تفسير سورة البلد

فتح الرحمن في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة البلد من كتاب فتح الرحمن في تفسير القرآن المعروف بـفتح الرحمن في تفسير القرآن .
لمؤلفه مجير الدين العُلَيْمي . المتوفي سنة 928 هـ

سُورَةُ البَلَدِ
مكية في قول الجمهور، وقيل: مدنية، وآيها: عشرون آية، وحروفها: ثلاث مئة وستة وثلاثون حرفًا، وكلمها: اثنتان وثمانون كلمة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

﴿لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (١)﴾.
[١] ﴿لَاَ﴾ صلة زائدة مؤكدة، المعنى ﴿أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ﴾ يعني: مكة.
* * *
﴿وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (٢)﴾.
[٢] ﴿وَأَنْتَ حِلٌّ﴾ أي: حلال في المستقبل ﴿بِهَذَا الْبَلَدِ﴾ أي: تصنع فيه ما تريد من قتل وغيره، ليس عليك ما على الناس فيه من الإثم، وذلك أن الله سبحانه وعد نبيه - ﷺ - أن يفتح مكة على يده، وأن يحلها له، ففتحها، وأحلها الله له يوم الفتح حتى قاتل وقتل، وأمر بقتل ابن خَطَل وهو متلعق بأستار الكعبة، ومقبس بن صبابة، وغيرهما، فأحل دماء قوم، وحرم دماء قوم، فقال: "مَنْ دخلَ دارَ أبي سفيانَ فهو آمِنٌ"، ثم قال: "إنَّ اللهَ حرَّمَ مكة يومَ خلقَ السمواتِ والأرضَ، ولم تَحِلَّ لأحدٍ قبلي، ولن تحلَّ لأحدٍ بعدي، وإنما أُحِلَّتْ لي ساعةً من نهار، فهي حرامٌ بحرمةِ اللهِ إلى يومِ
القيامة" (١)، وتقدم ذكر اختلاف الأئمة في دخولها بغير إحرام في سورة البقرة، وتعطف على ﴿بِهَذَا الْبَلَدِ﴾.
﴿وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (٣)﴾.
[٣] ﴿وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ﴾ يعني: آدم -عليه السلام- وذريته، وقيل: الوالد إبراهيم، والولد محمد عليهما السلام، فتتضمن السورة القسمَ به في موضعين.
﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (٤)﴾.
[٤] وجواب القسم: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ﴾ المرادُ: جنسُ الإنسان.
﴿فِي كَبَدٍ﴾ نَصَبٍ وشدة، يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة.
﴿أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥)﴾.
[٥] ﴿أَيَحْسَبُ﴾ أي: أيظنُّ ﴿أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ﴾ لقوته. قرأ أبو جعفر، وابن عامر، وعاصم، وحمزة: (أَيَحْسَبُ) بفتح السين، والباقون: بكسرها (٢).
روي أن هذه الآية وما بعدها نزل في أبي الأَشَدَّين، واسمه أسيد بن
(١) تقدم تخريجه عند تفسير الآية (١٥) من سورة الأعلى.
(٢) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٣٦)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٤٣٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٨/ ١٥١).
كلدة الجمحي، وكان شديدًا قويًّا، يضع الأديمَ العُكاظي تحت قدمه فيقول: من أزالني عنه، فله كذا وكذا، فلا يُطاق أن يُنزع من تحت قدميه إلا قطعًا، ويبقى موضع قدمه، وقيل: نزلت في غيره (١).
...
﴿يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (٦)﴾.
[٦] ﴿يَقُولُ أَهْلَكْتُ﴾ أنفقتُ ﴿مَالًا لُبَدًا﴾ أي: كثيرًا في عداوة محمد - ﷺ -. قرأ أبو جعفر: (لُبَّدًا) بتشديد الباء على جمع اللابد، مثل راكِع ورُكَّع، وقرأ الباقون: بتخفيفها على جمع لبدة (٢) ومعناهما: الكثرة؛ أي: ملتبدًا بعضُه فوق بعض، وكان قول هذا الكافر: أهلكت مالًا لبدًا كذبًا منه، فلذلك قال تعالى:
...
﴿أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧)﴾.
[٧] ﴿أَيَحْسَبُ﴾ تقدم اختلاف القراء فيه، ﴿أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ﴾ أيظن أن الله عز وجل لم ير ذلك منه فيعلم مقدار ما أنفقه؟ قرأ أبو جعفر، ويعقوب: (يَرَهُ) باختلاس ضمة الهاء بخلاف عنهما، والباقون: بالإشباع (٣).
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٤/ ٦١٨)، و"تفسير الثعلبي" (١٠/ ٢٠٧).
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٤/ ٦١٨)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٤٠١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٨/ ١٥١).
(٣) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣١٠ - ٣١١)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٤٣٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٨/ ١٥٢).
﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨)﴾.
[٨] ثم عدد تعالى على الإنسان نعمه التي تقوم بها الحجة، وهي جوارحه، فقال: ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ﴾ يبصر بهما.
...
﴿وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (٩)﴾.
[٩] ﴿وَلِسَانًا﴾ يتكلم به ﴿وَشَفَتَيْنِ﴾ يطبقهما على لسانه إذا أراد السكوت.
...
﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (١٠)﴾.
[١٠] ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ بَيَّنا له طريق الخير والشر، وهذا قول الأكثر، والنجد: الطريق المرتفع، وقيل: المراد: ثَدْيا الأم.
...
﴿فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١)﴾.
[١١] ﴿فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ﴾ فهلَّا سلك الطريق التي فيها النجاةُ، والعقبة في هذه الآية على عرف كلام العرب: استعارةٌ لهذا العمل الشاق على النفس، من حيث هو بذل مال، تشبيه بعقبة الجبل، وهي ما صَعُب منه، وكان صعودًا، والاقتحام: الدخول في الشيء بشدة.
...
﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢)﴾.
[١٢] ثم بين ما هي، وعظم أمرها في النفوس، فقال: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ﴾.
﴿فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣)﴾.
[١٣] ثم فسر اقتحام العقبة بقوله: ﴿فَكُّ رَقَبَةٍ﴾ أعتقَها، ومن أعتقَ رقبةً، كان فداءه من النار.
...
﴿أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤)﴾.
[١٤] ﴿أَوْ إِطْعَامٌ﴾ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي: (فَكَّ) بفتح الكاف، (رَقَبَةً) بالنصب، (أَطْعَمَ) بفتح الهمزة والميم من غير تنوين ولا ألف قبلها، فعلان ماضيان، (فَفَكَّ رَقَبَةً) تفسير (لاقْتَحَمَ العَقَبَةَ)، و (أَطْعَمَ) عطف على (فَكَّ)، ويكون (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ) اعتراضًا. وقرأ الباقون: برفع (فَكُّ) وخفض (رَقَبَةٍ) لإضافة (فَكُّ) إليها؛ لأنه مصدر مضاف إلى المفعول، (إِطْعَامٌ) بكسر الهمزة ورفع الميم مع التنوين وألف قبلها عطفًا على (فَكُّ) مصدر أَطْعَمَ (١).
﴿فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ﴾ أي: مجاعة؛ من سَغِبَ: جاعَ.
...
﴿يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (١٥)﴾.
[١٥] ﴿يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ﴾ صاحبَ قرابة.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٦٨٦)، و"التيسير" للداني (ص: ٢٢٣)، و"تفسير البغوي" (٤/ ٦٢٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٨/ ١٥٢).
﴿أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (١٦)﴾.
[١٦] ﴿أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ﴾ أي: لصق بالتراب؛ لفقره، وتعطف على ﴿اقْتَحَمَ﴾:
...
﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧)﴾.
[١٧] ﴿ثُمَّ كَانَ﴾ ومعناه؛ أي: كان وقت اقتحامه العقبة.
﴿مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وليس المعنى أن يقتحم، ثم يكون بعد ذلك؛ لأن هذه القُرَب إنما تنفع مع الإيمان، والاقتحامُ من غيرُ مؤمن غير نافع.
﴿وَتَوَاصَوْا﴾ وصَّى بعضُهم بعضًا ﴿بِالصَّبْرِ﴾ على الإيمان، وعن المعاصي.
﴿وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ﴾ برحمة الناس.
...
﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (١٨)﴾.
[١٨] ﴿أُولَئِكَ﴾ الموصوفون بهذه الصفات ﴿أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ﴾ أي: اليمين.
...
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩)﴾.
[١٩] ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ﴾ الشمال.
***
﴿عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (٢٠)﴾.
[٢٠] ﴿عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ﴾ مطبقة عليهم أبوابها. قرأ أبو عمرو، ويعقوب، وحمزة، وخلف، وحفص عن عاصم: (مُؤْصَدَةٌ) بالهمز؛ من أَصَدْتُ البابَ: أطبقته، وقرأ الباقون: بإسكان الواو بغير همز (١)؛ من أوصدتُ ومعناهما واحد، والله أعلم.
* * *
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٢٢٣)، و"تفسير البغوي" (٤/ ٦٢١)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (١/ ٣٩٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٨/ ١٥٣ - ١٥٤).
Icon