تفسير سورة يونس

الكشاف أو تفسير الزمخشري
تفسير سورة سورة يونس من كتاب الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل المعروف بـالكشاف أو تفسير الزمخشري .
لمؤلفه الزمخشري . المتوفي سنة 538 هـ
مكية وهي مائة وتسع آيات

سورة يونس
(مكية، [إلا الآيات ٤٠ و ٩٤ و ٩٥ و ٩٦ فمدنية] وهي مائة وتسع آيات [نزلت بعد الإسراء] ) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة يونس (١٠) : الآيات ١ الى ٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (١) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (٢)
الر تعديد للحروف على طريق التحدي. وتِلْكَ آياتُ الْكِتابِ إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات والكتاب السورة. والْحَكِيمِ ذو الحكمة لاشتماله عليها ونطقه بها.
أو وصف بصفة محدثة. قال الأعشى:
وَغَرِيبَةٍ تَأْتِى المُلُوكَ حَكِيمَة قَدْ قُلْتُهَا لِيُقَالَ مَنْ ذَا قَالَهَا «١»
الهمزة لإنكار التعجب والتعجيب منه. وأَنْ أَوْحَيْنا اسم كان، وعجباً: خبرها. وقرأ ابن مسعود: عجب، فجعله اسماء وهو نكرة وأَنْ أَوْحَيْنا خبراً وهو معرفة، كقوله:
يَكُونُ مِزَاجَهَا عَسَلٌ وَمَاء «٢»
(١). للأعشى. أى: ورب قصيدة غريبة حكيمة ناطقة بالحكمة دالة عليها، أو حكيم قائلها، فهو من الاسناد للسبب، لأنها سبب في وصف قائلها بالحكمة. قد قلتها ليتعجب الناس ويقولوا من هذا الشاعر البليغ الذي قالها. وذا: اسم إشارة في لغة الحجاز، واسم موصول في لغة طيئ، وهي أقرب هنا، فجملة «قالها» صلة الموصول. [.....]
(٢).
كأن سلافة من بيت رأس يكون مزاجها عسل وماء
على أنيابها أو طعم غصن من التفاح هصره اجتناء
لحسان بن ثابت قبل تحريم الخمر. والسلافة: أول ما يسيل من ماء العنب. ويروى «سبيئة» أى مشتراة. يقال:
سبأ الخمر كنصر، إذا اشتراها. ويروى خبيئة: أى مصونة في الخابية. وبيت رأس: قرية بالشام. وقيل:
المراد بالرأس الرئيس، وشرابها أطيب من غيره، و «مزاجها» خبر يكون مع أنه معرفة. و «عسل» اسمها مع أنه نكرة، وكان القياس العكس فقلب للضرورة. وجوزه ابن مالك في معمول «كان» و «إن» فلا قلب. وقال الفارسي:
إن انتصاب مزاجها على الظرفية المجازية. وروى برفع الكلمات الثلاث، على أن اسم كان ضمير الشأن. وقول ابن السيد: بزيادة «كان» هنا: غير مرضى، لأن زيادة المضارع لا ترتكب إلا عند الضرورة، ويروى بنصب العسل فقط، فهو خبر ورفع ماء. بتقدير: وخالطها ماء. وجملة الكون صفة سلافة. وعلى أنيابها: خبر «كأن» الشدة. والمزاج: ما يمزج به غيره. والمراد بالأنياب: الثغر كله. والغض: الطري الرطب. والهصر: عطف الغصن وإمالته إليك من غير إبانة لتجنى ثمره. والتهصير: مبالغة فيه. وروى «الجناء» بدل «الاجتناء».
وهو بالقصر مصدر. لكن مد هنا ضرورة. وإسناد التهصير إلى ذلك مجاز عقلى، من باب الاسناد للسبب.
وإيقاعه على التفاح على تقدير مضاف، أى: هصر غصنه. ويروى: أو طعم غصن، فلا تجوز في تهصيره. لكن إضافة طعم إليه على تقدير مضاف. أى طعم ثمر غصن، شبه ريقها بالخمر الجيدة وطعمه بطعم تفاح ميل غصته الجاني ليجتنيه، إشارة إلى أنه مجنى الآن لم يمض عليه شيء من الزمان، وتلويحا لتشبيه محبوبته بالأغصان في الرفة واللين والميلان.
326
والأجود أن تكون «كان» تامّة، وأن أوحينا بدلا من عجب. فإن قلت: فما معنى اللام في قوله أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً؟ وما هو الفرق بينه وبين قولك: أكان عند الناس عجباً؟ قلت: معناه أنهم جعلوه لهم أعجوبة يتعجبون منها، ونصبوه علماً لهم يوجهون نحوه استهزاءهم وإنكارهم، وليس في عند الناس هذا المعنى، والذي تعجبوا منه أن يوحى إلى بشر، وأن يكون رجلا من أفناء رجالهم «١» دون عظيم من عظمائهم، فقد كانوا يقولون: العجب أنّ الله لم يجد رسولا يرسله إلى الناس إلا يتيم أبى طالب، وأن يذكر لهم البعث وينذر بالنار ويبشر بالجنة، وكل واحد من هذه الأمور ليس بعجب، لأنّ الرسل المبعوثين إلى الأمم لم يكونوا إلا بشر مثلهم. وقال الله تعالى قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا وإرسال الفقير أو اليتيم ليس بعجب أيضاً، لأنّ الله تعالى إنما يختار من استحق الاختيار، لجمعه أسباب الاستقلال بما اختير له من النبوّة. والغنى والتقدّم في الدنيا ليس من تلك الأسباب في شيء وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى والبعث للجزاء على الخير والشر هو الحكمة العظمى، فكيف يكون عجباً؟ إنما العجب العجيب والمنكر في العقول تعطيل الجزاء أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ أن هي المفسرة، لأنّ الإيحاء فيه معنى القول. ويجوز أن تكون المخففة من الثقيلة، وأصله: أنه أنذر الناس، على معنى: أن الشأن قولنا أنذر الناس. وأَنَّ لَهُمْ الباء معه محذوف قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ أى سابقة وفضلا ومنزلة رفيعة «٢». فإن قلت: لم سميت السابقة
(١). قوله «من أفناء رجالهم» في الصحاح: يقال هو من أفناء الناس، إذا لم يعلم ممن هو. (ع)
(٢). قال محمود: «أى سابقة وفضلا ومنزلة رفيعة... الخ» قال أحمد: ولم يرد في سابقة السوء تسميتها قدما، إما لأن المجاز لا يطرد، وإما أن يكون مطردا ولكن غلب العرف على قصرها كما يغلب في الحقيقة، والله أعلم.
327
قدما؟ قلت: لما كان السعى والسبق بالقدم، سميت المسعاة الجميلة والسابقة قدما، كما سميت النعمة يداً لأنها تعطى باليد، وباعاً لأنّ صاحبها يبوع بها، فقيل: لفلان قدم في الخير. وإضافته إلى صدق دلالة على زيادة فضل، وأنه من السوابق العظيمة وقيل: مقام صدق إِنَّ هذا إن هذا الكتاب وما جاء به محمد لَساحِرٌ ومن قرأ: لساحر، فهذا إشارة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو دليل عجزهم واعترافهم به وإن كانوا كاذبين في تسميته سحراً. وفي قراءة أبىّ: ما هذا إلا سحر.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٣ الى ٤]
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٤)
يُدَبِّرُ يقضى ويقدر على حسب مقتضى الحكمة ويفعل ما يفعل المتحرى للصواب الناظر في أدبار الأمور وعواقبها، لئلا يلقاه ما يكره آخراً. والْأَمْرَ أمر الخلق كله وأمر ملكوت السموات والأرض والعرش. فإن قلت: ما موقع هذه الجملة؟ قلت:
قد دل بالجملة قبلها على عظمة شأنه وملكه بخلق السموات والأرض، مع بسطتها واتساعها في وقت يسير، وبالاستواء على العرش، وأتبعها هذه الجملة لزيادة الدلالة على العظمة وأنه لا يخرج أمر من الأمور من قضائه وتقديره، وكذلك قوله ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ دليل على العزة والكبرياء، كقوله يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وذلِكُمُ إشارة إلى المعلوم بتلك العظمة، أى ذلك العظيم «١» الموصوف بما وصف به هو ربكم، وهو الذي يستحق منكم العبادة فَاعْبُدُوهُ وحده ولا تشركوا به بعض خلقه من ملك أو إنسان، فضلا عن جماد لا يضر ولا ينفع أَفَلا تَذَكَّرُونَ فإن أدنى التفكر والنظر ينبهكم على الخطأ فيما أنتم عليه إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً أى لا ترجعون في العاقبة إلا إليه فاستعدوا للقائه وَعْدَ اللَّهِ مصدر مؤكد لقوله إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ وحَقًّا مصدر مؤكد لقوله وَعْدَ اللَّهِ. إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ استئناف معناه التعليل لوجوب المرجع إليه، وهو أنّ الغرض ومقتضى الحكمة بابتداء الخلق وإعادته هو جزاء المكلفين على أعمالهم. وقرئ: أنه يبدؤ
(١). قوله «ذلك العظيم» لعله ذلكم. (ع)
الخلق، بمعنى لأنه. أو هو منصوب بالفعل الذي نصب وعد الله: أى وعد الله وعداً بدأ الخلق ثم إعادته. والمعنى: إعادة الخلق بعد بدئه. وقرئ: وعد الله، على لفظ الفعل. ويبدئ، من أبدأ. ويجوز أن يكون مرفوعاً بما نصب حقا، أى حقّ حقا بدأ الخلق، كقوله:
أَحَقَّا عِبَادَ اللَّهِ أَنْ لَسْتُ جَائِياً وَلَا ذَاهِباً إلّا عَلَىَّ رَقِيبُ «١»
وقرئ: حق أنه يبدؤ الخلق، كقولك: حق أنّ زيداً منطلق بِالْقِسْطِ بالعدل، وهو متعلق بيجزى. والمعنى: ليجزيهم بقسطه ويوفيهم أجورهم. أو بقسطهم وبما أقسطوا وعدلوا ولم يظلموا حين آمنوا وعملوا صالحاً، لأنّ الشرك ظلم. قال الله تعالى إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ والعصاة ظلام أنفسهم، وهذا أوجه، لمقابلة قوله بِما كانُوا يَكْفُرُونَ.
[سورة يونس (١٠) : آية ٥]
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥)
الياء في ضِياءً منقلبة عن واو ضوء لكسرة ما قبلها. وقرئ: ضئاء بهمزتين بينهما ألف على القلب، بتقديم اللام على العين، كما قيل في عاق: عقا. والضياء أقوى من النور وَقَدَّرَهُ وقدّر القمر. والمعنى وقدّر مسيره مَنازِلَ أو قدّره ذا منازل، كقوله تعالى وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ. وَالْحِسابَ وحساب الأوقات من الشهور والأيام والليالي ذلِكَ إشارة إلى المذكور أى ما خلقه إلا ملتبساً بالحق الذي هو الحكمة البالغة ولم يخلقه عبثاً. وقرئ: يفصل، بالياء.
[سورة يونس (١٠) : آية ٦]
إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (٦)
خصّ المتقين لأنهم يحذرون العاقبة فيدعوهم الحذر إلى النظر والتدبر.
(١).
أحقا عباد الله أن لست جائياً ولا ذاهبا إلا على رقيب
ولا زائراً فرداً ولا في جماعة من الناس إلا قيل أنت مريب
لعبد الله بن الدمينة الخثعمي. وقيل: لقيس بن الملوح. قال المرزوقي: أحقاً انتصب عند سيبويه على الظرفية، كأنه قال: أفى الحق ذلك، لأنهم كثيراً ما يقولون: أفى الحق كذا. وعند المبرد على المفعولية المطلقة، أى أحق ذلك حقاً، لأنه مصدر. وعباد الله: منادى. وروى: أن لست وارداً ولا صادراً. والمعنى واحد. والرقيب:
المانع من لقاء الحبيب. ويجوز أن يراد به ما في قوله تعالى: ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ أى مناظر حاضر.
أو قوله تعالى إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ.

[سورة يونس (١٠) : الآيات ٧ الى ٨]

إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (٧) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨)
لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لا يتوقعونه أصلا، ولا يخطرونه ببالهم لغفلتهم المستولية عليهم، المذهلة باللذات وحب العاجل عن التفطن للحقائق. أو لا يأملون حسن لقائنا كما يأمله السعداء أو لا يخافون سوء لقائنا الذي يجب أن يخاف وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا من الآخرة، وآثروا القليل الفاني على الكثير الباقي، كقوله تعالى أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ. وَاطْمَأَنُّوا بِها وسكنوا فيها سكون من لا يزعج عنها، فبنوا شديداً وأمّلوا بعيداً.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٩ الى ١٠]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠)
يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ يسدّدهم بسبب إيمانهم للاستقامة «١» على سلوك السبيل المؤدّى إلى الثواب، ولذلك جعل تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ بيانا له وتفسيرا، لأنّ التمسك بسبب السعادة كالوصول إليها. ويجوز أن يريد: يهديهم في الآخرة بنور إيمانهم إلى طريق الجنة، كقوله تعالى يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ ومنه الحديث: «إنّ المؤمن إذا خرج من قبره صوّر له عمله في صورة حسنة، فيقول له: أنا عملك، فيكون له نوراً وقائداً إلى الجنة. والكافر إذا خرج من قبره صوّر له عمله في صورة سيئة فيقول له: أنا عملك، فينطلق به حتى يدخله النار «٢» » فإن قلت: فلقد دلت هذه الآية على أنّ الإيمان الذي يستحق به العبد الهداية والتوفيق والنور يوم القيامة، هو إيمان مقيد، وهو الإيمان المقرون بالعمل الصالح.
(١). قال محمود: «معناه يسددهم بسبب إيمانهم للاستقامة... الخ» قال أحمد: هو يقرر بذلك زعمه في أن شرط دخول الجنة العمل الصالح، وأن من لم يعمل مخلد في النار كالكافر، وأنى له ذلك وقد جعل الله سبب الهداية إلى الجنة مطلق الايمان، فقال يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ وقول الزمخشري «أن المراد إضافة العمل» لا ينتهض عن حيز الدعوى، فان الله لم يعلل بغير الايمان وإن جرى لغيره ذكر أولا فلا يلزم إجراؤه ثانياً ولا محوج إليه. وشبهته أن الايمان المجهول سبباً مضاف إلى ضمير الصالحين، فيلزم أخذ الصلاح قيداً في التسبب، وهو ممنوع، فان الضمير إنما يعود على الذوات لا باعتبار الصفات وقد تقدمت لهذه المباحثة أمثال وأشكال، والله الموفق.
(٢). أخرجه الطبري من طريق سعيد عن قتادة قال: بلغنا أن النبي ﷺ قال «إن المؤمن إذا خرج من قبره- فذكره» وروى ابن أبى شيبة من طريق عمرو بن قيس عن عطية عن ابن عمر قال «يستقبل المؤمن عند خروجه من قبره عمله في أحسن صورة. فذكر نحوه بتمامه.
والإيمان الذي لم يقرن بالعمل الصالح فصاحبه لا توفيق له ولا نور. قلت: الأمر كذلك. ألا ترى كيف أوقع الصلة مجموعا فيها بين الإيمان والعمل، كأنه قال: إنّ الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح، ثم قال: بإيمانهم، أى بإيمانهم هذا المضموم إليه العمل الصالح، وهو بين واضح لا شبهة فيه دَعْواهُمْ دعاؤهم، لأن «اللهمّ» نداء لله ومعناه: اللهمّ إنا نسبحك، كقول القانت في دعاء القنوت: اللهمّ إياك نعبد ولك نصلى ونسجد. ويجوز أن يراد بالدعاء: العبادة وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ على معنى أن لا تكليف في الجنة ولا عبادة، وما عبادتهم إلا أن يسبحوا الله ويحمدوه، وذلك ليس بعبادة، إنما يلهمونه فينطقون به تلذذاً بلا كلفة، كقوله تعالى وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً. وَآخِرُ دَعْواهُمْ وخاتمة دعائهم الذي هو التسبيح أَنِ يقولوا الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. ومعنى وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ أنّ بعضهم يحيى بعضا بالسلام. وقيل: هي تحية الملائكة إياهم، إضافة للمصدر إلى المفعول. وقيل: تحية الله لهم. وأن هي المخففة من الثقيلة، وأصله: أنه الحمد لله، على أن الضمير للشأن، كقوله:
أَنْ هالِكٌ كُلُّ مَنْ يَحْفَى وَيَنْتَعِلُ «١»
وقرئ: أنّ الحمد لله، بالتشديد ونصب الحمد.
[سورة يونس (١٠) : آية ١١]
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١)
أصله وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ تعجيله لهم الخير، فوضع اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ موضع تعجيله لهم الخير «٢» إشعاراً بسرعة إجابته لهم وإسعافه بطلبتهم، حتى كأنّ استعجالهم بالخير
(١).
وقد غدوت إلى الحانوت يتبعني شاو مشل شلول شلشل شول
في فتية كسيوف الهند قد علموا أن هالك كل من يحفى وينتعل
للأعشى ميمون بن قيس. والحانوت: محل البيع والشراء. والمراد: محل بيع الطعام والشراب. يتبعني شاو:
أى غلام يشوى اللحم. مشل: أى مسرع. شلول: خفيف في العمل: شلشل: بالضم، أى ماض في الخدمة وقضاء الحوائج: شول- ككتف- خفيف في العمل. وقيل: مخرج للحم من القدر. في فتية: أى حال كوني مع فتيان كسيوف الهند في إنفاذ العزائم في المكارم. أو في بياض الوجوه وتهللها. والأول أنسب بقوله: قد علموا أنه، أى الحال والشأن. هالك وفان كل حاف: غير لابس للنعل، ومنتعل: لابس له، وهما كناية عن الفقير والغنى، وإذا استويا في الغنى فلا معنى للبخل الذي لا يوجب البقاء. ويجوز أنهما كناية عن جميع الناس مبالغة في التعميم.
(٢). قال محمود: «فوضع استعجالهم بالخير موضع تعجيله لهم الخير... الخ» قال أحمد: وهذا أيضاً من تنبيهات الزمخشري الحسنة التي تقوم على دقة نظره شاهدة وبينة، ولا يكاد وضع المصدر مؤكداً أو مقارنا لغير فعله في الكتاب العزيز يخلو من مثل هذه الفائدة الجليلة. والنحاة غايتهم أن يقولوا في قوله تعالى وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً أنه اجرى المصدر على الفعل مقدراً عدم الزيادة. أو هذا المصدر لفعل دل عليه المذكور تقديره: نبتم نباتا، ولا يزيدون على ذلك، وإذا راجع الفطن قريحته وناجى فسكرته، هل قرن المصدر في كتاب الله بغير فعله لفائدة أو لا- تسور بلطف النظر على مثل هذه الفوائد العلية مراتبها، فالفائدة- والله أعلم- في اقتران قوله نَباتاً بقوله أَنْبَتَكُمْ التنبيه على تحتم نفوذ القدرة في المقدور، وسرعة إمضاء حكمها حتى كان إنبات الله لهم نفس نباتهم أى إذا وجد من الله الانبات وجد لهم النبات حتما فكان أحد الأمرين عين الآخر فقرن به والله أعلم.
تعجيل لهم، والمراد أهل مكة. وقولهم: فأمطر علينا حجارة من السماء، يعنى: ولو عجلنا لهم الشر الذي دعوا به كما نعجل لهم الخير ونجيبهم إليه لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ لأميتوا وأهلكوا. وقرئ:
لقضى إليهم أجلهم، على البناء للفاعل، وهو الله عز وجل، وتنصره قراءة عبد الله: لقضينا إليهم أجلهم فإن قلت، فكيف اتصل به قوله فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وما معناه؟
قلت: قوله وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ متضمن معنى نفى التعجيل، كأنه قيل: ولا نعجل لهم الشر، ولا نقضي إليهم أجلهم فنذرهم فِي طُغْيانِهِمْ أى فنمهلهم ونفيض عليهم النعمة مع طغيانهم، إلزاما للحجة عليهم.
[سورة يونس (١٠) : آية ١٢]
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢)
لِجَنْبِهِ في موضع الحال، بدليل عطف الحالين عليه أى دعانا مضطجعاً أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً. فإن قلت: فما فائدة ذكر هذه الأحوال؟ قلت معناه أنّ المضرور لا يزال داعياً لا يفتر عن الدعاء حتى يزول عنه الضر، فهو يدعونا في حالاته كلها- إن كان منبطحاً عاجز النهض «١» متخاذل النوء «٢» أو كان قاعداً لا يقدر على القيام، أو كان قائماً لا يطيق المشي والمضطرب- إلى أن يخف كل الخفة ويرزق الصحة بكمالها والمسحة «٣» بتمامها. ويجوز أن يراد أن من المضرورين من هو أشدّ حالا وهو صاحب الفراش. ومنهم من هو أخف وهو القادر على القعود. ومنهم المستطيع للقيام، وكلهم لا يستغنون عن الدعاء واستدفاع البلاء، لأنّ الإنسان للجنس مَرَّ أى مضى على طريقته الأولى قبل مس الضر، ونسى حال الجهد. أو مرّ عن موقف الابتهال والتضرع لا يرجع إليه، كأنه لا عهد له به كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا، كأنه لم يدعنا، فخفف وحذف ضمير الشأن قال:
(١). قوله «عاجز النهض» نهض نهضاً ونهوضاً: قام. (ع)
(٢). قوله «متخاذل النوء» في الصحاح: ناء ينوء نوآ إذا نهض يجهد ومشقة. (ع)
(٣). قوله «والمسحة» في الصحاح: وعلى فلان مسحة من جمال. (ع)
كَأَنْ ثَدْيَاهُ حُقّانِ «١»
كَذلِكَ مثل ذلك التزيين زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ زين الشيطان بوسوسته أو الله بخذلانه وتخليته ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الإعراض عن الذكر واتباع الشهوات.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ١٣ الى ١٤]
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٤)
لَمَّا ظرف لأهلكنا: والواو في وَجاءَتْهُمْ للحال، أى ظلموا بالتكذيب وقد جاءتهم رسلهم بالحجج والشواهد على صدقهم وهي المعجزات. وقوله: وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا يجوز أن يكون عطفاً على ظلموا، وأن يكون اعتراضاً واللام لتأكيد النفي، يعنى: وما كانوا يؤمنون حقاً، تأكيداً لنفى إيمانهم، وأن الله قد علم منهم أنهم يصرون على كفرهم، وأن الإيمان مستبعد منهم. والمعنى: أن السبب في إهلاكهم تكذيب الرسل، وعلم الله أنه لا فائدة في إمهالهم بعد أن ألزموا الحجة ببعثه الرسل كَذلِكَ مثل ذلك الجزاء يعنى الإهلاك نَجْزِي كل مجرم، وهو وعيد لأهل مكة على إجرامهم بتكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقرئ. يجزى، بالياء ثُمَّ جَعَلْناكُمْ الخطاب للذين بعث إليهم محمد صلى الله عليه وسلم، أى استخلفناكم في الأرض بعد القرون التي أهلكنا لِنَنْظُرَ أتعملون خيراً أم شراً فنعاملكم على حسب عملكم. وكَيْفَ في محل النصب بتعملون لا ينتظر، لأنّ معنى الاستفهام فيه يحجب أن يتقدّم عليه عامله. فإن قلت: كيف جاز النظر على الله تعالى وفيه معنى المقابلة «٢»
(١).
ونحر مشرق اللون... كأن ثدياه حقان
أى: ورب نحر ويروى بالرفع عطفا على شيء تقدم، أى ولها. والنحر: موضع القلادة من الصدر. ويروى:
وصدر مشرق، أى أبيض مضيء. ويروى: وصدر مشرق النحر. ويروى: ووجه مشرق اللون، وكأن مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن. وقال أبو حيان: لا حاجة للاضمار عند الإهمال. وروى: كأن ثدييه بالأعمال مع التخفيف وهو قليل. وإضافة الثديين لضمير النحر للملابسة ولضمير الوجه على تقدير مضاف، أى: ثديا صاحبته. والحقان: تثنية حق وهو ما يعمل من العاج ونحوه، يوضع فيه أعز الأشياء. وقيل تثنية حقة، وحذفت منه التاء.
(٢). قال محمود: «إن قلت كيف جاز النظر على الله تعالى... الخ» قال أحمد: وكنت أحسب أن الزمخشري يقتصر على إنكار رؤية العبد لله تعالى، فضم إلى ذلك إنكار رؤية الله، والجمع بين هذين النزغتين عقيدة طائفة من القدرية، يقولون: إن الله لا يرى ولا يرى، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيرا. وتقدم إبطال دعواهم أن النظر يستلزم المقابلة والجسمية فلا نعيده، والله الموفق. [.....]
قلت: هو مستعار للعلم المحقق الذي هو العلم بالشيء موجوداً شبه بنظر الناظر وعيان المعاين في تحققه.
[سورة يونس (١٠) : آية ١٥]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥)
غاظهم ما في القرآن من ذم عبادة الأوثان والوعيد للمشركين، فقالوا ائْتِ بِقُرْآنٍ آخر ليس فيه ما يغيظنا من ذلك نتبعك أَوْ بَدِّلْهُ بأن تجعل مكان آية عذاب آية رحمة، وتسقط ذكر الآلهة وذمّ عبادتها، فأمر بأن يجيب عن التبديل، لأنه داخل تحت قدرة الإنسان، وهو أن يضع مكان آية عذاب آية رحمة مما أنزل، وأن يسقط ذكر الآلهة. وأما الإتيان بقرآن آخر، فغير مقدور عليه للإنسان ما يَكُونُ لِي ما ينبغي لي وما يحل، كقوله تعالى ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ. أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي من قبل نفسي. وقرئ بفتح التاء: من غير «١» أن يأمرنى بذلك ربى إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ لا آتى ولا أذر شيئاً من نحو ذلك، إلا متبعاً لوحى الله وأوامره، إن نسخت آية تبعت النسخ، وإن بدِّلت آية مكان آية تبعت التبديل، وليس إلىّ تبديل ولا نسخ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي بالتبديل والنسخ من عند نفسي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. فإن قلت: أما ظهر وتبين لهم العجز عن الإتيان بمثل القرآن حتى قالوا: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا؟ قلت: بلى، ولكنهم كانوا لا يعترفون بالعجز، وكانوا يقولون: لو نشاء لقلنا مثل هذا. ويقولون: افترى على الله كذبا، فينسبونه إلى الرسول ويزعمونه قادراً عليه وعلى مثله. مع علمهم بأنّ العرب مع كثرة فصحائها وبلغائها إذا عجزوا عنه، كان الواحد منهم أعجز. فإن قلت: لعلهم أرادوا: ائت بقرآن غير هذا أو بدّله، من جهة الوحى كما أتيت بالقرآن من جهته. وأراد بقوله: ما يَكُونُ لِي ما يتسهل لي وما يمكنني أن أُبدّله. قلت:
يردّه قوله إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي. فإن قلت: فما كان غرضهم وهم أدهى الناس وأنكرهم في هذا الاقتراح؟ قلت: الكيد والمكر. أما اقتراح إبدال قرآن بقرآن، ففيه أنه من عندك وأنك قادر على مثله، فأبدل مكانه آخر، وأما اقتراح التبديل والتغيير، فللطمع ولاختبار الحال. وأنه إن وجد منه تبديل، فإمّا أن يهلكه الله فينجو منه، أو لا يهلكه فيسخروا منه، ويجعلوا التبديل حجة عليه وتصحيحاً لافترائه على الله.
(١). قوله «من غير» لعله «أى من غير». (ع)

[سورة يونس (١٠) : آية ١٦]

قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦)
لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ يعنى أن تلاوته ليست إلا بمشيئة الله وإحداثه أمراً عجيباً خارجا عن العادات، وهو أن يخرج رجل أُمىّ لم يتعلم ولم يستمع ولم يشاهد العلماء ساعة من عمره، ولا نشأ في بلد فيه علماء فيقرأ عليهم كتاباً فصيحاً، يبهر كل كلام فصيح، ويعلو على كل منثور ومنظوم، مشحوناً بعلوم من علوم الأصول والفروع، وأخبار مما كان وما يكون، ناطقاً بالغيوب التي لا يعلمها إلا الله، وقد بلغ بين ظهرانيكم «١» أربعين سنة تطلعون على أحواله، ولا يخفى عليكم شيء من أسراره، وما سمعتم منه حرفاً من ذلك، ولا عرفه به أحد من أقرب الناس منه وألصقهم به وَلا أَدْراكُمْ بِهِ ولا أعلمكم به على لساني. وقرأ الحسن: ولا أدراتكم به، على لغة من يقول: أعطاته وأرضاته، في معنى أعطيته وأرضيته. وتعضده قراءة ابن عباس:
ولا أنذرتكم به. ورواه الفراء: ولا أدرأتكم به، وبالهمز. وفيه وجهان، أحدهما: أن تقلب الألف همزة، كما قيل: لبأت بالحج. ورثأت الميت وحلأت «٢» السويق، وذلك لأنّ الألف والهمزة من واد واحد. ألا ترى أنّ الألف إذا مستها الحركة انقلبت همزة. والثاني: أن يكون من درأته إذا دفعته، وأدرأته إذا جعلته دارئا. والمعنى: ولا جعلتكم بتلاوته خصماء تدرؤوننى بالجدال وتكذبونني. وعن ابن كثير: ولأدراكم به، بلام الابتداء لإثبات الإدراء ومعناه: لو شاء الله ما تلوته أنا عليكم ولأعلمكم به على لسان غيرى، ولكنه يمنّ على من يشاء من عباده، فخصني بهذه الكرامة ورآني لها أهلا دون سائر الناس فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً وقرئ عُمُراً بالسكون. يعنى: فقد أقمت فيما بينكم يافعا وكهلا، فلم تعرفوني متعاطياً شيئاً من نحوه ولا قدرت عليه، ولا كنت متواصفاً بعلم وبيان فتتهموني باختراعه أَفَلا تَعْقِلُونَ فتعلموا أنه ليس إلا من الله لا من مثلي. وهذا جواب عما دسوه تحت قولهم ائت بقرآن غير هذا من إضافة الافتراء إليه.
[سورة يونس (١٠) : آية ١٧]
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (١٧)
(١). قوله «ظهرانيكم» في الصحاح: ظهرانيهم- بفتح النون. (ع)
(٢). قوله «وحلأت» أى جعلته حلوا. (ع)
مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً يحتمل أن يريد افتراء المشركين على الله في قولهم: إنه ذو شريك وذو ولد، وأن يكون تفاديا مما أضافوه إليه من الافتراء.
[سورة يونس (١٠) : آية ١٨]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨)
ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ الأوثان التي هي جماد لا تقدر على نفع ولا ضر. وقيل: إن عبدوها لم تنفعهم، وإن تركوا عبادتها لم تضرهم، ومن حق المعبود أن يكون مثيباً على الطاعة معاقباً على المعصية. وكان أهل الطائف يعبدون اللات، وأهل مكة العزى ومناة وهبل وأسافا ونائلة وَكانوا يَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ وعن النضر بن الحرث: إذا كان يوم القيامة شفعت لي اللات والعزى أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ أتخبرونه بكونهم شفعاء عنده، وهو إنباء بما ليس بالمعلوم لله، وإذا لم يكن معلوما له وهو العالم الذات المحيط بجميع المعلومات، لم يكن شيأ لأن الشيء ما يعلم ويخبر عنه، فكان خبراً ليس له مخبر عنه. فإن قلت: كيف أنبأوا الله بذلك؟ قلت: هو تهكم بهم وبما ادعوه من المحال الذي هو شفاعة الأصنام، وإعلام بأنّ الذي أنبؤا به باطل غير منطو تحت الصحة، فكأنهم يخبرونه بشيء لا يتعلق به علمه كما يخبر الرجل الرجل بما لا يعلمه. وقرئ: أتنبئون، بالتخفيف. وقوله فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ تأكيد لنفيه، لأنّ ما لم يوجد فيهما فهو منتف معدوم يُشْرِكُونَ قرئ بالتاء والياء وما موصولة أو مصدرية، أى عن الشركاء الذين يشركونهم به أو عن إشراكهم.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ١٩ الى ٢٠]
وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩) وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٢٠)
وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً حنفاء متفقين على ملة واحدة من غير أن يختلفوا بينهم، وذلك في عهد آدم إلى أن قتل قابيل هابيل. وقيل: بعد الطوفان حين لم يذر الله من الكافرين ديارا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ وهو تأخير الحكم بينهم إلى يوم القيامة لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ عاجلا فيما اختلفوا فيه، ولميز المحق من المبطل، وسبق كلمته بالتأخير لحكمة أوجبت أن تكون هذه الدار دار تكليف، وتلك دار ثواب وعقاب. وقالوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ
أرادوا آية من الآيات التي كانوا يقترحونها وكانوا لا يعتدّون بما أنزل عليه من الآيات العظام المتكاثرة التي لم ينزل على أحد من الأنبياء مثلها، وكفى بالقرآن وحده آية باقية على وجه الدهر بديعة غريبة في الآيات، دقيقة المسلك من بين المعجزات، وجعلوا نزولها كلا نزول، وكأنه لم ينزل عليه آية قط، حتى قالوا: لولا أنزل عليه آية واحدة من ربه، وذلك لفرط عنادهم وتماديهم في التمرّد وانهماكهم في الغىّ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ أى هو المختص بعلم الغيب المستأثر به لا علم لي ولا لأحد به، يعنى أنّ الصارف عن إنزال الآيات المقترحة أمر مغيب لا يعلمه إلا هو فَانْتَظِرُوا نزول ما اقترحتموه إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ لما يفعل الله بكم لعنادكم وجحودكم الآيات.
[سورة يونس (١٠) : آية ٢١]
وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (٢١)
سلط الله القحط سبع سنين على أهل مكة حتى كادوا يهلكون، ثم رحمهم بالحيا، فلما رحمهم طفقوا يطعنون في آيات الله ويعادون رسول الله ﷺ ويكيدونه، و «إذا» الأولى للشرط، والآخرة جوابها وهي للمفاجأة، والمكر: إخفاء الكيد وطيه، من الجارية الممكورة المطوية الخلق. ومعنى مَسَّتْهُمْ خالطتهم حتى أحسوا بسوء أثرها فيهم. فإن قلت: ما وصفهم بسرعة المكر، فكيف صح قوله أَسْرَعُ مَكْراً؟ قلت: بلى دلت على ذلك كلمة المفاجأة، كأنه قال: وإذا رحمناهم من بعد ضراء فاجئوا وقوع المكر منهم، وسارعوا إليه قبل أن يغسلوا رؤسهم من مس الضراء، ولم يتلبثوا ريثما يسيغون غصتهم. والمعنى: أنّ الله تعالى دبر عقابكم وهو موقعه بكم قبل أن تدبروا كيف تعملون في إطفاء نور الإسلام إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ إعلام بأنّ ما تظنونه خافيا مطويا لا يخفى على الله، وهو منتقم منكم. وقرئ: يمكرون، بالتاء والياء. وقيل: مكرهم قولهم سقينا بنوء كذا. وعن أبى هريرة: إنّ الله ليصبح القوم بالنعمة ويمسيهم بها، فتصبح طائفة منهم بها كافرين يقولون: مطرنا بنوء كذا «١».
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٢٢ الى ٢٣]
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٣)
(١). أخرجه إسحاق والطبري: والثعلبي من طريق ابن إسحاق عن محمد بن إبراهيم اليمنى عن أبى سلمة عن أبى هريرة «أن رسول الله ﷺ قال «إن الله تعالى ليصبح عباده بالنعمة أو ليمسيهم بها فيصبح بها قوم كافرون، يقولون:
مطرنا بنوء كذا وكذا»
قال محمد فذكرت الحديث لسعيد بن المسيب فقال: ونحن سمعناه من أبى هريرة. ولمسلم من وجه آخر عن أبى هريرة مرفوعا «قال الله تعالى: ما أنعمت على عبادي من نعمة إلا أصبح فريق بها كافرين، يقولون: الكوكب وبالكوكب مطرنا».
337
قرأ زيد بن ثابت: ينشركم. ومثله قوله فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ.
فإن قلت: كيف جعل الكون في الفلك غاية للتسيير في البحر»
، والتسيير في البحر إنما هو بالكون في الفلك؟ قلت: لم يجعل الكون في الفلك غاية للتسيير في البحر، ولكن مضمون الجملة الشرطية الواقعة بعد «حتى» بما في حيزها، كأنه قيل: يسيركم حتى إذا وقعت هذه الحادثة وكان كيت وكيت من مجيء الريح العاصف وتراكم الأمواج والظنّ للهلاك «٢» والدعاء بالإنجاء. فإن قلت:
ما جواب «إذا» ؟ قلت: جاءتها. فإن قلت: فدعوا؟ قلت: بدل من ظنوا، لأنّ دعاءهم من لوازم ظنهم الهلاك فهو ملتبس به. فإن قلت: ما فائدة صرف الكلام عن الخطاب إلى الغيبة؟
قلت: المبالغة، كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها ويستدعى منهم الإنكار والتقبيح. فإن قلت: ما وجه قراءة أمّ الدرداء: في الفلكي، بزيادة ياء النسب؟ قلت: قيل هما زائدتان كما في الخارجي والأحمرى. ويجوز أن يراد به اللجّ والماء الغمر الذي لا تجرى الفلك إلا فيه.
(١). قال محمود: «إن قلت كيف جعل الكون في الفلك غاية... الخ» قال أحمد: وهذه أيضا من نكتة التي لا يكتنه حسنها، وقد مر لي قبل الوقوف عليها مثل هذا النظر بعينه في توأمتها، وذلك عند قوله تعالى وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وقد استدل الزمخشري بها لأبى حنيفة في أن الصغير يبتلى قبل البلوغ بأن يسلم إليه قدر من المال يمتحن فيه، خلافا لمالك، فانه لا يرى الابتلاء قبل البلوغ قال الزمخشري: ووجه الاستدلال أن الله تعالى جعل البلوغ غاية الابتلاء، فيلزم وقوع الابتلاء قبله ضرورة كونه مغيا به. واعترضت هذا الاستدلال فيما سلف بأن المجعول غاية هو حمله ما في حيز «حتى» من البلوغ مقرونا بإيناس الرشد، وهذا المجموع هو الذي يلزم وقوعه بعد الابتلاء، ولا يلزم من ذلك أن يقع كل واحد من مفرديه بعد الابتلاء، بل من الممكن أن يقع أحدهما قبل والآخر بعد، فلا يحصل المجموع إلا بعد الابتلاء. ويوضح ذلك هذه الآية، فانه تعالى جعل غاية تسييرهم في الفلك كونهم فيها، مضافا إلى ما ذكر معه. ونحن نعلم أن كونهم في الفلك- وذلك أحد ما جعل غاية- متقدم على التسيير وإن كان المجموع واقعا، كوقوع الحادثة بجملتها بعد الكون في الفلك والله أعلم. وإنما بسطت القول هاهنا لفواته ثم، فجدد بما مضى عهدا.
(٢). قوله «والظن للهلاك» عبارة النسفي: بالهلاك. (ع)
338
والضمير في جَرَيْنَ للفلك، لأنه جمع فلك كالأسد، في فعل أخى فعل «١». وفي قراءة أمّ الدرداء: للفلك، أيضاً، لأنّ الفلكي يدلّ عليه جاءَتْها جاءت الريح الطيبة، أى تلقتها.
وقيل: الضمير للفلك مِنْ كُلِّ مَكانٍ من جميع أمكنة الموج أُحِيطَ بِهِمْ أى أهلكوا جعل إحاطة العدوّ بالحي مثلا في الهلاك مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ من غير إشراك به، لأنهم لا يدعون حينئذ غيره معه لَئِنْ أَنْجَيْتَنا على إرادة القول. أو لأن دَعَوُا من جملة القول يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ يفسدون فيها ويعبثون متراقين في ذلك، ممعنين فيه، من قولك:
بغى الجرح إذا ترامى إلى الفساد. فإن قلت: فما معنى قوله بِغَيْرِ الْحَقِّ والبغي لا يكون بحق؟ قلت:
بلى، وهو استيلاء المسلمين على أرض الكفرة، وهدم دورهم، وإحراق زروعهم وقطع أشجارهم «٢» كما فعل رسول الله ﷺ ببني قريظة. قرئ: متاع الحياة الدنيا، بالنصب. فإن قلت:
ما الفرق بين القراءتين؟ قلت: إذا رفعت كان المتاع خبراً للمبتدإ الذي هو بَغْيُكُمْ وعَلى أَنْفُسِكُمْ صلته، كقوله فَبَغى عَلَيْهِمْ ومعناه: إنما بغيكم على أمثالكم والذين جنسهم جنسكم، يعنى: بغى بعضكم على بعض منفعة الحياة الدنيا لا بقاء لها. وإذا نصبت عَلى أَنْفُسِكُمْ خبر غير صلة، معناه. إنما بغيكم وبال على أنفسكم، ومَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا في موضع المصدر المؤكد، كأنه قيل: تتمتعون متاع الحياة الدنيا. ويجوز أن يكون الرفع على: هو متاع الحياة الدنيا بعد تمام الكلام. وعن النبي ﷺ أنه قال «لا تمكر ولا تعن ماكرا، ولا تبغ ولا تعن باغياً، ولا تنكث ولا تعن ناكثاً» «٣» وكان يتلوها. وعنه عليه الصلاة والسلام «أسرع الخير ثواباً صلة الرحم، وأعجل الشر عقاباً البغي واليمين الفاجرة» «٤» وروى: «ثنتان يعجلهما الله
(١). قوله «كالأسد في فعل» أى كما جاء «فعل» بالضم في «فعل» بفتحتين، كأسد في أسد، جاز مجيء «فعل» بالضم في فعل «بالضم» كفلك في فلك، وذلك لأن «فعلا» بفتحتين و «فعلا» بالضم أخوان، لأنهما يشتركان في الشيء الواحد، كالعرب والعرب والعجم والعجم، والرهب والرهب. فما جاز في أحدهما لا يمنع في الآخر، وقد جاز «فعل» بالضم في «فعل» بالفتح، فليجز «فعل» بالضم في «فعل» بالضم، لأنهما أخوات. كذا في الصحاح، فتأمله. (ع)
(٢). متفق على معناه من حديث ابن عمر رضى الله عنهما.
(٣). أخرجه ابن المبارك في الزهد: أخبرنا يونس بن يزيد عن الزهري: قال «بلغنا أن رسول الله ﷺ قال: لا تمكر ولا تعن ماكرا، فان الله تعالى يقول وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ولا تبغ ولا تعن باغيا، فان الله تعالى يقول إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ «ولا تنكث ولا تعن ناكثا» فان الله تعالى يقول فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وفي مستدرك الحاكم بعضه من حديث أبى بكرة مرفوعا «لا تبغ ولا تعن باغيا فان الله تعالى يقول إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ.
(٤). أخرجه إسحاق في مسنده عن جرير عن برد بن يسار عن مكحول رفعه «أعجل الخير ثوابا صلة الرحم وأعجل الشر عقابا البغي واليمين الفاجرة، تدع الديار بلاقع»
ولأبى يعلى من حديث عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين رفعته «أسرع الخير ثوابا صلة الرحم. وأسرع الشر عقوبة البغي».
339
تعالى في الدنيا: البغي وعقوق الوالدين» «١» وعن ابن عباس رضى الله عنه: لو بغى جبل على جبل لدك الباغي «٢». وكان المأمون يتمثل بهذين البيتين في أخيه:
يَا صَاحِبَ الْبَغْىِ إنَّ الْبَغْىَ مَصْرَعَةٌ فَارْبَعْ فَخَيْرُ فِعَالِ المَرْءِ أعْسَلُهُ
فَلَوْ بَغَى جَبَلٌ يَوْماً عَلَى جَبَلٍ لَانْدَكَّ مِنْهُ أَعَالِيهِ وَأَسْفَلُهُ «٣»
وعن محمد بن كعب: ثلاث من كنّ فيه كنّ عليه: البغي والنكث والمكر. قال الله تعالى:
إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ.
[سورة يونس (١٠) : آية ٢٤]
إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤)
هذا من التشبيه المركب، شبهت حال الدنيا في سرعة تقضيها وانقراض نعيمها بعد الإقبال، بحال نبات الأرض في جفافه وذهابه حطاماً بعد ما التف ونكائف، وزين الأرض بخضرته ورفيفه «٤» فَاخْتَلَطَ بِهِ فاشتبك بسببه حتى خالط بعضه بعضاً أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ كلام فصيح: جعلت الأرض آخذة زخرفها على التمثيل بالعروس، إذا أخذت الثياب الفاخرة من كل لون، فاكتستها وتزينت بغيرها من ألوان الزين. وأصل ازَّيَّنَتْ تزينت،
(١). أخرجه إسحاق في مسنده والطبراني من حديث عبد الله بن أبى بكرة عن أبيه. والبخاري في الأدب المفرد من رواية بكار بن عبد العزيز عن أبيه عن جده رفعه «كل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة إلا البغي وعقوق الوالدين، فانه يعجل لصاحبه في الدنيا قبل الموت».
(٢). أخرجه البخاري في الأدب حدثنا أبو نعيم حدثنا قطر بن خليفة عن أبى يحيى القتات سمعت مجاهدا عن ابن عباس رضى الله عنهما موقوفا. ورواه ابن المبارك في الزهد عن قطر عن يحيى عن مجاهد مرسلا. ورواه البيهقي في الشعب من طريق الأعمش عن أبى يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس. ورواه ابن مردويه عن أنس رضى الله عنه أخرجه ابن حبان في الضعفاء في ترجمة أحمد بن الفضل. وقال: إنه كان يضع الحديث.
(٣). كان المأمون بن الرشيد يتمثل بهما في بغى أخيه عليه، وكرر لفظ البغي تنفيرا عنه، وشبهه بالمصرعة لأن صاحبه يرتبك فيه في العاقبة وربما هلك. وربع يربع، إذا لم يتجاوز قدر نفسه. فاربع: أى الزم قدرك واعدل في فعلك. والفعال- بالفتح-: غالب في فعل الخير. والمراد هنا مطلق الفعل، أى: فخير عمل المرء أقومه، فلو بغى جبل على جبل يوما من الأيام لعوقب واندك منه أعاليه. ويلزم منه اندكاك أسافله. وهذا عقد قول ابن عباس رضى الله عنهما: لو بغى جبل على جبل لدك الباغي.
(٤). قوله «ورفيفه» أى يرفقه وتلألؤه. وشجر رفيف: إذا تندت أوراقه، كذا في الصحاح. (ع) [.....]
فأدغم. وبالأصل قرأ عبد الله. وقرئ: وأزينت، أى أفعلت، من غير إعلال الفعل كأغيلت أى صارت ذات زينة. وازيانت، بوزن ابياضت قادِرُونَ عَلَيْها متمكنون من منفعتها محصلون لثمرتها، رافعون لغلتها أَتاها أَمْرُنا وهو ضرب زرعها ببعض العاهات بعد أمنهم واستيقانهم أنه قد سلم فَجَعَلْناها فجعلنا زرعها حَصِيداً شبيهاً بما يحصد من الزرع في قطعه واستئصاله كَأَنْ لَمْ تَغْنَ كأن لم يغن زرعها، أى لم ينبت «١» على حذف المضاف في هذه المواضع لا بدّ منه، وإلا لم يستقم المعنى. وقرأ الحسن: كأن لم يغن، بالباء على أنّ الضمير للمضاف المحذوف، الذي هو الزرع. وعن مروان أنه قرأ على المنبر: كأن لم تتغن بالأمس، من قول الأعشى:
طَوِيلُ الثّوَاءِ طَوِيلُ التَّغَنِّى «٢»
والأمس مثل في الوقت القريب «كأنه قيل: كأن لم تغن آنفاً.
[سورة يونس (١٠) : آية ٢٥]
وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٥)
دارِ السَّلامِ الجنة، أضافها إلى اسمه تعظيما لها. وقيل السلام السلامة، لأنّ أهلها سالمون من كل مكروه. وقيل: لفشوّ السلام بينهم وتسليم الملائكة عليهم إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً وَيَهْدِي ويوفق مَنْ يَشاءُ وهم الذين علم أنّ اللطف يجدى عليهم، لأنّ مشيئته تابعة لحكمته ومعناه: يدعو العباد كلهم إلى دار السلام، ولا يدخلها إلا المهديون.
(١). قوله «أى لم ينبت» لعله لم يثبت. وفي الصحاح: غنى بالمكان أى أقام، وغنى أى عاش. (ع)
(٢).
وكنت امرأ زمنا بالعراق... طويل الثواء طويل التغن
فأثبت قيسا ولم آته... على نأيه ساد أهل اليمن
فجئتك مرتاد ما أخبروا... ولولا الذي خبروا لم ترن
للأعشى، يستمنح قيس بن معديكرب ويقول: وكنت رجلا طويل الثواء في العراق، طويل التغني فيه دهراً طويلا، فزمنا: ظرف. ويجوز قراءته: زمنا، كحذر: أى هرم، والثواء: الاقامة. وغنى بالمكان يغنى، كرضى يرضى:
أقام ومكث. وقد يقال: تغنى تغنيا كترضى ترضيا، إذا تمكث وتلبث. فالتغنى- بالتشديد-: مصدر حذفت لامه عند الوقف وإن كان حذفها قليلا، فأنبئت قيسا والحال أنى لم أجئه: مع أنه ناء أى بعيد عنى» أى مع بعده ساد أهل اليمن بجوده وكرمه على أهل الأرض، فجملة «ساد» في محل المفعول الثاني، ثم بعد ما قدم المدح التفت إلى خطابه بقوله: فجئتك مرتادا ومتعرفا ومتطلبا لما أخبروا به من كرمك وجودك، وإضافة مرتاد للموصول لا تفيده التعريف، لأنها إضافة الوصف لمعموله لفظيا، فصح وقوعه حالا، ولولا الذي خبروني به لم تنظرني عندك ولم أجئ إليك. وروى: ولم أبله، من بلاه يبلوه إذا اختبره. وروى خبر أهل اليمن أى أنبئته والحال أنى لو أختبره أفضل أهل اليمن، فجئتك مختبراً لحالك.

[سورة يونس (١٠) : آية ٢٦]

لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٦)
الْحُسْنى المثوبة الحسنى وَزِيادَةٌ وما يزيد على المثوبة وهي التفضل. ويدل عليه قوله تعالى وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وعن علىّ رضى الله عنه: الزيادة: غرفة من لؤلؤة واحدة. وعن ابن عباس رضى الله عنه: الحسنى: الحسنة، والزيادة: عشر أمثالها. وعن الحسن رضى الله عنه:
عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وعن مجاهد رضى الله عنه: الزيادة مغفرة من الله ورضوان.
وعن يزيد بن شجرة: الزيادة أن تمرّ السحابة بأهل الجنة فتقول: ما تريدون أن أمطركم؟ فلا يريدون شيئاً إلا أمطرتهم. وزعمت المشبهة والمجبرة «١» أن الزيادة النظر إلى وجه الله تعالى «٢» وجاءت بحديث مرقوع «٣» «إذا دخل أهل الجنة الجنة نودوا أن يا أهل الجنة فيكشف الحجاب فينظرون إليه، فو الله ما أعطاهم الله شيئاً هو أحب إليهم منه» «٤» وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ لا يغشاها قَتَرٌ غبرة فيها سواد وَلا ذِلَّةٌ ولا أثر هوان وكسوف بال. والمعنى لا يرهقهم ما يرهق
(١). قوله «وزعمت المشبهة والمجبرة» يريد أهل السنة القائلين بجواز رؤيته تعالى ووقوعها في الآخرة، خلاف المعتزلة في ذلك. (ع)
(٢). ذكر محمود في الزيادة تفاسير كثيرة، ثم قال: وزعمت المشبهة والمجبرة أن الزيادة النظر إلى وجه الله تعالى... الخ، قال أحمد: نسبة تفسير الزيادة برؤية الله تعالى إلى زعم أهل السنة الملقبين عنده بالمشبهة والمجبرة:
مرور على ديدنه المعروف في التكذيب بما لم يحط به علما، وهذا التفسير مستفيض منقول عن جملة الصحابة، والحديث المروي فيه مدون في الصحاح متفق على صحته، وقد جعل أهل السنة جاءوا به من عند أنفسهم، ومن قبل قال المصرون على الكفر لسيد البشر وصاحب السنة: ائت بقرآن غير هذا أو بدله، حملا له على أنه جاء به من عنده، فلأهل السنة إذاً أسوة بصاحبها، ولقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، فابتلاء الحق بالباطل قديم، والله الموفق. وإن في قوله تعالى على أثر ذلك وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ مصداقا لصحة هذا التفسير، فان فيه تنبيها على إكرام وجوههم بالنظر إلى وجه الله تعالى فجدير بهم أن لا يرهق وجوههم قتر البعد ولا ذلة الحجاب، عكس المحرومين المحجوبين فان وجوههم مرهقة بقتر الطرد وذلة البعد. نسأله الله الكفاية. فأولئك يغشى وجوههم أنوار المشاهدة، وهؤلاء يغشى وجوههم كقطع الليل المظلم، منهم شقى وسعيد.
(٣). قوله «بحديث مرقوع بالقاف، أى مفترى، كذا قيل. وهو في مقابلة المرفوع بالفاء، أى المضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم. (ع)
(٤). قال الطيبي: قوله «مرقوع»
هو عنده بالقاف أى مرقع معدى. وهو عند أهل السنة بالفاء اه. وقد أخرجه مسلم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبى ليلى عن صهيب. ورواه الترمذي وقال: كذا رفعه حماد بن سلمة. وقد رواه سليمان بن المغيرة عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبى ليلى قوله. انتهى. وفي الباب عن أبى موسى مرفوعا أخرجه الطبراني في مسند الشاميين. وللطبري. وعن ابن عمر وأنس أخرجهما ابن مردويه باسنادين ضعيفين. وعن أبى بكر الصديق أخرجه إسحاق في مسنده من رواية عامر بن سعد عنه. وعن ابن عباس وعلى أخرجهما ابن مردويه أيضا.
أهل النار إذكارا بما ينقذهم منه برحمته. ألا ترى إلى قوله تعالى، تَرْهَقُها قَتَرَةٌ وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ.
[سورة يونس (١٠) : آية ٢٧]
وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧)
فإن قلت: ما وجه قوله وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وكيف يتلاءم؟ قلت:
لا يخلو، إمّا أن يكون وَالَّذِينَ كَسَبُوا معطوفاً على قوله الَّذِينَ أَحْسَنُوا كأنه قيل: والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها، وإمّا أن يقدّر: وجزاء الذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها على معنى: جزاؤهم أن تجازى سيئة واحدة بسيئة مثلها لا يزاد عليها، وهذا أوجه من الأوّل، لأنّ في الأوّل عطفاً على عاملين وإن كان الأخفش يجيزه. وفي هذا دليل على أنّ المراد بالزيادة الفضل، لأنه دل بترك الزيادة على السيئة على عدله، ودل ثمة بإثبات الزيادة على المثوبة على فضله.
وقرئ: يرهقهم ذلة، بالياء مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ أى لا يعصمهم أحد من سخط الله وعذابه. ويجوز ما لهم من جهة الله ومن عنده من يعصمهم كما يكون للمؤمنين مُظْلِماً حال من الله. ومن قرأ قِطَعاً بالسكون من قوله بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ جعله صفة له. وتعضده قراءة أبىّ بن كعب:
كأنما يغشى وجوههم قطع من الليل مظلم. فإن قلت: إذا جعلت مظلماً حالا من الليل، فما العامل فيه؟ قلت: لا يخلو إمّا أن يكون أُغْشِيَتْ من قبل إن مِنَ اللَّيْلِ صفة لقوله قِطَعاً فكان إفضاؤه إلى الموصوف كإفضائه إلى الصفة، وإما أن يكون معنى الفعل في مِنَ اللَّيْلِ.
[سورة يونس (١٠) : آية ٢٨]
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (٢٨)
مَكانَكُمْ الزموا مكانكم لا تبرحوا حتى تنظروا ما يفعل بكم. وأَنْتُمْ أكد به الضمير في مكانكم لسدّه مسدّ قوله الزموا وَشُرَكاؤُكُمْ عطف عليه. وقرئ وَشُرَكاؤُكُمْ على أنّ الواو بمعنى مع، والعامل فيه ما في مكانكم من معنى الفعل فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ ففرّقنا بينهم وقطعنا أقرانهم. والوصل «١» التي كانت بينهم في الدنيا. أو فباعدنا بينهم بعد الجمع بينهم في
(١). قوله «أقرانهم» مفرده «قرن» بالتحريك وهو حبل يقرن به البعيران، كما في الصحاح. وقوله «والوصل» مفرده «وصلة» أى اتصال وذريعة، كما في الصحاح أيضا. (ع)
الموقف. وتبرؤ شركائهم منهم ومن عبادتهم، كقوله تعالى ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا. وقرئ: فزايلنا بينهم، كقولك: صاعر خدّه وصعره، وكالمته وكلمته. ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ إنما كنتم تعبدون الشياطين، حيث أمروكم أن تتخذوا لله أنداداً فأطعتموهم.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٢٩ الى ٣٠]
فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (٢٩) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٣٠)
إِنْ كُنَّا هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية، وهم الملائكة والمسيح ومن عبدوه من دون الله من أولى العقل، وقيل: الأصنام ينطقها الله عزّ وجلّ فتشافههم بذلك مكان الشفاعة التي زعموها وعلقوا بها أطماعهم هُنالِكَ في ذلك المقام وفي ذلك الموقف أو في ذلك الوقت على استعارة اسم المكان للزمان تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ تختبر وتذوق ما أَسْلَفَتْ من العمل فتعرف كيف هو، أقبيح أم حسن، أنافع أم ضارّ، أمقبول أم مردود؟ كما يختبر الرجل الشيء ويتعرّفه ليكتنه حاله. ومنه قوله تعالى يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ وعن عاصم: نبلو كلَّ نفس، بالنون ونصب كل: أى نختبرها باختبار ما أسلفت من العمل، فنعرف حالها بمعرفة حال عملها: إن كان حسناً فهي سعيدة، وإن كان سيئاً فهي شقية. والمعنى: نفعل بها فعل الخابر، كقوله تعالى لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ويجوز أن يراد نصيب بالبلاء وهو العذاب كل نفس عاصية بسبب ما أسلفت من الشر. وقرئ: تتلو، أى تتبع ما أسلفت، لأنَّ عمله هو الذي يهديه إلى طريق الجنة أو إلى طريق النار. أو تقرأ في صحيفتها ما قدّمت من خير أو شر مَوْلاهُمُ الْحَقِّ ربهم الصادق ربوبيته، لأنهم كانوا يتولون ما ليس لربوبيته حقيقة. أو الذي يتولى حسابهم وثوابهم، العدل الذي لا يظلم أحداً. وقرئ: الحق، بالفتح على تأكيد قوله رُدُّوا إِلَى اللَّهِ كقولك هذا عبد الله الحق لا الباطل. أو على المدح كقولك: الحمد لله أهل الحمد وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ وضاع عنهم ما كانوا يدعون أنهم شركاء لله. أو بطل عنهم ما كانوا يختلقون من الكذب وشفاعة الآلهة.

[سورة يونس (١٠) : الآيات ٣١ الى ٣٣]

قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣١) فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أى يرزقكم منهما جميعاً، «١» لم يقتصر برزقكم على جهة واحدة ليفيض عليكم نعمته ويوسع رحمته أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ من يستطيع خلقهما وتسويتهما على الحدّ الذي سويا عليه من الفطرة العجيبة. أو من يحميهما ويحصنهما من الآفات مع كثرتها في المدد الطوال، وهما لطيفان يؤذيهما أدنى شيء بكلاءته وحفظه وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ومن يلي تدبير أمر العالم كله، جاء بالعموم بعد الخصوص أَفَلا تَتَّقُونَ أفلا تقون أنفسكم ولا تحذرون عليها عقابه فيما أنتم بصدده من الضلال فَذلِكُمُ إشارة إلى من هذه قدرته وأفعاله رَبُّكُمُ الْحَقُّ الثابت ربوبيته ثباتاً لا ريب فيه لمن حقق النظر فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ يعنى أن الحق والضلال لا واسطة بينهما، فمن تخطى الحق وقع في الضلال فَأَنَّى تُصْرَفُونَ عن الحق إلى الضلال، وعن التوحيد إلى الشرك، وعن السعادة إلى الشقاء كَذلِكَ مثل ذلك الحق حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أى كما حق وثبت أنّ الحق بعده الضلال، أو كما حق أنهم مصروفون عن الحق، فكذلك حقت كلمة ربك عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أى تمرّدوا في كفرهم وخرجوا إلى الحد الأقصى فيه، وأَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ بدل من الكلمة أى حق عليهم انتفاء الإيمان، وعلم الله منهم ذلك. أو حق عليهم كلمة الله أنهم من أهل الخذلان، وأن إيمانهم غير كائن. أو أراد بالكلمة: العدة بالعذاب، وأنهم لا يؤمنون تعليل، بمعنى: لأنهم لا يؤمنون.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٣٤ الى ٣٥]
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣٤) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥)
(١). قال محمود: «معناه أى من يرزقكم منهما جميعا... الخ» قال أحمد: وهذه الآية كافحة لوجوه القدرية الزاعمين أن الأرزاق منقسمة، فمنها ما رزقه الله العبد وهو الحلال، ومنها ما رزقه العبد لنفسه وهو الحرام وهذه الآية ناعية عليهم هذا الشرك الخفي لو سمعوا أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ.
فإن قلت: كيف قيل لهم هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وهم غير معترفين بالإعادة؟ قلت: قد وضعت إعادة الخلق لظهور برهانها موضع ما إن رفعه دافع كان مكابراً رادّا للظاهر البين الذي لا مدخل للشبهة فيه، دلالة على أنهم في إنكارهم لها منكرون أمراً مسلماً معترفاً بصحته عند العقلاء، وقال لنبيه ﷺ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فأمره بأن ينوب عنهم في الجواب، يعنى أنه لا يدعهم لجاجهم ومكابرتهم أن ينطقوا بكلمة الحق فكلم عنهم. يقال: هداه للحق وإلى الحق فجمع بين اللغتين: ويقال: هدى بنفسه بمعنى اهتدى، كما يقال: شرى بمعنى اشترى. ومنه قوله أَمَّنْ لا يَهِدِّي «١» وقرئ لا يهدّى بفتح الهاء وكسرها مع تشديد الدال. والأصل: يهتدى، فأدغم وفتحت الهاء بحركة التاء، أو كسرت لالتقاء الساكنين، وقد كسرت الياء لاتباع ما بعدها. وقرئ: إلا أن يهدى من هداه وهدّاه للمبالغة.
ومنه قولهم: تهدى. ومعناه أن الله وحده هو الذي يهدى للحق، بما ركب في المكلفين من العقول وأعطاهم من التمكين للنظر في الأدلة التي نصبها لهم، وبما لطف بهم ووفقهم وألهمهم وأخطر ببالهم ووقفهم على الشرائع، فهل من شركائكم الذين جعلتم أندادا لله أحد من أشرفهم كالملائكة والمسيح وعزير، يهدى إلى الحق مثل هداية الله. ثم قال: أفمن يهدى إلى الحق هذه الهداية أحق بالاتباع، أم الذي لا يهدى أى لا يهتدى بنفسه، أو لا يهدى غيره إلا أن يهديه الله وقيل: معناه أم من لا يهتدى من الأوثان إلى مكان فينتقل إليه إِلَّا أَنْ يُهْدى إلا أن ينقل، أو لا يهتدى ولا يصح منه الاهتداء إلا أن ينقله الله من حاله إلى أن يجعله حيواناً مكلفاً فيهديه فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ بالباطل، حيث تزعمون أنهم أندادا لله.
[سورة يونس (١٠) : آية ٣٦]
وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٣٦)
وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ في إقرارهم بالله إِلَّا ظَنًّا لأنه قول غير مستند إلى برهان عندهم إِنَّ الظَّنَّ في معرفة الله لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ وهو العلم شَيْئاً وقيل: وما يتبع أكثرهم في قولهم للأصنام أنها آلهة وأنها شفعاء عند الله إلا الظن. والمراد بالأكثر: الجميع إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ وعيد على ما يفعلون من اتباع الظن وتقليد الآباء. وقرئ: تفعلون، بالتاء.
(١). قوله «أم من لا يهدى» من قولهم: هدى بنفسه. أم من لا يهدى، كيرمى. وقوله: بفتح الهاء... الخ:
بقيت القراءة بكسرها مع التشديد، وقد أشار إليها بقوله «أو كسرت» والقراءة كيرمى لحمزة وعلى. وبالفتح مع التشديد للمكي والشامي. وبالكسر معه لعاصم. والأصل: يهتدى. وهي قراءة عبد الله، أفاده النسفي. (ع)

[سورة يونس (١٠) : الآيات ٣٧ الى ٤٠]

وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (٤٠)
وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ افتراء مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كان تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وهو ما تقدمه من الكتب المنزلة، لأنه معجز دونها فهو عيار عليها وشاهد لصحتها، كقوله تعالى هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وقرئ: ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب، على:
ولكن هو تصديق وتفصيل. ومعنى ما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى وما صحّ وما استقام، وكان محالا أن يكون مثله في علو أمره وإعجازه مفترى وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ وتبيين ما كتب وفرض من الأحكام والشرائع، من قوله كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ. فإن قلت: بم اتصل قوله لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ قلت: هو داخل في حيز الاستدراك. كأنه قال: ولكن كان تصديقاً وتفصيلا منتفياً عنه الريب كائنا من رب العالمين. ويجوز أن يراد: ولكن كان تصديقاً من رب العالمين وتفصيلا منه لا ريب في ذلك، فيكون مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ متعلقاً بتصديق وتفصيل، أو يكون لا رَيْبَ فِيهِ اعتراضاً، كما تقول: زيد لا شكّ فيه كريم أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بل أيقولون اختلقه، على أن الهمزة تقرير لإلزام الحجة عليهم. أو إنكار لقولهم واستبعاد، والمعنيان متقاربان قُلْ إن كان الأمر كما تزعمون فَأْتُوا أنتم على وجه الافتراء بِسُورَةٍ مِثْلِهِ فأنتم مثلي في العربية والفصاحة. ومعنى بِسُورَةٍ مِثْلِهِ أى شبيهة به في البلاغة وحسن النظم. وقرئ: بسورة مثله، على الإضافة، أى: بسورة كتاب مثله وَادْعُوا من دون الله مَنِ اسْتَطَعْتُمْ من خلقه للاستعانة به على الإتيان بمثله، يعنى: أنّ الله وحده هو القادر على أن يأتى بمثله لا يقدر على ذلك أحد غيره، فلا تستعينوه وحده، ثم استعينوا بكل من دونه إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أنه افتراء بَلْ كَذَّبُوا بل سارعوا إلى التكذيب بالقرآن، وفاجئوه في بديهة السماع قبل أن يفقهوه ويعلموا كنه أمره، وقبل أن يتدبروه ويقفوا على تأويله ومعانيه، وذلك لفرط نفورهم عما يخالف دينهم، وشرادهم عن مفارقة دين آبائهم، كالناشئ على التقليد من الحشوية،
إذا أحسّ بكلمة لا توافق ما نشأ عليه وألفه- وإن كانت أضوأ من الشمس في ظهور الصحة وبيان الاستقامة- أنكرها في أوّل وهلة، واشمأز منها قبل أن يحس إدراكها بحاسة سمعه من غير فكر في صحة أو فساد، لأنه لم يشعر قلبه إلا صحة مذهبه وفساد ما عداه من المذاهب. فإن قلت:
ما معنى التوقع في قوله وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ؟ قلت: معناه أنهم كذبوا به على البديهة قبل التدبر ومعرفة التأويل «١»، تقليداً للآباء. وكذبوه بعد التدبر، تمرداً وعناداً، فذمّهم بالتسرع إلى التكذيب قبل العلم به، وجاء بكلمة التوقع ليؤذن أنهم علموا بعد علو شأنه وإعجازه لما كرّر عليهم التحدّى، ورازوا قواهم «٢» في المعارضة واستيقنوا عجزهم عن مثله، فكذبوا به بغياً وحسداً كَذلِكَ أى مثل ذلك التكذيب كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعنى قبل النظر في معجزات الأنبياء وقبل تدبرها من غير إنصاف من أنفسهم، ولكن قلدوا الآباء وعاندوا.
وقيل: هو في الذين كذبوا وهم شاكون. ويجوز أن يكون معنى وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ولم يأتهم بعد تأويل ما فيه من الإخبار بالغيوب أى عاقبته، حتى يتبين لهم أهو كذب أم صدق، يعنى أنه كتاب معجز من جهتين: من جهة إعجاز نظمه، ومن جهة ما فيه من الإخبار بالغيوب، فتسرّعوا إلى التكذيب به قبل أن ينظروا في نظمه وبلوغه حدّ الإعجاز، وقبل أن يخبروا أخباره بالمغيبات وصدقه وكذبه وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ يصدق به في نفسه، ويعلم أنه حق، ولكنه يعاند بالتكذيب. ومنهم من يشكّ فيه لا يصدق به، أو يكون للاستقبال، أى: ومنهم من سيؤمن به ومنهم من سيصرّ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ بالمعاندين، أو المصرين.
[سورة يونس (١٠) : آية ٤١]
وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١)
وَإِنْ كَذَّبُوكَ وإن تموا على تكذيبك «٣» ويئست من إجابتهم، فتبرأ منهم وخلقهم فقد أعذرت، كقوله تعالى فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ وقيل: هي منسوخة بآية السيف.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٤٢ الى ٤٣]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (٤٢) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (٤٣)
(١). قال محمود: «معناه أنهم كذبوا به على البديهة قبل التدبر ومعرفة التأويل... الخ» قال أحمد: وكان التكذيب قبل الاحاطة بعلمه ربما يوهم عذرا ما للمكذب، فجاءت كلمة لما مشعرة بأنهم قد أحاطوا بعلمه حتى تنحسم أعذارهم ويتحقق شقاؤهم، والله أعلم.
(٢). قوله «ورازوا قواهم» أى جربوها وخبروها. أفاده الصحاح. (ع)
(٣). قوله «وإن تموا على تكذيبك» أى مضوا عليه ولم يرجعوا عنه، أفاده الصحاح. (ع)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ معناه: ومنهم ناس يستمعون إليك إذا قرأت القرآن وعلمت الشرائع، ولكنهم لا يعون ولا يقبلون، وناس ينظرون إليك ويعاينون أدلة الصدق وأعلام النبوّة ولكنهم لا يصدقون. ثم قال: أتطمع أنك تقدر على إسماع الصم ولو انضم إلى صممهم عدم عقولهم، لأنّ الأصم العاقل ربما تفرّس واستدل إذا وقع في صماخه دوىّ الصوت، فإذا اجتمع سلب السمع والعقل جميعاً فقد تمّ الأمر. وأ تحسب أنك تقدر على هداية العمى ولو انضم إلى العمى- وهو فقد البصر- فقد البصيرة، لأنّ الأعمى الذي له في قلبه بصيرة قد يحدس ويتظنن «١». وأما العمى مع الحمق فجهد البلاء، يعنى: أنهم في اليأس من أن يقبلوا ويصدقوا، كالصمّ والعمى الذين لا بصائر لهم ولا عقول. وقوله أَفَأَنْتَ... دلالة على أنه لا يقدر على إسماعهم وهدايتهم إلا الله عز وجل بالقسر والإلجاء، كما لا يقدر على ردّ الأصم والأعمى المسلوبى العقل حديدي السمع والبصر راجحى العقل، إلا هو وحده.
[سورة يونس (١٠) : آية ٤٤]
إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٤)
إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً أى لا ينقصهم شيئاً مما يتصل بمصالحهم من بعثة الرسل وإنزال الكتب، ولكنهم يظلمون أنفسهم بالكفر والتكذيب. ويجوز أن يكون وعيداً للمكذبين، يعنى: أن ما يلحقهم يوم القيامة من العذاب لا حق بهم على سبيل العدل والاستيجاب، ولا يظلمهم الله به، ولكنهم ظلموا أنفسهم باقتراف ما كان سببا فيه.
[سورة يونس (١٠) : آية ٤٥]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (٤٥)
إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ يستقربون وقت لبثهم في الدنيا. وقيل في القبور، لهول ما يرون يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ يعرف بعضهم بعضاً، كأنهم لم يتفارقوا إلا قليلا، وذلك عند خروجهم من القبور ثم ينقطع التعارف بينهم لشدّة الأمر عليهم. فإن قلت: كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا ويَتَعارَفُونَ كيف موقعهما؟ قلت أما الأولى فحال من «هم» أى يحشرهم مشهين بمن لم يلبث إلا ساعة. وأما الثانية فإما أن تتعلق بالظرف، وإما أن تكون مبينة، لقوله: كأن لم يلبثوا إلا ساعة، لأنّ التعارف لا يبقى مع طول العهد وينقلب تناكرا قَدْ خَسِرَ على إرادة القول، أى يتعارفون بينهم قائلين ذلك، أو هي شهادة من الله تعالى على خسرانهم. والمعنى أنهم وضعوا في تجارتهم «٢»
(١). قوله «ويتظنن» أى يعمل ظنه. أفاده الصحاح. (ع)
(٢). قوله «وضعوا في تجارتهم» في الصحاح: وضع الرجل في تجارته وأوضع- على ما لم يسم فاعله- وضعا فيهما، أى خسر. (ع) [.....]
وبيعهم الإيمان بالكفر وَما كانُوا مُهْتَدِينَ للتجارة عارفين بها، وهو استئناف فيه معنى التعجب، كأنه قيل: ما أخسرهم!
[سورة يونس (١٠) : آية ٤٦]
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (٤٦)
فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ جواب نتوفينك، وجواب نرينك محذوف، كأنه قيل: وإما نرينك بعض الذي نعدهم في الدنيا فذاك، أو نتوفينك قبل أن نريكه فنحن نريكه في الآخرة. فإن قلت:
الله شهيد على ما يفعلون في الدارين، فما معنى ثم؟ قلت: ذكرت الشهادة والمراد مقتضاها ونتيجتها وهو العقاب، كأنه قال: ثم الله معاقب على ما يفعلون. وقرأ ابن أبى عبلة: ثم، بالفتح، أى هنالك. ويجوز أن يراد: أنّ الله مؤدّ شهادته على أفعالهم يوم القيامة، حين ينطق جلودهم وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم شاهدة عليهم.
[سورة يونس (١٠) : آية ٤٧]
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٤٧)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ يبعث إليهم لينبههم على التوحيد، ويدعوهم إلى دين الحق فَإِذا جاءَ هم رَسُولُهُمْ بالبينات فكذبوه ولم يتبعوه قُضِيَ بَيْنَهُمْ أى بين النبي ومكذبيه بِالْقِسْطِ بالعدل، فأنجى الرسول وعذب المكذبون، كقوله وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا أو لكل أمّة من الأمم يوم القيامة رسول تنسب إليه وتدعى به، فإذا جاء رسولهم الموقف ليشهد عليهم بالكفر والإيمان، كقوله تعالى وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٤٨ الى ٤٩]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٤٩)
مَتى هذَا الْوَعْدُ استعجال لما وعدوا من العذاب استبعادا له لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا من مرض أو فقر وَلا نَفْعاً من صحة أو غنى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ استثناء منقطع: أى ولكن ما شاء الله من ذلك كائن، فكيف أملك لكم الضرر وجلب العذاب؟ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ يعنى أن عذابكم له أجل مضروب عند الله، وحدّ محدود من الزمان إِذا جاءَ ذلك الوقت أنجز وعدكم لا محالة، فلا تستعجلوا. وقرأ ابن سيرين: فإذا جاء آجالهم.

[سورة يونس (١٠) : الآيات ٥٠ الى ٥٢]

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (٥٠) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (٥١) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٥٢)
بَياتاً نصب على الظرف، بمعنى. وقت بيات. فإن قلت: هلا قيل ليلا أو نهاراً؟ قلت:
لأنه أريد: إن أتاكم عذابه وقت بيات فبيتكم وأنتم ساهون نائمون لا تشعرون، كما يبيت العدو المباغت. والبيات بمعنى التبييت، كالسلام بمعنى التسليم، وكذلك قوله نَهاراً معناه في وقت أنتم فيه مشتغلون بطلب المعاش والكسب. ونحوه بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ، ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ الضمير في مِنْهُ للعذاب. والمعنى: أن العذاب كله مكروه مرّ المذاق موجب للنفار، فأى شيء يستعجلون منه وليس شيء منه يوجب الاستعجال. ويجوز أن يكون معناه التعجب، كأنه قيل:
أى شيء هول شديد «١» يستعجلون منه، ويجب أن تكون «من» للبيان في هذا الوجه. وقيل:
الضمير في مِنْهُ لله تعالى. فإن قلت: بم تعلق الاستفهام؟ وأين جواب الشرط؟ قلت: تعلق ب أرأيتم، لأنّ المعنى: أخبرونى ماذا يستعجل منه المجرمون، وجواب الشرط محذوف وهو:
تندموا على الاستعجال، أو تعرفوا الخطأ فيه. فإن قلت: فهلا قيل: ماذا تستعجلون منه «٢».
قلت: أريدت الدلالة على موجب ترك الاستعجال وهو الإجرام، لأنّ من حق المجرم أن يخاف التعذيب على إجرامه، ويهلك فزعا من مجيئه وإن أبطأ، فضلا أن يستعجله. ويجوز أن يكون ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ جوابا للشرط، كقولك: إن أتيتك ماذا تطعمني؟ ثم تتعلق الجملة ب أرأيتم، وأن يكون أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ جواب الشرط، وماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ اعتراضاً. والمعنى: إن أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم الإيمان، ودخول حرف الاستفهام على ثم، كدخوله على الواو والفاء في قوله أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى، أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى.
آلْآنَ على إرادة القول، أى: قيل لهم إذا آمنوا بعد وقوع العذاب: آلآن آمنتم به وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ يعنى: وقد كنتم به تكذبون، لأنّ استعجالهم كان على جهة التكذيب
(١). قوله «أى شيء هول شديد» لعله أى شيء أتى هو لا شديدا. (ع)
(٢). قال محمود: «إن قلت هلا قيل ماذا تستعجلون منه... الخ» ؟ قال أحمد: وفي هذا النوع البليغ نكتتان، إحداهما: وضع الظاهر مكان المضمر. والأخرى: ذكر الظاهر بصيغة زائدة مناسبة للمصدر، وكلاهما مستقل بوجه من البلاغة والمبالغة، والله أعلم.
والإنكار. وقرئ: آلان، بحذف الهمزة التي بعد اللام وإلقاء حركتها على اللام ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عطف على «قيل» المضمر قبل آلآن.
[سورة يونس (١٠) : آية ٥٣]
وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥٣)
وَيَسْتَنْبِئُونَكَ ويستخبرونك فيقولون أَحَقٌّ هُوَ وهو استفهام على جهة الإنكار والاستهزاء. وقرأ الأعمش: آلحق هو، وهو أدخل في الاستهزاء، لتضمنه معنى التعريض بأنه باطل. وذلك أنّ اللام للجنس، فكأنه قيل: أهو الحق لا الباطل؟ أو أهو الذي سميتموه الحق، والضمير للعذاب الموعود. وإِي بمعنى «نعم» في القسم خاصة، كما كان «هل» بمعنى «قد» في الاستفهام خاصة. وسمعتهم يقولون في التصديق: إيوَ، فيصلونه بواو القسم ولا ينطقون به وحده وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ بفائتين العذاب، وهو لا حق بهم لا محالة.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٥٤ الى ٥٦]
وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٥٤) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٥) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٥٦)
ظَلَمَتْ صفة لنفس على: ولو أنّ لكل نفس ظالمة ما فِي الْأَرْضِ أى ما في الدنيا اليوم من خزائنها وأموالها وجميع منافعها على كثرتها لَافْتَدَتْ بِهِ لجعلته فدية لها. يقال:
فداه فافتدى. ويقال: افتداه أيضاً بمعنى فداه وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ لأنهم بهتوا لرؤيتهم ما لم يحتسبوه ولم يخطر ببالهم، وعاينوا من شدّة الأمر وتفاقمه ما سلبهم قواهم وبهرهم، فلم يطيقوا عنده بكاء ولا صراخا ولا ما يفعله الجازع، سوى إسرار الندم والحسرة في القلوب، كما ترى المقدّم للصلب يثخنه ما دهمه من فظاعة الخطب، ويغلب حتى لا ينبس بكلمة «١» ويبقى جامداً مبهوتاً. وقيل أسرّ رؤساؤهم الندامة من سفلتهم الذين أضلوهم، حياء منهم وخوفا من توبيخهم. وقيل: أسروها أخلصوها، إما لأن إخفاءها إخلاصها، وإما من قولهم: سرّ الشيء، لخالصه. وفيه تهكم بهم وبأخطائهم وقت إخلاص الندامة. وقيل: أسروا الندامة: أظهروها، من قولهم: أسر الشيء وأشره إذا أظهره. وليس هناك تجلد وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أى بين الظالمين والمظلومين، دل على ذلك ذكر الظلم. ثم أتبع ذلك الإعلام بأنّ له الملك كله، وأنه
(١). قوله «لا ينبس بكلمة» أى لا يتكلم. أفاده الصحاح. (ع)
المثيب المعاقب، وما وعده من الثواب والعقاب فهو حق. وهو القادر على الإحياء والإماتة، لا يقدر عليهما غيره، وإلى حسابه وجزائه المرجع، ليعلم أن الأمر كذلك، فيخاف ويرجى، ولا يغتر به المغترون.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٥٧ الى ٥٨]
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٥٨)
قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ أى قد جاءكم كتاب جامع لهذه الفوائد من موعظة وتنبيه على التوحيد وَهو شِفاءٌ أى دواء لِما فِي صدوركم من العقائد الفاسدة ودعاء إلى الحق وَرَحْمَةٌ لمن آمن به منكم. أصل الكلام: بفضل الله وبرحمته فليفرحوا، فبذلك فليفرحوا.
والتكرير للتأكيد والتقرير، وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا، فحذف أحد الفعلين لدلالة المذكور عليه، والفاء داخلة لمعنى الشرط، كأنه قيل:
إن فرحوا بشيء فليخصوهما بالفرح، فإنه لا مفروح به أحق منهما. ويجوز أن يراد: بفضل الله وبرحمته فليعتنوا فبذلك فليفرحوا. ويجوز أن يراد: قد جاءتكم موعظة بفضل الله وبرحمته، فبذلك: فبمجيئها فليفرحوا. وقرئ فليفرحوا، بالتاء وهو الأصل والقياس، وهي قراءة رسول الله ﷺ فيما روى. وعنه «١» «لتأخذوا مضاجعكم «٢» » قالها في بعض الغزوات.
وفي قراءة أبىّ: فافرحوا هُوَ راجع إلى ذلك. وقرئ: مما تجمعون، بالياء والتاء. وعن أبىّ بن كعب أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تلا قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فقال «بكتاب الله والإسلام «٣» » وقيل «فضله» الإسلام «ورحمته» ما وعد عليه.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٥٩ الى ٦٠]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (٥٩) وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٦٠)
(١). هذا طرف من حديث أخرجه الترمذي من حديث معاذ بن جبل قال «أبطأ عنا رسول الله ﷺ في صلاة الفجر حتى كادت الشمس تطلع ثم خرج فأقيمت الصلاة فصلى بنا صلاة تجوزها فلما سلم قال: فما أنتم على مصافكم- الحديث».
(٢). قوله «لتأخذوا مضاجعكم» لعل الرواية «مصافكم». (ع)
(٣). أخرجه ابن أبى شيبة من طريق مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ فذكره. وعن أبى سعيد كذلك أخرجه الطبري، وروى ابن مردويه من حديث أنس قال: قال رسول الله ﷺ «قل بفضل الله وبرحمته» قال: بفضل الله القرآن وبرحمته أن جعلكم من الملة».
أَرَأَيْتُمْ أخبرونى. وما أَنْزَلَ اللَّهُ «ما» في موضع النصب بأنزل، أو ب أرأيتم، في معنى: أخبرونيه فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا أى أنزله الله رزقا حلالا كله فبعضتموه وقلتم: هذا حلال وهذا حرام وكقولهم هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ، ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ متعلق ب أرأيتم. وقل: تكرير للتوكيد.
والمعنى: أخبرونى الله أذن لكم في التحليل والتحريم فأنتم تفعلون ذلك بإذنه، أم تتكذبون على الله في نسبة ذلك إليه. ويجوز أن تكون الهمزة للإنكار، وأم منقطعة بمعنى: بل أتفترون على الله، تقريرا للافتراء. وكفى بهذه الآية زاجرة زجراً بليغاً عن التجوز فيما يسئل عنه من الأحكام. وباعثة على وجوب الاحتياط فيه، وأن لا يقول أحد في شيء جائز أو غير جائز إلا بعد إيقان وإتقان، ومن لم يوقن فليتق الله وليصمت، وإلا فهو مفتر على الله يَوْمَ الْقِيامَةِ منصوب بالظنّ، وهو ظنّ واقع فيه، يعنى: أى شيء ظنّ المفترين في ذلك اليوم ما يصنع بهم فيه وهو يوم الجزاء بالإحسان والإساءة، وهو وعيد عظيم حيث أبهم أمره. وقرأ عيسى بن عمر: وما ظنّ، على لفظ الفعل. ومعناه: وأى ظنّ ظنوا يوم القيامة. وجيء به على لفظ الماضي لأنه كائن فكأن قد كان إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ حيث أنعم عليهم بالعقل ورحمهم بالوحي وتعليم الحلال والحرام وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ هذه النعمة ولا يتبعون ما هدوا إليه.
[سورة يونس (١٠) : آية ٦١]
وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦١)
وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ «ما» نافية والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والشأن:
الأمر، وأصله الهمز بمعنى القصد، من شأنت شأنه إذا قصدت قصده. والضمير في مِنْهُ للشأن لأن تلاوة القرآن شأن من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو معظم شأنه، أو للتنزيل، كأنه قيل: وما تتلو من التنزيل من قرآن، لأنّ كلّ جزء منه قرآن، والإضمار قبل الذكر تفخيم له. أو لله عزّ وجل. وما تَعْمَلُونَ أنتم جميعاً مِنْ عَمَلٍ أىّ عمل كان
إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً شاهدين رقباء نحصي عليكم إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ من أفاض في الأمر إذا اندفع فيه وَما يَعْزُبُ قرئ بالضم والكسر: وما يبعد وما يغيب، ومنه: الروض العازب وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ القراءة بالنصب والرفع، والوجه النصب على نفى الجنس، والرفع على الابتداء ليكون كلاما برأسه، وفي العطف على محل مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ أو على لفظ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فتحاً في موضع الجرّ لامتناع الصرف: إشكال، لأنّ قولك «لا يعزب عنه شيء إلا في كتاب» مشكل. فإن قلت: لم قدّمت الأرض على السماء، بخلاف قوله في سورة سبأ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ؟ قلت:
حق السماء أن تقدم على الأرض، ولكنه لما ذكر شهادته على شئون أهل الأرض وأحوالهم وأعمالهم، ووصل بذلك قوله لا يَعْزُبُ عَنْهُ لاءم ذلك أن قدّم الأرض على السماء، على أنّ العطف بالواو حكمه حكم التثنية.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٦٢ الى ٦٤]
أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٦٣) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٤)
أَوْلِياءَ اللَّهِ الذين يتولونه بالطاعة ويتولاهم بالكرامة. وقد فسر ذلك في قوله الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ فهو توليهم إياه هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
فهو توليه إياهم. وعن سعيد بن جبير أنّ رسول الله ﷺ سُئل: من أولياء الله؟
فقال: «هم الذين يذكر الله برؤيتهم «١» يعنى السمت والهيئة. وعن ابن عباس رضى الله عنه:
الإخبات والسكينة. وقيل: هم المتحابون في الله. وعن عمر رضى الله عنه: سمعت النبىّ ﷺ يقول «إنّ من عباد الله عباداً ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله» قالوا يا رسول الله، خبرنا من هم وما أعمالهم؟ فلعلنا نحبهم، قال: «هم قوم تحابوا في الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها، فو الله إن وجوههم لنور، وإنهم لعلى منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس»
(١). أخرجه ابن أبى شيبة من رواية أشعث بن إسحاق عن جعفر بن أبى المغيرة عنه به وابن مردويه من طريق يحيى الحمامي عن يعقوب السهمي عن جعفر كذلك ووصله النسائي والبزار من رواية محمد بن سعيد بن سابق عن يعقوب بذكر ابن عباس. قال: سئل رسول الله ﷺ عن أولياء الله قال: الذين إذا رأوا ذكر الله. قال البزار: رواه غير محمد عن يعقوب بغير ذكر ابن عباس.
355
ثم قرأ الآية «١» الَّذِينَ آمَنُوا نصب أو رفع على المدح أو على وصف الأولياء أو على الابتداء والخبر لهم البشرى، والبشرى في الدنيا ما بشر الله به المؤمنين المتقين في غير مكان من كتابه، وعن النبىّ ﷺ «هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له «٢» » وعنه عليه الصلاة والسلام: ذهبت النبوّة وبقيت المبشرات: وقيل: هي محبة الناس له والذكر الحسن. وعن أبى ذر: قلت: لرسول الله صلى الله عليه وسلم: الرجل يعمل العمل لله ويحبه الناس فقال «تلك عاجل بشرى المؤمن «٣» » وعن عطاء: لهم البشرى عند الموت تأتيهم الملائكة بالرحمة. قال الله تعالى تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ وأمّا البشرى في الآخرة فتلقى الملائكة إياهم مسلمين مبشرين بالفوز والكرامة، وما يرون من بياض وجوههم وإعطاء الصحائف بأيمانهم وما يقرؤن منها، وغير ذلك من البشارات
(١). أخرجه إسحاق بن راهويه والطبري وأبو نعيم في أوائل الحلية والبيهقي في الشعب من رواية جرير عن عمارة بن غزية عن أبى زرعة عن عمر به. قال البيهقي: أبو زرعة عن عمر مرسل. ورواه ابن مردويه من وجه آخر يذكر أبى هريرة بين أبى زرعة وعمر ورواه النسائي وابن حبان من وجه آخر عن أبى زرعة عن أبى هريرة. فلم يذكر عمر. وفي الباب عن أنس أخرجه ابن عدى والعقيلي والبيهقي في الشعب أيضا في العاشر منه وفيه واقد بن سلامة عن يزيد الرقاشي. وهما ضعيفان. وعن أبى الدرداء أخرجه الطبراني وفيه فرج بن فضالة وهو ساقط. وعن أبى مالك الأشعرى. أخرجه عبد الرزاق ومن طريقه الطبراني والبيهقي وفيه شهر بن حوشب وعن ابن عمر أخرجه الحاكم من رواية زياد بن خيثمة عنه. وعن العلاء بن زياد مرسلا. أخرجه ابن أبى شيبة في مصنفه.
(٢). أخرجه الترمذي وابن ماجة والحاكم والبيهقي وأحمد وإسحاق من طريق أبى سلمة عن عبادة بن الصامت قال:
سألت رسول الله ﷺ عن قوله هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، قال: هي الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له» رجاله ثقات: إلا أنه معلول، فان أبا سلمة لم يسمع من عبادة، وقد أخرجه الترمذي والحاكم أيضا عن أبى سلمة قال: نبئت عن عبادة، وله طريق أخرى عند ابن مردويه من رواية حميد بن عبد الرحمن المرسى عن عبادة. وأخرجه الترمذي أيضا وأحمد وإسحاق وابن أبى شيبة وأبو يعلى والطبراني والبيهقي من طريق عطاء بن يسار عن رجل من أهل مصر: سألت أبا الدرداء عن قول الله تعالى هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
قال سألت عنها رسول الله ﷺ فقال: هي الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له، زاد بعضهم «وفي الآخرة الجنة» قال ابن أبى حاتم عن أبيه: هذا الرجل لا يعرف. وفي الباب عن ابن مسعود أخرجه ابن مردويه بلفظ «سألت رسول الله ﷺ فذكر مثل حديث عبادة، وعن جابر بن عبد الله بن رباب أخرجه البزار وابن عدى ومن طريق الكلبي عن أبى صالح عنه مرفوعا في قوله تعالى هُمُ الْبُشْرى
- الحديث. وعن جابر أخرجه ابن مردويه من رواية جابر الجعفي عن أبى جعفر عن جابر. قال: جابر هذا هو ابن رباب. كذا قال فأخطأ. وقد أخرجه من وجه آخر عن الأعمش عن أبى سفيان عن جابر عن أبى هريرة أخرجه الطبري وابن مردويه من رواية عمار بن محمد عن الأعمش عن أبى صالح عنه. قيل: انفرد به عمار. لكن أخرجه النسائي في الكنى من رواية إسحاق بن عبد الرحمن بن عمر:
أن الأعمش حدثه، فذكره. وقال: أبو إسحاق لا أعرفه. والحديث خطأ. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أخرجه النسائي وأبو يعلى من رواية دراج عن عبد الرحمن بن جبير عنه. وزاد «الرؤيا جزء من تسعة وأربعين جزآ من النبوة.
(٣). أخرجه مسلم بلفظ «فتحبه وتحمده الناس عليه»
.
356
تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ
لا تغيير لأقواله ولا إخلاف لمواعيده، كقوله تعالى ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ ولِكَ
إشارة إلى كونهم مبشرين في الدارين، وكلتا الجملتين اعتراض،
[سورة يونس (١٠) : آية ٦٥]
وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٥)
وَلا يَحْزُنْكَ وقرئ: ولا يحزنك، من أحزنه قَوْلُهُمْ تكذيبهم لك، وتهديدهم، وتشاورهم في تدبير هلاكك وإبطال أمرك، وسائر ما يتكلمون به في شأنك إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ استئناف بمعنى التعليل، كأنه قيل: مالى لا أحزن؟ فقيل، إنّ العزة لله جميعاً، أى إن الغلبة والقهر في ملكة الله جميعاً، لا يملك أحد شيئاً منها لا هم ولا غيرهم، فهو يغلبهم وينصرك عليهم كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي. إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وقرأ أبو حيوة. أن العزة، بالفتح بمعنى: لأن العزة على صريح التعليل. ومن جعله بدلا من قولهم ثم أنكره، فالمنكر هو تخريجه، لا ما أنكر من القراءة به هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ يسمع ما يقولون. ويعلم ما يدبرون ويعزمون عليه. وهو مكافئهم بذلك.
[سورة يونس (١٠) : آية ٦٦]
أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٦٦)
مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ يعنى العقلاء المميزين وهم الملائكة والثقلان، وإنما خصهم، ليؤذن أن هؤلاء إذا كانوا له وفي ملكته فهم عبيد كلهم، وهو سبحانه وتعالى، ربهم ولا يصلح أحد منهم للربوبية، ولا أن يكون شريكا له فيها، فما وراءهم مما لا يعقل أحق أن لا يكون له نداً وشريكا، وليدلّ على أنّ من اتخذ غيره ربا من ملك أو إنسى فضلا عن صنم أو غير ذلك، فهو مبطل تابع لما أدّى إليه التقليد وترك النظر. ومعنى: وما يتبعون شركاء، أى: وما يتبعون حقيقة الشركاء وإن كانوا يسمونها شركاء، لأنّ شركة الله في الربوبية محال إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا ظنهم أنها شركاء وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ يحزرون ويقدرون أن تكون شركاء تقديراً باطلا. ويجوز أن يكون وَما يَتَّبِعُ في معنى الاستفهام، يعنى: وأى شيء يتبعون. وشُرَكاءَ على هذا نصب بيدعون، وعلى الأوّل بيتبع. وكان حقه. وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء شركاء، فاقتصر على أحدهما للدلالة. ويجوز أن تكون «ما» موصولة معطوفة على «من» كأنه قيل: ولله ما يتبعه الذين يدعون من دون الله شركاء، أى:
وله شركاؤهم. وقرأ على بن أبى طالب رضى الله عنه: تدعون، بالتاء، ووجهه أن يحمل وَما يَتَّبِعُ على الاستفهام، أى: وأى شيء يتبع الذين تدعونهم شركاء من الملائكة والنبيين، يعنى:
أنهم يتبعون الله ويطيعونه، فما لكم لا تفعلون مثل فعلهم؟ كقوله تعالى أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ثم صرف الكلام عن الخطاب إلى الغيبة فقال: إن يتبع هؤلاء المشركون إلا الظن، ولا يتبعون ما يتبع الملائكة والنبيون من الحق.
[سورة يونس (١٠) : آية ٦٧]
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٧)
ثم نبه على عظيم قدرته ونعمته الشاملة لعباده التي يستحق بها أن يوحدوه بالعبادة، بأنه جعل لهم الليل مظلماً ليسكنوا فيه مما يقاسون في نهارهم من تعب التردّد في المعاش، والنهار مضيئاً يبصرون فيه مطالب أرزاقهم ومكاسبهم لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ سماع معتبر مدّكر.
[سورة يونس (١٠) : آية ٦٨]
قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٨)
سُبْحانَهُ تنزيه له عن اتخاذ الولد، وتعجب من كلمتهم الحمقاء هُوَ الْغَنِيُّ علة لنفى الولد لأنّ ما يطلب به الولد من يلد، وما يطلبه له السبب في كله الحاجة، فمن الحاجة منتفية عنه كان الولد عنه منتفيا لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ فهو مستغن بملكه لهم عن اتخاذ أحد منهم ولدا إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا ما عندكم من حجة بهذا القول والباء حقها أن تتعلق بقوله:
إِنْ عِنْدَكُمْ على أن يجعل القول مكاناً للسلطان، كقولك. ما عندكم بأرضكم موز، كأنه قيل: إن عندكم فيما تقولون سلطان أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ لما نفى عنهم البرهان جعلهم غير عالمين، فدلّ على أنّ كل قول لا برهان عليه لقائله فذاك جهل وليس يعلم.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٦٩ الى ٧٠]
قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (٦٩) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠)
يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ بإضافة الولد إليه مَتاعٌ فِي الدُّنْيا أى افتراؤهم هذا منفعة قليلة في الدنيا، وذلك حيث يقيمون رياستهم في الكفر ومناصبة النبي ﷺ بالتظاهر به، ثم يلقون الشقاء المؤبد بعده.

[سورة يونس (١٠) : الآيات ٧١ الى ٧٣]

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (٧١) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٧٢) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣)
كَبُرَ عَلَيْكُمْ عظم عليكم وشق وثقل. ومنها قوله تعالى وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ ويقال: تعاظمه الأمر مَقامِي مكاني، يعنى نفسه، كما تقول: فعلت كذا لمكان فلان: وفلان ثقيل الظل. ومنه وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ بمعنى خاف ربه. أو قيامي «١» ومكثي بين أظهركم مدداً طوالا ألف سنة إلا خمسين عاماً. أو مقامي «٢» وتذكيري، لأنهم كانوا إذا وعظوا الجماعة قاموا على أرجلهم يعظونهم، ليكون مكانهم بيناً وكلامهم مسموعا، كما يحكى عن عيسى صلوات الله عليه أنه كان يعظ الحواريين قائماً وهم قعود فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ من أجمع الأمر وأزمعه، إذا نواه وعزم عليه. قال:
هَلْ أَغْدُوَنْ يَوْماً وَأَمْرِى مُجْمعُ «٣»
والواو بمعنى «مع» يعنى: فأجمعوا أمركم مع شركائكم. وقرأ الحسن: وشركاؤكم بالرفع، عطفا على الضمير المتصل، وجاز من غير تأكيد بالمنفصل لقيام الفاصل مقامه لطول الكلام، كما تقول: اضرب زيداً وعمرو. وقرئ: فاجمعوا من الجمع. وشركاءكم نصب للعطف على المفعول، أو لأنّ الواو بمعنى «مع» وفي قراءة أبىّ: فأجمعوا أمركم وادعوا شركاءكم. فإن قلت:
كيف جاز إسناد الإجماع إلى الشركاء؟ قلت: على وجه التهكم، كقوله قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ. فإن قلت: ما معنى الأمرين؟ أمرهم الذي يجمعونه، وأمرهم الذي لا يكون عليهم غمة؟ قلت: أمّا الأمر الأوّل فالقصد إلى إهلاكه، يعنى: فأجمعوا ما تريدون من إهلاكى واحتشدوا فيه وابذلوا وسعكم في كيدي. وإنما قال ذلك إظهارا لقلة مبالاته وثقته بما وعده
(١). قوله «أو قيامي ومكثي» لعله أو مقامي بالضم. (ع)
(٢). قوله «أو مقامي وتذكيري» لعل هذا أو قيامي. (ع)
(٣).
يا ليت شعري والحوادث جمة هل أغدون يوما وأمرى مجمع
قوله «والحوادث جمة» أى كثيرة. جملة اعتراضية. وأغدون: مؤكد بالنون الخفيفة. وأمرى مجمع: أى منوي مجزوم بامتثاله. أو المعنى: وشملى مجتمع بعد تفرقه، وهي جملة حالية مغنية عن خبر أغدون. أو خبرها. وزيدت الواو لتوكيد الربط. وأجمع يتعلق بالمعقول، وجمع يتعلق بالمحسوس.
ربه من كلاءته وعصمته إياه، وأنهم لن يجدوا إليه سبيلا. وأما الثاني ففيه وجهان، أحدهما:
أن يراد مصاحبتهم له وما كانوا فيه معه من الحال الشديدة عليهم المكروهة عندهم، يعنى:
ثم أهلكونى لئلا يكون عيشكم بسببي غصة وحالكم عليكم غمة: أى غما وهما. والغم والغمة، كالكرب والكربة. والثاني أن يراد به ما أريد بالأمر الأول، والغمة السترة من غمه إذا ستره.
ومنها قوله عليه السلام «ولا غمة في فرائض الله» «١» أى لا تستر، ولكن يجاهر بها، يعنى:
ولا يكن قصدكم إلى إهلاكى مستورا «٢» عليكم ولكن مكشوفاً مشهوراً تجاهروننى به ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ ذلك الأمر الذي تريدون بى، أى: أدوا إلىَّ قطعه وتصحيحه، كقوله تعالى وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أو أدّوا إلىّ ما هو حق عليكم عندكم من هلاكى كما يقضى الرجل غريمه وَلا تُنْظِرُونِ ولا تمهلوني. وقرئ: ثم أفضوا إلىّ، بالفاء بمعنى: ثم انتهوا إلىّ بشرّكم. وقيل هو من أفضى الرجل إذا خرج إلى الفضاء، أى أصحروا به إلىّ وأبرزوه لي فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فإن أعرضتم عن تذكيري ونصيحتي فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فما كان عندي ما ينفركم عنى وتتهموني لأجله من طمع في أموالكم وطلب أجر على عظتكم إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وهو الثواب الذي يثيبني به في الآخرة أى: ما نصحتكم إلا لوجه الله، لا لغرض من أغراض الدنيا وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الذين لا يأخذون على تعليم الدين شيئا ولا يطلبون به دنيا، يريد: أن ذلك مقتضى الإسلام، والذي كل مسلم مأمور به. والمراد أن يجعل الحجة لازمة لهم ويبرئ ساحته، فذكر أن توليهم لم يكن تفريط منه في سوق الأمر معهم على الطريق الذي يجب أن يساق عليه، وإنما ذلك لعنادهم وتمرّدهم لا غير فَكَذَّبُوهُ فتموا على تكذيبه «٣» وكان تكذيبهم له في آخر المدّة المتطاولة كتكذيبهم في أوّلها، وذلك عند مشارفة الهلاك بالطوفان وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ يخلفون الهالكين بالغرق كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ تعظيم لما جرى عليهم، وتحذير لمن أنذرهم رسول الله ﷺ عن مثله، وتسلية له.
[سورة يونس (١٠) : آية ٧٤]
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (٧٤)
مِنْ بَعْدِهِ من بعد نوح رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ يعنى هوداً وصالحاً وإبراهيم ولوطاً وشعيباً فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ
(١). هو طرف من حديث وائل بن حجر في كتاب النبي ﷺ إلى الأقيال، وفيه: «ولا يوصم في الدين ولا غمة في فرائض الله» وقال: الغمة السترة، أى لا تستر في فرائض الله، بل ظاهر بها. [.....]
(٢). قوله «مستورا عليكم» لعله أراد ملتبسا، فلذا قال عليكم، كما أشار إليه النسفي. (ع)
(٣). قوله «فتموا على تكذيبه» أى استمروا. أفاده الصحاح. (ع)
بالحجج الواضحة المثبتة لدعواهم فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا فما كان إيمانهم إلا ممتنعاً كالمحال لشدّة شكيمتهم في الكفر وتصميمهم عليه بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ يريد أنهم كانوا قبل بعثة الرسل أهل جاهلية مكذبين بالحق. فما وقع فصل بين حالتيهم بعد بعثة الرسل وقبلها، كأن لم يبعث إليهم أحد كَذلِكَ نَطْبَعُ مثل ذلك الطبع المحكم نطبع عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ والطبع جار مجرى الكناية عن عنادهم ولجاجهم، لأنّ الخذلان يتبعه. ألا ترى كيف أسند إليهم الاعتداء ووصفهم به.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٧٥ الى ٧٨]
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (٧٥) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (٧٦) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (٧٧) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (٧٨)
مِنْ بَعْدِهِمْ من بعد الرسل بِآياتِنا بالآيات التسع فَاسْتَكْبَرُوا عن قبولها، وهو أعظم الكبر أن يتهاون العبيد برسالة ربهم بعد تبينها، ويتعظموا عن تقبلها وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ كفاراً ذوى آثام عظام، فلذلك استكبروا عنها واجترءوا على ردّها فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا فلما عرفوا أنه هو الحق، وأنه من عند الله، لا من قبل موسى وهرون قالُوا لحبهم الشهوات إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ وهم يعلمون أنّ الحق أبعد شيء من السحر الذي ليس إلا تمويهاً وباطلا. فإن قلت: هم قطعوا بقولهم إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ على أنه سحر، «١» فكيف قيل لهم: أتقولون أسحر هذا؟ قلت: فيه أوجه: أن يكون معنى قوله أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ أتعيبونه وتطعنون فيه. وكان عليكم أن تذعنوا له وتعظموه، من قولهم: فلا يخاف القالة، وبين الناس تقاول إذا قال بعضهم لبعض ما يسوؤه، ونحو القول: الذكر، في قوله سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ ثم قال أَسِحْرٌ هذا فأنكر ما قالوه في عيبه والطعن عليه، وأن يحذف مفعول أتقولون وهو ما دل عليه قولهم إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ كأنه قيل. أتقولون ما تقولون، يعنى قولهم: إن هذا لسحر مبين، ثم قيل: أسحر هذا؟ وأن يكون جملة قوله أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ حكاية لكلامهم، كأنهم قالوا: أَجئتما بالسحر تطلبان به الفلاح وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ كما قال
(١). قال محمود: «إن قلت هم قطعوا بقولهم إن هذا لسحر مبين على أنه سحر... الخ» قال أحمد: وفي الفرق بين الوجهين غموض، وإيضاحه أن القول على الوجه الأول وقع كناية عن العيب، فلا يتقاضى مفعولا وفي الثاني على أنه يطلب مفعولا والله أعلم.
موسى للسحرة: ما جئتم به السحر، إنّ الله سيبطله لِتَلْفِتَنا لتصرفنا. واللفت والفتل:
أخوان، ومطاوعهما الالتفات والانفتال عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا يعنون عبادة الأصنام وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ أى الملك، لأنّ الملوك موصوفون بالكبر. ولذلك قيل للملك:
الجبار، ووصف بالصيد والشوس، ولذلك وصف ابن الرقيات مصعباً في قوله:
مُلْكُهُ مُلْكُ رَأفَة لَيْسَ فِيهِ جَبَرُوتٌ مِنْهُ وَلَا كِبْرِيَاءُ «١»
ينفى ما عليه الملوك من ذلك. ويجوز أن يقصدوا ذمّهما وأنهما إن ملكا أرض مصر تجبرا وتكبرا، كما قال القبطي لموسى عليه السلام: إن تريد إلا أن تكون جباراً في الأرض وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ أى مصدّقين لكما فيما جئتما به. وقرئ: يطبع، ويكون لكما، بالياء.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٧٩ الى ٨٢]
وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (٧٩) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٨٠) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨٢)
ما جِئْتُمْ بِهِ ما موصولة واقعة مبتدأ. والسِّحْرُ خبر، أى الذي جئتم به هو السحر «٢»
(١). لعبد الله بن قيس الرقيات. وقيل: لقيس الرقيات يمدح مصعبا، سمى قيس الرقيات لأنه اتفق له أنه تزوج عدة نسوة، كل منهن تسمى رقية. وملك: وصف كحذر، فلذلك نصب «ملك رأفة» على المصدر. وروى «ملكه ملك» على المبتدأ والخبر. وضمير «فيه» للمصدر، أى: ليس في ملكه جبروت منه، أى من مصعب.
ويحتمل أن الضميرين له. والجبروت: مبالغة في الجبر والقهر، أى: ليس فيه ذلك كغيره، فهو أعظم الملوك.
(٢). قال محمود: «ما موصولة مبتدأ، والسحر خبر أى الذي جئتم به... الخ» قال أحمد: وليس المراد في القراءة الأولى الاخبار بأن ما جاءوا به سحر خاصة، ولكن مع تنزيه ما جاء به عن كونه سحراً. وإنما يستفاد ذلك مما في هذا النظم المخصوص من إفادة الحصر، ولو مرت بخاطر الامام أبى المعالي في مسألة تحريمة التكبير لم بعدل عن الاستشهاد بها على إفادة هذا النظم الحصر، فانا نعلم أن موسى عليه السلام حيث أطلقه فإنما أراد إضافة السحر إلى ما جاءوا به محصوراً فيه، حتى لا يتعدى إلى الحق الذي جاء به هو منه شيء. وأما القراءة الثانية ففيها- والله أعلم- إرشاد إلى أن قول موسى عليه السلام أولا أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا حكاية لقولهم، ويكون أَسِحْرٌ هذا هو الذي قالوه، ولا يناقض ذلك حكاية الله عنهم أنهم قالوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ وذلك إما لأنهم قالوا الأمرين جميعاً: بدءوا بالاستفهام على سبيل الاستهتار بالحق والاستهزاء بكونه حقاً، والاستهزاء بالحق إنكار له، بل قد يكون الاستفهام في بعض المواطن أبت من الاخبار.
ألا ترى أنهم يقولون في قوله: أأنت أم سالم، أبلغ في البت من قوله: مخبرا أنت أم سالم؟ ثم ثنوا بصيغة الخبر الخاصة بيت الإنكار ودعوى أنه سحر فقالوا: إن هذا لسحر مبين، فحكى الله تعالى عنهم هذا القول الثاني، ووبخهم موسى على قولهم الأول. ومعنى العبارتين ومآلهما واحد. وإما أن لا يكونوا قالوا سوى أَسِحْرٌ هذا على سبيل الإنكار حسبما تقدم، فحكاه الله تعالى عنهم بمآله، لأنه يعلم أن مرادهم من الاستفهام الإنكار وبت القول أنه سحر. وحكى موسى عليه السلام قولهم بلفظه، ولم يؤده بعبارة أخرى. وحكاية القصص المتلوة في الكتاب العزيز بصيغ مختلفة لا محمل لها سوى أنها معان منقولة إلى اللغة العربية، فيترجم عنها بالألفاظ المترادفة المتساوية المعاني.
وحاصل هذا البحث: أن قول موسى عليه السلام أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا إنما حكى فيه قولهم، ويرشد إلى ذلك أنه كافأهم عند ما أتوا بالسحر بمثل مقالتهم مستفهما، فقال: ما جئتم به آلسحر؟ على قراءة الاستفهام قرضاً بوفاء على السواء، والذي يحقق لك أن الاستفهام والاخبار في مثل هذا المعنى مؤداهما واحد: أن الله تعالى حكى قول موسى عليه السلام ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ على الوجهين: الخبر والاستفهام، على ما اقتضته القراءتان، وهو قول واحد دل على أن مؤدى الأمرين واحد ضرورة صدق الخبر. وإنما حمل الزمخشري على تأويل القول بالتعييب، أو إضمار مفعول تقولون. استشكالا لوقوع الاستفهام محكياً بالقول، والمحكي أولا عنهم الخبر. وقد أوضحنا أنه لا تنافر ولا تنافى بين الأمرين، فشد بهذا الفصل عرى التمسك، فانه من دقائق النكت. والله الموفق.
لا الذي سماه فرعون وقومه سحراً من آيات الله. وقرئ: آلسحر، على الاستفهام. فعلى هذه القراءة «ما» استفهامية، أى: أىّ شيء جئتم به، أهو السحر؟ وقرأ عبد الله: ما جئتم به سحر.
وقرأ أبىّ: ما أتيتم به سحر. والمعنى: لا ما أتيت به إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ سيمحقه أو يظهر بطلانه بإظهار المعجزة على الشعوذة لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ لا يثبته ولا يديمه، ولكن يسلط عليه الدمار وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ ويثبته بِكَلِماتِهِ بأوامره وقضاياه. وقرئ: بكلمته، بأمره ومشيئته.
[سورة يونس (١٠) : آية ٨٣]
فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (٨٣)
فَما آمَنَ لِمُوسى في أوّل أمره إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ إلا طائفة من ذراري بنى إسرائيل، كأنه قيل: إلا أولاد من أولاد قومه. وذلك أنه دعا الآباء فلم يجيبوه خوفا من فرعون، وأجابته طائفة من أبنائهم مع الخوف. وقيل: الضمير في قومه لفرعون، والذرية: مؤمن آل فرعون، وآسية امرأته، وخازنه، وامرأة خازنه، وماشطته. فإن قلت: إلام يرجع الضمير في قوله وَمَلَائِهِمْ؟ قلت: إلى فرعون، بمعنى آل فرعون، كما يقال: ربيعة ومضر. أو لأنه ذو أصحاب يأتمرون له. ويجوز أن يرجع إلى الذرية، أى على خوف من فرعون وخوف من أشراف بنى إسرائيل، لأنهم كانوا يمنعون أعقابهم خوفا من فرعون عليهم وعلى أنفسهم. ويدل عليه قوله أَنْ يَفْتِنَهُمْ يريد أن يعذبهم وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ لغالب فيها قاهر وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ في الظلم والفساد، وفي الكبر والعتوّ، بادعائه الربوبية.

[سورة يونس (١٠) : الآيات ٨٤ الى ٨٦]

وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤) فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٨٦)
إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ صدقتم به وبآياته فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا فإليه أسندوا أمركم في العصمة من فرعون. ثم شرط في التوكل الإسلام، وهو أن يسلموا نفوسهم لله، أى يجعلوها له سالمة خالصة لا حظّ للشيطان فيها، لأن التوكل لا يكون مع التخليط. ونظيره في الكلام: إن ضربك زيد فاضربه، إن كانت بك قوّة فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا إنما قالوا ذلك، لأنّ القوم كانوا مخلصين، لا جرم أنّ الله سبحانه قبل توكلهم، وأجاب دعاءهم، ونجاهم وأهلك من كانوا يخافونه، وجعلهم خلفاء في أرضه، فمن أراد أن يصلح للتوكل على ربه والتفويض إليه، فعليه برفض التخليط إلى الإخلاص لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً موضع فتنة لهم، أى: عذاب يعذبوننا ويفتنوننا عن ديننا. أو فتنة لهم يفتتنون بنا ويقولون: لو كان هؤلاء على الحق لما أصيبوا.
[سورة يونس (١٠) : آية ٨٧]
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧)
تبوّأ المكان: اتخذه مباءة، كقولك: توطنه، إذا اتخذه وطناً. والمعنى اجعلا بمصر بيوتاً من بيوته «١» مباءة لقومكما ومرجعاً يرجعون إليه للعبادة والصلاة فيه وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ تلك قِبْلَةً أى مساجد متوجهة نحو القبلة وهي الكعبة، وكان موسى ومن معه يصلون إلى الكعبة، وكانوا في أوّل أمرهم مأمورين بأن يصلوا في بيوتهم في خفية من الكفرة، لئلا يظهروا عليهم فيؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم، كما كان المؤمنون على ذلك في أوّل الإسلام بمكة. فإن قلت:
كيف نوّع الخطاب، فثنى أوّلا، ثم جمع، ثم وحد آخراً. قلت: خوطب موسى وهرون عليهما السلام أن يتبوآ لقومهما بيوتا، ويختاراها للعبادة، وذلك مما يفوّض إلى الأنبياء. ثم سيق الخطاب عامّاً لهما ولقومهما باتخاذ المساجد والصلاة فيها، لأنّ ذلك واجب على الجمهور، ثم خص موسى عليه السلام بالبشارة التي هي الغرض، تعظيما لها وللمبشر بها.
[سورة يونس (١٠) : آية ٨٨]
وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٨٨)
(١). قوله «بمصر بيوتا من بيوته» لعل الضمير لمصر. (ع)
364
الزينة: ما يتزين به من لباس أو حلى أو فرش أو أثاث أو غير ذلك. وعن ابن عباس رضى الله عنه: كانت لهم من فسطاط مصر إلى أرض الحبشة جبال فيها معادن من ذهب وفضة وزبرجد وياقوت. فإن قلت: ما معنى قوله رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ؟ قلت: هو دعاء بلفظ الأمر «١»، كقوله رَبَّنَا اطْمِسْ، وَاشْدُدْ، وذلك أنه لما عرض عليهم آيات الله وبيناته عرضا مكرّرا وردّد عليهم النصائح والمواعظ زماناً طويلا، وحذرهم عذاب الله وانتقامه، وأنذرهم عاقبة ما كانوا عليه من الكفر والضلال المبين، ورآهم لا يزيدون على عرض الآيات إلا كفراً، وعلى الإنذار إلا استكبارا، وعن النصيحة «٢» إلا نبوّا، ولم يبق له مطمع فيهم، وعلم بالتجربة وطول الصحبة أنه لا يجيء منهم إلا الغى والضلال، وأنّ إيمانهم كالمحال الذي لا يدخل تحت الصحة، أو علم ذلك بوحي من الله- اشتد غضبه عليهم، وأفرط مقته وكراهته لحالهم، فدعا الله عليهم بما علم أنه لا يكون غيره، كما تقول: لعن الله إبليس، وأخزى الله الكفرة، مع علمك أنه لا يكون غير ذلك، وليشهد عليهم بأنه لم يبق له فيهم حيلة، وأنهم لا يستأهلون إلا أن يخذلوا ويخلى بينهم وبين ضلالهم يتسكعون «٣» فيه، كأنه قال: ليثبتوا على ما هم عليه من الضلال.
وليكونوا ضلالا، «٤» وليطبع الله على قلوبهم فلا يؤمنوا وما علىّ منهم، هم أحق بذلك وأحق، كما يقوله الأب المشفق لولده الشاطر إذا ما لم يقبل منه، حسرة على ما فاته من قبول نصيحته، وحرداً «٥» عليه، لا أن يريد خلاعته واتباعه هواه. ومعنى الشدّ على القلوب. الاستيثاق منها حتى لا يدخلها الإيمان فَلا يُؤْمِنُوا جواب للدعاء الذي هو «اشدد» أو دعاء بلفظ النهى، وقد
(١). قال محمود: «قلت هو دعاء بلفظ الأمر... الخ» قال أحمد: وهذا من اعتزاله الخفي الذي هو أدق من دبيب النمل، يكاد الاطلاع عليه أن يكون كشفا. ووجه ذلك أنه علم أن الظاهر بل والباطن أن اللام التعليل، وأن الفعل منصوب بها، ومعنى ذلك إخبار موسى عليه السلام بأن الله إنما أمدهم بالزينة والأموال وما يتبعهما من النعم استدراجا ليزدادوا إثما وضلالة، كما أخبر تعالى عن أمثالهم بقوله إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وهذا المعنى منتظم على جعل اللام التعليل، والزمخشري بنى على القاعدة الفاسدة في استحالة ذلك على الله تعالى، لاعتقاده أن من الجور أن يملى لهم في الضلالة ويعاقبهم عليها، فهو متبتل لما يرد من الآيات بعمل الحيلة في تأويلها وردها إلى معتقده وجعلها تبعا له، كما تقدم له في تأويل قوله لِيَزْدادُوا إِثْماً وكأين من آية غراء رام أن يسترغرتها ويطفئ نورها بأمثال هذه التأويلات الرديثة لفظاً وعقداً، ويأبى الله إلا أن يتم نوره، ثم لا يسعه إلا أن يحمل موسى عليه السلام على أمثال هذه المعتقدات، ولقد برأه الله وكان عند الله وجيها.
(٢). قوله «وعن النصيحة» لعله وعلى (ع)
(٣). قوله «يتسكعون» في الصحاح: «التسكع» التمادي في الباطل. (ع)
(٤). قوله «وليكونوا ضلالا» هذا على قراءة «ليضلوا» بفتح الياء. والقراءة المشهورة لِيُضِلُّوا بضمها.
وعبارة النسفي: ليضلوا الناس عن طاعتك اه (ع)
(٥). قوله «وحرداً عليه» في الصحاح: الحرد- بالتحريك: الغضب. (ع)
365
حملت اللام في ليضلوا على التعليل، على أنهم جعلوا نعمة الله سبباً في الضلال، فكأنهم أوتوها ليضلوا. وقوله فَلا يُؤْمِنُوا عطف على ليضلوا. وقوله رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ دعاء معترض بين المعطوف والمعطوف عليه. وقرأ الفضل الرقاشي: أإنك آتيت؟
على الاستفهام، واطمس بضم الميم.
[سورة يونس (١٠) : آية ٨٩]
قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨٩)
قرئ: دعواتكما. قيل: كان موسى يدعو وهرون يؤمّن. ويجوز أن يكونا جميعاً يدعوان.
والمعنى: إنّ دعاء كما مستجاب، وما طلبتما كائن ولكن في وقته فَاسْتَقِيما فاثبتا على ما أنتما عليه من الدعوة والزيادة في إلزام الحجة، فقد لبث نوح عليه السلام في قومه ألف عام إلا قليلا ولا تستعجلا. قال ابن جريج: فمكث موسى بعد الدعاء أربعين سنة وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ أى لا تتبعا طريق الجهلة بعادة الله في تعليقه الأمور بالمصالح، ولا تعجلا فإن العجلة ليست بمصلحة. وهذا كما قال لنوح عليه السلام إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ وقرئ: ولا تتبعان، بالنون الخفيفة، وكسرها لالتقاء الساكنين تشبيهاً بنون التثنية، وبتخفيف التاء من تبع.
[سورة يونس (١٠) : آية ٩٠]
وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠)
قرأ الحسن: وجوزنا من أجاز المكان وجوزه وجاوزه، وليس من جوز الذي في بيت الأعشى:
وَإذَا تَجَوَّزْنَا حِبَالَ قَبِيلَةٍ «١»
(١).
وإذا تجوزنا حبال قبيلة أخذت من الأخرى إليك حبالا
للأعشى. وشبه عهود الأمان التي يأخذها من القبيلة يتوثق ويتوصل بها إلى أخرى بالحبال، يجامع التوثق بكل على طريق التصريحية. أى: وإذا تجشمنا مجاوزة عهود قبيلة وتكلفنا مجاوزة محل أمانها، فايقاع التجوز على الحبال:
مجاز عقلى، أخذت ناقتي من القبيلة الأخرى حال كونها ذاهبة إليك حبالا، أى عهوداً للتوصل القبيلة الأخرى، وهكذا. وإسناد الأخذ لها مجاز عقلى، ويكفى في الملابسة مجاورتها له حين الفعل. وإنما أسنده إليها للمبالغة، وتخييل أنها تعرف الممدوح وفضله، فهي المسافرة إليه بنفسها. وروى يجوزها. وجبال بالجيم، فمعنى أخذت:
قطعت من أرض القبيلة الأخرى بالسير إليك جبالا غير تلك. وعلى كل، ففيه دليل على صعوبة الطريق.
لأنه لو كان منه لكان حقه أن يقال وجوّزنا بنى إسرائيل في البحر كما قال:
كَمَا جَوَّزَ السَّكِّىَّ فِى الْبَابِ فَيْتَقُ «١»
فَأَتْبَعَهُمْ فلحقهم. يقال: تبعته حتى أتبعته. وقرأ الحسن: وعدوّا «٢». وقرئ: أنه بالفتح على حذف الياء التي هي صلة الإيمان، وإنه بالكسر على الاستئناف بدلا من آمنت. كرر المخذول المعنى الواحد ثلاث مرات في ثلاث عبارات حرصاً على القبول، ثم لم يقبل منه حيث أخطأ وقته. وقاله حين لم يبق له اختيار قط، وكانت المرّة الواحدة كافية في حال الاختيار وعند بقاء التكليف.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٩١ الى ٩٢]
آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (٩٢)
آلْآنَ أتؤمن الساعة في وقت الاضطرار حين أدركك الغرق «٣» وأيست من نفسك.
قيل: قال ذلك حين ألجمه الغرق يعنى حين أوشك أن يغرق. وقيل: قاله بعد أن غرق في نفسه.
والذي يحكى أنه حين قال آمَنَتْ أخذ جبريل من حال البحر «٤» فدسه في فيه، فللغضب لله على الكافر في وقت قد علم أنّ إيمانه لا ينفعه. وأمّا ما يضم إليه من قولهم: خشية أن تدركه رحمة الله فمن زيادات الباهتين «٥» لله وملائكته: وفيه جهالتان، إحداهما: أنّ الإيمان يصح بالقلب كإيمان الأخرس، فحال البحر لا يمنعه. والأخرى: أنّ من كره إيمان الكافر وأحب بقاءه على الكفر فهو كافر
(١).
ولا بد من جار يجيز سبيلها كما جوز السكى في الباب فيتق
للأعشى يصف مفازة الغزل فيها المحلق عن بنى عكاظ كما يأتى قريباً. يقول: ولا بد لمريد قطعها من جار: أى قريب منها يعين المسافر على سلوك سبيلها. وجازه يجوزه: سلكه. وأجازه يجيزه: أسلكه. وكذا جوزه يجوزه بالتشديد فيهما. والسكى: المسمار، نسبة السك، وهو تضبيب الباب وتسميره. والفيتق: النجار، لأنه يفتق الخشب بالمسمار. ويروى: كما سلك السكى، أى: لا يعد من معين، ينفذه فيها كما أنفذ النجار المسمار في الباب.
وعبر بالماضي ليدل على أن المشبه به معهود للسامع.
(٢). قوله: «وقرأ الحسن وعدوا» في الصحاح: عدا عدوا وعدوا وعداء اه. وقد مر في قوله تعالى فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً (ع) [.....]
(٣). قال محمود: «معناه أتؤمن الساعة في وقت اضطرارك حين أدركك الغرق... الخ» قال أحمد: ولقد أنكر منكراً، وغضب لله ولملائكته كما يجب لهم، والله الموفق.
(٤). قوله «من حال البحر فدسه» أى طينه الأسود. أفاده الصحاح. وفي الحديث «قال جبريل يا محمد فلو رأيتنى وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في فيه» كذا في الخازن. (ع)
(٥). قوله «الباهتين لله» في الصحاح «بهته» إذا قال عليه ما لم يفعله. (ع)
367
لأن الرضا بالكفر كفر «١» مِنَ الْمُفْسِدِينَ من الضالين المضلين عن الإيمان، كقوله الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ وروى أنّ جبريل عليه السلام أتاه بفتيا: ما قول الأمير في عبد لرجل نشأ في ماله ونعمته فكفر نعمته وجحد حقه وادّعى السيادة دونه؟ فكتب فرعون فيه: يقول أبو العباس الوليد بن مصعب: جزاء العبد الخارج على سيده الكافر نعماه أن يغرق في البحر، فلما ألجمه الغرق ناوله جبريل خطه فعرفه نُنَجِّيكَ بالتشديد والتخفيف: نبعدك مما وقع فيه قومك من قعر البحر. وقيل: نلقيك بنجوة من الأرض. وقرئ ننحيك، بالحاء: نلقيك بناحية مما يلي البحر، وذلك أنه طرح بعد الغرق بجانب البحر قال كعب: رماه الماء إلى الساحل كأنه ثور بِبَدَنِكَ في موضع الحال، أى:
في الحال التي لا روح فيك، وإنما أنت بدن، أو ببدنك كاملا سويا لم ينقص منه شيء ولم يتغير.
أو عرياناً لست إلا بدناً من غير لباس. أو بدرعك. قال عمرو بن معد يكرب:
(١). قوله «والذي يحكى»... إلى قوله «لأن الرضا بالكفر» هذا إفراط منه في الجهل بالمنقول والغض من أهله. فان الحديث صحيح الزيادات، وقد أخرجه الترمذي وصححه، والنسائي وابن حبان والحاكم وإسحاق والبزار وأبو داود والطيالسي كلهم من رواية شعبة عن عدى بن ثابت وعطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رفعه أحدهما إلى النبي ﷺ قال «إن جبريل كان يدس في فم فرعون الطين مخافة أن يقول لا إله إلا الله فيرحمه الله» لفظ الترمذي والباقين نحوه، وله طريق أخرى أخرجها أحمد وإسحاق وعبد بن حميد والبزار والطبراني من رواية حماد بن سلمة عن على بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس، بلفظ «لما أغرق الله فرعون قال:
آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل قال جبريل: يا محمد فلو رأيتنى وأنا آخذ الطين من حال البحر فأدسه في فيه مخافة أن تدركه الرحمة، وله طريق أخرى أخرجها يحيى بن عبد الحميد الحمائى في مسنده عن أبى خالد الأحمر عن عمرو بن يعلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قال جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم: وذكر فرعون «فلقد رأيتنى وأنا لأكبر فمه بالحمأة مخافة أن تدركه الرحمة، وفي الباب عن أبى هريرة أخرجه الطبري وابن أبى حاتم والبيهقي في الشعب في السادس والخمسين وابن مردويه من طريق عتية بن سعيد عن كثير بن زاذان عن أبى حازم عنه أن رسول الله ﷺ قال قال لي جبريل «لو رأيتنى وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في فرعون مخافة أن يقول ربى الله، فتدركه رحمة الله»
وعن ابن عمر رضى الله عنهما سمعت رسول الله ﷺ يقول قال لي جبريل: يا محمد ما غضب ربك على أحد غضبه على فرعون إذ قال: ما علمت لكم من إله غيرى. وإذ نادى فقال: أنا ربكم الأعلى. فلما أدركه الغرق استغاث وأقبلت أحشو فاه مخافة أن تدركه الرحمة» أخرجه الطبراني وابن مردويه من رواية محمد بن سليمان بن أبى ضمرة عن عبد الله بن أبى قيس عنه، قلت: وأما الوجهان اللذان ذكرهما الزمخشري، فالحديث توجيه وجيه، لا يلزم منه ما ذكره الزمخشري، وذلك أن فرعون كان كافراً كفر عناد، ألا ترى إلى قصته حيث توقف النيل، وكيف توجه منفرداً وأظهر أنه مخلص، فأجرى له النيل، ثم تمادى على طغيانه وكفره فخشي جبريل أن يعاود تلك العادة فيظهر الإخلاص بلسانه فتدركه رحمة الله فيؤخره في الدنيا فيستمر على غيه وطغيانه فدس في فمه الطين، ليمنعه التكلم بما يقتضى ذلك، هذا وجه الحديث. ولا يلزم منه جهل ولا رضا بكفر بل الجهل كل الجهل ممن اعترض على المنقول الصحيح برأيه الفاسد وأيضاً فايمانه في تلك الحالة على تقدير أنه كان صدقا بقلبه لا يقبل لأنه وقع في حال الاضطرار ولذلك عقب في الآية بقوله تعالى آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وفيه إشارة في قوله تعالى فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا.
368
أَعَاذِلُ شكَّتِى بَدَنِى وَسَيْفِى وَكُلُّ مُقَلّصٍ سَلِسُ الْقِيَادِ «١»
وكانت له درع من ذهب يعرف بها. وقرأ أبو حنيفة رحمه الله: بأبدانك وهو على وجهين:
إما أن يكون مثل قولهم: هوى بأجرامه، يعنى: ببدنك كله وافياً بأجزائه. أو يريد: بدروعك كأنه كان مظاهراً بينها لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً لمن وراءك من الناس علامة، وهم بنو إسرائيل، وكان في أنفسهم أن فرعون أعظم شأناً من أن يغرق. وروى أنهم قالوا: ما مات فرعون ولا يموت أبداً. وقيل: أخبرهم موسى بهلاكه فلم يصدّقوه، فألقاه الله على الساحل حتى عاينوه، وكأن مطرحه كان على ممرّ من بنى إسرائيل حتى قيل: لمن خلفك. وقيل: لِمَنْ خَلْفَكَ لمن يأتى بعدك من القرون. ومعنى كونه آية: أن تظهر للناس عبوديته ومهانته، وأنّ ما كان يدّعيه من الربوبية باطل محال، وأنه مع ما كان فيه من عظم الشأن وكبرياء الملك آل أمره إلى ما ترون لعصيانه ربه عز وجل، فما الظنّ بغيره، أو لتكون عبرة تعتبر بها الأمم بعدك، فلا يجترئوا على نحو ما اجترأت عليه إذا سمعوا بحالك وبهوانك على الله. وقرئ: لمن خلقك، بالقاف: أى لتكون لخالقك آية كسائر آياته. ويجوز أن يراد: ليكون طرحك على الساحل وحدك وتمييزك من بين المغرقين- لئلا يشتبه على الناس أمرك، ولئلا يقولوا- لادعائك العظمة إنّ مثله لا يغرق ولا يموت- آية من آيات الله التي لا يقدر عليها غيره، وليعلموا أنَّ ذلك تعمد منه لإماطة الشبهة في أمرك.
[سورة يونس (١٠) : آية ٩٣]
وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٩٣)
مُبَوَّأَ صِدْقٍ منزلا صالحاً مرضيا وهو مصر والشام فَمَا اخْتَلَفُوا في دينهم وما تشعبوا فيه شعباً إلا من بعد ما قرأُوا التوراة وكسبوا العلم بدين الحق ولزمهم الثبات عليه واتحاد الكلمة، وعلموا أن الاختلاف فيه تفرّق عنه. وقيل هو العلم بمحمد ﷺ واختلاف بنى إسرائيل، وهم أهل الكتاب، اختلافهم في صفته ونعته، وأنه هو أم ليس به. بعد ما جاءهم العلم والبيان أنه هو لم يرتابوا فيه. كما قال الله تعالى الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ.
(١). لعمرو بن معديكرب، وكانت له درع من ذهب تعرفه بها العرب. يقول: يا عاذلة، إن سلاحي درعي وسيفي وفرسي المكتنز اللحم المدبج الخلق. وقيل: المقلص الطويل القوائم الهين القود. ويروى: سهل القياد.
والمعنى واحد. وإطلاق البدن على الدرع في الأصل مجاز علاقته المجاورة أو المحلية، وأتى بأداة العموم في الفرس لأنه الذي يكثر تغييره.

[سورة يونس (١٠) : الآيات ٩٤ الى ٩٥]

فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (٩٤) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٩٥)
فإن قلت: كيف قال لرسول الله ﷺ فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ مع قوله في الكفرة وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ «١» قلت: فرق عظيم بين قوله إِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ بإثبات الشك لهم على سبيل التأكيد والتحقيق، وبين قوله فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ بمعنى الفرض والتمثيل، كأنه قيل: فإن وقع لك شك مثلا وخيل لك الشيطان خبالا منه تقديراً فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ والمعنى: أن الله عز وجل قدم ذكر بنى إسرائيل وهم قرأة الكتاب، ووصفهم بأنّ العلم قد جاءهم، لأنّ أمر رسول الله ﷺ مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، فأراد أن يؤكد علمهم بصحة القرآن وصحة نبوّة محمد عليه السلام، ويبالغ في ذلك، فقال: فإن وقع لك شك فرضا وتقديراً- وسبيل من خالجته شبهة في الدين أن يسارع إلى حلها وإماطتها، إما بالرجوع إلى قوانين الدين وأدلته، وإما بمقادحة العلماء المنبهين على الحق- فسل علماء أهل الكتاب، يعنى: أنهم من الإحاطة بصحة ما أنزل إليك وقتلها علماً بحيث يصلحون لمراجعة مثلك ومساآتهم فضلا عن غيرك، فالغرض وصف الأحبار بالرسوخ في العلم بصحة ما أنزل إلى رسول الله، لا وصف رسول الله بالشك فيه، ثم قال لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ أى ثبت عندك بالآيات والبراهين القاطعة أنّ ما أتاك هو الحق الذي لا مدخل فيه للمرية فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ، وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ أى فاثبت ودم على ما أنت عليه من انتفاء المرية عنك والتكذيب بآيات الله. ويجوز أن يكون على طريقة التهييج والإلهاب، كقوله فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ. وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ ولزيادة التثبيت والعصمة، ولذلك قال عليه السلام عند نزوله «لا أشك ولا أسأل بل أشهد أنه الحق «٢» » وعن ابن عباس رضى الله عنه: لا والله، ما شك طرفة عين، ولا سأل
(١). قال محمود: «إن قلت كيف قال له عليه السلام: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مع قوله في الكفرة وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ... الخ؟ قال أحمد: ولو قال هذا المفسر: إن نفى الشك عنه عليه الصلاة والسلام توطئة لأمره بالسؤال لتقوم حجته على المسئولين لا ليستفيد بسؤالهم علما لمزيد تعين الإبراء بقوله له قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ فأمر بالسؤال والجواب جميعا- لكان أقوم وأسلم، والله أعلم.
(٢). أخرجه عبد الرزاق، ومن طريقه الطبري عن معمر عن قتادة في هذه الآية، قال: بلغنا أن النبي ﷺ قال: «لا أشك ولا أسأل»
.
أحداً منهم، وقيل خوطب رسول الله ﷺ والمراد خطاب أمته. ومعناه: فإن كنتم في شك مما أنزلنا إليكم، كقوله وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً وقيل: الخطاب للسامع ممن يجوز عليه الشك، كقول العرب: إذا عز أخوك فهن. وقيل: «إن» للنفي، أى: فما كنت في شك فاسأل، يعنى: لا نأمرك بالسؤال لأنك شاك، ولكن لتزداد يقينا، كما ازداد إبراهيم عليه السلام بمعاينه إحياء الموتى. وقرئ: فاسأل الذين يقرؤن الكتب.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٩٦ الى ٩٧]
إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٩٧)
حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ ثبت عليهم قول الله الذي كتبه في اللوح وأخبر به الملائكة أنهم يموتون كفاراً فلا يكون غيره. وتلك كتابة معلوم لا كتابة مقدّر ومراد «١» تعالى الله عن ذلك.
[سورة يونس (١٠) : آية ٩٨]
فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (٩٨)
فَلَوْلا كانَتْ فهلا كانت قَرْيَةٌ واحدة من القرى التي أهلكناها، تابت عن الكفر وأخلصت الإيمان قبل المعاينة وقت بقاء التكليف، ولم تؤخر كما أخر فرعون إلى أن أخذ بمخنقه فَنَفَعَها إِيمانُها بأن يقبله الله منها لوقوعه في وقت الاختيار. وقرأ أبىّ.
وعبد الله: فهلا كانت إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ استثناء من القرى، لأنّ المراد أهاليها، وهو استثناء منقطع بمعنى: ولكن قوم يونس لما آمنوا. ويجوز أن يكون متصلا والجملة في معنى النفي، كأنه قيل: ما آمنت قرية من القرى الهالكة إلا قوم يونس، وانتصابه على أصل الاستثناء. وقرئ بالرفع على البدل، هكذا روى عن الجرمي والكسائي. روى أن يونس عليه السلام بعث إلى نينوى من أرض الموصل فكذبوه، فذهب عنهم مغاضباً، فلما فقدوه خافوا نزول العذاب، فلبسوا المسوح، وعجوا»
أربعين ليلة. وقيل: قال لهم يونس: إن أجلكم أربعون ليلة، فقالوا:
إن رأينا أسباب الهلاك آمنا بك، فلما مضت خمس وثلاثون أغامت السماء غيما أسود هائلا يدخن دخاناً شديداً ثم يهبط حتى يغشى مدينتهم ويسوّد سطوحهم فلبسوا المسوح وبرزوا إلى
(١). قوله «لا كتابة مقدر ومراد» مبنى على مذهب المعتزلة أن الله لا يريد الشر. وذهب أهل السنة إلى أنه تعالى يريد كل كائن خيرا كان أو شرا. (ع)
(٢). قوله «وعجوا» أى رفعوا أصواتهم. أفاده الصحاح. (ع)
الصعيد بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم، وفرّقوا بين النساء والصبيان، وبين الدواب وأولادها، فحنّ بعضها على بعض، وعلت الأصوات والعجيج، وأظهروا الإيمان والتوبة وتضرعوا، فرحمهم الله وكشف عنهم، وكان يوم عاشوراء يوم الجمعة. وعن ابن مسعود: بلغ من توبتهم أن ترادّوا المظالم، حتى إنّ الرجل كان يقتلع الحجر وقد وضع عليه أساس بنائه فيردّه، وقيل: خرجوا إلى شيخ من بقية علمائهم فقالوا: قد نزل بنا العذاب فما ترى؟ فقال لهم: قولوا «يا حىّ حين لا حىّ، ويا حىّ محيى الموتى، ويا حىّ لا إله إلا أنت» فقالوها فكشف عنهم. وعن الفضيل بن عياض: قالوا: «اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلت، وأنت أعظم منها وأجل، افعل بنا ما أنت أهله، ولا تفعل بنا ما نحن أهله».
[سورة يونس (١٠) : آية ٩٩]
وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩)
وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ مشيئة القسر «١» والإلجاء «٢» لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ على وجه الإحاطة والشمول جَمِيعاً مجتمعين على الإيمان مطبقين عليه لا يختلفون فيه. ألا ترى إلى قوله أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ يعنى إنما يقدر على إكراههم واضطرارهم إلى الإيمان هو لا أنت. وإيلاء الاسم حرف الاستفهام، للإعلام بأن الإكراه ممكن مقدور عليه، وإنما الشأن في المكره من هو؟ وما هو إلا هو وحده لا يشارك فيه، لأنه هو القادر على أن يفعل في قلوبهم ما يضطرّون عنده إلى الإيمان، وذلك غير مستطاع للبشر.
[سورة يونس (١٠) : آية ١٠٠]
وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (١٠٠)
(١). قوله «مشيئة القسر» هذا مذهب المعتزلة، وذلك أنهم أوجبوا على الله الصلاح والأصلح، وإيمان الكل أصلح، لكن الآية تخالف مذهبهم فقالوا: إنه تعالى أراد إيمان الكل إرادة تخيير العباد، فلم يلزم وقوع المراد، ولو أراده إرادة إجبار لوقع، وأهل السنة لم يوجبوا على الله شيئا، ولزوم وقوع المراد لا ينافي تخيير العباد، لما لهم من الكسب في أفعالهم الاختيارية وإن كان فاعلها في الحقيقة هو الله، كما تقرر في التوحيد. (ع)
(٢). قال محمود: «المراد مشيئة القسر والإلجاء» قال أحمد: وهذا من دسه الاعتزال مخلسا، وخلط الباطل بالحق مدلسا. ولما علم أن الآية تقتضي عدم مشيئة الله تعالى لايمان الخلق بصيغة الكلية، وأنه إنما شاء ذلك ممن آمن لا ممن كفر- إذ مقتضى «لولا» امتناع، وكان ذلك راد لمعتقده الفاسد، إذ يزعمون أن الله تعالى شاء الايمان من جميع أهل الأرض، فلم يؤمن إلا بعضهم- أخذ يحرف مشيئة الايمان إلى مشيئة القسر والإلجاء، ليتم له أن المشيئة المرادة في الآية لم تقع، إلا أنا نوافقه على أن الله تعالى ما قسر الخلق ولا سلب اختيارهم، بل أمرهم بالايمان وخلق لهم اختيارا له وقصداً، وهذا كما ترى لا يعد في التأويل. بل هو أجدر بالتعطيل، فوجب رده وإقرار الظاهر على حاله، نعوذ بالله من زيغ الشيطان وإضلاله، والله الموفق.
وَما كانَ لِنَفْسٍ يعنى من النفوس التي علم أنها تؤمن إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أى بتسهيله وهو منح الألطاف وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ قابل الإذن بالرجس وهو الخذلان «١»، والنفس المعلوم إيمانها بالذين لا يعقلون وهم المصرون على الكفر، كقوله صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ وسمى الخذلان رجسا وهو العذاب لأنه سببه. وقرئ: الرجز، بالزاي. وقرئ ونجعل، بالنون.
[سورة يونس (١٠) : آية ١٠١]
قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (١٠١)
ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من الآيات والعبر وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ والرسل المنذرون، أو الإنذارات عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ لا يتوقع إيمانهم، وهم الذين لا يعقلون وقرئ: وما يغنى، بالياء، و «ما» نافية، أو استفهامية.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ١٠٢ الى ١٠٣]
فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٣)
أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ وقائع الله تعالى فيهم، كما يقال «أيام العرب» لو قائعها ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا معطوف على كلام محذوف يدل عليه قوله إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ كأنه قيل: نهلك الأمم ثم ننجي رسلنا، على حكاية الأحوال الماضية وَالَّذِينَ آمَنُوا ومن آمن معهم، كذلك نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ مثل ذلك الإنجاء ننجي المؤمنين منكم، ونهلك المشركين.
وحَقًّا عَلَيْنا اعتراض، يعنى: حقّ ذلك علينا حقاً. وقرئ: ننجّ، بالتشديد.
[سورة يونس (١٠) : آية ١٠٤]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤)
يا أَيُّهَا النَّاسُ يا أهل مكة إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي وصحته وسداده، فهذا دينى فاسمعوا وصفه، واعرضوه على عقولكم، وانظروا فيه بعين الإنصاف، لتعلموا أنه دين
(١). قوله «وهو الخذلان» تأويل الرجس بالخذلان على مذهب المعتزلة، وعلى مذهب أهل السنة لا حاجة إلى تأويله. (ع)
لا مدخل فيه للشك، وهو أنى لا أعبد الحجارة التي تعبدونها من دون من هو إلهكم وخالقكم وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وإنما وصفه بالتوفى، ليريهم أنه الحقيق بأن يخاف ويتقى، فيعبد دون مالا يقدر على شيء وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يعنى أنّ الله أمرنى بذلك، بما ركب فىّ من العقل، وبما أوحى إلىّ في كتابه. وقيل: معناه إن كنتم في شك من دينى ومما أنا عليه- أثبت عليه أم أتركه وأوافقكم- فلا تحدّثوا أنفسكم بالمحال ولا تشكوا في أمرى، واقطعوا غنى أطماعكم، واعلموا أنى لا أعبد الذين تعبدون من دون الله، ولا أختار الضلالة على الهدى، كقوله قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ، لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ. أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أصله:
بأن أكون، فحذف الجار، وهذا الحذف يحتمل أن يكون من الحذف المطرد الذي هو حذف الحروف الجارّة مع «إن» و «أن». وأن يكون من الحذف غير المطرد، وهو قوله: أمرتك الخير فاصدع بما تؤمر.
[سورة يونس (١٠) : آية ١٠٥]
وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥)
فإن قلت، عطفُ قوله وَأَنْ أَقِمْ على أَنْ أَكُونَ فيه إشكال، لأنّ «أن» لا تخلو من أن تكون التي للعبارة، أو التي تكون مع الفعل في تأويل المصدر، فلا يصح أن تكون للعبارة وإن كان الأمر مما يتضمن معنى القول، لأنّ عطفها على الموصولة يأبى ذلك. والقول بكونها موصولة مثل الأولى، لا يساعد عليه لفظ الأمر، وهو أَقِمْ لأنّ الصلة حقها أن تكون جملة تحتمل الصدق والكذب. قلت: قد سوّغ سيبويه أن توصل «أن» بالأمر والنهى، وشبه ذلك بقولهم:
أنت الذي تفعل، على الخطاب، لأنّ الغرض وصلها بما تكون معه في معنى المصدر. والأمر والنهى دالان على المصدر دلالة غيرهما من الأفعال أَقِمْ وَجْهَكَ استقم إليه ولا تلتفت يميناً ولا شمالا. وحَنِيفاً حال من الدين، أو من الوجه.
[سورة يونس (١٠) : آية ١٠٦]
وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦)
فَإِنْ فَعَلْتَ معناه: فإن دعوت من دون الله مالا ينفعك ولا يضرّك، فكنى عنه بالفعل إيجازاً فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ إذاً جزاء للشرط وجواب لسؤال مقدّر، كأنّ سائلا سأل عن تبعة عبادة الأوثان. وجعل من الظالمين، لأنه لا ظلم أعظم من الشرك، إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ.
[سورة يونس (١٠) : آية ١٠٧]
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٠٧)
أتبع النهى عن عبادة الأوثان ووصفها بأنها لا تنفع ولا تضر، أنّ الله عزّ وجلّ هو الضارّ النافع، الذي إن أصابك بضرّ لم يقدر على كشفه إلا هو وحده دون كل أحد، فكيف بالجماد الذي لا شعور به. وكذلك إن أرادك بخير لم يردّ أحد ما يريده بك من فضله وإحسانه، فكيف بالأوثان؟ فهو الحقيق إذاً بأن توجه إليه العبادة دونها، وهو أبلغ من قوله إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ، أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ. فان قلت: لم ذكر المس في أحدهما، والإرادة في الثاني؟ قلت: كأنه أراد أن يذكر الأمرين جميعاً: الإرادة والإصابة في كل واحد من الضرّ والخير، وأنه لا رادّ لما يريده منهما، ولا مزيل لما يصيب به منهما، فأوجز الكلام بأن ذكر المسّ وهو الإصابة في أحدهما، والإرادة في الآخر، ليدلّ بما ذكر على ما ترك، على أنه قد ذكر الإصابة بالخير في قوله تعالى يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ والمراد بالمشيئة: مشيئة المصلحة.
[سورة يونس (١٠) : آية ١٠٨]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨)
قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ فلم يبق لكم عذر ولا على الله حجة، فمن اختار الهدى واتباع الحق فما نفع باختياره إلا نفسه، ومن آثر الضلال فما ضرّ إلا نفسه، واللام وعلى: دلا على معنى النفع والضر. وكل إليهم الأمر بعد إبانة الحق وإزاحة العلل. وفيه حث على إيثار الهدى واطراح الضلال مع ذلك وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ بحفيظ موكول إلىّ أمركم وحملكم على ما أريد، إنما أنا بشير ونذير.
[سورة يونس (١٠) : آية ١٠٩]
وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (١٠٩)
وَاصْبِرْ على دعوتهم واحتمال أذاهم وإعراضهم حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ لك بالنصرة عليهم والغلبة. وروى أنها لما نزلت جمع رسول الله ﷺ الأنصار فقال «إنكم ستجدون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني «١» » يعنى أنى أُمرت في هذه الآية بالصبر على ما سامتنى الكفرة فصبرت فاصبروا أنتم على ما يسومكم الأمراء الجورة، قال أنس: فلم نصبر. وروى أنّ أبا قتادة تخلف عن تلقى معاوية حين قدم المدينة وقد تلقته الأنصار، ثم دخل عليه من بعد، فقال له: مالك لم تتلقنا؟ قال: لم تكن عندنا دواب. قال: فأين النواضح؟ قال: قطعناها
(١). ذكره الثعلبي عن أنس بغير سند. والقصة المذكورة متفق عليها من حديث عبد الله بن زيد في أثناء حديث، ومن حديث أسيد بن حضير، ليس فيه كون الآية سبب ذلك، بل سببه قسمة غنائم حنين.
375
في طلبك وطلب أبيك يوم بدر، وقد قال صلى الله عليه وسلم: يا معشر الأنصار، إنكم ستلقون بعدي أثره. قال معاوية: فماذا قال؟ قال: قال «فاصبروا حتى تلقوني» قال فاصبر. قال: إذن نصبر. فقال عبد الرحمن بن حسان «١» :
أَلَا أبْلِغْ مُعَاوِيَةَ بْنَ حَرْبٍ أمِيرَ الظّالِمِينَ نَثَا كَلَامِى
بِأَنّا صَابِرُونَ فَمُنْظِرُوكُمْ إلَى يَوْمِ التَّغَابُنِ وَالْخِصَامِ «٢»
عن رسول الله ﷺ «من قرأ سورة يونس أعطى من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بيونس وكذب به، وبعدد من غرق مع فرعون «٣»
(١). أخرجه إسحاق بن راهويه. ومن طريقه الحاكم والبيهقي عن عبد الرزاق عن معمر عن ابن عقيل أن معاوية لما قدم المدينة لقيه أبو قتادة الأنصارى: فقال معاوية تلقانا الناس كلهم غيركم يا معشر الأنصار فما يمنعكم أن تلقوني؟
قال: لم تكن لنا دواب. فقال معاوية: فأين النواضح. قال أبو قتادة. عقرناها في طلبك وطلب أبيك يوم بدر.
ثم قال أبو قتادة: إن رسول الله ﷺ قال: أما إنكم سترون بعدي أثرة. قال معاوية: فما أمركم؟ قال:
أمرنا أن نصبر حتى تلقاه. قال: فاصبروا حتى تلقوه. فقال عبد الرحمن بن حسان حين بلغه ذلك- فذكر البيتين.
وقال: يا أمير المؤمنين. [.....]
(٢). لعبد الرحمن بن حسان، حين دخل معاوية بن أبى سفيان بن حرب المدينة، فتلقته الأنصار وتخلف أبو قتادة، ثم دخل عليه فقال له: مالك تخلفت؟ فقال: لم يكن عندنا دواب. قال: فأين النواضح؟ قال: قطعناها في طلبك وطلب أبيك يوم بدر، وقد قال صلى الله عليه وسلم: يا معشر الأنصار ستلقون بعدي أثرة. قال معاوية، فماذا قال؟ قال: فاصبروا حتى تلقوني. قال: فاصبروا. قال: إذا نصبر. والثناء يقال للخير، وقد يقال الشر. والنثا:
خاص بالشر. وروى «نثا كلامى» ومنظروكم: ممهلوكم. أى أنت وقومك. والتغابن: ظهور الغبن العمال في تجارات الأعمال. والخصام: المخاصمة والمجادلة، أى إلى يوم القيامة.
(٣). تقدم إسناده في آل عمران. ويأتى في آخر القرآن.
376
Icon