهم، جعل يسجد ويصلي عند الصنم ويريهم أنه يعبد الصنم، وهو يريد عبادة الله تعالى. ثم إن الملك ظهر له عدو. فقالوا لهذا الرسول: أشر علينا بشيء في هذا الأمر. فقال: نتشفع إلى هذا الذي نعبده. فجعلوا يسجدون له ويتشفعون إليه، فلا يسمعون منه جواباً. فقالوا: إنه لا ينفعنا شيئاً. قال لهم: لم تعبدون من لا يدفع عنا ضراً؟ ارجعوا حتى نعبد من ينفعنا. فقالوا لمن نعبد؟ قال: لرب السماء. فجعل يدعو ويدعون حتى فرّج، الله عنهم. فآمن به بعضهم. وكذلك هاهنا أراد إبراهيم- عليه السلام- أن يريهم قبح ما يعبدون مِن دُونِ الله، لعلهم يرجعون فلما لم يرجعوا قال يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ قرأ حمزة والكسائي رَأى كَوْكَباً بكسر الراء والألف، وهي لغة لبعض العرب والنصب أفصح.
قوله تعالى:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٨٠ الى ٨٣]
وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠) وَكَيْفَ أَخافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢) وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٨٣)
وَحاجَّهُ قَوْمُهُ معناه: وحاجّه قومه في دين الله يعني خاصموه ف قالَ لهم إبراهيم أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ يعني: أتخاصموني في دين الله وَقَدْ هَدانِ الله لدينه. قرأ نافع وابن عامر في رواية ابن ذكوان أَتُحاجُّونِّي بتشديد الجيم وتخفيف النون. وقرأ الباقون بتشديد النون. لأن أصله أتحاجونني بنونين فأدغم أحدهما في الآخر. فقال: أَتُحاجُّونِّي يعني:
أتجادلوني في دين الله وَقَدْ هَدانِ يعني: بيّن لي الطريق. وكانت خصومتهم أنهم حين سمعوه عاب آلهتهم فقالوا له: أما تخاف تخبلك فتهلك؟ فقال: إني لا أخاف ما لا يسمع ولا يبصر. وقال الكلبي ومقاتل: لما خوّفوه بذلك قال لهم: إنما تخافون أنتم إذ سوّيتم بين الذكر والأنثى، والصغير والكبير. أما تخافون من الكبير إذ سويتموه بالصغير؟ وهذا قوله: وَلا أَخافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ.
قوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً فيضلني، فأخاف منهم. ويقال: إلا أن يشاء ربي شيئاً يعني: ملأ علم ربي كُلَّ شَىْء عِلْماً. يعني: يعلم السر والعلانية.
ثم قال: أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ يعني: أفلا تتعظون فتؤمنون به؟ قوله تعالى: وَكَيْفَ أَخافُ مَا أَشْرَكْتُمْ يعني: من الأصنام وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً يقول: كتاباً وعذراً وحجة لكم فيه فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ من العذاب؟ الموحّد أم المشرك إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ذلك. ثم قال: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ قال بعضهم: هذا قول الله تعالى لما حكى قول إبراهيم للنبي ﷺ قال: على أثر ذلك الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ يعني: لم يخالطوا تصديقهم بالشرك ولم يعبدوا غيره. أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ من الضلالة. وقال بعضهم: هذا كله قول إبراهيم لقومه. وروي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنِ ابْتُلِيَ فَصَبَرَ وَأُعْطِيَ فَشَكَرَ وَظَلَمَ فَاسْتَغْفَرَ وَظُلِمَ فَغَفَرَ». قيل له: ما لهم يا رسول الله؟ قال: أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ.
قال الفقيه: حدثنا الخليل بن أحمد. قال: حدثنا الماسرجي. قال: حدّثنا أبو كريب.
قال: حدّثنا ابن إدريس عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله بن مسعود. قال: لما نزلت هذه الآية الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ شقّ ذلك على أصحاب رسول الله ﷺ فقالوا: يا رسول الله وأينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا ترون إلى قول لقمان لابنه إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: ١٣] » يعني: إن الظلم أراد به الشرك.
ثم قال وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ يعني: أعطيناها إبراهيم على قومه.
يعني: وفقناه للحجة يخاصم بها قومه نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ يعني: فضائل من نشاء في الدنيا بالحجة، وفي الآخرة بالدرجات إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ في أمره عَلِيمٌ بخلقه من يصلح للنبوة. قرأ أهل الكوفة عاصم وحمزة والكسائي دَرَجاتٍ بالتنوين وقرأ الباقون دَرَجاتٍ على معنى الإضافة.
ثم قال:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٨٤ الى ٩٠]
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (٨٦) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٨٧) ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٨)
أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (٨٩) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (٩٠)
464
وَوَهَبْنا لَهُ يعني: لإبراهيم إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ قال الضحاك: ولدت سارة إسحاق ولها تسعة وتسعون سنة. ولإبراهيم مائة وعشرون سنة ثم ولد لإسحاق يعقوب كُلًّا هَدَيْنا يعني: إسحاق ويعقوب هديناهما بالنبوة والإسلام وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ يعني: هديناه للنبوة والإسلام من قبل إبراهيم وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ قال الكلبي: يعني من ذرية نوح. وقال الضحاك: يعني من ذرية إبراهيم داوُدَ النبي- عليه السلام- وَسُلَيْمانَ وهو ابن داود وَأَيُّوبَ وهو من ولد عيصو بن إسحاق وَيُوسُفَ وهو ابن يعقوب وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ يعني: نعطيهم أفضل الثواب وَزَكَرِيَّا يعني: من ذرية إبراهيم زكريا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ قال الضحاك: كان إلياس من ولد إسماعيل.
وذكر عن القتبي أنه كان من سبط يوشع بن نون كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ يعني: من المرسلين وَإِسْماعِيلَ وهو من صلب إبراهيم- عليه السلام- وَالْيَسَعَ قرأ حمزة والكسائي والليسع مشددا. وقرأ الباقون وَالْيَسَعَ بالتخفيف. فمن قرأ بالتشديد فالاسم منه ليسع ثم أدخلت الألف واللام للتعريف فصار الليسع. ومن قرأ بالتخفيف فالاسم منه يسع. ثم أدخلت الألف واللام للتعريف فصار اليسع. وكذا هذا الاختلاف في سورة ص وكان اليسع تلميذ إلياس وكان خليفته من بعده.
وَيُونُسَ ابن متى وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ بالرسالة والنبوة في ذلك الزمان ثم ذكر آباءهم فقال: وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ يعني: وقد اصطفيناهم بالنبوة يعني: آدم ونوحاً وإدريس وهوداً وصالحاً- عليهم السلام- وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وهو دين الإسلام ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يعني: دين الله يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ يعني: يكرم بدينه من يشاء من عباده وَلَوْ أَشْرَكُوا يعني: هؤلاء النبيين لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كانُوا يَعْمَلُونَ في الدنيا يعني: إنما فضلهم الله بالطاعة.
ثم قال: أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ يعني: العلم والفهم والفقه وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها أي: الأنبياء هؤُلاءِ يعني: أهل مكة فَقَدْ وَكَّلْنا بِها يعني: ألزمنا بها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ.
قال سعيد بن جبير هم الأنصار. ويقال فَإِنْ يَكْفُرْ بِها يعني: بآياتنا فَقَدْ وَكَّلْنا بِها
465
يعني: بالإيمان بها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ يعني: الأنبياء الذين سبق ذكرهم. ويقال:
الملائكة. وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ يعني: أمة محمد- عليه السلام- فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قوما ليسوا بها كافرين. يعني: النبيين الذين قصّ الله عنهم.
ثم قال أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ يعني الأنبياء فَبِهُداهُمُ يعني: بسنتهم وتوحيدهم اقْتَدِهْ على دينهم استقم واعمل به. وفي هذه الآية دليل أن شرائع المتقدمين واجبة علينا ما لم يظهر نسخها إذا ثبت ذلك في الكتاب، أو على لسان الرسول ﷺ لأن الله تعالى أمرنا بأن نقتدي بهداهم، واسم الهدى يقع على التوحيد والشرائع.
مثل قوله: الم. ذلِكَ الْكِتابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: ١- ٢] والكتاب يشتمل على الشرائع وغيرها. قرأ حمزة والكسائي: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ بالهاء في الوقف والوصل جميعاً وقرأ الباقون: بالهاء في الوصل والوقف جميعاً لأنها هاء الوقف.
مثل قوله: كِتابِيَهْ وحِسابِيَهْ ثم قال: قُلْ لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً يعني: قل للمشركين لا أسألكم على الإيمان والقرآن جَعْلاً إِنْ هُوَ يعني: ما هو وهو القرآن إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ يعني: موعظة للعالمين الإنس والجن.
قوله تعالى:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٩١ الى ٩٢]
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٩١) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩٢)
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ يعني: ما عظموا الله حق عظمته، وما عرفوه حق معرفته.
نزلت في مالك بن الضيف خاصمه عمر في النبي ﷺ أنه مكتوب في التوراة. فغضب وقال:
مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ وكان رئيس اليهود. فعزلته اليهود عن الرئاسة بهذه الكلمة.
قال مقاتل: نزلت هذه الآية بالمدينة، وسائر السور بمكة. ويقال: إن هذه السورة كلها مكية.
وكان مالك بن الضيف خرج مع نفر إلى مكة معاندين ليسألوا النبيّ صلّى الله عليه وسلم عن أشياء، وقد كان اشتغل بالنعم، وترك العبادة، وسمن. فأتى رسول الله ﷺ ذات يوم بمكة. فقال له رسول الله:
466
«أَنْشدكَ الله أَتَجِدُ في التَّوْراةِ أنَّ الله يُبْغِضُ الحَبْرَ السَّمِين» ؟ قال: نَعَمْ قال: «فَأَنْتَ الحَبْرُ السَّمِينُ فَقَدْ سَمِنْتَ مِنْ مَأْكَلَتِكَ» فضحك به القوم فخجل مالك بن الضيف وقال: ما أنزل الله على بشر من شيء فبلغ ذلك اليهود فأنكروا عليه. فقال: إنه قد أغضبني. فقالوا: كلما غضبت قلت بغير حق وتركت دينك؟ فأخذوا الرياسة منه وجعلوها إلى كعب بن الأشرف فنزلت هذه الآية وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ حيث جحدوا تنزيله إِذْ قالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ يعني:
على رسول من كتاب.
قُلْ يا محمد مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى وهو التوراة نُوراً يعني:
ضياء وَهُدىً يعني: بياناً لِلنَّاسِ من الضلالة تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ يقول: تكتبونه في الصحف تُبْدُونَها يقول: تظهرونها في الصحف وَتُخْفُونَ كَثِيراً يعني: تكتمون ما فيه صفة محمد ﷺ ونعته وآية الرجم، وتحريم الخمر.
وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ يعني: علمتم أنتم وآباؤكم في التوراة ما لم تعلموا. ويقال: علمتم على لسان محمد ﷺ ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم فإن أجابوك وإلا ف قُلِ اللَّهُ أنزله على موسى ثُمَّ ذَرْهُمْ إن لم يصدقوك فِي خَوْضِهِمْ يعني: في باطلهم يَلْعَبُونَ يعني: يلهون ويفترون قرأ ابن كثير وأبو عمرو يجعلونه قراطيس يبدونها ويخافون كَثِيراً كل ذلك بالياء على لفظ المغايبة. وقرأ الباقون: بالتاء على معنى المخاطبة لأن ابتداء الكلام على المخاطبة.
ثم قال: هذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ يعني: القرآن أنزلناه على محمد ﷺ مُبارَكٌ لمن عمل به لأن فيه مغفرة للذنوب. وقال الضحاك مُبارَكٌ يعني: القرآن لا يتلى على ذي عاهة إلا برىء، ولا يتلى في بيت إلا وخرج منه الشيطان. مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ يعني: هو مصدق الذي بين يديه من الكتب وَلِتُنْذِرَ قرأ عاصم في رواية أبي بكر ولينذر بالياء يعني:
الكتاب. يعني: أنزلناه للإنذار والبركة. وقرأ الباقون: بالتاء يعني: لتنذر به يا محمد أُمَّ الْقُرى يعني: أهل مكة وهي أصل القرى. وإنما سميت أم القرى لأن الأرض كلها دُحِيَتْ من تحت الكعبة. ويقال: لأنها مثلث قبلة للناس جميعاً. أي: يؤمونها. ويقال: سميت أم القرى لأنها أعظم القرى شأناً ومنزلة.
وَمَنْ حَوْلَها يعني: قرى الأرض كلها.
ثم قال: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يعني: بالبعث يُؤْمِنُونَ بِهِ أي: بالقرآن ومن هم في علم الله أنه سيؤمن وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ بوضوئها وركوعها وسجودها ومواقيتها.
467
وقوله تعالى:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٩٣ الى ٩٤]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (٩٣) وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَّا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٩٤)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ نزلت في مسيلمة الكذاب زعم أن الله تعالى أوحى إليه وهو قوله وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ يعني: عبد الله بن أبي سرح كان كاتب الوحي فكان النبيّ صلّى الله عليه وسلم إذا أملى عليه سَمِيعاً عَلِيماً يكتب عليماً حكيماً. وإذا أملى عليه عليماً حكيماً، كتب هو سميعاً بصيراً وشكّ وقال: إن كان محمد ﷺ يوحى إليه فقد أوحي إليّ، وإن كان ينزل إليه فقد أنزل إليّ مثل ما أنزل إليه فلحق بالمشركين وكفر. وقال الضحاك: هو مسيلمة الكذاب كان يقول: بعث محمد ﷺ إلى جسيم الأمور، وبعثت إلى محقرات الأمور. ويقال هذا جواب لقولهم: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا [الأنفال: ٣١].
ثم قال: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ يعني: ولو تعلم إذ الكافرون فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ أي: في نزعات الموت وسكراته. فحذف الجواب لأن في الكلام دليلاً عليه. ومعناه: لو رأيتهم في عذاب شديد.
ثم قال: وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ بالضرب. ويقولون: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ يعني:
أرواحكم الخبيثة قال الفقيه أبو جعفر. قال: حدّثنا أبو القاسم أحمد بن حسين. قال: حدثنا محمد بن سلمة. قال: حدّثنا أبو أيوب عن القاسم بن الفضل الحداني عن قتادة عن أسامة بن زهير عن أبي هريرة رضي الله عنه قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ المُؤْمِنَ إذا حَضَرَهُ المَوْتُ أتَتْهُ المَلائِكَةُ بحَرِيرَةٍ فيها مسك، ومن ضبائر الرَّيْحَانِ، وَتُسَلُّ رُوحُهُ كَمَا تُسَلُّ الشَّعْرَةُ مِنَ العَجِينِ، ويقالُ لها: يا أيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ اخْرُجِي رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً وَمَرْضِيّاً عَنْكِ إلَى رُوحِ الله وَكَرَامَتِهِ، فإذا خَرَجَتْ رُوحُهُ وُضِعَتْ عَلَى ذلك المِسْكِ والرَّيْحَانِ وَطُوِيَتْ عَلَيْهِ الحَرِيرَةُ وَبُعِثَ بِهَا إلى علِّيِّينَ
وَإِنَّ الكافِرَ إذَا حُضِرَ أتَتْهُ المَلائِكَةُ بِمِسْحٍ فِيهِ جَمْرَةٌ، فَتُنْتَزَعُ رُوحُهُ انْتِزَاعاً شَدِيداً. ويقالُ لَهَا:
أيَّتُها النَّفْسُ الخَبِيثَةُ اخْرُجِي سَاخِطَةً وَمَسْخُوطَةً إلَى هَوَانِ الله وَعَذَابِهِ، فإذا خَرَجَتْ رُوحُهُ وُضِعَتْ عَلَى تِلْكَ الجَمْرَةِ وإنَّ لَهَا نَشِيجاً وَيُطْوَى عَلَيْهَا المِسْحُ، وَيُذْهَبُ بِهَا إلى سِجِّين».
ثم قال الله تعالى: الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ يعني إذا بعثوا يوم القيامة يقال لهم: اليوم تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ يعني: الهوان أي الشديد بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ في الدنيا غَيْرَ الْحَقِّ بأن معه شريكاً وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ يعني: عن الإيمان بمحمد ﷺ وبالقرآن، ولم تقرّوا به.
قوله تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى يعني: في الآخرة فُرادى لا ولد لكم ولا مال.
الفرادى جمع فرد، يعني: ليس معكم من دنياكم شيء. كَما خَلَقْناكُمْ يعني: أعطيناكم من المال والولد وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ في الدنيا. وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ يعني: آلهتكم الَّذِينَ زَعَمْتُمْ في الدنيا أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ يعني: قلتم لي شريك ولكم شفعاء عند الله.
لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ قرأ نافع والكسائي وعاصم في رواية حفص بَيْنَكُمْ بالنصب وقرأ الباقون بَيْنَكُمْ بالضم فمن قرأ بالضم جعل البَيْن اسماً، يعني: تقطع وصْلُكم ومودتكم.
ومن قرأ بالنصب فمعناه لقد تقطع ما كنتم فيه من الشركة بينكم، فيصير نصباً بالظرف كما تقول: أصبحت بينكم أي فيما بينكم. وَضَلَّ عَنْكُمْ مَّا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ يعني: اشتغل عنكم ما كنتم تعبدون وتزعمون أنها شفعاؤكم.
وقوله تعالى:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٩٥ الى ٩٦]
إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦)
إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يعني: يشق الحبة اليابسة، فيخرج منها ورقاً خضراً.
ويقال: فالق الحب مثل البر والشعير والذرة والحبوب كلها، والنوى كل ثمرة فيها نوى مثل الخوخ والمشمش والغيبر والإجاص يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ، وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ، وقد ذكرنا تأويله ذلِكُمُ اللَّهُ يعني: هذا الذي يفعل بكم هو الله تعالى: فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ يعني: كيف تكفرون ومن أين تكذبون؟ فذكر عيب آلهتهم، ثم دلّ على وحدانيته بصنعته.
ثم قال: فالِقُ الْإِصْباحِ يعني: خالق الإصباح والإصباح والصبح واحد ويقال الإصباح مصدر أصبح يصبح إصباحاً، والصبح اسم وقال: فالق الإصباح يعني خالق النهار. وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً قرأ أهل الكوفة حمزة والكسائي وعاصم وَجَعَلَ اللَّيْلَ على معنى الخبر وقرأ الباقون جاعل الليل سكنا على معنى الإضافة يعني: يسكن فيه الخلق.
ثم قال: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً يعني: وجعل الشمس والقمر حسباً يعني: منازلها بالحساب لا يجاوزانه إذا انتهيا إلى أقصى منازلهما رجعا وهذا قول الكلبي. وقال مقاتل حُسْباناً يعني: يُعرف بها عدد السنين والحساب. وقال القتبي: حُسْباناً أي حساباً، يقال: خذ كل شيء بحُسْبانه أي: بحسابه. وقال الكلبي: ويقال للشيء المعلق: حُسْبَاناً.
ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ يقول: هذا فعل العزيز في ملكه العليم بخلقه لا فعل لأصنامكم فيه.
ثم قال:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٩٧ الى ٩٨]
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها يعني: لتعرفوا الطريق. فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ يعني: لتهتدوا بالكواكب في اللَّيالي وتعرفوا بها قبلتكم. قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ يعني:
بينَّا العلامات لوحدانية الله تعالى. لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وإنما أضاف إلى أهل العلم، لأنهم هم الذين ينتفعون به، فكأنه بيِّن لهم. ويقال لقوم يعلمون يعني: يصدقون أنه من الله تعالى.
ثم قال: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ يعني: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وهو آدم. فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ يعني: في الرحم ومستودع في الصلب. ويقال: مستقر في الصلب ومستودع في الرحم. ويقال: مستقر في الدنيا ومستودع في القبر. قرأ ابن كثير وأبو عمرو فَمُسْتَقَرٌّ بكسر القاف، وقرأ الباقون بالنصب. فمن قرأ بالنصب فمعناه فلكم مستقر ولكم مستودع يعني:
موضع قرار وموضع إيداع ومن قرأ بالكسر فعلى معنى الفاعل يقال قَرّ الشيء واستقر بمعنى واحد يعني كنتم مستقرين قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ يعني: بيّنا الآيات لمن له عقل وذهن.
قوله تعالى:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٩٩]
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاء فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٩٩)
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاء يعني: ماء المطر فَأَخْرَجْنا بِهِ يعني: بالمطر نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ يعني: معاشاً للخلق من الثمار والحبوب وغير ذلك. فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً خَضِرَ واخْضَرّ بمعنى واحد، الأخضر يعني: النبات الأخضر، وهو أول ما يخرج.
ثم قال: نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً يعني: السنبلة قد ركب بعضها بعضاً. وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها يعني: أخرجنا بالماء من النخل من طلعها يعني: من عذوقها وثمرها. قِنْوانٌ دانِيَةٌ يعني: عُذوقاً متدانية قريبة ينالها القائم والقاعد. وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ يعني: يخرج بالماء. قرأ الأعمش وَجَنَّاتٍ بالضم عطفها على قوله: قِنْوانٌ دانِيَةٌ، وقرأ العامة بالكسر ومعناه وأخرجنا من أعناب. وَالزَّيْتُونَ يعني: أخرجنا منه شجر الزيتون. وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً في المنظر، وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ في الطعم يعني: بعضها حلو وبعضها حامض. انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ قرأ حمزة والكسائي انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ، بضم الثاء والميم، وقرأ الباقون بالنصب، وكذلك ما بعده. فمن قرأ بالنصب فهو اسم الثمرة، وإنما أراد به الجنس ومن قرأ بالضم فهو جمع الثمار. إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ يعني: ونضجه يعني: انظروا إلى نضجه واعتبروا به، واعلموا أن له خالقاً فهو قادر على أن يحييكم بعد الموت، كما أخرج من الأرض اليابسة النبات الأخضر ومن الشجرة الثمار. إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ يعني: في اختلاف ألوانه لعلامات لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يعني: يصدقون ويرغبون في الحق.
قوله تعالى:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٠٠ الى ١٠٣]
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (١٠٠) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢) لاَّ تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣)
471
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ يعني: وضعوا لله شركاء. وقال مقاتل: وذلك أن بني جهينة قالوا: إن صنفاً من الملائكة يقال لهم الجن بنات الرحمن وذلك قوله: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ. وقال الكلبي: وجعلوا الجن شركاء لله نزلت هذه الآية في الزنادقة، قالوا: إن الله تعالى وإبليس- لعنه الله ولعنهم- أخوان. قالوا: إن الله تعالى خالق الناس والدواب، وإبليس خالق السباع والحيات والعقارب كقوله: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً [الصافات: ١٥٨] قال الزجاج: معناه أطاعوا الجن فيما سوّلت لهم من شركهم، فجعلوهم شركاء الله وهذا قريب مما قاله الكلبي. ثم قال: وَخَلَقَهُمْ يعني: جعلوا لله الذي خلقهم شركاء، ويقال: وخلقهم يعني خلق الجن، ويقال: وخلقهم يعني: الذين تكلموا به وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ يعني: وصفوا له بنين وبنات. بِغَيْرِ عِلْمٍ يعني: بلا علم يعلمونه، ويقال بلا حجة وبيان. وروى عبد الله بن موسى عن جويرية قال: سمعت رجلاً سأل الحسن عن قوله: وَخَرَقُوا لَهُ قال: كلمة عربية كانت العرب تقولها، كان الرجل إذا كذب كذبة في نادي القوم يقول بعض القوم:
خرقها. ثم نزه نفسه فقال: سُبْحانَهُ يعني: تنزيهاً له. وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ يعني: هو أعلى وأجل مما يصف الكفار بأن له ولداً. قرأ نافع وَخَرَقُوا بالتشديد على معنى المبالغة.
قوله تعالى: بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني: خالق السموات والأرض يعني مبدعهما، وهو أن يبتدئ شيئاً لم يكن يعني ابتدعهما ولم يكونا شيئاً. أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ قال القتبي:
أَنَّى على وجهين يكون بمعنى كيف كقوله فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [البقرة: ٢٢٣] وكقوله: أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها [البقرة: ٢٥٩]، ويكون بمعنى من أين كقوله: قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [التوبة: ٣٨] وكقوله: أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ يعني: زوجة.
وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ يعني: الملائكة وعيسى وغيرهم وهم خلقه وعبيده. وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ مما خلق.
ثم قال: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ يعني: الذي فعل هذا فهو ربكم لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ يعني: لا خالق غيره. خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ يعني: وحدوه وأطيعوه. وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ يعني: كفيل بأرزاقهم، ويقال وكيل يعني: حفيظ.
ثم عظم نفسه فقال: لاَّ تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ قال مقاتل: يعني لا يراه الخلق في الدنيا.
وروى الشعبي عن مسروق قال قلت لعائشة هل رأى محمد ﷺ ربه؟ فقالت: لقد اقْشَعَرَّ قلبي مما قلت أين أنت من ثلاثة من حدثك بهن فقد كذّب: من حدثك أن النبي ﷺ رأى ربه فقد كذب ثم قرأت لاَّ تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ ومن حدثك أنه قد علم ما في غد فقد كذب، ثم قرأت: وَما تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً [سورة لقمان: ٣٤] ومن حدثك أنه كتم شيئاً من الوحي فقد كذب. ثم قرأت يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة: ٦٧].
472
ثم قال: وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ يعني: لا يخفى عليه شيء ولا يفوته. قال الزجاج: في هذه الآية دليل أن الخلق لا يدركون الأبصار أي لا يعرفون كيف حقيقة البصر، وما الشيء الذي صار به الإنسان يبصر من عينيه دون أن يبصر من غيرهما من سائر أعضائه فاعلم أنهم لا يحيطون بعلمه فكيف به.
ثم قال: وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ بخلقه وبأعمالهم وقال أبو العالية لا تدركه الأبصار في الدنيا وتدركه أبصار المؤمنين في الآخرة. قوله تعالى:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٠٤ الى ١٠٥]
قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (١٠٤) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١٠٥)
قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ يعني: بياناً من ربكم وهو القرآن الذي فيه البيان فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ يقول: من صدق بالقرآن وآمن به فثوابه لنفسه، وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها يعني: من لم يصدق بالقرآن ولم يؤمن بمحمد ﷺ فعليها جزاء العذاب وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ يعني:
بمسلط وهذا قبل أن يؤمر بالقتال.
ثم قال: وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ يعني: نبين لهم الآيات في القرآن في كل وجه.
وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ قرأ ابن كثير وأبو عمرو دَارَسْتَ يعني: ذاكرت أهل الكتاب وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ يعني: قرأت الكتب. ويقال: تعلمت من جبر ويسار- وكانا غلامين بمكة عبرانيين- فقال أهل مكة: إنما يتعلم منهما وقرأ ابن عامر دَرَسْتَ بنصب الراء والسين يعني: هذا شيء قديم قد خلفت وقرأ بعضهم دَرَسْتَ أي قرئت. وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قرأ لِيَقُولُوا بغير واو درس بغير تاء يعني:
لكي يقولوا دَرَسَ النبيّ صلّى الله عليه وسلم. وكان نزول هذه الآيات سبباً لقولهم هذا، فأضاف قولهم إلى الآيات. ثم قال وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ يعني: أصحاب محمد- عليه السلام-.
ثم قال:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٠٦ الى ١٠٨]
اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (١٠٦) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (١٠٧) وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٠٨)
اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ يعني: اعمل بما أنزل إليك من ربك من أمره ونهيه حين دعي إلى ملة آبائه. ثم قال لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ يعني: اتركهم على ضلالتهم. ثم قال وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا يقول: وَلَوْ شَاء الله لَجَعَلَهُمْ مؤمنين. ويقال: لو شاء لأنزل عليهم آية يؤمنوا بها لو شاء لاستأصلهم فقطع سبب شركهم. وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً يعني: أن لم يوحّدوا وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ يعني: بمسلط وقوله تعالى: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم وأصحابه كان يذكرون الأصنام بسوء ويذكرون عيبهم، فقال المشركون: لتنتهين عن شتم آلهتنا، أو لنسبنّ ربك. فنهى الله تعالى المؤمنين عن شتم آلهتهم عندهم لأنهم جهلة. فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً يعني: اعتداءً بِغَيْرِ عِلْمٍ يعني: بلا علم منهم ويقال: عَدْواً يعني: ظلماً صار نصباً بالمصدر، وفي الآية دليل أن الإنسان إذا أراد أن يأمر بالمعروف فيقع المأمور به في أمر هو شر مما هو فيه من الضرب أو الشتم أو القتل، ينبغي أن لا يأمره ويتركه على ما هو فيه. ثم قال: كَذلِكَ زَيَّنَّا يقول:
هكذا زينا لِكُلِّ أُمَّةٍ يعني: لكل أهل دين عملهم يعني: ضلالتهم في الدنيا عقوبة ومجازاة لهم ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ في الآخرة فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ يعني: فيجازيهم بذلك.
قوله تعالى:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٠٩]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٩)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ وكان أهل الجاهلية يحلفون بآبائهم وبالأصنام وبغير ذلك، وكانوا يحلفون بالله تعالى، وكان يسمونه جهد اليمين إذا كانت اليمين بالله، ولما نزل قوله تعالى إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ [الشعراء: ٤] الآية قالوا: أنْزِلها فو الله لنؤمنن بك. وقال المسلمون: أنْزِلها لكي يؤمنوا فنزل وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ يقول: حلفوا بالله لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قال الله تعالى: قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ إن شاء أنزلها وإن شاء لم ينزلها.
ثم قال: وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها يقول: وما يدريكم أنها إِذا جاءَتْ يعني: الآية لاَ يُؤْمِنُونَ وقال مقاتل: وَما يُشْعِرُكُمْ يا أهل مكة أنها إذا جاءتكم لا تؤمنون. وقال الكلبي وَما يُشْعِرُكُمْ. أيها المؤمنون أنها إذا جاءت لا يؤمنون. قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر أَنَّها بالكسر على معنى الابتداء وإنما يتم الكلام عند قوله وَما يُشْعِرُكُمْ ثم ابتدأ فقال: أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ. ويشهد لهذا قراءة عبد الله بن مسعود وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ. وقرأ الباقون أَنَّها بالنصب على معنى البناء ويشهد لها قراءة أُبي
وما يشعركم لعلها إذا جاءت. وقرأ ابن عامر وحمزة لاَ تُؤْمِنُونَ بالتاء على معنى المخاطبة، وهذه القراءة توافق لقول مقاتل.
ثم قال:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١١٠ الى ١١١]
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١٠) وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١)
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ يعني: نترك قلوبهم وأبصارهم مغلقة كما هي ولا أوفقهم.
كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ قبل نزول الآيات ويقال عند انشقاق القمر: لما لم يعتبروا به ولم يؤمنوا فعاقبهم الله تعالى وختم على قلوبهم فثبتوا على كفرهم. وَنَذَرُهُمْ يقول: وندعهم فِي طُغْيانِهِمْ يعني: في ضلالتهم يَعْمَهُونَ يعني: يترددون ويتحيرون فيه. ويقال: كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ يعني: كما لم يؤمن به أوائلهم من الأمم الخالية لما سألوا الآية من أنبيائهم قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ هذا جواب لقولهم: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ [الأنعام: ٨] فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً [الفرقان: ٧] قال الله تعالى. ولو أننا أنزلنا إليهم الملائكة كما سألوا حتى يشهدوا بأنك رسول الله وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى بأنك رسول الله وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا قرأ نافع وابن عامر قُبُلًا بكسر القاف ونصب الباء. وقرأ الباقون بالضم، فمن قرأ بالضم فمعناه جماعة القبيل. والقبيل الكفيل. ويقال قبلاً: أي أصنافاً من الآدميين ومن الملائكة ومن الوحش. ومن قرأ قُبُلًا بالكسر معناه: وحشرنا عليهم كل شيء معاينة فعاينوه. مَّا كانُوا لِيُؤْمِنُوا وهذا إعلام للنبي ﷺ بأنهم لا يؤمنون كما أعلم نوحاً- عليه السلام- أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [هود: ٣٦].
ثم قال: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ يعني: إلا من هو أهل لذلك فيوفقه الله تعالى. ويقال: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ يقول: قد شاء الله أن لا يؤمنوا حيث خذلهم ولم يوفقهم. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ عن ذلك ويقال: أكثرهم يجهلون الحق أنه من الله تعالى. ويقال: يجهلون ما في العلامة من وجوب هلاكهم بعد العلامة إن لم يؤمنوا. قوله تعالى:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١١٢ الى ١١٣]
وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١١٢) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (١١٣)
475
وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا يعني: أعداء ومعنى ذلك كما جعلنا لك ولأمتك أعداء مثل أبي جهل وأصحابه كذلك جعلنا لكل نبى عدوا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ قال مقاتل وذلك أن إبليس وكل شياطين الإنس وشياطين الجن يضلونهم فإذا التقى شيطان الجن مع شيطان الإنس قال أحدهما للآخر: إني أضللت صاحبي بكذا وكذا فأضْلِلْ أنت صاحبك بكذا وكذا.
فذلك قوله: يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ يعني: يكلم بعضهم بعضاً بالإضلال. وقال عكرمة:
للجن شياطين مثل شياطين الإنس. وروي عن الزبير بن العوام أنّ جنياً شكا إليه ما لقي من الشيطان، فعلمه دعاء ليخلص منه فدعا به، ووجه آخر شياطين الإنس والجن يعني: الشياطين من الإنس والشياطين من الجن، لأن كل عات متمرد فهو شيطان. وروي عن أبي ذر الغفاري أنه قال دخلت على رسول الله ﷺ وهو في المسجد فأمرني أن أصلي ركعتين فصليت ثم جلست عنده قال: «يا أَبَا ذَرَ تَعَوَّذْ بِالله مِنْ شَيَاطِينِ الإِنْسِ وَشَيَاطِينَ الجِنِّ» فقلت يا رسول الله أوَ من الإنس شياطين؟ فقال النبي ﷺ «أوَ مَا تَقْرَأ قَوْلَهُ شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ؟». وكذلك هذان القولان من قوله تعالى الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ [الناس: ٥، ٦] ثم قال يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ يعني يوسوس بعضهم بعضاً. زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً يعني: ما زين منه وحسن وموه يعني: يزين القول باطلاً، يغرهم بذلك. وأصل الزخرف الذهب. وسمى الزينة زخرفاً لأن أصل الزينة من الذهب يعني: يزين لبعض الأعمال.
ثم قال: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ يعني: لو شاء ربك لمنعهم من الوسوسة، ولكن الله يمتحن بما يعلم أنه أبلغ في الحكمة وأجزل في الثواب فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ يعني: خلّ عنهم وما يكذبون من القول والغرور.
ثم قال: وَلِتَصْغى إِلَيْهِ يقول: ولتميل إلى ذلك الزخرف والغرور. أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ إلى هذه الزينة والغرور وَلِيَرْضَوْهُ يقول: لكي يقبلوا من الشياطين الزينة والغرور وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ يعني: ليكسبوا ما هم مكتسبون من المعاصي وليعملوا ما هم عاملون. وقرأ بعضهم وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا بجزم اللام على معنى الأمر، والمراد به التهديد كقوله اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [فصلت: ٤٠] والقراءة المعروفة بكسر اللام، والمراد به التهديد، ومعناه: اتركهم ليعلموا ما هم عاملون.
وقوله تعالى:
476

[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١١٤ الى ١١٧]

أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١١٥) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (١١٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١١٧)
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً يعني: أعْبُدُ غير الله؟ ويقال: أأطلب القضاء من غير الله؟
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا يعني: مبيناً فيه أمره ونهيه بلغة يعرفونها. ويقال:
مفرقاً سورة سورة وآية آية. وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يعني: مؤمني أهل الكتاب يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ يعني: القرآن منزل من الله بالعدل. قرأ ابن عامر وعاصم في رواية حفص مُنَزَّلٌ بتشديد الزاي، وقرأ الباقون بالتخفيف.
ثم قال: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ يعني: الشاكين في أنه الحق وأنه من الله تعالى.
خاطبه بذلك وأراد به غيره من المؤمنين لكي لا يشكوا فيه.
قوله تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ يقول وجب قول ربك بأنه ناصر محمد ﷺ وأن عاقبة الأمر به صِدْقاً وَعَدْلًا يعني: صِدْقاً فيما وعد الله له من النصرة وَعَدْلًا فيما حكم به لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ يقول: لا مغيّر لوعده كقوله لَنَنْصُرُ رُسُلَنا [غافر: ٥١] ويقال: لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ يعني: لا ينقض بعضها بعضاً ولا يشبه كلام البشر. وروى أنس بن مالك عن رسول الله ﷺ أنه قال: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا قال: «هُوَ قَوْلُ لاَ إله إِلاَّ الله» وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ السَّمِيعُ بما سألوا الْعَلِيمُ بهم.
ثم قال: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يعني: أهل أرض مكة فيما يدعونه إلى ملة آبائه. ويقال: وإن تطع أكثر من في الأرض يعني: الكفار لأن أكثر من في الأرض كانوا الكفار. يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يعني: يصرفوك عن دين الإسلام إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ يعني: أن أكثرهم يتبعون أكابرهم بالظن، ويتبعونهم فيما لا يعلمون أنهم على الحق فإن قيل:
كيف يعذبون وهم ظانون على غير يقين؟ قيل لهم: لأنهم اقتصروا على الظن والجهل، لأنهم اتبعوا أهواءهم ولم يتفكروا في طلب الحق. ويقال: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ يعني في أكل الميتة واستحلالها وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ يعني: ما هم إلا كاذبون باستحلالهم الميتة، لأنهم كانوا يقولون: ما قتل الله فهو أولى بالحل وبأكله مما نذبحه بأيدينا. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ يعني: عن دينه وعن شرائع الإسلام. وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ لدينه قرأ أهل
الكوفة عاصم وحمزة والكسائي وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ وقرأ الباقون كلمات بلفظ الجماعة.
قوله تعالى:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١١٨ الى ١١٩]
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩)
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ من الذبائح إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ يعني: مصدقين.
فقد بيّن الله تعالى أنه لا يجوز أكل الميتة وإنما يحل أكله إذا ذُبح وذكر اسم الله عليه.
ثم قال: وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ مما ذبح وذكر اسم الله عليه وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ يعني: بيّن لكم تحريمه في سورة المائدة وغيره من مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ يعني:
الميتة وغيرها إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ يقول: ما اجتهدتم إلى أكل الميتة عند الجوع. قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو فَصَّلَ لَكُمْ بضم الفاء مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ بضم الحاء على معنى فعل ما لم يسم فاعله وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر وَقَدْ فَصَّلَ بالنصب وَمَا حَرَّمَ بالضم وقرأ نافع وعاصم في رواية حفص كلاهما بالنصب يعني: بيَّن الله لكم ما حرم عليكم.
ثم قال: وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ يقول: يدعون إلى أكل الميتة بغير علم إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ من الحلال إلى الحرام.
قوله تعالى:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٢٠ الى ١٢١]
وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١)
وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ يعني: زنى السر والعلانية لأن أهل الجاهلية كانوا يحرمون الزنى في العلانية، ولا يرون به بأساً في السر. فأخبر الله تعالى أن الزنى حرام في السر والعلانية. ويقال: ظاهر الإثم وهو الزنى وباطنه القُبْلة واللَّمس والنظر. وقال الضحاك ظاهِرَ الْإِثْمِ الزنى وباطنه نكاح الأمهات والأخوات وقال قتادة: ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ يعني: قليله وكثيره. ويقال: ظاهره ارتكاب المعاصي، وباطنه ترك الفرائض. ويقال: باطنه الرياء في
الأعمال. ويقال: الكفر ويقال: جميع المعاصي. إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ يقول: يعملون الفواحش ويتكلمون بها سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ سيعاقبون بما كانوا يكسبون من الإثم. قرأ أهل الكوفة عاصم وحمزة والكسائي: وإن كثيراً ليُضلون بأهوائهم بضم الياء يعني: يضلون الناس. وقرأ الباقون لَيُضِلُّونَ بنصب الياء يعني يَضلون بأنفسهم.
قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ يعني: ما لم يُذَك ولم يذبح أو ذبح بغير اسم الله وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ يعني: أكله معصية واستحلاله كفر. وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ يعني: يوسوسون إلى أوليائهم من المشركين لِيُجادِلُوكُمْ يقول: ليخاصموكم في أكل الميتة. وهو قولهم: ما قتله الله فهو أولى أن يؤكل. وروي عن عبد الله بن الزبير أنَّهُ قِيلَ لَهُ: إنَّ المختار يقول: يوحى إليّ فقال، صَدَق وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ.
قال الفقيه قال: حدثنا أبو الفضل بن أبي حفص قال: حدثنا أبو جعفر الطحاوي بإسناده عن عكرمة عن ابن عباس قال قال المشركون للمسلمين: ما قتل ربكم ومات فلا تأكلوه وما قتلتم أنتم وذبحتم فتأكلوه فأوحى الله تعالى إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ... إلى قوله: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ يعني: في أكل الميتة واستحلاله إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ مثلهم ففي الآية دليل أن من استحل شيئاً مما حرم الله تعالى صار مشركا.
ثم قال:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٢٢ الى ١٢٣]
أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٢) وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (١٢٣)
أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ يعني: من كان ضالاً كافراً فهديناه إلى الإسلام والتوحيد وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ يعني: أكرمناه بالمعرفة. ويقال: جعلنا له إيماناً يهتدي به سبيل الخيرات، والنجاة يمشي به فى الناس يعني: مع المؤمنين. ويقال: أعطيناه نوراً يوم القيامة يمشي به على الصراط مع المؤمنين. لا يكن حاله كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ يعني:
كمن قدر عليه الكفر ونزل في الكفر مخذولاً لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها يعني: ليس براجع منها.
يعني: ليسا بسواء. قال الكلبي: نزلت في عمار بن ياسر يعني ليس حاله بحال الكفار. وقال مقاتل: يعني به النبيّ صلّى الله عليه وسلم ليس مثل أبي جهل بن هشام الذي بقي في الكفر. ويقال: يعني جميع المؤمنين ليس حالهم كحال الكفار. قرأ نافع أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا بالتشديد، وقرأ الباقون بالتخفيف، ومعناهما واحد.
ثم قال: كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ يعني: هكذا نعاقب من اختار الكفر على الإيمان فنختم على قلبه مجازاة لكفره.
ثم قال: وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها يعني جعلنا مجرميها أكابرها وجبابرتها كما جعلنا في أهل مكة وهذا معطوف على ما قبله أي مثل ذلك جعلنا في كل قرية كما زين للكافرين لِيَمْكُرُوا فِيها يعني: ليتكبروا فيها ويكذبوا رسلهم وَما يَمْكُرُونَ يعني:
وما يصنعون ذلك إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ يعني: إلا على أنفسهم وَما يَشْعُرُونَ أن ذلك على أنفسهم.
قوله تعالى:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٢٤ الى ١٢٥]
وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (١٢٤) فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ (١٢٥)
وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ يعني: الأكابر الذين سبق ذكرهم. ويقال: كفار مكة إذا جاءتهم علامة مثل انشقاق القمر وغيره قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ يعني: لن نصدقك ولن نؤمن بالآية حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ
أي مثل ما أعطي رُسُلُ اللَّهِ يعني محمدا ﷺ من الآيات والعلامات.
ويقال: لم نصدقك حتى يوحى إلينا كما أوحي إلى الرسل، وذلك أن الوليد بن المغيرة وأبا مسعود الثقفي قالا: لو أراد الله تعالى أن ينزل الوحي لأنزل علينا. قال بعضهم: أرادوا به محمداً ﷺ وقال بعضهم: أرادوا به جميع الرسل فقال الله تعالى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ومن يصلح للنبوة ومن لا يصلح فخصّ بها محمدا ﷺ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا يعني: أشركوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ يعني: مَذَلَّة وهوان عند الله أي من عند الله العذاب بالمستهزئين وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ يعني: يكذبون بالرسل قرأ ابن كثير وعاصم في رواية حفص حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ بلفظ الوحدان وقرأ الباقون رِسالاتِهِ بلفظ الجماعة.
قوله تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يعني: من يرد الله أن يوفقه للإسلام ويهديه لدينه يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ يقول يوسع قلبه ويلينه لقبول الإسلام، ويدخل فيه نور الإسلام وحلاوته. وقال القتبي: يَشْرَحْ صَدْرَهُ يعني: يفتحه.
قال الفقيه: قال: حدّثنا الخليل بن أحمد حدّثنا الديبلي قال: حدّثنا أبو عبيد الله عن سفيان عن خالد بن أبي كريمة عن عبد الله بن المسور أن رسول الله ﷺ قال: لما نزلت هذه الآية فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ قالوا: يا رسول الله: فكيف ذلك؟ إذا دَخَلَ النُّورُ فِي القلب انشرح وانفسح قالوا: وهل لذلك من علامة يعرف به؟ قال: «نَعَمْ التَّجَافِي عَنْ دَارِ الغُرُورِ وَالإنَابَةُ إلى دَارِ الخُلُودِ وَالاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِ المَوْتِ».
ثم قال تعالى: وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ عن الإسلام فلا يقبله ويتركه بغير نور يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً عن الإسلام يعني: غير موسع حَرَجاً يعني: شاكاً. وقال ابن عباس:
كالشجرة الملتفة بعضها في بعض لا يجد النور منفذاً ومجازاً قرأ ابن كثير ضَيِّقاً بتخفيف الياء وجزمها. وقرأ الباقون بالتشديد. وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر حَرَجاً بكسر الراء. وقرأ الباقون بالنصب. فمن قرأ بالنصب فهو المصدر. ومن قرأ بالكسر فهو النعت.
ثم قال: كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ يعني: مثله كمثل الذي يتكلف الصعود إلى السماء وهو لا يستطيع، فكذلك قلب الكافر لا يستطيع قبول الإسلام. قرأ ابن كثير يَصَّعَّدُ بجزم الصاد ونصب العين بغير تشديد من صَعَد يَصْعَد. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر يَصَّاعد بالألف مع تشديد الصاد وتخفيف العين لأن أصله يتصاعد فأدغم التاء في الصاد. وقرأ الباقون: يَصَّعَّدُ بتشديد الصاد والعين بغير ألف لأن أصله يتصعد فأدغم التاء في الصاد ثم قال: كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ يعني: العذاب عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بترك حلاوة الإيمان على الذين لا يرغبون في الإيمان ويقال الرجس في اللغة: هو اللعنة والعذاب.
قوله تعالى:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٢٦ الى ١٢٩]
وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٧) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ مَا شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٢٨) وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩)
وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً يعني: هذا التوحيد دين ربك مستقيماً يعني: قائماً برضاه قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ يعني: قد بيّنا العلامات وبيّنا الآيات في أمر القلوب والهدى والضلالة
481
لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ يعني: يتعظون ويتفكرون في توحيد الله تعالى. ويقال: معناه لا عذر لأحد في التخلّف عن الإيمان لأن الله تعالى قد بيّن طريق الهدى، وقد بيّن العلامات في ذلك لمن كان له عقل وتمييز.
ثم ذكر ما أعد الله للمؤمنين في الآخرة فقال: لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وهي الجنة وهي دار السلام من الأمراض والآفات والخوف والهرم وغير ذلك. ويقال: لَهُمْ دارُ السَّلامِ فالله السلام والجنة داره يعني: دار رب العزة التي أعد لأوليائه بالثواب وَهُوَ وَلِيُّهُمْ أي الله تعالى حافظهم وناصرهم في الدنيا. ويقال: هو وليهم في الآخرة بالثواب بِما كانُوا يَعْمَلُونَ في الدنيا.
قوله تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ يقول: واذكر يوم يجمعهم الله جَمِيعاً يعني: الجن والإنس. قرأ عاصم في رواية حفص يَحْشُرُهُمْ بالياء يعني: أن الله يحشرهم وقرأ الباقون نحشرهم بالنون يا مَعْشَرَ الْجِنِّ يقول لهم يا معشر الجن قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ يعني:
قد أضللتم كثيراً من الإنس وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ الذين أضلوهم رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ يعني: انتفع بعضنا ببعض وكان استمتاع الإنس بالجن في الدنيا أن أهل الجاهلية كانوا إذا سافر واحد منهم فأدركه المساء بأرض قفر وخاف بالليل فقال: أعوذ بسيد أهل هذا الوادي من سفهاء قومه، فأمن، ولبث في جوارهم حتى يصبح. وكان استمتاع الجن بالإنس أن قالوا: لقد سوّدنا الإنس والجن فيزيدون شرفاً في قومهم يعني: فيما بين الجن والإنس.
وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا يعني: الموت الذي جعلته أجلنا في هذه الدنيا وهذا قول الكلبي. وقال الضحاك: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ يعني: خدع بعضنا بعضاً عن دينك يعني: أن الجن قد خدعنا وأضَلَّنَا وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا يعني: ما كتبت علينا من الشقاوة قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ يعني: منزلكم وهم الجن والإنس خالِدِينَ فِيها مقيمين في النار إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ قال الكلبي: مشيئة الله من كل شيء، ويقال: إلا ما شاء الله البرزخ والقيامة قد شاء الله لهم الخلود فيها. ويقال إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ يخرج منها من أهل التوحيد إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ثم قال: وَكَذلِكَ نُوَلِّي يعني: نسلط بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً يعني: كفار الجن على كفار الإنس. ويقال: نسلط بعض الظالمين بعضا فيهلكه ويذله. وهذا كلام لتهديد الظالم لكي يمتنع عن ظلمه. لأنه لو لم يمتنع يسلط الله عليه ظالماً آخر. ويدخل في الآية جميع من يظلم ومن ظلم في رعيته أو التاجر يظلم الناس في تجارته أو السارق وغيرهم. وقال فضيل بن عياض: إذا رأيت ظالماً ينتقم من ظالم فقف وانظر فيه متعجباً. وقال ابن عباس: إذا رضي الله عن قوم ولّى أمرهم خيارهم. وإذا سخط الله على قوم ولّى أمرهم شرارهم بما كانوا يكسبون، ثم تلا قوله وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً.
482
وعن مالك بن دينار قال: قرأت في بعض الكتب المنزلة إن الله تعالى يقول: إني أنا الله مالك الملوك قلوب الملوك بيدي ونواصيها بيدي فمن أطاعني جعلتهم عليه رحمة ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة فلا تشغلوا أنفسكم بسب الملوك ولكن توبوا إليّ أجعلهم عليكم رحمة. ثم قال: بِما كانُوا يَكْسِبُونَ يعني: يسلط بعضهم على بعض بأعمالهم الخبيثة.
ثم يقول لهم:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٣٠ الى ١٣١]
يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (١٣٠) ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (١٣١)
مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ
يعني: يقول لهم لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
قال مقاتل: بعث الله تعالى رسولاً من الجن إلى الجن ومن الإنس إلى الإنس. ويقال رسل الجن السبعة الذين سمعوا القرآن من رسول الله ﷺ ورجعوا إلى قومهم منذرين. وقالوا: يا قومنا أجيبوا داعي الله. ويقال: لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
يعني: من الإنس خاصة. وقال ابن عباس: كانت الرسل تبعث إلى الإنس وأن محمدا ﷺ بعث إلى الجن والإنس.
ثم قال قُصُّونَ عَلَيْكُمْ
يقول: يقرءون ويعرضون عليكم اتِي
يعني: القرآن يُنْذِرُونَكُمْ
يعني: يخوّفونكم قاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا
يعني يقولون بلى أقررنا أنهم قد بلغوا وكفرنا بهم. ثم قالت الرسل: وذلك بعد ما شهد عليهم سمعهم وأبصارهم يقول الله تعالى: غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا
يعني: ما في الحياة الدنيا من زهرتها وزينتها شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ
في الدنيا. ويقول الله تعالى: النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها [الأنعام: ١٢٨] على وجه التقديم والتأخير.
قوله تعالى: ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ يعني: ذلك السؤال والشهادة ويقال ذلِكَ يعني: إرسال الرسل إلى الجن والإنس ليعلم أن لم يكن الله مهلك القرى يعني: معذب أهل القرى بغير ذنب في الدنيا وَأَهْلُها غافِلُونَ عن الرسل. ويقال: غافلون عن العذاب لأنه قد بيّن لهم وأخذ عليهم الحجة.
ثم قال:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٣٢ الى ١٣٥]
وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٣٢) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَّا يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (١٣٤) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (١٣٥)
483
وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا يعني: ولكل واحد من المؤمنين فضائل في الجنة بعضهم أرفع درجة من بعض، وللكافرين درجات بعضهم أشد عذاباً من بعض.
وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ يعني: لمن ينسى الطاعة من المطيعين، ولا المعصية من العاصين، ويجازي كل نفس بما عملت. قرأ ابن عامر عَمَّا تَعْمَلُونَ على معنى المخاطبة.
وقرأ الباقون: يَعْمَلُونَ بالياء على معنى المغايبة.
قوله تعالى: وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ يعني: غني عن عبادة خلقه، ذُو الرَّحْمَةِ بتأخير العذاب عنهم ويقال: ذُو الرَّحْمَةِ يعني: ذو التجاوز عمن تاب ورجع إليه بالتوبة إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ يعني: يهلككم وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَّا يَشاءُ خلقاً بعدكم من بعد إهلاككم مَا يَشاءُ إن يشأ مثلكم، وإن يشأ أطوع منكم. كَما أَنْشَأَكُمْ يقول: كما خلقكم مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ قرناً من بعد قرن ولكنه لم يهلككم رحمة منه، لترجعوا وتتوبوا.
ثم قال: إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ يعني: الوعيد الذي أوعد في الآخرة من العذاب لآتٍ، يقول: لكائن لا خلف فيه وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ يعني: بسابقين الله بأعمالكم الخبيثة التي يجازيكم بها. هذا قول مقاتل. وقال الكلبي: بِمُعْجِزِينَ أي: بفائتين أن يدرككم. ويقال في اللغة: أعجزني الشيء أي: فاتني وسبقني. ثم قال: قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ أي: على موضعكم. يقال: مكان ومكانة مثل منزل ومنزلة. ومعناه اعملوا على ما أنتم عليه.
ويقال: معناه اجتهدوا في إهلاكي ما استطعتم ويقال: اعملوا في منازلكم من الخير والشر فإنكم تجزون بهما لا محالة.
إِنِّي عامِلٌ بما أوحى الله إلي ويقال: اعملوا بمكاني وأنا عامل بمكانكم. فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ فهذا وعيد من الله تعالى. يقول: نبيّن لكم من تكون له عاقبة الأمر في الدنيا، ومن تكون له الجنة في الآخرة.
ثم قال: إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ مخاطباً لرسول الله ﷺ أي: في الآخرة، ولا يأمن المشركون. قرأ عاصم في رواية أبي بكر اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ في جميع القرآن بلفظ
484
الجماعة. وقرأ الباقون مَكانَتِكُمْ. وقرأ حمزة والكسائي مَنْ يَكُونُ
بالياء لأنه انصرف إلى المعنى وهو الثواب والباقون قرءوا بالتاء لأن لفظ العاقبة لفظ مؤنث.
قوله تعالى:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٣٦ الى ١٤٠]
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (١٣٦) وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١٣٧) وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣٨) وَقالُوا مَا فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٣٩) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٤٠)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: كانوا يسمون لله جزءاً من الحرث، ولأوثانهم جزءاً. فما ذهبت به الريح من جزء أوثانهم إلى جزء الله أخذوه. وما ذهبت به الريح من الجزء الذي سموه لله إلى جزء الأصنام تركوه وقالوا إن الله غني عن هذا. وقال السدي: ما خرج من نصيب الأصنام أنفقوه عليها، وما خرج من نصيب الله تصدقوا به. فإذا هلك الذي لشركائهم وكثر الذي لله قالوا: ليس لآلهتنا بدّ من النفقة.
فأخذوا الذي لله، وأنفقوه على الأصنام. وإذا هلك الذي لله وكثر الذي للأصنام قالوا: لو شاء الله لأزكى ماله فلا يزيدون عليه شيئاً. فذلك قوله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ يعني: مما خلق من الحرث والأنعام نَصِيباً يعني: جعلوا لله نصيباً، ولشركائهم نصيباً، فاقتصر على المذكور لأن في الكلام دليلاً على المسكوت عنه فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ يقول بقولهم ولم يأمرهم الله بذلك وَهذا لِشُرَكائِنا يعني: للأصنام فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ يعني: لأصنامهم
485
فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ يقول: فلا يضعون شيئاً في نصيب الله وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ يقول: يوضع في نصيبهم ساءَ مَا يَحْكُمُونَ يعني: لو كان معه شريك كما يقولون ما عدلوا في القسمة. ويقال: ساءَ مَا يَحْكُمُونَ حيث وصفوا لله شريكاً. قرأ الكسائي (بزعمهم) بضم الزاي وقرأ الباقون بالنصب وهما لغتان ومعناهما واحد.
ثم قال تعالى: وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ يعني: زين لهم شركاؤهم وهم الشياطين قتل أولادهم، لأنهم يقتلون أولادهم مخافة الفقر والحمية، ويدفنون بناتهم أحياء فزين لهم الشيطان ذلك، كما زيّن لهم تحريم الحرث والأنعام. ويقال:
كان واحد منهم ينذر أنه إذا ولد كذا وكذا ولد يذبح واحداً منهم كما فعل عبد المطلب. فزين لهم الشيطان قتل أولادهم. فذلك قوله وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ قرأ ابن عامر ومن تابعه من أهل الشام وَكَذلِكَ زَيَّنَ بضم الزاي قَتْلَ بضم اللام أَوْلادِهِمْ بفتح الدال شُرَكائِهِمْ بالخفض. وإنما قرئ زَيَّنَ بالضم على فعل ما لم يسم فاعله ومعناه: قتل شركائهم على معنى التقديم، وهم أولادهم لأن أولادهم شركاؤهم في أموالهم، فصار شركاؤهم نعتاً للأولاد، وصار الأولاد نصباً على وجه التفسير. وقرأ الباقون زَيَّنَ بالنصب لأنه فعل ماض شُرَكاؤُهُمْ بالضم لأنه جعل الشركاء على وجه الفاعل.
ثم قال: لِيُرْدُوهُمْ يعني: ليهلكوهم بذلك وَلِيَلْبِسُوا يعني: ليخلطوا وليشبهوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ يعني: دين إبراهيم وإسماعيل.
ثم قال: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ يعني: لو شاء الله لمنعهم من ذلك منع اضطرار وقهر وأهلكهم فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ يعني: دعهم وما يكذبون بأن الله أمرهم بذلك، ومعناه: أن الله مع قدرته عليهم قد تركهم إلى وقت قدرهم، فاتركهم أنت أيضاً إلى الوقت الذي تؤمر بقتالهم. ويقال: معناه دعهم فإنّ لهم موعداً بين يدي الله فيحاسبهم ويجازيهم بها.
قوله تعالى: وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ وهي البحيرة والسائبة والوصيلة والحرث وهو نوع من الزرع حرموها على النساء. حِجْرٌ يعني: حرام والحجر يكون عبارة عن العقل كقوله تعالى: هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ [الفجر: ٥] أي: لذي لب وعقل ويكون عبارة عن الحرام كقوله: حِجْراً مَحْجُوراً [الفرقان: ٢٢] يعني: حراما محرما وكقوله هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ [الأنعام: ١٣٨] يعني: حراماً لاَّ يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ من الرجال دون النساء، وهو مالك بن عوف كان يفتيهم بالحل والحرمة. وكان يقول: هذا يجوز وهذا لا يجوز لأشياء كانوا حرموها برأيهم.
ثم قال وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وهي الحام من الإبل كانوا يتركونها ولا يركبونها وَأَنْعامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا يعني: عند الذبيحة ويقال: عند الركوب وهي البحيرة
486
افْتِراءً عَلَيْهِ يعني: اختلاقاً وكذباً على الله بأنه أمرهم بذلك سَيَجْزِيهِمْ يعني: سيعاقبهم بِما كانُوا يَفْتَرُونَ يعني: يكذبون على الله بأنه أمرهم وَقالُوا مَا فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا
قال الكلبي يعني: البحيرة والوصيلة حلال لذكورنا ما دامت في الأحياء، وليس للنساء فيه شركة ولا نصيب. فذلك قوله: وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً يعني: من هذه الأنعام فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ يعني: الرجال والنساء في أكلها. وقال الضحاك: كانت الناقة إذا ولدت فصيلاً ذكراً حرموا لحم الفصيل ولبن الناقة على النساء دون الرجال، وإن وضعت فصيلاً ميتاً اشتركت الرجال والنساء في لحم الفصيل ولبن الناقة. ذكر في أول الكلام خالِصَةٌ لفظ التأنيث، لأنه انصرف إلى المعنى، ومعناه: حمله ما في بطون هذه الأنعام.
ثم قال وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا ذكر بلفظ التذكير، لأنه انصرف إلى قوله: مَا فِي بُطُونِ قرأ عاصم في رواية أبي بكر وأن تَكُنْ بالتاء على معنى التأنيث مَيْتَةً بالنصب يعني: وإن تكن الجماعة ميتة صارت الميتة خبر كان. وقرأ ابن عامر وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً بالضم يعني: وإن كانت ميتة جعلها اسم كان رفعاً وقرأ ابن كثير وَإِنْ يَكُنْ بالياء مَيْتَةً بالضم يعني وإن: كان ما فيه ميتة بلفظ التذكير وجعل الميتة اسم كان. وقرأ الباقون وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً جعلوا الميتة خبر كان بلفظ التذكير.
ثم قال: سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ صار نصباً لنزع الخافض يعني: سيعاقبهم بكذبهم إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ حَكِيمٌ عليهم بالعذاب عَلِيمٌ بهم. وفي الآية دليل أن العالم ينبغي أن يتعلم قول من خالفه وإن لم يأخذ به حتى يعلم فساد قوله، ويعلم كيف يرد عليه لأن الله تعالى أعلم النبيّ صلّى الله عليه وسلم وأصحابه قول من خالفهم في زمانهم، ليعرفوا فساد قولهم.
قوله تعالى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ يعنوا: دفنوا بناتهم أحياء وقتلوهن سَفَهاً صار نصباً لنزع الخافض يعني: جهلاً منهم بِغَيْرِ عِلْمٍ يعني: بغير حجة منهم في قتلهن وهم ربيعة ومضر كانوا يقتلون بناتهم لأجل الحمية. وروي عن رسول الله ﷺ أن رجلاً من أصحابه كان لا يزال مغتماً بين يديه فقال له رسول الله ﷺ «مَا لَكَ تَكن مَحْزُوناً» ؟ فقال: يا رسول الله إني قد أذنبت في الجاهلية ذنباً، فأخاف أن لا يغفر لي وإني أسلمت فقال له:
«أَخْبِرْنِي عَنْ ذَنْبِكَ» فقال: يا رسول الله: إني كنت من الذين يقتلون بناتهم فولدت لي بنت، فتشفعت إليَّ امرأتي بأن أتركها فتركتها حتى كبرت، وأدركت فصارت من أجمل النساء فخطبوها، فدخلت عليَّ الحمية ولم يحتمل قلبي أن أزوجها أو أتركها في البيت بغير زوج.
فقلت للمرأة: إني أريد أن أذهب بها إلى قبيلة كذا وكذا في زيارة أقربائي فابعثيها معي فسرت بذلك وزيّنتها بالثياب والحلي، وأخذت عليَّ المواثيق بأن لا أخونها فذهبت بها إلى رأس بئر، فنظرت إلى البئر ففطنت الجارية أني أريد أن ألقيها في البئر، فالتزمت بي وجعلت تبكي
487
وتقول: يا أبت أي شيء تريد أن تفعل بي فرحمتها، ثم نظرت في البئر فدخلت عليّ الحمية، ثم التزمتني وجعلت تقول: يا أبت لا تضيع أمانة أمي فجعلت مرة أنظر في البئر، ومرة أنظر إليها، وأرحمها حتى غلبني الشيطان فأخذتها وألقيتها في البئر منكوسة وهي تنادي في البئر يا أبت قتلتني. فمكثت هناك حتى انقطع صوتها. فرجعت فبكى رسول الله ﷺ وأصحابه وقال «لَوْ أُمِرْتُ أَنْ أعَاقِبَ أَحَداً بِمَا فَعَلَ فِي الجَاهِلِيَّةِ لَعَاقَبْتُكَ بِمَا فَعَلْتَ».
ثم قال: وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ يعني: ما أعطاهم افْتِراءً يعني: كذباً عَلَى اللَّهِ بأنه قد حرم ذلك عليهم قَدْ أَضَلُّوا عن الهدى وَما كانُوا مُهْتَدِينَ يعني: وما هم بمهتدين ويقال: وَما كانُوا مُهْتَدِينَ من قبل فخذلهم الله بذلك قرأ ابن كثير وابن عامر قتلوا بالتشديد لتكثير الفعل والباقون بالتخفيف.
قوله تعالى:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٤١ الى ١٤٤]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (١٤١) وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٤٢) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٤٣) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٤٤)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ يعني: خلق البساتين يعني: الكروم وما يعرش وهو الذي يبسط مثل القرع ونحو ذلك وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ يعني: كل شجرة قائمة على أصولها وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ يعني: خلق النخل والزرع مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ يعني: طعمه مثل الحامض والحلو والمر وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً يعني: المنظر وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ يعني: في الطعم
488
كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وإنما ذكر ثمره بلفظ التذكير، لأنه انصرف إلى المعنى يعني: ثمره الذي ذكرها وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ يعني: أعطوا زكاته يوم كيله ورفعه. قرأ أبو عمرو وعاصم وابن عامر حَصادِهِ بنصب الحاء. وروى الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال:
وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ قال: العُشْر ونصف العشر. وروى سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ قال: عند الزرع أي يعطي القبض وهو بأطراف الأصابع، ويعطي عند الصرام القبض، ويدعهم يتتبعون آثار الصرام. وعن الربيع بن أنس وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ قال: لقاط السنبل. وقال الحسن: نسختها آية الزكاة. وقال إبراهيم:
نسختها العشر ونصف العشر: وقال الضحاك: نسخت آية الزكاة كل صدقة في القرآن وهكذا قال عكرمة. وقال سفيان. سألت السدي عن قوله تعالى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ
قال: هذه السورة مكية نسختها العشر ونصف العشر قلت عمن؟ قال عن العلماء. قال الفقيه الذي قال إنه صار منسوخاً يعني: أداؤه يوم الحصاد بغير تقدير صار منسوخاً ولكن أصل الوجوب لم يصر منسوخاً. وبيّن النبي ﷺ التقدير وهو العشر أو نصف العشر.
ثم قال: وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قال ابن عباس رضي الله عنهما: عمد ثابت بن قيس إلى خمسمائة نخلة فصرمها وقسمها في يوم واحد فأمسى ولم يكن لأهله شيء فنزل وَلا تُسْرِفُوا يعني: ولا تتصدقوا بكله، ودعوا لعيالكم شيئاً. وروى عبد الرزاق عن ابن جريج قال: جد لمعاذ بن جبل نخله فلم يزل يتصدق حتى لم يبق منه شيء. فنزل وَلا تُسْرِفُوا ويقال: وَلا تُسْرِفُوا يعني: ولا تنفقوا في المعصية. قال مجاهد: لو أنفقت مثل أبي قبيس ذهباً في طاعة الله تعالى ما يكون إسرافاً، ولو أنفقت درهماً في طاعة الشيطان كان إسرافاً. وروي عن معاوية بن أبي سفيان أنه سئل عن قوله تعالى: وَلا تُسْرِفُوا قال:
الإسراف ما قصرت عن حق الله تعالى. ويقال: وَلا تُسْرِفُوا يقول: لا تشركوا الآلهة في الحرث والأنعام. وقد ذكر قوله: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ بلفظ التذكير لأنه انصرف إلى المعنى يعني: من ثمر ما ذكرنا.
ثم قال: إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ يعني: المشركين الذين يشركون الآلهة في الحرث والأنعام. ثم قال: وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً يعني: أنشأ لكم وخلق لكم من الأنعام حمولة وفرشاً أي: مما يحمله عليه من الإبل والبقر وفرشاً مثل الغنم وصغار الإبل. وقال القتبي:
الفرش ما لا يطيق الحمل عليه، وهي ما دون الحفاف التي لا تصلح للركوب. كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ أي: من الحرث والأنعام حلالا طيبا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ يعني: لا تسلكوا الطريق الذي يدعوكم إليه الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة غير ناصح لكم.
ثم قال: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يعني: ثمانية أفراد لكم: يقال لكل فرد معه آخر زوج يقول:
489
خلقت لكم ثمانية أصناف. ويقال: كلوا مما رزقكم الله ثمانية أزواج نزلت الآية في مالك بن عوف وأصحابه حيث قالوا: ما فى بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا.
ففي هذه الآية دليل إثبات المناظرة في العلم، لأن الله تعالى أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلم بأن يناظرهم ويبيّن فساد قولهم. وفيها إثبات القول بالنظر والقياس، وفيها دليل أن القياس إذا ورد عليه النص بطل القول به، ويروى إذا ورد عليه النقض لأن الله تعالى أمرهم بالمقايسة الصحيحة، وأمرهم بطرد علّتهم، وأمرهم بأن يثبتوا وجه الحرمة إن كان سبب الحرمة الأنوثة والذكورة أو اشتمال الرحم. فإن كان سبب الحرمة الأنوثة ينبغي أن يكون كل أنثى حراماً لوجود العلة. وإن كان سبب الحرمة الذكورة ينبغي أن يكون كل ذكر حراماً لوجود العلة وإن كان محرماً لاشتمال الرحم وقد حرم الأولاد كلها ووجهت حرمتها لوجود العلة فيها فبّين انتقاض علتهم وفساد قولهم، وذلك قوله: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يعني: ثمانية أصناف مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ يعني: قولهم وذلك قوله: وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ يعني: الذكر والأنثى قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ يعني:
قل لهم من أين جاء هذا التحريم من قبل الذكرين حُرِّمَ أم من قبل الأُنثيين؟ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ يعني: أم من قبل اشتمال الرحم فإنها لا تشتمل إلا على الذكر والأنثى.
نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ يعني: أخبروني بسبب التحريم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أن الله حرم ما تقولون وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ يعني: من أين جاء هذا التحريم.
ثم قال: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ يعني: إذا لم تقدروا على إثبات تحريم ذلك بالعقل فهل لكم كتاب يشهد على تحريم هذا؟ فذلك قوله: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا يعني:
أمركم الله بهذا التحريم فسكت مالك بن عوف وتحير فقال له النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «مَا لَكَ لاَ تتكلم» فقال: بل تكلم أنت فأسمع قال الله عزّ وجلّ: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بغير حجة وبيان لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ يعني: ليصرف الناس عن حكم الله تعالى بالجهل إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يعني: لا يرشدهم إلى الحجة ويقال لا يوفقّهم إلى الهدى مجازاةً لكفرهم. قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وَمِنَ الْمَعْزِ بنصب العين. وقرأ الباقون بالجزم. ومعناهما واحد. ثم بيَّن لهم ما حرم عليهم فقال:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٤٥ الى ١٤٧]
قُلْ لا أَجِدُ فِي مآ أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (١٤٦) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١٤٧)
490
قُلْ لا أَجِدُ فِي مآ أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً يعني: لا أجد فيما أنزل علي من القرآن شيئاً محرماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ. يعني: على آكل إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً. قرأ ابن عامر إلا أَن تَكُون مَيْتَةً بالتاء على لفظ التأنيث لأن الميتة مؤنث وقرأ مَيْتَةً بالضم لأنه اسم كان. وقرأ حمزة وابن كثير إِلا أَن تَكُونَ بالتاء بلفظ التأنيث مَيْتَةً بالنصب فجعل الميتة خبراً لكان، والاسم فيه مضمر. وقرأ الباقون إِلَّا أَنْ يَكُونَ بلفظ التذكير الميتة بالنصب، وإن جعلوه مذكراً لأنه انصرف إلى المعنى ومعناه إلا أن يكون المأكول ميتة أَوْ دَماً مَسْفُوحاً يعني:
سائلاً جارياً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أي: حرام أَوْ فِسْقاً يعني: معصية أُهِلَّ يعني:
ذبح لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ يعني: لغير اسم الله وقال بعضهم: في الآية تقديم. ومعناه: إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير أو فسقا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ فإنه رجس أي حرام. يعني: جميع ما ذكر في الآية هو رجس. ويقال: الرجس هو نعت للحم الخنزير خاصة. وروى عمر بن دينار عن أبي الشعثاء عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء، فبعث الله نبيه وأنزل كتابه، وأحل حلاله، وحرم حرامه فما أحل فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، وتلا هذه الآية قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ الآية يعني: ما لم يبيّن تحريمه فهو مباح بظاهر هذه الآية. وروى أبو بكر الهذلي عن الحسن أنه قال: الله لولا حديث سلمة بن المحبق ما لبسنا خفافكم، ولا نعالكم، ولا فراكم، حتى نعلم ما هي.
قال أبو بكر: فذكرت ذلك للزهري، فقال: صدق الحسن ذلك عندي أوسع من هذا. حدثني عبيد الله بن عبد الله عن عبد الله بن عباس أنه قرأ قُلْ لا أَجِدُ فِي مآ أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً الآية. قال: إنما حرم من الميتة أكلها وما يؤكل منها، وهو اللحم، أما الجلد والعظم والشَّعر والصوف فحلال. قال: وقد احتج بعض الناس بهذه الآية، على أن ما سوى هذه الأشياء التي ذكر في الآية مباح. ولكن نحن نقول قد حرم أشياء سوى ما ذكر في الآية. وقد بيّن على لسان رسول الله ﷺ من ذلك كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير. وقد قال تعالى:
وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: ٧].
ثم قال: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وقد ذكرنا تأويل هذه الآية. ثم قال: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا يعني: أن هذه الأشياء التي ذكرنا في الآية كانت حراماً في الأصل وقد حرّم الله أشياء كانت حلالاً في الأصل على اليهود بمعصيتهم. كُلَّ ذِي
491
ظُفُرٍ
يعني: الإبل والنعامة والبط والأوز. وكل شيء له خفّ وقال القتبي: كُلَّ ذِي ظُفُرٍ يعني: كل ذي مخلب من الطيور، وكل ذي حافر من الدواب، وسمي ظفراً على الاستعارة.
وقال الكلبي: كُلَّ ذِي ظُفُرٍ يعني: ليس بمنشق ولا مجتر فهو حرام عليهم وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما يعني: شحوم البطون.
ثم استثنى فقال: إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُما وقال الضحاك: إلا ما كان على اللحوم من الشحوم. وقال الكلبي: يعني: ما تعلق بالظهر من الشحم من الكليتين. ويقال: حرم عليهم الثروب وأحلّ ما سواها. وواحد الثروب ثرب وهو الشحم الرقيق الذي يكون على الكرش أَوِ الْحَوايا وهو المباعر واحدتها حاوية أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ مثل الإلية. وروى جويبر عن الضحاك قال: ما التزق بالعظم. ويقال: هو المخ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ يعني: ذلك التحريم عاقبناهم بشركهم وظلمهم وَإِنَّا لَصادِقُونَ أن هذه الأشياء كانت حلالاً في الأصل، وحرمناها على اليهود بمعصيتهم، لأن اليهود كانوا يقولون: أن هذه الأشياء كانت حراماً في الأصل.
ثم قال: فَإِنْ كَذَّبُوكَ يعني: فيما تقول من التحريم والتحليل فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ يعني: رحمته وسعت كل شيء لا يعجل عليهم بالعقوبة وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ يعني: عذابه عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ.
قوله تعالى:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٤٨ الى ١٥٠]
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (١٤٨) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١٥٠)
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا مع الله لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا يعني: ولا أشرك آباؤنا، ولكن شاء لنا ذلك وأمرنا به وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ أي: من هذه الأشياء. ويقال:
مذهبهم مذهب الجبرية. قال الله تعالى: كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني: الأمم الخالية
كذبوا رسلهم كما كذبك قومك. وإنما كذبهم الله لأنهم قالوا ذلك على وجه السخرية لا على وجه التحقيق كما قال المنافقون: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله فكذبهم الله في مقالتهم، لأنهم قالوا على وجه السخرية.
ثم قال: حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا يعني: الأمم الخالية أتاهم عذابنا فهذا تهديد لهم ليعتبروا.
ثم قال: قُلْ يا محمد لهم قل: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ يعني: بيان من الله فَتُخْرِجُوهُ لَنا فبينوه لنا بتحريم هذه الأشياء التي كانوا يحرمونها، ثم بيّن الله أنهم قالوا ذلك بغير حجة وبيان فقال: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ يعني: ما تقولون إلا بالظن من غير يقين وعلم وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ يعني: قل لهم ما أنتم إلا تكذبون على الله.
قوله تعالى: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ يعني: الحجة الوثيقة وهو محمد عليه السلام والقرآن. فبيّن لهم ما أحلّ لهم وما حرم عليهم فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ يعني: لو شاء لوفَّقكم لدينه، وأكرمكم بالهدى لو كنتم أهلاً للإسلام، ولكن لم يوفقهم لأنهم لم يجاهدوا فِى الله حَقَّ جهاده قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا عليكم فَإِنْ شَهِدُوا على تحريمه فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ فأخبر الله أنهم لو شهدوا، كانت شهادتهم باطلة، ولا يجوز قبول شهادتهم، لأنهم يقولون بأهوائهم.
ثم قال: وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يعني: بمحمد ﷺ وبالقرآن وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يعني: البعث وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ يعني يشركون بالله.
ثم قال تعالى:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٥١ الى ١٥٣]
قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣)
493
قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ يعني: قل لمالك بن عوف وأصحابه الذين يحرمون الأشياء على أنفسهم، وقالوا ما قالوا أبيّن لكم ما حرم الله عليكم وما أمركم به أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً يقال: معناه أتل ما حرم ربكم عليكم، فقد تم الكلام.
ثم قال: وأمركم أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً يقول: نهاكم عن عقوق الوالدين، وأمركم ببرهم، ويقال: معناه حرم عليكم ألا تشركوا به شيئاً. ويقال: معناه حرم عليكم الشرك. وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً يعني: أمركم بالإحسان إلى الوالدين وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ يعني: من خشية الفقر نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ زنى السر والعلانية وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ يعني: إلا بالقصاص أو بالرجم أو بترك الإسلام، فإنّ القتل بهذه الأشياء من الحقوق ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ يقول: أمركم به في القرآن لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أمر الله بما حرمه في هذه الآيات. وروي عن عبد الله بن قيس عن ابن عباس قال: هذه الآيات المحكمات: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ إلى ثلاث آيات وقال الربيع بن خثيم لرجل: هل لك في صحيفة عليها خاتم محمد صلى الله عليه وسلم؟ ثم قرأ هذه الآيات قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ ويقال: هذه الآيات هن أم الكتاب، وهن إمام في التوراة والإنجيل والزبور والفرقان ولا يجوز أن يرد عليها النسخ.
ثم قال: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ
يقول: لا تأكلوا مال اليتيم ولا تباشروه إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
يعني: إلا بالقيام عليه لإصلاح ماله حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ
يعني: احفظوا ماله حتى يبلغ رشده. قال مقاتل: يعني ثماني عشرة سنة. وقال الكلبي: الأشُدُّ ما بين ثماني عشرة إلى ثلاثين سنة. ويقال: حتى يبلغ مبلغ الرجل. ويقال: بلوغ الأشد ما بين ثماني عشرة إلى أربعين سنة.
ثم قال: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ
يعني: أتموا الكيل والميزان عند البيع والشراء بِالْقِسْطِ
يعني: بالعدل لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها
يعني: إلا جهدها في العدل يعني: إذا اجتهد الإنسان في الكيل والوزن، فلو وقعت فيه زيادة قليلة أو نقصان، فإنه لا يؤاخذ به إذا اجتهد جهده وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا
يعني: اصدقوا وقولوا الحق وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى
يعني وإن كان الحق على ذي قرابة، فقولوا الحق، ولا تمنعوا الحق وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا
يقول: أتموا العهود التي بينكم وبين الله. والعهد الذي بينكم وبين الناس. ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ
يقول: أمركم به في الكتاب لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
يعني: تتعظون فتمتنعون عما حرم الله عليكم. قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص تَذَكَّرُونَ
بتخفيف الذال. وقرأ الباقون بالتشديد. لأن أصله تتذكرون. فأدغم إحدى التاءين في الذال.
قوله تعالى: وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً قرأ حمزة والكسائي وإن هذا بكسر الألف على معنى الابتداء. وقرأ الباقون بالنصب على معنى البناء. وقرأ ابن عامر وَأَنَّ هذا بجزم
494
النون. لأن أن إذا خففت منعت عملها. ومعنى الآية: إن هذا الإسلام ديني الذي ارتضيته طريقاً مستقيما فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ يعني: لا تتبعوا اليهودية والنصرانية. ويقال: هذا صراطي مستقيماً. يعني: طريق السنة والجماعة فاتبعوه ولا تتبعوا السبل يعني: الأهواء المختلفة. وروي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إن النبي عليه السلام خطَّ بالأرض خطاً مستقيماً، ثم خطّ بجنبيه خطوطاً، ثم قال: هذا صراطي مستقيما فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل يعني: الطريق الذي بجنبي الخط، يعني به: الأهواء المختلفة.
ثم قال: فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ يعني: فيضلكم عن دينه ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ يعني يجتنبون الأهواء المختلفة.
قوله تعالى:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٥٤ الى ١٥٧]
ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (١٥٧)
ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ يعني: التوراة، ويقال: الألواح التي كتبت عليها حين انطلق إلى الجبل. ويقال: معناه ثم أتل عليكم كما قال الله تعالى: ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ.
ويقال: ثُمَّ بمعنى الواو يعني وآتينا موسى الكتاب تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ قال القتبي: أي تماماً على المحسنين. كما يقول ثلث مالي لمن غزا أي للغزاة. والمحسنون هم الأنبياء والمؤمنون. وعلى بمعنى اللام كما نقول في الكلام أتم الله عليه النعمة بمعنى: أتم له. قال:
ومعنى الآية- والله أعلم- وآتينا موسى الكتاب تماما على أحسن من العلم والحكمة، أي مع ما كان له من العلم، وكتب المتقدمين أعطيناه زيادة على ذلك. ويكون الذي بمعنى: ما. قال:
ومعنى آخر آتينا موسى الكتاب تتميماً منا للمحسنين يعني: الأنبياء والمؤمنين. وَتَفْصِيلًا منا لِكُلِّ شَيْءٍ يعني: بيانا لكل شيء. قال: ويجوز معنى آخر وآتينا موسى الكتاب إتماماً منا للإحسان على من أحسن، تفصيلاً لكل شىء يعني، بيانا لكل شيء وَهُدىً من الضلالة
وَرَحْمَةً يعني: ونعمة ورحمة من العذاب لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ يعني: لكي يصدقوا بالبعث.
ثم قال وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ يعني: القرآن فيه بركة لمن آمن به، وفيه مغفرة للذنوب. فَاتَّبِعُوهُ يعني: اقتدوا به. ويقال: اعملوا بما فيه من الأمر والنهي. وَاتَّقُوا يعني: واجتنبوا ولا تتخذوا إماماً غير القرآن لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ يعني: لكي تُرْحَموا ولا تُعَذَّبوا.
قوله تعالى: أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا يعني: أنزلنا هذا القرآن لكي لا تقولوا: إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا يعني: اليهود والنصارى.
ويقال: أن تقولوا يعني لكراهة أن تقولوا: إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا، وذلك أن كفار مكة قالوا: قاتل الله اليهود كيف كذبوا أنبياءهم، والله لو جاءنا نذير وكتاب لكنا أهدى منهم. فأنزل الله القرآن حجة عليهم.
ثم قال وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ يعني: عن قراءتهم الكتاب لغافلين عما فيه.
أَوْ تَقُولُوا يعني: لكي لا تقولوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ يعني: أصوب ديناً منهم فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ يعني: حجة من ربكم وهو محمد عليه السلام والقرآن.
وإنما قال: جاءَكُمْ ولم يقل: جاءتكم لأنه انصرف إلى المعنى يعني: البيان، ولأن الفعل مقدم. وَهُدىً وَرَحْمَةٌ بمعنى: هدى من الضلالة ورحمة من العذاب. ويقال: قد جاءكم ما فيه من البيان وقطع الشبهات عنكم.
ثم قال: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ يعني: لا أحد أظلم وأشد في كفره ممن كذب بآيات الله تعالى وَصَدَفَ عَنْها يعني: أعرض عن الإيمان بها. سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ يعني: يعرضون عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ أي: شدة العذاب بما كانوا يعرضون عن الآيات.
قوله تعالى:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٥٨]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لاَ يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٥٨)
هَلْ يَنْظُرُونَ معناه، أقمت عليهم الحجة وأنزلت عليهم الكتاب فلم يؤمنوا فماذا
496
ينتظرون؟ فهل ينتظرون إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ لقبض أرواحهم أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ يعني: يأتي أمر ربك بما وعد لهم كقوله: فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا [الحشر: ٢] ويقال: أن تأتي عقوبة ربك وعذابه. وقد ذكر المضاف إليه ويراد به المضاف. كقوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: ٨٢] يعني: أهل القرية. وكقوله: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [البقرة: ٩٣] يعني: حب العجل. كذلك هاهنا يأتي أمر ربك يعني: عقوبة ربك وعذاب ربك. ويقال: هذا من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يعني: طلوع الشمس من مغربها يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لاَ يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها حين طلعت الشمس من مغربها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ يعني: أن الكافر إذا آمن في ذلك الوقت لا يقبل إيمانه، لأنها قد ارتفعت المحنة حين عاينوها. وإنما الإيمان بالغيب.
ثم قال: أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً يعني: المسلم الذي يعمل في إيمانه خيراً كأن لم يقبل عمله قبل ذلك، فإنه لا يقبل منه بعد ذلك. ومن كان قبل من قبل ذلك فإنه يقبل منه بعد ذلك أيضاً أو كانت النفس مؤمنة ولم تكن كسبت خيراً قبل ذلك الوقت لا ينفعها الخير بعد.
قال الفقيه: حدثنا الخليل بن أحمد بإسناده عن زر بن حبيش عن صفوان بن عسال المرادي قال: بَيْنَمَا رَسُول الله ﷺ في سفر إذ جاء أعرابي فسأله عن أشياء حتى ذكر التوبة فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «لِلتَّوْبَةِ بَابٌ فِي المَغْرِبِ مَسِيرَة سَبْعِينَ عَاماً أَوْ أَرْبَعِينَ عَاماً فلا يَزَالُ حَتَّى يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ».
قال الفقيه: حدثنا الخليل بن أحمد قال: حدثنا السراج. قال: حدثنا زياد بن أيوب عن يزيد بن هارون عن سفيان بن الحسين عن الحكم عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر قال:
كنت رديف رسول الله ﷺ وهو على حمار وعليه بردعة أو قطيفة فنظر إلى الشمس حين غابت فقال: «يا أبَا ذَرَ هَلْ تَدْرِي أَيْنَ تَغِيبُ هذه» ؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «فإنَّهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنِ حَمِئَةٍ فَتَنْطَلِقُ حَتَّى تَخُرَّ لِرَبِّها سَاجِدَةً تَحْتَ العَرْشِ، فإذَا دَنَا خُرُوجُهَا أُذِنَ لَهَا فَخَرَجَتْ.
فَإِنْ أَرَادَ الله أنْ يُطْلِعَها مِنْ مَغْرِبِهَا حَبَسَها. فَتَقُولُ: يا رَبِّ إنّ مَسِيري بَعِيدٌ. فَيَقُولُ الله تعالى اطْلَعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لاَ يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها وروي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أنه قال: لا يقبل الله من كافر عملاً ولا توبة إذا أسلم حين يراها إلا من كان صغيراً يومئذ. فإنّه لو أسلم بعد ذلك قُبِلَ ذلك منه، ومتى كان مؤمناً مذنباً فتاب من الذنب قبلت منه. وروي عن عمران بن حصين أنه قال: إنما لم يقبل وقت الطلوع حتى تكون صيحة فيهلك كثير من الناس. فمن أسلم أو تاب في ذلك الوقت وهلك لم يقبل منه ومن تاب بعد ذلك قبلت منه.
ثم قال: قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ يعني: انتظروا العذاب فإنا منتظرون بكم حتى ننظر
497
أينا أسعد حالاً. قرأ حمزة والكسائي إلا أن يَأْتِيَهُمُ الملائكة بالياء بلفظ التذكير، والباقون إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ بلفظ التأنيث لأن الفعل مقدم فيجوز أن يذكر ويؤنث.
قوله تعالى:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٥٩]
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (١٥٩)
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ قرأ حمزة والكسائي فارقوا دينهم بالألف يعني: تركوا دينهم الإسلام ودخلوا في اليهودية والنصرانية. وقرأ الباقون فَرَّقُوا دِينَهُمْ يعني: آمنوا ببعض الرسل ولم يؤمنوا ببعض وَكانُوا شِيَعاً يعني: صاروا فرقاً مختلفة. وروي عن أسباط عن السدي أنه قال: هؤلاء اليهود والنصارى تركوا دينهم وصاروا فرقاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ أي: لم تؤمر بقتالهم ثم نسخ وأمر بقتالهم في سورة براءة.
وروى أبو أمامة الباهلي عن رسول الله ﷺ أنه قال: «إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً إنَّهُمْ الخَوَارِجُ». وفي هذه الآية حثّ للمؤمنين على أن كلمة المؤمنين ينبغي أن تكون واحدة، وأن لا يتفرقوا في الدين ولا يبتدعوا البدع ما استطاعوا.
ثم قال: لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ يقول: إنما عليك الرسالة وليس عليك القتال. ثم قال تعالى: إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ يعني: الحكم إلى الله ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ أي في الدنيا ويقال ليس بيدك توبتهم ولا عذابهم إنما أمرهم إلى الله تعالى، ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون.
قوله تعالى:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٦٠]
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (١٦٠)
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها يعني: من جاء بالإيمان بشهادة أن لا إله إلا الله فله بكل عمل عمله في الدنيا من الخير عشرة أمثاله من الثواب. وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ يعني:
بالشرك فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وهو الخلود في النار، لأن الشرك أعظم الذنوب والنار أعظم العقوبة. فذلك قوله: جَزاءً وِفاقاً [النبإ: ٢٦] يعني: جزاءً وافق العمل. ويقرأ فله عشر بالتنوين أمثالُها بضم اللام فتكون الأمثال صفة للعشر، وهي قراءة شاذة قرأها الحسن البصري
ويعقوب الحضرمي والقراءة المعروفة عشر أمثالها على معنى الإضافة، وتكلموا في المثل. قال بعضهم إذا عمل عملاً يعطى في الآخرة ثواب عشرة. ويقال: وإنه يكتب للواحدة عشرة.
وروى أبو أمامة الباهلي عن رسول الله ﷺ أنه قال: «إنَّ صَاحِبَ اليَمِينِ أمِيرٌ عَلَى صَاحِبِ الشِّمالِ. وَإذا عَمِلَ العَبْدُ حَسَنَةً كُتِبَ لَهُ عَشَرَة أمْثَالِهَا. وإذَا عَمِلَ سَيِّئَةً فَأرَادَ صَاحِبُ الشِّمَالِ أنْ يَكْتُبَهَا قَالَ لَهُ صَاحِبُ اليَمِينِ: أَمْسِكْهَا فَيُمْسِكُ سِتَّ سَاعَاتٍ أوْ سَبْعَ سَاعَاتٍ. فإنِ اسْتَغْفَرَ لَمْ يُكْتَبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَإنْ لَمْ يَسْتَغْفِرْ كُتِبَ عَلَيْهِ سَيِّئَةٌ وَاحِدَةٌ». ويقال: إن الله تعالى قد وعدّ للواحدة عشراً فهو أعرف بكيفيته. فإن قيل: ذكر هاهنا للواحدة عشر وذكر في آية أُخرى سبعمائة وفي آية أُخرى أضعافاً مضاعفة، قيل له: قد تكلم أهل العلم في ذلك. قال بعضهم:
يكون للعوام عشرة والخواص سبعمائة وأكثر إلى ما لا يحصى. وقال بعضهم: العشرة اشترط لسائر الحسنات، والسبعمائة للتفقه في سبيل الله فالخاص والعام فيه سواء.
وقد جاء في الأثر ما يؤكد القولين فقد روى عطية عن ابن عمر قال: نزلت هذه الآية في الأعراب مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها قال رجل ما للمهاجرين يا أَبا عبد الرحمن؟
قال: هو أفضل من ذلك إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً [سورة النساء: ٤٠] وإذا قال الله لشيء عظيماً فهو عظيم.
وروى همام عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إسْلاَمَهُ فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا يُكْتَبُ لَهُ عَشْرُ أَمْثَالِها إِلى سَبْعِمائَةِ ضِعْفٍ. وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُها يُكْتَبُ لَهُ بِمِثْلِها حَتَّى يَلْقَى الله بِلا ذَنْبٍ».
وروى ابن فاتك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الأَعْمَالُ سِتَّةٌ فَمُوجِبَتَانِ، وَمِثْلٌ بِمِثْلٍ، وَحَسَنَةٌ بِحَسَنَةٍ، وَحَسَنَةٌ بِعَشْرٍ، وَحَسَنَةٌ بِسَبْعِمائَةٍ. فَأَمَّا المُوجِبَتَانِ فَمَنْ مَات وَلَمْ يُشْرِكْ بالله شَيْئاً دَخَلَ الجَنَّةِ وَمَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بالله دَخَلَ النَّارَ. وَأَمَّا مِثْلٌ بِمِثْلٍ فَمَنْ عَمِلَ سَيِّئَةٍ فَجَزَاءٌ سَيِّئَةٍ مِثْلُهَا.
وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ حَتَّى تَشْتَهِيَ بِهَا نَفْسُهُ وَيَعْلَمَهَا الله مِنْ قَلْبِهِ كُتِبَ لَهُ حَسَنَة. وَأَمَّا حَسَنَةٌ بِعَشْرٍ فَمَنْ عَمِلَ حَسَنَةً فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِها. وَأَمَّا حَسَنَةٌ بِسَبْعِمائَةٍ فَالنَّفَقَةُ فِي سَبِيلِ الله»
. ثم قال: «وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ» يعني: لا ينقصون من ثواب أعمالهم شيئاً ولا يُزادون على سيئاتهم شيئاً.
قوله تعالى:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٦١ الى ١٦٣]
قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣)
قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي وذلك أن أهل مكة قالوا له: من أين لك هذه الفضيلة وأنت بشر مثلنا؟ فإن فعلت لطلب المال فاترك هذا القول حتى نعطيك من المال ما شئت. فنزلت قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يعني: وفقني الله وهداني إلى دين الإسلام وهو دين لا عوج فيه دِيناً قِيَماً. قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو دِيناً قِيَماً بنصب القاف وكسر الياء مشدودة. وقرأ الباقون قَيِّماً بكسر القاف ونصب الياء على معنى المصدر. ومن قرأ بالنصب على معنى النعت دِيناً قِيَماً يعني: ديناً عدلاً مستقيماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً يعني: مستقيماً مخلصاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ على دينهم قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وأصل النسك ما يتقرب به يعني: قل إن صلاتي المفروضة وقرباني وديني وَمَحْيايَ في الدنيا وَمَماتِي بعد الحياة. ويقال: وَنُسُكِي يعني: أضحيتي وحجتي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ في الكتاب وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ من أهل مكة. ويقال: أول المسلمين يوم الميثاق. ويقال: صَلاتِي يعني: صلاة العيد ونسكي يعني: الأضحية.
وروي عن رسول الله ﷺ أنه قال لعائشة رضي الله عنه: «قُومِي إلى أُضْحِيَتِكِ وَاذْبَحِي وَقُولِي: إنَّ صَلاَتِي وَنُسْكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لله رَبِّ العَالَمِينَ». ويقال: إن أول المخلصين بالثبات على الإسلام.
قوله تعالى:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٦٤ الى ١٦٥]
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٥)
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا يعني: يقول أعبد وأطلب رباً غيره وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ من خلقه في السموات والأرض، لأنهم كانوا يقولون له: نحن كفلاء لك بما يصيبك ومن تابعك.
فنزلت وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها يعني: إلا لها أو عليها إن كان خيراً فلها وإن كان شراً فعليها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى يعني: لا تحمل نفس خطيئة نفس أخرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ أي مصيركم في الآخرة فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ من الدين، ويبيّن لكم الحق من الباطل بالمعاينة.
ثم قال: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ يعني: سكان الأرض من بعد إهلاك
500
الأمم الخالية، لأن النبي عليه السلام خاتم النبيين، وأمته قد خلفوا جميع الأمم. ويقال:
خلائف يعني: يخلف بعضكم بعضاً وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ أي فضل بعضكم على بعض في المال والرزق لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ يعني: ليبتلي الموسر بالغِنَى ويطلب منه الشكر، ويبتلي المُعْسِر بالفاقة ويطلب منه الصبر. ويقال: لِيَبْلُوَكُمْ يعني: بعضكم ببعض كما قال الله تعالى: وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً [الفرقان: ٢٠].
ثم خوّفه فقال: إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ كأنه جاء لأن ما هو آتٍ فهو قريب، كما قال:
وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ [القمر: ٥٠] وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ يعني: لمن أطاعه في فاقة أو غِنى. ويقال: سَرِيعُ الْعِقابِ لمن لم يشكر نعمته وكان مصراً على ذلك.
إِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لمن رجع وتاب رَحِيمٌ بعد التوبة. ويقال: سَرِيعُ الْعِقابِ لمن لم يحفظ نفسه فيما أعطاه من فضل الله وترك حق الله في ذلك وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ لمن تاب رَحِيمٌ بعد التوبة. قال الفقيه قال: حدثنا أبو الحسن بن حمدان بإسناده عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أُنْزِلَتْ عَلَيَّ سُورَةُ الأَنْعَامِ جُمْلَةً وَاحِدَةً وَشَيَّعَهَا سَبْعُونَ أَلَف مَلَكٍ لَهُمْ زَجَلٌ بالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّحْمِيدِ» قال. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَرَأ سُورَةَ الأنْعَامِ صَلَّى عَلَيْهِ وَاسْتَغْفَرَ لَهُ أُولئكَ السَّبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ بِعَدَدِ كُلِّ آيَةٍ في سُورَةِ الأنْعَامِ يَوْماً وَلَيْلَةً».
501
Icon