تفسير سورة الجمعة

فتح البيان
تفسير سورة سورة الجمعة من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن المعروف بـفتح البيان .
لمؤلفه صديق حسن خان . المتوفي سنة 1307 هـ
سورة الجمعة
إحدى عشر آية بلا خلاف، وهي مدنية
قال القرطبي : في قول الجميع، قال ابن عباس : نزلت بالمدينة، وعن ابن الزبير مثله، وأخرج مسلم وأهل السنن.
" عن أبي هريرة : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الجمعة سورة الجمعة. و ﴿ إذا جاءك المنافقون ﴾ "، وأخرجوا عن ابن عباس نحوه، وأخرج ابن حبان والبيهقي في سننه.
" عن جابر بن سمرة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة المغرب ليلة الجمعة :﴿ قل يا أيها الكافرون ﴾، و ﴿ قل هو الله أحد ﴾، وكان يقرأ في صلاة العشاء الآخرة ليلة الجمعة سورة الجمعة والمنافقون ".

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) أي ينزهه فاللام زائدة، وفي ذكر (مَا) تغليب للأكثر وهو ما لا يعقل، وقال النسفي رحمه الله: التسبيح إما أن يكون تسبيح خلقه، يعني إذا نظرت إلى كل شيء دلتك خلقته على وحدانية الله وتنزيهه عن الأشياء، أو تسبيح معرفة بأن يجعل الله بلطفه في كل شيء ما يعرف به الله تعالى وينزهه، ألا ترى إلى قوله تعالى: (وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم)؟ أو تسبيح ضرورة بأن يجري الله التسبيح على كل جوهر من غير معرفة له بذلك.
(الملك القدوس العزيز الحكيم) قرأ الجمهور بالجر في هذه الصفات الأربع على أنها نعت لله، وقيل: على البدل، والأول أولى، وقرىء بالرفع على إضمار مبتدأ، وقرأوا القدوس بضم القاف وقرىء بفتحها، وقد تقدم تفسيره عن ميسرة أن هذه الآية يعني أول سورة الجمعة مكتوبة في التوراة بسبعمائة آية.
(هو الذي بعث) أرسل (في الأميين) أي إليهم والمراد بهم العرب من كان يحسن الكتابة منهم، ومن لا يحسنها لأنهم لم يكونوا أهل كتاب، والأمي في الأصل الذي لا يكتب ولا يقرأ المكتوب، وكان غالب العرب
129
كذلك، وقال النسفي: الأمي منسوب إلى أمة العرب لأنهم كانوا لا يكتبون ولا يقرأون من بين الأمم، وقيل: بدأت الكتابة بالطائف وهم أخذوها من أهل الحيرة، وأهل الحيرة من أهل الأنبار انتهى.
و" عن ابن عمر عن النبي ﷺ قال: إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب " أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.
(رسولاً منهم) أي من أنفسهم ومن جنسهم ومن جملتهم، كما قوله: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) وما كان حي من أحياء العرب إلا ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيهم قرابة، وقد والوه، ووجه الامتنان بكونه منهم أن ذلك أقرب إلى الموافقة لأن الجنس أميل إلى جنسه وأقرب إليه، وقيل: أمياً مثلهم وإنما كان أمياً لأن نعته في كتب الأنبياء النبي الأمي وكونه بهذه الصفة أبعد من توهم الاستعانة بالكتابة على ما أتى به من الوحي، والحكمة، ولكون حاله مشاكلة لحال أمته الذين بعث فيهم، وذلك أقرب إلى صدقه، والاقتصار هنا في المبعوث إليهم على الأميين لا ينافي أنه مرسل إلى غيرهم لأن ذلك مستفاد من دليل آخر كقوله: (وما أرسلناك إلا كافة للناس).
(يتلو عليهم آياته) يعني القرآن مع كونه أمياً لا يقرأ ولا يكتب. ولا تعلم ذلك من أحد والجملة حال أو نعت لـ (رسولاً) وكذا قوله: (ويزكيهم) أي يطهرهم من دنس الكفر والذنوب قاله ابن جريج ومقاتل، وقيل: من الشرك وخبائث الجاهلية، وقال السدي: يأخذ زكاة أموالهم، وقيل: يجعلهم أزكياء القلوب بالإيمان، وقال الكرخي: يحملهم على ما يصيرون به أزكياء من حيث العقائد.
(ويعلمهم الكتاب والحكمة) الجملة صفة ثالثة لـ (رسولاً)، والمراد
130
بالكتاب القرآن وبالحكمة السنة كذا قال الحسن وقيل: الكتاب الخط بالقلم والحكمة الفقه في الدين، كذا قال مالك بن أنس، وقيل: المراد بالكتاب الفرائض (وإن كانوا من قبل) أي من قبل بعثته فيهم، ومجيئه إليهم (لفي ضلال مبين) أي في شرك وذهاب عن الحق وكفر وجهالة، وإن مخففة من الثقيلة واللام دليل عليها أي كانوا في ضلال واضح لا ترى ضلالاً أعظم منه.
131
(وآخرين منهم) مجرور عطفاً على الأميين، أي بعثه في الأميين الذين على عهده، وبعثه في آخرين منهم، أو منصوب عطفاً على الضمير المنصوب في يعلمهم، أي ويعلم آخرين، وكل من يعلم شريعة محمد ﷺ إلى آخر الزمان، فرسول الله ﷺ معلمه بالقوة لأنه أصل ذلك الخير العظيم، والفضل الجسيم، أو عطفاً على مفعول يزكيهم أي يزكيهم ويزكي آخرين والمراد بالآخرين من جاء بعد الصحابة إلى يوم القيامة، وقيل: المراد بهم من أسلم من غير العرب، وقال عكرمة: هم التابعون، وقال مجاهد: الناس كلهم وكذا قال ابن زيد والسدي.
(لما يلحقوا بهم) ذلك الوقت وسيلحقون بهم من بعد، وقيل: في السبق إلى الإسلام والشرف والدرجة وهذا النفي مستمر دائماً لأن الصحابة لا يلحقهم ولا يساويهم في شأنهم أحد من التابعين، ولا ممن بعدهم، فالمنفي هنا غير متوقع الحصول، ولذلك لما ورد عليه أن لما تنفي ما هو متوقع الحصول، والمنفي هنا ليس كذلك، فسرها المحلي بلم التي منفيها أعم من أن يكون متوقع الحصول أولاً فـ (لما) هنا ليست على بابها، والضمير في بهم ومنهم راجع إلى الأميين، وهذا يؤيد أن المراد بالآخرين هم من يأتي بعد الصحابة من العرب خاصة إلى يوم القيامة، وهو ﷺ وإن كان مرسلاً إلى جميع الثقلين فتخصيص العرب هنا لقصد الامتنان عليهم، وذلك لا ينافي عموم الرسالة ويجوز أن يراد بالآخرين العجم لأنهم
131
وإن لم يكونوا من العرب فقد صاروا بالإسلام مثلهم، والمسلمون كلهم أمة واحدة، وإن اختلفت أجناسهم.
و" عن أبي هريرة قال كنا جلوساً عند النبي ﷺ حين نزلت سورة الجمعة فتلاها، فلما بلغ (وآخرين منهم لما يلحقوا بهم) قال له رجل: يا رسول الله من هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا؟ فوضع يده على سلمان الفارسي وقال: والذي نفسي بيده لو كان الإيمان بالثريا لناله رجال من هؤلاء " أخرجه البخاري وغيره، وأخرجه أيضاًً مسلم من حديثه مرفوعاً بلفظ: لو كان الإيمان عند الثريا لذهب به رجال من فارس أو قال من أبناء فارس.
وعن قيس بن سعد بن عبادة أن رسول الله ﷺ قال: لو كان الإيمان بالثريا لناله ناس من أهل فارس "، أخرجه سعيد بن منصور وابن مردويه.
و" عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن في أصلاب أصلاب رجال من أصحابي رجالاً ونساء من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب، ثم قرأ (وآخرين منهم لما يلحقوا بهم) ".
(وهو العزيز الحكيم) أي بليغ العزة والحكمة، في تمكينه رجلاً أمياً من ذلك الأمر العظيم، وتأييده عليه، واختياره إياه من بين كافة البشر.
132
(ذلك) أي ما تقدم ذكره أو الإسلام قاله الكلبي أو الوحي والنبوة قاله قتادة أو إلحاق العجم بالعرب أو الدين قاله ابن عباس، والفضل الذي أعطاه محمداً ﷺ وهو أن يكون نبي أبناء عصره، ونبي أبناء العصور الغوابر قاله النسفي (فضل الله يؤتيه) أي يعطيه (من يشاء) إعطاءه، وتقتضيه حكمته (والله ذو الفضل العظيم) الذي لا يساويه فضل ولا يدانيه، ولما ترك اليهود العمل بالتوراة، ولم يؤمنوا بمحمد في صلى الله عليه وسلم، ضرب الله لهم مثلاً فقال:
(مثل الذين حملوا التوراة) أي كلفوا القيام بها والعمل بما فيها، وقال الجرجاني: حملوا من الحملة بمعنى الكفالة، لا من الحمل على الظهر، والحميل هو الكفيل أي ضمنوا أحكام التوراة (ثم لم يحملوها) أي لم يعملوا بموجبها، ولا أطاعوا ما أمروا به فيها، ولم يؤدوا حقها (كمثل الحمار) الذي هو أبلد الحيوان فخص بالذكر، لأنه في غاية الغباوة.
(يحمل أسفاراً) حال أو صفة للحمار، إذ ليس المراد به حماراً معيناً، فهو حكم النكرة، إذ المراد به الجنس، وقرأ المأمون بن هرون الرشيد يحمل مشدداً مبنياً للمفعول، والأسفار جمع سفر، وهو الكتاب الكبير، لأنه يسفر عن المعنى إذا قرىء قال ابن عباس: أسفاراً كتباً أي كباراً من كتب العلم، قال ميمون بن مهران: الحمار لا يدري أسفر على ظهره أم زبل، فهكذا اليهود، وكل من علم ولم يعمل بعلمه فهذا مثله، وهذا المثل يلحق من لم يفهم معاني القرآن ولم يعمل بما فيه وأعرض عنه إعراض من لا يحتاج إليه، ولهذا قال ميمون بن مهران: يا أهل القرون اتبعوا القرآن قبل أن يتبعكم، ثم تلا هذه الآية ثم ذم هذا المثل، والمراد منه ذمهم فقال:
(بئس) مثلاً (مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله) على أن التمييز محذوف والفاعل المفسر به مضمر، ومثل القوم هو المخصوص بالذم، أو مثل القوم فاعل بئس، والمخصوص بالذم الموصول بعده على حذف المضاف، أي مثل الذين كذبوا ويجوز أن يكون الموصول صفة للقوم، فيكون في محل جر، والمخصوص بالذم محذوف، والتقدير بئس مثل القوم المكذبين، مثل هؤلاء والمراد بالآيات محمد صلى الله عليه وسلم، وما أتى به من آيات القرآن وقيل: المراد آيات التوراة لأنهم كذبوا بها حين تركوا الإيمان بمحمد ﷺ (والله لا يهدي القوم الظالمين) يعني الكافرين على العموم، فيدخل فيهم اليهود دخولاً أولياً والمراد بهم الذين سبق في علمه أنهم لا يؤمنون، وإلا فقد هدى كثيراً من الكفار.
133
قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٦) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١)
134
(قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا) المراد بهم الذين تهودوا وتدينوا باليهودية، وهي ملة موسى عليه السلام، وذلك أن اليهود ادعوا الفضيلة على الناس، وقالوا: إنهم أولياء الله من دونهم، كما في قولهم: (نحن أبناء الله وأحباؤه) وقولهم: (لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً)، فأمر الله سبحانه رسوله ﷺ أن يقول لهم لما ادعوا هذه الدعوى الباطلة؛ (إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس) والولي يؤثر الآخرة ومبدأها وطريقها الموت.
(فتمنوا الموت) لتصيروا إلى ما تصيرون إليه من الكرامة في زعمكم، قرأ الجمهور بضم الواو وقرىء بفتحها تخفيفاً، وحكى الكسائي: إبدال الواو همزة (إن كنتم صادقين) في هذا الزعم فإن من علم أنه من أهل الجنة أحب الخلوص من هذه الدار ثم أخبر سبحانه بما سيكون منهم في المستقبل من أنهم لا يفعلون ذلك أبداً بسبب ذنوبهم، فقال:
(ولا يتمنونه أبداً بما قدمت أيديهم) أي بسبب ما عملوا من الكفر
134
والمعاصي، الموجبة لدخول النار والتحريف والتبديل، قال الزمخشري: ولا فرق بين لا ولن في أن كل واحدة منهما نفي للمستقبل، إلا أن في لن تأكيداً وتشديداً ليس في لا فأتى مرة بلفظ التأكيد في (ولن يتمنوه)، ومرة بغير لفظه في (ولا يتمنونه) قال أبو حيان: وهذا رجوع منه عن مذهبه وهو أن لن تقتضي النفي على التأبيد إلى مذهب الجماعة، وهو أنها لا تقتضيه، قلت: ليس فيه رجوع، غاية ما فيه أنه سكت عنه، وتشريكه بين لا ولن في نفي المستقبل لا ينفي اختصاص لن بمعنى آخر.
(والله عليم بالظالمين) يعني على العموم، وهؤلاء اليهود داخلون فيهم دخولا أولياً، ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يقول لهم: إن الفرار من الموت لا ينجيهم، وأنه نازل بهم فقال:
135
(قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم) لا محالة، ونازل بكم بلا شك، والفاء في فإنه داخلة لتضمن الاسم معنى الشرط، قال الزجاج: لا يقال إن زيداً فمنطلق، وههنا قال: فإنه ملاقيكم لما في معنى الذي من الشرط والجزاء، أي إن فررتم منه فإنه ملاقيكم، ويكون مبالغة في الدلالة على أنه لا ينفع الفرار منه، وقيل: إنها مزيدة محضة لا للتضمن المذكور، وقيل: إن الكلام قد تم عند قوله: (تفرون منه) ثم ابتدأ فقال: (فإنه ملاقيكم)، ولما كان المقام في البرزخ أمراً مهولاً لا بد منه نبه عليه وعلى طوله، بأداة التراخي فقال:
(ثم تردون إلى عالم الغيب) السر (والشهادة) العلانية وذلك يوم القيامة (فينبئكم بما كنتم تعملون) من الأعمال القبيحة ويجازيكم عليها، وفيه وعيد وتهديد.
(يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة) أي وقع النداء لها، والمراد به الأذان إذا جلس الخطيب على المنبر يوم الجمعة، لأنه لم يكن على عهد رسول الله ﷺ نداء سواه، ثم كان أبو بكر وعمر وعلي بالكوفة على
135
ذلك حتى كان عثمان وكثر الناس وتباعدت المنازل زاد أذاناً آخر، فأمر بالتأذين أولاً على داره التي تسمى الزوراء، فإذا سمعوا أقبلوا حتى إذا جلس على المنبر أذن المؤذن ثانياً، ولم يخالفه أحد في ذلك الوقت.
" لقوله صلى الله عليه وسلم: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ".
(من يوم الجمعة) بيان لإذا وتفسير لها قاله الزمخشري، وقال أبو البقاء إن من بمعنى في كما في قوله: (أروني ماذا خلقوا من الأرض) أي في الأرض وجمع الكواشي بينهما، وقرأ الجمهور الجمعة بضم الميم وقرىء بإسكانها تخفيفاً، وهما لغتان، وجمعها جمع وجمعات قال الفراء: يقال الجمعة بسكون الميم وبفتحها وبضمها، وهي صفة لليوم، أي يوم يجمع الناس وقال الفراء أيضاًً وأبو عبيدة: التخفيف أخف وأقيس، نحو غرفة وغرف؛ وطرفة وطرف، وحجرة وحجر وفتح الميم لغة عقيل، وقيل: إنما سميت جمعة لأن الله سبحانه جمع فيها خلق آدم، وقيل: لأن الله تعالى فرغ فيها من خلق كل شيء، فاجتمعت فيها جميع المخلوقات وقيل: لاجتماع الناس فيها للصلاة.
" وعن أبي هريرة قال: قلت: يا رسول الله لأي شيء سمي يوم الجمعة؟ قال لأن فيه جمعت طينة أبيكم آدم، وفيه الصعقة والبعثة، وفي آخره ثلاث ساعات منها ساعة من دعا الله فيها بدعوة استجاب له "، أخرجه سعيد بن منصور، وابن مردويه.
و" عن سلمان قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتدري ما يوم الجمعة؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قالها ثلاث مرات، ثم قال في الثالثة: هو اليوم الذي جمع الله فيه أباكم آدم، أفلا أحدثكم عن يوم الجمعة "؟ الحديث رواه أحمد والنسائي وسعيد بن منصور وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه.
و" عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير يوم
136
طلعت فيه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة " أخرجه أحمد ومسلم والترمذي وابن مردويه وفي الباب أحاديث مصرحة بأنه خلق فيه آدم، وورد في فضل يوم الجمعة أحاديث كثيرة، وكذلك في فضل صلاة الجمعة وعظيم أجرها، وفي الساعة التي فيها وأنه يستجاب الدعاء فيها.
وقد أوضح شيخنا الشوكاني في شرحه المنتقى بما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره.
وأول جمعة جمعها رسول الله ﷺ في دار لبني سالم بن عوف وذلك أنه لما قدم المدينة نزل بقباء، وأقام بها إلى الجمعة، ثم دخل المدينة وصلى الجمعة في تلك الدار، والجمعة فريضة من فرائض الله بهذا النص من كتاب الله، وبما صح في السنة المطهرة، وهي الكثير الطيب، وقد واظب عليها النبي ﷺ من الوقت الذي شرعه الله تعالى فيه إلى أن قبضه، وحكى ابن المنذر الإجماع على أنها فرض عين، وزاد ابن العربي: ومن نازع في فرضية الجمعة فقد أخطأ ولم يصب، وهي كسائر الصلوات لا يخالفها إلا في مشروعية الخطبتين قبلها، ومن تأمل فيما وقع في هذه العبادة الفاضلة من الأقوال الساقطة، والمذاهب الزائغة، والاجتهادات الداحضة، قضى من ذلك العجب.
ولا يوجد في كتاب الله ولا في سنة رسوله حرف واحد يدل على ما ادعوه من كون تلك الأمور كالمصر الجامع، والعدد المخصوص، والإمام الأعظم، والحمام ونحوها، شروطاً لصحة الجمعة أو فرضاً من فرائضها، أو ركناً من أركانها فيالله العجب ما يفعل الرأي بأهله، ومن يخرج من رؤوسهم هذه الخزعبيلات الشبيهة بالقصص، والأحاديث الملفقة، وهي عن الشريعة المطهرة بمعزل، وكل من ثبت قدمه ولم يتزلزل عن طريق الحق بالقيل والقال يعرف هذا أحسن المعرفة، ومن جاء بالغلط فغلطه رد عليه، مضروب به في
137
وجهه، وتفصيل ذلك في النيل والسيل للشوكاني.
هذا وقد قال الشيخ الرحماني في حاشيته على التحرير: إن أفضل الليالي ليلة المولد، ثم ليلة القدر ثم ليلة الإسراء فعرفة، فالجمعة، فنصف شعبان، فالعيد، وأفضل الأيام يوم عرفة، ثم يوم نصف شعبان، ثم يوم الجمعة، والليل أفضل من النهار.
(فاسعوا إلى ذكر الله) قال عطاء: يعني الذهاب والمشي إلى الصلاة، وقال الفراء: المضي والسعي والذهاب في معنى واحد، ويدل على ذلك قراءة عمر بن الخطاب وابن مسعود رضي الله عنهما: فامضوا إلى ذكر الله، كما سيجيء وقيل: المراد القصد، قال الحسن: والله ما هو سعي على الأقدام، ولكنه قصد بالقلوب والنيات. وقيل: المراد به السعي على الأقدام، وذلك فضيلة وليس بشرط، والأول أولى، وقيل: هو العمل قال ابن عباس: يعني ليس المراد به السرعة في المشي، كقوله: (من أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن) وقوله: (إن سعيكم لشتى) وقوله: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى)، وقول الداعي: وإليك نسعى ونحفد.
قال القرطبي: وهذا قول الجمهور، أي فاعملوا على المضي إلى ذكر الله واشتغلوا بأسبابه من الغسل والوضوء والتوجه إليه، وعن خرشة بن الحر قال رأى معي عمر بن الخطاب لوحاً مكتوباً فيه: (فامضوا إلى ذكر الله) فقال: من أملى عليك هذا؟ قلت: أبيّ بن كعب قال: إن أبياً أقرأنا المنسوخ أقرأها فامضوا إلى ذكر الله؟ رواه ابن المنذر وابن الأنباري وابن أبي شيبة وأبو عبيدة في فضائله وسعيد بن منصور.
وروى هؤلاء غير أبي عبيد.
" عن ابن عمر قال: لقد توفي رسول الله ﷺ وما نقرأ هذه الآية التي هي في سورة الجمعة إلا: فامضوا إلى ذكر الله "، وأخرجه عنه أيضاًً الشافعي في الأم، وعبد الرزاق والفريابي وابن جرير وابن أبي حاتم،
138
وأخرجوا كلهم أيضاًً عن ابن مسعود أنه كان يقرأ: فامضوا إلى ذكر الله. قال: ولو كان فاسعوا لسعيت حتى يسقط ردائي، وعن أبيّ أنه قرأ كذلك، والمراد من ذكر الله هنا صلاة الجمعة، وقيل: موعظة الإمام، والأول أولى، وقال الجمهور: الخطبة. وبه استدل أبو حنيفة على أن الخطيب إذا اقتصر على الحمد لله جاز.
" وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة، وعليكم السكينة والوقار، ولا تسرعوا، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا " أخرجه البخاري ومسلم، وهذا الحديث يعم كل صلاة ويدخل فيه صلاة الجمعة، فهو كالتفسير للآية.
(وذروا البيع) أي اتركوا المعاملة به ويلحق به سائر المعاملات أو اتركوا عنده بتمامه، فالخطاب لكل من البائع والمشتري، قال الحسن: إذا أذن المؤذن يوم الجمعة لم يحل الشراء والبيع.
" عن محمد بن كعب أن رجلين من أصحاب النبي ﷺ كانا يختلفان في تجارتهما إلى الشام، فربما قدما يوم الجمعة ورسول الله ﷺ يخطب، فيدعونه ويقومون، فنزلت الآية: (وذروا البيع) فحرم عليهم ما كان قبل ذلك "، أخرجه عبد بن حميد، والمراد بالآية ترك ما يذهل عن ذكر الله من شواغل الدنيا وإنما خص البيع من بينها لأن يوم الجمعة يتكاثر فيه البيع والشراء عند الزوال فقيل لهم: بادروا تجارة الآخرة واتركوا تجارة الدنيا واسعوا إلى ذكر الله الذي لا شيء أنفع منه وأربح وذروا البيع الذي نفعه يسير.
(ذلكم) أي السعي إلى ذكر الله وترك البيع (خير لكم) من البيع والتكسب في ذلك الوقت لما في الامتثال من الأجر والجزاء وفي عدمه من عدم ذلك إذا لم يكن موجباً للعقوبة وتمسك بهذا الشافعية في أن البيع وقت أذان الخطبة إلى انقضاء الصلاة صحيح مع الحرمة، قال في الكشاف: عامة العلماء
139
على أن ذلك لا يوجب الفساد، لأن البيع لم يحرم لعينه بل لما فيه من التشاغل عن الصلاة، فهو كالصلاة في الأرض المغصوبة، وقال مالك: ما وقع في الوقت المذكور يفسخ، وكذا سائر العقود (إن كنتم تعلمون) أي إن كنتم من أهل العلم، فإنه لا يخفى عليكم أن ذلكم خير لكم من مصالح أنفسكم.
140
(فإذا قضيت الصلاة) أي إذا فعلتم الصلاة وأديتموها، وفرغتم منها (فانتشروا في الأرض) للتجارة فيما تحتاجون إليه من أمر معاشكم، والأمر للإباحة (وابتغوا) أي أطلبوا (من فضل الله) أن من رزقه الذي يتفضل به على عباده، بما يحصل لهم من الأرباح في المعاملات والمكاسب وقيل: المراد به ابتغاء ما عند الله من الأجر، بعمل الطاعات، واجتناب ما لا يحل، وقيل: هو طلب العلم.
" عن أنس قال: قال رسول الله ﷺ في الآية ليس بطلب دنيا، ولكن عيادة مريض، وحضور جنازة، وزيارة أخ في الله أخرجه ابن جرير.
وعن ابن عباس قال: لم يؤمروا بشيء من طلب الدنيا، إنما هو عيادة مريض، وحضور جنازة وزيارة أخ في الله، وعن عراك بن مالك: أنه كان إذا صلى الجمعة انصرف، فوقف على باب المسجد وقال: اللهم أجبت دعوتك، وصليت فريضتك، وانتشرت كما أمرتني، فارزقني من فضلك، وأنت خير الرازقين.
(واذكروا الله) ذكراً (كثيراً) بالشكر له على ما هداكم إليه من الخير الأخروي والدنيوي، وكذا اذكروه بما يقربكم إليه من الأذكار، كالحمد والتسبيح والتكبير والاستغفار ونحو ذلك، ولا تقصروا ذكره على حالة الصلاة (لعلكم تفلحون) أي لكي تفوزوا بخيري الدارين وتظفروا بهما.
(وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها) سبب نزول هذه الآية أنه كان
140
بأهل المدينة فاقة وحاجة، فأقبلت عير الشام، وضرب لقدومها الطبل، والنبي ﷺ يخطب يوم الجمعة، فانفتل الناس إليها حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلاً في المسجد كما سيجيء، قال قتادة: بلغنا أنهم فعلوا ذلك ثلاث مرات، كل مرة تقدم العير من الشام، ويوافق قدومها يوم الجمعة وقت الخطبة، وقيل ضربه أهل المدينة على العادة في أنهم كانوا يستقبلونها بالطبل والتصفيق، أو ضربه أهل القادم بها أقوال ثلاثة حكاها الخطيب.
ومعنى انفضوا تفرقوا خارجين إليها، وقال المبرد: مالوا إليها والضمير للتجارة وخصت بإرجاع الضمير إليها دون اللهو، لأنها كانت أهم عندهم، وقيل: التقدير وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها أو لهواً انفضوا إليه، فحذف الثاني لدلالة الأول عليه، وقيل: إنه اقتصر على ضمير التجارة لأن الانفضاض إليها إذا كان مذموماً مع الحاجة إليها فكيف بالانفضاض إلى اللهو؟ وقيل غير ذلك.
(وتركوك) في الخطبة (قائماً) على المنبر، أخرج البخاري ومسلم وغيرهما.
" عن جابر بن عبد الله قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم، يخطب يوم الجمعة قائماً إذ قدمت عير المدينة فابتدرها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، حتى لم يبق منهم إلا اثنا عشر رجلاً أنا فيهم وأبو بكر وعمر، فأنزل الله: (وإذا رأوا تجارة) إلى آخر السورة "، " وعن ابن عباس في الآية قال جاءت عير عبد الرحمن بن عوف تحمل الطعام فخرجوا من الجمعة بعضهم يريد أن يشتري، وبعضهم يريد أن ينظر إلى دحية بن خليفة الكلبي، وتركوا رسول الله ﷺ قائماً على المنبر، وبقي في المسجد اثنا عشر رجلاً، وسبع نسوة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لو خرج كلهم لاضطرم عليهم المسجد ناراً " أخرجه عبد بن حميد.
وفي الباب روايات متضمنة لهذا المعنى، عن جماعة من الصحابة وغيرهم، والذي سوغ لهم الخروج وترك رسول الله ﷺ يخطب أنهم ظنوا أن الخروج بعد تمام الصلاة جائز لانقضاء المقصود وهو
141
الصلاة، لأنه كان ﷺ أول الإسلام يصلي الجمعة قبل الخطبة كالعيدين، فلما وقعت هذه الوقعة، ونزلت الآية قدم الخطبة وأخر الصلاة.
" وعن ابن عمر قال: كان النبي ﷺ يخطب خطبتين يقعد بينهما " أخرجه الشيخان، وفيه دليل على أن الخطيب ينبغي أن يخطب قائماً، واتفقوا على أن هذا القيام كان في الخطبة للجمعة.
ثم أمره الله سبحانه أن يخبرهم بأن العمل للآخرة خير من العمل للدنيا، فقال: قل لهم تأديباً وزجراً لهم عن العود لمثل هذا الفعل:
(ما عند الله) من الجزاء العظيم على الثبات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الجنة (خير من اللهو ومن التجارة) اللذين ذهبتم إليهما، وتركتم البقاء في المسجد، وسماع خطبة النبي ﷺ لأجلها، وإنما كان خيراً لأنه محقق مخلد، بخلاف ما يتوهمونه من نفع التجارة واللهو، إذ نفع اللهو ليس بمحقق ونفع التجارة ليس بمخلد، ومنه يعلم وجه تقديم اللهو، فإن الأعدام تقدم على الملكات.
(والله خير الرازقين) فمنه اطلبوا الرزق، وإليه توسلوا بعمل الطاعة فإن ذلك من أسباب تحصيل الرزق، وأعظم ما يجلبه. وتعددهم إنما هو على سبيل المجاز، من حيث إنه يقال: كل إنسان يرزق عائلته، أي من رزق الله تعالى، وإلا فالرازق بالحقيقة هو الله وحده.
142
سورة المنافقون
(هي إحدى عشرة آية بلا خلاف، وهي مدنية)
قال القرطبي: في قول الجميع، قال ابن عباس: نزلت بالمدينة، وعن ابن الزبير مثله.
وعن أبي هريرة قال: " كان رسول الله - ﷺ - يقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة، فيحرض بها المؤمنين، وفي الثانية بسورة المنافقين فيقرع بها المنافقين "، أخرجه سعيد بن منصور والطبراني في الأوسط قال السيوطي: بسند حسن، وأخرج البزار والطبراني عن أبي عتبة الخولاني مرفوعاً نحوه.
143

بسم الله الرحمن الرحيم

إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (١) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٢) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (٣) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٤) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٥) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (٦)
145
Icon