تفسير سورة هود

تفسير المنار
تفسير سورة سورة هود من كتاب تفسير المنار .
لمؤلفه رشيد رضا . المتوفي سنة 1354 هـ
سورة هود عليه السلام
وهي الحادية عشرة في المصحف وآياتها ١٢٣ آية
هي مكية حتما كالتي قبلها، واستثنى بعضهم منها ثلاث آيات : الأولى ﴿ فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك ﴾ [ هود : ١٢ ] الخ، والثانية ﴿ أفمن كان على بينة من ربه ﴾ [ هود : ١٧ ] الخ، والثالثة ﴿ وأقم الصلاة طرفي النهار ﴾ [ هود : ١١٤ ] الخ. قيل : إن هذه الثلاث مدنية، وهو خلاف الظاهر، ولا يقوم عليه دليل، إلا ما روي في سبب نزول الثالثة من حديث أبي اليسر وغيره، وسيأتي بيانه في تفسيرها.
وقد نزلت بعد سورة يونس، وهي في معناها وموضوعها الذي بينا في تفسيرها، وهو أصول عقائد الإسلام في الإلهيات والنبوات والبعث والجزاء وعمل الصالحات، وقد فصل فيها ما أجمل في سورة يونس من قصص الرسل عليهم السلام، وهي مناسبة لها كل المناسبة ببراعة المطلع في فاتحتها، والمقطع في خاتمتها، وتفصيل الدعوة في أثنائها، فقد افتتحتا بذكر القرآن بعد [ الر ]، ومثلهما في هذا ما بعدهما من السور الأربع إلا الرعد فأولها [ المر ]، وذكر رسالة النبي المبلغ له عن الله تعالى، وبيان وظيفته فيها، وهو الإنذار والتبشير، وختمتا بخطاب الناس بالدعوة إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وأمره في الأولى بالصبر حتى يحكم الله بينه وبين الكافرين، وفي الثانية بالانتظار، أي انتظار هذا الحكم منه تعالى مع الاستقامة على عبادته والتوكل عليه.
وذكر في أثناء كل منهما التحدي بالقرآن، ردا على الذين زعموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد افتراه، ولكن هذا الموضوع في الأولى أوفى منه في الثانية، وكذا محاجة المشركين في أصول الدين كلها، فقد أجمع في كل منهما ما فصل في الأخرى مع فوائد انفردت بها كل منهما، فهما باتفاق الموضوع، واختلاف النظم والأسلوب، آيتان من آيات الإعجاز، تخر لتلاوتهما الوجوه للأذقان، ساجدة للرحمان.

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ( ١ ) ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير ( ٢ ) وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير ( ٣ ) إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير ( ٤ ) ﴾
هذه الآيات الأربع في أصول الدعوة إلى دين الله تعالى وهي القرآن وما بينه من توحيد الله وعبادته وحده والإيمان برسله وبالبعث والجزاء، وعمل الصالحات، خوطب بها الناس من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم بدون ذكرهم، ولا ذكر لأمره تعالى له به، للعلم بكل منهما بالقرينة، وبنزول هذه السورة عقب سورة يونس التي افتتحت بمثل هذا.
﴿ الر ﴾ تقرأ كأمثالها بأسماء الحروف ساكنة لا بمسمياتها فيقال : ألف، لام، را، ومذهب الخليل وسيبويه أنها اسم للسورة، أو للقرآن [ وبينا حكمة الابتداء بها في أول تفسير سورة الأعراف ] ومحلها الرفع على الابتداء أو الخبرية عند الأكثر.
﴿ كتاب أحكمت آياته ﴾ أي هذا كتاب١ عظيم الشأن [ كما أفاده التنوين ] جعلت آياته محكمة النظم والتأليف، واضحة المعاني بليغة الدلالة والتأثير، فهي كالحصن المنيع، والقصر المشيد الرفيع، في إحكام البناء، وما يقصد به من الحفظ والإيواء مع حسن الرواء، فهي لظهور دلالتها على معانيها ووضوحها لا تقبل شكا ولا تأويلا، ولا تحتمل تغييرا ولا تبديلا، ﴿ ثم فصلت ﴾ أي جعلت فصولا متفرقة في سورة ببيان حقائق العقائد، والأحكام والحكم والمواعظ، وسائر ما أنزل الكتاب له من الفوائد، كما يفصل الوشاح أو العقد بالفرائد، فالأحكام والتفصيل فيه مرتبتان من مراتب البيان مجتمعتان، لا نوعان منه متفرقان يختلفان في الزمان، أو فصلت بعد الإجمال، كما ترى في القصص القصار والطوال، وقد أبهما ببناء فعليهما للمفعول، ثم بينا بجعلهما ﴿ من لدن حكيم خبير ﴾ وهو أبلغ من إسنادهما إليه ابتداء، أي من عند حكيم كامل الحكمة هو الذي أحكمها، وخبير تام الخبرة هو الذي فصلها، ولدن طرف مكان أخص من " عند " وأبلغ. وهو بفتح فضم [ كعضد ] مبني على السكون.
هذا ما يتبادر إلى فهم العربي القح من عبارة الآية، فإذا عرضته على ما جاء في القرآن من حرفي الأحكام والتفصيل وجدت فيه من الحرف الأول ثلاثة كلمات : الأولى قوله تعالى في سورة الحج ﴿ فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته ﴾ [ الحج : ٥ ]، والثانية : قوله تعالى في سورة القتال ويقولون ﴿ لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال ﴾ [ محمد : ٢٠ ] الآية، والثالثة قوله تعالى في سورة آل عمران ﴿ هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات ﴾ [ آل عمران : ٧ ] ووجدت الأحكام في كل منهن بالمعنى اللغوي الذي بيناه آنفا. وقد حمل المقلدون المحكم في الآية الثانية على ما يقابل المنسوخ في اصطلاحهم، فقالوا سورة محكمة غير منسوخة، وهذا الحمل غير صحيح وإن كان المراد منه صحيحا، فإن هذا الاصطلاح ليس من أصل اللغة ولا من عرف القرآن، بل وضع بعد عصر نزوله، والآية الأولى حجة على هذا فإن النسخ فيها غير النسخ الأصولي، ولا يصح أن يكون المعنى فإذا أنزلت سورة غير منسوخة لا كلها ولا بعضها، لأن إنزال سورة منسوخة محال في نفسه، فلا معنى إذا لنفيه، وحملوه في الثالثة على ما يقابل المتشابه وهو صحيح، ولكنهم اختلفوا في معنى كل منهما وأشهر الأقوال عند أهل الكلام والأصول فيهما مخالف لمدلول اللغة وللمروي عن جمهور السلف الذي هو الحق.
قال السيد الجرجاني في الأول : المحكم ما أحكم المراد به عن التبديل والتغيير أي التخصيص والتأويل والنسخ، مأخوذ من قولهم : بناء محكم، أي متقن مأمون الانتقاض، وذلك مثل قوله تعالى :﴿ إن الله بكل شيء عليم ﴾ [ التوبة : ١١٥ ] والنصوص الدالة على ذات الله وصفاته لأن ذلك لا يحتمل النسخ، فإن اللفظ إذا ظهر منه المراد فإن لم يحتمل النسخ فهو محكم، وإلا فإن لم يحتمل التأويل فمفسر، وإلا فإن سيق الكلام لأجل ذلك المراد فنص، وإلا فظاهر، وإذا خفي لعارض أي لغير الصيغة فخفي، وإن خفي لنفسه أي لنفس الصيغة وأدرك عقلا فمشكل، أو نقلا فمجمل، أو لم يدرك أصلا فمتشابه اه. وقال في الثاني : المتشابه ما خفي بنفس اللفظ ولا يرجى دركه أصلا، كالمقطعات في أول السور، وقال التاج السبكي في جمع الجوامع : والمتشابه ما استأثر الله بعلمه وقد يطلع عليه بعض أصفيائه اه. وكلا القولين خطأ كما يعلم مما فسرنا به الآية في الجزء الثاني.
وقال السيد في تعريف التأويل : هو في الأصل الترجيح وفي الشرع صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى يحتمله إذا كان المحتمل الذي يراه موافقا بالكتاب والسنة مثل قوله تعالى :﴿ يخرج الحي من الميت ﴾ [ الأنعام : ٩٥ ] إن أراد به إخراج الطير من البيضة كان تفسيرا، وإن أراد إخراج المؤمن من الكافر أو العالم من الجاهل كان تأويلا اه. وقال التاج السبكي : الظاهر ما دل دلالة ظنية، والتأويل حمل الظاهر على المحتمل المرجوح، فإن حمل لدليل أو لما يظن دليلا ففاسد، أو لا لشيء فلعب لا تأويل ه.
هذا الاصطلاح المفصل لهذه الكلمات فيه ما ترى –في كتب الأصول- من قيل وقال، ومذاهب وجدال، وهو ما لم يكن يخطر في بال أحد من العرب عند قراءتها في كتاب الله تعالى، بل كانوا يفهمونها بمدلولها اللغوي المحض، فأما المحكم فهو ما تقدم.
وأما التفصيل في الآية فقد جاء مكررا في أكثر من عشرين موضعا من عشر سور مكية، وفي موضع واحد من سورة التوبة المدنية، وأكثر في تفصيل الآيات القرآنية والعقلية، وبعضها في تفصيل الكتاب، وبعض آخر في تفصيل الأحكام، ونوع آخر أعم وهو [ تفصيل كل شيء ] أي ما يتعلق بهداية الدين، وإصلاح أمور المكلفين، وكلها داخل في المعنى اللغوي الذي حررناه.
بقي علينا المأثور في الكلمتين عن مفسري السلف، وهو قليل مختصر، فعن ابن زيد في هذه السورة [ قال ] : إنها كلها مكية محكمة، وإن التفصيل فيها هو الحكم بين محمد صلى الله عليه وسلم ومن خالفه في قوله تعالى :﴿ مثل الفريقين كالأعمى والأصم ﴾ [ هود : ٢٤ ] الآية، ثم ذكر قوم نوح وقوم هود قال : فكان هذا تفصيل ذلك وكان أوله محكما اه بالمعنى وحاصله أن المحكم المجمل وأن المفصل ما يقابله بالمعنى اللغوي فيهما، وعن الحسن البصري : أحكمت بالأمر والنهي، وفصلت بالوعد والوعيد، وعن مجاهد [ ثم فصلت ] قال فسرت، وعن قتادة أحكمها الله من الباطل ثم فصلها الله بعلمه، فبين حلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته، وهذه الروايات كلها تدخل في المعنى اللغوي الذي بيناه ولا تحيط به.
والقول الجامع أن تفصيل الإجمال في القرآن قسمان : الأول تفصيل أصول العقائد وكليات التشريع العامة، وأكثره في السور المكية، كما بيناه متفرقا ثم مجملا في تفسير ما تقدم تفسيره منها، وهو الأنعام والأعراف ويونس، والثانية ما يعم تفصيل الأحكام العملية من العبادات والمعاملات السياسية والمدنية والحربية كما بيناه في السور المدنية الطوال المتقدمة أيضا.
١ - بعض السور المبدوءة بمثل هذه الحروف أشير فيها إلى التكريم باسم "ذلك" كالبقرة، وبعضها أشير فيها إلى السور بكلمة "تلك" كيونس ويوسف وغيرهما، وبعضها قدر في أوله اسم إشارة مذكرا كهذه السورة والأعراف وغيرهما..
﴿ الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ( ١ ) ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير ( ٢ ) وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير ( ٣ ) إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير ( ٤ ) ﴾
هذه الآيات الأربع في أصول الدعوة إلى دين الله تعالى وهي القرآن وما بينه من توحيد الله وعبادته وحده والإيمان برسله وبالبعث والجزاء، وعمل الصالحات، خوطب بها الناس من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم بدون ذكرهم، ولا ذكر لأمره تعالى له به، للعلم بكل منهما بالقرينة، وبنزول هذه السورة عقب سورة يونس التي افتتحت بمثل هذا.
﴿ ألا تعبدوا إلا الله ﴾ هذا تفسير أو بيان لأول ما أحكمت وفصلت به وله الآيات-أي بأن لا تعبدوا إلا الله، أو لئلا تعبدوا إلا الله، وهو أن تجعلوا عبادتكم له وحده لا تشركوا به شيئا، وهذا ما تراه قريبا في قصص الرسل المفصلة في هذه السورة، ويؤيد الجمع بين طرفي التوحيد السلبي والإيجابي.
قوله تعالى :﴿ إنني لكم منه نذير وبشير ﴾ وهو تبليغ لدعوة الرسالة مبين لوظيفة الرسول وهي إنذار من أصر على شركه وما يتبعه من الكفر والمعاصي بالعذاب الأليم، وتبشير من آمن واتقى بالسعادة والنعيم المقيم، وقدم الإنذار لأن الخطاب وجه أولا إلى المشركين كنظيره في سورة يونس وأمثالها من السور المكية كسورة الكهف، والمبلغ هذا هو النبي صلى الله عليه وسلم.
﴿ الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ( ١ ) ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير ( ٢ ) وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير ( ٣ ) إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير ( ٤ ) ﴾
هذه الآيات الأربع في أصول الدعوة إلى دين الله تعالى وهي القرآن وما بينه من توحيد الله وعبادته وحده والإيمان برسله وبالبعث والجزاء، وعمل الصالحات، خوطب بها الناس من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم بدون ذكرهم، ولا ذكر لأمره تعالى له به، للعلم بكل منهما بالقرينة، وبنزول هذه السورة عقب سورة يونس التي افتتحت بمثل هذا.
﴿ وأن استغفروا ربكم ﴾ هذا عطف على ما قبله، أي وأن اسألوه أن يغفر لكم ما كان من الشرك والكفر والإجرام والظلم ﴿ ثم توبوا إليه ﴾ أي ثم ارجعوا إليه من كل إعراض –عنه وعن آياته- يعرض لكم بترك واجب أو فعل محرم، نادمين منيبين مصلحين لما أفسدتم، مستدركين ما قصرتم، عطف التوبة بثم لأن مرتبة العمل متأخرة عن مرتبة القول، فكم من مستغفر وهو مصر على الذنب، وسيأتي مثله في قصة كل من هود وصالح وشعيب ﴿ يمتعكم متاعا حسنا ﴾ المتاع كل ما ينتفع به في المعيشة وحاجة البيوت، والإمتاع والتمتيع إعطاء ما يتمتع به تمتعا طويلا ممتدا، وأما وصفه تعالى لمتاع الدنيا وتمتع أهلها بها بالقليل فهو بالإضافة إلى حياة الآخرة، والمعنى أن تستغفروا ربكم عند كل ذنب، وتتوبوا إليه من كل إعراض عن هدايته، وتنكب عن سنته، يمتعكم في دنياكم متاعا حسنا مرضيا ممتدا ﴿ إلى أجل مسمى ﴾ عنده وهو العمر المقدر لكم في علمه، المكتوب في نظام الخليقة وسنن الاجتماع البشري في عباده، فلا يقطعه إهلاككم بعذاب الاستئصال، ولا بفساد العمران وسلب الاستقلال، ولا ينغصه كل ما ينغص حياة الكفار، وذلك أن لتنغيص الحياة في الدنيا وسلب النعم من أهلها أسبابا ترجع كلها إلى الإصرار على الكفر والذنوب المحرمة، وهي لم تكن محرمة إلا لأنها ضارة مفسدة للدين أو مزيلة للحياة أو للعقل أو للصحة أو لنظام الاجتماع المالي والمدني، وإنما تكون مفسدة بإصرار فاعليها عليها، فإذا كان من تعرض له يندم ويبادر إلى التوبة من قريب ويصلح ما نجم من فسادها بالعمل المضاد له، امتنع ذلك الفساد وزال أثره، ولهذا اشترط في التوبة المقبولة ما اشترط ووصفت في القرآن بما وصفت كقوله تعالى :﴿ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب ﴾ [ النساء : ١٧ ] وقوله :﴿ فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه ﴾ [ المائدة : ٣٩ ] وفي معناه آيات أخرى وقوله :﴿ والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ﴾ [ آل عمران : ١٣٥ ] وقد سبق تفسيرها في مواضعها.
وهذه السنة الربانية مطردة في ذنوب الأمم المقصودة بالقصد الأول من هذا الخطاب، وهي فيها أظهر منها في ذنوب الأفراد [ كما بيناه في مواضع عديدة من هذا التفسير ] فالأمم التي تصر على الظلم والفساد والفسوق والعصيان، يهلكها الله تعالى في الدنيا بالضعف والشقاق وخراب العمران، حتى تزول منعتها، وتتمزق دولتها، فتنقرض أو تستولي عليها دولة أخرى، فهذا معروف في تواريخ الأمم من أحوالها العامة في كل عصر، وأما أقوام الرسل عليهم السلام في عصورهم فقد أهلك الله المصرين منهم على الكفر والعناد، بعد قيام الحجة عليهم بعذاب الخزي والاستئصال، كما بيناه في مواضعها وأقربها عهدا [ أواخر ] سورة يونس عليه السلام، والآية تتضمن نجاة هذه الأمة المحمدية من عذاب الاستئصال كما بيناه في تفسير سورة يونس أيضا، وسنعود إلى بيان هذا في تفسير الآيات [ ١٠٠-١٠٣ ] التي ختمت بها قصص الرسل من هذه السورة.
وأما قوله تعالى :﴿ ويؤت كل ذي فضل فضله ﴾ فهو عام مطلق في جزاء الأفراد في الآخرة، مقيد في جزائهم في الدنيا، ومعناه مع الذي قبله أنكم أيها المخاطبون بهذه الآيات من قوم محمد رسول الله وخاتم النبيين، إن تجتنبوا الشرك وتؤمنوا بالله ورسوله وتستغفروا ربكم، وتتوبوا إليه عقب كل ذنب يقع منكم يمتعكم بجملتكم ومجموعكم متاعا حسنا تكونون به خير الأمم نعمة وقوة وعزة ودولة، ويعط كل ذي فضل من علم وعمل جزاء فضله في الآخرة مطردا كاملا، وأما في الدنيا فقد يكون هذا الجزاء جزئيا ناقصا، ومشوبا لا خالصا، ولا يكون عاما كاملا مطردا لقصر أعمال الأفراد، والتعارض والترجيح في سنن الأسباب والمسببات، وهذا من أدلة البعث وجزاء الآخرة الذي يظهر فيه عدله تعالى كاملا شاملا.
وبهذا التفسير الذي وفقنا الله تعالى له يظهر ما بيناه مرارا من أن ثمرة الدين سعادة الدنيا والآخرة كلتيهما، وقد غفل عنه المفسرون الذين يعارضون أمثال هذه النصوص بما جعلوه أصلا يرجعونها إليها بالتأويل كأحاديث ذم الدنيا وتسميتها " سجن المؤمن وجنة الكافر " ١ وما يصح منها كهذا الحديث فهو محمول على النسبة بينهما بالإضافة إلى حال كل منهما في الدنيا والآخرة، وحديث " أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل " ٢ وهو صحيح أيضا، والبلاء الاختبار- يكون في النعم والنقم، والخير والشر- يظهر استعداد الناس لكل منهما كما تراه قريبا في تفسير الآية ٧ فليس مما نحن فيه مما وعد الله به رسله وبلغوه أقوامهم وصدقه الواقع، فكانت العاقبة للمؤمنين بهم في خلافة الأرض وملكها ونعيمها ما ثبتوا على ذلك، ومنه هذه البشارة ويقابلها قوله تعالى في الإنذار :
﴿ وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير ﴾ أي وإن تتولوا معرضين عما دعوتكم إليه من عبادة الله تعالى وعدم عبادة غيره ومن الاستغفار والتوبة من كل ذنب، فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير هوله، شديد بأسه، وهو أن يصيبكم مثل ما أصاب أقوام الرسل الذين عاندوهم وأصروا على تكذيبهم وعصيانهم، أو ما دونه من عذاب المصرين، وفي إثر نصر الرسول والمؤمنين، وهذه براعة استهلال للقصص المفصلة في هذه السورة، وأكثر المفسرين على أن المراد باليوم الكبير يوم القيامة الذي يكون فيه الجزاء الأكبر وهو المشار إليه في الآية التالية : إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير ( ٤ ) }
١ - حديث: "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر" أخرجه مسلم في الزهد حديث ١، والترمذي في الزهد، باب ١٦، وابن ماجه في الزهد باب٣، وأحمد في المسند ٢/ ١٩٧، ٣٢٣، ٣٨٩، ٤٨٥..
٢ -لفظ الحديث في الصحاح والسنن: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء"، أخرجه بهذا اللفظ البخاري في المرضى باب ٣، والترمذي في الزهد باب ٥٧، وابن ماجه في الفتن باب ٢٣، والدارمي في الرقاق باب ٦٧، وأحمد في المسند ١/ ١٧٢، ١٧٤، ١٨٠، ١٨٥، ٦/ ٣٦٩..
﴿ الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ( ١ ) ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير ( ٢ ) وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير ( ٣ ) إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير ( ٤ ) ﴾
هذه الآيات الأربع في أصول الدعوة إلى دين الله تعالى وهي القرآن وما بينه من توحيد الله وعبادته وحده والإيمان برسله وبالبعث والجزاء، وعمل الصالحات، خوطب بها الناس من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم بدون ذكرهم، ولا ذكر لأمره تعالى له به، للعلم بكل منهما بالقرينة، وبنزول هذه السورة عقب سورة يونس التي افتتحت بمثل هذا.
﴿ إلى الله مرجعكم ﴾ أي إليه تعالى رجوعكم بعد موتكم جميعا أمما وأفرادا لا يتخلف أحد منكم فتلقون جزاءكم تاما ﴿ وهو على كل شيء قدير ﴾ ومنه بعثكم وحشركم وجزاؤكم قدم وصف الرسول بالنذير على وصفه بالبشير، ثم قدم بشارة المؤمنين، وأخر إنذار الكافرين المصرين تأليفا لهم، لأن توالي الإنذار منفر من الاستماع، مغر بالتولي والإعراض، على أن هذا التأليف لم يؤثر فيهم كما ترى في قوله تعالى :﴿ ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور ( ٥ ) ﴾
﴿ ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور ( ٥ ) ﴾
هذا بيان مستأنف لحال المشركين وصفتهم عند تبليغهم الدعوة وإقامة الحجة، افتتحت بأداة التنبيه ليتأملها السامع ويتصورها في صفتها الغربية الدالة على أعراض الحيرة والعجز ومنتهى الجهل، يقال ثنى الثوب إذا عطف بعضه على بعض فطواه، وإثناء الثوب إطواؤه ومطاويه، وثناه عنه لواه وحوله، وثناه عليه أطبقه وطواه ليخفيه فيه، وثنى عنانه أي تحول وأعرض، وثنى عطفه أي أعرض بجانبه تكبرا، ومنه في المجادل في الله بغير علم [ ثاني عطفه ﴿ ليضل عن سبيل الله ﴾ ] [ الحج : ٩ ] والاستخفاء محاولة الخفاء ومنه ﴿ يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله ﴾ [ النساء : ١٠٨ ] واستغشاء الثياب التغطي بها ومنه قوله تعالى حكاية عن نوح عليه السلام ﴿ وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا ﴾ [ نوح : ٧ ] وهو بمعنى ما نحن فيه.
﴿ ألا إنهم يثنون صدورهم ﴾ فسر بعضهم ثني الصدور هنا بالإعراض التام، والاستدبار للرسول عند تلاوة القرآن، وهو أبلغ من ثني العطف والجانب، وفسره آخرون بطيها على ما هو مكنون فيها من الكراهة والعداوة له صلى الله عليه وسلم والأقرب أن يكون تصويرا لما كان يحاوله بعض الكفار ثم المنافقين عند سماع القرآن من الاستخفاء بتنكيس الرأس، وثني الصدر على البطن كما يطوي الثوب، حتى يخفى فاعله بين الجمع، خجلا مما فيه من القرع والصداع، فالمعنى ألا إن هؤلاء الكافرين الكارهين لدعوة التوحيد يحنون ظهورهم وينكسون رؤوسهم كأنهم يحاولون طي صدورهم على بطونهم عند سماع القرآن وهو معنى بليغ وواقع وأدنى إلى التعليل بقوله :
﴿ ليستخفوا منه ﴾ أي من النبي صلى الله عليه وسلم عند تلاوته للقرآن فلا يراهم عند وقوع هذه القوارع على رؤوسهم، أو ليستخفوا مما هم فيه من الشأن المظهر ليخزيهم، وجهلهم، المثبت لعجزهم، وهو الذي كان يتبادر إلى فهمي كلما تلوت الآية أو سمعتها قبل الاطلاع على شيء مما قيل في تفسيرها، على أنه قد يجامع ما قبله فيصدق كل منهما على فريق من الكفار، ويناسب الأول أن يكون الاستخفاء من الله عز وجل ورواه البخاري عن مجاهد، وروى ابن جرير وغيره عن عبد الله بن شداد قال : كان أحدهم إذا مر بالنبي صلى الله عليه وسلم ثنى صدره لكي لا يراه فنزلت. وعن أبي رزين قال : كان أحدهم يحني ظهره ويستغشي بثوبه، وعن عطاء الخراساني في قوله :﴿ يثنون صدورهم ﴾ يقول : يطأطئون رؤوسهم، ويحنون ظهورهم، أي ألا فليعلموا أن ثني صدورهم وتنكيس رؤوسهم ليستخفوا من الداعي لهم إلى توحيد ربهم، أو من ظهور حجته عليهم، لا يغني عنهم شيئا من ظهور فضيحتهم، فإنهم حين يستغشون ثيابهم فيغطون بها جميع أبدانهم عند النوم في ظلمة الليل، ويخلون بخواطرهم وما يبيتون من السوء والمكر، فإن ربهم يعلم ما يسرون منها ليلا، ثم ما يعلنون نهارا. وعن قتادة قال : كانوا يحنون صدورهم لكيلا يسمعوا كتاب الله تعالى.
قال تعالى :﴿ ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون ﴾ وذلك أخفى ما يكون ابن آدم إذا حنى ظهره، واستغشى بثوبه، وأضمر همه في نفسه، فإن الله لا يخفى ذلك عليه ﴿ إنه عليم بذات الصدور ﴾ أي إنه تعالى عليم محيط بأسرار الصدور، وخواطر القلوب، فهم كالذين قال فيهم :﴿ يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعلمون محيطا ﴾ [ النساء : ١٠٨ ].
وروي في الآية ما لا يظهر في معناها ولا في قراءتها أنه تفسير لها، وهو أنها نزلت في أناس كانوا يستحيون أن يتخلوا فيفضوا إلى السماء، وأن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء، وممن رواه البخاري عن ابن عباس، ولعل المراد أنه قال : إن هذا يصدق فيهم، وأقول : إن هذا ضرب من مراقبة الله تعالى تذكرهم به رؤية السماء في هذه الحالة التي يقتضي الأدب الستر فيها، وإن كان الله لا يخفى عليه شيء، ولا يحجب بصره ثوب ولا ظلمة ليل، وروي عنه أنه قرأ : ألا إنهم تثنوني صدورهم- بالمثناة الفوقية وبالتحتية- من اثنونى كاحلولى، وكذا تثنوي كترعوي وفيها قراءات أخرى كلها شاذة لا نعنى بنقلها ولا بتوجيهها.
أول الجزء الثاني عشر في المصاحف
﴿ وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل من كتاب مبين ( ٦ ) وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ( ٧ ) ﴾
بين الله تعالى في الآية التي قبل هذه إحاطه علمه إثر بيان ما يغفل الناس عن علمه به، وبين في التي قبلها شمول قدرته لكل شيء، وبين في الآية الأولى من هاتين الآيتين ما يهم الناس من آثار قدرته، ومتعلقات علمه، وكتابة مقادير خلقه، وهو ما يتعلق بحياتهم وشؤونهم، وفي الآية التي بعدها خلقه للعالم كله، ومكان عرشه قبل هذا من ملكه، وبلاء البشر خاصة بذلك كله، ليظهر أيهم أحسن عملا، وبعثه إياهم بعد الموت لينالوا جزاء أعمالهم، وإنكار كفارهم لهذا قال :
﴿ وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ﴾ الدب والدبيب الانتقال الخفيف البطيء حقيقة كدبيب الطفل والشيخ المسن والعقرب والجراد أو بالإضافة كدبيب الجيش، أو مجازا كدبيب السكر والسم في الجسم، والدابة اسم عام يشمل كل نسمة حية تدب على الأرض زحفا أو على قوائم ثنتين فأكثر، قال تعالى :﴿ والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع، يخلق الله ما يشاء ﴾ [ النور : ٤٥ ] أي مما تعلمون ومما لا تعلمون مما يدب على الأرض ومما يطير في الهواء ومما يسبح في البحار والأنهار، وغلبة لفظ الدابة على ما يركب من الخيل والبغال والحمير عرف لا لغة، ورزق الدابة غذاؤها الذي تعيش به.
والمعنى : ما من دابة من أنواع الدواب في الأرض إلا على الله رزقها على اختلاف أنواعها وأنواعه، فمنها الجنة التي لا ترى بالأبصار، وصغار الحشرات والهوام، وضخام الأجسام، والوسطى بين الكبير والصغير، وأغذية كل نوع مختلفة من نباتية وحيوانية، وقد أعطى كلا منها خلقه المناسب لمعيشته، ثم هداه إلى تحصيل غذائه بغريزته، فمنهم ما خلق له خراطيم يمص بها غذاءه من النبات أو دم الحيوان، وأعطاها من القوة ما إن خرطوم البعوضة الدقيق ليخترق جلد الإنسان وما هو أكثف منه من جلود الحيوان، ومنها ما خلق له مناقير تلتقط الحبوب، ومنها ما يمضغ النبات بأسنانه مضغا، وما يبلع الحشرات والطيور والأنعام بلعا، وما له مخالب يمزق بها اللحوم، وما له براثن يقتل بها كبار الجسوم، وتفصيل هذا له كتب خاصة من قديمة وحديثة، ولله تعالى حكم في خلقها وغذائها عجيبة، فإن خفي عليك أمر تغذي الحيات والسنانير ونحوها من خشاش الأرض وصغارها، وتغذي الأفاعي الكبرى وسباع الوحش والطير من كبارها، فأول ما ينبغي لك أن تفكر فيه من حكمتها، أنه لولا ذلك لضاقت الأرض ذرعا بكثرة أحيائها، أو لأنتنت من كثرة أمواتها، وإذا أردت زيادة العلم بها وبحكمتها فعليك بالمصنفات المدونة فيها، وقد فتحت هذه الآية وأمثالها لك أبوابها، وأرشدتك إلى تطلابها.
ولا يشكلن عليك التعبير عن كفالة الله لرزقها بقوله [ على ] وما قيل من دلالتها على الوجوب مع قول المتكلمين إنه لا يجب عليه تعالى شيء، فإن الممنوع أن يجب عليه تعالى شيء بإيجاب موجب ذي حكم أو سلطان يطالبه به ويحاسبه عليه، فهذا محال عقلا وشرعا، وأما ما أوجبه الله تعالى من النظام وسنن التدبير العام للمخلوقات بمقتضى علمه وحكمته ومشيئته، ونفذه بقدرته واختياره في خليقته، فهو حكمه وقضاؤه وقدره وبسلطانه، لا حكم عليه بسلطان غيره، وهو كمال مطلق لا شائبة للنقص فيه.
ولا يشكلن عليك فيها أيضا أن يكون في كل نوع من هذه الدواب حتى الإنسان أفراد قد تضيق في وجوههم أبواب الرزق حتى يقضي بعضهم جوعا، فليس معناها أن الله تعالى قد كفل لكل دابة من كل نوع أن يخلق لها ما تغتذي به، ويوصله إليها بمحض قدرته، سواء أطلبته بباعث غريزتها أو ما يهديها إليه العلم من أسباب كسبها أم لا ؟ وإنما معناها ما فسرناها به من خلقه تعالى لكل منها الرزق الذي تعيش به، وأنه سخره لها وهداها إلى طلبه وتحصيله، كما قال :﴿ ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ﴾ [ طه : ٥٠ ] وبهذا تعلم جهل بعض العباد والشعراء فيما زعموه من أن الكسب وعدمه سواء، كقول بعض الخياليين الجاهلين، المتواكلين غير المتوكلين :
جرى قلم القضاء بما يكون فسيان التحرك والسكون
جنون منك أن تسعى لرزق ويرزق في غشاوته الجنين
فهذا الشاعر أحق بصفة الجنون ممن يصفهم بها، فإن ما جرى به القضاء منه ما هو مجهول للناس، ومنه ما علم نوعه بالتجارب والاختبار، ويعبر عنه بالنواميس والسنن، ومنها أن الحركة والسكون لكل منهما آثار، فما هما سيان في ذاتهما، ولا في آثارهما ونتائجهما، وأن ما قضاه وقدره من رزق الجنين في غشاوته بدم حيض أمه، غير ما قضاه وقدره من رزق من خاطبهم بقوله :﴿ هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه ﴾ [ الملك : ١٥ ] وبغيره من آيات التسخير والتكليف.
ومن العجيب أن يستدل أحد المفسرين الأذكياء على هذا الجهل بأثر موضوع، ويستحسن في موضوعه خيال ابن أذينة الشاعر المخدوع :
لقد علمت وما الإشراف من خلقي***إن الذي هو رزقي سوف يأتيني١
أسعى إليه فيعييني تطلبه***ولو أقمت أتاني لا يعييني
ثم يقول : وقد صدقه الله تعالى في ذلك يوم وفد على هشام فقرعه بقوله هذا، فرجع إلى المدينة فندم هشام على ذلك وأرسل بجائزته إليه، ثم أورد [ أي المفسر ] في معناه قول من اعترف بأنه ألغى أمر الأسباب جدا إذ قال :
مثل الرزق الذي تطلبه ***مثل الظل الذي يمشي معك
أنت لا تدركه متبعا***وإذا وليت عنه تبعك
وقفى عليه –أعني المفسر- بقوله هو : وبالجملة ينبغي الوثوق بالله وربط القلب به سبحانه، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن اه.
وأقول إن هذه الجملة حق وضع موضع الباطل، ولكن هذا الشعر أوغل في الجهل الباطل مما سبقه، فإنه جعل الكلام في الرزق المطلوب، لا في الرزق المكتوب، وجعل اتباعه بالسعي والطلب مانعا من إدراكه، والتولي عنه بالقعود والكسل، والتمني دون العمل، من الضرورات المقتضية لنيله، فيكون تأييد زعمه أو تقريبه بما ينبغي بل بما يجب من الوثوق بالله وربط القلب به والإيمان بمشيئته، من ربط العلم بالجهل، وتأييد الباطل بكلمة الحق فالثقة بالله تعالى والإيمان بمشيئته لا يصحان مع الجهل بمعناهما ومواضع تعلقهما، وقد علم بنصوص القرآن وبسنن الله تعالى في الخلق وأسباب الرزق، أن مشيئته تعالى لا تكون إلا بمقتضى سننه في ارتباط الأسباب بالمسببات وحكمته فيها كما فصلناه مرارا في مواضعه من هذا التفسير، والجهل بهذا مما أفسد على المسلمين دنياهم ودينهم، وأضاع جل ملكهم، وجعل جماهيرهم عالة على غيرهم.
﴿ ويعلم مستقرها ومستودعها ﴾ أي وما من دابة في الأرض إلا ويعلم الله مستقرها حيث تستقر وتقيم، ومستودعها حيث تكون مودعة إلى حين، فهو يرزقها في كل حال بحسبه وقد بينا معنى الكلمتين في اللغة وما ورد في تفسيرهما من الآثار في تفسير ﴿ هو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع ﴾ [ الأنعام : ٩٨ ] فراجعها إن شئت في الطبعة الثانية للجزء السابع من التفسير، وقد لخص البيضاوي جملة الأقوال في مستقرها ومستودعها كعادته بقوله : أماكنها في الحياة والممات أو الأصلاب والأرحام أو مساكنها من الأرض حين وجدت ومودعها من المواد والمقار حين كانت بعد بالقوة.
﴿ كل في كتاب مبين ﴾ أي كل واحد من الدواب وأرزاقها ومستقرها ومستودعها ثابت مرقوم في كتاب مبين ولوح محفوظ، كتب الله فيه مقادير الخلق كلها فهو عنده تحت العرض كما ثبت في الصحيح. وقد بينا ما ورد في هذا الكتاب مجملا في تفسير ﴿ وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ﴾ [ الأعراف : ٣٨ ] ثم مفصلا في تفسير آية مفاتح الغيب وهي ٥٩ من هذه السورة [ الأنعام ] فراجعها في ج٧ أيضا.
١ - البيتان من البسيط، وهما لعروة ابن أذينة في ديوانه ص ٣٢٧، والبيت الأول في الأغاني ١٨/٢٣٢، وبلا نسبة في لسان العرب [شرف] وتاج العروس [شرف]..
﴿ وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ﴾ من أيام الله تعالى في الخلق والتكوين وما شاء من الأطوار، لا من أيامنا في هذه الدار التي وجدت بهذا الخلق لا قبله، فلا يصح أن تقدر أيام الله بأيامها كما توهم الغافلون عن هذا وما يؤيده من قوله :﴿ وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون ﴾ [ الحج : ٤٧ ] وقوله :﴿ تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ﴾ [ المعارج : ٤ ] وقد ثبت في علم الهيئة الفلكية أن أيام غير الأرض من الدراري التابعة لنظام شمسنا هذه تختلف عن أيام هذه الأرض في طولها، بحسب اختلاف مقادير أجرامها وأبعادها وسرعتها في دورانها، وأن أيام التكوين بخلقه من الدخان المعبر عنه بالسديم شموسا مضيئة ؛ تتبعها كواكب منيرة، يقدر اليوم منها بألوف الألوف من سنينا بل من سني سرعة النور أيضا، وقد سبق مثل هذه الجملة في سورتي الأعراف ٧ : ٥٤ ويونس ١١ : ٣ وذكر بعدها استواء الخالق تعالى على عرشه، وتدبيره لأمر ملكه.
وأما هنا فقال بعدها فيهما ﴿ وكان عرشه على الماء ﴾ أي وكان سرير ملكه في أثناء هذا الطور من خلق هذا العالم أو من قبله على الماء. وقد بينا في تفسير آيتي الأعراف ويونس المشار إليهما آنفا أن المعنى الكلي المفهوم من العرش أنه مركز نظام الملك ومصدر التدبير له، وأن المتبادر في الاستعمال اللغوي استعمالهم : استوى على عرشه بمعنى ملك أو استقام أمر الملك له ؛ و : ثُل عرشه بمعنى هلك وزال ملكه، ونحن نعلم أن عروش ملوك البشر تختلف مادة وشكلا وهي من عالم الشهادة وصنع أيدي البشر، كذلك يختلف النظام للتدبير الذي يصدر عنها، وهو من جنس ما يعلم البشر في عالمنا هذا، فعرش ملكة سبأ العربية العظيم، كان أعظم من عرش سليمان ملك إسرائيل، ولكن تدبيرها وحكمها الشوري [ الديمقراطي ] كان دون حكمه الشرعي الديني، ورب عرش من الذهب، وعرض من الخشب، وأما عرش الرحمان عز وجل فهو من عالم الغيب الذي ندركه بحواسنا، ولا نستطيع تصويره بأفكارنا، فأجدر بنا أن لا نعلم كنه استوائه عليه، وصدور تدبيره لأمر هذا الملك العظيم عنه، وحسبنا أن نفهم الكناية، ونستفيد العبرة، فما أجهل الذين تصدوا لتأويل هذه الحقائق الغيبية، بأقيستهم وآرائهم البشرية. وما أحسن ما روي عن أم سلمة رضي الله عنه وربيعة ومالك رحمه الله من قولهم : الاستواء معلوم، والكيف مجهول، الخ ما تقدم في تفسير آية الأعراف.
وأما قوله تعالى :﴿ وكان عرشه على الماء ﴾ فنفهم منه أن الذي كان دون هذا العرش من مادة هذا الخلق قبل تكوين السماوات والأرض في أثنائه هو هذا الماء، الذي أخبرنا عز وجل أنه جعله أصلا لخلق جميع الأحياء، إذ قال :﴿ أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون ﴾ [ الأنبياء : ٣٠ ] الرؤية هنا علمية والمعنى ألم يعلموا ما ينبغي أن يعلموه من أن السماوات والأرض كانتا مادة واحدة متصلة لا فتق فيها ولا انفصال- وهي ما يسمى في عرف علماء الفلك بالسديم وبلغة القرآن بالدخان –ففتقناهما بفصل بعضهما من بعض، فكان منها ما هو سماء ومنها ما هو أرض، وجعلنا من الماء في المقابلة لحياة الأحياء كل شيء حي، أفلا يؤمنون والأمر كذلك بأن الرب الفاعل لهذا هو الذي يعبدون وحده ولا يشرك به شيء، وأنه قادر على إعادة الخلق كبدئه ؟
فيفهم من هذا وذاك أن الذي كان تحت العرش فيتنزل إليه أمر التدبير والتكوين منه هو الماء، الذي هو الأصل لجميع الأحياء لا ما يخيله بعض المفسرين الفنيين في الماء والعرش، مما تأباه اللغة والعقل والشرع، والعبارة ليست نصا في أن ذات العرش المخلوق كان على متن الماء كالسفن التي نراها راسية فيه الآن كما قيل، فإن فائدة الإخبار بمثل هذا إن كان واقعا في ذلك العهد هو دون فائدة ما ذكرنا من معنى العرش الذي بيناه، وهو الذي يزيدنا معرفة بربنا وبحكمه في خلقه، وهو الذي يتفق مع نظريات علم التكوين وعلم الحياة وعلم الهيئة الفلكية وما ثبت من التجارب فيها، ويخالف أتم المخالفة ما كان معروفا عند أمم الحضارة من قواعد علم الفلك القديمة ونظرياته المسلمة. وبهذا يعد من عجائب القرآن، التي تظهر في كل زمان بعد زمان.
ثم علل سبحانه وتعالى خلقه لما ذكر ببعض حكمه الخاصة بالمكلفين المخاطبين بالقرآن فقال :﴿ ليبلوكم أيكم أحسن عملا ﴾ أي ليجعل ذلك بلاء أي اختبارا وامتحانا لكم فيظهر أيكم أحسن إتقانا لما يعمله، ونفعا له وللناس به، وذلك أنه سخر لكم كل شيء وجعلكم مستعدين لإبراز ما أودعه فيه من المنافع والفوائد المادية والمعنوية، ومن حكم خالقه ورحمته بعباده فيه، ومستعدين للإفساد والضرر به، ليجزي كل عامل بعمله وإنما يتم ذلك في الآخرة، وقد سبق لنا تفصيل هذا البلاء في تفسير ﴿ وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم ﴾ [ الأنعام : ١٦٥ ] وغيره.
﴿ ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ﴾ أي وتالله لئن قلت للناس فيما تبلغهم من وحي ربهم : إنكم ستبعثون من بعد موتكم ليجزيكم ربكم بعملكم فيما بلاكم به ﴿ ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ﴾ [ النجم : ٣١ ] فإنه ما خلقكم سدى، ولا سخر لكم هذا العالم واستخلفكم فيه عبثا ﴿ ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ﴾ أي ليجيبنك الذين كفروا وكذبوا بلقاء الله قائلين : ما هذا الذي جئتنا به من هذا القرآن لتسخرنا به لطاعتك إلا سحر بين ظاهر، تسحر به العقول، وتسخر به الضمائر والقلوب، فتفرق به بين المرء وأخيه، وأمه وأبيه، وعشيرته التي تؤويه، معتقدين بسلطان بلاغته أنهم سيموتون ثم يبعثون، ويجزون بكل ما يفعلون ﴿ هيهات هيهات لما توعدون ﴾ [ المؤمنون : ٣٦ ].
علاوة في آيات التكوين وما فيها من إعجاز القرآن العلمي
إن الله تعالى ذكر عرشه مع خلق السماوات والأرض في بضع آيات بين في كل منها شأنا من شؤونه : ففي سورة الأعراف ذكر سنته في إغشاء الليل النهار وطلبه طلبا حثيثا، وتسخير الشمس والقمر وهو النظام الذي يجري عليه هذا النظام الشمسي بدوران الأرض حول شمسها، ودوران القمر حول أرضه وفي آية يونس ذكر التدبير العام من غير حاجة إلى شفيع إذ أمر الشفعاء موقوف على إذنه، ثم وضحه بآية جعل الشمس ضياء والقمر نورا وتقديره منازل، وفي آية هود ذكر ما للماء من الشأن في خلق الأحياء، ولهذا الماء ثلاثة مظاهر أوسطها السائل الذي يشرب منه الحيوان ويسقي به النبات وهو ما يكون عليه في حال اعتدال الحرارة فإذا نقصت إلى درجة معينة صار ثلجا أو جليدا، فإذا ارتفعت صار بخارا، فإذا كثف سمي ضبابا وسديما، فإذا خالطه غيره سمي دخانا، وفي آية الرعد جمع بين تسخير الشمس والقمر إلى أجل مسمى وتدبير الأمر وتفصيل الآيات، وآية طه ذكر بعدها أن له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، وآية الفرقان ذكر بعدها أنه جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا، فذكر البرج تفصيل لنظام الزمان، وآية ألم السجدة نفى فيها أن يكون لأحد من دونه ولي أو شفيع، وقفى عليها بتدبير الأمر من السماء إلى الأرض ينزل منه ثم يعرج إليه في يوم مقداره ألف سنة مما نعده، وقال في آية الحديد ﴿ يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ﴾ [ سبأ : ٢ ] الخ.
وقد بينت في آخر تفسير آية الأعراف أن بعض المتكلمين تكلفوا تفسير السموات السبع والكرسي والعرش العظيم أو تأويلهن بالأفلاك التسعة عند فلاسفة اليونان المخالف للقرآن، وأن علم الفلك الأوروبي قد نقض في القرون الأخيرة تلك النظريات الخيالية بالأدلة العلمية من رياضية حسابية هندسية، ومن طبيعية عملية، كتحليل النور وسرعته ووزن الحرارة، وإن ما ثبت في علم الفلك الحديث ومباحث التكوين قريب من نصوص القرآن، كبعده عما يخالف من نظريات اليونان، وأزيدك هنا أن هذه الأرض في اصطلاح الهيئة القديمة هي مركز العالم كله ويحيط بها فلك القمر فهو سماؤها ويحيط به فلك عطارد فأفلاك الزهرة فالشمس فالمريخ فالمشتري فزحل ففلك النجوم كلها فالفلك الأطلس المحيط بكل ذلك فعلى هذا لم يخلق الله إلا أرضا واحدة في قلب تسع سماوات، والسماء في اللغة العربية ما سما وعلا فكل ما في جهة العلو فهو سماء، ونقل الراغب عن بعضهم : كل سماء بالإضافة إلى دونها فسماء، وبالإضافة إلى فوقها فأرض إلا السماء العليا فإنها سماء بلا أرض وحمل على هذا قوله :﴿ الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن ﴾ [ الطلاق : ١٢ ] والسبع مثل والعدد لا مفهوم له.
وأعجب من هذا أن العلم العصري بسنن التكوين العامة يرتقي في هذه الأجيال درجة بعد درجة، وأن بعض ما ينكشف منها للعلماء من النظريات والأصول قد ينقض بعض ما سبقه منها، ولكن لم ينقض شيء منها شيئا مما ثبت في القرآن، على لسان النبي الأمي عليه الصلاة والسلام، فأصل السديم المشار إليه بقوله :﴿ ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ﴾ [ فصلت : ١١ ] وأصل خلق الأحياء النباتية والحيوانية من الماء، لا يزال كل منهما ثابتا عند جميع العلماء.
وقد عبر به عن مادة التكوين التي هي مادة خراب العالم الذي ترجع به هذه الأجرام إلى مادتها الأصلية بقوله تعالى :﴿ فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين ﴾ [ الدخان : ١٠ ] وعبر عنه كذلك بالغمام في قوله : ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا } [ الفرقان : ٢٥ ] وقوله :﴿ هل ينظرون إلا أن يأتيهم في ظلل من الغمام والملائكة ﴾ [ البقرة : ٢١٠ ] والغمام في اللغة السحاب الرقيق فالدخان والغمام والبخار والسديم كلها مظاهر لهذه المادة اللطيفة [ الماء ] قال حكماؤنا : البخار جسم مركب من أجزاء مائية وهوائية، والدخان مركب من أجزاء أرضية ونارية وهوائية والغبار مركب من أجزاء أرضية وهوائية اه. وأرقه الهباء قال تعالى :﴿ إذا رجت الأرض رجا وبست الجبال بسا فكانت هباء منبثا ﴾ [ الواقعة : ٤-٦ ] ويصح التعبير بالدخان عن العناصر البسيطة للبخار والدخان كالإدروجين وهو مولد الماء والأكسجين وهو مولد النار، والاسم العرفي لجنس هذه البسائط [ الغاز ] والسديم في اللغة الغمام والضباب، واختاره علماء الفلك على الدخان وغيره ولا مشاحة في الاصطلاح.
والخلاصة أن التنزيل أرشدنا في كل آية من آيات التكوين التي ذكر فيها عرشه العظيم، إلى نوع من أنواع ما جعله مصدرا له من سنن التكوين وأنواع التدبير، وفي آيات التكوين التي لم يذكر فيها العرش أنواع أخرى من سننه ونعمه وحكمه، ولم تكن العرب ولا شعوب الحضارة والفنون تعرفها، ومنها ما لم يعرفه علماء الإفرنج إلا في عصرنا هذا.
من ذلك أصل خلق جميع الأحياء النباتية والحيوانية بالتوالد بين الأزواج المنصوص في قوله في الأرض ﴿ وأنبتت من كل زوج بهيج ﴾ [ الحج : ٥ ] وقوله :﴿ وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج ﴾ [ ق : ٧ ] وقوله :﴿ أو لم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم ﴾ [ الشعراء : ٧ ] وقوله :﴿ خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم ﴾ [ لقمان : ١٠ ] فالزوج البهيج والكريم هو المنبت المنتج، والمراد بالأزواج في هذه الآيات ك
﴿ ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ( ٨ ) ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور ( ٩ ) ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور ( ١٠ ) إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير ( ١١ ) ﴾
هذه الآيات معطوفة على قوله تعالى :﴿ ولئن قلت إنكم مبعوثون ﴾ الخ وهي كلها بيان لحال الناس تجاه ما بلغوه من دعوة الإسلام الحق من أول هذه السورة وهو التوحيد وبعثه محمد صلى الله عليه وسلم نذيرا وبشيرا وما أنذر وبشر به من جزاء في الدنيا والآخرة، والرجوع إلى الله بعد الموت وكمال الجزاء فيه، وقد استدل على هذا بخلقه تعالى للسموات والأرض إذ كان عرشه على الماء، الذي هو الأصل لجميع الأحياء، وعلله باختبار المكلفين بما يظهر به أيهم أحسن عملا، بعد هذا بين قصارى ما يقوله المنكرون للبعث منهم وقد تقدم، ثم عطف عليه ما يقوله المنكرون لإنذار الرسول صلى الله عليه وسلم إياهم عذاب الدنيا والآخرة بتكذيبهم له.
فقال :
﴿ ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ﴾ الآية شرطية مؤكدة بالقسم والمراد بالعذاب ما تقدم من قوله :﴿ وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير ﴾ [ هود : ٣ ] على ما اخترناه فيه، والأمة هنا الطائفة أو المدة من الزمن ومثله في سورة يوسف ﴿ وادكر بعد أمة ﴾ [ يوسف : ٤٥ ] وأصلها الجماعة من جنس أو نوع واحد أو دين واحد أو زمن واحد، وتطلق على الدين والملة الخاصة والزمن الخاص. أي ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى جماعة من الزمن معدودة في علمنا ومحدودة في نظام تقديرنا، وسنتنا في خلقنا، المبين في قولنا ﴿ لكل أجل كتاب ﴾ [ الرعد : ٣٨ ] أو إلى أمة قليلة من الزمن قعد بالسنوات، أو ما دونها من الشهور أو الأيام ﴿ ليقولن ما يحبسه ﴾ يعنون أي شيء يمنع هذا العذاب من الوقوع إن كان حقا كما يقول هذا النذير ؟ وإنما يقولون هذا ويستعجلون بالعذاب إنكارا له واستهزاء به.
﴿ ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم ﴾ أي ألا إن له يوما يأتيهم فيه إذ تنتهي الأمة المعدودة المضروبة دونه، ويومئذ لا يصرفه عنهم صارف ولا يحبسه حابس ﴿ وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ﴾ وسيحيط بهم يومئذ من كل جانب ما كانوا يستهزئون به من العذاب قبل وقوعه، فلا هو يصرف عنهم ولا هم ينجون منه، عبر بحاق الماضي للإيذان بتحقيق وقوعه حتى كأنه وقع بالفعل، وعبر عن الفاعل بما الموصولة بفعل الاستهزاء المستمر للإيذان بعليته وسببه، وهذا الموضوع قد تقدم في سورة يونس مفصلا في الآيات ٣٩ و ٤٥ و ٥٥ وبينا في تفسيرها حكمة إبهام هذا العذاب بما يحتمل عذاب الدنيا وعذاب الآخرة مع الشواهد من السور.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ويناسب هذه الآيات من سورة يونس ﴿ وإذا مس الإنسان الضر دعانا ﴾ [ يونس : ١٢ ] الخ. وقوله :﴿ وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم ﴾ إلى آخر الآية ٢٣ فراجع تفسيرهن مع تفسير ﴿ قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا ﴾ [ يونس : ٥٨ ] تعلم أن هذه المعاني المكررة بالأساليب المختلفة البليغة ما أنزلت إلا لهدايتك لما تزكي به نفسك وتثقف طباعها وعادتها الضارة، والجامع للمراد هنا بأحضر عبارة وأبلغها سورة ﴿ والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ﴾ [ العصر : ١-٣ ].
﴿ ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ( ٨ ) ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور ( ٩ ) ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور ( ١٠ ) إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير ( ١١ ) ﴾
هذه الآيات معطوفة على قوله تعالى :﴿ ولئن قلت إنكم مبعوثون ﴾ الخ وهي كلها بيان لحال الناس تجاه ما بلغوه من دعوة الإسلام الحق من أول هذه السورة وهو التوحيد وبعثه محمد صلى الله عليه وسلم نذيرا وبشيرا وما أنذر وبشر به من جزاء في الدنيا والآخرة، والرجوع إلى الله بعد الموت وكمال الجزاء فيه، وقد استدل على هذا بخلقه تعالى للسموات والأرض إذ كان عرشه على الماء، الذي هو الأصل لجميع الأحياء، وعلله باختبار المكلفين بما يظهر به أيهم أحسن عملا، بعد هذا بين قصارى ما يقوله المنكرون للبعث منهم وقد تقدم، ثم عطف عليه ما يقوله المنكرون لإنذار الرسول صلى الله عليه وسلم إياهم عذاب الدنيا والآخرة بتكذيبهم له.
﴿ ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ﴾ هذا وما بعدها بيان لحال الإنسان في اختبار الله له في قوله :﴿ ليبلوكم أيكم أحسن عملا ﴾ أي لئن أعطيناه نوعا من أنواع النعمة رحمة منا مبتدأة أذقناه لذتها، فكان مغتبطا بها، كالصحة والأمن وسعة الرزق والولد البار ﴿ ثم نزعناها منه ﴾ بما يحدث من الأسباب بمقتضى سنتنا في الخلق من مرض وعسر وفتن وموت ﴿ إنه ليئوس كفور ﴾ أي إنه في هذه الحال لشديد اليأس من الرحمة، قطوع للرجال من عودة تلك النعمة، كثير الكفران لغيرها من النعم التي لا يزال يتمتع بها، فضلا عما سلف منها، فهو يجمع بين اليأس مما نزع منه، والكفر بما بقي له لحرمانه من فضيلتي الصبر والشكر.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ويناسب هذه الآيات من سورة يونس ﴿ وإذا مس الإنسان الضر دعانا ﴾ [ يونس : ١٢ ] الخ. وقوله :﴿ وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم ﴾ إلى آخر الآية ٢٣ فراجع تفسيرهن مع تفسير ﴿ قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا ﴾ [ يونس : ٥٨ ] تعلم أن هذه المعاني المكررة بالأساليب المختلفة البليغة ما أنزلت إلا لهدايتك لما تزكي به نفسك وتثقف طباعها وعادتها الضارة، والجامع للمراد هنا بأحضر عبارة وأبلغها سورة ﴿ والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ﴾ [ العصر : ١-٣ ].
﴿ ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ( ٨ ) ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور ( ٩ ) ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور ( ١٠ ) إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير ( ١١ ) ﴾
هذه الآيات معطوفة على قوله تعالى :﴿ ولئن قلت إنكم مبعوثون ﴾ الخ وهي كلها بيان لحال الناس تجاه ما بلغوه من دعوة الإسلام الحق من أول هذه السورة وهو التوحيد وبعثه محمد صلى الله عليه وسلم نذيرا وبشيرا وما أنذر وبشر به من جزاء في الدنيا والآخرة، والرجوع إلى الله بعد الموت وكمال الجزاء فيه، وقد استدل على هذا بخلقه تعالى للسموات والأرض إذ كان عرشه على الماء، الذي هو الأصل لجميع الأحياء، وعلله باختبار المكلفين بما يظهر به أيهم أحسن عملا، بعد هذا بين قصارى ما يقوله المنكرون للبعث منهم وقد تقدم، ثم عطف عليه ما يقوله المنكرون لإنذار الرسول صلى الله عليه وسلم إياهم عذاب الدنيا والآخرة بتكذيبهم له.
﴿ ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ﴾ النعماء بالفتح اسم من أنعم عليه إنعاما- كالنعمة بالكسر والنعمى بالضم- وهي ما يقابله بالضراء من الضر أي يقابل به النفع، ولم ترد النعماء في التنزيل إلا في هذه الآية. وهذه الإذاقة أخص مما قبلها، وهي تتضمن كشف الضراء السابقة وإحلال ما هو ضدها محلها، كالشفاء من المرض وزيادة العافية والقوة السابغة، والمخرج من العسر والفقر، إلى سعة الغنى واليسر، والنجاة من الخوف والذل، إلى بحبوحة المنعة والعز، يقول تعالى ولئن منحنا هذا الإنسان اليئوس والكفور نعماء أذقناه لذتها ونعمتها، بعد ضراء مسته باقترافه لأسبابها، إثر كشفها وإزالتها.
﴿ ليقولن ذهب السيئات عني ﴾ أي ذهب ما كان يسوءني من المصائب والضراء فلن تعود، فما هي إلا سحابة صيف تقشعت فعلي أن أنساها بالتمتع باللذات ﴿ إنه لفرح فخور ﴾ أي إنه في هذه الحالة لشديد الفرح والمرح الذي يهيجه البطر بالنعمة، ومبالغ بالفخر والتعالي على الناس والاحتقار لمن دونه فيها، فهو لا يقابلها بشكر الله عليها.
روي أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي، وقيل في عبد الله بن أمية المخزومي، والمراد أنها موافقة لحالهما، وهي إنما نزلت في ضمن السورة لبيان حالة الناس العامة ولذلك استثنى منها قوله تعالى : إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير ( ١١ ) }
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ويناسب هذه الآيات من سورة يونس ﴿ وإذا مس الإنسان الضر دعانا ﴾ [ يونس : ١٢ ] الخ. وقوله :﴿ وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم ﴾ إلى آخر الآية ٢٣ فراجع تفسيرهن مع تفسير ﴿ قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا ﴾ [ يونس : ٥٨ ] تعلم أن هذه المعاني المكررة بالأساليب المختلفة البليغة ما أنزلت إلا لهدايتك لما تزكي به نفسك وتثقف طباعها وعادتها الضارة، والجامع للمراد هنا بأحضر عبارة وأبلغها سورة ﴿ والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ﴾ [ العصر : ١-٣ ].
﴿ ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ( ٨ ) ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور ( ٩ ) ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور ( ١٠ ) إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير ( ١١ ) ﴾
هذه الآيات معطوفة على قوله تعالى :﴿ ولئن قلت إنكم مبعوثون ﴾ الخ وهي كلها بيان لحال الناس تجاه ما بلغوه من دعوة الإسلام الحق من أول هذه السورة وهو التوحيد وبعثه محمد صلى الله عليه وسلم نذيرا وبشيرا وما أنذر وبشر به من جزاء في الدنيا والآخرة، والرجوع إلى الله بعد الموت وكمال الجزاء فيه، وقد استدل على هذا بخلقه تعالى للسموات والأرض إذ كان عرشه على الماء، الذي هو الأصل لجميع الأحياء، وعلله باختبار المكلفين بما يظهر به أيهم أحسن عملا، بعد هذا بين قصارى ما يقوله المنكرون للبعث منهم وقد تقدم، ثم عطف عليه ما يقوله المنكرون لإنذار الرسول صلى الله عليه وسلم إياهم عذاب الدنيا والآخرة بتكذيبهم له.
﴿ إلا الذين صبروا ﴾ هذا استثناء من جنس الإنسان فيما ذكر من حاليه في الآيتين قبله : الكفر بأنعم الله واليأس من رحمته عند زوال شيء منها، وفرح البطر وعظمة الفخر بها عند إقبالها، يقول إلا الذين صبروا على ما أصابهم من الضراء إيمانا بالله واحتسابا للأجر عنده ﴿ وعملوا الصالحات ﴾ عند كشفها، وتبديل النعماء بها، من شكره تعالى باستعمال النعمة فيما يرضيه تعالى من عمل البر وغير ذلك من عبادته وشكره تعالى باستعمال النعمة فيما يرضيه تعالى من عمل البر وغير ذلك من عبادته وشكره ﴿ أولئك لهم مغفرة ﴾ واسعة من ربهم تمحو من أنفسهم ما علق بها من ذنب أو تقصير ﴿ وأجر كبير ﴾ في الآخرة على ما وفقوا له من بر وتشمير، فإن الإنسان وإن كان مؤمنا بارا لا يسلم في الضراء والمصائب من ضيق صدور، قد ينافي كمال الرضى أو يلابس بعض الوزر، وفي حال النعماء من شيء من الزهو والتقصير في الشكر، وكل منهما يغفر له بصبره وشكره، وإنابته إلى ربه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ويناسب هذه الآيات من سورة يونس ﴿ وإذا مس الإنسان الضر دعانا ﴾ [ يونس : ١٢ ] الخ. وقوله :﴿ وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم ﴾ إلى آخر الآية ٢٣ فراجع تفسيرهن مع تفسير ﴿ قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا ﴾ [ يونس : ٥٨ ] تعلم أن هذه المعاني المكررة بالأساليب المختلفة البليغة ما أنزلت إلا لهدايتك لما تزكي به نفسك وتثقف طباعها وعادتها الضارة، والجامع للمراد هنا بأحضر عبارة وأبلغها سورة ﴿ والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ﴾ [ العصر : ١-٣ ].
﴿ فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل ( ١٢ ) أم يقولون افتراه قل فاتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ( ١٣ ) فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون ( ١٤ ) ﴾
بدئت هذه السورة بذكر القرآن وموضوع دعوته العامة وحال الناس فيها، وبيان طباعهم وشؤونهم الرديئة إلا ما هذبته هداية الدين منها، وهذه الآيات خاصة بتكذيب المشركين للرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن، وقد بدئت ببيان غمه وحزنه وضيق صدره صلى الله عليه وسلم من تكذيب قومه وتأكيد تبليغه، ويليه تحديه به المثبت لوحيه.
﴿ فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك ﴾ المتبادر إلى الفهم من جملة لعل بحسب موقعها هنا الاستفهام الإنكاري المراد به النهي أو النفي، أي افتارك أنت أيها الرسول بعض ما يوحى إليك مما يشق سماعه على المشركين من الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك والإنذار والوعيد الشديد لهم والنعي عليهم وضائق به صدرك أن تبلغهم إياه كله كما أنزل كراهة ﴿ أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز ﴾ أي هلا أعطاه ربه كنزا من لدنه يغنيه في نفقته ويمتاز به على غيره، فالكنز ما يدخر من المال في الأرض، عبروا به عما ينال بغير كسب، وبإنزاله عليه على كونه من عند الله يخصه به.
﴿ أو جاء معه ملك ﴾ يؤيده في دعوته، وهم قد قالوا ذلك كما جاء في سورة الفرقان ﴿ وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقي إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها ﴾ [ الفرقان : ٧، ٨ ] ؟ أي إن ضيق الصدر وكتمان بعض الوحي مما يخطر بالبال، وشأنه أن تقتضيه الحال، بحسب المعهود من طباع الناس، فهل أنت مجترح لهذا الترك، أو مستسلم لما يعرض لك بمقتضى البشرية من ضيق الصدر ؟ كلا لا تفعله، فهو كقوله :﴿ ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون ﴾ [ النحل : ١٢٧ ] وقوله :﴿ المص كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين ﴾ [ الأعراف : ١، ٢ ] وقوله :﴿ فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ﴾ [ الكهف : ٦ ]
وقوله :﴿ طسم تلك آيات الكتاب المبين لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين ﴾ [ الشعراء : ١-٤ ] أي لعلك قاتلها غما وانتحارا ؟ أي لا تفعل، وحاصله أن عنادهم وجحودهم وإعراضهم عن الإيمان وشدة اهتمامك بأمرهم فيما ليس أمره بيدك مما شأنه أن يفضي إلى ذلك لولا عصمتنا إياك وتثبيتنا لك، فهل تصر عليه حتى تبخع نفسك ؟ لا لا. ويوضح هذا المعنى في كون الإرشاد مبنيا على بيان الواقع في تلك الوقائع قوله تعالى :﴿ ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا ﴾ [ الإسراء : ٧٤ ].
﴿ إنما أنت نذير ﴾ فعليك أن تبلغ جميع ما أمرت أن تبلغه وتنذر به في وقته وإن ساءهم وأطلق ألسنتهم ﴿ والله على كل شيء وكيل ﴾ أي هو الموكل بأمور العباد والرقيب عليهم فيها وليس عليك منها شيء، لأنها من أمور الخلق والتدبير، لا من موضوع التعليم والتبليغ، الذي هو وظيفة الرسل كما قال في آيات أخرى ﴿ ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء ﴾ [ البقرة : ٢٧٢ ] ﴿ فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر ﴾ [ الغاشية : ٢١، ٢٢ ] ﴿ نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ﴾ [ ق : ٤٥ ].
ومن مباحث اللغة في الآية أن كلمة [ لعل ] للترجي والتوقع وفي لسان العرب أنها رجاء وطمع وشك. وقالوا : إنها من الله تعالى للقطع في مثل قوله ﴿ واتقوا الله لعلكم تفلحون ﴾ [ البقرة : ١٨٩ ] وقال شيخنا : إنها للإعداد والتهيئة، أي ليعيدكم ويؤهلكم للفلاح بالتقوى. وحققنا أنها قد تكون لإطماع المخاطب وإحداث الرجاء عنده وهو مروي عن سيبويه، وحصر ابن هشام معانيها في ثلاث.
١-التوقع، وهو ترجي المحبوب والإشفاق من المكروه.
٢-التعليل، قال : وحملوا عليه قوله تعالى في فرعون ﴿ لعله يتذكر أو يخشى ﴾ [ طه : ٤٤ ].
٣- الاستفهام، وأسنده إلى الكوفيين. أقول : وإذا كانت للاستفهام يدخل فيه أنواعه كاستفهام الإنكار المراد به النهي أو النفي واختاره بعضهم في هذه الآية قبلنا.
﴿ فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل ( ١٢ ) أم يقولون افتراه قل فاتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ( ١٣ ) فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون ( ١٤ ) ﴾
بدئت هذه السورة بذكر القرآن وموضوع دعوته العامة وحال الناس فيها، وبيان طباعهم وشؤونهم الرديئة إلا ما هذبته هداية الدين منها، وهذه الآيات خاصة بتكذيب المشركين للرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن، وقد بدئت ببيان غمه وحزنه وضيق صدره صلى الله عليه وسلم من تكذيب قومه وتأكيد تبليغه، ويليه تحديه به المثبت لوحيه.
﴿ أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ﴾ أي بل أيقول هؤلاء المشركون من أهل مكة أن محمدا قد افترى هذا القرآن ؟ قل لهم أيها الرسول : إن كان الأمر كما تزعمون فاتوا بعشر سور مثله مفتريات من عند أنفسكم لا تدعون أنها من عند الله، فإنكم أهل اللسن والبيان، والمران على المفاخرة بالفصاحة والبلاغة، وفنون الشعر والخطابة، ولم يسبق لي شيء من ذلك في هذا العمر الطويل الذي عشته بينكم، وهو أربعون سنة، فإن كان من جنس كلام البشر فأنتم به أجدر، وإن كانت أخباره عن الله تعالى وعن عالم الغيب عنده وقصصه عن الرسل وأقوامهم مفتريات فأنتم على مثلها أقدر، فإنكم تعلمون أنني أصدقكم لسانا لم أكذب على بشر قط، فكيف أفتري على الله عز وجل ؟ وأنتم تفترون عليه ؟ باتخاذ الآلهة معه والبنات له والشفعاء عنده، وتحريم السائبة والبحيرة والوصيلة والحام، وغير ذلك من الزرع والأنعام.
وإن كنتم تزعمون أن لي من يعينني على وضعه ممن لا وجود لهم بالفعل ولا بالإمكان، فادعوا من استطعتم ممن تعبدون غير الله ومن جميع خلق الله ليساعدوكم على الإتيان بهذه السور العشر مثله مفتريات إن كنتم صادقين في دعواكم، بأن تكون مشتملة على مثل ما فيه من تشريع ديني ومدني وسياسي وحكم ومواعظ وآداب وأنباء غيبية محكمة عن الماضي وأنباء غيبية على أنها ستأتي، بمثل هذه النظم البديعة، والأساليب العجيبة، والبلاغة الحاكمة على العقول والألباب، والفصاحة المستعذبة في الأذواق والأسماع، والسلطان المستعلي على الأنفس والأرواح، إذا كان ما تحديتكم به أولا من سورة واحدة لا يتسع لكل الأجناس والأنواع، أو فأتوا بنوع مما تدعون افتراءه كالقصص في علومها وحكمها وهدايتها، مكررا كتكراره لكل أنواعها، هذا التكرار الذي لا تبلي جدته، ولا تمل إعادته.
هذه الآية كالآية ٣٨ من سورة يونس إلا أن التحدي في تلك بسورة مثله مطلقا، وفي هذه بعشر سور مثله مفتريات، وقد وعدت في تفسيرها بالكلام على حكمة التحدي بعشر سور عندما أصل إلى تفسير آية سورة هود هذه، ثم بدا لي أن أبينها هناك مجملة لئلا تخترمني المنية قبل بلوغ هذه الآية فبينتها في جواب ما يرد من الشبهة على المتكلمين في إعجاز البلاغة.
بل سبق لي أن بينت حكمة التحدي بعشر سور مثله مفتريات في تفسير آية سورة البقرة التي هي آخر آيات التحدي نزولا ووضحت ذلك في الفصل الملحق به الذي عقدته لبيان وجوه الإعجاز ولا سيما الوجه الأول منه وهو إعجازه بأسلوبه ونظمه بل نظمه العديدة وأساليبه الكثيرة في سورة المائة والأربع عشرة.
خلاصة ما تقدم أن المفسرين الذي لم يؤتهم الله تعالى حكمة التحدي بعشر سور مفتريات زعموا أن الله تعالى تحدى فصحاء قريش الذين هم أفصح العرب ومن دونهم من سائر الخلق بالإتيان بمثل هذا القرآن في جملته، فلما عجزوا تحداهم بعشر سور مثله، فلما عجزوا تحداهم بسورة واحدة مثله ثم بسورة من مثله، ولكن هذا الترتيب لم يصح به نقل، بل المروي في ترتيب نزول السورة يخالفه فإن سورة هود نزلت عقب سورة يونس، وأجاب بعضهم بأن نزول سورة قبل أخرى لا يقتضي نزول جميع آياتها قبل جميع آياتها، وهذا الجواب إنما يقال فيما تصح الرواية في تأخر نزوله وتقدمه، ولا يصح بالتحكم المحض، فيما هو خلاف الأصل الثابت بالنقل، وأبعده عن التصور أن يكون في موضوع واحد في سورتين متعاقبتين.
وسبب غفلتهم عن هذه الحكمة أنهم لم يطلبوها من التأمل في سور القرآن وما فيها من وجوه الإعجاز المكرر في سوره لأنهم اعتادوا أن يطلبوا معانيه من الروايات المأثورة على قلتها وقلة ما يصح منها، ومن مدلول كل آية منها وحدها في مفردات اللغة وجملها، بمقتضى القواعد الفنية أو الفقهية وأصولها، وقد بينت في تفسير آية البقرة أن أقوى شبهة للمعترضين على دعوى الإعجاز بالفصاحة والبلاغة أن المعنى الواحد الذي يمكن التعبير عنه بعبارات مختلفة قد يسبق بعض الفصحاء إلى أعلى عبارة له وأبلغها، بحيث يكون كل ما عداها دونها، وأنه لا يدل على أن السابق لها قد تلقاها بوحي من الله تعالى. فإن مثله يوجد في كل اللغات، وذكرت مثلا لهم من القرآن على هذا وأجبت عنها بأن القرآن يعبر عن المعاني الكثيرة بالعبارات المختلفة التي تعد كل منها في أعلى الدرجات ويعجز عنها جميع البلغاء. ثم بينت في مباحث الوحي من تفسير سورة يونس أن القاموس الأعظم لإعجاز القرآن اللفظي هو تكرار المعنى الواحد بالعشرات والمئات من العبارات المختلفة في النظم والأسلوب وبلاغة العبارة وقوة تأثيرها في قلوب القارئين والسامعين لها، وعدم وقوع الاختلاف بالتناقض أو التعارض في شيء منها كما قال ﴿ أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ﴾ [ النساء : ٨٢ ] وإنما يظهر هذا الإعجاز بنوعيه في السور العديدة، وبينت في تفسير آية يونس وجه وصفها بمفتريات وأعود هنا إلى بسط المسألة وفاء بالوعد فأقول :
الضمير المنصوب في افتراه يعود إلى القرآن للعلم به من سياق تبليغه وقد حكى عنهم هذه التهمة في سور أخرى منها ما تقدم قريبا في سورة يونس، وفيها وجهان :
١- أنه افتراه في جملته بإسناده إلى الله تعالى وادعائه أنه كلامه أوحاه إليه وقدمت الجواب عنه آنفا.
٢- أنه افترى أخباره التي يدعي أنها من عند الله إذ لا يعلمها غيره وقد استدل بها على نبوته كما بينته في مباحث الوحي وفي تفسير آية يونس، وقد حكى الأمرين عنهم في سورة الفرقان بقوله :﴿ وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون، فقد جاؤوا ظلما وزورا وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض إنه كان غفورا رحيما ﴾ [ الفرقان : ٤-٦ ] فأساطير الأولين قصصهم وأكاذيبهم التي سطروها، وكانت العرب تسلي نفسها عن جهلها بالأديان والتواريخ بزعمهم أنها خرافات وأكاذيب، فالتحدي بالسور العشر هو الذي يفند هاتين التهمتين الموجهتين إليه صلى الله عليه وسلم بأنهض حجة علمية عملية، لا جدلية.
وبيانه أن هذا التحدي بالعشر يثبت به من بطلان دعواهم ما لا يثبت بالعجز عن سورة واحدة، ولا سيما إذا كانت قصيرة، ولهذا حسن مجيئه بعد التحدي بسورة واحدة مطلقا، خلافا لرأي الجمهور الذين غفلوا عن هذا المعنى فظنوا أن التحدي بالعشر بعد العجز عن الواحدة لا وجه له، لأن من عجز عن واحدة كان أعجز عن اثنتين فضلا عن عشر، فتقصوا من هذا بدعوى الترتيب المتقدم، وهو إنما يصح إذا كان موضوع التحدي متحدا مطلقا وهو هنا مختلف ومقيد.
ذلك بأن افتراء الأخبار المدعى في القرآن نوعان أحدهما : أنباء الغيب الماضية وهي قسمان :
١- قصص الرسل مع أقوامهم، وقد تحدى بها من ناحية كونها غيبا لم يسبق له صلى الله عليه وسلم علم بها كما بيناه في محله، ومنه ما يأتي التصريح به في هذه السورة وما بعدها وفي غيرهما.
٢- أخبار التكوين كخلق السموات والأرض وما فيهما وما بينهما كخلق الإنسان والجان، ولا أذكر أنه صرح بالتحدي بها تحديا خاصا، ولا أنهم كذبوا بها وأنكروها، فهي لم تكن موضع نزاع، وكذلك أخبار السنن العامة في الخلق الواردة في سياق تعداد النعم كما تراه في سورة النحل، أو سياق آيات الله تعالى وحججه على عباده كما تراه في سورة الروم، وإنما جعلت هذه كلها قسما واحدا في هذا البحث لأنها ليست داخلة في تهمة الافتراء.
وثانيهما : أنباء الغيب الآتية وهي قسمان أيضا :
١- وعد الله بنصر رسوله والمؤمنين وجعل العاقبة لهم واستخلافهم في الأرض، وبخذلان أعدائه وأعدائهم الكافرين والانتقام منهم وتعذيبهم في الدنيا قبل الآخرة وهو ما كانوا يتمارون به ويكذبونه.
٢- القيامة وبعث الخلق وحسابهم وجزاؤهم بعقائدهم وأعمالهم، وهو ما كانوا ينكرونه ويستبعدونه.
فأخبار الغيب التي كانوا يكذبونها ويزعمون أنها مفتراة هي ثلاث :
١- أخبار الآخرة.
٢- أخبار وعد الله لرسوله وللمؤمنين ووعيده لأعدائه في الدنيا، وكلاهما من أنباء الغيب المستقبلة التي لا يظهر صدقها إلا بتأويلها أي وقوع مدلولها.
٣- قصص الرسل عليهم السلام وهي أمور قد وقعت بالفعل، وهاك كلمة تفصيلية في عدد العشر في كل منها، يعلم بها ترجيح الثالث الذي سموه أساطير الأولين وهو المختار عندنا.
فأما آيات البعث والجزاء فكثيرة في جميع أنواع السور من أطولها إلى أقصرها التي هي سورة قصار المفصل. وقد تكلمنا على وجه الإعجاز بتكررها المبثوث في مئات المواضع من السور الكثيرة المختلفة النظم بالأساليب العجيبة والبلاغة الدقيقة في الركن الثالث من أركان المقصد الأول من مقاصد القرآن، وأقول هنا إن قصار المفصل المكية التي نزلت قبل سورة هود ويحتمل أن تكون مرادة من هذه العشر كلها أو بعضها هي التين والعاديات والقارعة والتكاثر والهمزة واللهب، فلا بد من تكميلها مما قبل سورة الضحى، ولا يظهر للتحدي بعشر مفتريات منها معنى لا يوجد في السورة الواحدة ولا سيما إذا كانت طويلة، فهي غير مرادة بالعشر.
وأما آيات وعد الله لرسوله وللمؤمنين بالنصر، ووعيده الدنيوي للكافرين بالخذلان والعذاب، فلا يوجد في قصار المفصل شيء صريح منها ولكن إشارات في بعضها منها : سورة الكوثر وهي أقصر سورة في القرآن، ففيها الوعد الصادق للنبي صلى الله عليه وسلم بإعطائه الخير الكثير الديني والدنيوي ومنه الغنى بعد الفقر الذي كان أغنياء قومه يعيرونه به، والوعيد الصادق لعدوه العاص بن وائل الذي سماه أبتر عند موت ابنه القاسم بأنه هو الأبتر الذي سينقطع ذكره بنسله وغير نسله، ويتضمن هذا الحصر الإضافي بقاء ذكره صلى الله عليه وسلم بذريته وبآثار هدايته، وكل ذلك وقع بالفعل، وقد بينت خلاصة تفسيرها في بحث إعجاز السور القصار من تفسير التحدي بآية سورة البقرة.
ومنها : سورة اللهب بناء على أن الجملة الأولى منها خبر بهلاك أبي لهب وامرأته، وإذا قيل إنها دعاء فمعناه الخبر وقد صدق، فقد مات أبو لهب شر ميتة خارج مكة وبقي ملقى حتى تفسخ وأنتن، وكان ذلك بعد غزوة بدر بأيام، وهي أول انتقام الله من عتاة قريش وتصديق وعده لرسوله في قوله :﴿ يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون ﴾ [ الدخان : ١٦ ] ومثلها الوعيد في سورة العلق، وقد نزل في أبي جهل وصدق بقتله في غزوة بدر أشر قتلة وفي معناهما الوعيد في سورة المدثر من وسط المفصل وقد نزل في الوليد بن المغيرة وهو يشمل وعيد الدنيا والآخرة وقد صدق ووقع –فهذه أربع سور من قصار المفصل ووسطه، والوعد والوعيد فيها خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم وأشد العتاة الذين بارزوه العداوة، ولكن لم يكن أحد من قريش يعد ذلك- ممن كانوا ينكرونه- من الوعد له والوعيد لهم لأنه جزئيات متفرقة مجملة، لا وقائع فاصلة، فهي غير مرادة بالعشر أيضا.
ومن الوعيد العام للكفار كلهم في وسط المفصل قوله تعالى في سورة الجن من تبليغه صلى الله عليه وسلم الدعوة ﴿ حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا ﴾ [ الجن : ٢٤، ٢٥ ] الخ وهذا بعد الوعد فيها بقوله :﴿ وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا ﴾ [ الجن : ١٦ ]
﴿ فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل ( ١٢ ) أم يقولون افتراه قل فاتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ( ١٣ ) فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون ( ١٤ ) ﴾
بدئت هذه السورة بذكر القرآن وموضوع دعوته العامة وحال الناس فيها، وبيان طباعهم وشؤونهم الرديئة إلا ما هذبته هداية الدين منها، وهذه الآيات خاصة بتكذيب المشركين للرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن، وقد بدئت ببيان غمه وحزنه وضيق صدره صلى الله عليه وسلم من تكذيب قومه وتأكيد تبليغه، ويليه تحديه به المثبت لوحيه.
﴿ فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا ﴾ في هذا الخطاب وجهان صحيحان أحدهما : أنه تتمة لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتحدى به المشركين فهو يقول لهم : فإن لم يستجب لكم من تدعونهم من دون الله ليظاهروكم على الإتيان بالعشر السور المماثلة لسور القرآن، من آلهتكم الذي تدعون وتعبدون، وهواجسكم الذين يلقنونكم العشر كما تزعمون، وقرنائكم من فحول الشعراء ومصاقع الخطباء، ومن علماء أهل الكتاب العارفين بأخبار الأنبياء، لعجز الجميع عن ذلك.
﴿ فاعلموا أنما أنزل بعلم الله ﴾ أي فاعلموا أنما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بمقتضى علم الله ملابسا له مبينا لما أراد أن يبلغه لعباده من دينه على ألسنة رسله، لا يعلم محمد ولا غيره ممن تدعون زورا أنهم أعانوه عليه، لأنه في جملته من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا من أعلمه الله تعالى به، كما قال :﴿ فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين ﴾ [ الأعراف : ٧ ] وكما تراه في آخر قصة نوح من هذه السورة [ الآية : ٤٩ ] ومثلها في آخر سورة يوسف [ ١٠٢ ] ومثلهما في سورة القصص [ ٤٤-٤٦ ] وقال في آية أخرى بعد ذلك ﴿ لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة ويشهدون وكفى بالله شهيدا ﴾ [ النساء : ١٦٦ ] وقال :﴿ عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحد إلا من ارتضى من رسول ﴾ [ الجن : ٢٦، ٢٧ ] الخ وما فيها من العلم الكسبي لم يكسب منه محمد صلى الله عليه وسلم شيئا.
الاستجابة للداعي إلى الشيء كإجابته إليه، وعدم الاستجابة لهم داحضة لدعواهم مثبتة لكون هذه العلوم التي فيه من علم الله لا من علم البشر، وهو صريح في أن المراد إنما هو التحدي في هذه السور من العلم لأنه هو الذي دحض دعواهم أن محمدا افتراها " وأنما " المفتوحة الهمزة تدل على الحصر كالمكسورة على التحقيق.
﴿ وأن لا إله إلا هو ﴾ أي واعلموا أنه لا إله يعبد بالحق إلا هو، لأن من خصائص الإله أن يعلم ما لا يعلمه غيره، وأن يعجز كل من عداه عن مثل ما يقدر هو عليه، كما ظهر بهذا التحدي عجزكم وعجز آلهتكم وغيرهم عن الإتيان بعشر سور مثل سور كتابه بالتفصيل وعن سورة واحدة بالإجمال.
﴿ فهل أنتم مسلمون ﴾ أي فهل أنتم بعد قيام هذه الحجة عليكم داخلون في الإسلام الذي أدعوكم إليه بهذا القرآن، مؤمنون بعقائده وحقيقة أخباره ووعده ووعيده، مذعنون لأحكامه ؟ أي لم يبق لكم محيص من الإسلام والانقياد، وقد دحضت شبهتكم، وانقطعت معاذيركم، إلا جحود العناد وإعراض الاستكبار، فهذا الاستفهام يتضمن طلب الإسلام والإذعان بأبلغ عبارة فهو كقوله بعد وصف الخمر والميسر والأنصاب والأزلام بأنها رجس من عمل الشيطان لا يريد إلا إيقاع الشقاق والبغضاء بين الناس في الخمر والميسر وصدهم عن ذكر الله وعن الصلاة وبعد هذا كله قال :﴿ فهل أنتم منتهون ﴾ أي عنهما بعد علمكم بهذا الرجس والمخازي التي فيهما أم لا ؟ وأي إنسان يملك مسكة من عقل وشرف لا يقول عند نزول هذه الآية في سورة هود : أسلمنا أسلمنا، كما قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم [ رضي الله عنه ] عند نزول تلك الآية : انتهينا انتهينا ؟
الوجه الثاني في الآية : إن الخطاب فيها للنبي صلى الله عليه وسلم وجمع الضمير في " لكم " للتعظيم بناء على أنه غير خاص بضمير المتكلم، أو له ولمن معه من المؤمنين إذ كانوا كلهم دعاة إلى الإسلام معه صلى الله عليه وسلم وقيل إنه لهم وحدهم، وهذا مروي عن مجاهد. والمعنى فإن لم يجبكم هؤلاء المشركون إلى ما تحديتموهم به من الإتيان بعشر سور مثله ولو مفتريات لا يتقيدون بكون أخبارها حقا كأخبار القرآن – وما هم بمستجيبين لكم لعجزهم وعجز من عسى أن يدعوهم لمظاهرتهم عليه- فاثبتوا على علمكم أنه إنما أنزل بعلم الله، وازدادوا به إيمانا ويقينا بهذه الحجة، وأنه لا إله إلا هو ولا يستحق العبادة سواه، فهل أنتم ثابتون على إسلامكم والإخلاص فيه ؟ أي اثبتوا عليه، والوجه الأول أظهر وأقوى وعليه الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري وأشار إلى ضعف الثاني، ولكن رجحه كثيرون، والحق أنه صحيح ولكنه خلاف الظاهر المتبادر.
﴿ من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون ( ١٥ ) أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون ( ١٦ ) ﴾.
بعد أن قامت الحجة القطعية على إعجاز القرآن، وحقيقة دعوة الإسلام، بما يقطع ألسنة المفترين ويبطل معاذيرهم، بين لهم في هاتين الآيتين الصارف النفسي لهم عنه وكونه شرا لهم لا خيرا، وهو أنه لا حظ لهم من حياتهم إلا شهوات الدنيا وزينتها، والإسلام يدعوهم إلى إيثار الآخرة على الأولى.
قال عز وجل.
﴿ من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها ﴾ أي من كان كل حظه من وجوده التمتع بلذات هذه الحياة الأولى التي هي أدنى الحياتين اللتين خلق لهما وهي الطعام والشراب والوقاع، وزينتها من اللباس والأثاث والرياش والأولاد والأموال، لا يريد مع ذلك استعدادا للحياة الآخرة ولقاء الله تعالى بالبر والإحسان، وتزكية النفس بباعث الإيمان ﴿ نوف إليهم أعمالهم فيها ﴾ أي نؤد إليهم ثمرات أعمالهم التي يعملونها وافية تامة بحسب سنتنا في الأسباب والمسببات ونظام الأقدار، وقد فصلنا هذا المعنى في التفسير مرارا.
﴿ وهم فيها لا يبخسون ﴾ وهم لا ينقصون فيها شيئا من نتائج كسبهم لأجل كفرهم، فإن مدار الأرزاق فيها على الأعمال السببية، لا على النيات والمقاصد الدينية، ولكن لهداية الدين تأثير فيها من ناحية الأمانة والاستقامة والصدق والنصح، واجتناب الخيانة والزور والغش، وغير ذلك من الصبر والتعاون على البر والتقوى، ولأهلها العاقبة الحسنة فيها. وكرر لفظ فيها للتأكيد والإعلام بأن الآخرة ليست كالدنيا في وفاء كيل الجزاء وفي بخسه، فإنه فيها منوط بأمرين : كسب الإنسان ونظام الأقدار، وقد يتعارضان، وأما جزاء الآخرة فهو بفعل الله تعالى مباشرة ﴿ ولا يظلم ربك أحد ﴾ [ الكهف : ٤٩ ].
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ومن العجيب أن تختلف الروايات في الآيتين هل نزلتا في المشركين أم في كفار أهل الكتاب أم في المنافقين، وما نزلتا منفردتين في طائفة خاصة، بل في ضمن سورة مكية حيث لا منافقون ولا أهل كتاب، وموضوعهما عام فيمن لا يؤمن بالآخرة ولا يعملون لأجلها.
﴿ من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون ( ١٥ ) أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون ( ١٦ ) ﴾.
بعد أن قامت الحجة القطعية على إعجاز القرآن، وحقيقة دعوة الإسلام، بما يقطع ألسنة المفترين ويبطل معاذيرهم، بين لهم في هاتين الآيتين الصارف النفسي لهم عنه وكونه شرا لهم لا خيرا، وهو أنه لا حظ لهم من حياتهم إلا شهوات الدنيا وزينتها، والإسلام يدعوهم إلى إيثار الآخرة على الأولى.
﴿ أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار ﴾ أي أولئك الموصوفون بما ذكر ليس لهم في الآخرة إلى دار العذاب المسماة بالنار، لأن الجزاء فيها كالجزاء في الدنيا على الأعمال، وهم لم يعملوا لنعيم الآخرة شيئا، فإن العمل لها إنما هو تزكية النفس بالإيمان والتقوى التي هي اجتناب المعاصي والرذائل، وأعمال البر والفضائل، ﴿ وحبط ما صنعوا فيها ﴾ وفسد ما صنعوا مما ظاهره البر والإحسان كالصدقة وصلة الرحم فلم يكن له تأثير في تزكية أنفسهم والقربة عند ربهم، لأنه إنما كان لأغراض نفسية من شهوات الدنيا كالرياء والسمعة والاعتزاز بأولي القربى على الأعداء ولو بالباطل، فهو كالحبط وهو بالتحريك أن تكثر الأنعام من بعض المراعي التي تستطيبها حتى تنتفخ وتفسد أحشاؤها، فظاهر كثرة الأنعام من بعض المراعي التي تستطيبها حتى تنتفخ وتفسد أحشاؤها، فظاهر كثرة الأكل أنه سبب للقوة فكان في هذه الحالة سببا للضعف، كذلك ما ظاهره البر والإحسان من أعمال الناس إذا كان الباعث عليه سوء النية مما ذكرنا ﴿ وباطل ما كانوا يعملون ﴾ أي وباطل في نفسه ما كانوا يعملونه في الدنيا، لأن لا ثمرة له ولا أجر في الآخرة، وإنما الأعمال بمقاصدها، والنتائج تابعة لمقدماتها، فإن كان في عملهم خير ونية حسنة يجازون عليه في الدنيا.
قال تعالى في تفصيل هذا الإجمال ﴿ من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك. وما كان عطاء ربك محظورا { انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا ﴾ [ الإسراء : ٢١ ] وقال معلم الخير الأعظم صلى الله عليه وسلم ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه ) ١. رواه البخاري في سبعة مواضع من صحيحه مختلفة الألفاظ ومسلم وغيرهما من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
الدين يبيح الطيبات من المآكل والمشارب غير الضارة ويبيح الزينة في غير إسراف ولا خيلاء، وإنما يذم من يحتقر المواهب الإنسانية من عقلية وروحانية فيجعل كل همه وحظه من وجوده في الشهوات الحيوانية التي تفضله بها الأنعام والحشرات فيفضله الثور في كثرة الأكل، والبعير في كثرة الشرب، والعصفور في كثرة السفاد، والطاووس في زينة الألوان ولمعان اللباس، ومن اختبر أهل أمصارنا في هذا العصر علم من إسرافهم في هذه الشهوات والزينة ما هو مفسد لصحتهم وأخلاقهم وبيوتهم حتى نسائهم وأطفالهم، وما حق لثروتهم، ومضعف لأمتهم ودولتهم، وما بعد ذلك إلا إضاعة آخرتهم، وترى مع هذا أن حكومتهم ومدارسهم لا تقيم للتربية الدينية وزنا وتجعل الصلاة التي هي عماد الدين اختيارية لا يلزمها أحد من معلميها ولا من تلاميذها.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ومن العجيب أن تختلف الروايات في الآيتين هل نزلتا في المشركين أم في كفار أهل الكتاب أم في المنافقين، وما نزلتا منفردتين في طائفة خاصة، بل في ضمن سورة مكية حيث لا منافقون ولا أهل كتاب، وموضوعهما عام فيمن لا يؤمن بالآخرة ولا يعملون لأجلها.

١ - روي الحديث بطرق وأسانيد متعددة، أخرجه البخاري في بدء الوحي باب ١، والإيمان باب ٤١، والإكراه، في الترجمة، والنكاح باب٥، والطلاق باب ١١، ومناقب الأنصار باب ٤٥، والعتق باب ٦، والإيمان باب ٢٣، والحيل باب ١، ومسلم في الإمارة حديث ١٥٥، وأبو داود في الطلاق باب ١١، والترمذي في فضائل الجهاد باب ١٦، والنسائي في الطهارة باب ٥٩، والطلاق باب ٢٤، والأيمان باب ١٩، وابن ماجه في الزهد باب ٢٦، وأحمد في المسند ١/ ٢٥، ٤٣..
﴿ أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ( ١٧ ) ﴾.
هذه الآية في المقابلة والموازنة بين من يهتدي ويهدي بالقرآن على علم وبينة ومن يكفر به على جهل وتقليد، أو عناد وجحود، فهي صلة بين ما قبلها وما بعدها.
﴿ أفمن كان على بينة من ربه ﴾ أي على حجة وبصير من ربه فما يؤمن به ويدعو إليه هاديا مهتديا به، فالبينة ما يتبين به الحق في كل شيء بحسبه، كالبرهان في العقليات، والنصوص في النقليات، والخوارق في الإلهيات، والتجارب في الحسيات، والشهادات في القضائيات، والاستقراء في إثبات الكليات، وقد نطق القرآن بأن الرسل كلهم قد جاءوا بالبينات، وأن كل نبي منهم كان يحتج على قومه بأنه على بينة من ربه، وأنه جاءهم ببينة من ربهم، كما ترى في قصصهم من سورة الأعراف وهذه السورة وكانت بيناتهم قسمين : حججا عقلية، وآيات كونية، وكان من لم يقتنع ببينة الرسول أو يكابرها يقولون :﴿ ما جئتنا ببينة ﴾ [ هود : ٥٣ ] وكان من جحد الآية الكونية بعد التحدي والإنذار بالعذاب يهلكون بعذاب الاستئصال، وتجد هذا وذاك مفصلا في قصصهم من هذه السورة، وفرق بين قول الرسول منهم ( إني على بينة من ربي ) وقوله :( قد جئتكم ببينة من ربكم ) فالأولى ما علم هو به أنه رسول من ربه بوحيه إليه، وبإظهاره على ما شاء من رؤية ملك الوحي وغيره من عالم الغيب، والثانية ما آتاه من الحجة العقلية على قومه كقوله :﴿ وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه ﴾ [ الأنعام : ٨٣ ] أو ما آتاه من آية كونية نستخذي لها أنفسهم، وتنقطع بها مكابرتهم.
وكان نبينا صلى الله عليه وسلم يطلق البينة تارة على الحجة والبرهان، وتارة على آيته الكبرى الجامعة للبراهين الكثيرة وهي القرآن، قال تعالى له :﴿ قل إني على بينة من ربي وكذبتم به ﴾ [ الأنعام : ٥٧ ] وأمره أن يقول لهم بعد ذكر موسى والتوراة ﴿ وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كان عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون ﴾ [ الأنعام : ١٥٥-١٥٧ ] فهذا السياق يشبه سياق الآية التي نفسرها.
وفي المراد بصاحب البينة فيها وجهان : أحدهما : أنه عام قوبل به ما قبله وهو من لا يريدون من حياتهم إلا لذات الدنيا وزينتها، وإن البينة هي نور البصيرة الفطرية والحجة العقلية التي يميز بها الإنسان بين الحق والباطل، والهدى والضلال. والمعنى : أفمن كان على بينة وبصيرة في دينه من ربه –فهو كقوله :﴿ أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه ﴾ [ الزمر : ٢٢ ] ﴿ ويتلوه شاهد منه ﴾ أي ويتبع هذا النور الفطري والبرهان العقلي المراد بالبينة وأعاد الضمير عليها مذكر باعتبار معناها، ويؤيده نور آخر غيبي إلهي منه تعالى يشهد بحقيته وصحته، وهو هذا القرآن، الذي هو مشرق النور والهدى والبرهان.
﴿ ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة ﴾ ويتبعه ويؤيده شاهد آخر جاء من قبله وهو الكتاب الذي أنزل على موسى عليه السلام حال كونه إماما متبعا في الهدى والتشريع، ورحمة لمن آمن وعمل به من بني إسرائيل، وشهادته له من وجهين : شهادة مقال وشهادة حال، فالأولى تصريحه بالبشارة بنبوة محمد ورسالته وقد بيناها مفصلة في تفسير والثانية ما بين رسالة موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام من التشابه.
وحاصل المعنى أفمن كان هذا شأنه في كمال الفطرة والعقل، الذي عرف به حقية الوحي العام الأخير، وما فيه من كمال الهداية والنور، وعرف تأييده بالوحي السابق الذي اهتدى به بنو إسرائيل، فاتسقت له أنوار الحجج الثلاث في هداية دينه، كمن كان يريد من حياته الحياة الدنيا الناقصة الفانية وزينتها الموقتة، محروما من الحياة العقلية والروحية العالية، الموصولة إلى سعادة الآخرة الباقية.
﴿ أولئك يؤمنون به ﴾ أي أولئك الموصوفون بما ذكر من الجمع بين البينة الوهبية، وشهادة الوحي لعقائدهم وأعمالهم الكسبية، يؤمنون بهذا القرآن إيمان معرفة وإذعان، على علم بما فيه من الهدى والفرقان، وأنه ما كان أن يفترى من دون الله ﴿ ومن يكفر به من الأحزاب ﴾ الذين تحزبوا من أهل مكة وزعماء قريش للصد عنه، وقال مقاتل هم بنو أمية وبنو المغيرة بن عبد الله المخزومي وآل طلحة بن عبيد الله، والذين سيتحزبون لمثل ذلك من أهل الكتاب ﴿ فالنار موعده ﴾ أي فإن نار جهنم هي الدار التي ينتهون إليها بمقتضى وعده تعالى آنفا :﴿ أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار ﴾ [ هود : ١٦ ] وما في معناه في السور الكثيرة، فالموعد اسم مكان.
﴿ فلا تكن في مرية منه ﴾ أي فلا تكن أيها المكلف العاقل في شك من هذا الوعد، أو من أمر هذا القرآن ﴿ إنه الحق من ربك ﴾ إنه هو الحق الكامل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه من ربك وخالقك الذي يربيك بما تكمل به فطرتك ويوصلك إلى السعادة في دنياك وآخرتك ﴿ ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ﴾ هذا الإيمان الكامل، أما المشركون فلاستكبار زعمائهم ورؤسائهم، وتقليد مرؤوسيهم ودهمائهم، وأما أهل الكتاب فلتحرفيهم وابتداعهم في دين أنبيائهم، قال ابن عباس : المراد بالناس في مثل هذه الآية أهل مكة، وقال غيره : جميع الكفار، ولكن أكثر أهل مكة أو كلهم كانوا قد آمنوا في عهد ابن عباس ( رضي الله عنهما ) فإذا صحت الرواية عنه مراده بيان حالهم عند نزول السورة، وأن فعل المضارع لبيان الحال الواقع.
الوجه الثاني : في الآية أن المراد ب( من كان على بينة من ربه ) فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجوز أن تكون البينة على هذا علمه اليقيني الضروري بنبوته كما تقدم، وسيأتي مثله في هذه السورة حكاية عن نوح في الآية ٢٨ وعن صالح في الآية ٦٣ وعن شعيب في الآية ٨٨ ويكون الشاهد الذي يتلوه منه تعالى القرآن، وهو الأظهر عندي، وروي عن ابن عباس ومجاهد والنخعي والضحاك وعكرمة وأبي صالح وسعيد بن جبير أن البينة القرآن والشاهد جبريل عليه السلام، وقوله :[ يتلوه ] على هذا من التلاوة لا من التلو والتبعية، فهو الذي كان يقرؤه على النبي صلى الله عليه وسلم عند نزوله به، وكان يعارضه ويدارسه في رمضان من كل سنة جميع ما نزل منه، حتى إذا كان آخر رمضان من آخر عمره صلى الله عليه وسلم عارضه القرآن مرتين.
وفي الشاهد روايات أخرى ضعيفة الرواية والدراية :" منها " أنه ملك " آخر " غير جبريل كان يحفظه القرآن أن ينسى منه شيء، " ومنها " أنه لسانه صلى الله عليه وسلم الذي كان يتلوه به على الناس، " ومنها " أنه علي [ رضي الله عنه ] يرويه الشيعة ويفسرونه بالإمامة، وروي أنه كرم الله وجهه سئل عنه فأنكره وفسره بأنه لسانه صلى الله عليه وسلم، وقابلهم خصومهم بمثلها فقالوا إنه أبو بكر، وهما من التفسير بالهوى، وأنت ترى أن بقية الآية لا تظهر على هذا الوجه بالجلاء والضياء الذي يظهر به الوجه الأول، بل يحتاج الجمع في قوله تعالى :﴿ أولئك يؤمنون به ﴾ إلى تأويل متكلف.
﴿ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين ( ١٨ ) الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون ( ١٩ ) أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض وما كان لهم من دون الله من أولياء يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ( ٢٠ ) أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون ( ٢١ ) لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون ( ٢٢ ) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ( ٢٣ ) * مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون ( ٢٤ ) ﴾
هذه الآيات السبع بيان لحال كل فريق من الفريقين المدمجين في الآية التي قبلهن : الذين يكفرون بالقرآن والذين يؤمنون به، ما كانوا عليه في الدنيا وما يكونون عليه في الآخرة
وبدأ بوصف الأول فقال :
﴿ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا ﴾ أي لا أحد أظلم لنفسه ولغيره ممن افترى على الله كذبا في وحيه وأقواله، أو أحكامه أو صفاته أو أفعاله، وقد تقدم مثل هذه الجملة في الأنعام [ الآيات : ٢١ و ١٤٤ ] والأعراف [ الآية : ٣٦ ] ويونس [ الآية : ١٧ ] وسيأتي في الكهف والعنكبوت والصف، ويفسر الافتراء في كل آية بما يدل عليه السياق، وأظهره هنا اتخاذ الشركاء والأولياء والشفعاء له بدون إذنه، وزعم من زعم أنه اتخذ له ولدا من الملائكة كالعرب الذين قالوا : الملائكة بنات الله، والوثنيين الذين قالوا : إن كرشنا ابن الله، والنصارى الذين قالوا : المسيح ابن الله، وكذا من افترى عليه بتكذيب ما جاء به رسله من دينه، لصدهم الناس عن سبيله.
﴿ أولئك يعرضون على ربهم ﴾ يوم القيامة لمحاسبتهم وتعرض عليه أعمالهم وأقوالهم ﴿ ويقول الأشهاد ﴾ الذين يقومون بأمره للشهادة عليهم من الملائكة الكرام الكاتبين، والأنبياء المرسلين، وصالحي المؤمنين " الأشهاد جمع شاهد كأصحاب، أو شهيد كأشراف " ﴿ هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين ﴾ أي يشيرون إليهم بأشخاصهم فيفضحونهم بهذه الشهادة المقرونة باللعنة، الدالة على خروجهم في ذلك اليوم من محيط الرحمة، وجملة اللعنة يجوز أن تكون من كلام الأشهاد، وأن تكون مستأنفة من كلام الله تعالى وفي معنى هذا قوله تعالى :﴿ إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار ﴾ [ غافر : ٥١-٥٢ ].
وفي حديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( إن الله يدني المؤمن حتى يضع كنفه عليه ويستره من النار ويقرره بذنوبه ويقول له : أتعرف ذنب كذا ؟ أتعرف ذنب كذا ؟ فيقول : رب أعرف، حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك قال : فإني سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته. وأما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد ﴿ هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين ﴾ ١ وقد بينا مسألة الشهادة والشهداء يوم القيامة في مواضعها من سورة البقرة والنساء والأنعام والأعراف مفصلة تفصيلا، فراجع تفسيرها في مواضعها من أجزاء التفسير مستدلا عليها بألفاظها في فهارسها.
١ - أخرجه البخاري في تفسيره سورة ١١، باب ٤، والمظالم باب٢، ومسلم في التوبة حديث ٥٢، وابن ماجه في المقدمة باب ١٣، وأحمد في المسند ٢/ ٧٤..
﴿ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين ( ١٨ ) الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون ( ١٩ ) أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض وما كان لهم من دون الله من أولياء يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ( ٢٠ ) أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون ( ٢١ ) لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون ( ٢٢ ) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ( ٢٣ ) * مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون ( ٢٤ ) ﴾
هذه الآيات السبع بيان لحال كل فريق من الفريقين المدمجين في الآية التي قبلهن : الذين يكفرون بالقرآن والذين يؤمنون به، ما كانوا عليه في الدنيا وما يكونون عليه في الآخرة
﴿ الذين يصدون عن سبيل الله ﴾ صفة للظالمين الملعونين، أي هم الذين يمنعون الناس ويصرفونهم عن سبيل الله الموصلة إلى معرفتهم وعبادته وهي دينه القيم وصراطه المستقيم ﴿ ويبغونها عوجا ﴾ أي يصفونها بالعوج والالتواء للتنفير عنها، أو يريدون أن تكون عوجاء بموافقتها لأهوائهم من الشرك وإباحة الظلم والفسق ﴿ وهم بالآخرة هم كافرون ﴾ أي والحال أنهم كافرون بالآخرة لا يؤمنون ببعث ولا جزاء، وإنما الدين عندهم رابطة دنيوية، وشعائر قومية، قد يتعصبون لها تعصبهم لقوميتهم، وتقليدا لآبائهم، وهكذا شأن الملاحدة والمبتدعة من أهل الأهواء، المدعين لدين الأنبياء، كما تراهم في هذا الزمان، وزيادة " هم " بين المبتدأ والخبر للتأكيد، وقد تقدم نص هذه الآية بدون هذه الزيادة في الآية ٢٤ من سورة الأعراف ( ٧ ) فراجع تفسيرها في الجزء التاسع.
﴿ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين ( ١٨ ) الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون ( ١٩ ) أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض وما كان لهم من دون الله من أولياء يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ( ٢٠ ) أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون ( ٢١ ) لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون ( ٢٢ ) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ( ٢٣ ) * مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون ( ٢٤ ) ﴾
هذه الآيات السبع بيان لحال كل فريق من الفريقين المدمجين في الآية التي قبلهن : الذين يكفرون بالقرآن والذين يؤمنون به، ما كانوا عليه في الدنيا وما يكونون عليه في الآخرة
﴿ أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض ﴾ أي لم يكونوا معجزين الله في الدنيا أن يعاقبهم بظلمهم وصدهم عن سبيله وكفرهم بكتابه ورسوله ولقائه ﴿ وما كان لهم من دون الله من أولياء ﴾ وما كان لهم فيها أولياء من دونه يتولون أمرهم عنده، ولا أنصار يمنعونهم من عقابه وينصرونهم، ولكن سبقت كلمته واقتضت مشيئته وحكمته أن يؤخرهم إلى هذا اليوم ﴿ يضاعف لهم العذاب ﴾ فيه بالنسبة إلى ما كان يكون من عقابهم في الدنيا لو عوقبوا فيها، لا بالزيادة عما يستحقونه منه بمقتضى سنته تعالى في إفساد كفرهم لأرواحهم، وتدسية ظلمهم لأنفسهم، وهذه الجملة استئناف بياني. قرأ الجمهور يضاعف من المضاعفة وابن كثير وابن عامر ويعقوب يضعف بالتشديد من التضعيف.
وعلل هذه المضاعفة بقوله :﴿ ما كانوا يستطيعون السمع ﴾ أي ما كانوا يستطيعون إلقاء أسماعهم إلى القرآن إصغاء لدعوة الحق وكلام الله عز وجل لاستحواذ الباطل على أنفسهم، ورين الكفر والظلم على قلوبهم بل كانوا ينهون عنه وينؤن عنه ومن ذلك قوله فيهم ﴿ وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ﴾ [ فصلت : ٢٦ ] ﴿ وما كانوا يبصرون ﴾ ما يدل عليه من آيات الله في الآفاق وفي أنفسهم، أي أنهم لشدة انهماكهم في الكفر ولوازمه من الباطل واتباع الهوى والشهوات، صاروا يكرهون الحق والهدى كراهة شديدة بحيث يثقل عليهم سماع ما يبينه من الآيات السمعية، وما يثبته من الآيات البصرية، وليس المراد أنهم فقدوا حاستي السمع والبصر فصاروا صما وعميانا بالفعل. بل هم كما يقول أمثالهم فيما يبغضون أنني لا أطيق رؤية فلان، ولا أقدر أن أسمع كلامه وتذكر أو راجع قوله تعالى لنبيه في سورة يونس ﴿ ومنهم من يستمعون إليك ﴾ [ يونس : ٤٢ ] الخ.
وأمثالهم مشاهدون في كل زمان ومكان، أعطى رجل مؤمن رجلا متفرنجا منهم كتاب الوحي المحمدي الذي شهد له من قرأه من طبقات الناس المختلفة بطلاوة عبارته وحسن بيانه، وموافقة أسلوبه وترتيبه وتبويبه لذوق هذا العصر، ثم سأله بعد أيام كيف رآه، ظانا أنه قرأه كله بشغف وأنه سيشكر له هديته ؟ فقال : إنني لم أستطع أن أقرأ منه صفحة واحدة، واعترف بأنه يقرأ كتب أشهر الملاحدة الطاعنين في القرآن بلذة ورغبة كما يقرأ القصص [ الروايات ] الغرامية ! ! !
﴿ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين ( ١٨ ) الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون ( ١٩ ) أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض وما كان لهم من دون الله من أولياء يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ( ٢٠ ) أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون ( ٢١ ) لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون ( ٢٢ ) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ( ٢٣ ) * مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون ( ٢٤ ) ﴾
هذه الآيات السبع بيان لحال كل فريق من الفريقين المدمجين في الآية التي قبلهن : الذين يكفرون بالقرآن والذين يؤمنون به، ما كانوا عليه في الدنيا وما يكونون عليه في الآخرة
﴿ أولئك الذين خسروا أنفسهم ﴾ أي أولئك الموصوفون بما تقدم هم الذين خسروا أنفسهم بافترائهم على الله، واشتراء الضلالة بالهدى، فإنهم دسوها وما زكوها في الدنيا ففقدوها في الآخرة، وأي وجود لمن يصلى النار الكبرى، فلا يموت فيها ولا يحيا ﴿ وظل عنهم ما كانوا يفترون ﴾ من اتخاذ الشفعاء عن الله، والأولياء الذين زعموا أنهم يقربونهم إليه زلفى، وقد سبق بهذا المعنى من سورة الأعراف في سياق نداء أصحاب الجنة أصحاب النار ﴿ فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة كافرون ﴾ [ الأعراف : ٤٤، ٤٥ ].
﴿ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين ( ١٨ ) الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون ( ١٩ ) أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض وما كان لهم من دون الله من أولياء يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ( ٢٠ ) أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون ( ٢١ ) لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون ( ٢٢ ) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ( ٢٣ ) * مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون ( ٢٤ ) ﴾
هذه الآيات السبع بيان لحال كل فريق من الفريقين المدمجين في الآية التي قبلهن : الذين يكفرون بالقرآن والذين يؤمنون به، ما كانوا عليه في الدنيا وما يكونون عليه في الآخرة
﴿ لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون ﴾ كلمة " لا جرم " تفيد التحقيق والتأكيد لما بعدها، قال الفراء : هي في الأصل بمعنى لا بد ولا محالة، ثم كثرت فحولت إلى معنى القسم وصارت بمعنى " حقا " ولهذا تجاب باللام نحو لا جرم لأفعلن كذا، أي حقا إنهم في الآخرة لأشد الناس خسرانا، وترى مثل هذا في أول سورة النمل، بهذا وصف الفريق الذي لا يؤمن بالقرآن هنا، وإن كان فيه من يقول بلسانه أنه يؤمن به، ويليه الفريق الآخر جعلنا الله من خياره وأنصاره، وهو :﴿ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم ﴾.
﴿ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين ( ١٨ ) الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون ( ١٩ ) أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض وما كان لهم من دون الله من أولياء يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ( ٢٠ ) أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون ( ٢١ ) لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون ( ٢٢ ) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ( ٢٣ ) * مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون ( ٢٤ ) ﴾
هذه الآيات السبع بيان لحال كل فريق من الفريقين المدمجين في الآية التي قبلهن : الذين يكفرون بالقرآن والذين يؤمنون به، ما كانوا عليه في الدنيا وما يكونون عليه في الآخرة
﴿ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم ﴾ أي خشعوا له واطمأنت نفوسهم بالإيمان، ولانت قلوبهم إلى ذكره، فلم يبق فيها زلزال ولا اضطراب، وأصل الإخبات قصد الخبت وهو المكان المطمئن المنخفض من الأرض والنزول فيه يقولون أخبت الرجل كما يقولون أنجد وأسهل وأنهم. ويقال أخبت إليه وأخبت له، ومن الثاني ﴿ وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم ﴾ وذكر هؤلاء العلماء المخبتين في سورة الحج وسطا بين الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم من إلقاء الشيطان، وبين الكافرين الذين لا يزالون في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم، فعلم منه أنه ليس للشيطان عليهم من سبيل وما أحسن ما فعله الراغب من التنظير بين هؤلاء المخبتي القلوب وبين من قال فيهم :﴿ وإن منها لما يهبط من خشية الله ﴾ [ البقرة : ٧٤ ] ﴿ أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ﴾ أولئك المتصفون بما ذكر أصحاب الجنة المستحقون لها بالذات الخالدون فيها أبدا.
﴿ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين ( ١٨ ) الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون ( ١٩ ) أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض وما كان لهم من دون الله من أولياء يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ( ٢٠ ) أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون ( ٢١ ) لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون ( ٢٢ ) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ( ٢٣ ) * مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون ( ٢٤ ) ﴾
هذه الآيات السبع بيان لحال كل فريق من الفريقين المدمجين في الآية التي قبلهن : الذين يكفرون بالقرآن والذين يؤمنون به، ما كانوا عليه في الدنيا وما يكونون عليه في الآخرة
﴿ مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع ﴾ أي مثل الفريقين من الكافرين والمؤمنين اللذين تقدم وصفهما وبيان حالهما في هذه الآيات المبينة لابتلائه تعالى للناس ليظهر أيهم أحسن عملا، والصفة الحسية المطابقة لحالهما كمثل الأعمى الفاقد لحاسة البصر في خلقته، والأصم الفاقد لحاسة السمع كذلك في حرمانه من مصادر العلم والعرفان الإنسانية والحيوانية، ومن هو كامل حاستي البصر والسمع كلتيهما، فهو يستمد العلم من آيات الله في التكوين والتشريع بما يسمع من القرآن وبما يرى من الأكوان، وهما الينبوعان اللذان يفيضان العلم والهدى على عقل الإنسان ﴿ هل يستويان مثلا ﴾ أي هل يستوي الفريقان صفة وحالا، ومبدأ ومآلا ؟ كلا إنهما لا يستويان ﴿ أفلا تذكرون ﴾ أي أتجهلون أيها المخاطبون هذا المثل الحسي الجلي أو أتغفلون عنه فلا تتذكرون ما بينهما من التباين فتعتبروا به ؟ أي يجب أن تتفكروا فتتذكروا فتعتبروا وتهتدوا.
شبه فريق الكافرين أولا بالأعمى في عدم استعمال بصره فيما يفضل به بصر الحيوان الأعجم من فهم آيات الله التي تزيده علما وعقلا وهدى روحيا، ثم شبه بالأصم كذلك بدليل عطفه على الأعمى ليتأمل العاقل كل تشبيه وحده، وأما قوله تعالى في المنافقين ﴿ صم بكم عمي ﴾ [ البقرة : ١٨ ] بدون عطف فالمراد به من أول وهلة التهويل بجمعهم للنقائص الثلاث كلها دفعة واحدة فلم يبق في استعدادهم منفذ للهدى، ولذلك عطف عليه بفاء السببية قوله في الآية ﴿ فهم لا يرجعون ﴾ [ البقرة : ١٨ ] وفي الآية ﴿ فهم لا يعقلون ﴾ [ البقرة : ١٧١ ] من الإيجاز في الآية عطفه هذه الصفات المتقابلة للفريقين، وتركه للسامع والقارئ التوزيع والتفريق بين ما لكل منهما من التشبيهين المتضامنين.
قصة نوح عليه السلام
﴿ ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين ( ٢٥ ) أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم ( ٢٦ ) فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين ( ٢٧ ) ﴾
تقدم ذكر خلاصة من هذه القصة في سورة يونس مختصرة مبدوءة بقوله تعالى :﴿ واتل علينا نبأ نوح ﴾ [ يونس : ٧١ ] الخ وبينت في تفسيرها نكتة هذا العطف فيها ووجه اتصال الكلام بما قبله فكان متمما وشاهدا له، وتقدمت قبل ذلك في سورة الأعراف مختصرة أيضا مبدوءة بقوله تعالى :﴿ لقد أرسلنا نوحا إلى قومه ﴾ [ الأعراف : ٥٩ ] وأشرت في تفسيره إلى وجه التناسب واتصال الكلام بما جاء في أول السورة من ذكر بعثة الرسل عامة وقد جاءت في هذه السورة مفصلة مناسبة لما قبلها.
بما نبينه فيما يلي فتقول :
﴿ ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه ﴾ قال المعربون من المفسرين إن الواو هنا للابتداء، أي لأن معنى الجملة لا يشترك مع ما قبله بما يصح جعلها معطوفة عليه. وأقول إن هذا سياق جديد في السورة أكد به ما قبله من الدلائل على أصول الدين من التوحيد والبعث والنبوة، فهو يشترك معه في جملته لا مع آخر آية منه، وعندي أن هذه القصة معطوفة على ما في أول هذه السورة من ذكر بعثة محمد رسول الله وخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم بمثل ما بعث به من قبله من الدعوة إلى عبادة الله وحده وبعثه نذيرا وبشيرا والإيمان بالبعث والجزاء، ليعلم قومه أنه صلى الله عليه وسلم ليس بدعا من الرسل، وأن حاله معهم كحال من قبله من الرسل عليهم السلام مع أقوامهم إجمالا وتفصيلا، كما قال في سورة الإسراء ﴿ سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا ﴾ [ الإسراء : ٧٧ ] فكأنه قال : لقد أرسلناك يا محمد إلى قومك وإلى الناس كافة بما تقدم بيان أصوله، ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه بمثل ما أرسلناك الخ.
وافتتحت القصة بصيغة القسم لإنكار المخاطبين بها لبعثة الرسل، وقدمنا بيان ما كان للقسم عند العرب من التأثير في تأكيد الكلام، ناهيك به في كلام الله المنزل على من عرف عندهم بالصدق من أول نشأته وهو محمد عليه الصلاة والسلام، ﴿ إني لكم نذير مبين ﴾ أي أرسلناه ببيان وظيفته من الإنذار لهم، أو قائلا لهم إني لكم نذير بين الأنذار ظاهره، وهو الإعلام بالشيء مع بيان عاقبة من خالفه فلم يذعن لما فيه من الأمر والنهي ثم فسر هذا الإرسال والإنذار بقوله : أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم ( ٢٦ )
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:علاوات لتفسير قصة نوح عليه السلام
العلاوة الأولى : البلاغة الفنية في الآية ٤٣
سبق لنا أن قلنا في الكلام على إعجاز القرآن ببلاغته ومذهب المتكلمين وأدباء الفنون في التحدي به : إن هذا النوع من الإعجاز يقل من يفقهه في هذا العصر لفقد أهله ملكتي البلاغة الذوقية السليقية والبيانية الفنية بله الجمع بينهما، وهو ضروري لإدراك هذا النوع من الإعجاز، وإن من يفقهه ويدرك عدم استطاعة أحد أن يأتي بسورة مثله قد يخفى عليه وجه دلالته على أنه لا بد أن يكون وحيا من الله تعالى وحجة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولذلك جزموا بوقوع العجز واختلفوا في وجه الدلالة، فمثلهم كمثل حداق الفنانين في الوشي والتطريز إذا رأوا صنع قدماء الهنود من أهل لاهور وكشمير وأقروا بالعجز عن محاكاته، والمصورين إذا رأوا أدق صور رفائيل في تصوير الإنسان بأدق مناظر أعضائه وشمائله وملامح صفاته النفسية وإمارات انفعالاته ولا سيما المتقاربة كالخوف والفزع والحزن والغم والغضب ونظر الإقرار ونظر الإنكار ونظر الشهوة ونظر العطف ونظر الرحمة ونظر الإعجاب والعجب ونظر المتفكر والمتحير، فقد يقرون بعجزهم عن محاكاتها ولكنهم لا يقولون بعدم إمكانها، بل يقولون بإمكانها وبقرب وقوعها بالفعل إذا وجدت الداعية القوية كمنفعة مالية كبيرة أو مصلحة قومية أو دولية عظيمة.
ومن المعلوم من تاريخ النبي صلى الله عليه وسلم مع فصحاء قريش وغيرهم أنه حدثت لهم أعظم الدواعي والمصالح المعارضة للقرآن بعد تحديثهم بسورة مثله مطلقا والتحدي بعشر سور في المكرر ولو مفترى، فأيقنوا بعجزهم عن الإتيان بها وبهن، ولو ظاهرهم عليه جميع الإنس عن كثرة بلغائهم وفصحائهم، والجن الذين يعتقدون أن منهم هواجس تلقنهم الشعر من حيث لا يرونهم، وكذا آلهتهم القادرون بخصائصهم الغيبية أو بمكانتهم عند الله تعالى على كل ما يريدون في هذا العالم بزعمهم، قد عجزوا مع هذا كله واضطروا إلى مقاومة النبي بالقتال، وما أعقبهم من خسارة المال، وسبي النساء والأطفال، ثم ما هو أشد عليهم وهو احتمال الذل والنكال، وروي أن كبراءهم زعموا على التعاون على المعارضة واستعدوا لها فسمعوا هذه الآية [ وقيل يا أرض ] فتضاءلت قواهم واستخذت أنفسهم ورجعوا عن عزمهم، كما يأتي قريبا.
عرف بلغاء قريش من بلاغة هذه الآية الروحية الكامنة في فصاحتها اللفظية الظاهرة وغيرها ما لم يعرفه بلغاء الفنون بعدهم منها، فكان هؤلاء أعلم بما للحسن والجمال الصوري في الكلام من المقاييس الفلسفية والموازين الفنية ودرجات الراجح على المرجوح. وكان أولئك أدق شعورا بما لهذا الحسن والجمال من السلطان على القلوب والحكم على العقول. مثال ذلك أن للجمال البدني في حسان النساء مقاييس وموازين لتناسب الأعضاء بعضها مع بعض يمكن ضبطها والعدل في الحكم بينها. وأما الجمال المعنوي وهو خفة الروح وسلطان التأثير في القلوب، فليس له مقياس، ولا ميزان عشري يضبط به وزنه أو مساحته فيعرف الراجح من المرجوح، وإنما يعرف هذا الجمال الأعلى بملكة نفسية، لا بأوزان صناعية، كما قال أبو الطيب في الخيل :
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها وأعضائها فالحسن عنك مغيب١
وإنما أحدث القرآن في الأمة العربية ما أحدث من الثورة الدينية والاجتماعية والانقلاب العالمي بالنوع الثاني من إدراك بلاغته لا الأول، وكل منها كامل من بابه، كما بينا ذلك في موضعه من عهد قريب، وإن كثرة البحث في الثاني ليشغل المفسر والمتدبر عن الأول الخاص منه بالهداية وإصلاح النفس وتزكيتها، ولهذا نقتصر منه في تفسيرنا على ما قصر فيه المفسرون باختصار لا يشغل عن الهداية المقصودة بالذات، وقد نجعله من باب الاستطراد بعد بيان معنى الآية أو الآيات، ولهذا جعلت ما أحببت بيانه في بلاغة هذه الآية الفنية علاوة من هذه العلاوات، وقد أطال العلماء الأخصائيون فيها حتى أفردها بعضهم بمصنفات خاصة، وتكلم صاحب [ الطراز في علوم الإعجاز ] عليها في ٢٥ صفحة، ولعله أحسنهم فيها كلاما، وإن كان السكاكي هو السابق إليه وكلهم فيه عيال عليه، وذكر بعض المفسرين جملا مختصرة أو وسطا منه أنقل منها هنا ما لخصه السيد الآلوسي في روح المعاني من كلام السكاكي وغيره بتصرف كعادته قال :
واعلم أن هذه الآية الكريمة قد بلغت من مراتب الإعجاز أقاصيها، واستدلت مصاقع العرب فسفعت بنواصيها، وجمعت من المحاسن ما يضيق عنه نطاق البيان، وكانت من سمهري البلاغة مكان السنان.
يروى أن كفار قريش قصدوا أن يعارضوا القرآن فعكفوا على لباب البر ولحوم الضأن وسلاف الخمر أربعين يوما لتصفوا أذهانهم، فلما أخذوا فيما قصدوه وسمعوا هذه الآية قال بعضهم لبعض : هذا الكلام لا يشبه كلام المخلوقين، فتركوا ما أخذوا فيه وتفرقوا. ويروى أيضا أن ابن المقفع وكان –كما في القاموس- فصيحا بليغا، بل قيل إنه أفصح أهل وقته- رام أن يعارض القرآن فنظم كلاما وجعله مفصلا وسماه سورا، فاجتاز يوما بصبي يقرؤها في مكتب فرجع ومحا ما عمل، وقال أشهد أن هذا لا يعارض أبدا وما هو من كلام البشر. ولا يخفى أن هذا لا يستدعي أن لا يكون سائر آيات القرآن العظيم معجزا لما أن حد الإعجاز هو المرتبة التي يعجز البشر عن الإتيان بمثلها ولا تدخل على قدرته قطعا وهي تشتمل على شيئين : الأول الطرف الأعلى من البلاغة أعني ما ينتهي إليه البلاغة ولا يتصور تجاوزها إياه، والثاني ما يقرب من ذلك الطرف أعني المراتب العلمية التي تتقاصر القوى البشرية عنها أيضا.
ومعنى إعجاز آيات الكتاب المجيد بأسرها هو كونها مما تتقاصر القوى البشرية عن الإتيان بمثلها سواء كانت من القسم الأول أو الثاني فلا يضر تفاوتها في البلاغة، وهو الذي قاله علماء هذا الشأن.
وقد فصل بعض مزايا هذه الآية المهرة المتقنون، وتركوا من ذلك ما لا يكاد يصفه الواصفون، ولا بأس بذكر شيء مما ذكر إفادة لجاهل، وتذكيرا لفاضل غافل، فنقول :
جهات بلاغة الآية الأربع : أولها جهة علم البيان
ذكر العلامة السكاكي أن النظر فيها من أربع جهات : من جهة علم البيان، ومن جهة علم المعاني وهما مرجعا البلاغة. ومن جهة الفصاحة المعنوية، ومن جهة الفصاحة اللفظية : أما النظر فيها من جهة علم البيان وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بذلك من القرينة والترشيح والتعريض، فهو أنه عز سلطانه لما أراد أن يبين معنى : أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد، وأن نقطع طوفان المساء فانقطع، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض، وأن نقضي أمر نوح عليه السلام وهو إنجاز ما كنا وعدناه من إغراق قومه فقضى، وأن نسوي السفينة على الجودي فاستوت، وأبقينا الظلمة غرقى – بنى سبحانه الكلام على تشبيه المراد منه بالمأمور الذي لا يتأتى منه –لكما هيبته من الآمر- العصيان، وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكون المقصود تصويرا لاقتداره سبحانه العظيم، وأن هذه الأجرام العظيمة من السماوات والأرض تابعة لإرادته تعالى إيجادا وإعداما، ولمشيئته فيها تغييرا وتبديلا، كأنها عقلاء مميزون قد عرفوه جل شأنه حق معرفته، وأحاطوا علما بوجوب الانقياد لأمره، والإذعان لحكمه، ويحتم بذل المجهود عليهم في تحصيل مراده، وتصوروا مزيد اقتداره، فعظمت مهابته في نفوسهم، وضربت سرادقها في أفنية ضمائرهم، فكما يلوح لهم إشارته سبحانه كان المشار إليه مقدما، وكما يرد عليهم أمره تعالى شأنه كان المأمور به متمما، لا تلقي لإشارته بغير الإمضاء والانقياد، ولا لأمره بغير الإذعان والامتثال.
" ثم بنى على مجموع التشبيهين نظم الكلام فقال جل وعلا قيل : على سبيل المجاز عن الإرادة من باب ذكر المسبب وإرادة السبب، لأن الإرادة تكون سببا لوقوع القول في الجملة، وجعل قرينة هذا المجاز خطاب الجماد وهو [ يا أرض- ويا سماء ] إذ يصح أن يراد حصول شيء متعلق بالجماد ولا يصح القول له. ثم قال سبحانه كما ترى [ يا أرض، ويا سماء ] مخاطبا لهما على سبيل الاستعارة للشبه المذكور، والظاهر أنه أراد أن هناك استعارة بالكناية حيث ذكر المشبه أعني السماء والأرض المراد منهما حصول أمر وأريد المشبه به أعني المأمور الموصوف بأنه لا يتأتى منه العصيان ادعاء بقرينة نسبة الخطاب إليه، ودخول حرف النداء عليه، وهما من خواص المأمور المطيع ويكون هذا تخييلا. وقد يقال : أراد أن الاستعارة ههنا تصريحية تبعية في حرف النداء بناء على تشبيه تعلق الإرادة بالمراد منه بتعلق النداء والخطاب بالمنادي المخاطب، وليس بشيء إذ لا يحسن هذا التشبيه ابتداء بل تبعا للتشبيه الأول فكيف يجعل أصلا لمتبوعه ؟ على أن قوله للشبه المذكور يدفع هذا الحمل.
ثم استعار لغئور الماء في الأرض [ البلع ] الذي هو إعمال الجاذبة في المطعوم للشبه بينهما وهو الذهاب إلى مقر خفي. وفي الكشاف : جعل البلع مستعارا لنشف الأرض الماء وهو أولى فإن النشف دال على جذب من إجزاء الأرض لما عليها كالبلع بالنسبة إلى الحيوان، ولأن النشف فعل الأرض والغثور فعل الماء مع الطباق بين الفعلين تعديا. ثم استعار الماء للغذاء استعارة بالكناية تشبيها له بالغذاء لتقوي الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار تقوي الآكل بالطعام وجعل قرينة الاستعارة لفظة [ ابلعي ] لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء.
ولا يخفى عليك أنه إذا اعتبر مذهب السلف في الاستعارة يكون [ ابلعي ] استعارة تصريحية ومع ذلك يكون بحسب اللفظ قرينة للاستعارة بالكناية في الماء على حد ما قالوا في ﴿ ينقضون عهد الله ﴾ وأما إذا اعتبر مذهبه فينبغي أن يكون البلع باقيا على حقيقته كالإنبات في : أنبت الربيع البقل. وهو بعيد، أو يجعل مستعارا لأمر متوهم كما في : نطقت الحال فيلزمه القول بالاستعارة التبعية كما هو المشهور.
ثم إنه تعالى أمر على سبيل الاستعارة للتشبيه الثاني وخاطب في الأمر تشريحا لاستعارة النداء، والحاصل أن في لفظ [ ابلعي ] باعتبار جوهرة استعارة لغئور الماء وباعتبار صورته أعني كونه صورة أمر استعارة أخرى لتكوين المراد، وباعتبار كونه أمر خطاب ترشيح للاستعارة المكنية التي في المنادى، فإن قرينتها النداء وما زاد على قرينة المكنية يكون ترشيحا لها. وأما جعل النداء استعارة تصريحية تبعية حتى يكون خطاب الآمر ترشيحا لها فقد عرفت ما فيه.
ثم قال جل وعلا [ ماءك ] بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز تشبيها لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالملك، واختار ضمير الخطاب لأجل التشريح وحاصله أن هناك مجازا لغويا في الهيئة الإضافية الدالة على الاختصاص الملكي، ولهذا جعل الخطاب ترشيحا لهذه الاستعارة من حيث إن الخطاب يدل على صلوح الأرض للمالكية، فما قيل إن المجاز عقلي والعبارة مصروفة عن الظاهر ليس بشيء.
ثم اختار لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان من المطر أو الفعل، ففي [ أقلعي ] استعارة باعتبار جوهره وكذا باعتبار صيغته أيضا وهي مبنية على تشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافد، والخطاب فيه أيضا ترشيح لاستعارة النداء، والحاصل أن الكلام فيه مثل ما مر في [ ابلعي ].
" ثم قال سبحا

قصة نوح عليه السلام
﴿ ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين ( ٢٥ ) أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم ( ٢٦ ) فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين ( ٢٧ ) ﴾
تقدم ذكر خلاصة من هذه القصة في سورة يونس مختصرة مبدوءة بقوله تعالى :﴿ واتل علينا نبأ نوح ﴾ [ يونس : ٧١ ] الخ وبينت في تفسيرها نكتة هذا العطف فيها ووجه اتصال الكلام بما قبله فكان متمما وشاهدا له، وتقدمت قبل ذلك في سورة الأعراف مختصرة أيضا مبدوءة بقوله تعالى :﴿ لقد أرسلنا نوحا إلى قومه ﴾ [ الأعراف : ٥٩ ] وأشرت في تفسيره إلى وجه التناسب واتصال الكلام بما جاء في أول السورة من ذكر بعثة الرسل عامة وقد جاءت في هذه السورة مفصلة مناسبة لما قبلها.
﴿ أن لا تعبدوا إلا الله ﴾ بأن لا تعبدوا إلا الله، اعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئا " وهذا عين ما تقدم في الآية الثانية " وكانوا أول قوم أشركوا بالله واتخذوا له الأنداد، وكان أول رسول أرسله الله تعالى إلى أهل الأرض كما تقدم في قصته من سورة الأعراف ﴿ إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم ﴾ أي شديد الألم وهو يوم القيامة أو يوم عذاب الاستئصال بالطوفان، وصف بالألم للمبالغة، وإنما يشعر بالألم من يعذب فيه من الكافرين الظالمين، وفي قصته من سورة الأعراف ﴿ عذاب يوم عظيم ﴾ [ الأنعام : ١٥ ] أي ألمه وهوله، وهو أقرب إلى قوله في الآية الثالثة من هذه السورة ﴿ عذاب يوم كبير ﴾ [ هود : ٣ ] والمراد واحد.
ويجوز أن يكون ما قاله نوح جامعا لمعنى الألم ومعنى العظمة والكبر إذ القرآن يبين المعاني المحكية بالألفاظ المختلفة في السور المتعددة كما قلنا من قبل، ويأتي في بعضها بما يغني عن بعض، ومن ذلك قول نوح في سورة المؤمنين بعد الأمر بعبادة التوحيد وتقريره ﴿ أفلا تتقون ﴾ [ الأعراف : ٦٥ ] ومثلها فيها عن الرسول الذي بعده. وكان كل رسول يأمر قومه بالتقوى كما كرر حكايته عنهم في سورة الشعراء إذ التقوى ملاك الأمر كله.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:علاوات لتفسير قصة نوح عليه السلام
العلاوة الأولى : البلاغة الفنية في الآية ٤٣
سبق لنا أن قلنا في الكلام على إعجاز القرآن ببلاغته ومذهب المتكلمين وأدباء الفنون في التحدي به : إن هذا النوع من الإعجاز يقل من يفقهه في هذا العصر لفقد أهله ملكتي البلاغة الذوقية السليقية والبيانية الفنية بله الجمع بينهما، وهو ضروري لإدراك هذا النوع من الإعجاز، وإن من يفقهه ويدرك عدم استطاعة أحد أن يأتي بسورة مثله قد يخفى عليه وجه دلالته على أنه لا بد أن يكون وحيا من الله تعالى وحجة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولذلك جزموا بوقوع العجز واختلفوا في وجه الدلالة، فمثلهم كمثل حداق الفنانين في الوشي والتطريز إذا رأوا صنع قدماء الهنود من أهل لاهور وكشمير وأقروا بالعجز عن محاكاته، والمصورين إذا رأوا أدق صور رفائيل في تصوير الإنسان بأدق مناظر أعضائه وشمائله وملامح صفاته النفسية وإمارات انفعالاته ولا سيما المتقاربة كالخوف والفزع والحزن والغم والغضب ونظر الإقرار ونظر الإنكار ونظر الشهوة ونظر العطف ونظر الرحمة ونظر الإعجاب والعجب ونظر المتفكر والمتحير، فقد يقرون بعجزهم عن محاكاتها ولكنهم لا يقولون بعدم إمكانها، بل يقولون بإمكانها وبقرب وقوعها بالفعل إذا وجدت الداعية القوية كمنفعة مالية كبيرة أو مصلحة قومية أو دولية عظيمة.
ومن المعلوم من تاريخ النبي صلى الله عليه وسلم مع فصحاء قريش وغيرهم أنه حدثت لهم أعظم الدواعي والمصالح المعارضة للقرآن بعد تحديثهم بسورة مثله مطلقا والتحدي بعشر سور في المكرر ولو مفترى، فأيقنوا بعجزهم عن الإتيان بها وبهن، ولو ظاهرهم عليه جميع الإنس عن كثرة بلغائهم وفصحائهم، والجن الذين يعتقدون أن منهم هواجس تلقنهم الشعر من حيث لا يرونهم، وكذا آلهتهم القادرون بخصائصهم الغيبية أو بمكانتهم عند الله تعالى على كل ما يريدون في هذا العالم بزعمهم، قد عجزوا مع هذا كله واضطروا إلى مقاومة النبي بالقتال، وما أعقبهم من خسارة المال، وسبي النساء والأطفال، ثم ما هو أشد عليهم وهو احتمال الذل والنكال، وروي أن كبراءهم زعموا على التعاون على المعارضة واستعدوا لها فسمعوا هذه الآية [ وقيل يا أرض ] فتضاءلت قواهم واستخذت أنفسهم ورجعوا عن عزمهم، كما يأتي قريبا.
عرف بلغاء قريش من بلاغة هذه الآية الروحية الكامنة في فصاحتها اللفظية الظاهرة وغيرها ما لم يعرفه بلغاء الفنون بعدهم منها، فكان هؤلاء أعلم بما للحسن والجمال الصوري في الكلام من المقاييس الفلسفية والموازين الفنية ودرجات الراجح على المرجوح. وكان أولئك أدق شعورا بما لهذا الحسن والجمال من السلطان على القلوب والحكم على العقول. مثال ذلك أن للجمال البدني في حسان النساء مقاييس وموازين لتناسب الأعضاء بعضها مع بعض يمكن ضبطها والعدل في الحكم بينها. وأما الجمال المعنوي وهو خفة الروح وسلطان التأثير في القلوب، فليس له مقياس، ولا ميزان عشري يضبط به وزنه أو مساحته فيعرف الراجح من المرجوح، وإنما يعرف هذا الجمال الأعلى بملكة نفسية، لا بأوزان صناعية، كما قال أبو الطيب في الخيل :
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها وأعضائها فالحسن عنك مغيب١
وإنما أحدث القرآن في الأمة العربية ما أحدث من الثورة الدينية والاجتماعية والانقلاب العالمي بالنوع الثاني من إدراك بلاغته لا الأول، وكل منها كامل من بابه، كما بينا ذلك في موضعه من عهد قريب، وإن كثرة البحث في الثاني ليشغل المفسر والمتدبر عن الأول الخاص منه بالهداية وإصلاح النفس وتزكيتها، ولهذا نقتصر منه في تفسيرنا على ما قصر فيه المفسرون باختصار لا يشغل عن الهداية المقصودة بالذات، وقد نجعله من باب الاستطراد بعد بيان معنى الآية أو الآيات، ولهذا جعلت ما أحببت بيانه في بلاغة هذه الآية الفنية علاوة من هذه العلاوات، وقد أطال العلماء الأخصائيون فيها حتى أفردها بعضهم بمصنفات خاصة، وتكلم صاحب [ الطراز في علوم الإعجاز ] عليها في ٢٥ صفحة، ولعله أحسنهم فيها كلاما، وإن كان السكاكي هو السابق إليه وكلهم فيه عيال عليه، وذكر بعض المفسرين جملا مختصرة أو وسطا منه أنقل منها هنا ما لخصه السيد الآلوسي في روح المعاني من كلام السكاكي وغيره بتصرف كعادته قال :
واعلم أن هذه الآية الكريمة قد بلغت من مراتب الإعجاز أقاصيها، واستدلت مصاقع العرب فسفعت بنواصيها، وجمعت من المحاسن ما يضيق عنه نطاق البيان، وكانت من سمهري البلاغة مكان السنان.
يروى أن كفار قريش قصدوا أن يعارضوا القرآن فعكفوا على لباب البر ولحوم الضأن وسلاف الخمر أربعين يوما لتصفوا أذهانهم، فلما أخذوا فيما قصدوه وسمعوا هذه الآية قال بعضهم لبعض : هذا الكلام لا يشبه كلام المخلوقين، فتركوا ما أخذوا فيه وتفرقوا. ويروى أيضا أن ابن المقفع وكان –كما في القاموس- فصيحا بليغا، بل قيل إنه أفصح أهل وقته- رام أن يعارض القرآن فنظم كلاما وجعله مفصلا وسماه سورا، فاجتاز يوما بصبي يقرؤها في مكتب فرجع ومحا ما عمل، وقال أشهد أن هذا لا يعارض أبدا وما هو من كلام البشر. ولا يخفى أن هذا لا يستدعي أن لا يكون سائر آيات القرآن العظيم معجزا لما أن حد الإعجاز هو المرتبة التي يعجز البشر عن الإتيان بمثلها ولا تدخل على قدرته قطعا وهي تشتمل على شيئين : الأول الطرف الأعلى من البلاغة أعني ما ينتهي إليه البلاغة ولا يتصور تجاوزها إياه، والثاني ما يقرب من ذلك الطرف أعني المراتب العلمية التي تتقاصر القوى البشرية عنها أيضا.
ومعنى إعجاز آيات الكتاب المجيد بأسرها هو كونها مما تتقاصر القوى البشرية عن الإتيان بمثلها سواء كانت من القسم الأول أو الثاني فلا يضر تفاوتها في البلاغة، وهو الذي قاله علماء هذا الشأن.
وقد فصل بعض مزايا هذه الآية المهرة المتقنون، وتركوا من ذلك ما لا يكاد يصفه الواصفون، ولا بأس بذكر شيء مما ذكر إفادة لجاهل، وتذكيرا لفاضل غافل، فنقول :
جهات بلاغة الآية الأربع : أولها جهة علم البيان
ذكر العلامة السكاكي أن النظر فيها من أربع جهات : من جهة علم البيان، ومن جهة علم المعاني وهما مرجعا البلاغة. ومن جهة الفصاحة المعنوية، ومن جهة الفصاحة اللفظية : أما النظر فيها من جهة علم البيان وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بذلك من القرينة والترشيح والتعريض، فهو أنه عز سلطانه لما أراد أن يبين معنى : أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد، وأن نقطع طوفان المساء فانقطع، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض، وأن نقضي أمر نوح عليه السلام وهو إنجاز ما كنا وعدناه من إغراق قومه فقضى، وأن نسوي السفينة على الجودي فاستوت، وأبقينا الظلمة غرقى – بنى سبحانه الكلام على تشبيه المراد منه بالمأمور الذي لا يتأتى منه –لكما هيبته من الآمر- العصيان، وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكون المقصود تصويرا لاقتداره سبحانه العظيم، وأن هذه الأجرام العظيمة من السماوات والأرض تابعة لإرادته تعالى إيجادا وإعداما، ولمشيئته فيها تغييرا وتبديلا، كأنها عقلاء مميزون قد عرفوه جل شأنه حق معرفته، وأحاطوا علما بوجوب الانقياد لأمره، والإذعان لحكمه، ويحتم بذل المجهود عليهم في تحصيل مراده، وتصوروا مزيد اقتداره، فعظمت مهابته في نفوسهم، وضربت سرادقها في أفنية ضمائرهم، فكما يلوح لهم إشارته سبحانه كان المشار إليه مقدما، وكما يرد عليهم أمره تعالى شأنه كان المأمور به متمما، لا تلقي لإشارته بغير الإمضاء والانقياد، ولا لأمره بغير الإذعان والامتثال.
" ثم بنى على مجموع التشبيهين نظم الكلام فقال جل وعلا قيل : على سبيل المجاز عن الإرادة من باب ذكر المسبب وإرادة السبب، لأن الإرادة تكون سببا لوقوع القول في الجملة، وجعل قرينة هذا المجاز خطاب الجماد وهو [ يا أرض- ويا سماء ] إذ يصح أن يراد حصول شيء متعلق بالجماد ولا يصح القول له. ثم قال سبحانه كما ترى [ يا أرض، ويا سماء ] مخاطبا لهما على سبيل الاستعارة للشبه المذكور، والظاهر أنه أراد أن هناك استعارة بالكناية حيث ذكر المشبه أعني السماء والأرض المراد منهما حصول أمر وأريد المشبه به أعني المأمور الموصوف بأنه لا يتأتى منه العصيان ادعاء بقرينة نسبة الخطاب إليه، ودخول حرف النداء عليه، وهما من خواص المأمور المطيع ويكون هذا تخييلا. وقد يقال : أراد أن الاستعارة ههنا تصريحية تبعية في حرف النداء بناء على تشبيه تعلق الإرادة بالمراد منه بتعلق النداء والخطاب بالمنادي المخاطب، وليس بشيء إذ لا يحسن هذا التشبيه ابتداء بل تبعا للتشبيه الأول فكيف يجعل أصلا لمتبوعه ؟ على أن قوله للشبه المذكور يدفع هذا الحمل.
ثم استعار لغئور الماء في الأرض [ البلع ] الذي هو إعمال الجاذبة في المطعوم للشبه بينهما وهو الذهاب إلى مقر خفي. وفي الكشاف : جعل البلع مستعارا لنشف الأرض الماء وهو أولى فإن النشف دال على جذب من إجزاء الأرض لما عليها كالبلع بالنسبة إلى الحيوان، ولأن النشف فعل الأرض والغثور فعل الماء مع الطباق بين الفعلين تعديا. ثم استعار الماء للغذاء استعارة بالكناية تشبيها له بالغذاء لتقوي الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار تقوي الآكل بالطعام وجعل قرينة الاستعارة لفظة [ ابلعي ] لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء.
ولا يخفى عليك أنه إذا اعتبر مذهب السلف في الاستعارة يكون [ ابلعي ] استعارة تصريحية ومع ذلك يكون بحسب اللفظ قرينة للاستعارة بالكناية في الماء على حد ما قالوا في ﴿ ينقضون عهد الله ﴾ وأما إذا اعتبر مذهبه فينبغي أن يكون البلع باقيا على حقيقته كالإنبات في : أنبت الربيع البقل. وهو بعيد، أو يجعل مستعارا لأمر متوهم كما في : نطقت الحال فيلزمه القول بالاستعارة التبعية كما هو المشهور.
ثم إنه تعالى أمر على سبيل الاستعارة للتشبيه الثاني وخاطب في الأمر تشريحا لاستعارة النداء، والحاصل أن في لفظ [ ابلعي ] باعتبار جوهرة استعارة لغئور الماء وباعتبار صورته أعني كونه صورة أمر استعارة أخرى لتكوين المراد، وباعتبار كونه أمر خطاب ترشيح للاستعارة المكنية التي في المنادى، فإن قرينتها النداء وما زاد على قرينة المكنية يكون ترشيحا لها. وأما جعل النداء استعارة تصريحية تبعية حتى يكون خطاب الآمر ترشيحا لها فقد عرفت ما فيه.
ثم قال جل وعلا [ ماءك ] بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز تشبيها لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالملك، واختار ضمير الخطاب لأجل التشريح وحاصله أن هناك مجازا لغويا في الهيئة الإضافية الدالة على الاختصاص الملكي، ولهذا جعل الخطاب ترشيحا لهذه الاستعارة من حيث إن الخطاب يدل على صلوح الأرض للمالكية، فما قيل إن المجاز عقلي والعبارة مصروفة عن الظاهر ليس بشيء.
ثم اختار لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان من المطر أو الفعل، ففي [ أقلعي ] استعارة باعتبار جوهره وكذا باعتبار صيغته أيضا وهي مبنية على تشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافد، والخطاب فيه أيضا ترشيح لاستعارة النداء، والحاصل أن الكلام فيه مثل ما مر في [ ابلعي ].
" ثم قال سبحا

قصة نوح عليه السلام
﴿ ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين ( ٢٥ ) أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم ( ٢٦ ) فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين ( ٢٧ ) ﴾
تقدم ذكر خلاصة من هذه القصة في سورة يونس مختصرة مبدوءة بقوله تعالى :﴿ واتل علينا نبأ نوح ﴾ [ يونس : ٧١ ] الخ وبينت في تفسيرها نكتة هذا العطف فيها ووجه اتصال الكلام بما قبله فكان متمما وشاهدا له، وتقدمت قبل ذلك في سورة الأعراف مختصرة أيضا مبدوءة بقوله تعالى :﴿ لقد أرسلنا نوحا إلى قومه ﴾ [ الأعراف : ٥٩ ] وأشرت في تفسيره إلى وجه التناسب واتصال الكلام بما جاء في أول السورة من ذكر بعثة الرسل عامة وقد جاءت في هذه السورة مفصلة مناسبة لما قبلها.
﴿ فقال الملأ الذين كفروا من قومه ﴾ أي فبادر الملأ أي الأشراف والزعماء الذين كفروا من قومه إلى الجواب ليكون الدهماء تبعا لهم كعادتهم، واقترن جوابهم هنا بالفاء لأنه هو الأصل في الرد السريع، ومثله في سورة المؤمنين وتقدم في سورة الأعراف مفصولا وهو ﴿ قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين ﴾ [ الأعراف : ٦٠ ] لأنه هو الأصل في باب المراجعة يقال.. قال. ويسمى الاستئناف البياني، والفرق بينهما في الموضعين من هذه القصة أن الموصول بالفاء أريد به المبادرة إلى الرد على نوح بما يبطل دعوته بزعمهم، والمفصول ليس إلا طعنا وتخطئة هو من جملة ما رموه به لا يعلم متى وقع منهم، وليس جوابا متصلا بالدعوة، فيالله العجب من هذه الدقة في بلاغة القرآن !
﴿ وما نراك إلا بشرا مثلنا ﴾ في الجنس لا مزية لك علينا تكون بها نذير لنا نطيعك ونتبعك مذعنين لنبوتك ورسالتك ﴿ وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا ﴾ أي أردياؤنا وأخساؤنا. يقال رذل الشيء أو المرء بضم الذال " كضخم " فهو رذل بسكونها " كضخم " وجمعه أرذل بضم الذال وجمع الجمع أراذل وهو جمع " أرذل " بصيغة التفضيل، ويؤيده في سورة الشعراء ﴿ واتبعك الأرذلون ﴾ [ الشعراء : ١١١ ] ويعنون بهم من دون طبقة الأشراف والأكابر كالزراع والصناع والعمال، وهم الذين يقبلون الحق إذا فهموه لعدم استكبارهم عن إتباع غيرهم.
﴿ بادي الرأي ﴾ أي اتبعوك في بادي الرأي أي ظاهر الذي يبدو للناظر فيه، قبل العلم بما وراء قوادمه من خوافيه، والتأمل في باطنه، والغوص في أعماقه، أو في بدئه وما يظهر منه أول وهلة قبل تكرار التفكر فيه، والنظر في عواقبه وتواليه فالياء على هذا منقلبة عن همزة لانكسار ما قبلها. ويؤيد قراءة أبي عمرو بالهمزة [ بادىء ] وقراءة الجمهور أبلغ لاحتمالها الجمع بين المعنيين.
﴿ وما نرى لكم علينا من فضل ﴾ أي وما نرى لك ولمن اتبعك علينا أدنى فضل تمتازون به في جماعتكم كالقوة والكثرة والعلم والرأي يحملنا على اتباعكم، والنزول عن جاهنا وامتيازنا عليكم بالجاه والمال لمساواتكم، ﴿ بل نظنكم كاذبين ﴾ أي بل الأمر شر من ذلك وهو أننا نظنكم كاذبين في جملتكم : المتبوع في دعوى النبوة، والتابعون في تصديقه، فهي إذا ائتمار بنا تحاولون به أن تقلبوا الحقيقة فتجعلوا الفاضل مفضولا، والشريف مشروفا، وقد كرموا أنفسهم بعدم الجزم بالتكذيب فعبروا عنه بالظن.
أجابوه بأربع حجج داحضة : إحداهما : أنه بشر مثلهم فساووه بأنفسهم في الجملة، وهذا يدل على أنه عليه السلام كان من طبقتهم أو ما يقرب منها في بيته وفي شخصه، وهكذا كان كل رسول من وسط قومه، ووجه الجواب أن المساواة تنافي دعوى تفوق أحد المتساويين على الآخر بجعل أحدهما تابعا طائعا، والآخر متبوعا مطاعا، لأنه ترجيح بغير مرجح.
والثانية : أنه لم يتبعه منهم إلا أراذلهم في الطبقة والمكانة الاجتماعية بادي الرأي، لا بدليل من العقل والعلم، وبهذا تنتفي المساواة فينزل هو عن رتبة الطبقة العليا إلى رتبة من اتبعه من الطبقات السفلى، وهذا مرجح لرد دعوته والتولي عنه.
الثالثة : عدم رؤية فضل له مع جماعته هؤلاء عليهم من قوة عصبية أو كثرة غالبة أو غير هذا من المزايا التي ترفع الأراذل من مقعدهم في السفلة، فيهون على الأشراف مساواتهم في اتباعه.
الرابعة : أنهم بعد الإضراب أو صرف النظر عما ذكروا من التنافي والتعارض يرجحون الحكم عليه وعليهم بالكذب في هذه الدعوى، وهذا هو المرجح الأقوى لرد الدعوة، وقد أخروه في الذكر لأنهم لو قدموه لما بقي لذكر تلك العلل الأخرى وجه، وهي وجيهة في نظرهم لا بد لهم من بيانها، وهذه الأخيرة طعن لهم على نوح عليه السلام أشركوه فيه مع أتباعه ولم يجابهوه به وحده، ولم يجزموا به، كما أنهم لم يجعلوه في طبقتهم من الرذالة، ونحن نرى ملاحدة هذا العصر كقوم نوح ومن بعده في حججهم الداحضة، وغرورهم وعمى قلوبهم، لا يفضلونهم بشيء إلا الغرور بفنون الإفرنج وقوتهم وجعلها حجة على تقليد أراذلهم في شر رذائلهم، وتحقير أنفسهم وأمتهم ولغتهم، فهم شر من قوم نوح إذا كان تقليد قوم نوح لآبائهم تعظيما لهم، والبلاء كل البلاء عندنا من فساد أمرائنا وبشاواتنا وأغنيائنا فهم في مجموعهم أو أكثرهم كملأ نوح شر طبقات هذه الأمة وأشدها فسادا وإفسادا.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:علاوات لتفسير قصة نوح عليه السلام
العلاوة الأولى : البلاغة الفنية في الآية ٤٣
سبق لنا أن قلنا في الكلام على إعجاز القرآن ببلاغته ومذهب المتكلمين وأدباء الفنون في التحدي به : إن هذا النوع من الإعجاز يقل من يفقهه في هذا العصر لفقد أهله ملكتي البلاغة الذوقية السليقية والبيانية الفنية بله الجمع بينهما، وهو ضروري لإدراك هذا النوع من الإعجاز، وإن من يفقهه ويدرك عدم استطاعة أحد أن يأتي بسورة مثله قد يخفى عليه وجه دلالته على أنه لا بد أن يكون وحيا من الله تعالى وحجة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولذلك جزموا بوقوع العجز واختلفوا في وجه الدلالة، فمثلهم كمثل حداق الفنانين في الوشي والتطريز إذا رأوا صنع قدماء الهنود من أهل لاهور وكشمير وأقروا بالعجز عن محاكاته، والمصورين إذا رأوا أدق صور رفائيل في تصوير الإنسان بأدق مناظر أعضائه وشمائله وملامح صفاته النفسية وإمارات انفعالاته ولا سيما المتقاربة كالخوف والفزع والحزن والغم والغضب ونظر الإقرار ونظر الإنكار ونظر الشهوة ونظر العطف ونظر الرحمة ونظر الإعجاب والعجب ونظر المتفكر والمتحير، فقد يقرون بعجزهم عن محاكاتها ولكنهم لا يقولون بعدم إمكانها، بل يقولون بإمكانها وبقرب وقوعها بالفعل إذا وجدت الداعية القوية كمنفعة مالية كبيرة أو مصلحة قومية أو دولية عظيمة.
ومن المعلوم من تاريخ النبي صلى الله عليه وسلم مع فصحاء قريش وغيرهم أنه حدثت لهم أعظم الدواعي والمصالح المعارضة للقرآن بعد تحديثهم بسورة مثله مطلقا والتحدي بعشر سور في المكرر ولو مفترى، فأيقنوا بعجزهم عن الإتيان بها وبهن، ولو ظاهرهم عليه جميع الإنس عن كثرة بلغائهم وفصحائهم، والجن الذين يعتقدون أن منهم هواجس تلقنهم الشعر من حيث لا يرونهم، وكذا آلهتهم القادرون بخصائصهم الغيبية أو بمكانتهم عند الله تعالى على كل ما يريدون في هذا العالم بزعمهم، قد عجزوا مع هذا كله واضطروا إلى مقاومة النبي بالقتال، وما أعقبهم من خسارة المال، وسبي النساء والأطفال، ثم ما هو أشد عليهم وهو احتمال الذل والنكال، وروي أن كبراءهم زعموا على التعاون على المعارضة واستعدوا لها فسمعوا هذه الآية [ وقيل يا أرض ] فتضاءلت قواهم واستخذت أنفسهم ورجعوا عن عزمهم، كما يأتي قريبا.
عرف بلغاء قريش من بلاغة هذه الآية الروحية الكامنة في فصاحتها اللفظية الظاهرة وغيرها ما لم يعرفه بلغاء الفنون بعدهم منها، فكان هؤلاء أعلم بما للحسن والجمال الصوري في الكلام من المقاييس الفلسفية والموازين الفنية ودرجات الراجح على المرجوح. وكان أولئك أدق شعورا بما لهذا الحسن والجمال من السلطان على القلوب والحكم على العقول. مثال ذلك أن للجمال البدني في حسان النساء مقاييس وموازين لتناسب الأعضاء بعضها مع بعض يمكن ضبطها والعدل في الحكم بينها. وأما الجمال المعنوي وهو خفة الروح وسلطان التأثير في القلوب، فليس له مقياس، ولا ميزان عشري يضبط به وزنه أو مساحته فيعرف الراجح من المرجوح، وإنما يعرف هذا الجمال الأعلى بملكة نفسية، لا بأوزان صناعية، كما قال أبو الطيب في الخيل :
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها وأعضائها فالحسن عنك مغيب١
وإنما أحدث القرآن في الأمة العربية ما أحدث من الثورة الدينية والاجتماعية والانقلاب العالمي بالنوع الثاني من إدراك بلاغته لا الأول، وكل منها كامل من بابه، كما بينا ذلك في موضعه من عهد قريب، وإن كثرة البحث في الثاني ليشغل المفسر والمتدبر عن الأول الخاص منه بالهداية وإصلاح النفس وتزكيتها، ولهذا نقتصر منه في تفسيرنا على ما قصر فيه المفسرون باختصار لا يشغل عن الهداية المقصودة بالذات، وقد نجعله من باب الاستطراد بعد بيان معنى الآية أو الآيات، ولهذا جعلت ما أحببت بيانه في بلاغة هذه الآية الفنية علاوة من هذه العلاوات، وقد أطال العلماء الأخصائيون فيها حتى أفردها بعضهم بمصنفات خاصة، وتكلم صاحب [ الطراز في علوم الإعجاز ] عليها في ٢٥ صفحة، ولعله أحسنهم فيها كلاما، وإن كان السكاكي هو السابق إليه وكلهم فيه عيال عليه، وذكر بعض المفسرين جملا مختصرة أو وسطا منه أنقل منها هنا ما لخصه السيد الآلوسي في روح المعاني من كلام السكاكي وغيره بتصرف كعادته قال :
واعلم أن هذه الآية الكريمة قد بلغت من مراتب الإعجاز أقاصيها، واستدلت مصاقع العرب فسفعت بنواصيها، وجمعت من المحاسن ما يضيق عنه نطاق البيان، وكانت من سمهري البلاغة مكان السنان.
يروى أن كفار قريش قصدوا أن يعارضوا القرآن فعكفوا على لباب البر ولحوم الضأن وسلاف الخمر أربعين يوما لتصفوا أذهانهم، فلما أخذوا فيما قصدوه وسمعوا هذه الآية قال بعضهم لبعض : هذا الكلام لا يشبه كلام المخلوقين، فتركوا ما أخذوا فيه وتفرقوا. ويروى أيضا أن ابن المقفع وكان –كما في القاموس- فصيحا بليغا، بل قيل إنه أفصح أهل وقته- رام أن يعارض القرآن فنظم كلاما وجعله مفصلا وسماه سورا، فاجتاز يوما بصبي يقرؤها في مكتب فرجع ومحا ما عمل، وقال أشهد أن هذا لا يعارض أبدا وما هو من كلام البشر. ولا يخفى أن هذا لا يستدعي أن لا يكون سائر آيات القرآن العظيم معجزا لما أن حد الإعجاز هو المرتبة التي يعجز البشر عن الإتيان بمثلها ولا تدخل على قدرته قطعا وهي تشتمل على شيئين : الأول الطرف الأعلى من البلاغة أعني ما ينتهي إليه البلاغة ولا يتصور تجاوزها إياه، والثاني ما يقرب من ذلك الطرف أعني المراتب العلمية التي تتقاصر القوى البشرية عنها أيضا.
ومعنى إعجاز آيات الكتاب المجيد بأسرها هو كونها مما تتقاصر القوى البشرية عن الإتيان بمثلها سواء كانت من القسم الأول أو الثاني فلا يضر تفاوتها في البلاغة، وهو الذي قاله علماء هذا الشأن.
وقد فصل بعض مزايا هذه الآية المهرة المتقنون، وتركوا من ذلك ما لا يكاد يصفه الواصفون، ولا بأس بذكر شيء مما ذكر إفادة لجاهل، وتذكيرا لفاضل غافل، فنقول :
جهات بلاغة الآية الأربع : أولها جهة علم البيان
ذكر العلامة السكاكي أن النظر فيها من أربع جهات : من جهة علم البيان، ومن جهة علم المعاني وهما مرجعا البلاغة. ومن جهة الفصاحة المعنوية، ومن جهة الفصاحة اللفظية : أما النظر فيها من جهة علم البيان وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بذلك من القرينة والترشيح والتعريض، فهو أنه عز سلطانه لما أراد أن يبين معنى : أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد، وأن نقطع طوفان المساء فانقطع، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض، وأن نقضي أمر نوح عليه السلام وهو إنجاز ما كنا وعدناه من إغراق قومه فقضى، وأن نسوي السفينة على الجودي فاستوت، وأبقينا الظلمة غرقى – بنى سبحانه الكلام على تشبيه المراد منه بالمأمور الذي لا يتأتى منه –لكما هيبته من الآمر- العصيان، وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكون المقصود تصويرا لاقتداره سبحانه العظيم، وأن هذه الأجرام العظيمة من السماوات والأرض تابعة لإرادته تعالى إيجادا وإعداما، ولمشيئته فيها تغييرا وتبديلا، كأنها عقلاء مميزون قد عرفوه جل شأنه حق معرفته، وأحاطوا علما بوجوب الانقياد لأمره، والإذعان لحكمه، ويحتم بذل المجهود عليهم في تحصيل مراده، وتصوروا مزيد اقتداره، فعظمت مهابته في نفوسهم، وضربت سرادقها في أفنية ضمائرهم، فكما يلوح لهم إشارته سبحانه كان المشار إليه مقدما، وكما يرد عليهم أمره تعالى شأنه كان المأمور به متمما، لا تلقي لإشارته بغير الإمضاء والانقياد، ولا لأمره بغير الإذعان والامتثال.
" ثم بنى على مجموع التشبيهين نظم الكلام فقال جل وعلا قيل : على سبيل المجاز عن الإرادة من باب ذكر المسبب وإرادة السبب، لأن الإرادة تكون سببا لوقوع القول في الجملة، وجعل قرينة هذا المجاز خطاب الجماد وهو [ يا أرض- ويا سماء ] إذ يصح أن يراد حصول شيء متعلق بالجماد ولا يصح القول له. ثم قال سبحانه كما ترى [ يا أرض، ويا سماء ] مخاطبا لهما على سبيل الاستعارة للشبه المذكور، والظاهر أنه أراد أن هناك استعارة بالكناية حيث ذكر المشبه أعني السماء والأرض المراد منهما حصول أمر وأريد المشبه به أعني المأمور الموصوف بأنه لا يتأتى منه العصيان ادعاء بقرينة نسبة الخطاب إليه، ودخول حرف النداء عليه، وهما من خواص المأمور المطيع ويكون هذا تخييلا. وقد يقال : أراد أن الاستعارة ههنا تصريحية تبعية في حرف النداء بناء على تشبيه تعلق الإرادة بالمراد منه بتعلق النداء والخطاب بالمنادي المخاطب، وليس بشيء إذ لا يحسن هذا التشبيه ابتداء بل تبعا للتشبيه الأول فكيف يجعل أصلا لمتبوعه ؟ على أن قوله للشبه المذكور يدفع هذا الحمل.
ثم استعار لغئور الماء في الأرض [ البلع ] الذي هو إعمال الجاذبة في المطعوم للشبه بينهما وهو الذهاب إلى مقر خفي. وفي الكشاف : جعل البلع مستعارا لنشف الأرض الماء وهو أولى فإن النشف دال على جذب من إجزاء الأرض لما عليها كالبلع بالنسبة إلى الحيوان، ولأن النشف فعل الأرض والغثور فعل الماء مع الطباق بين الفعلين تعديا. ثم استعار الماء للغذاء استعارة بالكناية تشبيها له بالغذاء لتقوي الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار تقوي الآكل بالطعام وجعل قرينة الاستعارة لفظة [ ابلعي ] لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء.
ولا يخفى عليك أنه إذا اعتبر مذهب السلف في الاستعارة يكون [ ابلعي ] استعارة تصريحية ومع ذلك يكون بحسب اللفظ قرينة للاستعارة بالكناية في الماء على حد ما قالوا في ﴿ ينقضون عهد الله ﴾ وأما إذا اعتبر مذهبه فينبغي أن يكون البلع باقيا على حقيقته كالإنبات في : أنبت الربيع البقل. وهو بعيد، أو يجعل مستعارا لأمر متوهم كما في : نطقت الحال فيلزمه القول بالاستعارة التبعية كما هو المشهور.
ثم إنه تعالى أمر على سبيل الاستعارة للتشبيه الثاني وخاطب في الأمر تشريحا لاستعارة النداء، والحاصل أن في لفظ [ ابلعي ] باعتبار جوهرة استعارة لغئور الماء وباعتبار صورته أعني كونه صورة أمر استعارة أخرى لتكوين المراد، وباعتبار كونه أمر خطاب ترشيح للاستعارة المكنية التي في المنادى، فإن قرينتها النداء وما زاد على قرينة المكنية يكون ترشيحا لها. وأما جعل النداء استعارة تصريحية تبعية حتى يكون خطاب الآمر ترشيحا لها فقد عرفت ما فيه.
ثم قال جل وعلا [ ماءك ] بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز تشبيها لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالملك، واختار ضمير الخطاب لأجل التشريح وحاصله أن هناك مجازا لغويا في الهيئة الإضافية الدالة على الاختصاص الملكي، ولهذا جعل الخطاب ترشيحا لهذه الاستعارة من حيث إن الخطاب يدل على صلوح الأرض للمالكية، فما قيل إن المجاز عقلي والعبارة مصروفة عن الظاهر ليس بشيء.
ثم اختار لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان من المطر أو الفعل، ففي [ أقلعي ] استعارة باعتبار جوهره وكذا باعتبار صيغته أيضا وهي مبنية على تشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافد، والخطاب فيه أيضا ترشيح لاستعارة النداء، والحاصل أن الكلام فيه مثل ما مر في [ ابلعي ].
" ثم قال سبحا

﴿ قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ( ٢٨ ) ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون ( ٢٩ ) ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتم أفلا تذكرون ( ٣٠ ) ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينهم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين ( ٣١ ) ﴾
تضمنت هذه الآيات الأربع دحض تلك الشبهات الأربع التي ردوا بها عليه وشبهات أخرى من لوازمها، وربما صرحوا بها وأستغني عن حكايتها بالعلم بها من الرد عليها، وهو من دقائق إيجاز القرآن المعجز للبشر فتأمله.
﴿ قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ﴾ خاطبهم عليه السلام بلقب القوم مضافا إلى ضمير " يا قومي، وحذف الياء من الرسم مراعاة للنطق " استعطافا وإيذانا بأنه يدعوهم إلى ما هو خير لهم، وكلمة " أرأيتم " تستعمل عند العرب بمعنى أخبروني عن رأيكم فيما يأتي بعدها كما تقدم في سورة يونس [ ٥ و ٥٩ وغيرها ] والبينة ما يتبين به الحق وتقدم الكلام عليها آنفا في تفسير الآية ١٧.
أي أخبروني يا قومي الأعزاء ما رأيكم وقولكم في حالي معكم إن كنت على حجة ظاهرة من ربي فيما جئتكم به تبين لي بها أنه الحق من عنده لا من عندي وكسبي البشري الذي تشاركونني فيه وإنما هي فوق ذلك.
﴿ وآتاني رحمة من عنده ﴾ وهي النبوة وتعاليم الوحي التي هي سبب رحمة الله الخاصة لمن يهتدي بها فوق رحمته العامة لعباده كلهم. ﴿ فعميت عليكم ﴾ قرأ الجمهور عميت بالتخفيف كخفيت وزنا ومعنى، ومثلها ﴿ فعميت عليهم الأنباء ﴾[ القصص : ٦٦ ] وقرأها حمزة والكسائي وحفص بالتشديد والبناء للمفعول، أي فحجبها عنكم جهلكم وغروركم بمالكم وجاهكم فلم تستبينوا بها ما تدل عليه من التفرقة بيني وبينكم إذ جعلتموني بشرا مثلكم، والتعبير بعميت مخففة ومشددة أبلغ من التعبير بخفيف وأخفيت لأنه مأخوذ من العمى المقتضي لأشد أنواع الخفاء. ويجوز عود الضمير إلى البينة لاقتضاء خفائها خفاء الرحمة كما هو فإن الدليل مع المدلول، ويجوز عوده إلى الرحمة باعتبار ذكرها بعد البينة كأنه قال فخفيت عليكم رحمة الله لكم بهذه النبوة لخفاء البينة الدالة عليها، أو لأن البينة خاصة به عليه السلام وهو العلم الضروري الذي يعلم به النبي أنه نبي.
﴿ أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ﴾ أي أنلزمكم إياها بالجبر والإكراه والحال أنكم كارهون لها إنكارا، وجحودا واستكبارا ؟ أي لا نفعل ذلك فإن الإسلام لا يصح إلا بإيمان الإذعان، ﴿ وما على الرسول إلا البلاغ ﴾ [ النور : ٥٤ ]، وهو أول نص في دين الله تعالى يدل على أنه ما كان ولا يصح أن يكون بالإكراه، وأما ما فعله نصارى الإفرنج في سابق تاريخهم- وما لا يزال يفعله بعضهم في مستعمراتهم- من التنصير بإجبار الأقوام على النصرانية، فهو مما امتازوا به على أمم الشرق في ظلمهم وتعصبهم. وهذه الآية إثبات لنبوته عليه السلام ورد لإنكارهم لها وتكذيبه ومن معه فيها، وإبطال لشبهتهم الأولى في أنه بشر مثلهم، وهي مبنية على أن المساواة في البشرية تقتضي استواء أفراد الجنس، ويدفعها ما هو معلوم بالحس والخبر [ بالضم أي الاختبار ] من التفاوت العظيم بين أفراد البشر في العقل والفكر والرأي والأخلاق والأعمال بما هو أبعد من التفاوت بينهم وبين بعض الحيوان الأعجم، حتى أن واحدا منهم ليأتي من الإصلاح لقومه بالعلم والعمل ما يعجز عن مثله الألوف الكثيرون في القرون المتوالية، وكل هذا في محيط التفاوت العادي، والعلم والعمل الكسبي، وفوقهما ما اختص الله به من شاء من عباده بما لا كسب لهم فيه فجعلهم أنبياء ورسلا له كما بيناه بالتفصيل في مباحث الوحي المحمدي.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:علاوات لتفسير قصة نوح عليه السلام
العلاوة الأولى : البلاغة الفنية في الآية ٤٣
سبق لنا أن قلنا في الكلام على إعجاز القرآن ببلاغته ومذهب المتكلمين وأدباء الفنون في التحدي به : إن هذا النوع من الإعجاز يقل من يفقهه في هذا العصر لفقد أهله ملكتي البلاغة الذوقية السليقية والبيانية الفنية بله الجمع بينهما، وهو ضروري لإدراك هذا النوع من الإعجاز، وإن من يفقهه ويدرك عدم استطاعة أحد أن يأتي بسورة مثله قد يخفى عليه وجه دلالته على أنه لا بد أن يكون وحيا من الله تعالى وحجة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولذلك جزموا بوقوع العجز واختلفوا في وجه الدلالة، فمثلهم كمثل حداق الفنانين في الوشي والتطريز إذا رأوا صنع قدماء الهنود من أهل لاهور وكشمير وأقروا بالعجز عن محاكاته، والمصورين إذا رأوا أدق صور رفائيل في تصوير الإنسان بأدق مناظر أعضائه وشمائله وملامح صفاته النفسية وإمارات انفعالاته ولا سيما المتقاربة كالخوف والفزع والحزن والغم والغضب ونظر الإقرار ونظر الإنكار ونظر الشهوة ونظر العطف ونظر الرحمة ونظر الإعجاب والعجب ونظر المتفكر والمتحير، فقد يقرون بعجزهم عن محاكاتها ولكنهم لا يقولون بعدم إمكانها، بل يقولون بإمكانها وبقرب وقوعها بالفعل إذا وجدت الداعية القوية كمنفعة مالية كبيرة أو مصلحة قومية أو دولية عظيمة.
ومن المعلوم من تاريخ النبي صلى الله عليه وسلم مع فصحاء قريش وغيرهم أنه حدثت لهم أعظم الدواعي والمصالح المعارضة للقرآن بعد تحديثهم بسورة مثله مطلقا والتحدي بعشر سور في المكرر ولو مفترى، فأيقنوا بعجزهم عن الإتيان بها وبهن، ولو ظاهرهم عليه جميع الإنس عن كثرة بلغائهم وفصحائهم، والجن الذين يعتقدون أن منهم هواجس تلقنهم الشعر من حيث لا يرونهم، وكذا آلهتهم القادرون بخصائصهم الغيبية أو بمكانتهم عند الله تعالى على كل ما يريدون في هذا العالم بزعمهم، قد عجزوا مع هذا كله واضطروا إلى مقاومة النبي بالقتال، وما أعقبهم من خسارة المال، وسبي النساء والأطفال، ثم ما هو أشد عليهم وهو احتمال الذل والنكال، وروي أن كبراءهم زعموا على التعاون على المعارضة واستعدوا لها فسمعوا هذه الآية [ وقيل يا أرض ] فتضاءلت قواهم واستخذت أنفسهم ورجعوا عن عزمهم، كما يأتي قريبا.
عرف بلغاء قريش من بلاغة هذه الآية الروحية الكامنة في فصاحتها اللفظية الظاهرة وغيرها ما لم يعرفه بلغاء الفنون بعدهم منها، فكان هؤلاء أعلم بما للحسن والجمال الصوري في الكلام من المقاييس الفلسفية والموازين الفنية ودرجات الراجح على المرجوح. وكان أولئك أدق شعورا بما لهذا الحسن والجمال من السلطان على القلوب والحكم على العقول. مثال ذلك أن للجمال البدني في حسان النساء مقاييس وموازين لتناسب الأعضاء بعضها مع بعض يمكن ضبطها والعدل في الحكم بينها. وأما الجمال المعنوي وهو خفة الروح وسلطان التأثير في القلوب، فليس له مقياس، ولا ميزان عشري يضبط به وزنه أو مساحته فيعرف الراجح من المرجوح، وإنما يعرف هذا الجمال الأعلى بملكة نفسية، لا بأوزان صناعية، كما قال أبو الطيب في الخيل :
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها وأعضائها فالحسن عنك مغيب١
وإنما أحدث القرآن في الأمة العربية ما أحدث من الثورة الدينية والاجتماعية والانقلاب العالمي بالنوع الثاني من إدراك بلاغته لا الأول، وكل منها كامل من بابه، كما بينا ذلك في موضعه من عهد قريب، وإن كثرة البحث في الثاني ليشغل المفسر والمتدبر عن الأول الخاص منه بالهداية وإصلاح النفس وتزكيتها، ولهذا نقتصر منه في تفسيرنا على ما قصر فيه المفسرون باختصار لا يشغل عن الهداية المقصودة بالذات، وقد نجعله من باب الاستطراد بعد بيان معنى الآية أو الآيات، ولهذا جعلت ما أحببت بيانه في بلاغة هذه الآية الفنية علاوة من هذه العلاوات، وقد أطال العلماء الأخصائيون فيها حتى أفردها بعضهم بمصنفات خاصة، وتكلم صاحب [ الطراز في علوم الإعجاز ] عليها في ٢٥ صفحة، ولعله أحسنهم فيها كلاما، وإن كان السكاكي هو السابق إليه وكلهم فيه عيال عليه، وذكر بعض المفسرين جملا مختصرة أو وسطا منه أنقل منها هنا ما لخصه السيد الآلوسي في روح المعاني من كلام السكاكي وغيره بتصرف كعادته قال :
واعلم أن هذه الآية الكريمة قد بلغت من مراتب الإعجاز أقاصيها، واستدلت مصاقع العرب فسفعت بنواصيها، وجمعت من المحاسن ما يضيق عنه نطاق البيان، وكانت من سمهري البلاغة مكان السنان.
يروى أن كفار قريش قصدوا أن يعارضوا القرآن فعكفوا على لباب البر ولحوم الضأن وسلاف الخمر أربعين يوما لتصفوا أذهانهم، فلما أخذوا فيما قصدوه وسمعوا هذه الآية قال بعضهم لبعض : هذا الكلام لا يشبه كلام المخلوقين، فتركوا ما أخذوا فيه وتفرقوا. ويروى أيضا أن ابن المقفع وكان –كما في القاموس- فصيحا بليغا، بل قيل إنه أفصح أهل وقته- رام أن يعارض القرآن فنظم كلاما وجعله مفصلا وسماه سورا، فاجتاز يوما بصبي يقرؤها في مكتب فرجع ومحا ما عمل، وقال أشهد أن هذا لا يعارض أبدا وما هو من كلام البشر. ولا يخفى أن هذا لا يستدعي أن لا يكون سائر آيات القرآن العظيم معجزا لما أن حد الإعجاز هو المرتبة التي يعجز البشر عن الإتيان بمثلها ولا تدخل على قدرته قطعا وهي تشتمل على شيئين : الأول الطرف الأعلى من البلاغة أعني ما ينتهي إليه البلاغة ولا يتصور تجاوزها إياه، والثاني ما يقرب من ذلك الطرف أعني المراتب العلمية التي تتقاصر القوى البشرية عنها أيضا.
ومعنى إعجاز آيات الكتاب المجيد بأسرها هو كونها مما تتقاصر القوى البشرية عن الإتيان بمثلها سواء كانت من القسم الأول أو الثاني فلا يضر تفاوتها في البلاغة، وهو الذي قاله علماء هذا الشأن.
وقد فصل بعض مزايا هذه الآية المهرة المتقنون، وتركوا من ذلك ما لا يكاد يصفه الواصفون، ولا بأس بذكر شيء مما ذكر إفادة لجاهل، وتذكيرا لفاضل غافل، فنقول :
جهات بلاغة الآية الأربع : أولها جهة علم البيان
ذكر العلامة السكاكي أن النظر فيها من أربع جهات : من جهة علم البيان، ومن جهة علم المعاني وهما مرجعا البلاغة. ومن جهة الفصاحة المعنوية، ومن جهة الفصاحة اللفظية : أما النظر فيها من جهة علم البيان وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بذلك من القرينة والترشيح والتعريض، فهو أنه عز سلطانه لما أراد أن يبين معنى : أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد، وأن نقطع طوفان المساء فانقطع، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض، وأن نقضي أمر نوح عليه السلام وهو إنجاز ما كنا وعدناه من إغراق قومه فقضى، وأن نسوي السفينة على الجودي فاستوت، وأبقينا الظلمة غرقى – بنى سبحانه الكلام على تشبيه المراد منه بالمأمور الذي لا يتأتى منه –لكما هيبته من الآمر- العصيان، وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكون المقصود تصويرا لاقتداره سبحانه العظيم، وأن هذه الأجرام العظيمة من السماوات والأرض تابعة لإرادته تعالى إيجادا وإعداما، ولمشيئته فيها تغييرا وتبديلا، كأنها عقلاء مميزون قد عرفوه جل شأنه حق معرفته، وأحاطوا علما بوجوب الانقياد لأمره، والإذعان لحكمه، ويحتم بذل المجهود عليهم في تحصيل مراده، وتصوروا مزيد اقتداره، فعظمت مهابته في نفوسهم، وضربت سرادقها في أفنية ضمائرهم، فكما يلوح لهم إشارته سبحانه كان المشار إليه مقدما، وكما يرد عليهم أمره تعالى شأنه كان المأمور به متمما، لا تلقي لإشارته بغير الإمضاء والانقياد، ولا لأمره بغير الإذعان والامتثال.
" ثم بنى على مجموع التشبيهين نظم الكلام فقال جل وعلا قيل : على سبيل المجاز عن الإرادة من باب ذكر المسبب وإرادة السبب، لأن الإرادة تكون سببا لوقوع القول في الجملة، وجعل قرينة هذا المجاز خطاب الجماد وهو [ يا أرض- ويا سماء ] إذ يصح أن يراد حصول شيء متعلق بالجماد ولا يصح القول له. ثم قال سبحانه كما ترى [ يا أرض، ويا سماء ] مخاطبا لهما على سبيل الاستعارة للشبه المذكور، والظاهر أنه أراد أن هناك استعارة بالكناية حيث ذكر المشبه أعني السماء والأرض المراد منهما حصول أمر وأريد المشبه به أعني المأمور الموصوف بأنه لا يتأتى منه العصيان ادعاء بقرينة نسبة الخطاب إليه، ودخول حرف النداء عليه، وهما من خواص المأمور المطيع ويكون هذا تخييلا. وقد يقال : أراد أن الاستعارة ههنا تصريحية تبعية في حرف النداء بناء على تشبيه تعلق الإرادة بالمراد منه بتعلق النداء والخطاب بالمنادي المخاطب، وليس بشيء إذ لا يحسن هذا التشبيه ابتداء بل تبعا للتشبيه الأول فكيف يجعل أصلا لمتبوعه ؟ على أن قوله للشبه المذكور يدفع هذا الحمل.
ثم استعار لغئور الماء في الأرض [ البلع ] الذي هو إعمال الجاذبة في المطعوم للشبه بينهما وهو الذهاب إلى مقر خفي. وفي الكشاف : جعل البلع مستعارا لنشف الأرض الماء وهو أولى فإن النشف دال على جذب من إجزاء الأرض لما عليها كالبلع بالنسبة إلى الحيوان، ولأن النشف فعل الأرض والغثور فعل الماء مع الطباق بين الفعلين تعديا. ثم استعار الماء للغذاء استعارة بالكناية تشبيها له بالغذاء لتقوي الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار تقوي الآكل بالطعام وجعل قرينة الاستعارة لفظة [ ابلعي ] لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء.
ولا يخفى عليك أنه إذا اعتبر مذهب السلف في الاستعارة يكون [ ابلعي ] استعارة تصريحية ومع ذلك يكون بحسب اللفظ قرينة للاستعارة بالكناية في الماء على حد ما قالوا في ﴿ ينقضون عهد الله ﴾ وأما إذا اعتبر مذهبه فينبغي أن يكون البلع باقيا على حقيقته كالإنبات في : أنبت الربيع البقل. وهو بعيد، أو يجعل مستعارا لأمر متوهم كما في : نطقت الحال فيلزمه القول بالاستعارة التبعية كما هو المشهور.
ثم إنه تعالى أمر على سبيل الاستعارة للتشبيه الثاني وخاطب في الأمر تشريحا لاستعارة النداء، والحاصل أن في لفظ [ ابلعي ] باعتبار جوهرة استعارة لغئور الماء وباعتبار صورته أعني كونه صورة أمر استعارة أخرى لتكوين المراد، وباعتبار كونه أمر خطاب ترشيح للاستعارة المكنية التي في المنادى، فإن قرينتها النداء وما زاد على قرينة المكنية يكون ترشيحا لها. وأما جعل النداء استعارة تصريحية تبعية حتى يكون خطاب الآمر ترشيحا لها فقد عرفت ما فيه.
ثم قال جل وعلا [ ماءك ] بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز تشبيها لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالملك، واختار ضمير الخطاب لأجل التشريح وحاصله أن هناك مجازا لغويا في الهيئة الإضافية الدالة على الاختصاص الملكي، ولهذا جعل الخطاب ترشيحا لهذه الاستعارة من حيث إن الخطاب يدل على صلوح الأرض للمالكية، فما قيل إن المجاز عقلي والعبارة مصروفة عن الظاهر ليس بشيء.
ثم اختار لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان من المطر أو الفعل، ففي [ أقلعي ] استعارة باعتبار جوهره وكذا باعتبار صيغته أيضا وهي مبنية على تشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافد، والخطاب فيه أيضا ترشيح لاستعارة النداء، والحاصل أن الكلام فيه مثل ما مر في [ ابلعي ].
" ثم قال سبحا

﴿ قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ( ٢٨ ) ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون ( ٢٩ ) ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتم أفلا تذكرون ( ٣٠ ) ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينهم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين ( ٣١ ) ﴾
تضمنت هذه الآيات الأربع دحض تلك الشبهات الأربع التي ردوا بها عليه وشبهات أخرى من لوازمها، وربما صرحوا بها وأستغني عن حكايتها بالعلم بها من الرد عليها، وهو من دقائق إيجاز القرآن المعجز للبشر فتأمله.
﴿ ويا قوم لا أسألكم عليه مالا ﴾ أعاد نداءهم بقوله :" يا قوم " استعطافا وتكريرا للتذكير بأنه إنما يدعوهم لخيرهم ومصلحتهم، وصرح لهم بأنه لا يسألهم على ما دعاهم إليه مالا، فيكون متهما فيه عندهم لمكانة حب المال من أنفسهم، واعتزازهم به عليه وعلى الفقراء من أتباعه. والمال ما يملك ويقتني من نقد وماشية وغيرها، وعبر في سورة الشعراء بالأجر ويدل عليه هنا ﴿ إن أجري إلا على الله ﴾ أي ما أجري على تبليغه والقيام بأعبائه إلا على الله الذي أرسلني به، وكل رسول بعده أمر أن يبلغ قومه هذا، كما تراه في سورة الشعراء محكيا عن نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وتكرر مثله بأمره تعالى عن محمد رسول الله وخاتم النبيين، وما اتصل به من الاستثناء في قوله ﴿ قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ﴾ [ الشورى : ٢٣ ] فهو –أي الاستثناء- منفصل معناه لكن أسألكم مودة أولي القربى لكم، وصلة الأرحام التي تبالغون فيها وتقاتلون لأجلها. فهذه الجملة دفع لشبهة أخرى على نبوة نوح كغيره لا بد أن تكون حاكت في صدور قومه وقد يكون بعضهم تكلم بها.
﴿ وما أنا بطارد الذين آمنوا ﴾ أي وليس من شأني لا بالذي يقع مني طرد الذين آمنوا من قربي وجواري لاحتقاركم لهم، ووصفكم إياهم بالأراذل جهلا منكم، فهذا رد على الشبهة الثانية في كلامهم بنفي لازمه وهو الطرد، وقد يكونون صرحوا بذكر هذا اللازم، وهذه سنة أكابر مجرمي الكفار من جميع أقوام المرسلين، بيّنها هنا وفي سورة الشعراء في قوم نوح أولهم، وتكرر معناها في قوم خاتمهم، ومنه في ذكر الطرد قوله تعالى في سورة الأنعام :﴿ ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ﴾ [ الأنعام : ٥٢ ] الآية. وفي معناها قصة الأعمى في سورته.
﴿ إنهم ملاقوا ربهم ﴾ هذا تعليل مستأنف لنفي الطرد معناه أنه يلاقون ربهم يوم القيامة فهو يتولى حسابهم وجزاءهم، وليس على الرسول من هذا شيء، إن عليه إلا البلاغ، فليس يضركم ما هم عليه والله به وبهم ﴿ ولكني أراكم قوما تجهلون ﴾ أي تسفهون عليهم، من الجهالة المضادة للعقل والحلم، أو تجهلون ما يمتاز به البشر بعضهم على بعض من إتباع الحق والتحلي بالفضائل، وعمل البر والخير، وتظنون أن الامتياز إنما يكون بالمال المطغي، والجاه بالباطل المردي، وفي قصته من سورة الشعراء ﴿ قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون قال وما علمي بما كانوا يعملون إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون وما أنا بطارد المؤمنين إن أنا إلا نذير مبين ﴾ [ الشعراء : ١١٠-١١٥ ] وفي معنى ما هنا من أن حسابهم على الله تتمة الآية [ ٦ : ١٥٢ ] المشار إليها آنفا، وهو بمعنى قوله تعالى :﴿ ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم ﴾
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:علاوات لتفسير قصة نوح عليه السلام
العلاوة الأولى : البلاغة الفنية في الآية ٤٣
سبق لنا أن قلنا في الكلام على إعجاز القرآن ببلاغته ومذهب المتكلمين وأدباء الفنون في التحدي به : إن هذا النوع من الإعجاز يقل من يفقهه في هذا العصر لفقد أهله ملكتي البلاغة الذوقية السليقية والبيانية الفنية بله الجمع بينهما، وهو ضروري لإدراك هذا النوع من الإعجاز، وإن من يفقهه ويدرك عدم استطاعة أحد أن يأتي بسورة مثله قد يخفى عليه وجه دلالته على أنه لا بد أن يكون وحيا من الله تعالى وحجة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولذلك جزموا بوقوع العجز واختلفوا في وجه الدلالة، فمثلهم كمثل حداق الفنانين في الوشي والتطريز إذا رأوا صنع قدماء الهنود من أهل لاهور وكشمير وأقروا بالعجز عن محاكاته، والمصورين إذا رأوا أدق صور رفائيل في تصوير الإنسان بأدق مناظر أعضائه وشمائله وملامح صفاته النفسية وإمارات انفعالاته ولا سيما المتقاربة كالخوف والفزع والحزن والغم والغضب ونظر الإقرار ونظر الإنكار ونظر الشهوة ونظر العطف ونظر الرحمة ونظر الإعجاب والعجب ونظر المتفكر والمتحير، فقد يقرون بعجزهم عن محاكاتها ولكنهم لا يقولون بعدم إمكانها، بل يقولون بإمكانها وبقرب وقوعها بالفعل إذا وجدت الداعية القوية كمنفعة مالية كبيرة أو مصلحة قومية أو دولية عظيمة.
ومن المعلوم من تاريخ النبي صلى الله عليه وسلم مع فصحاء قريش وغيرهم أنه حدثت لهم أعظم الدواعي والمصالح المعارضة للقرآن بعد تحديثهم بسورة مثله مطلقا والتحدي بعشر سور في المكرر ولو مفترى، فأيقنوا بعجزهم عن الإتيان بها وبهن، ولو ظاهرهم عليه جميع الإنس عن كثرة بلغائهم وفصحائهم، والجن الذين يعتقدون أن منهم هواجس تلقنهم الشعر من حيث لا يرونهم، وكذا آلهتهم القادرون بخصائصهم الغيبية أو بمكانتهم عند الله تعالى على كل ما يريدون في هذا العالم بزعمهم، قد عجزوا مع هذا كله واضطروا إلى مقاومة النبي بالقتال، وما أعقبهم من خسارة المال، وسبي النساء والأطفال، ثم ما هو أشد عليهم وهو احتمال الذل والنكال، وروي أن كبراءهم زعموا على التعاون على المعارضة واستعدوا لها فسمعوا هذه الآية [ وقيل يا أرض ] فتضاءلت قواهم واستخذت أنفسهم ورجعوا عن عزمهم، كما يأتي قريبا.
عرف بلغاء قريش من بلاغة هذه الآية الروحية الكامنة في فصاحتها اللفظية الظاهرة وغيرها ما لم يعرفه بلغاء الفنون بعدهم منها، فكان هؤلاء أعلم بما للحسن والجمال الصوري في الكلام من المقاييس الفلسفية والموازين الفنية ودرجات الراجح على المرجوح. وكان أولئك أدق شعورا بما لهذا الحسن والجمال من السلطان على القلوب والحكم على العقول. مثال ذلك أن للجمال البدني في حسان النساء مقاييس وموازين لتناسب الأعضاء بعضها مع بعض يمكن ضبطها والعدل في الحكم بينها. وأما الجمال المعنوي وهو خفة الروح وسلطان التأثير في القلوب، فليس له مقياس، ولا ميزان عشري يضبط به وزنه أو مساحته فيعرف الراجح من المرجوح، وإنما يعرف هذا الجمال الأعلى بملكة نفسية، لا بأوزان صناعية، كما قال أبو الطيب في الخيل :
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها وأعضائها فالحسن عنك مغيب١
وإنما أحدث القرآن في الأمة العربية ما أحدث من الثورة الدينية والاجتماعية والانقلاب العالمي بالنوع الثاني من إدراك بلاغته لا الأول، وكل منها كامل من بابه، كما بينا ذلك في موضعه من عهد قريب، وإن كثرة البحث في الثاني ليشغل المفسر والمتدبر عن الأول الخاص منه بالهداية وإصلاح النفس وتزكيتها، ولهذا نقتصر منه في تفسيرنا على ما قصر فيه المفسرون باختصار لا يشغل عن الهداية المقصودة بالذات، وقد نجعله من باب الاستطراد بعد بيان معنى الآية أو الآيات، ولهذا جعلت ما أحببت بيانه في بلاغة هذه الآية الفنية علاوة من هذه العلاوات، وقد أطال العلماء الأخصائيون فيها حتى أفردها بعضهم بمصنفات خاصة، وتكلم صاحب [ الطراز في علوم الإعجاز ] عليها في ٢٥ صفحة، ولعله أحسنهم فيها كلاما، وإن كان السكاكي هو السابق إليه وكلهم فيه عيال عليه، وذكر بعض المفسرين جملا مختصرة أو وسطا منه أنقل منها هنا ما لخصه السيد الآلوسي في روح المعاني من كلام السكاكي وغيره بتصرف كعادته قال :
واعلم أن هذه الآية الكريمة قد بلغت من مراتب الإعجاز أقاصيها، واستدلت مصاقع العرب فسفعت بنواصيها، وجمعت من المحاسن ما يضيق عنه نطاق البيان، وكانت من سمهري البلاغة مكان السنان.
يروى أن كفار قريش قصدوا أن يعارضوا القرآن فعكفوا على لباب البر ولحوم الضأن وسلاف الخمر أربعين يوما لتصفوا أذهانهم، فلما أخذوا فيما قصدوه وسمعوا هذه الآية قال بعضهم لبعض : هذا الكلام لا يشبه كلام المخلوقين، فتركوا ما أخذوا فيه وتفرقوا. ويروى أيضا أن ابن المقفع وكان –كما في القاموس- فصيحا بليغا، بل قيل إنه أفصح أهل وقته- رام أن يعارض القرآن فنظم كلاما وجعله مفصلا وسماه سورا، فاجتاز يوما بصبي يقرؤها في مكتب فرجع ومحا ما عمل، وقال أشهد أن هذا لا يعارض أبدا وما هو من كلام البشر. ولا يخفى أن هذا لا يستدعي أن لا يكون سائر آيات القرآن العظيم معجزا لما أن حد الإعجاز هو المرتبة التي يعجز البشر عن الإتيان بمثلها ولا تدخل على قدرته قطعا وهي تشتمل على شيئين : الأول الطرف الأعلى من البلاغة أعني ما ينتهي إليه البلاغة ولا يتصور تجاوزها إياه، والثاني ما يقرب من ذلك الطرف أعني المراتب العلمية التي تتقاصر القوى البشرية عنها أيضا.
ومعنى إعجاز آيات الكتاب المجيد بأسرها هو كونها مما تتقاصر القوى البشرية عن الإتيان بمثلها سواء كانت من القسم الأول أو الثاني فلا يضر تفاوتها في البلاغة، وهو الذي قاله علماء هذا الشأن.
وقد فصل بعض مزايا هذه الآية المهرة المتقنون، وتركوا من ذلك ما لا يكاد يصفه الواصفون، ولا بأس بذكر شيء مما ذكر إفادة لجاهل، وتذكيرا لفاضل غافل، فنقول :
جهات بلاغة الآية الأربع : أولها جهة علم البيان
ذكر العلامة السكاكي أن النظر فيها من أربع جهات : من جهة علم البيان، ومن جهة علم المعاني وهما مرجعا البلاغة. ومن جهة الفصاحة المعنوية، ومن جهة الفصاحة اللفظية : أما النظر فيها من جهة علم البيان وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بذلك من القرينة والترشيح والتعريض، فهو أنه عز سلطانه لما أراد أن يبين معنى : أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد، وأن نقطع طوفان المساء فانقطع، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض، وأن نقضي أمر نوح عليه السلام وهو إنجاز ما كنا وعدناه من إغراق قومه فقضى، وأن نسوي السفينة على الجودي فاستوت، وأبقينا الظلمة غرقى – بنى سبحانه الكلام على تشبيه المراد منه بالمأمور الذي لا يتأتى منه –لكما هيبته من الآمر- العصيان، وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكون المقصود تصويرا لاقتداره سبحانه العظيم، وأن هذه الأجرام العظيمة من السماوات والأرض تابعة لإرادته تعالى إيجادا وإعداما، ولمشيئته فيها تغييرا وتبديلا، كأنها عقلاء مميزون قد عرفوه جل شأنه حق معرفته، وأحاطوا علما بوجوب الانقياد لأمره، والإذعان لحكمه، ويحتم بذل المجهود عليهم في تحصيل مراده، وتصوروا مزيد اقتداره، فعظمت مهابته في نفوسهم، وضربت سرادقها في أفنية ضمائرهم، فكما يلوح لهم إشارته سبحانه كان المشار إليه مقدما، وكما يرد عليهم أمره تعالى شأنه كان المأمور به متمما، لا تلقي لإشارته بغير الإمضاء والانقياد، ولا لأمره بغير الإذعان والامتثال.
" ثم بنى على مجموع التشبيهين نظم الكلام فقال جل وعلا قيل : على سبيل المجاز عن الإرادة من باب ذكر المسبب وإرادة السبب، لأن الإرادة تكون سببا لوقوع القول في الجملة، وجعل قرينة هذا المجاز خطاب الجماد وهو [ يا أرض- ويا سماء ] إذ يصح أن يراد حصول شيء متعلق بالجماد ولا يصح القول له. ثم قال سبحانه كما ترى [ يا أرض، ويا سماء ] مخاطبا لهما على سبيل الاستعارة للشبه المذكور، والظاهر أنه أراد أن هناك استعارة بالكناية حيث ذكر المشبه أعني السماء والأرض المراد منهما حصول أمر وأريد المشبه به أعني المأمور الموصوف بأنه لا يتأتى منه العصيان ادعاء بقرينة نسبة الخطاب إليه، ودخول حرف النداء عليه، وهما من خواص المأمور المطيع ويكون هذا تخييلا. وقد يقال : أراد أن الاستعارة ههنا تصريحية تبعية في حرف النداء بناء على تشبيه تعلق الإرادة بالمراد منه بتعلق النداء والخطاب بالمنادي المخاطب، وليس بشيء إذ لا يحسن هذا التشبيه ابتداء بل تبعا للتشبيه الأول فكيف يجعل أصلا لمتبوعه ؟ على أن قوله للشبه المذكور يدفع هذا الحمل.
ثم استعار لغئور الماء في الأرض [ البلع ] الذي هو إعمال الجاذبة في المطعوم للشبه بينهما وهو الذهاب إلى مقر خفي. وفي الكشاف : جعل البلع مستعارا لنشف الأرض الماء وهو أولى فإن النشف دال على جذب من إجزاء الأرض لما عليها كالبلع بالنسبة إلى الحيوان، ولأن النشف فعل الأرض والغثور فعل الماء مع الطباق بين الفعلين تعديا. ثم استعار الماء للغذاء استعارة بالكناية تشبيها له بالغذاء لتقوي الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار تقوي الآكل بالطعام وجعل قرينة الاستعارة لفظة [ ابلعي ] لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء.
ولا يخفى عليك أنه إذا اعتبر مذهب السلف في الاستعارة يكون [ ابلعي ] استعارة تصريحية ومع ذلك يكون بحسب اللفظ قرينة للاستعارة بالكناية في الماء على حد ما قالوا في ﴿ ينقضون عهد الله ﴾ وأما إذا اعتبر مذهبه فينبغي أن يكون البلع باقيا على حقيقته كالإنبات في : أنبت الربيع البقل. وهو بعيد، أو يجعل مستعارا لأمر متوهم كما في : نطقت الحال فيلزمه القول بالاستعارة التبعية كما هو المشهور.
ثم إنه تعالى أمر على سبيل الاستعارة للتشبيه الثاني وخاطب في الأمر تشريحا لاستعارة النداء، والحاصل أن في لفظ [ ابلعي ] باعتبار جوهرة استعارة لغئور الماء وباعتبار صورته أعني كونه صورة أمر استعارة أخرى لتكوين المراد، وباعتبار كونه أمر خطاب ترشيح للاستعارة المكنية التي في المنادى، فإن قرينتها النداء وما زاد على قرينة المكنية يكون ترشيحا لها. وأما جعل النداء استعارة تصريحية تبعية حتى يكون خطاب الآمر ترشيحا لها فقد عرفت ما فيه.
ثم قال جل وعلا [ ماءك ] بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز تشبيها لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالملك، واختار ضمير الخطاب لأجل التشريح وحاصله أن هناك مجازا لغويا في الهيئة الإضافية الدالة على الاختصاص الملكي، ولهذا جعل الخطاب ترشيحا لهذه الاستعارة من حيث إن الخطاب يدل على صلوح الأرض للمالكية، فما قيل إن المجاز عقلي والعبارة مصروفة عن الظاهر ليس بشيء.
ثم اختار لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان من المطر أو الفعل، ففي [ أقلعي ] استعارة باعتبار جوهره وكذا باعتبار صيغته أيضا وهي مبنية على تشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافد، والخطاب فيه أيضا ترشيح لاستعارة النداء، والحاصل أن الكلام فيه مثل ما مر في [ ابلعي ].
" ثم قال سبحا

﴿ قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ( ٢٨ ) ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون ( ٢٩ ) ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتم أفلا تذكرون ( ٣٠ ) ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينهم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين ( ٣١ ) ﴾
تضمنت هذه الآيات الأربع دحض تلك الشبهات الأربع التي ردوا بها عليه وشبهات أخرى من لوازمها، وربما صرحوا بها وأستغني عن حكايتها بالعلم بها من الرد عليها، وهو من دقائق إيجاز القرآن المعجز للبشر فتأمله.
﴿ ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم ﴾ كرر هذا النداء لما سبق بيانه آنفا، والاستفهام بعده إنكاري، أي لا يوجد أحد ينصرني من الله بأن يمنع عني ما أستحقه من عقابه إن طردتم بعد إيمانهم لي وإتباعهم إياي فيما بلغتهم عنه، وهو ظلم عظيم يقتضي العقاب الشديد بعدل الله تعالى مهما تكن صفة من اقترفه، كما يصرح به في الآية التالية وكما قال في آخر آية الأنعام ﴿ فتطردهم فتكون من الظالمين ﴾ [ الأنعام : ٥٢ ] ﴿ أفلا تذكرون ﴾ أصله تتذكرون حذفت إحدى التائين منه للتخفيف وهو قياس، ويقدر بعد همزة الاستفهام فعل عطفت عليه الجملة، أي أتصرون على جهلكم، أو أتأمروني أن أطردهم فلا تتذكرون أن لهم ربا ينصرهم وينتقم لهم ؟
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:علاوات لتفسير قصة نوح عليه السلام
العلاوة الأولى : البلاغة الفنية في الآية ٤٣
سبق لنا أن قلنا في الكلام على إعجاز القرآن ببلاغته ومذهب المتكلمين وأدباء الفنون في التحدي به : إن هذا النوع من الإعجاز يقل من يفقهه في هذا العصر لفقد أهله ملكتي البلاغة الذوقية السليقية والبيانية الفنية بله الجمع بينهما، وهو ضروري لإدراك هذا النوع من الإعجاز، وإن من يفقهه ويدرك عدم استطاعة أحد أن يأتي بسورة مثله قد يخفى عليه وجه دلالته على أنه لا بد أن يكون وحيا من الله تعالى وحجة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولذلك جزموا بوقوع العجز واختلفوا في وجه الدلالة، فمثلهم كمثل حداق الفنانين في الوشي والتطريز إذا رأوا صنع قدماء الهنود من أهل لاهور وكشمير وأقروا بالعجز عن محاكاته، والمصورين إذا رأوا أدق صور رفائيل في تصوير الإنسان بأدق مناظر أعضائه وشمائله وملامح صفاته النفسية وإمارات انفعالاته ولا سيما المتقاربة كالخوف والفزع والحزن والغم والغضب ونظر الإقرار ونظر الإنكار ونظر الشهوة ونظر العطف ونظر الرحمة ونظر الإعجاب والعجب ونظر المتفكر والمتحير، فقد يقرون بعجزهم عن محاكاتها ولكنهم لا يقولون بعدم إمكانها، بل يقولون بإمكانها وبقرب وقوعها بالفعل إذا وجدت الداعية القوية كمنفعة مالية كبيرة أو مصلحة قومية أو دولية عظيمة.
ومن المعلوم من تاريخ النبي صلى الله عليه وسلم مع فصحاء قريش وغيرهم أنه حدثت لهم أعظم الدواعي والمصالح المعارضة للقرآن بعد تحديثهم بسورة مثله مطلقا والتحدي بعشر سور في المكرر ولو مفترى، فأيقنوا بعجزهم عن الإتيان بها وبهن، ولو ظاهرهم عليه جميع الإنس عن كثرة بلغائهم وفصحائهم، والجن الذين يعتقدون أن منهم هواجس تلقنهم الشعر من حيث لا يرونهم، وكذا آلهتهم القادرون بخصائصهم الغيبية أو بمكانتهم عند الله تعالى على كل ما يريدون في هذا العالم بزعمهم، قد عجزوا مع هذا كله واضطروا إلى مقاومة النبي بالقتال، وما أعقبهم من خسارة المال، وسبي النساء والأطفال، ثم ما هو أشد عليهم وهو احتمال الذل والنكال، وروي أن كبراءهم زعموا على التعاون على المعارضة واستعدوا لها فسمعوا هذه الآية [ وقيل يا أرض ] فتضاءلت قواهم واستخذت أنفسهم ورجعوا عن عزمهم، كما يأتي قريبا.
عرف بلغاء قريش من بلاغة هذه الآية الروحية الكامنة في فصاحتها اللفظية الظاهرة وغيرها ما لم يعرفه بلغاء الفنون بعدهم منها، فكان هؤلاء أعلم بما للحسن والجمال الصوري في الكلام من المقاييس الفلسفية والموازين الفنية ودرجات الراجح على المرجوح. وكان أولئك أدق شعورا بما لهذا الحسن والجمال من السلطان على القلوب والحكم على العقول. مثال ذلك أن للجمال البدني في حسان النساء مقاييس وموازين لتناسب الأعضاء بعضها مع بعض يمكن ضبطها والعدل في الحكم بينها. وأما الجمال المعنوي وهو خفة الروح وسلطان التأثير في القلوب، فليس له مقياس، ولا ميزان عشري يضبط به وزنه أو مساحته فيعرف الراجح من المرجوح، وإنما يعرف هذا الجمال الأعلى بملكة نفسية، لا بأوزان صناعية، كما قال أبو الطيب في الخيل :
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها وأعضائها فالحسن عنك مغيب١
وإنما أحدث القرآن في الأمة العربية ما أحدث من الثورة الدينية والاجتماعية والانقلاب العالمي بالنوع الثاني من إدراك بلاغته لا الأول، وكل منها كامل من بابه، كما بينا ذلك في موضعه من عهد قريب، وإن كثرة البحث في الثاني ليشغل المفسر والمتدبر عن الأول الخاص منه بالهداية وإصلاح النفس وتزكيتها، ولهذا نقتصر منه في تفسيرنا على ما قصر فيه المفسرون باختصار لا يشغل عن الهداية المقصودة بالذات، وقد نجعله من باب الاستطراد بعد بيان معنى الآية أو الآيات، ولهذا جعلت ما أحببت بيانه في بلاغة هذه الآية الفنية علاوة من هذه العلاوات، وقد أطال العلماء الأخصائيون فيها حتى أفردها بعضهم بمصنفات خاصة، وتكلم صاحب [ الطراز في علوم الإعجاز ] عليها في ٢٥ صفحة، ولعله أحسنهم فيها كلاما، وإن كان السكاكي هو السابق إليه وكلهم فيه عيال عليه، وذكر بعض المفسرين جملا مختصرة أو وسطا منه أنقل منها هنا ما لخصه السيد الآلوسي في روح المعاني من كلام السكاكي وغيره بتصرف كعادته قال :
واعلم أن هذه الآية الكريمة قد بلغت من مراتب الإعجاز أقاصيها، واستدلت مصاقع العرب فسفعت بنواصيها، وجمعت من المحاسن ما يضيق عنه نطاق البيان، وكانت من سمهري البلاغة مكان السنان.
يروى أن كفار قريش قصدوا أن يعارضوا القرآن فعكفوا على لباب البر ولحوم الضأن وسلاف الخمر أربعين يوما لتصفوا أذهانهم، فلما أخذوا فيما قصدوه وسمعوا هذه الآية قال بعضهم لبعض : هذا الكلام لا يشبه كلام المخلوقين، فتركوا ما أخذوا فيه وتفرقوا. ويروى أيضا أن ابن المقفع وكان –كما في القاموس- فصيحا بليغا، بل قيل إنه أفصح أهل وقته- رام أن يعارض القرآن فنظم كلاما وجعله مفصلا وسماه سورا، فاجتاز يوما بصبي يقرؤها في مكتب فرجع ومحا ما عمل، وقال أشهد أن هذا لا يعارض أبدا وما هو من كلام البشر. ولا يخفى أن هذا لا يستدعي أن لا يكون سائر آيات القرآن العظيم معجزا لما أن حد الإعجاز هو المرتبة التي يعجز البشر عن الإتيان بمثلها ولا تدخل على قدرته قطعا وهي تشتمل على شيئين : الأول الطرف الأعلى من البلاغة أعني ما ينتهي إليه البلاغة ولا يتصور تجاوزها إياه، والثاني ما يقرب من ذلك الطرف أعني المراتب العلمية التي تتقاصر القوى البشرية عنها أيضا.
ومعنى إعجاز آيات الكتاب المجيد بأسرها هو كونها مما تتقاصر القوى البشرية عن الإتيان بمثلها سواء كانت من القسم الأول أو الثاني فلا يضر تفاوتها في البلاغة، وهو الذي قاله علماء هذا الشأن.
وقد فصل بعض مزايا هذه الآية المهرة المتقنون، وتركوا من ذلك ما لا يكاد يصفه الواصفون، ولا بأس بذكر شيء مما ذكر إفادة لجاهل، وتذكيرا لفاضل غافل، فنقول :
جهات بلاغة الآية الأربع : أولها جهة علم البيان
ذكر العلامة السكاكي أن النظر فيها من أربع جهات : من جهة علم البيان، ومن جهة علم المعاني وهما مرجعا البلاغة. ومن جهة الفصاحة المعنوية، ومن جهة الفصاحة اللفظية : أما النظر فيها من جهة علم البيان وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بذلك من القرينة والترشيح والتعريض، فهو أنه عز سلطانه لما أراد أن يبين معنى : أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد، وأن نقطع طوفان المساء فانقطع، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض، وأن نقضي أمر نوح عليه السلام وهو إنجاز ما كنا وعدناه من إغراق قومه فقضى، وأن نسوي السفينة على الجودي فاستوت، وأبقينا الظلمة غرقى – بنى سبحانه الكلام على تشبيه المراد منه بالمأمور الذي لا يتأتى منه –لكما هيبته من الآمر- العصيان، وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكون المقصود تصويرا لاقتداره سبحانه العظيم، وأن هذه الأجرام العظيمة من السماوات والأرض تابعة لإرادته تعالى إيجادا وإعداما، ولمشيئته فيها تغييرا وتبديلا، كأنها عقلاء مميزون قد عرفوه جل شأنه حق معرفته، وأحاطوا علما بوجوب الانقياد لأمره، والإذعان لحكمه، ويحتم بذل المجهود عليهم في تحصيل مراده، وتصوروا مزيد اقتداره، فعظمت مهابته في نفوسهم، وضربت سرادقها في أفنية ضمائرهم، فكما يلوح لهم إشارته سبحانه كان المشار إليه مقدما، وكما يرد عليهم أمره تعالى شأنه كان المأمور به متمما، لا تلقي لإشارته بغير الإمضاء والانقياد، ولا لأمره بغير الإذعان والامتثال.
" ثم بنى على مجموع التشبيهين نظم الكلام فقال جل وعلا قيل : على سبيل المجاز عن الإرادة من باب ذكر المسبب وإرادة السبب، لأن الإرادة تكون سببا لوقوع القول في الجملة، وجعل قرينة هذا المجاز خطاب الجماد وهو [ يا أرض- ويا سماء ] إذ يصح أن يراد حصول شيء متعلق بالجماد ولا يصح القول له. ثم قال سبحانه كما ترى [ يا أرض، ويا سماء ] مخاطبا لهما على سبيل الاستعارة للشبه المذكور، والظاهر أنه أراد أن هناك استعارة بالكناية حيث ذكر المشبه أعني السماء والأرض المراد منهما حصول أمر وأريد المشبه به أعني المأمور الموصوف بأنه لا يتأتى منه العصيان ادعاء بقرينة نسبة الخطاب إليه، ودخول حرف النداء عليه، وهما من خواص المأمور المطيع ويكون هذا تخييلا. وقد يقال : أراد أن الاستعارة ههنا تصريحية تبعية في حرف النداء بناء على تشبيه تعلق الإرادة بالمراد منه بتعلق النداء والخطاب بالمنادي المخاطب، وليس بشيء إذ لا يحسن هذا التشبيه ابتداء بل تبعا للتشبيه الأول فكيف يجعل أصلا لمتبوعه ؟ على أن قوله للشبه المذكور يدفع هذا الحمل.
ثم استعار لغئور الماء في الأرض [ البلع ] الذي هو إعمال الجاذبة في المطعوم للشبه بينهما وهو الذهاب إلى مقر خفي. وفي الكشاف : جعل البلع مستعارا لنشف الأرض الماء وهو أولى فإن النشف دال على جذب من إجزاء الأرض لما عليها كالبلع بالنسبة إلى الحيوان، ولأن النشف فعل الأرض والغثور فعل الماء مع الطباق بين الفعلين تعديا. ثم استعار الماء للغذاء استعارة بالكناية تشبيها له بالغذاء لتقوي الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار تقوي الآكل بالطعام وجعل قرينة الاستعارة لفظة [ ابلعي ] لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء.
ولا يخفى عليك أنه إذا اعتبر مذهب السلف في الاستعارة يكون [ ابلعي ] استعارة تصريحية ومع ذلك يكون بحسب اللفظ قرينة للاستعارة بالكناية في الماء على حد ما قالوا في ﴿ ينقضون عهد الله ﴾ وأما إذا اعتبر مذهبه فينبغي أن يكون البلع باقيا على حقيقته كالإنبات في : أنبت الربيع البقل. وهو بعيد، أو يجعل مستعارا لأمر متوهم كما في : نطقت الحال فيلزمه القول بالاستعارة التبعية كما هو المشهور.
ثم إنه تعالى أمر على سبيل الاستعارة للتشبيه الثاني وخاطب في الأمر تشريحا لاستعارة النداء، والحاصل أن في لفظ [ ابلعي ] باعتبار جوهرة استعارة لغئور الماء وباعتبار صورته أعني كونه صورة أمر استعارة أخرى لتكوين المراد، وباعتبار كونه أمر خطاب ترشيح للاستعارة المكنية التي في المنادى، فإن قرينتها النداء وما زاد على قرينة المكنية يكون ترشيحا لها. وأما جعل النداء استعارة تصريحية تبعية حتى يكون خطاب الآمر ترشيحا لها فقد عرفت ما فيه.
ثم قال جل وعلا [ ماءك ] بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز تشبيها لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالملك، واختار ضمير الخطاب لأجل التشريح وحاصله أن هناك مجازا لغويا في الهيئة الإضافية الدالة على الاختصاص الملكي، ولهذا جعل الخطاب ترشيحا لهذه الاستعارة من حيث إن الخطاب يدل على صلوح الأرض للمالكية، فما قيل إن المجاز عقلي والعبارة مصروفة عن الظاهر ليس بشيء.
ثم اختار لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان من المطر أو الفعل، ففي [ أقلعي ] استعارة باعتبار جوهره وكذا باعتبار صيغته أيضا وهي مبنية على تشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافد، والخطاب فيه أيضا ترشيح لاستعارة النداء، والحاصل أن الكلام فيه مثل ما مر في [ ابلعي ].
" ثم قال سبحا

﴿ قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ( ٢٨ ) ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون ( ٢٩ ) ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتم أفلا تذكرون ( ٣٠ ) ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينهم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين ( ٣١ ) ﴾
تضمنت هذه الآيات الأربع دحض تلك الشبهات الأربع التي ردوا بها عليه وشبهات أخرى من لوازمها، وربما صرحوا بها وأستغني عن حكايتها بالعلم بها من الرد عليها، وهو من دقائق إيجاز القرآن المعجز للبشر فتأمله.
﴿ ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ﴾ هذا معطوف على قوله :" لا أسألكم عليه أجرا " ولهذا لم يكرر النداء فيه. وهذه الثلاث التي نفاها نوح عليه السلام عن نفسه هي التي كان يظن المشركون من قومه وممن بعدهم أن ثبوتها لازم لمن كان نبيا مرسلا من الله تعالى إن صحت دعواه، وإلا كان كسائر البشر لا فضل له عليهم، ومن ثم كان نفيها متضمنا لرد شبهة حجتهم الثالثة، ولهذا أمر الله تعالى خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم بنفيها عن نفسه في سورة الأنعام [ ٥٠ ] ونختصر في تفسيرها هنا لتفصيله هنالك.
﴿ أما خزائن الله ﴾ تعالى فالمراد منها أنواع رزقه التي يحتاج إليها عباده للإنفاق منها كما قال :﴿ قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا ﴾ [ الإسراء : ١٠٠ ] والمعنى لا أقول لكم بادعائي للنبوة والرسالة إن عندي خزائن رزق الله تعالى أتصرف فيها بغير وسائل الأسباب المسخرة لسائر الناس، بحيث أنفق على نفسي وعلى من اتبعني بالتصرف فيها بخوارق العادات، بل أنا وغيري من البشر في كسبها سواء إذ ليست من موضوع الرسالة ولا من خصائصها ووظائفها، ولو كانت كذلك لاتبع الناس الرسل لأجلها، لا لما بعثوا لأجله من تزكية الأنفس بمعرفة الله وعبادته، وتأهيلها للقائه تعالى ومثوبته في دار كرامته.
وأما علم الغيب فالمراد به امتياز النبي على سائر البشر بعلم ما لا يصل إليه علمهم الكسبي من مصالحهم ومنافعهم ومضارهم في معايشهم وكسبهم فيخبر بها أتباعه ليفضلوا غيرهم بالتبع له، ولهذا أمر الله خاتم النبيين أن يقول لقومه ﴿ قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء ﴾ [ الأعراف : ١٨٨ ] وقال بعض المفسرين إن نفي ادعائه الغيب يتضمن الرد على قولهم في اتباعه أنهم اتبعوه بادي الرأي من غير تفكر ولا استدلال فهم غير موقنين بإيمانهم، وإنما يظنون ظنا، فهو يقول : إنه لم يعط علم الغيب فيحكم على بواطنهم وإنما أمر أن يأخذ بالظاهر، والله هو الذي يعلم السرائر، وهذان الأمران اللذان نفاهما كتاب الله عن رسله يثبتهما مبتدعة المسلمين وأهل الكتاب لمن يسمونهم الأولياء والقديسين منهم، وقد بينا بطلان هذا مرارا.
وأما نفي كونه ملكا فهو داحض لشبهتهم أن الرسول من الله إلى البشر يجب أن يفضلهم ويمتاز عليهم، وإذن لا بد أن يكون ملكا من ملائكة الله يعلم ما لا يعلم البشر ويقدر على ما لا يقدر عليه البشر، وهذه المسألة مفصلة ومكررة في سورة الأنعام وبينا في خلاصة تفسيرها من ( جزء التفسير الثامن ) جملة ما جاء فيها مع شواهده من غيرها في ذلك تحت عنوان ( شبهات الكفار على الوحي والرسالة ) فراجعها.
﴿ ولا أقول للذين تزدري أعينكم ﴾ الازدراء افتعال من الزراية، يقال زرى على فلان يزري زرية وزراية [ بالكسر ] إذا عابه واستهزأ به، وأزرى به إزراء تهاون به، أي ولا أقول في شأن الذين تنظرون إليهم نظر الاستصغار والاحتقار فتزدريهم أعينكم لفقرهم ورثاثتهم ﴿ لن يؤتيهم الله خيرا ﴾ كما تقولون أنتم والمراد بالخير ما وعد على الإيمان والهدى من سعادة الدنيا والآخرة، ويراجع تفسير ما حكى الله عن كفار قريش بقوله :﴿ وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه ﴾ [ الأحقاف : ١١ ] وغير هذا مما في معناه.
﴿ الله أعلم بما في أنفسهم ﴾ مما آتاهم من الإيمان على بصيرة، واتباع رسوله بإخلاص وصدق سريرة، خلافا لما زعمتم من اتباعي بادي الرأي بغير بصيرة ولا علم ﴿ إني إذا لمن الظالمين ﴾ أي إني إذا قلت ذلك فيهم لمن الظالمين ؛ إذ أكون ظالما لنفسي بالتقول على الله غير ما أعلمه عنه من وعد المؤمنين بخير الدنيا والآخرة، وظالما للمؤمنين المحسنين بهضم حقهم، ويجوز أن يكون المعنى : إني إذا قلت شيئا مما نفيته من أول الآية بأن ادعيت أني أملك التصرف في خزائن رزق الله ورحمته بالعطاء والمنع أو أعلم الغيب الخ لمن زمرة الظالمين الراسخين في الظلم، لا من الأنبياء المرسلين المعتصمين بالحق والعدل، وفي هذا التعليل لاجتناب ما ذكر تعريض بالمخاطبين، يدل على أنهم من الظالمين، وبهذا تمت حجته عليه السلام عليهم، ودحضه لجميع شبهاتهم، ولذلك قالوا قول المعترف بالعجز، المنتهي به عجزه إلى حد اليأس :﴿ قال يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ( ٣٢ ) ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:علاوات لتفسير قصة نوح عليه السلام
العلاوة الأولى : البلاغة الفنية في الآية ٤٣
سبق لنا أن قلنا في الكلام على إعجاز القرآن ببلاغته ومذهب المتكلمين وأدباء الفنون في التحدي به : إن هذا النوع من الإعجاز يقل من يفقهه في هذا العصر لفقد أهله ملكتي البلاغة الذوقية السليقية والبيانية الفنية بله الجمع بينهما، وهو ضروري لإدراك هذا النوع من الإعجاز، وإن من يفقهه ويدرك عدم استطاعة أحد أن يأتي بسورة مثله قد يخفى عليه وجه دلالته على أنه لا بد أن يكون وحيا من الله تعالى وحجة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولذلك جزموا بوقوع العجز واختلفوا في وجه الدلالة، فمثلهم كمثل حداق الفنانين في الوشي والتطريز إذا رأوا صنع قدماء الهنود من أهل لاهور وكشمير وأقروا بالعجز عن محاكاته، والمصورين إذا رأوا أدق صور رفائيل في تصوير الإنسان بأدق مناظر أعضائه وشمائله وملامح صفاته النفسية وإمارات انفعالاته ولا سيما المتقاربة كالخوف والفزع والحزن والغم والغضب ونظر الإقرار ونظر الإنكار ونظر الشهوة ونظر العطف ونظر الرحمة ونظر الإعجاب والعجب ونظر المتفكر والمتحير، فقد يقرون بعجزهم عن محاكاتها ولكنهم لا يقولون بعدم إمكانها، بل يقولون بإمكانها وبقرب وقوعها بالفعل إذا وجدت الداعية القوية كمنفعة مالية كبيرة أو مصلحة قومية أو دولية عظيمة.
ومن المعلوم من تاريخ النبي صلى الله عليه وسلم مع فصحاء قريش وغيرهم أنه حدثت لهم أعظم الدواعي والمصالح المعارضة للقرآن بعد تحديثهم بسورة مثله مطلقا والتحدي بعشر سور في المكرر ولو مفترى، فأيقنوا بعجزهم عن الإتيان بها وبهن، ولو ظاهرهم عليه جميع الإنس عن كثرة بلغائهم وفصحائهم، والجن الذين يعتقدون أن منهم هواجس تلقنهم الشعر من حيث لا يرونهم، وكذا آلهتهم القادرون بخصائصهم الغيبية أو بمكانتهم عند الله تعالى على كل ما يريدون في هذا العالم بزعمهم، قد عجزوا مع هذا كله واضطروا إلى مقاومة النبي بالقتال، وما أعقبهم من خسارة المال، وسبي النساء والأطفال، ثم ما هو أشد عليهم وهو احتمال الذل والنكال، وروي أن كبراءهم زعموا على التعاون على المعارضة واستعدوا لها فسمعوا هذه الآية [ وقيل يا أرض ] فتضاءلت قواهم واستخذت أنفسهم ورجعوا عن عزمهم، كما يأتي قريبا.
عرف بلغاء قريش من بلاغة هذه الآية الروحية الكامنة في فصاحتها اللفظية الظاهرة وغيرها ما لم يعرفه بلغاء الفنون بعدهم منها، فكان هؤلاء أعلم بما للحسن والجمال الصوري في الكلام من المقاييس الفلسفية والموازين الفنية ودرجات الراجح على المرجوح. وكان أولئك أدق شعورا بما لهذا الحسن والجمال من السلطان على القلوب والحكم على العقول. مثال ذلك أن للجمال البدني في حسان النساء مقاييس وموازين لتناسب الأعضاء بعضها مع بعض يمكن ضبطها والعدل في الحكم بينها. وأما الجمال المعنوي وهو خفة الروح وسلطان التأثير في القلوب، فليس له مقياس، ولا ميزان عشري يضبط به وزنه أو مساحته فيعرف الراجح من المرجوح، وإنما يعرف هذا الجمال الأعلى بملكة نفسية، لا بأوزان صناعية، كما قال أبو الطيب في الخيل :
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها وأعضائها فالحسن عنك مغيب١
وإنما أحدث القرآن في الأمة العربية ما أحدث من الثورة الدينية والاجتماعية والانقلاب العالمي بالنوع الثاني من إدراك بلاغته لا الأول، وكل منها كامل من بابه، كما بينا ذلك في موضعه من عهد قريب، وإن كثرة البحث في الثاني ليشغل المفسر والمتدبر عن الأول الخاص منه بالهداية وإصلاح النفس وتزكيتها، ولهذا نقتصر منه في تفسيرنا على ما قصر فيه المفسرون باختصار لا يشغل عن الهداية المقصودة بالذات، وقد نجعله من باب الاستطراد بعد بيان معنى الآية أو الآيات، ولهذا جعلت ما أحببت بيانه في بلاغة هذه الآية الفنية علاوة من هذه العلاوات، وقد أطال العلماء الأخصائيون فيها حتى أفردها بعضهم بمصنفات خاصة، وتكلم صاحب [ الطراز في علوم الإعجاز ] عليها في ٢٥ صفحة، ولعله أحسنهم فيها كلاما، وإن كان السكاكي هو السابق إليه وكلهم فيه عيال عليه، وذكر بعض المفسرين جملا مختصرة أو وسطا منه أنقل منها هنا ما لخصه السيد الآلوسي في روح المعاني من كلام السكاكي وغيره بتصرف كعادته قال :
واعلم أن هذه الآية الكريمة قد بلغت من مراتب الإعجاز أقاصيها، واستدلت مصاقع العرب فسفعت بنواصيها، وجمعت من المحاسن ما يضيق عنه نطاق البيان، وكانت من سمهري البلاغة مكان السنان.
يروى أن كفار قريش قصدوا أن يعارضوا القرآن فعكفوا على لباب البر ولحوم الضأن وسلاف الخمر أربعين يوما لتصفوا أذهانهم، فلما أخذوا فيما قصدوه وسمعوا هذه الآية قال بعضهم لبعض : هذا الكلام لا يشبه كلام المخلوقين، فتركوا ما أخذوا فيه وتفرقوا. ويروى أيضا أن ابن المقفع وكان –كما في القاموس- فصيحا بليغا، بل قيل إنه أفصح أهل وقته- رام أن يعارض القرآن فنظم كلاما وجعله مفصلا وسماه سورا، فاجتاز يوما بصبي يقرؤها في مكتب فرجع ومحا ما عمل، وقال أشهد أن هذا لا يعارض أبدا وما هو من كلام البشر. ولا يخفى أن هذا لا يستدعي أن لا يكون سائر آيات القرآن العظيم معجزا لما أن حد الإعجاز هو المرتبة التي يعجز البشر عن الإتيان بمثلها ولا تدخل على قدرته قطعا وهي تشتمل على شيئين : الأول الطرف الأعلى من البلاغة أعني ما ينتهي إليه البلاغة ولا يتصور تجاوزها إياه، والثاني ما يقرب من ذلك الطرف أعني المراتب العلمية التي تتقاصر القوى البشرية عنها أيضا.
ومعنى إعجاز آيات الكتاب المجيد بأسرها هو كونها مما تتقاصر القوى البشرية عن الإتيان بمثلها سواء كانت من القسم الأول أو الثاني فلا يضر تفاوتها في البلاغة، وهو الذي قاله علماء هذا الشأن.
وقد فصل بعض مزايا هذه الآية المهرة المتقنون، وتركوا من ذلك ما لا يكاد يصفه الواصفون، ولا بأس بذكر شيء مما ذكر إفادة لجاهل، وتذكيرا لفاضل غافل، فنقول :
جهات بلاغة الآية الأربع : أولها جهة علم البيان
ذكر العلامة السكاكي أن النظر فيها من أربع جهات : من جهة علم البيان، ومن جهة علم المعاني وهما مرجعا البلاغة. ومن جهة الفصاحة المعنوية، ومن جهة الفصاحة اللفظية : أما النظر فيها من جهة علم البيان وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بذلك من القرينة والترشيح والتعريض، فهو أنه عز سلطانه لما أراد أن يبين معنى : أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد، وأن نقطع طوفان المساء فانقطع، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض، وأن نقضي أمر نوح عليه السلام وهو إنجاز ما كنا وعدناه من إغراق قومه فقضى، وأن نسوي السفينة على الجودي فاستوت، وأبقينا الظلمة غرقى – بنى سبحانه الكلام على تشبيه المراد منه بالمأمور الذي لا يتأتى منه –لكما هيبته من الآمر- العصيان، وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكون المقصود تصويرا لاقتداره سبحانه العظيم، وأن هذه الأجرام العظيمة من السماوات والأرض تابعة لإرادته تعالى إيجادا وإعداما، ولمشيئته فيها تغييرا وتبديلا، كأنها عقلاء مميزون قد عرفوه جل شأنه حق معرفته، وأحاطوا علما بوجوب الانقياد لأمره، والإذعان لحكمه، ويحتم بذل المجهود عليهم في تحصيل مراده، وتصوروا مزيد اقتداره، فعظمت مهابته في نفوسهم، وضربت سرادقها في أفنية ضمائرهم، فكما يلوح لهم إشارته سبحانه كان المشار إليه مقدما، وكما يرد عليهم أمره تعالى شأنه كان المأمور به متمما، لا تلقي لإشارته بغير الإمضاء والانقياد، ولا لأمره بغير الإذعان والامتثال.
" ثم بنى على مجموع التشبيهين نظم الكلام فقال جل وعلا قيل : على سبيل المجاز عن الإرادة من باب ذكر المسبب وإرادة السبب، لأن الإرادة تكون سببا لوقوع القول في الجملة، وجعل قرينة هذا المجاز خطاب الجماد وهو [ يا أرض- ويا سماء ] إذ يصح أن يراد حصول شيء متعلق بالجماد ولا يصح القول له. ثم قال سبحانه كما ترى [ يا أرض، ويا سماء ] مخاطبا لهما على سبيل الاستعارة للشبه المذكور، والظاهر أنه أراد أن هناك استعارة بالكناية حيث ذكر المشبه أعني السماء والأرض المراد منهما حصول أمر وأريد المشبه به أعني المأمور الموصوف بأنه لا يتأتى منه العصيان ادعاء بقرينة نسبة الخطاب إليه، ودخول حرف النداء عليه، وهما من خواص المأمور المطيع ويكون هذا تخييلا. وقد يقال : أراد أن الاستعارة ههنا تصريحية تبعية في حرف النداء بناء على تشبيه تعلق الإرادة بالمراد منه بتعلق النداء والخطاب بالمنادي المخاطب، وليس بشيء إذ لا يحسن هذا التشبيه ابتداء بل تبعا للتشبيه الأول فكيف يجعل أصلا لمتبوعه ؟ على أن قوله للشبه المذكور يدفع هذا الحمل.
ثم استعار لغئور الماء في الأرض [ البلع ] الذي هو إعمال الجاذبة في المطعوم للشبه بينهما وهو الذهاب إلى مقر خفي. وفي الكشاف : جعل البلع مستعارا لنشف الأرض الماء وهو أولى فإن النشف دال على جذب من إجزاء الأرض لما عليها كالبلع بالنسبة إلى الحيوان، ولأن النشف فعل الأرض والغثور فعل الماء مع الطباق بين الفعلين تعديا. ثم استعار الماء للغذاء استعارة بالكناية تشبيها له بالغذاء لتقوي الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار تقوي الآكل بالطعام وجعل قرينة الاستعارة لفظة [ ابلعي ] لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء.
ولا يخفى عليك أنه إذا اعتبر مذهب السلف في الاستعارة يكون [ ابلعي ] استعارة تصريحية ومع ذلك يكون بحسب اللفظ قرينة للاستعارة بالكناية في الماء على حد ما قالوا في ﴿ ينقضون عهد الله ﴾ وأما إذا اعتبر مذهبه فينبغي أن يكون البلع باقيا على حقيقته كالإنبات في : أنبت الربيع البقل. وهو بعيد، أو يجعل مستعارا لأمر متوهم كما في : نطقت الحال فيلزمه القول بالاستعارة التبعية كما هو المشهور.
ثم إنه تعالى أمر على سبيل الاستعارة للتشبيه الثاني وخاطب في الأمر تشريحا لاستعارة النداء، والحاصل أن في لفظ [ ابلعي ] باعتبار جوهرة استعارة لغئور الماء وباعتبار صورته أعني كونه صورة أمر استعارة أخرى لتكوين المراد، وباعتبار كونه أمر خطاب ترشيح للاستعارة المكنية التي في المنادى، فإن قرينتها النداء وما زاد على قرينة المكنية يكون ترشيحا لها. وأما جعل النداء استعارة تصريحية تبعية حتى يكون خطاب الآمر ترشيحا لها فقد عرفت ما فيه.
ثم قال جل وعلا [ ماءك ] بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز تشبيها لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالملك، واختار ضمير الخطاب لأجل التشريح وحاصله أن هناك مجازا لغويا في الهيئة الإضافية الدالة على الاختصاص الملكي، ولهذا جعل الخطاب ترشيحا لهذه الاستعارة من حيث إن الخطاب يدل على صلوح الأرض للمالكية، فما قيل إن المجاز عقلي والعبارة مصروفة عن الظاهر ليس بشيء.
ثم اختار لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان من المطر أو الفعل، ففي [ أقلعي ] استعارة باعتبار جوهره وكذا باعتبار صيغته أيضا وهي مبنية على تشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافد، والخطاب فيه أيضا ترشيح لاستعارة النداء، والحاصل أن الكلام فيه مثل ما مر في [ ابلعي ].
" ثم قال سبحا

﴿ قال يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ( ٣٢ ) قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين ( ٣٣ ) ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون ( ٣٤ ) ﴾
قال الراغب : الجدال المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة، وأصله من جدلت الحبل إذا أحكمت فتله ومنه الجديل [ أي الحبل المفتول ] وجدلت البناء أحكمته، ودرع مجدول والأجدل الصقر المحكم البنية، والمجدل [ كمنبر ] القصر المحكم البناء، ومنه الجدال فكأن المتجادلين يفتل كل واحد الآخر على رأيه. وقيل الأصل في الجدال الصراع وإسقاط الإنسان صاحبه على الجدالة وهي [ بالفتح ] الأرض الصلبة اه وقال الفيومي في المصباح المنير : جدل الرجل جدلا فهو جدل من باب تعب إذا اشتدت خصومته، وجادل مجادلة إذا خاصم بما يشغل عن ظهور الحق ووضوح الصواب، هذا أصله، ثم استعمل في لسان حملة الشرع في مقابلة الأدلة لظهور أرجحها، وهو محمود إن كان للوقوف على الحق وإلا فمذموم اه. وقد ورد عدة أحاديث وآثار في ذم الجدل والنهي عنه منها ( ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ) ١ رواه أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث أبي أمامة مرفوعا.
﴿ قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا ﴾ أي قد خاصمتنا وحاججتنا فأكثرت جدالنا، واستقصيت فيه فلم تدع لنا حجة إلا دحضتها حتى مللنا وسئمنا ولم يبق عندنا شيء نقوله- يدل على هذا قوله :﴿ قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا ﴾ [ نوح : ٥، ٦ ] الخ وقوله لهم في التعبير عن هذه الحالة من سورة يونس ﴿ يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله ﴾ [ يونس : ٧١ ] الخ ﴿ فأتنا بما تعدنا ﴾ من عذاب الله الدنيوي الذي تخافه علينا، الأقرب أن يكون المراد به قوله :﴿ إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم ﴾ [ هود : ٢٦ ] ويجوز أن يكون غيره كما تقدم ﴿ إن كنت من الصادقين ﴾ في دعواك أن الله يعاقبنا على عصيانه في الدنيا قبل الآخرة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:علاوات لتفسير قصة نوح عليه السلام
العلاوة الأولى : البلاغة الفنية في الآية ٤٣
سبق لنا أن قلنا في الكلام على إعجاز القرآن ببلاغته ومذهب المتكلمين وأدباء الفنون في التحدي به : إن هذا النوع من الإعجاز يقل من يفقهه في هذا العصر لفقد أهله ملكتي البلاغة الذوقية السليقية والبيانية الفنية بله الجمع بينهما، وهو ضروري لإدراك هذا النوع من الإعجاز، وإن من يفقهه ويدرك عدم استطاعة أحد أن يأتي بسورة مثله قد يخفى عليه وجه دلالته على أنه لا بد أن يكون وحيا من الله تعالى وحجة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولذلك جزموا بوقوع العجز واختلفوا في وجه الدلالة، فمثلهم كمثل حداق الفنانين في الوشي والتطريز إذا رأوا صنع قدماء الهنود من أهل لاهور وكشمير وأقروا بالعجز عن محاكاته، والمصورين إذا رأوا أدق صور رفائيل في تصوير الإنسان بأدق مناظر أعضائه وشمائله وملامح صفاته النفسية وإمارات انفعالاته ولا سيما المتقاربة كالخوف والفزع والحزن والغم والغضب ونظر الإقرار ونظر الإنكار ونظر الشهوة ونظر العطف ونظر الرحمة ونظر الإعجاب والعجب ونظر المتفكر والمتحير، فقد يقرون بعجزهم عن محاكاتها ولكنهم لا يقولون بعدم إمكانها، بل يقولون بإمكانها وبقرب وقوعها بالفعل إذا وجدت الداعية القوية كمنفعة مالية كبيرة أو مصلحة قومية أو دولية عظيمة.
ومن المعلوم من تاريخ النبي صلى الله عليه وسلم مع فصحاء قريش وغيرهم أنه حدثت لهم أعظم الدواعي والمصالح المعارضة للقرآن بعد تحديثهم بسورة مثله مطلقا والتحدي بعشر سور في المكرر ولو مفترى، فأيقنوا بعجزهم عن الإتيان بها وبهن، ولو ظاهرهم عليه جميع الإنس عن كثرة بلغائهم وفصحائهم، والجن الذين يعتقدون أن منهم هواجس تلقنهم الشعر من حيث لا يرونهم، وكذا آلهتهم القادرون بخصائصهم الغيبية أو بمكانتهم عند الله تعالى على كل ما يريدون في هذا العالم بزعمهم، قد عجزوا مع هذا كله واضطروا إلى مقاومة النبي بالقتال، وما أعقبهم من خسارة المال، وسبي النساء والأطفال، ثم ما هو أشد عليهم وهو احتمال الذل والنكال، وروي أن كبراءهم زعموا على التعاون على المعارضة واستعدوا لها فسمعوا هذه الآية [ وقيل يا أرض ] فتضاءلت قواهم واستخذت أنفسهم ورجعوا عن عزمهم، كما يأتي قريبا.
عرف بلغاء قريش من بلاغة هذه الآية الروحية الكامنة في فصاحتها اللفظية الظاهرة وغيرها ما لم يعرفه بلغاء الفنون بعدهم منها، فكان هؤلاء أعلم بما للحسن والجمال الصوري في الكلام من المقاييس الفلسفية والموازين الفنية ودرجات الراجح على المرجوح. وكان أولئك أدق شعورا بما لهذا الحسن والجمال من السلطان على القلوب والحكم على العقول. مثال ذلك أن للجمال البدني في حسان النساء مقاييس وموازين لتناسب الأعضاء بعضها مع بعض يمكن ضبطها والعدل في الحكم بينها. وأما الجمال المعنوي وهو خفة الروح وسلطان التأثير في القلوب، فليس له مقياس، ولا ميزان عشري يضبط به وزنه أو مساحته فيعرف الراجح من المرجوح، وإنما يعرف هذا الجمال الأعلى بملكة نفسية، لا بأوزان صناعية، كما قال أبو الطيب في الخيل :
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها وأعضائها فالحسن عنك مغيب١
وإنما أحدث القرآن في الأمة العربية ما أحدث من الثورة الدينية والاجتماعية والانقلاب العالمي بالنوع الثاني من إدراك بلاغته لا الأول، وكل منها كامل من بابه، كما بينا ذلك في موضعه من عهد قريب، وإن كثرة البحث في الثاني ليشغل المفسر والمتدبر عن الأول الخاص منه بالهداية وإصلاح النفس وتزكيتها، ولهذا نقتصر منه في تفسيرنا على ما قصر فيه المفسرون باختصار لا يشغل عن الهداية المقصودة بالذات، وقد نجعله من باب الاستطراد بعد بيان معنى الآية أو الآيات، ولهذا جعلت ما أحببت بيانه في بلاغة هذه الآية الفنية علاوة من هذه العلاوات، وقد أطال العلماء الأخصائيون فيها حتى أفردها بعضهم بمصنفات خاصة، وتكلم صاحب [ الطراز في علوم الإعجاز ] عليها في ٢٥ صفحة، ولعله أحسنهم فيها كلاما، وإن كان السكاكي هو السابق إليه وكلهم فيه عيال عليه، وذكر بعض المفسرين جملا مختصرة أو وسطا منه أنقل منها هنا ما لخصه السيد الآلوسي في روح المعاني من كلام السكاكي وغيره بتصرف كعادته قال :
واعلم أن هذه الآية الكريمة قد بلغت من مراتب الإعجاز أقاصيها، واستدلت مصاقع العرب فسفعت بنواصيها، وجمعت من المحاسن ما يضيق عنه نطاق البيان، وكانت من سمهري البلاغة مكان السنان.
يروى أن كفار قريش قصدوا أن يعارضوا القرآن فعكفوا على لباب البر ولحوم الضأن وسلاف الخمر أربعين يوما لتصفوا أذهانهم، فلما أخذوا فيما قصدوه وسمعوا هذه الآية قال بعضهم لبعض : هذا الكلام لا يشبه كلام المخلوقين، فتركوا ما أخذوا فيه وتفرقوا. ويروى أيضا أن ابن المقفع وكان –كما في القاموس- فصيحا بليغا، بل قيل إنه أفصح أهل وقته- رام أن يعارض القرآن فنظم كلاما وجعله مفصلا وسماه سورا، فاجتاز يوما بصبي يقرؤها في مكتب فرجع ومحا ما عمل، وقال أشهد أن هذا لا يعارض أبدا وما هو من كلام البشر. ولا يخفى أن هذا لا يستدعي أن لا يكون سائر آيات القرآن العظيم معجزا لما أن حد الإعجاز هو المرتبة التي يعجز البشر عن الإتيان بمثلها ولا تدخل على قدرته قطعا وهي تشتمل على شيئين : الأول الطرف الأعلى من البلاغة أعني ما ينتهي إليه البلاغة ولا يتصور تجاوزها إياه، والثاني ما يقرب من ذلك الطرف أعني المراتب العلمية التي تتقاصر القوى البشرية عنها أيضا.
ومعنى إعجاز آيات الكتاب المجيد بأسرها هو كونها مما تتقاصر القوى البشرية عن الإتيان بمثلها سواء كانت من القسم الأول أو الثاني فلا يضر تفاوتها في البلاغة، وهو الذي قاله علماء هذا الشأن.
وقد فصل بعض مزايا هذه الآية المهرة المتقنون، وتركوا من ذلك ما لا يكاد يصفه الواصفون، ولا بأس بذكر شيء مما ذكر إفادة لجاهل، وتذكيرا لفاضل غافل، فنقول :
جهات بلاغة الآية الأربع : أولها جهة علم البيان
ذكر العلامة السكاكي أن النظر فيها من أربع جهات : من جهة علم البيان، ومن جهة علم المعاني وهما مرجعا البلاغة. ومن جهة الفصاحة المعنوية، ومن جهة الفصاحة اللفظية : أما النظر فيها من جهة علم البيان وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بذلك من القرينة والترشيح والتعريض، فهو أنه عز سلطانه لما أراد أن يبين معنى : أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد، وأن نقطع طوفان المساء فانقطع، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض، وأن نقضي أمر نوح عليه السلام وهو إنجاز ما كنا وعدناه من إغراق قومه فقضى، وأن نسوي السفينة على الجودي فاستوت، وأبقينا الظلمة غرقى – بنى سبحانه الكلام على تشبيه المراد منه بالمأمور الذي لا يتأتى منه –لكما هيبته من الآمر- العصيان، وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكون المقصود تصويرا لاقتداره سبحانه العظيم، وأن هذه الأجرام العظيمة من السماوات والأرض تابعة لإرادته تعالى إيجادا وإعداما، ولمشيئته فيها تغييرا وتبديلا، كأنها عقلاء مميزون قد عرفوه جل شأنه حق معرفته، وأحاطوا علما بوجوب الانقياد لأمره، والإذعان لحكمه، ويحتم بذل المجهود عليهم في تحصيل مراده، وتصوروا مزيد اقتداره، فعظمت مهابته في نفوسهم، وضربت سرادقها في أفنية ضمائرهم، فكما يلوح لهم إشارته سبحانه كان المشار إليه مقدما، وكما يرد عليهم أمره تعالى شأنه كان المأمور به متمما، لا تلقي لإشارته بغير الإمضاء والانقياد، ولا لأمره بغير الإذعان والامتثال.
" ثم بنى على مجموع التشبيهين نظم الكلام فقال جل وعلا قيل : على سبيل المجاز عن الإرادة من باب ذكر المسبب وإرادة السبب، لأن الإرادة تكون سببا لوقوع القول في الجملة، وجعل قرينة هذا المجاز خطاب الجماد وهو [ يا أرض- ويا سماء ] إذ يصح أن يراد حصول شيء متعلق بالجماد ولا يصح القول له. ثم قال سبحانه كما ترى [ يا أرض، ويا سماء ] مخاطبا لهما على سبيل الاستعارة للشبه المذكور، والظاهر أنه أراد أن هناك استعارة بالكناية حيث ذكر المشبه أعني السماء والأرض المراد منهما حصول أمر وأريد المشبه به أعني المأمور الموصوف بأنه لا يتأتى منه العصيان ادعاء بقرينة نسبة الخطاب إليه، ودخول حرف النداء عليه، وهما من خواص المأمور المطيع ويكون هذا تخييلا. وقد يقال : أراد أن الاستعارة ههنا تصريحية تبعية في حرف النداء بناء على تشبيه تعلق الإرادة بالمراد منه بتعلق النداء والخطاب بالمنادي المخاطب، وليس بشيء إذ لا يحسن هذا التشبيه ابتداء بل تبعا للتشبيه الأول فكيف يجعل أصلا لمتبوعه ؟ على أن قوله للشبه المذكور يدفع هذا الحمل.
ثم استعار لغئور الماء في الأرض [ البلع ] الذي هو إعمال الجاذبة في المطعوم للشبه بينهما وهو الذهاب إلى مقر خفي. وفي الكشاف : جعل البلع مستعارا لنشف الأرض الماء وهو أولى فإن النشف دال على جذب من إجزاء الأرض لما عليها كالبلع بالنسبة إلى الحيوان، ولأن النشف فعل الأرض والغثور فعل الماء مع الطباق بين الفعلين تعديا. ثم استعار الماء للغذاء استعارة بالكناية تشبيها له بالغذاء لتقوي الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار تقوي الآكل بالطعام وجعل قرينة الاستعارة لفظة [ ابلعي ] لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء.
ولا يخفى عليك أنه إذا اعتبر مذهب السلف في الاستعارة يكون [ ابلعي ] استعارة تصريحية ومع ذلك يكون بحسب اللفظ قرينة للاستعارة بالكناية في الماء على حد ما قالوا في ﴿ ينقضون عهد الله ﴾ وأما إذا اعتبر مذهبه فينبغي أن يكون البلع باقيا على حقيقته كالإنبات في : أنبت الربيع البقل. وهو بعيد، أو يجعل مستعارا لأمر متوهم كما في : نطقت الحال فيلزمه القول بالاستعارة التبعية كما هو المشهور.
ثم إنه تعالى أمر على سبيل الاستعارة للتشبيه الثاني وخاطب في الأمر تشريحا لاستعارة النداء، والحاصل أن في لفظ [ ابلعي ] باعتبار جوهرة استعارة لغئور الماء وباعتبار صورته أعني كونه صورة أمر استعارة أخرى لتكوين المراد، وباعتبار كونه أمر خطاب ترشيح للاستعارة المكنية التي في المنادى، فإن قرينتها النداء وما زاد على قرينة المكنية يكون ترشيحا لها. وأما جعل النداء استعارة تصريحية تبعية حتى يكون خطاب الآمر ترشيحا لها فقد عرفت ما فيه.
ثم قال جل وعلا [ ماءك ] بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز تشبيها لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالملك، واختار ضمير الخطاب لأجل التشريح وحاصله أن هناك مجازا لغويا في الهيئة الإضافية الدالة على الاختصاص الملكي، ولهذا جعل الخطاب ترشيحا لهذه الاستعارة من حيث إن الخطاب يدل على صلوح الأرض للمالكية، فما قيل إن المجاز عقلي والعبارة مصروفة عن الظاهر ليس بشيء.
ثم اختار لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان من المطر أو الفعل، ففي [ أقلعي ] استعارة باعتبار جوهره وكذا باعتبار صيغته أيضا وهي مبنية على تشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافد، والخطاب فيه أيضا ترشيح لاستعارة النداء، والحاصل أن الكلام فيه مثل ما مر في [ ابلعي ].
" ثم قال سبحا


١ - أخرجه الترمذي في تفسيره سورة ٤٣، وابن ماجه في المقدمة باب ٧، وأحمد في المسند ٥/ ٢٥٢، ٢٥٦]..
﴿ قال إنما يأتيكم به الله إن شاء ﴾ أي إن هذا لله وبيده لا أملكه أنا وإنما هو الذي يأتيكم به إن تعلقت مشيئته به في الوقت الذي تقتضيه حكمته، وهذا بيان للواقع لا شك فيه ﴿ وما أنتم بمعجزين ﴾ ولا فائتين له إن أخره لحكمة يعلمها فهو متى شاء واقع ما له من دافع، ونفي الإعجاز مؤكد بالباء.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:علاوات لتفسير قصة نوح عليه السلام
العلاوة الأولى : البلاغة الفنية في الآية ٤٣
سبق لنا أن قلنا في الكلام على إعجاز القرآن ببلاغته ومذهب المتكلمين وأدباء الفنون في التحدي به : إن هذا النوع من الإعجاز يقل من يفقهه في هذا العصر لفقد أهله ملكتي البلاغة الذوقية السليقية والبيانية الفنية بله الجمع بينهما، وهو ضروري لإدراك هذا النوع من الإعجاز، وإن من يفقهه ويدرك عدم استطاعة أحد أن يأتي بسورة مثله قد يخفى عليه وجه دلالته على أنه لا بد أن يكون وحيا من الله تعالى وحجة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولذلك جزموا بوقوع العجز واختلفوا في وجه الدلالة، فمثلهم كمثل حداق الفنانين في الوشي والتطريز إذا رأوا صنع قدماء الهنود من أهل لاهور وكشمير وأقروا بالعجز عن محاكاته، والمصورين إذا رأوا أدق صور رفائيل في تصوير الإنسان بأدق مناظر أعضائه وشمائله وملامح صفاته النفسية وإمارات انفعالاته ولا سيما المتقاربة كالخوف والفزع والحزن والغم والغضب ونظر الإقرار ونظر الإنكار ونظر الشهوة ونظر العطف ونظر الرحمة ونظر الإعجاب والعجب ونظر المتفكر والمتحير، فقد يقرون بعجزهم عن محاكاتها ولكنهم لا يقولون بعدم إمكانها، بل يقولون بإمكانها وبقرب وقوعها بالفعل إذا وجدت الداعية القوية كمنفعة مالية كبيرة أو مصلحة قومية أو دولية عظيمة.
ومن المعلوم من تاريخ النبي صلى الله عليه وسلم مع فصحاء قريش وغيرهم أنه حدثت لهم أعظم الدواعي والمصالح المعارضة للقرآن بعد تحديثهم بسورة مثله مطلقا والتحدي بعشر سور في المكرر ولو مفترى، فأيقنوا بعجزهم عن الإتيان بها وبهن، ولو ظاهرهم عليه جميع الإنس عن كثرة بلغائهم وفصحائهم، والجن الذين يعتقدون أن منهم هواجس تلقنهم الشعر من حيث لا يرونهم، وكذا آلهتهم القادرون بخصائصهم الغيبية أو بمكانتهم عند الله تعالى على كل ما يريدون في هذا العالم بزعمهم، قد عجزوا مع هذا كله واضطروا إلى مقاومة النبي بالقتال، وما أعقبهم من خسارة المال، وسبي النساء والأطفال، ثم ما هو أشد عليهم وهو احتمال الذل والنكال، وروي أن كبراءهم زعموا على التعاون على المعارضة واستعدوا لها فسمعوا هذه الآية [ وقيل يا أرض ] فتضاءلت قواهم واستخذت أنفسهم ورجعوا عن عزمهم، كما يأتي قريبا.
عرف بلغاء قريش من بلاغة هذه الآية الروحية الكامنة في فصاحتها اللفظية الظاهرة وغيرها ما لم يعرفه بلغاء الفنون بعدهم منها، فكان هؤلاء أعلم بما للحسن والجمال الصوري في الكلام من المقاييس الفلسفية والموازين الفنية ودرجات الراجح على المرجوح. وكان أولئك أدق شعورا بما لهذا الحسن والجمال من السلطان على القلوب والحكم على العقول. مثال ذلك أن للجمال البدني في حسان النساء مقاييس وموازين لتناسب الأعضاء بعضها مع بعض يمكن ضبطها والعدل في الحكم بينها. وأما الجمال المعنوي وهو خفة الروح وسلطان التأثير في القلوب، فليس له مقياس، ولا ميزان عشري يضبط به وزنه أو مساحته فيعرف الراجح من المرجوح، وإنما يعرف هذا الجمال الأعلى بملكة نفسية، لا بأوزان صناعية، كما قال أبو الطيب في الخيل :
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها وأعضائها فالحسن عنك مغيب١
وإنما أحدث القرآن في الأمة العربية ما أحدث من الثورة الدينية والاجتماعية والانقلاب العالمي بالنوع الثاني من إدراك بلاغته لا الأول، وكل منها كامل من بابه، كما بينا ذلك في موضعه من عهد قريب، وإن كثرة البحث في الثاني ليشغل المفسر والمتدبر عن الأول الخاص منه بالهداية وإصلاح النفس وتزكيتها، ولهذا نقتصر منه في تفسيرنا على ما قصر فيه المفسرون باختصار لا يشغل عن الهداية المقصودة بالذات، وقد نجعله من باب الاستطراد بعد بيان معنى الآية أو الآيات، ولهذا جعلت ما أحببت بيانه في بلاغة هذه الآية الفنية علاوة من هذه العلاوات، وقد أطال العلماء الأخصائيون فيها حتى أفردها بعضهم بمصنفات خاصة، وتكلم صاحب [ الطراز في علوم الإعجاز ] عليها في ٢٥ صفحة، ولعله أحسنهم فيها كلاما، وإن كان السكاكي هو السابق إليه وكلهم فيه عيال عليه، وذكر بعض المفسرين جملا مختصرة أو وسطا منه أنقل منها هنا ما لخصه السيد الآلوسي في روح المعاني من كلام السكاكي وغيره بتصرف كعادته قال :
واعلم أن هذه الآية الكريمة قد بلغت من مراتب الإعجاز أقاصيها، واستدلت مصاقع العرب فسفعت بنواصيها، وجمعت من المحاسن ما يضيق عنه نطاق البيان، وكانت من سمهري البلاغة مكان السنان.
يروى أن كفار قريش قصدوا أن يعارضوا القرآن فعكفوا على لباب البر ولحوم الضأن وسلاف الخمر أربعين يوما لتصفوا أذهانهم، فلما أخذوا فيما قصدوه وسمعوا هذه الآية قال بعضهم لبعض : هذا الكلام لا يشبه كلام المخلوقين، فتركوا ما أخذوا فيه وتفرقوا. ويروى أيضا أن ابن المقفع وكان –كما في القاموس- فصيحا بليغا، بل قيل إنه أفصح أهل وقته- رام أن يعارض القرآن فنظم كلاما وجعله مفصلا وسماه سورا، فاجتاز يوما بصبي يقرؤها في مكتب فرجع ومحا ما عمل، وقال أشهد أن هذا لا يعارض أبدا وما هو من كلام البشر. ولا يخفى أن هذا لا يستدعي أن لا يكون سائر آيات القرآن العظيم معجزا لما أن حد الإعجاز هو المرتبة التي يعجز البشر عن الإتيان بمثلها ولا تدخل على قدرته قطعا وهي تشتمل على شيئين : الأول الطرف الأعلى من البلاغة أعني ما ينتهي إليه البلاغة ولا يتصور تجاوزها إياه، والثاني ما يقرب من ذلك الطرف أعني المراتب العلمية التي تتقاصر القوى البشرية عنها أيضا.
ومعنى إعجاز آيات الكتاب المجيد بأسرها هو كونها مما تتقاصر القوى البشرية عن الإتيان بمثلها سواء كانت من القسم الأول أو الثاني فلا يضر تفاوتها في البلاغة، وهو الذي قاله علماء هذا الشأن.
وقد فصل بعض مزايا هذه الآية المهرة المتقنون، وتركوا من ذلك ما لا يكاد يصفه الواصفون، ولا بأس بذكر شيء مما ذكر إفادة لجاهل، وتذكيرا لفاضل غافل، فنقول :
جهات بلاغة الآية الأربع : أولها جهة علم البيان
ذكر العلامة السكاكي أن النظر فيها من أربع جهات : من جهة علم البيان، ومن جهة علم المعاني وهما مرجعا البلاغة. ومن جهة الفصاحة المعنوية، ومن جهة الفصاحة اللفظية : أما النظر فيها من جهة علم البيان وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بذلك من القرينة والترشيح والتعريض، فهو أنه عز سلطانه لما أراد أن يبين معنى : أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد، وأن نقطع طوفان المساء فانقطع، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض، وأن نقضي أمر نوح عليه السلام وهو إنجاز ما كنا وعدناه من إغراق قومه فقضى، وأن نسوي السفينة على الجودي فاستوت، وأبقينا الظلمة غرقى – بنى سبحانه الكلام على تشبيه المراد منه بالمأمور الذي لا يتأتى منه –لكما هيبته من الآمر- العصيان، وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكون المقصود تصويرا لاقتداره سبحانه العظيم، وأن هذه الأجرام العظيمة من السماوات والأرض تابعة لإرادته تعالى إيجادا وإعداما، ولمشيئته فيها تغييرا وتبديلا، كأنها عقلاء مميزون قد عرفوه جل شأنه حق معرفته، وأحاطوا علما بوجوب الانقياد لأمره، والإذعان لحكمه، ويحتم بذل المجهود عليهم في تحصيل مراده، وتصوروا مزيد اقتداره، فعظمت مهابته في نفوسهم، وضربت سرادقها في أفنية ضمائرهم، فكما يلوح لهم إشارته سبحانه كان المشار إليه مقدما، وكما يرد عليهم أمره تعالى شأنه كان المأمور به متمما، لا تلقي لإشارته بغير الإمضاء والانقياد، ولا لأمره بغير الإذعان والامتثال.
" ثم بنى على مجموع التشبيهين نظم الكلام فقال جل وعلا قيل : على سبيل المجاز عن الإرادة من باب ذكر المسبب وإرادة السبب، لأن الإرادة تكون سببا لوقوع القول في الجملة، وجعل قرينة هذا المجاز خطاب الجماد وهو [ يا أرض- ويا سماء ] إذ يصح أن يراد حصول شيء متعلق بالجماد ولا يصح القول له. ثم قال سبحانه كما ترى [ يا أرض، ويا سماء ] مخاطبا لهما على سبيل الاستعارة للشبه المذكور، والظاهر أنه أراد أن هناك استعارة بالكناية حيث ذكر المشبه أعني السماء والأرض المراد منهما حصول أمر وأريد المشبه به أعني المأمور الموصوف بأنه لا يتأتى منه العصيان ادعاء بقرينة نسبة الخطاب إليه، ودخول حرف النداء عليه، وهما من خواص المأمور المطيع ويكون هذا تخييلا. وقد يقال : أراد أن الاستعارة ههنا تصريحية تبعية في حرف النداء بناء على تشبيه تعلق الإرادة بالمراد منه بتعلق النداء والخطاب بالمنادي المخاطب، وليس بشيء إذ لا يحسن هذا التشبيه ابتداء بل تبعا للتشبيه الأول فكيف يجعل أصلا لمتبوعه ؟ على أن قوله للشبه المذكور يدفع هذا الحمل.
ثم استعار لغئور الماء في الأرض [ البلع ] الذي هو إعمال الجاذبة في المطعوم للشبه بينهما وهو الذهاب إلى مقر خفي. وفي الكشاف : جعل البلع مستعارا لنشف الأرض الماء وهو أولى فإن النشف دال على جذب من إجزاء الأرض لما عليها كالبلع بالنسبة إلى الحيوان، ولأن النشف فعل الأرض والغثور فعل الماء مع الطباق بين الفعلين تعديا. ثم استعار الماء للغذاء استعارة بالكناية تشبيها له بالغذاء لتقوي الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار تقوي الآكل بالطعام وجعل قرينة الاستعارة لفظة [ ابلعي ] لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء.
ولا يخفى عليك أنه إذا اعتبر مذهب السلف في الاستعارة يكون [ ابلعي ] استعارة تصريحية ومع ذلك يكون بحسب اللفظ قرينة للاستعارة بالكناية في الماء على حد ما قالوا في ﴿ ينقضون عهد الله ﴾ وأما إذا اعتبر مذهبه فينبغي أن يكون البلع باقيا على حقيقته كالإنبات في : أنبت الربيع البقل. وهو بعيد، أو يجعل مستعارا لأمر متوهم كما في : نطقت الحال فيلزمه القول بالاستعارة التبعية كما هو المشهور.
ثم إنه تعالى أمر على سبيل الاستعارة للتشبيه الثاني وخاطب في الأمر تشريحا لاستعارة النداء، والحاصل أن في لفظ [ ابلعي ] باعتبار جوهرة استعارة لغئور الماء وباعتبار صورته أعني كونه صورة أمر استعارة أخرى لتكوين المراد، وباعتبار كونه أمر خطاب ترشيح للاستعارة المكنية التي في المنادى، فإن قرينتها النداء وما زاد على قرينة المكنية يكون ترشيحا لها. وأما جعل النداء استعارة تصريحية تبعية حتى يكون خطاب الآمر ترشيحا لها فقد عرفت ما فيه.
ثم قال جل وعلا [ ماءك ] بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز تشبيها لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالملك، واختار ضمير الخطاب لأجل التشريح وحاصله أن هناك مجازا لغويا في الهيئة الإضافية الدالة على الاختصاص الملكي، ولهذا جعل الخطاب ترشيحا لهذه الاستعارة من حيث إن الخطاب يدل على صلوح الأرض للمالكية، فما قيل إن المجاز عقلي والعبارة مصروفة عن الظاهر ليس بشيء.
ثم اختار لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان من المطر أو الفعل، ففي [ أقلعي ] استعارة باعتبار جوهره وكذا باعتبار صيغته أيضا وهي مبنية على تشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافد، والخطاب فيه أيضا ترشيح لاستعارة النداء، والحاصل أن الكلام فيه مثل ما مر في [ ابلعي ].
" ثم قال سبحا

﴿ ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم ﴾ النصح تحري الصلاح والخير للمنصوح له والإخلاص فيه قولا وعملا من قولهم ناصح العسل لخالصه المصفى منه، ونصح له أفصح من نصحه، والإغواء الإيقاع في الغي وهو الفساد الحسي والمعنوي، والمعنى أن نصحي لكم لا ينفعكم بمجرد إرادتي له فيما أدعوكم إليه وإنما يتوقف نفعه على إرادة الله تعالى، وقد مضت سنته تعالى بما عرف بالتجارب أن نفع النصح له شرطان أو طرفان هما الفاعل للنصح والقابل له، وإنما يقبله المستعد للرشد، ويرفضه من غلب عليه الغي والفساد، بمقارفة أسبابه من الغرور بالغنى والجاه والكبر، وهو غمط الحق واحتقار المتكبر لمن يزدري من الناس وتعصبه لما كان عليه الآباء والأجداد، واتباع الهوى وحب الشهوات المانعة من طاعة الله، فمعنى إرادة الله تعالى لإغوائهم اقتضاء سنته فيهم أن يكونوا من الغاوين، لا خلقه للغواية فيهم جزافا أنفا [ بضمتين ] أي ابتداء بغير عمل ولا كسب منهم لأسبابها، فإن هذا مضاد لمذهب أهل السنة في إثبات خلق الأشياء مقدرة بأقدارها، ترتبط أسبابها بمسبباتها.
وفسر ابن جرير [ يغويكم ] بيهلككم بعذابه، وقد ورد الغي بهذا المعنى ومنه قوله تعالى :﴿ فسوف يلقون غيا ﴾ [ مريم : ٥٩ ] وحكي عن طيئ قولهم : أصبح فلان غاويا، إذا أصبح مريضا. وأصل الغي فساد الجهاز الهضمي من كثرة الغذاء أو سوئه. تقول العرب : غوي الفصيل إذا فسد جوفه وبشم من كثرة اللبن، ثم توسعوا فيه فاستعمل في الفساد المعنوي من الانهماك في الجهل وكل ما ينافي الرشد. والقرائن هي التي ترجح بعض المعاني على بعض، وموافقة سنن الله وأقداره شرط في الكل، وبه يعرف الحق في اختلاف الأشاعرة والمعتزلة في الآية وأمثالها بناء على اختلافهم في إرادة الله تعالى لكل من الخير والشر مطلقا، وتقدم بسط ذلك في مواضع من هذا التفسير.
﴿ هو ربكم وإليه ترجعون ﴾ أي هو مالك أموركم ومدبرها ومسيرها على سننه المطردة في الدنيا، ولكل شيء عنده قدر، ولكل قدر أجل، وإليه ترجعون في الآخرة فيجزيكم بأعمالكم خيرها وشرها لا يظلم أحدا.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:علاوات لتفسير قصة نوح عليه السلام
العلاوة الأولى : البلاغة الفنية في الآية ٤٣
سبق لنا أن قلنا في الكلام على إعجاز القرآن ببلاغته ومذهب المتكلمين وأدباء الفنون في التحدي به : إن هذا النوع من الإعجاز يقل من يفقهه في هذا العصر لفقد أهله ملكتي البلاغة الذوقية السليقية والبيانية الفنية بله الجمع بينهما، وهو ضروري لإدراك هذا النوع من الإعجاز، وإن من يفقهه ويدرك عدم استطاعة أحد أن يأتي بسورة مثله قد يخفى عليه وجه دلالته على أنه لا بد أن يكون وحيا من الله تعالى وحجة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولذلك جزموا بوقوع العجز واختلفوا في وجه الدلالة، فمثلهم كمثل حداق الفنانين في الوشي والتطريز إذا رأوا صنع قدماء الهنود من أهل لاهور وكشمير وأقروا بالعجز عن محاكاته، والمصورين إذا رأوا أدق صور رفائيل في تصوير الإنسان بأدق مناظر أعضائه وشمائله وملامح صفاته النفسية وإمارات انفعالاته ولا سيما المتقاربة كالخوف والفزع والحزن والغم والغضب ونظر الإقرار ونظر الإنكار ونظر الشهوة ونظر العطف ونظر الرحمة ونظر الإعجاب والعجب ونظر المتفكر والمتحير، فقد يقرون بعجزهم عن محاكاتها ولكنهم لا يقولون بعدم إمكانها، بل يقولون بإمكانها وبقرب وقوعها بالفعل إذا وجدت الداعية القوية كمنفعة مالية كبيرة أو مصلحة قومية أو دولية عظيمة.
ومن المعلوم من تاريخ النبي صلى الله عليه وسلم مع فصحاء قريش وغيرهم أنه حدثت لهم أعظم الدواعي والمصالح المعارضة للقرآن بعد تحديثهم بسورة مثله مطلقا والتحدي بعشر سور في المكرر ولو مفترى، فأيقنوا بعجزهم عن الإتيان بها وبهن، ولو ظاهرهم عليه جميع الإنس عن كثرة بلغائهم وفصحائهم، والجن الذين يعتقدون أن منهم هواجس تلقنهم الشعر من حيث لا يرونهم، وكذا آلهتهم القادرون بخصائصهم الغيبية أو بمكانتهم عند الله تعالى على كل ما يريدون في هذا العالم بزعمهم، قد عجزوا مع هذا كله واضطروا إلى مقاومة النبي بالقتال، وما أعقبهم من خسارة المال، وسبي النساء والأطفال، ثم ما هو أشد عليهم وهو احتمال الذل والنكال، وروي أن كبراءهم زعموا على التعاون على المعارضة واستعدوا لها فسمعوا هذه الآية [ وقيل يا أرض ] فتضاءلت قواهم واستخذت أنفسهم ورجعوا عن عزمهم، كما يأتي قريبا.
عرف بلغاء قريش من بلاغة هذه الآية الروحية الكامنة في فصاحتها اللفظية الظاهرة وغيرها ما لم يعرفه بلغاء الفنون بعدهم منها، فكان هؤلاء أعلم بما للحسن والجمال الصوري في الكلام من المقاييس الفلسفية والموازين الفنية ودرجات الراجح على المرجوح. وكان أولئك أدق شعورا بما لهذا الحسن والجمال من السلطان على القلوب والحكم على العقول. مثال ذلك أن للجمال البدني في حسان النساء مقاييس وموازين لتناسب الأعضاء بعضها مع بعض يمكن ضبطها والعدل في الحكم بينها. وأما الجمال المعنوي وهو خفة الروح وسلطان التأثير في القلوب، فليس له مقياس، ولا ميزان عشري يضبط به وزنه أو مساحته فيعرف الراجح من المرجوح، وإنما يعرف هذا الجمال الأعلى بملكة نفسية، لا بأوزان صناعية، كما قال أبو الطيب في الخيل :
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها وأعضائها فالحسن عنك مغيب١
وإنما أحدث القرآن في الأمة العربية ما أحدث من الثورة الدينية والاجتماعية والانقلاب العالمي بالنوع الثاني من إدراك بلاغته لا الأول، وكل منها كامل من بابه، كما بينا ذلك في موضعه من عهد قريب، وإن كثرة البحث في الثاني ليشغل المفسر والمتدبر عن الأول الخاص منه بالهداية وإصلاح النفس وتزكيتها، ولهذا نقتصر منه في تفسيرنا على ما قصر فيه المفسرون باختصار لا يشغل عن الهداية المقصودة بالذات، وقد نجعله من باب الاستطراد بعد بيان معنى الآية أو الآيات، ولهذا جعلت ما أحببت بيانه في بلاغة هذه الآية الفنية علاوة من هذه العلاوات، وقد أطال العلماء الأخصائيون فيها حتى أفردها بعضهم بمصنفات خاصة، وتكلم صاحب [ الطراز في علوم الإعجاز ] عليها في ٢٥ صفحة، ولعله أحسنهم فيها كلاما، وإن كان السكاكي هو السابق إليه وكلهم فيه عيال عليه، وذكر بعض المفسرين جملا مختصرة أو وسطا منه أنقل منها هنا ما لخصه السيد الآلوسي في روح المعاني من كلام السكاكي وغيره بتصرف كعادته قال :
واعلم أن هذه الآية الكريمة قد بلغت من مراتب الإعجاز أقاصيها، واستدلت مصاقع العرب فسفعت بنواصيها، وجمعت من المحاسن ما يضيق عنه نطاق البيان، وكانت من سمهري البلاغة مكان السنان.
يروى أن كفار قريش قصدوا أن يعارضوا القرآن فعكفوا على لباب البر ولحوم الضأن وسلاف الخمر أربعين يوما لتصفوا أذهانهم، فلما أخذوا فيما قصدوه وسمعوا هذه الآية قال بعضهم لبعض : هذا الكلام لا يشبه كلام المخلوقين، فتركوا ما أخذوا فيه وتفرقوا. ويروى أيضا أن ابن المقفع وكان –كما في القاموس- فصيحا بليغا، بل قيل إنه أفصح أهل وقته- رام أن يعارض القرآن فنظم كلاما وجعله مفصلا وسماه سورا، فاجتاز يوما بصبي يقرؤها في مكتب فرجع ومحا ما عمل، وقال أشهد أن هذا لا يعارض أبدا وما هو من كلام البشر. ولا يخفى أن هذا لا يستدعي أن لا يكون سائر آيات القرآن العظيم معجزا لما أن حد الإعجاز هو المرتبة التي يعجز البشر عن الإتيان بمثلها ولا تدخل على قدرته قطعا وهي تشتمل على شيئين : الأول الطرف الأعلى من البلاغة أعني ما ينتهي إليه البلاغة ولا يتصور تجاوزها إياه، والثاني ما يقرب من ذلك الطرف أعني المراتب العلمية التي تتقاصر القوى البشرية عنها أيضا.
ومعنى إعجاز آيات الكتاب المجيد بأسرها هو كونها مما تتقاصر القوى البشرية عن الإتيان بمثلها سواء كانت من القسم الأول أو الثاني فلا يضر تفاوتها في البلاغة، وهو الذي قاله علماء هذا الشأن.
وقد فصل بعض مزايا هذه الآية المهرة المتقنون، وتركوا من ذلك ما لا يكاد يصفه الواصفون، ولا بأس بذكر شيء مما ذكر إفادة لجاهل، وتذكيرا لفاضل غافل، فنقول :
جهات بلاغة الآية الأربع : أولها جهة علم البيان
ذكر العلامة السكاكي أن النظر فيها من أربع جهات : من جهة علم البيان، ومن جهة علم المعاني وهما مرجعا البلاغة. ومن جهة الفصاحة المعنوية، ومن جهة الفصاحة اللفظية : أما النظر فيها من جهة علم البيان وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بذلك من القرينة والترشيح والتعريض، فهو أنه عز سلطانه لما أراد أن يبين معنى : أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد، وأن نقطع طوفان المساء فانقطع، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض، وأن نقضي أمر نوح عليه السلام وهو إنجاز ما كنا وعدناه من إغراق قومه فقضى، وأن نسوي السفينة على الجودي فاستوت، وأبقينا الظلمة غرقى – بنى سبحانه الكلام على تشبيه المراد منه بالمأمور الذي لا يتأتى منه –لكما هيبته من الآمر- العصيان، وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكون المقصود تصويرا لاقتداره سبحانه العظيم، وأن هذه الأجرام العظيمة من السماوات والأرض تابعة لإرادته تعالى إيجادا وإعداما، ولمشيئته فيها تغييرا وتبديلا، كأنها عقلاء مميزون قد عرفوه جل شأنه حق معرفته، وأحاطوا علما بوجوب الانقياد لأمره، والإذعان لحكمه، ويحتم بذل المجهود عليهم في تحصيل مراده، وتصوروا مزيد اقتداره، فعظمت مهابته في نفوسهم، وضربت سرادقها في أفنية ضمائرهم، فكما يلوح لهم إشارته سبحانه كان المشار إليه مقدما، وكما يرد عليهم أمره تعالى شأنه كان المأمور به متمما، لا تلقي لإشارته بغير الإمضاء والانقياد، ولا لأمره بغير الإذعان والامتثال.
" ثم بنى على مجموع التشبيهين نظم الكلام فقال جل وعلا قيل : على سبيل المجاز عن الإرادة من باب ذكر المسبب وإرادة السبب، لأن الإرادة تكون سببا لوقوع القول في الجملة، وجعل قرينة هذا المجاز خطاب الجماد وهو [ يا أرض- ويا سماء ] إذ يصح أن يراد حصول شيء متعلق بالجماد ولا يصح القول له. ثم قال سبحانه كما ترى [ يا أرض، ويا سماء ] مخاطبا لهما على سبيل الاستعارة للشبه المذكور، والظاهر أنه أراد أن هناك استعارة بالكناية حيث ذكر المشبه أعني السماء والأرض المراد منهما حصول أمر وأريد المشبه به أعني المأمور الموصوف بأنه لا يتأتى منه العصيان ادعاء بقرينة نسبة الخطاب إليه، ودخول حرف النداء عليه، وهما من خواص المأمور المطيع ويكون هذا تخييلا. وقد يقال : أراد أن الاستعارة ههنا تصريحية تبعية في حرف النداء بناء على تشبيه تعلق الإرادة بالمراد منه بتعلق النداء والخطاب بالمنادي المخاطب، وليس بشيء إذ لا يحسن هذا التشبيه ابتداء بل تبعا للتشبيه الأول فكيف يجعل أصلا لمتبوعه ؟ على أن قوله للشبه المذكور يدفع هذا الحمل.
ثم استعار لغئور الماء في الأرض [ البلع ] الذي هو إعمال الجاذبة في المطعوم للشبه بينهما وهو الذهاب إلى مقر خفي. وفي الكشاف : جعل البلع مستعارا لنشف الأرض الماء وهو أولى فإن النشف دال على جذب من إجزاء الأرض لما عليها كالبلع بالنسبة إلى الحيوان، ولأن النشف فعل الأرض والغثور فعل الماء مع الطباق بين الفعلين تعديا. ثم استعار الماء للغذاء استعارة بالكناية تشبيها له بالغذاء لتقوي الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار تقوي الآكل بالطعام وجعل قرينة الاستعارة لفظة [ ابلعي ] لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء.
ولا يخفى عليك أنه إذا اعتبر مذهب السلف في الاستعارة يكون [ ابلعي ] استعارة تصريحية ومع ذلك يكون بحسب اللفظ قرينة للاستعارة بالكناية في الماء على حد ما قالوا في ﴿ ينقضون عهد الله ﴾ وأما إذا اعتبر مذهبه فينبغي أن يكون البلع باقيا على حقيقته كالإنبات في : أنبت الربيع البقل. وهو بعيد، أو يجعل مستعارا لأمر متوهم كما في : نطقت الحال فيلزمه القول بالاستعارة التبعية كما هو المشهور.
ثم إنه تعالى أمر على سبيل الاستعارة للتشبيه الثاني وخاطب في الأمر تشريحا لاستعارة النداء، والحاصل أن في لفظ [ ابلعي ] باعتبار جوهرة استعارة لغئور الماء وباعتبار صورته أعني كونه صورة أمر استعارة أخرى لتكوين المراد، وباعتبار كونه أمر خطاب ترشيح للاستعارة المكنية التي في المنادى، فإن قرينتها النداء وما زاد على قرينة المكنية يكون ترشيحا لها. وأما جعل النداء استعارة تصريحية تبعية حتى يكون خطاب الآمر ترشيحا لها فقد عرفت ما فيه.
ثم قال جل وعلا [ ماءك ] بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز تشبيها لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالملك، واختار ضمير الخطاب لأجل التشريح وحاصله أن هناك مجازا لغويا في الهيئة الإضافية الدالة على الاختصاص الملكي، ولهذا جعل الخطاب ترشيحا لهذه الاستعارة من حيث إن الخطاب يدل على صلوح الأرض للمالكية، فما قيل إن المجاز عقلي والعبارة مصروفة عن الظاهر ليس بشيء.
ثم اختار لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان من المطر أو الفعل، ففي [ أقلعي ] استعارة باعتبار جوهره وكذا باعتبار صيغته أيضا وهي مبنية على تشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافد، والخطاب فيه أيضا ترشيح لاستعارة النداء، والحاصل أن الكلام فيه مثل ما مر في [ ابلعي ].
" ثم قال سبحا

﴿ أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا بريء مما تجرمون ( ٣٥ ) ﴾
اختلف المفسرون في هذه الآية فقال مقاتل وغيره : هي معترضة في قصة نوح حكاية لقول مشركي مكة في تكذيب هذه القصص الذي تقدم الرد عليه في الآية الثالثة عشرة من هذه السورة. وقال الجمهور : إنها من قصة نوح لا مقتضى لاعتراضتها في وسطها، وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنه، وفيه أن مثل هذه الجمل الاعتراضية معهود في القرآن كآيتي الوصية بالوالدين في أثناء موعظة لقمان لابنه بعد نهيه عن الشرك من سورته وهما ﴿ ووصينا الإنسان بوالديه ﴾ [ لقمان : ١٤ ] إلى آخر الآية ١٥ وبعدها ﴿ يا بني إنها إن تك مثقال حبة ﴾ [ لقمان : ١٦ ] الخ وكذلك الآيات ٥٣-٥٦ من سورة طه [ ٢٠ ] قالوا : إنها معترضة في المحاورة بين موسى عليه السلام وفرعون عليه اللعنة.
وللجمل والآيات المعترضة في القرآن حكم وفوائد يقتضيها تلوين الخطاب لتنبيه الأذهان، ومنع السآمة وتجديد النشاط في الانتقال، والتشويق إلى سماع بقية الكلام، فمن المتوقع هنا أن يخطر في بال المشركين عند سماع ما تقدم من هذه القصة أنها مفتراة كما زعموا لاستغرابهم هذا السبك في الجدال والقوة في الاحتجاج، وأن يصدهم هذا عن استماع بقيتها، فيكون إيراد هذه الآية تجديدا للرد عليهم ولنشاطهم، وأعظم بوقعها في قلوبهم إذا كان هذا الخاطر عرض لهم عند سماع ما تقدم من القصة، فما قاله مقاتل له وجه وجيه من وجهة الأسلوب الخاص بالقرآن، وهو أقرب إلى تعبيرها عن الإنكار بيقولون وعن الرد عليهم بقل الدالين على الحال، وأبعد عن سياق حكى كله بفعل الماضي من الجانبين [ قالوا.. قال ] وهو سياق قصة نوح عليه السلام، ولكنه ليس قطعيا في الأول وإنما هو الأرجح عندي وعليه ابن جرير ومقابله ضعيف وهو لجمهور المفسرين.
﴿ أم يقولون افتراه ﴾ أي أم يقول مشركو مكة إن محمدا صلى الله عليه وسلم قد افترى هذا الذي يحكيه من قصة نوح، أو أيقول قوم نوح إنه افترى هذا الذي وعدنا به من العذاب ﴿ قل إن افتريته فعلي إجرامي ﴾ أي إن كنت افتريته على الله عز وجل فرضا فهو إجرام عظيم علي إثمه وعقابه من دونكم [ إذ الإجرام الفعل القبيح الضار الذي يستحق فاعله العقاب، من الجرم الذي هو قطع الثمر قبل بدو صلاحه الذي يجعله منتفعا به كما سبق في آيات أخرى ] ومن كان يؤمن أن هذا إجرام يعاقب عليه فما الذي يحمل على اقترافه ﴿ وأنا بريء مما تجرمون ﴾ لأن حكم الله العدل أن يجزي كل امرئ بفعله ﴿ لا تزر وازرة وزر أخرى ﴾ [ الأنعام : ١٦٤ ] ﴿ ولها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ﴾ [ البقرة : ٢٨٦ ] وتقدم هذا المعنى بما هو أعم مما هنا وهو ﴿ وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون ﴾ [ يونس : ٤١ ] وقد أثبت عليهم الإجرام هنا ومنه أو أشده تكذيبه ووصفه بالافتراء على الله عز وجل، وهذا الأسلوب من الجدال بالتي هي أحسن يستخفه السمع، ويقبله الطمع.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:علاوات لتفسير قصة نوح عليه السلام
العلاوة الأولى : البلاغة الفنية في الآية ٤٣
سبق لنا أن قلنا في الكلام على إعجاز القرآن ببلاغته ومذهب المتكلمين وأدباء الفنون في التحدي به : إن هذا النوع من الإعجاز يقل من يفقهه في هذا العصر لفقد أهله ملكتي البلاغة الذوقية السليقية والبيانية الفنية بله الجمع بينهما، وهو ضروري لإدراك هذا النوع من الإعجاز، وإن من يفقهه ويدرك عدم استطاعة أحد أن يأتي بسورة مثله قد يخفى عليه وجه دلالته على أنه لا بد أن يكون وحيا من الله تعالى وحجة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولذلك جزموا بوقوع العجز واختلفوا في وجه الدلالة، فمثلهم كمثل حداق الفنانين في الوشي والتطريز إذا رأوا صنع قدماء الهنود من أهل لاهور وكشمير وأقروا بالعجز عن محاكاته، والمصورين إذا رأوا أدق صور رفائيل في تصوير الإنسان بأدق مناظر أعضائه وشمائله وملامح صفاته النفسية وإمارات انفعالاته ولا سيما المتقاربة كالخوف والفزع والحزن والغم والغضب ونظر الإقرار ونظر الإنكار ونظر الشهوة ونظر العطف ونظر الرحمة ونظر الإعجاب والعجب ونظر المتفكر والمتحير، فقد يقرون بعجزهم عن محاكاتها ولكنهم لا يقولون بعدم إمكانها، بل يقولون بإمكانها وبقرب وقوعها بالفعل إذا وجدت الداعية القوية كمنفعة مالية كبيرة أو مصلحة قومية أو دولية عظيمة.
ومن المعلوم من تاريخ النبي صلى الله عليه وسلم مع فصحاء قريش وغيرهم أنه حدثت لهم أعظم الدواعي والمصالح المعارضة للقرآن بعد تحديثهم بسورة مثله مطلقا والتحدي بعشر سور في المكرر ولو مفترى، فأيقنوا بعجزهم عن الإتيان بها وبهن، ولو ظاهرهم عليه جميع الإنس عن كثرة بلغائهم وفصحائهم، والجن الذين يعتقدون أن منهم هواجس تلقنهم الشعر من حيث لا يرونهم، وكذا آلهتهم القادرون بخصائصهم الغيبية أو بمكانتهم عند الله تعالى على كل ما يريدون في هذا العالم بزعمهم، قد عجزوا مع هذا كله واضطروا إلى مقاومة النبي بالقتال، وما أعقبهم من خسارة المال، وسبي النساء والأطفال، ثم ما هو أشد عليهم وهو احتمال الذل والنكال، وروي أن كبراءهم زعموا على التعاون على المعارضة واستعدوا لها فسمعوا هذه الآية [ وقيل يا أرض ] فتضاءلت قواهم واستخذت أنفسهم ورجعوا عن عزمهم، كما يأتي قريبا.
عرف بلغاء قريش من بلاغة هذه الآية الروحية الكامنة في فصاحتها اللفظية الظاهرة وغيرها ما لم يعرفه بلغاء الفنون بعدهم منها، فكان هؤلاء أعلم بما للحسن والجمال الصوري في الكلام من المقاييس الفلسفية والموازين الفنية ودرجات الراجح على المرجوح. وكان أولئك أدق شعورا بما لهذا الحسن والجمال من السلطان على القلوب والحكم على العقول. مثال ذلك أن للجمال البدني في حسان النساء مقاييس وموازين لتناسب الأعضاء بعضها مع بعض يمكن ضبطها والعدل في الحكم بينها. وأما الجمال المعنوي وهو خفة الروح وسلطان التأثير في القلوب، فليس له مقياس، ولا ميزان عشري يضبط به وزنه أو مساحته فيعرف الراجح من المرجوح، وإنما يعرف هذا الجمال الأعلى بملكة نفسية، لا بأوزان صناعية، كما قال أبو الطيب في الخيل :
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها وأعضائها فالحسن عنك مغيب١
وإنما أحدث القرآن في الأمة العربية ما أحدث من الثورة الدينية والاجتماعية والانقلاب العالمي بالنوع الثاني من إدراك بلاغته لا الأول، وكل منها كامل من بابه، كما بينا ذلك في موضعه من عهد قريب، وإن كثرة البحث في الثاني ليشغل المفسر والمتدبر عن الأول الخاص منه بالهداية وإصلاح النفس وتزكيتها، ولهذا نقتصر منه في تفسيرنا على ما قصر فيه المفسرون باختصار لا يشغل عن الهداية المقصودة بالذات، وقد نجعله من باب الاستطراد بعد بيان معنى الآية أو الآيات، ولهذا جعلت ما أحببت بيانه في بلاغة هذه الآية الفنية علاوة من هذه العلاوات، وقد أطال العلماء الأخصائيون فيها حتى أفردها بعضهم بمصنفات خاصة، وتكلم صاحب [ الطراز في علوم الإعجاز ] عليها في ٢٥ صفحة، ولعله أحسنهم فيها كلاما، وإن كان السكاكي هو السابق إليه وكلهم فيه عيال عليه، وذكر بعض المفسرين جملا مختصرة أو وسطا منه أنقل منها هنا ما لخصه السيد الآلوسي في روح المعاني من كلام السكاكي وغيره بتصرف كعادته قال :
واعلم أن هذه الآية الكريمة قد بلغت من مراتب الإعجاز أقاصيها، واستدلت مصاقع العرب فسفعت بنواصيها، وجمعت من المحاسن ما يضيق عنه نطاق البيان، وكانت من سمهري البلاغة مكان السنان.
يروى أن كفار قريش قصدوا أن يعارضوا القرآن فعكفوا على لباب البر ولحوم الضأن وسلاف الخمر أربعين يوما لتصفوا أذهانهم، فلما أخذوا فيما قصدوه وسمعوا هذه الآية قال بعضهم لبعض : هذا الكلام لا يشبه كلام المخلوقين، فتركوا ما أخذوا فيه وتفرقوا. ويروى أيضا أن ابن المقفع وكان –كما في القاموس- فصيحا بليغا، بل قيل إنه أفصح أهل وقته- رام أن يعارض القرآن فنظم كلاما وجعله مفصلا وسماه سورا، فاجتاز يوما بصبي يقرؤها في مكتب فرجع ومحا ما عمل، وقال أشهد أن هذا لا يعارض أبدا وما هو من كلام البشر. ولا يخفى أن هذا لا يستدعي أن لا يكون سائر آيات القرآن العظيم معجزا لما أن حد الإعجاز هو المرتبة التي يعجز البشر عن الإتيان بمثلها ولا تدخل على قدرته قطعا وهي تشتمل على شيئين : الأول الطرف الأعلى من البلاغة أعني ما ينتهي إليه البلاغة ولا يتصور تجاوزها إياه، والثاني ما يقرب من ذلك الطرف أعني المراتب العلمية التي تتقاصر القوى البشرية عنها أيضا.
ومعنى إعجاز آيات الكتاب المجيد بأسرها هو كونها مما تتقاصر القوى البشرية عن الإتيان بمثلها سواء كانت من القسم الأول أو الثاني فلا يضر تفاوتها في البلاغة، وهو الذي قاله علماء هذا الشأن.
وقد فصل بعض مزايا هذه الآية المهرة المتقنون، وتركوا من ذلك ما لا يكاد يصفه الواصفون، ولا بأس بذكر شيء مما ذكر إفادة لجاهل، وتذكيرا لفاضل غافل، فنقول :
جهات بلاغة الآية الأربع : أولها جهة علم البيان
ذكر العلامة السكاكي أن النظر فيها من أربع جهات : من جهة علم البيان، ومن جهة علم المعاني وهما مرجعا البلاغة. ومن جهة الفصاحة المعنوية، ومن جهة الفصاحة اللفظية : أما النظر فيها من جهة علم البيان وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بذلك من القرينة والترشيح والتعريض، فهو أنه عز سلطانه لما أراد أن يبين معنى : أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد، وأن نقطع طوفان المساء فانقطع، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض، وأن نقضي أمر نوح عليه السلام وهو إنجاز ما كنا وعدناه من إغراق قومه فقضى، وأن نسوي السفينة على الجودي فاستوت، وأبقينا الظلمة غرقى – بنى سبحانه الكلام على تشبيه المراد منه بالمأمور الذي لا يتأتى منه –لكما هيبته من الآمر- العصيان، وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكون المقصود تصويرا لاقتداره سبحانه العظيم، وأن هذه الأجرام العظيمة من السماوات والأرض تابعة لإرادته تعالى إيجادا وإعداما، ولمشيئته فيها تغييرا وتبديلا، كأنها عقلاء مميزون قد عرفوه جل شأنه حق معرفته، وأحاطوا علما بوجوب الانقياد لأمره، والإذعان لحكمه، ويحتم بذل المجهود عليهم في تحصيل مراده، وتصوروا مزيد اقتداره، فعظمت مهابته في نفوسهم، وضربت سرادقها في أفنية ضمائرهم، فكما يلوح لهم إشارته سبحانه كان المشار إليه مقدما، وكما يرد عليهم أمره تعالى شأنه كان المأمور به متمما، لا تلقي لإشارته بغير الإمضاء والانقياد، ولا لأمره بغير الإذعان والامتثال.
" ثم بنى على مجموع التشبيهين نظم الكلام فقال جل وعلا قيل : على سبيل المجاز عن الإرادة من باب ذكر المسبب وإرادة السبب، لأن الإرادة تكون سببا لوقوع القول في الجملة، وجعل قرينة هذا المجاز خطاب الجماد وهو [ يا أرض- ويا سماء ] إذ يصح أن يراد حصول شيء متعلق بالجماد ولا يصح القول له. ثم قال سبحانه كما ترى [ يا أرض، ويا سماء ] مخاطبا لهما على سبيل الاستعارة للشبه المذكور، والظاهر أنه أراد أن هناك استعارة بالكناية حيث ذكر المشبه أعني السماء والأرض المراد منهما حصول أمر وأريد المشبه به أعني المأمور الموصوف بأنه لا يتأتى منه العصيان ادعاء بقرينة نسبة الخطاب إليه، ودخول حرف النداء عليه، وهما من خواص المأمور المطيع ويكون هذا تخييلا. وقد يقال : أراد أن الاستعارة ههنا تصريحية تبعية في حرف النداء بناء على تشبيه تعلق الإرادة بالمراد منه بتعلق النداء والخطاب بالمنادي المخاطب، وليس بشيء إذ لا يحسن هذا التشبيه ابتداء بل تبعا للتشبيه الأول فكيف يجعل أصلا لمتبوعه ؟ على أن قوله للشبه المذكور يدفع هذا الحمل.
ثم استعار لغئور الماء في الأرض [ البلع ] الذي هو إعمال الجاذبة في المطعوم للشبه بينهما وهو الذهاب إلى مقر خفي. وفي الكشاف : جعل البلع مستعارا لنشف الأرض الماء وهو أولى فإن النشف دال على جذب من إجزاء الأرض لما عليها كالبلع بالنسبة إلى الحيوان، ولأن النشف فعل الأرض والغثور فعل الماء مع الطباق بين الفعلين تعديا. ثم استعار الماء للغذاء استعارة بالكناية تشبيها له بالغذاء لتقوي الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار تقوي الآكل بالطعام وجعل قرينة الاستعارة لفظة [ ابلعي ] لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء.
ولا يخفى عليك أنه إذا اعتبر مذهب السلف في الاستعارة يكون [ ابلعي ] استعارة تصريحية ومع ذلك يكون بحسب اللفظ قرينة للاستعارة بالكناية في الماء على حد ما قالوا في ﴿ ينقضون عهد الله ﴾ وأما إذا اعتبر مذهبه فينبغي أن يكون البلع باقيا على حقيقته كالإنبات في : أنبت الربيع البقل. وهو بعيد، أو يجعل مستعارا لأمر متوهم كما في : نطقت الحال فيلزمه القول بالاستعارة التبعية كما هو المشهور.
ثم إنه تعالى أمر على سبيل الاستعارة للتشبيه الثاني وخاطب في الأمر تشريحا لاستعارة النداء، والحاصل أن في لفظ [ ابلعي ] باعتبار جوهرة استعارة لغئور الماء وباعتبار صورته أعني كونه صورة أمر استعارة أخرى لتكوين المراد، وباعتبار كونه أمر خطاب ترشيح للاستعارة المكنية التي في المنادى، فإن قرينتها النداء وما زاد على قرينة المكنية يكون ترشيحا لها. وأما جعل النداء استعارة تصريحية تبعية حتى يكون خطاب الآمر ترشيحا لها فقد عرفت ما فيه.
ثم قال جل وعلا [ ماءك ] بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز تشبيها لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالملك، واختار ضمير الخطاب لأجل التشريح وحاصله أن هناك مجازا لغويا في الهيئة الإضافية الدالة على الاختصاص الملكي، ولهذا جعل الخطاب ترشيحا لهذه الاستعارة من حيث إن الخطاب يدل على صلوح الأرض للمالكية، فما قيل إن المجاز عقلي والعبارة مصروفة عن الظاهر ليس بشيء.
ثم اختار لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان من المطر أو الفعل، ففي [ أقلعي ] استعارة باعتبار جوهره وكذا باعتبار صيغته أيضا وهي مبنية على تشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافد، والخطاب فيه أيضا ترشيح لاستعارة النداء، والحاصل أن الكلام فيه مثل ما مر في [ ابلعي ].
" ثم قال سبحا

﴿ وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون ( ٣٦ ) واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ( ٣٧ ) ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون ( ٣٨ ) فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم ( ٣٩ ) ﴾
هذه الآيات هي الحكم الفصل في قوم نوح المشركين ويليها بيان تنفيذه.
﴿ وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن ﴾ أي أوحى الله تعالى إليه ما أيأسه من إيمان أحد من قومه بعد الآن غير من قد آمن من قبل منهم فهم ثابتون على إيمانهم دائمون عليه ﴿ فلا تبتئس بما كانوا يفعلون ﴾ أي فلا يشتدن عليك البؤس والحزن واحتمال المكاره بعد اليوم بما كانوا يفعلون في السنين الطوال من تكذيبهم وعنادهم وإيذائهم لك ولمن آمن لك، إن كنت تعرض له وتستهدف لسهامه رجاء في إيمانهم واهتدائهم، فأرح نفسك بعد الآن من جدالهم وسماع أقوالهم ومن إعراضهم واحتقارهم، فقد آن زمن الانتقام منهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:علاوات لتفسير قصة نوح عليه السلام
العلاوة الأولى : البلاغة الفنية في الآية ٤٣
سبق لنا أن قلنا في الكلام على إعجاز القرآن ببلاغته ومذهب المتكلمين وأدباء الفنون في التحدي به : إن هذا النوع من الإعجاز يقل من يفقهه في هذا العصر لفقد أهله ملكتي البلاغة الذوقية السليقية والبيانية الفنية بله الجمع بينهما، وهو ضروري لإدراك هذا النوع من الإعجاز، وإن من يفقهه ويدرك عدم استطاعة أحد أن يأتي بسورة مثله قد يخفى عليه وجه دلالته على أنه لا بد أن يكون وحيا من الله تعالى وحجة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولذلك جزموا بوقوع العجز واختلفوا في وجه الدلالة، فمثلهم كمثل حداق الفنانين في الوشي والتطريز إذا رأوا صنع قدماء الهنود من أهل لاهور وكشمير وأقروا بالعجز عن محاكاته، والمصورين إذا رأوا أدق صور رفائيل في تصوير الإنسان بأدق مناظر أعضائه وشمائله وملامح صفاته النفسية وإمارات انفعالاته ولا سيما المتقاربة كالخوف والفزع والحزن والغم والغضب ونظر الإقرار ونظر الإنكار ونظر الشهوة ونظر العطف ونظر الرحمة ونظر الإعجاب والعجب ونظر المتفكر والمتحير، فقد يقرون بعجزهم عن محاكاتها ولكنهم لا يقولون بعدم إمكانها، بل يقولون بإمكانها وبقرب وقوعها بالفعل إذا وجدت الداعية القوية كمنفعة مالية كبيرة أو مصلحة قومية أو دولية عظيمة.
ومن المعلوم من تاريخ النبي صلى الله عليه وسلم مع فصحاء قريش وغيرهم أنه حدثت لهم أعظم الدواعي والمصالح المعارضة للقرآن بعد تحديثهم بسورة مثله مطلقا والتحدي بعشر سور في المكرر ولو مفترى، فأيقنوا بعجزهم عن الإتيان بها وبهن، ولو ظاهرهم عليه جميع الإنس عن كثرة بلغائهم وفصحائهم، والجن الذين يعتقدون أن منهم هواجس تلقنهم الشعر من حيث لا يرونهم، وكذا آلهتهم القادرون بخصائصهم الغيبية أو بمكانتهم عند الله تعالى على كل ما يريدون في هذا العالم بزعمهم، قد عجزوا مع هذا كله واضطروا إلى مقاومة النبي بالقتال، وما أعقبهم من خسارة المال، وسبي النساء والأطفال، ثم ما هو أشد عليهم وهو احتمال الذل والنكال، وروي أن كبراءهم زعموا على التعاون على المعارضة واستعدوا لها فسمعوا هذه الآية [ وقيل يا أرض ] فتضاءلت قواهم واستخذت أنفسهم ورجعوا عن عزمهم، كما يأتي قريبا.
عرف بلغاء قريش من بلاغة هذه الآية الروحية الكامنة في فصاحتها اللفظية الظاهرة وغيرها ما لم يعرفه بلغاء الفنون بعدهم منها، فكان هؤلاء أعلم بما للحسن والجمال الصوري في الكلام من المقاييس الفلسفية والموازين الفنية ودرجات الراجح على المرجوح. وكان أولئك أدق شعورا بما لهذا الحسن والجمال من السلطان على القلوب والحكم على العقول. مثال ذلك أن للجمال البدني في حسان النساء مقاييس وموازين لتناسب الأعضاء بعضها مع بعض يمكن ضبطها والعدل في الحكم بينها. وأما الجمال المعنوي وهو خفة الروح وسلطان التأثير في القلوب، فليس له مقياس، ولا ميزان عشري يضبط به وزنه أو مساحته فيعرف الراجح من المرجوح، وإنما يعرف هذا الجمال الأعلى بملكة نفسية، لا بأوزان صناعية، كما قال أبو الطيب في الخيل :
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها وأعضائها فالحسن عنك مغيب١
وإنما أحدث القرآن في الأمة العربية ما أحدث من الثورة الدينية والاجتماعية والانقلاب العالمي بالنوع الثاني من إدراك بلاغته لا الأول، وكل منها كامل من بابه، كما بينا ذلك في موضعه من عهد قريب، وإن كثرة البحث في الثاني ليشغل المفسر والمتدبر عن الأول الخاص منه بالهداية وإصلاح النفس وتزكيتها، ولهذا نقتصر منه في تفسيرنا على ما قصر فيه المفسرون باختصار لا يشغل عن الهداية المقصودة بالذات، وقد نجعله من باب الاستطراد بعد بيان معنى الآية أو الآيات، ولهذا جعلت ما أحببت بيانه في بلاغة هذه الآية الفنية علاوة من هذه العلاوات، وقد أطال العلماء الأخصائيون فيها حتى أفردها بعضهم بمصنفات خاصة، وتكلم صاحب [ الطراز في علوم الإعجاز ] عليها في ٢٥ صفحة، ولعله أحسنهم فيها كلاما، وإن كان السكاكي هو السابق إليه وكلهم فيه عيال عليه، وذكر بعض المفسرين جملا مختصرة أو وسطا منه أنقل منها هنا ما لخصه السيد الآلوسي في روح المعاني من كلام السكاكي وغيره بتصرف كعادته قال :
واعلم أن هذه الآية الكريمة قد بلغت من مراتب الإعجاز أقاصيها، واستدلت مصاقع العرب فسفعت بنواصيها، وجمعت من المحاسن ما يضيق عنه نطاق البيان، وكانت من سمهري البلاغة مكان السنان.
يروى أن كفار قريش قصدوا أن يعارضوا القرآن فعكفوا على لباب البر ولحوم الضأن وسلاف الخمر أربعين يوما لتصفوا أذهانهم، فلما أخذوا فيما قصدوه وسمعوا هذه الآية قال بعضهم لبعض : هذا الكلام لا يشبه كلام المخلوقين، فتركوا ما أخذوا فيه وتفرقوا. ويروى أيضا أن ابن المقفع وكان –كما في القاموس- فصيحا بليغا، بل قيل إنه أفصح أهل وقته- رام أن يعارض القرآن فنظم كلاما وجعله مفصلا وسماه سورا، فاجتاز يوما بصبي يقرؤها في مكتب فرجع ومحا ما عمل، وقال أشهد أن هذا لا يعارض أبدا وما هو من كلام البشر. ولا يخفى أن هذا لا يستدعي أن لا يكون سائر آيات القرآن العظيم معجزا لما أن حد الإعجاز هو المرتبة التي يعجز البشر عن الإتيان بمثلها ولا تدخل على قدرته قطعا وهي تشتمل على شيئين : الأول الطرف الأعلى من البلاغة أعني ما ينتهي إليه البلاغة ولا يتصور تجاوزها إياه، والثاني ما يقرب من ذلك الطرف أعني المراتب العلمية التي تتقاصر القوى البشرية عنها أيضا.
ومعنى إعجاز آيات الكتاب المجيد بأسرها هو كونها مما تتقاصر القوى البشرية عن الإتيان بمثلها سواء كانت من القسم الأول أو الثاني فلا يضر تفاوتها في البلاغة، وهو الذي قاله علماء هذا الشأن.
وقد فصل بعض مزايا هذه الآية المهرة المتقنون، وتركوا من ذلك ما لا يكاد يصفه الواصفون، ولا بأس بذكر شيء مما ذكر إفادة لجاهل، وتذكيرا لفاضل غافل، فنقول :
جهات بلاغة الآية الأربع : أولها جهة علم البيان
ذكر العلامة السكاكي أن النظر فيها من أربع جهات : من جهة علم البيان، ومن جهة علم المعاني وهما مرجعا البلاغة. ومن جهة الفصاحة المعنوية، ومن جهة الفصاحة اللفظية : أما النظر فيها من جهة علم البيان وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بذلك من القرينة والترشيح والتعريض، فهو أنه عز سلطانه لما أراد أن يبين معنى : أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد، وأن نقطع طوفان المساء فانقطع، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض، وأن نقضي أمر نوح عليه السلام وهو إنجاز ما كنا وعدناه من إغراق قومه فقضى، وأن نسوي السفينة على الجودي فاستوت، وأبقينا الظلمة غرقى – بنى سبحانه الكلام على تشبيه المراد منه بالمأمور الذي لا يتأتى منه –لكما هيبته من الآمر- العصيان، وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكون المقصود تصويرا لاقتداره سبحانه العظيم، وأن هذه الأجرام العظيمة من السماوات والأرض تابعة لإرادته تعالى إيجادا وإعداما، ولمشيئته فيها تغييرا وتبديلا، كأنها عقلاء مميزون قد عرفوه جل شأنه حق معرفته، وأحاطوا علما بوجوب الانقياد لأمره، والإذعان لحكمه، ويحتم بذل المجهود عليهم في تحصيل مراده، وتصوروا مزيد اقتداره، فعظمت مهابته في نفوسهم، وضربت سرادقها في أفنية ضمائرهم، فكما يلوح لهم إشارته سبحانه كان المشار إليه مقدما، وكما يرد عليهم أمره تعالى شأنه كان المأمور به متمما، لا تلقي لإشارته بغير الإمضاء والانقياد، ولا لأمره بغير الإذعان والامتثال.
" ثم بنى على مجموع التشبيهين نظم الكلام فقال جل وعلا قيل : على سبيل المجاز عن الإرادة من باب ذكر المسبب وإرادة السبب، لأن الإرادة تكون سببا لوقوع القول في الجملة، وجعل قرينة هذا المجاز خطاب الجماد وهو [ يا أرض- ويا سماء ] إذ يصح أن يراد حصول شيء متعلق بالجماد ولا يصح القول له. ثم قال سبحانه كما ترى [ يا أرض، ويا سماء ] مخاطبا لهما على سبيل الاستعارة للشبه المذكور، والظاهر أنه أراد أن هناك استعارة بالكناية حيث ذكر المشبه أعني السماء والأرض المراد منهما حصول أمر وأريد المشبه به أعني المأمور الموصوف بأنه لا يتأتى منه العصيان ادعاء بقرينة نسبة الخطاب إليه، ودخول حرف النداء عليه، وهما من خواص المأمور المطيع ويكون هذا تخييلا. وقد يقال : أراد أن الاستعارة ههنا تصريحية تبعية في حرف النداء بناء على تشبيه تعلق الإرادة بالمراد منه بتعلق النداء والخطاب بالمنادي المخاطب، وليس بشيء إذ لا يحسن هذا التشبيه ابتداء بل تبعا للتشبيه الأول فكيف يجعل أصلا لمتبوعه ؟ على أن قوله للشبه المذكور يدفع هذا الحمل.
ثم استعار لغئور الماء في الأرض [ البلع ] الذي هو إعمال الجاذبة في المطعوم للشبه بينهما وهو الذهاب إلى مقر خفي. وفي الكشاف : جعل البلع مستعارا لنشف الأرض الماء وهو أولى فإن النشف دال على جذب من إجزاء الأرض لما عليها كالبلع بالنسبة إلى الحيوان، ولأن النشف فعل الأرض والغثور فعل الماء مع الطباق بين الفعلين تعديا. ثم استعار الماء للغذاء استعارة بالكناية تشبيها له بالغذاء لتقوي الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار تقوي الآكل بالطعام وجعل قرينة الاستعارة لفظة [ ابلعي ] لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء.
ولا يخفى عليك أنه إذا اعتبر مذهب السلف في الاستعارة يكون [ ابلعي ] استعارة تصريحية ومع ذلك يكون بحسب اللفظ قرينة للاستعارة بالكناية في الماء على حد ما قالوا في ﴿ ينقضون عهد الله ﴾ وأما إذا اعتبر مذهبه فينبغي أن يكون البلع باقيا على حقيقته كالإنبات في : أنبت الربيع البقل. وهو بعيد، أو يجعل مستعارا لأمر متوهم كما في : نطقت الحال فيلزمه القول بالاستعارة التبعية كما هو المشهور.
ثم إنه تعالى أمر على سبيل الاستعارة للتشبيه الثاني وخاطب في الأمر تشريحا لاستعارة النداء، والحاصل أن في لفظ [ ابلعي ] باعتبار جوهرة استعارة لغئور الماء وباعتبار صورته أعني كونه صورة أمر استعارة أخرى لتكوين المراد، وباعتبار كونه أمر خطاب ترشيح للاستعارة المكنية التي في المنادى، فإن قرينتها النداء وما زاد على قرينة المكنية يكون ترشيحا لها. وأما جعل النداء استعارة تصريحية تبعية حتى يكون خطاب الآمر ترشيحا لها فقد عرفت ما فيه.
ثم قال جل وعلا [ ماءك ] بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز تشبيها لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالملك، واختار ضمير الخطاب لأجل التشريح وحاصله أن هناك مجازا لغويا في الهيئة الإضافية الدالة على الاختصاص الملكي، ولهذا جعل الخطاب ترشيحا لهذه الاستعارة من حيث إن الخطاب يدل على صلوح الأرض للمالكية، فما قيل إن المجاز عقلي والعبارة مصروفة عن الظاهر ليس بشيء.
ثم اختار لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان من المطر أو الفعل، ففي [ أقلعي ] استعارة باعتبار جوهره وكذا باعتبار صيغته أيضا وهي مبنية على تشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافد، والخطاب فيه أيضا ترشيح لاستعارة النداء، والحاصل أن الكلام فيه مثل ما مر في [ ابلعي ].
" ثم قال سبحا

﴿ وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون ( ٣٦ ) واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ( ٣٧ ) ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون ( ٣٨ ) فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم ( ٣٩ ) ﴾
هذه الآيات هي الحكم الفصل في قوم نوح المشركين ويليها بيان تنفيذه.
﴿ واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ﴾ الفلك السفينة يطلق على المفرد والجمع والظاهر من تعريفه هنا أن الله تعالى كان أخبره خبره. أي واصنع الفلك الذي سننجيك ومن آمن معك فيه حال كونك ملحوظا ومراقبا بأعيننا من كل ناحية، وما يلزمه من حفظنا في كل آن وحالة، فلا يمنعك منه مانع، وملهما أو معلما بوحينا لك كيف نصنعه، فلا يعرض لك في صفته خطأ، وجمع الأعين هنا لإفادة شدة العناية بالمراقبة والحفظ، وإن قال مجاهد : أي بعيني ووحيي فإن العرب تعبر برؤية العين الواحدة عن العناية وبالأعين عن المبالغة فيها. قال تعالى لموسى عليه السلام ﴿ ولتصنع على عيني ﴾ [ طه : ٣٩ ] وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم ﴿ واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا ﴾ [ الطور : ٤٨ ] وفي الأساس تقول لمن بعثته واستعجلته " بعين ما أرينك " أي لأتلو على شيء فكأني أنظر إليك اه. وقال الشاعر :
وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالمخاوف كلهن أمان
وهذا التفسير هو الظاهر بل المتبادر من هذا التعبير، وليس تأويلا صرف به عن الظاهر لإيهامه التشبيه، فإنما مرادهم بالتأويل حمل اللفظ على المعنى المرجوح من معنييه أو معانيه لمانع من حمله على المعنى الراجح، وهو لا ينحصر في الحقيقة اللغوية.
﴿ ولا تخاطبني في الذين ظلموا ﴾ أي لا تراجعني في أمرهم بشيء من طلب الرحمة بهم ودفع العذاب عنهم ﴿ إنهم مغرقون ﴾ أي حقت عليهم كلمة العذاب وقضى عليهم القضاء الحتم بالإغراق، فلا تأخذك بهم رأفة ولا إشفاق، وقيل معناه : ولا تخاطبني بعد في استعجال تعذيبهم وتكرار الدعاء عليهم، ويرجح هذا إذا كان الدعاء بعد إعلامه تعالى إياه بهذا الحكم فقد حكى عنه في آخر سورته ﴿ وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تبارا ﴾ [ نوح : ٢٦ -٢٨ ] أي هلاكا.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:علاوات لتفسير قصة نوح عليه السلام
العلاوة الأولى : البلاغة الفنية في الآية ٤٣
سبق لنا أن قلنا في الكلام على إعجاز القرآن ببلاغته ومذهب المتكلمين وأدباء الفنون في التحدي به : إن هذا النوع من الإعجاز يقل من يفقهه في هذا العصر لفقد أهله ملكتي البلاغة الذوقية السليقية والبيانية الفنية بله الجمع بينهما، وهو ضروري لإدراك هذا النوع من الإعجاز، وإن من يفقهه ويدرك عدم استطاعة أحد أن يأتي بسورة مثله قد يخفى عليه وجه دلالته على أنه لا بد أن يكون وحيا من الله تعالى وحجة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولذلك جزموا بوقوع العجز واختلفوا في وجه الدلالة، فمثلهم كمثل حداق الفنانين في الوشي والتطريز إذا رأوا صنع قدماء الهنود من أهل لاهور وكشمير وأقروا بالعجز عن محاكاته، والمصورين إذا رأوا أدق صور رفائيل في تصوير الإنسان بأدق مناظر أعضائه وشمائله وملامح صفاته النفسية وإمارات انفعالاته ولا سيما المتقاربة كالخوف والفزع والحزن والغم والغضب ونظر الإقرار ونظر الإنكار ونظر الشهوة ونظر العطف ونظر الرحمة ونظر الإعجاب والعجب ونظر المتفكر والمتحير، فقد يقرون بعجزهم عن محاكاتها ولكنهم لا يقولون بعدم إمكانها، بل يقولون بإمكانها وبقرب وقوعها بالفعل إذا وجدت الداعية القوية كمنفعة مالية كبيرة أو مصلحة قومية أو دولية عظيمة.
ومن المعلوم من تاريخ النبي صلى الله عليه وسلم مع فصحاء قريش وغيرهم أنه حدثت لهم أعظم الدواعي والمصالح المعارضة للقرآن بعد تحديثهم بسورة مثله مطلقا والتحدي بعشر سور في المكرر ولو مفترى، فأيقنوا بعجزهم عن الإتيان بها وبهن، ولو ظاهرهم عليه جميع الإنس عن كثرة بلغائهم وفصحائهم، والجن الذين يعتقدون أن منهم هواجس تلقنهم الشعر من حيث لا يرونهم، وكذا آلهتهم القادرون بخصائصهم الغيبية أو بمكانتهم عند الله تعالى على كل ما يريدون في هذا العالم بزعمهم، قد عجزوا مع هذا كله واضطروا إلى مقاومة النبي بالقتال، وما أعقبهم من خسارة المال، وسبي النساء والأطفال، ثم ما هو أشد عليهم وهو احتمال الذل والنكال، وروي أن كبراءهم زعموا على التعاون على المعارضة واستعدوا لها فسمعوا هذه الآية [ وقيل يا أرض ] فتضاءلت قواهم واستخذت أنفسهم ورجعوا عن عزمهم، كما يأتي قريبا.
عرف بلغاء قريش من بلاغة هذه الآية الروحية الكامنة في فصاحتها اللفظية الظاهرة وغيرها ما لم يعرفه بلغاء الفنون بعدهم منها، فكان هؤلاء أعلم بما للحسن والجمال الصوري في الكلام من المقاييس الفلسفية والموازين الفنية ودرجات الراجح على المرجوح. وكان أولئك أدق شعورا بما لهذا الحسن والجمال من السلطان على القلوب والحكم على العقول. مثال ذلك أن للجمال البدني في حسان النساء مقاييس وموازين لتناسب الأعضاء بعضها مع بعض يمكن ضبطها والعدل في الحكم بينها. وأما الجمال المعنوي وهو خفة الروح وسلطان التأثير في القلوب، فليس له مقياس، ولا ميزان عشري يضبط به وزنه أو مساحته فيعرف الراجح من المرجوح، وإنما يعرف هذا الجمال الأعلى بملكة نفسية، لا بأوزان صناعية، كما قال أبو الطيب في الخيل :
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها وأعضائها فالحسن عنك مغيب١
وإنما أحدث القرآن في الأمة العربية ما أحدث من الثورة الدينية والاجتماعية والانقلاب العالمي بالنوع الثاني من إدراك بلاغته لا الأول، وكل منها كامل من بابه، كما بينا ذلك في موضعه من عهد قريب، وإن كثرة البحث في الثاني ليشغل المفسر والمتدبر عن الأول الخاص منه بالهداية وإصلاح النفس وتزكيتها، ولهذا نقتصر منه في تفسيرنا على ما قصر فيه المفسرون باختصار لا يشغل عن الهداية المقصودة بالذات، وقد نجعله من باب الاستطراد بعد بيان معنى الآية أو الآيات، ولهذا جعلت ما أحببت بيانه في بلاغة هذه الآية الفنية علاوة من هذه العلاوات، وقد أطال العلماء الأخصائيون فيها حتى أفردها بعضهم بمصنفات خاصة، وتكلم صاحب [ الطراز في علوم الإعجاز ] عليها في ٢٥ صفحة، ولعله أحسنهم فيها كلاما، وإن كان السكاكي هو السابق إليه وكلهم فيه عيال عليه، وذكر بعض المفسرين جملا مختصرة أو وسطا منه أنقل منها هنا ما لخصه السيد الآلوسي في روح المعاني من كلام السكاكي وغيره بتصرف كعادته قال :
واعلم أن هذه الآية الكريمة قد بلغت من مراتب الإعجاز أقاصيها، واستدلت مصاقع العرب فسفعت بنواصيها، وجمعت من المحاسن ما يضيق عنه نطاق البيان، وكانت من سمهري البلاغة مكان السنان.
يروى أن كفار قريش قصدوا أن يعارضوا القرآن فعكفوا على لباب البر ولحوم الضأن وسلاف الخمر أربعين يوما لتصفوا أذهانهم، فلما أخذوا فيما قصدوه وسمعوا هذه الآية قال بعضهم لبعض : هذا الكلام لا يشبه كلام المخلوقين، فتركوا ما أخذوا فيه وتفرقوا. ويروى أيضا أن ابن المقفع وكان –كما في القاموس- فصيحا بليغا، بل قيل إنه أفصح أهل وقته- رام أن يعارض القرآن فنظم كلاما وجعله مفصلا وسماه سورا، فاجتاز يوما بصبي يقرؤها في مكتب فرجع ومحا ما عمل، وقال أشهد أن هذا لا يعارض أبدا وما هو من كلام البشر. ولا يخفى أن هذا لا يستدعي أن لا يكون سائر آيات القرآن العظيم معجزا لما أن حد الإعجاز هو المرتبة التي يعجز البشر عن الإتيان بمثلها ولا تدخل على قدرته قطعا وهي تشتمل على شيئين : الأول الطرف الأعلى من البلاغة أعني ما ينتهي إليه البلاغة ولا يتصور تجاوزها إياه، والثاني ما يقرب من ذلك الطرف أعني المراتب العلمية التي تتقاصر القوى البشرية عنها أيضا.
ومعنى إعجاز آيات الكتاب المجيد بأسرها هو كونها مما تتقاصر القوى البشرية عن الإتيان بمثلها سواء كانت من القسم الأول أو الثاني فلا يضر تفاوتها في البلاغة، وهو الذي قاله علماء هذا الشأن.
وقد فصل بعض مزايا هذه الآية المهرة المتقنون، وتركوا من ذلك ما لا يكاد يصفه الواصفون، ولا بأس بذكر شيء مما ذكر إفادة لجاهل، وتذكيرا لفاضل غافل، فنقول :
جهات بلاغة الآية الأربع : أولها جهة علم البيان
ذكر العلامة السكاكي أن النظر فيها من أربع جهات : من جهة علم البيان، ومن جهة علم المعاني وهما مرجعا البلاغة. ومن جهة الفصاحة المعنوية، ومن جهة الفصاحة اللفظية : أما النظر فيها من جهة علم البيان وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بذلك من القرينة والترشيح والتعريض، فهو أنه عز سلطانه لما أراد أن يبين معنى : أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد، وأن نقطع طوفان المساء فانقطع، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض، وأن نقضي أمر نوح عليه السلام وهو إنجاز ما كنا وعدناه من إغراق قومه فقضى، وأن نسوي السفينة على الجودي فاستوت، وأبقينا الظلمة غرقى – بنى سبحانه الكلام على تشبيه المراد منه بالمأمور الذي لا يتأتى منه –لكما هيبته من الآمر- العصيان، وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكون المقصود تصويرا لاقتداره سبحانه العظيم، وأن هذه الأجرام العظيمة من السماوات والأرض تابعة لإرادته تعالى إيجادا وإعداما، ولمشيئته فيها تغييرا وتبديلا، كأنها عقلاء مميزون قد عرفوه جل شأنه حق معرفته، وأحاطوا علما بوجوب الانقياد لأمره، والإذعان لحكمه، ويحتم بذل المجهود عليهم في تحصيل مراده، وتصوروا مزيد اقتداره، فعظمت مهابته في نفوسهم، وضربت سرادقها في أفنية ضمائرهم، فكما يلوح لهم إشارته سبحانه كان المشار إليه مقدما، وكما يرد عليهم أمره تعالى شأنه كان المأمور به متمما، لا تلقي لإشارته بغير الإمضاء والانقياد، ولا لأمره بغير الإذعان والامتثال.
" ثم بنى على مجموع التشبيهين نظم الكلام فقال جل وعلا قيل : على سبيل المجاز عن الإرادة من باب ذكر المسبب وإرادة السبب، لأن الإرادة تكون سببا لوقوع القول في الجملة، وجعل قرينة هذا المجاز خطاب الجماد وهو [ يا أرض- ويا سماء ] إذ يصح أن يراد حصول شيء متعلق بالجماد ولا يصح القول له. ثم قال سبحانه كما ترى [ يا أرض، ويا سماء ] مخاطبا لهما على سبيل الاستعارة للشبه المذكور، والظاهر أنه أراد أن هناك استعارة بالكناية حيث ذكر المشبه أعني السماء والأرض المراد منهما حصول أمر وأريد المشبه به أعني المأمور الموصوف بأنه لا يتأتى منه العصيان ادعاء بقرينة نسبة الخطاب إليه، ودخول حرف النداء عليه، وهما من خواص المأمور المطيع ويكون هذا تخييلا. وقد يقال : أراد أن الاستعارة ههنا تصريحية تبعية في حرف النداء بناء على تشبيه تعلق الإرادة بالمراد منه بتعلق النداء والخطاب بالمنادي المخاطب، وليس بشيء إذ لا يحسن هذا التشبيه ابتداء بل تبعا للتشبيه الأول فكيف يجعل أصلا لمتبوعه ؟ على أن قوله للشبه المذكور يدفع هذا الحمل.
ثم استعار لغئور الماء في الأرض [ البلع ] الذي هو إعمال الجاذبة في المطعوم للشبه بينهما وهو الذهاب إلى مقر خفي. وفي الكشاف : جعل البلع مستعارا لنشف الأرض الماء وهو أولى فإن النشف دال على جذب من إجزاء الأرض لما عليها كالبلع بالنسبة إلى الحيوان، ولأن النشف فعل الأرض والغثور فعل الماء مع الطباق بين الفعلين تعديا. ثم استعار الماء للغذاء استعارة بالكناية تشبيها له بالغذاء لتقوي الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار تقوي الآكل بالطعام وجعل قرينة الاستعارة لفظة [ ابلعي ] لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء.
ولا يخفى عليك أنه إذا اعتبر مذهب السلف في الاستعارة يكون [ ابلعي ] استعارة تصريحية ومع ذلك يكون بحسب اللفظ قرينة للاستعارة بالكناية في الماء على حد ما قالوا في ﴿ ينقضون عهد الله ﴾ وأما إذا اعتبر مذهبه فينبغي أن يكون البلع باقيا على حقيقته كالإنبات في : أنبت الربيع البقل. وهو بعيد، أو يجعل مستعارا لأمر متوهم كما في : نطقت الحال فيلزمه القول بالاستعارة التبعية كما هو المشهور.
ثم إنه تعالى أمر على سبيل الاستعارة للتشبيه الثاني وخاطب في الأمر تشريحا لاستعارة النداء، والحاصل أن في لفظ [ ابلعي ] باعتبار جوهرة استعارة لغئور الماء وباعتبار صورته أعني كونه صورة أمر استعارة أخرى لتكوين المراد، وباعتبار كونه أمر خطاب ترشيح للاستعارة المكنية التي في المنادى، فإن قرينتها النداء وما زاد على قرينة المكنية يكون ترشيحا لها. وأما جعل النداء استعارة تصريحية تبعية حتى يكون خطاب الآمر ترشيحا لها فقد عرفت ما فيه.
ثم قال جل وعلا [ ماءك ] بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز تشبيها لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالملك، واختار ضمير الخطاب لأجل التشريح وحاصله أن هناك مجازا لغويا في الهيئة الإضافية الدالة على الاختصاص الملكي، ولهذا جعل الخطاب ترشيحا لهذه الاستعارة من حيث إن الخطاب يدل على صلوح الأرض للمالكية، فما قيل إن المجاز عقلي والعبارة مصروفة عن الظاهر ليس بشيء.
ثم اختار لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان من المطر أو الفعل، ففي [ أقلعي ] استعارة باعتبار جوهره وكذا باعتبار صيغته أيضا وهي مبنية على تشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافد، والخطاب فيه أيضا ترشيح لاستعارة النداء، والحاصل أن الكلام فيه مثل ما مر في [ ابلعي ].
" ثم قال سبحا

﴿ وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون ( ٣٦ ) واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ( ٣٧ ) ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون ( ٣٨ ) فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم ( ٣٩ ) ﴾
هذه الآيات هي الحكم الفصل في قوم نوح المشركين ويليها بيان تنفيذه.
﴿ ويصنع الفلك ﴾ أي وطفق يصنع الفلك كما أمر ﴿ وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه ﴾ استهزءوا وضحكوا منه وتنادروا عليه لحسبانهم أنه مصاب بالهوس والجنون، يقال سخر من فلان وسخر به [ كتعب ] أي اتخذه سخريا [ بضم السين وكسرها ] يهزأ به. وروي أنهم كانوا يسألونه عما يصنع فيجيبهم أنه يصنع بيتا يجري على الماء، ولم يكن هذا معروفا ولا متصورا، وقل أن يسبق أحد أهل عصره بما هو فوق عقولهم ومداركهم من قول أو عمل إلا سخروا منه قبل أن يتم له النجاح فيه ﴿ قال إن تسخروا منا ﴾ قال مجيبا لكل منهم عن هذا السؤال : إن تسخروا منا وتستجهلوننا اليوم لرؤيتكم منا ما لا تتصورون له فائدة.
﴿ فإنا نسخر منكم كما تسخرون ﴾ منا جزاء وفاقا، نسخر منكم اليوم لجهلكم، وغدا لما يحل عليكم، فإن كنتم لا تعلمون اليوم بما نعمل وبما سيكون من عاقبة عملنا.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:علاوات لتفسير قصة نوح عليه السلام
العلاوة الأولى : البلاغة الفنية في الآية ٤٣
سبق لنا أن قلنا في الكلام على إعجاز القرآن ببلاغته ومذهب المتكلمين وأدباء الفنون في التحدي به : إن هذا النوع من الإعجاز يقل من يفقهه في هذا العصر لفقد أهله ملكتي البلاغة الذوقية السليقية والبيانية الفنية بله الجمع بينهما، وهو ضروري لإدراك هذا النوع من الإعجاز، وإن من يفقهه ويدرك عدم استطاعة أحد أن يأتي بسورة مثله قد يخفى عليه وجه دلالته على أنه لا بد أن يكون وحيا من الله تعالى وحجة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولذلك جزموا بوقوع العجز واختلفوا في وجه الدلالة، فمثلهم كمثل حداق الفنانين في الوشي والتطريز إذا رأوا صنع قدماء الهنود من أهل لاهور وكشمير وأقروا بالعجز عن محاكاته، والمصورين إذا رأوا أدق صور رفائيل في تصوير الإنسان بأدق مناظر أعضائه وشمائله وملامح صفاته النفسية وإمارات انفعالاته ولا سيما المتقاربة كالخوف والفزع والحزن والغم والغضب ونظر الإقرار ونظر الإنكار ونظر الشهوة ونظر العطف ونظر الرحمة ونظر الإعجاب والعجب ونظر المتفكر والمتحير، فقد يقرون بعجزهم عن محاكاتها ولكنهم لا يقولون بعدم إمكانها، بل يقولون بإمكانها وبقرب وقوعها بالفعل إذا وجدت الداعية القوية كمنفعة مالية كبيرة أو مصلحة قومية أو دولية عظيمة.
ومن المعلوم من تاريخ النبي صلى الله عليه وسلم مع فصحاء قريش وغيرهم أنه حدثت لهم أعظم الدواعي والمصالح المعارضة للقرآن بعد تحديثهم بسورة مثله مطلقا والتحدي بعشر سور في المكرر ولو مفترى، فأيقنوا بعجزهم عن الإتيان بها وبهن، ولو ظاهرهم عليه جميع الإنس عن كثرة بلغائهم وفصحائهم، والجن الذين يعتقدون أن منهم هواجس تلقنهم الشعر من حيث لا يرونهم، وكذا آلهتهم القادرون بخصائصهم الغيبية أو بمكانتهم عند الله تعالى على كل ما يريدون في هذا العالم بزعمهم، قد عجزوا مع هذا كله واضطروا إلى مقاومة النبي بالقتال، وما أعقبهم من خسارة المال، وسبي النساء والأطفال، ثم ما هو أشد عليهم وهو احتمال الذل والنكال، وروي أن كبراءهم زعموا على التعاون على المعارضة واستعدوا لها فسمعوا هذه الآية [ وقيل يا أرض ] فتضاءلت قواهم واستخذت أنفسهم ورجعوا عن عزمهم، كما يأتي قريبا.
عرف بلغاء قريش من بلاغة هذه الآية الروحية الكامنة في فصاحتها اللفظية الظاهرة وغيرها ما لم يعرفه بلغاء الفنون بعدهم منها، فكان هؤلاء أعلم بما للحسن والجمال الصوري في الكلام من المقاييس الفلسفية والموازين الفنية ودرجات الراجح على المرجوح. وكان أولئك أدق شعورا بما لهذا الحسن والجمال من السلطان على القلوب والحكم على العقول. مثال ذلك أن للجمال البدني في حسان النساء مقاييس وموازين لتناسب الأعضاء بعضها مع بعض يمكن ضبطها والعدل في الحكم بينها. وأما الجمال المعنوي وهو خفة الروح وسلطان التأثير في القلوب، فليس له مقياس، ولا ميزان عشري يضبط به وزنه أو مساحته فيعرف الراجح من المرجوح، وإنما يعرف هذا الجمال الأعلى بملكة نفسية، لا بأوزان صناعية، كما قال أبو الطيب في الخيل :
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها وأعضائها فالحسن عنك مغيب١
وإنما أحدث القرآن في الأمة العربية ما أحدث من الثورة الدينية والاجتماعية والانقلاب العالمي بالنوع الثاني من إدراك بلاغته لا الأول، وكل منها كامل من بابه، كما بينا ذلك في موضعه من عهد قريب، وإن كثرة البحث في الثاني ليشغل المفسر والمتدبر عن الأول الخاص منه بالهداية وإصلاح النفس وتزكيتها، ولهذا نقتصر منه في تفسيرنا على ما قصر فيه المفسرون باختصار لا يشغل عن الهداية المقصودة بالذات، وقد نجعله من باب الاستطراد بعد بيان معنى الآية أو الآيات، ولهذا جعلت ما أحببت بيانه في بلاغة هذه الآية الفنية علاوة من هذه العلاوات، وقد أطال العلماء الأخصائيون فيها حتى أفردها بعضهم بمصنفات خاصة، وتكلم صاحب [ الطراز في علوم الإعجاز ] عليها في ٢٥ صفحة، ولعله أحسنهم فيها كلاما، وإن كان السكاكي هو السابق إليه وكلهم فيه عيال عليه، وذكر بعض المفسرين جملا مختصرة أو وسطا منه أنقل منها هنا ما لخصه السيد الآلوسي في روح المعاني من كلام السكاكي وغيره بتصرف كعادته قال :
واعلم أن هذه الآية الكريمة قد بلغت من مراتب الإعجاز أقاصيها، واستدلت مصاقع العرب فسفعت بنواصيها، وجمعت من المحاسن ما يضيق عنه نطاق البيان، وكانت من سمهري البلاغة مكان السنان.
يروى أن كفار قريش قصدوا أن يعارضوا القرآن فعكفوا على لباب البر ولحوم الضأن وسلاف الخمر أربعين يوما لتصفوا أذهانهم، فلما أخذوا فيما قصدوه وسمعوا هذه الآية قال بعضهم لبعض : هذا الكلام لا يشبه كلام المخلوقين، فتركوا ما أخذوا فيه وتفرقوا. ويروى أيضا أن ابن المقفع وكان –كما في القاموس- فصيحا بليغا، بل قيل إنه أفصح أهل وقته- رام أن يعارض القرآن فنظم كلاما وجعله مفصلا وسماه سورا، فاجتاز يوما بصبي يقرؤها في مكتب فرجع ومحا ما عمل، وقال أشهد أن هذا لا يعارض أبدا وما هو من كلام البشر. ولا يخفى أن هذا لا يستدعي أن لا يكون سائر آيات القرآن العظيم معجزا لما أن حد الإعجاز هو المرتبة التي يعجز البشر عن الإتيان بمثلها ولا تدخل على قدرته قطعا وهي تشتمل على شيئين : الأول الطرف الأعلى من البلاغة أعني ما ينتهي إليه البلاغة ولا يتصور تجاوزها إياه، والثاني ما يقرب من ذلك الطرف أعني المراتب العلمية التي تتقاصر القوى البشرية عنها أيضا.
ومعنى إعجاز آيات الكتاب المجيد بأسرها هو كونها مما تتقاصر القوى البشرية عن الإتيان بمثلها سواء كانت من القسم الأول أو الثاني فلا يضر تفاوتها في البلاغة، وهو الذي قاله علماء هذا الشأن.
وقد فصل بعض مزايا هذه الآية المهرة المتقنون، وتركوا من ذلك ما لا يكاد يصفه الواصفون، ولا بأس بذكر شيء مما ذكر إفادة لجاهل، وتذكيرا لفاضل غافل، فنقول :
جهات بلاغة الآية الأربع : أولها جهة علم البيان
ذكر العلامة السكاكي أن النظر فيها من أربع جهات : من جهة علم البيان، ومن جهة علم المعاني وهما مرجعا البلاغة. ومن جهة الفصاحة المعنوية، ومن جهة الفصاحة اللفظية : أما النظر فيها من جهة علم البيان وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بذلك من القرينة والترشيح والتعريض، فهو أنه عز سلطانه لما أراد أن يبين معنى : أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد، وأن نقطع طوفان المساء فانقطع، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض، وأن نقضي أمر نوح عليه السلام وهو إنجاز ما كنا وعدناه من إغراق قومه فقضى، وأن نسوي السفينة على الجودي فاستوت، وأبقينا الظلمة غرقى – بنى سبحانه الكلام على تشبيه المراد منه بالمأمور الذي لا يتأتى منه –لكما هيبته من الآمر- العصيان، وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكون المقصود تصويرا لاقتداره سبحانه العظيم، وأن هذه الأجرام العظيمة من السماوات والأرض تابعة لإرادته تعالى إيجادا وإعداما، ولمشيئته فيها تغييرا وتبديلا، كأنها عقلاء مميزون قد عرفوه جل شأنه حق معرفته، وأحاطوا علما بوجوب الانقياد لأمره، والإذعان لحكمه، ويحتم بذل المجهود عليهم في تحصيل مراده، وتصوروا مزيد اقتداره، فعظمت مهابته في نفوسهم، وضربت سرادقها في أفنية ضمائرهم، فكما يلوح لهم إشارته سبحانه كان المشار إليه مقدما، وكما يرد عليهم أمره تعالى شأنه كان المأمور به متمما، لا تلقي لإشارته بغير الإمضاء والانقياد، ولا لأمره بغير الإذعان والامتثال.
" ثم بنى على مجموع التشبيهين نظم الكلام فقال جل وعلا قيل : على سبيل المجاز عن الإرادة من باب ذكر المسبب وإرادة السبب، لأن الإرادة تكون سببا لوقوع القول في الجملة، وجعل قرينة هذا المجاز خطاب الجماد وهو [ يا أرض- ويا سماء ] إذ يصح أن يراد حصول شيء متعلق بالجماد ولا يصح القول له. ثم قال سبحانه كما ترى [ يا أرض، ويا سماء ] مخاطبا لهما على سبيل الاستعارة للشبه المذكور، والظاهر أنه أراد أن هناك استعارة بالكناية حيث ذكر المشبه أعني السماء والأرض المراد منهما حصول أمر وأريد المشبه به أعني المأمور الموصوف بأنه لا يتأتى منه العصيان ادعاء بقرينة نسبة الخطاب إليه، ودخول حرف النداء عليه، وهما من خواص المأمور المطيع ويكون هذا تخييلا. وقد يقال : أراد أن الاستعارة ههنا تصريحية تبعية في حرف النداء بناء على تشبيه تعلق الإرادة بالمراد منه بتعلق النداء والخطاب بالمنادي المخاطب، وليس بشيء إذ لا يحسن هذا التشبيه ابتداء بل تبعا للتشبيه الأول فكيف يجعل أصلا لمتبوعه ؟ على أن قوله للشبه المذكور يدفع هذا الحمل.
ثم استعار لغئور الماء في الأرض [ البلع ] الذي هو إعمال الجاذبة في المطعوم للشبه بينهما وهو الذهاب إلى مقر خفي. وفي الكشاف : جعل البلع مستعارا لنشف الأرض الماء وهو أولى فإن النشف دال على جذب من إجزاء الأرض لما عليها كالبلع بالنسبة إلى الحيوان، ولأن النشف فعل الأرض والغثور فعل الماء مع الطباق بين الفعلين تعديا. ثم استعار الماء للغذاء استعارة بالكناية تشبيها له بالغذاء لتقوي الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار تقوي الآكل بالطعام وجعل قرينة الاستعارة لفظة [ ابلعي ] لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء.
ولا يخفى عليك أنه إذا اعتبر مذهب السلف في الاستعارة يكون [ ابلعي ] استعارة تصريحية ومع ذلك يكون بحسب اللفظ قرينة للاستعارة بالكناية في الماء على حد ما قالوا في ﴿ ينقضون عهد الله ﴾ وأما إذا اعتبر مذهبه فينبغي أن يكون البلع باقيا على حقيقته كالإنبات في : أنبت الربيع البقل. وهو بعيد، أو يجعل مستعارا لأمر متوهم كما في : نطقت الحال فيلزمه القول بالاستعارة التبعية كما هو المشهور.
ثم إنه تعالى أمر على سبيل الاستعارة للتشبيه الثاني وخاطب في الأمر تشريحا لاستعارة النداء، والحاصل أن في لفظ [ ابلعي ] باعتبار جوهرة استعارة لغئور الماء وباعتبار صورته أعني كونه صورة أمر استعارة أخرى لتكوين المراد، وباعتبار كونه أمر خطاب ترشيح للاستعارة المكنية التي في المنادى، فإن قرينتها النداء وما زاد على قرينة المكنية يكون ترشيحا لها. وأما جعل النداء استعارة تصريحية تبعية حتى يكون خطاب الآمر ترشيحا لها فقد عرفت ما فيه.
ثم قال جل وعلا [ ماءك ] بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز تشبيها لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالملك، واختار ضمير الخطاب لأجل التشريح وحاصله أن هناك مجازا لغويا في الهيئة الإضافية الدالة على الاختصاص الملكي، ولهذا جعل الخطاب ترشيحا لهذه الاستعارة من حيث إن الخطاب يدل على صلوح الأرض للمالكية، فما قيل إن المجاز عقلي والعبارة مصروفة عن الظاهر ليس بشيء.
ثم اختار لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان من المطر أو الفعل، ففي [ أقلعي ] استعارة باعتبار جوهره وكذا باعتبار صيغته أيضا وهي مبنية على تشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافد، والخطاب فيه أيضا ترشيح لاستعارة النداء، والحاصل أن الكلام فيه مثل ما مر في [ ابلعي ].
" ثم قال سبحا

﴿ وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون ( ٣٦ ) واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ( ٣٧ ) ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون ( ٣٨ ) فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم ( ٣٩ ) ﴾
هذه الآيات هي الحكم الفصل في قوم نوح المشركين ويليها بيان تنفيذه.
﴿ فسوف تعلمون ﴾ بعد تمامه ﴿ من يأتيه عذاب يخزيه ﴾ أي يذله ويجلب له العار والتبار في الدنيا ﴿ ويحل عليه عذاب مقيم ﴾ بعد ذلك في الآخرة فيكون عذاب الدنيا هينا بالإضافة إليه لانقضاء هذا وزواله بهلاككم، وبقاء ذاك ودوامه بدوامكم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:علاوات لتفسير قصة نوح عليه السلام
العلاوة الأولى : البلاغة الفنية في الآية ٤٣
سبق لنا أن قلنا في الكلام على إعجاز القرآن ببلاغته ومذهب المتكلمين وأدباء الفنون في التحدي به : إن هذا النوع من الإعجاز يقل من يفقهه في هذا العصر لفقد أهله ملكتي البلاغة الذوقية السليقية والبيانية الفنية بله الجمع بينهما، وهو ضروري لإدراك هذا النوع من الإعجاز، وإن من يفقهه ويدرك عدم استطاعة أحد أن يأتي بسورة مثله قد يخفى عليه وجه دلالته على أنه لا بد أن يكون وحيا من الله تعالى وحجة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولذلك جزموا بوقوع العجز واختلفوا في وجه الدلالة، فمثلهم كمثل حداق الفنانين في الوشي والتطريز إذا رأوا صنع قدماء الهنود من أهل لاهور وكشمير وأقروا بالعجز عن محاكاته، والمصورين إذا رأوا أدق صور رفائيل في تصوير الإنسان بأدق مناظر أعضائه وشمائله وملامح صفاته النفسية وإمارات انفعالاته ولا سيما المتقاربة كالخوف والفزع والحزن والغم والغضب ونظر الإقرار ونظر الإنكار ونظر الشهوة ونظر العطف ونظر الرحمة ونظر الإعجاب والعجب ونظر المتفكر والمتحير، فقد يقرون بعجزهم عن محاكاتها ولكنهم لا يقولون بعدم إمكانها، بل يقولون بإمكانها وبقرب وقوعها بالفعل إذا وجدت الداعية القوية كمنفعة مالية كبيرة أو مصلحة قومية أو دولية عظيمة.
ومن المعلوم من تاريخ النبي صلى الله عليه وسلم مع فصحاء قريش وغيرهم أنه حدثت لهم أعظم الدواعي والمصالح المعارضة للقرآن بعد تحديثهم بسورة مثله مطلقا والتحدي بعشر سور في المكرر ولو مفترى، فأيقنوا بعجزهم عن الإتيان بها وبهن، ولو ظاهرهم عليه جميع الإنس عن كثرة بلغائهم وفصحائهم، والجن الذين يعتقدون أن منهم هواجس تلقنهم الشعر من حيث لا يرونهم، وكذا آلهتهم القادرون بخصائصهم الغيبية أو بمكانتهم عند الله تعالى على كل ما يريدون في هذا العالم بزعمهم، قد عجزوا مع هذا كله واضطروا إلى مقاومة النبي بالقتال، وما أعقبهم من خسارة المال، وسبي النساء والأطفال، ثم ما هو أشد عليهم وهو احتمال الذل والنكال، وروي أن كبراءهم زعموا على التعاون على المعارضة واستعدوا لها فسمعوا هذه الآية [ وقيل يا أرض ] فتضاءلت قواهم واستخذت أنفسهم ورجعوا عن عزمهم، كما يأتي قريبا.
عرف بلغاء قريش من بلاغة هذه الآية الروحية الكامنة في فصاحتها اللفظية الظاهرة وغيرها ما لم يعرفه بلغاء الفنون بعدهم منها، فكان هؤلاء أعلم بما للحسن والجمال الصوري في الكلام من المقاييس الفلسفية والموازين الفنية ودرجات الراجح على المرجوح. وكان أولئك أدق شعورا بما لهذا الحسن والجمال من السلطان على القلوب والحكم على العقول. مثال ذلك أن للجمال البدني في حسان النساء مقاييس وموازين لتناسب الأعضاء بعضها مع بعض يمكن ضبطها والعدل في الحكم بينها. وأما الجمال المعنوي وهو خفة الروح وسلطان التأثير في القلوب، فليس له مقياس، ولا ميزان عشري يضبط به وزنه أو مساحته فيعرف الراجح من المرجوح، وإنما يعرف هذا الجمال الأعلى بملكة نفسية، لا بأوزان صناعية، كما قال أبو الطيب في الخيل :
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها وأعضائها فالحسن عنك مغيب١
وإنما أحدث القرآن في الأمة العربية ما أحدث من الثورة الدينية والاجتماعية والانقلاب العالمي بالنوع الثاني من إدراك بلاغته لا الأول، وكل منها كامل من بابه، كما بينا ذلك في موضعه من عهد قريب، وإن كثرة البحث في الثاني ليشغل المفسر والمتدبر عن الأول الخاص منه بالهداية وإصلاح النفس وتزكيتها، ولهذا نقتصر منه في تفسيرنا على ما قصر فيه المفسرون باختصار لا يشغل عن الهداية المقصودة بالذات، وقد نجعله من باب الاستطراد بعد بيان معنى الآية أو الآيات، ولهذا جعلت ما أحببت بيانه في بلاغة هذه الآية الفنية علاوة من هذه العلاوات، وقد أطال العلماء الأخصائيون فيها حتى أفردها بعضهم بمصنفات خاصة، وتكلم صاحب [ الطراز في علوم الإعجاز ] عليها في ٢٥ صفحة، ولعله أحسنهم فيها كلاما، وإن كان السكاكي هو السابق إليه وكلهم فيه عيال عليه، وذكر بعض المفسرين جملا مختصرة أو وسطا منه أنقل منها هنا ما لخصه السيد الآلوسي في روح المعاني من كلام السكاكي وغيره بتصرف كعادته قال :
واعلم أن هذه الآية الكريمة قد بلغت من مراتب الإعجاز أقاصيها، واستدلت مصاقع العرب فسفعت بنواصيها، وجمعت من المحاسن ما يضيق عنه نطاق البيان، وكانت من سمهري البلاغة مكان السنان.
يروى أن كفار قريش قصدوا أن يعارضوا القرآن فعكفوا على لباب البر ولحوم الضأن وسلاف الخمر أربعين يوما لتصفوا أذهانهم، فلما أخذوا فيما قصدوه وسمعوا هذه الآية قال بعضهم لبعض : هذا الكلام لا يشبه كلام المخلوقين، فتركوا ما أخذوا فيه وتفرقوا. ويروى أيضا أن ابن المقفع وكان –كما في القاموس- فصيحا بليغا، بل قيل إنه أفصح أهل وقته- رام أن يعارض القرآن فنظم كلاما وجعله مفصلا وسماه سورا، فاجتاز يوما بصبي يقرؤها في مكتب فرجع ومحا ما عمل، وقال أشهد أن هذا لا يعارض أبدا وما هو من كلام البشر. ولا يخفى أن هذا لا يستدعي أن لا يكون سائر آيات القرآن العظيم معجزا لما أن حد الإعجاز هو المرتبة التي يعجز البشر عن الإتيان بمثلها ولا تدخل على قدرته قطعا وهي تشتمل على شيئين : الأول الطرف الأعلى من البلاغة أعني ما ينتهي إليه البلاغة ولا يتصور تجاوزها إياه، والثاني ما يقرب من ذلك الطرف أعني المراتب العلمية التي تتقاصر القوى البشرية عنها أيضا.
ومعنى إعجاز آيات الكتاب المجيد بأسرها هو كونها مما تتقاصر القوى البشرية عن الإتيان بمثلها سواء كانت من القسم الأول أو الثاني فلا يضر تفاوتها في البلاغة، وهو الذي قاله علماء هذا الشأن.
وقد فصل بعض مزايا هذه الآية المهرة المتقنون، وتركوا من ذلك ما لا يكاد يصفه الواصفون، ولا بأس بذكر شيء مما ذكر إفادة لجاهل، وتذكيرا لفاضل غافل، فنقول :
جهات بلاغة الآية الأربع : أولها جهة علم البيان
ذكر العلامة السكاكي أن النظر فيها من أربع جهات : من جهة علم البيان، ومن جهة علم المعاني وهما مرجعا البلاغة. ومن جهة الفصاحة المعنوية، ومن جهة الفصاحة اللفظية : أما النظر فيها من جهة علم البيان وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بذلك من القرينة والترشيح والتعريض، فهو أنه عز سلطانه لما أراد أن يبين معنى : أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد، وأن نقطع طوفان المساء فانقطع، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض، وأن نقضي أمر نوح عليه السلام وهو إنجاز ما كنا وعدناه من إغراق قومه فقضى، وأن نسوي السفينة على الجودي فاستوت، وأبقينا الظلمة غرقى – بنى سبحانه الكلام على تشبيه المراد منه بالمأمور الذي لا يتأتى منه –لكما هيبته من الآمر- العصيان، وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكون المقصود تصويرا لاقتداره سبحانه العظيم، وأن هذه الأجرام العظيمة من السماوات والأرض تابعة لإرادته تعالى إيجادا وإعداما، ولمشيئته فيها تغييرا وتبديلا، كأنها عقلاء مميزون قد عرفوه جل شأنه حق معرفته، وأحاطوا علما بوجوب الانقياد لأمره، والإذعان لحكمه، ويحتم بذل المجهود عليهم في تحصيل مراده، وتصوروا مزيد اقتداره، فعظمت مهابته في نفوسهم، وضربت سرادقها في أفنية ضمائرهم، فكما يلوح لهم إشارته سبحانه كان المشار إليه مقدما، وكما يرد عليهم أمره تعالى شأنه كان المأمور به متمما، لا تلقي لإشارته بغير الإمضاء والانقياد، ولا لأمره بغير الإذعان والامتثال.
" ثم بنى على مجموع التشبيهين نظم الكلام فقال جل وعلا قيل : على سبيل المجاز عن الإرادة من باب ذكر المسبب وإرادة السبب، لأن الإرادة تكون سببا لوقوع القول في الجملة، وجعل قرينة هذا المجاز خطاب الجماد وهو [ يا أرض- ويا سماء ] إذ يصح أن يراد حصول شيء متعلق بالجماد ولا يصح القول له. ثم قال سبحانه كما ترى [ يا أرض، ويا سماء ] مخاطبا لهما على سبيل الاستعارة للشبه المذكور، والظاهر أنه أراد أن هناك استعارة بالكناية حيث ذكر المشبه أعني السماء والأرض المراد منهما حصول أمر وأريد المشبه به أعني المأمور الموصوف بأنه لا يتأتى منه العصيان ادعاء بقرينة نسبة الخطاب إليه، ودخول حرف النداء عليه، وهما من خواص المأمور المطيع ويكون هذا تخييلا. وقد يقال : أراد أن الاستعارة ههنا تصريحية تبعية في حرف النداء بناء على تشبيه تعلق الإرادة بالمراد منه بتعلق النداء والخطاب بالمنادي المخاطب، وليس بشيء إذ لا يحسن هذا التشبيه ابتداء بل تبعا للتشبيه الأول فكيف يجعل أصلا لمتبوعه ؟ على أن قوله للشبه المذكور يدفع هذا الحمل.
ثم استعار لغئور الماء في الأرض [ البلع ] الذي هو إعمال الجاذبة في المطعوم للشبه بينهما وهو الذهاب إلى مقر خفي. وفي الكشاف : جعل البلع مستعارا لنشف الأرض الماء وهو أولى فإن النشف دال على جذب من إجزاء الأرض لما عليها كالبلع بالنسبة إلى الحيوان، ولأن النشف فعل الأرض والغثور فعل الماء مع الطباق بين الفعلين تعديا. ثم استعار الماء للغذاء استعارة بالكناية تشبيها له بالغذاء لتقوي الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار تقوي الآكل بالطعام وجعل قرينة الاستعارة لفظة [ ابلعي ] لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء.
ولا يخفى عليك أنه إذا اعتبر مذهب السلف في الاستعارة يكون [ ابلعي ] استعارة تصريحية ومع ذلك يكون بحسب اللفظ قرينة للاستعارة بالكناية في الماء على حد ما قالوا في ﴿ ينقضون عهد الله ﴾ وأما إذا اعتبر مذهبه فينبغي أن يكون البلع باقيا على حقيقته كالإنبات في : أنبت الربيع البقل. وهو بعيد، أو يجعل مستعارا لأمر متوهم كما في : نطقت الحال فيلزمه القول بالاستعارة التبعية كما هو المشهور.
ثم إنه تعالى أمر على سبيل الاستعارة للتشبيه الثاني وخاطب في الأمر تشريحا لاستعارة النداء، والحاصل أن في لفظ [ ابلعي ] باعتبار جوهرة استعارة لغئور الماء وباعتبار صورته أعني كونه صورة أمر استعارة أخرى لتكوين المراد، وباعتبار كونه أمر خطاب ترشيح للاستعارة المكنية التي في المنادى، فإن قرينتها النداء وما زاد على قرينة المكنية يكون ترشيحا لها. وأما جعل النداء استعارة تصريحية تبعية حتى يكون خطاب الآمر ترشيحا لها فقد عرفت ما فيه.
ثم قال جل وعلا [ ماءك ] بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز تشبيها لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالملك، واختار ضمير الخطاب لأجل التشريح وحاصله أن هناك مجازا لغويا في الهيئة الإضافية الدالة على الاختصاص الملكي، ولهذا جعل الخطاب ترشيحا لهذه الاستعارة من حيث إن الخطاب يدل على صلوح الأرض للمالكية، فما قيل إن المجاز عقلي والعبارة مصروفة عن الظاهر ليس بشيء.
ثم اختار لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان من المطر أو الفعل، ففي [ أقلعي ] استعارة باعتبار جوهره وكذا باعتبار صيغته أيضا وهي مبنية على تشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافد، والخطاب فيه أيضا ترشيح لاستعارة النداء، والحاصل أن الكلام فيه مثل ما مر في [ ابلعي ].
" ثم قال سبحا

﴿ حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليلا ( ٤٠ ) وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم ( ٤١ ) ﴾
﴿ حتى إذا جاء أمرنا ﴾ هذا بيان لابتداء الغاية مما ذكر قبله من الاستعداد لهلاك قوم نوح أي وكان يصنع الفلك كما أمره، ويقابل السخرية بغير ابتئاس ولا ضجر، حتى إذا جاء وقت أمرنا بهلاكهم ﴿ وفار التنور ﴾ اشتد غضب الله تعالى عليهم. فهو مجاز كحمي الوطيس، أو فار الماء من التنور عند نوح لأنه بدأ ينبع من الأرض. والتنور الذي يخبز فيه الخبز معروف عند العرب. قيل إن التاء أصلية فيه وقيل زائدة وقد اتفقت فيه لغة العرب والعجم وقيل أول من صنعه حواء أم البشر وإن تنورها بقي إلى زمن نوح وإنه هو المراد هنا، وهذا مما لا يوثق به، والفور والفوران ضرب من الحركة والارتفاع القوي يقال في الماء إذا نبغ وجرى، وإذا غلا وارتفع، قال في الأساس : فارت القدر، وفارت فوارتها، وعين فوارة في أرض خوارة، وفار الماء من العين. ومن المجاز : فار الغضب، وأخاف أن تفور علي، وقال ذلك في فورة الغضب اه.
وقال الراغب في مفردات القرآن : الفور شدة الغليان ويقال ذلك في النار نفسها إذا هاجت وفي القدر وفي الغضب، نحو ﴿ وهي تفور ﴾ [ الملك : ٧ ] ﴿ وفار التنور ﴾ اه. والمتبادر من فوران التنور هنا اشتداد غضب الله تعالى على أولئك المشركين الظالمين لأنفسهم وللناس وحلول وقت انتقامه منهم، وقد روي فيه عن مفسري الصحابة والتابعين بضعة أقوال ما أراها إلا من الإسرائيليات، أقربها إلى اللغة أن التنور أطلق في اللغة على تنور الفجر وأن المراد من فورانه هنا ظهور نوره وهو مروي عن علي كرم الله وجهه، يعني أن هذا الوقت موعدهم كقوم لوط، والثاني أن المراد منه فوران الماء من تنور الخبز وكان ذلك علامة لنوح عليه السلام، وهو يتوقف على رواية مرفوعة وينسب إلى ابن عباس رضي الله عنه، وأقرب منه أن يكون أول نبع ماء الطوفان من الأرض. ولا يصح في هذه الآثار ولا في أمثالها رواية مرفوعة يحتج بها، وحديث عائشة الآتي يدل على ما قلت أنه الأقرب.
﴿ قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين ﴾ قرأ حفص كلمة [ كل ] هنا بالتنوين وجمهور القراء بالإضافة لما بعدها. أي حتى إذا جاء موعد أمرنا قلنا لنوح حينئذ احمل فيها أي في الفلك وهو السفينة من كل زوج اثنين ذكرا وأنثى. والتقدير على قراءة حفص : احمل فيها من كل نوع من الأحياء فتتناسل ويبقى نوعها على الأرض ﴿ وأهلك إلا من سبق عليه القول ﴾ أي واحمل فيها أهل بيتك ذكورا وإناثا وأهل بيت الرجل عند الإطلاق نساؤه وأولاده وأزواجهم، والظاهر أن المستثنى منهم كفارهم إن كان فيهم كفار لأنهم يدخلون في عموم قوله :﴿ ولا تخاطبني في الذين ظلموا أنهم مغرقون ﴾ وإلا كان المستثنى ولده الذي ستذكر قصته قريبا ﴿ ومن آمن ﴾ معك من قومك ﴿ وما آمن معه إلا قليل ﴾ منهم، ولم يبين لنا الله تعالى ولا رسوله عددهم، فكل ما قاله المفسرون فيهم مردود لا دليل عليه كما قال ابن جرير الطبري، كما أنه لم يبين لنا أنواع الحيوانات التي حملها ولا كيف جمعها وأدخلها السفينة، وهي مفصلة في سفر التكوين، وللمفسرين فيها إسرائيليات مضحكة تخالفها، لا ينبغي تضييع شيء من العمر في نقلها وإشغال القراء بها.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:علاوات لتفسير قصة نوح عليه السلام
العلاوة الأولى : البلاغة الفنية في الآية ٤٣
سبق لنا أن قلنا في الكلام على إعجاز القرآن ببلاغته ومذهب المتكلمين وأدباء الفنون في التحدي به : إن هذا النوع من الإعجاز يقل من يفقهه في هذا العصر لفقد أهله ملكتي البلاغة الذوقية السليقية والبيانية الفنية بله الجمع بينهما، وهو ضروري لإدراك هذا النوع من الإعجاز، وإن من يفقهه ويدرك عدم استطاعة أحد أن يأتي بسورة مثله قد يخفى عليه وجه دلالته على أنه لا بد أن يكون وحيا من الله تعالى وحجة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولذلك جزموا بوقوع العجز واختلفوا في وجه الدلالة، فمثلهم كمثل حداق الفنانين في الوشي والتطريز إذا رأوا صنع قدماء الهنود من أهل لاهور وكشمير وأقروا بالعجز عن محاكاته، والمصورين إذا رأوا أدق صور رفائيل في تصوير الإنسان بأدق مناظر أعضائه وشمائله وملامح صفاته النفسية وإمارات انفعالاته ولا سيما المتقاربة كالخوف والفزع والحزن والغم والغضب ونظر الإقرار ونظر الإنكار ونظر الشهوة ونظر العطف ونظر الرحمة ونظر الإعجاب والعجب ونظر المتفكر والمتحير، فقد يقرون بعجزهم عن محاكاتها ولكنهم لا يقولون بعدم إمكانها، بل يقولون بإمكانها وبقرب وقوعها بالفعل إذا وجدت الداعية القوية كمنفعة مالية كبيرة أو مصلحة قومية أو دولية عظيمة.
ومن المعلوم من تاريخ النبي صلى الله عليه وسلم مع فصحاء قريش وغيرهم أنه حدثت لهم أعظم الدواعي والمصالح المعارضة للقرآن بعد تحديثهم بسورة مثله مطلقا والتحدي بعشر سور في المكرر ولو مفترى، فأيقنوا بعجزهم عن الإتيان بها وبهن، ولو ظاهرهم عليه جميع الإنس عن كثرة بلغائهم وفصحائهم، والجن الذين يعتقدون أن منهم هواجس تلقنهم الشعر من حيث لا يرونهم، وكذا آلهتهم القادرون بخصائصهم الغيبية أو بمكانتهم عند الله تعالى على كل ما يريدون في هذا العالم بزعمهم، قد عجزوا مع هذا كله واضطروا إلى مقاومة النبي بالقتال، وما أعقبهم من خسارة المال، وسبي النساء والأطفال، ثم ما هو أشد عليهم وهو احتمال الذل والنكال، وروي أن كبراءهم زعموا على التعاون على المعارضة واستعدوا لها فسمعوا هذه الآية [ وقيل يا أرض ] فتضاءلت قواهم واستخذت أنفسهم ورجعوا عن عزمهم، كما يأتي قريبا.
عرف بلغاء قريش من بلاغة هذه الآية الروحية الكامنة في فصاحتها اللفظية الظاهرة وغيرها ما لم يعرفه بلغاء الفنون بعدهم منها، فكان هؤلاء أعلم بما للحسن والجمال الصوري في الكلام من المقاييس الفلسفية والموازين الفنية ودرجات الراجح على المرجوح. وكان أولئك أدق شعورا بما لهذا الحسن والجمال من السلطان على القلوب والحكم على العقول. مثال ذلك أن للجمال البدني في حسان النساء مقاييس وموازين لتناسب الأعضاء بعضها مع بعض يمكن ضبطها والعدل في الحكم بينها. وأما الجمال المعنوي وهو خفة الروح وسلطان التأثير في القلوب، فليس له مقياس، ولا ميزان عشري يضبط به وزنه أو مساحته فيعرف الراجح من المرجوح، وإنما يعرف هذا الجمال الأعلى بملكة نفسية، لا بأوزان صناعية، كما قال أبو الطيب في الخيل :
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها وأعضائها فالحسن عنك مغيب١
وإنما أحدث القرآن في الأمة العربية ما أحدث من الثورة الدينية والاجتماعية والانقلاب العالمي بالنوع الثاني من إدراك بلاغته لا الأول، وكل منها كامل من بابه، كما بينا ذلك في موضعه من عهد قريب، وإن كثرة البحث في الثاني ليشغل المفسر والمتدبر عن الأول الخاص منه بالهداية وإصلاح النفس وتزكيتها، ولهذا نقتصر منه في تفسيرنا على ما قصر فيه المفسرون باختصار لا يشغل عن الهداية المقصودة بالذات، وقد نجعله من باب الاستطراد بعد بيان معنى الآية أو الآيات، ولهذا جعلت ما أحببت بيانه في بلاغة هذه الآية الفنية علاوة من هذه العلاوات، وقد أطال العلماء الأخصائيون فيها حتى أفردها بعضهم بمصنفات خاصة، وتكلم صاحب [ الطراز في علوم الإعجاز ] عليها في ٢٥ صفحة، ولعله أحسنهم فيها كلاما، وإن كان السكاكي هو السابق إليه وكلهم فيه عيال عليه، وذكر بعض المفسرين جملا مختصرة أو وسطا منه أنقل منها هنا ما لخصه السيد الآلوسي في روح المعاني من كلام السكاكي وغيره بتصرف كعادته قال :
واعلم أن هذه الآية الكريمة قد بلغت من مراتب الإعجاز أقاصيها، واستدلت مصاقع العرب فسفعت بنواصيها، وجمعت من المحاسن ما يضيق عنه نطاق البيان، وكانت من سمهري البلاغة مكان السنان.
يروى أن كفار قريش قصدوا أن يعارضوا القرآن فعكفوا على لباب البر ولحوم الضأن وسلاف الخمر أربعين يوما لتصفوا أذهانهم، فلما أخذوا فيما قصدوه وسمعوا هذه الآية قال بعضهم لبعض : هذا الكلام لا يشبه كلام المخلوقين، فتركوا ما أخذوا فيه وتفرقوا. ويروى أيضا أن ابن المقفع وكان –كما في القاموس- فصيحا بليغا، بل قيل إنه أفصح أهل وقته- رام أن يعارض القرآن فنظم كلاما وجعله مفصلا وسماه سورا، فاجتاز يوما بصبي يقرؤها في مكتب فرجع ومحا ما عمل، وقال أشهد أن هذا لا يعارض أبدا وما هو من كلام البشر. ولا يخفى أن هذا لا يستدعي أن لا يكون سائر آيات القرآن العظيم معجزا لما أن حد الإعجاز هو المرتبة التي يعجز البشر عن الإتيان بمثلها ولا تدخل على قدرته قطعا وهي تشتمل على شيئين : الأول الطرف الأعلى من البلاغة أعني ما ينتهي إليه البلاغة ولا يتصور تجاوزها إياه، والثاني ما يقرب من ذلك الطرف أعني المراتب العلمية التي تتقاصر القوى البشرية عنها أيضا.
ومعنى إعجاز آيات الكتاب المجيد بأسرها هو كونها مما تتقاصر القوى البشرية عن الإتيان بمثلها سواء كانت من القسم الأول أو الثاني فلا يضر تفاوتها في البلاغة، وهو الذي قاله علماء هذا الشأن.
وقد فصل بعض مزايا هذه الآية المهرة المتقنون، وتركوا من ذلك ما لا يكاد يصفه الواصفون، ولا بأس بذكر شيء مما ذكر إفادة لجاهل، وتذكيرا لفاضل غافل، فنقول :
جهات بلاغة الآية الأربع : أولها جهة علم البيان
ذكر العلامة السكاكي أن النظر فيها من أربع جهات : من جهة علم البيان، ومن جهة علم المعاني وهما مرجعا البلاغة. ومن جهة الفصاحة المعنوية، ومن جهة الفصاحة اللفظية : أما النظر فيها من جهة علم البيان وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بذلك من القرينة والترشيح والتعريض، فهو أنه عز سلطانه لما أراد أن يبين معنى : أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد، وأن نقطع طوفان المساء فانقطع، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض، وأن نقضي أمر نوح عليه السلام وهو إنجاز ما كنا وعدناه من إغراق قومه فقضى، وأن نسوي السفينة على الجودي فاستوت، وأبقينا الظلمة غرقى – بنى سبحانه الكلام على تشبيه المراد منه بالمأمور الذي لا يتأتى منه –لكما هيبته من الآمر- العصيان، وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكون المقصود تصويرا لاقتداره سبحانه العظيم، وأن هذه الأجرام العظيمة من السماوات والأرض تابعة لإرادته تعالى إيجادا وإعداما، ولمشيئته فيها تغييرا وتبديلا، كأنها عقلاء مميزون قد عرفوه جل شأنه حق معرفته، وأحاطوا علما بوجوب الانقياد لأمره، والإذعان لحكمه، ويحتم بذل المجهود عليهم في تحصيل مراده، وتصوروا مزيد اقتداره، فعظمت مهابته في نفوسهم، وضربت سرادقها في أفنية ضمائرهم، فكما يلوح لهم إشارته سبحانه كان المشار إليه مقدما، وكما يرد عليهم أمره تعالى شأنه كان المأمور به متمما، لا تلقي لإشارته بغير الإمضاء والانقياد، ولا لأمره بغير الإذعان والامتثال.
" ثم بنى على مجموع التشبيهين نظم الكلام فقال جل وعلا قيل : على سبيل المجاز عن الإرادة من باب ذكر المسبب وإرادة السبب، لأن الإرادة تكون سببا لوقوع القول في الجملة، وجعل قرينة هذا المجاز خطاب الجماد وهو [ يا أرض- ويا سماء ] إذ يصح أن يراد حصول شيء متعلق بالجماد ولا يصح القول له. ثم قال سبحانه كما ترى [ يا أرض، ويا سماء ] مخاطبا لهما على سبيل الاستعارة للشبه المذكور، والظاهر أنه أراد أن هناك استعارة بالكناية حيث ذكر المشبه أعني السماء والأرض المراد منهما حصول أمر وأريد المشبه به أعني المأمور الموصوف بأنه لا يتأتى منه العصيان ادعاء بقرينة نسبة الخطاب إليه، ودخول حرف النداء عليه، وهما من خواص المأمور المطيع ويكون هذا تخييلا. وقد يقال : أراد أن الاستعارة ههنا تصريحية تبعية في حرف النداء بناء على تشبيه تعلق الإرادة بالمراد منه بتعلق النداء والخطاب بالمنادي المخاطب، وليس بشيء إذ لا يحسن هذا التشبيه ابتداء بل تبعا للتشبيه الأول فكيف يجعل أصلا لمتبوعه ؟ على أن قوله للشبه المذكور يدفع هذا الحمل.
ثم استعار لغئور الماء في الأرض [ البلع ] الذي هو إعمال الجاذبة في المطعوم للشبه بينهما وهو الذهاب إلى مقر خفي. وفي الكشاف : جعل البلع مستعارا لنشف الأرض الماء وهو أولى فإن النشف دال على جذب من إجزاء الأرض لما عليها كالبلع بالنسبة إلى الحيوان، ولأن النشف فعل الأرض والغثور فعل الماء مع الطباق بين الفعلين تعديا. ثم استعار الماء للغذاء استعارة بالكناية تشبيها له بالغذاء لتقوي الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار تقوي الآكل بالطعام وجعل قرينة الاستعارة لفظة [ ابلعي ] لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء.
ولا يخفى عليك أنه إذا اعتبر مذهب السلف في الاستعارة يكون [ ابلعي ] استعارة تصريحية ومع ذلك يكون بحسب اللفظ قرينة للاستعارة بالكناية في الماء على حد ما قالوا في ﴿ ينقضون عهد الله ﴾ وأما إذا اعتبر مذهبه فينبغي أن يكون البلع باقيا على حقيقته كالإنبات في : أنبت الربيع البقل. وهو بعيد، أو يجعل مستعارا لأمر متوهم كما في : نطقت الحال فيلزمه القول بالاستعارة التبعية كما هو المشهور.
ثم إنه تعالى أمر على سبيل الاستعارة للتشبيه الثاني وخاطب في الأمر تشريحا لاستعارة النداء، والحاصل أن في لفظ [ ابلعي ] باعتبار جوهرة استعارة لغئور الماء وباعتبار صورته أعني كونه صورة أمر استعارة أخرى لتكوين المراد، وباعتبار كونه أمر خطاب ترشيح للاستعارة المكنية التي في المنادى، فإن قرينتها النداء وما زاد على قرينة المكنية يكون ترشيحا لها. وأما جعل النداء استعارة تصريحية تبعية حتى يكون خطاب الآمر ترشيحا لها فقد عرفت ما فيه.
ثم قال جل وعلا [ ماءك ] بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز تشبيها لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالملك، واختار ضمير الخطاب لأجل التشريح وحاصله أن هناك مجازا لغويا في الهيئة الإضافية الدالة على الاختصاص الملكي، ولهذا جعل الخطاب ترشيحا لهذه الاستعارة من حيث إن الخطاب يدل على صلوح الأرض للمالكية، فما قيل إن المجاز عقلي والعبارة مصروفة عن الظاهر ليس بشيء.
ثم اختار لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان من المطر أو الفعل، ففي [ أقلعي ] استعارة باعتبار جوهره وكذا باعتبار صيغته أيضا وهي مبنية على تشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافد، والخطاب فيه أيضا ترشيح لاستعارة النداء، والحاصل أن الكلام فيه مثل ما مر في [ ابلعي ].
" ثم قال سبحا

﴿ وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها ﴾ يقال ركب الدابة والسفينة وركب على الدابة لأنه يعلوها، وفي السفينة لأنه يكون مظروفا فيها وإن جلس على ظهرها وهو المستعمل في القرآن، قرأ بعض أئمة القراء [ مجراها ] بفتح الميم بإمالة الراء وتركها وهو مصدر ميمي لجرت السفينة تجري موافق لقوله الآتي [ وهي تجري بهم ] وقرأها الآخرون بضم الميم وهو مصدر ميمي لأجرى على إرادة إجراء الله تعالى لها. وقرؤوا كلهم [ مرساها ] بضم الميم بمعنى أن الله تعالى هو الذي سيرسيها، ورسو السفينة وقوفها، والمجرى والمرسى يجيئان اسمي زمان ومكان أيضا. وهذه الجملة يحتمل أن يكون قالها نوح عليه السلام عند أمرهم بركوب السفينة معه امتثالا لأمر الله تعالى في الآية قبلها فتكون بشارة لهم بحفظه تعالى لها ولهم، أي باسم لله جريانها وإرساؤها فهو الذي يتولى ذلك بحوله وقوته، وحفظه وعنايته، ويحتمل أن يكون أمرهم بأن يقولوها كما يقولها على تقدير : اركبوا فيها قائلين باسم الله، أي بتسخيره وقدرته مجراها حين تجري أو حين يجريها، ومرساها حين يرسيها، لا بحولنا ولا قوتنا.
﴿ إن ربي لغفور رحيم ﴾ أي إنه لواسع المغفرة لعباده حيث لم يهلكهم جميعهم بذنوبهم وتقصيرهم، وإنما يهلك الكافرين الظالمين وحدهم، رحيم بهم بما سخر لهم هذه السفينة لنجاة بقية الإنسان والحيوان من هذا الطوفان الذي اقتضته مشيئته، أخرج أبو يعلى والطبراني وابن السني وغيرهم عن الحسن بن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أمان لأمتي من الغرق إذا ركبوا الفلك أن يقولوا : باسم الله الملك الرحمن ) ﴿ باسم الله مجراها ﴾ - ﴿ وما قدروا الله حق قدره ﴾ والظاهر أن المراد بالآية الثانية آية سورة الزمر [ ٣٩ : ٦٧ ] والله أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:علاوات لتفسير قصة نوح عليه السلام
العلاوة الأولى : البلاغة الفنية في الآية ٤٣
سبق لنا أن قلنا في الكلام على إعجاز القرآن ببلاغته ومذهب المتكلمين وأدباء الفنون في التحدي به : إن هذا النوع من الإعجاز يقل من يفقهه في هذا العصر لفقد أهله ملكتي البلاغة الذوقية السليقية والبيانية الفنية بله الجمع بينهما، وهو ضروري لإدراك هذا النوع من الإعجاز، وإن من يفقهه ويدرك عدم استطاعة أحد أن يأتي بسورة مثله قد يخفى عليه وجه دلالته على أنه لا بد أن يكون وحيا من الله تعالى وحجة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولذلك جزموا بوقوع العجز واختلفوا في وجه الدلالة، فمثلهم كمثل حداق الفنانين في الوشي والتطريز إذا رأوا صنع قدماء الهنود من أهل لاهور وكشمير وأقروا بالعجز عن محاكاته، والمصورين إذا رأوا أدق صور رفائيل في تصوير الإنسان بأدق مناظر أعضائه وشمائله وملامح صفاته النفسية وإمارات انفعالاته ولا سيما المتقاربة كالخوف والفزع والحزن والغم والغضب ونظر الإقرار ونظر الإنكار ونظر الشهوة ونظر العطف ونظر الرحمة ونظر الإعجاب والعجب ونظر المتفكر والمتحير، فقد يقرون بعجزهم عن محاكاتها ولكنهم لا يقولون بعدم إمكانها، بل يقولون بإمكانها وبقرب وقوعها بالفعل إذا وجدت الداعية القوية كمنفعة مالية كبيرة أو مصلحة قومية أو دولية عظيمة.
ومن المعلوم من تاريخ النبي صلى الله عليه وسلم مع فصحاء قريش وغيرهم أنه حدثت لهم أعظم الدواعي والمصالح المعارضة للقرآن بعد تحديثهم بسورة مثله مطلقا والتحدي بعشر سور في المكرر ولو مفترى، فأيقنوا بعجزهم عن الإتيان بها وبهن، ولو ظاهرهم عليه جميع الإنس عن كثرة بلغائهم وفصحائهم، والجن الذين يعتقدون أن منهم هواجس تلقنهم الشعر من حيث لا يرونهم، وكذا آلهتهم القادرون بخصائصهم الغيبية أو بمكانتهم عند الله تعالى على كل ما يريدون في هذا العالم بزعمهم، قد عجزوا مع هذا كله واضطروا إلى مقاومة النبي بالقتال، وما أعقبهم من خسارة المال، وسبي النساء والأطفال، ثم ما هو أشد عليهم وهو احتمال الذل والنكال، وروي أن كبراءهم زعموا على التعاون على المعارضة واستعدوا لها فسمعوا هذه الآية [ وقيل يا أرض ] فتضاءلت قواهم واستخذت أنفسهم ورجعوا عن عزمهم، كما يأتي قريبا.
عرف بلغاء قريش من بلاغة هذه الآية الروحية الكامنة في فصاحتها اللفظية الظاهرة وغيرها ما لم يعرفه بلغاء الفنون بعدهم منها، فكان هؤلاء أعلم بما للحسن والجمال الصوري في الكلام من المقاييس الفلسفية والموازين الفنية ودرجات الراجح على المرجوح. وكان أولئك أدق شعورا بما لهذا الحسن والجمال من السلطان على القلوب والحكم على العقول. مثال ذلك أن للجمال البدني في حسان النساء مقاييس وموازين لتناسب الأعضاء بعضها مع بعض يمكن ضبطها والعدل في الحكم بينها. وأما الجمال المعنوي وهو خفة الروح وسلطان التأثير في القلوب، فليس له مقياس، ولا ميزان عشري يضبط به وزنه أو مساحته فيعرف الراجح من المرجوح، وإنما يعرف هذا الجمال الأعلى بملكة نفسية، لا بأوزان صناعية، كما قال أبو الطيب في الخيل :
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها وأعضائها فالحسن عنك مغيب١
وإنما أحدث القرآن في الأمة العربية ما أحدث من الثورة الدينية والاجتماعية والانقلاب العالمي بالنوع الثاني من إدراك بلاغته لا الأول، وكل منها كامل من بابه، كما بينا ذلك في موضعه من عهد قريب، وإن كثرة البحث في الثاني ليشغل المفسر والمتدبر عن الأول الخاص منه بالهداية وإصلاح النفس وتزكيتها، ولهذا نقتصر منه في تفسيرنا على ما قصر فيه المفسرون باختصار لا يشغل عن الهداية المقصودة بالذات، وقد نجعله من باب الاستطراد بعد بيان معنى الآية أو الآيات، ولهذا جعلت ما أحببت بيانه في بلاغة هذه الآية الفنية علاوة من هذه العلاوات، وقد أطال العلماء الأخصائيون فيها حتى أفردها بعضهم بمصنفات خاصة، وتكلم صاحب [ الطراز في علوم الإعجاز ] عليها في ٢٥ صفحة، ولعله أحسنهم فيها كلاما، وإن كان السكاكي هو السابق إليه وكلهم فيه عيال عليه، وذكر بعض المفسرين جملا مختصرة أو وسطا منه أنقل منها هنا ما لخصه السيد الآلوسي في روح المعاني من كلام السكاكي وغيره بتصرف كعادته قال :
واعلم أن هذه الآية الكريمة قد بلغت من مراتب الإعجاز أقاصيها، واستدلت مصاقع العرب فسفعت بنواصيها، وجمعت من المحاسن ما يضيق عنه نطاق البيان، وكانت من سمهري البلاغة مكان السنان.
يروى أن كفار قريش قصدوا أن يعارضوا القرآن فعكفوا على لباب البر ولحوم الضأن وسلاف الخمر أربعين يوما لتصفوا أذهانهم، فلما أخذوا فيما قصدوه وسمعوا هذه الآية قال بعضهم لبعض : هذا الكلام لا يشبه كلام المخلوقين، فتركوا ما أخذوا فيه وتفرقوا. ويروى أيضا أن ابن المقفع وكان –كما في القاموس- فصيحا بليغا، بل قيل إنه أفصح أهل وقته- رام أن يعارض القرآن فنظم كلاما وجعله مفصلا وسماه سورا، فاجتاز يوما بصبي يقرؤها في مكتب فرجع ومحا ما عمل، وقال أشهد أن هذا لا يعارض أبدا وما هو من كلام البشر. ولا يخفى أن هذا لا يستدعي أن لا يكون سائر آيات القرآن العظيم معجزا لما أن حد الإعجاز هو المرتبة التي يعجز البشر عن الإتيان بمثلها ولا تدخل على قدرته قطعا وهي تشتمل على شيئين : الأول الطرف الأعلى من البلاغة أعني ما ينتهي إليه البلاغة ولا يتصور تجاوزها إياه، والثاني ما يقرب من ذلك الطرف أعني المراتب العلمية التي تتقاصر القوى البشرية عنها أيضا.
ومعنى إعجاز آيات الكتاب المجيد بأسرها هو كونها مما تتقاصر القوى البشرية عن الإتيان بمثلها سواء كانت من القسم الأول أو الثاني فلا يضر تفاوتها في البلاغة، وهو الذي قاله علماء هذا الشأن.
وقد فصل بعض مزايا هذه الآية المهرة المتقنون، وتركوا من ذلك ما لا يكاد يصفه الواصفون، ولا بأس بذكر شيء مما ذكر إفادة لجاهل، وتذكيرا لفاضل غافل، فنقول :
جهات بلاغة الآية الأربع : أولها جهة علم البيان
ذكر العلامة السكاكي أن النظر فيها من أربع جهات : من جهة علم البيان، ومن جهة علم المعاني وهما مرجعا البلاغة. ومن جهة الفصاحة المعنوية، ومن جهة الفصاحة اللفظية : أما النظر فيها من جهة علم البيان وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بذلك من القرينة والترشيح والتعريض، فهو أنه عز سلطانه لما أراد أن يبين معنى : أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد، وأن نقطع طوفان المساء فانقطع، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض، وأن نقضي أمر نوح عليه السلام وهو إنجاز ما كنا وعدناه من إغراق قومه فقضى، وأن نسوي السفينة على الجودي فاستوت، وأبقينا الظلمة غرقى – بنى سبحانه الكلام على تشبيه المراد منه بالمأمور الذي لا يتأتى منه –لكما هيبته من الآمر- العصيان، وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكون المقصود تصويرا لاقتداره سبحانه العظيم، وأن هذه الأجرام العظيمة من السماوات والأرض تابعة لإرادته تعالى إيجادا وإعداما، ولمشيئته فيها تغييرا وتبديلا، كأنها عقلاء مميزون قد عرفوه جل شأنه حق معرفته، وأحاطوا علما بوجوب الانقياد لأمره، والإذعان لحكمه، ويحتم بذل المجهود عليهم في تحصيل مراده، وتصوروا مزيد اقتداره، فعظمت مهابته في نفوسهم، وضربت سرادقها في أفنية ضمائرهم، فكما يلوح لهم إشارته سبحانه كان المشار إليه مقدما، وكما يرد عليهم أمره تعالى شأنه كان المأمور به متمما، لا تلقي لإشارته بغير الإمضاء والانقياد، ولا لأمره بغير الإذعان والامتثال.
" ثم بنى على مجموع التشبيهين نظم الكلام فقال جل وعلا قيل : على سبيل المجاز عن الإرادة من باب ذكر المسبب وإرادة السبب، لأن الإرادة تكون سببا لوقوع القول في الجملة، وجعل قرينة هذا المجاز خطاب الجماد وهو [ يا أرض- ويا سماء ] إذ يصح أن يراد حصول شيء متعلق بالجماد ولا يصح القول له. ثم قال سبحانه كما ترى [ يا أرض، ويا سماء ] مخاطبا لهما على سبيل الاستعارة للشبه المذكور، والظاهر أنه أراد أن هناك استعارة بالكناية حيث ذكر المشبه أعني السماء والأرض المراد منهما حصول أمر وأريد المشبه به أعني المأمور الموصوف بأنه لا يتأتى منه العصيان ادعاء بقرينة نسبة الخطاب إليه، ودخول حرف النداء عليه، وهما من خواص المأمور المطيع ويكون هذا تخييلا. وقد يقال : أراد أن الاستعارة ههنا تصريحية تبعية في حرف النداء بناء على تشبيه تعلق الإرادة بالمراد منه بتعلق النداء والخطاب بالمنادي المخاطب، وليس بشيء إذ لا يحسن هذا التشبيه ابتداء بل تبعا للتشبيه الأول فكيف يجعل أصلا لمتبوعه ؟ على أن قوله للشبه المذكور يدفع هذا الحمل.
ثم استعار لغئور الماء في الأرض [ البلع ] الذي هو إعمال الجاذبة في المطعوم للشبه بينهما وهو الذهاب إلى مقر خفي. وفي الكشاف : جعل البلع مستعارا لنشف الأرض الماء وهو أولى فإن النشف دال على جذب من إجزاء الأرض لما عليها كالبلع بالنسبة إلى الحيوان، ولأن النشف فعل الأرض والغثور فعل الماء مع الطباق بين الفعلين تعديا. ثم استعار الماء للغذاء استعارة بالكناية تشبيها له بالغذاء لتقوي الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار تقوي الآكل بالطعام وجعل قرينة الاستعارة لفظة [ ابلعي ] لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء.
ولا يخفى عليك أنه إذا اعتبر مذهب السلف في الاستعارة يكون [ ابلعي ] استعارة تصريحية ومع ذلك يكون بحسب اللفظ قرينة للاستعارة بالكناية في الماء على حد ما قالوا في ﴿ ينقضون عهد الله ﴾ وأما إذا اعتبر مذهبه فينبغي أن يكون البلع باقيا على حقيقته كالإنبات في : أنبت الربيع البقل. وهو بعيد، أو يجعل مستعارا لأمر متوهم كما في : نطقت الحال فيلزمه القول بالاستعارة التبعية كما هو المشهور.
ثم إنه تعالى أمر على سبيل الاستعارة للتشبيه الثاني وخاطب في الأمر تشريحا لاستعارة النداء، والحاصل أن في لفظ [ ابلعي ] باعتبار جوهرة استعارة لغئور الماء وباعتبار صورته أعني كونه صورة أمر استعارة أخرى لتكوين المراد، وباعتبار كونه أمر خطاب ترشيح للاستعارة المكنية التي في المنادى، فإن قرينتها النداء وما زاد على قرينة المكنية يكون ترشيحا لها. وأما جعل النداء استعارة تصريحية تبعية حتى يكون خطاب الآمر ترشيحا لها فقد عرفت ما فيه.
ثم قال جل وعلا [ ماءك ] بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز تشبيها لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالملك، واختار ضمير الخطاب لأجل التشريح وحاصله أن هناك مجازا لغويا في الهيئة الإضافية الدالة على الاختصاص الملكي، ولهذا جعل الخطاب ترشيحا لهذه الاستعارة من حيث إن الخطاب يدل على صلوح الأرض للمالكية، فما قيل إن المجاز عقلي والعبارة مصروفة عن الظاهر ليس بشيء.
ثم اختار لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان من المطر أو الفعل، ففي [ أقلعي ] استعارة باعتبار جوهره وكذا باعتبار صيغته أيضا وهي مبنية على تشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافد، والخطاب فيه أيضا ترشيح لاستعارة النداء، والحاصل أن الكلام فيه مثل ما مر في [ ابلعي ].
" ثم قال سبحا

﴿ وهي تجري بهم في موج كالجبال ﴾ هذا تصوير لحالها في جريها بهم كأنها حاضرة أمام القارئ أو السامع، أي تجري في أثناء موج يشبه الجبال في علوه وارتفاعه وامتداده، وهو ما يحدث في ظاهر البحر عند اضطرابه من التموج والارتفاع بفعل الرياح، واحده موجة وجمعه أمواج : وأصل الموج الاضطراب ومنه ﴿ وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ﴾ [ الكهف : ٩٩ ] ومن عرف ما يحدث في البحار العظيمة من الأمواج عندما تهيجها الرياح الشديدة، رأى أن المبالغة في هذا التشبيه غير بعيدة، وصف لي بعضهم سفره في المحيط الهندي في زمن رياح الصيف التي يسمونها الموسمية بما معناه : كنت أرى السفينة تهبط بنا في غور عميق، كواد سحيق، نرى البحر من جانبيه كجبلين عظيمين يكادان يطبقان عليهما، فإذا بها قد اندفعت إلى أعلى الموج كأنها في شاهق جبل تريد أن تنقض منه، والملاحون يربطون أنفسهم بالحبال على ظهرها وجوانبها، لئلا يجرفهم ما يفيض من الموج عليها، وراجع وصف البحر في تفسير قوله تعالى :﴿ هو الذي يسيركم في البر والبحر ﴾ [ يونس : ٢٢ ].
﴿ ونادى نوح ابنه ﴾ عند الركوب في السفينة وقبل جريانها ولم يسبق له ذكر وسيأتي بقية خبره في آخر القصة ﴿ وكان في معزل ﴾ أي مكان عزلة وانفراد دون أهله الذين ركبوا فيها ودون الكفار ﴿ يا بني اركب معنا ﴾ أي مع والدك وأهلك الناجين ﴿ ولا تكن مع الكافرين ﴾ المقضي عليهم بالهلاك.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:علاوات لتفسير قصة نوح عليه السلام
العلاوة الأولى : البلاغة الفنية في الآية ٤٣
سبق لنا أن قلنا في الكلام على إعجاز القرآن ببلاغته ومذهب المتكلمين وأدباء الفنون في التحدي به : إن هذا النوع من الإعجاز يقل من يفقهه في هذا العصر لفقد أهله ملكتي البلاغة الذوقية السليقية والبيانية الفنية بله الجمع بينهما، وهو ضروري لإدراك هذا النوع من الإعجاز، وإن من يفقهه ويدرك عدم استطاعة أحد أن يأتي بسورة مثله قد يخفى عليه وجه دلالته على أنه لا بد أن يكون وحيا من الله تعالى وحجة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولذلك جزموا بوقوع العجز واختلفوا في وجه الدلالة، فمثلهم كمثل حداق الفنانين في الوشي والتطريز إذا رأوا صنع قدماء الهنود من أهل لاهور وكشمير وأقروا بالعجز عن محاكاته، والمصورين إذا رأوا أدق صور رفائيل في تصوير الإنسان بأدق مناظر أعضائه وشمائله وملامح صفاته النفسية وإمارات انفعالاته ولا سيما المتقاربة كالخوف والفزع والحزن والغم والغضب ونظر الإقرار ونظر الإنكار ونظر الشهوة ونظر العطف ونظر الرحمة ونظر الإعجاب والعجب ونظر المتفكر والمتحير، فقد يقرون بعجزهم عن محاكاتها ولكنهم لا يقولون بعدم إمكانها، بل يقولون بإمكانها وبقرب وقوعها بالفعل إذا وجدت الداعية القوية كمنفعة مالية كبيرة أو مصلحة قومية أو دولية عظيمة.
ومن المعلوم من تاريخ النبي صلى الله عليه وسلم مع فصحاء قريش وغيرهم أنه حدثت لهم أعظم الدواعي والمصالح المعارضة للقرآن بعد تحديثهم بسورة مثله مطلقا والتحدي بعشر سور في المكرر ولو مفترى، فأيقنوا بعجزهم عن الإتيان بها وبهن، ولو ظاهرهم عليه جميع الإنس عن كثرة بلغائهم وفصحائهم، والجن الذين يعتقدون أن منهم هواجس تلقنهم الشعر من حيث لا يرونهم، وكذا آلهتهم القادرون بخصائصهم الغيبية أو بمكانتهم عند الله تعالى على كل ما يريدون في هذا العالم بزعمهم، قد عجزوا مع هذا كله واضطروا إلى مقاومة النبي بالقتال، وما أعقبهم من خسارة المال، وسبي النساء والأطفال، ثم ما هو أشد عليهم وهو احتمال الذل والنكال، وروي أن كبراءهم زعموا على التعاون على المعارضة واستعدوا لها فسمعوا هذه الآية [ وقيل يا أرض ] فتضاءلت قواهم واستخذت أنفسهم ورجعوا عن عزمهم، كما يأتي قريبا.
عرف بلغاء قريش من بلاغة هذه الآية الروحية الكامنة في فصاحتها اللفظية الظاهرة وغيرها ما لم يعرفه بلغاء الفنون بعدهم منها، فكان هؤلاء أعلم بما للحسن والجمال الصوري في الكلام من المقاييس الفلسفية والموازين الفنية ودرجات الراجح على المرجوح. وكان أولئك أدق شعورا بما لهذا الحسن والجمال من السلطان على القلوب والحكم على العقول. مثال ذلك أن للجمال البدني في حسان النساء مقاييس وموازين لتناسب الأعضاء بعضها مع بعض يمكن ضبطها والعدل في الحكم بينها. وأما الجمال المعنوي وهو خفة الروح وسلطان التأثير في القلوب، فليس له مقياس، ولا ميزان عشري يضبط به وزنه أو مساحته فيعرف الراجح من المرجوح، وإنما يعرف هذا الجمال الأعلى بملكة نفسية، لا بأوزان صناعية، كما قال أبو الطيب في الخيل :
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها وأعضائها فالحسن عنك مغيب١
وإنما أحدث القرآن في الأمة العربية ما أحدث من الثورة الدينية والاجتماعية والانقلاب العالمي بالنوع الثاني من إدراك بلاغته لا الأول، وكل منها كامل من بابه، كما بينا ذلك في موضعه من عهد قريب، وإن كثرة البحث في الثاني ليشغل المفسر والمتدبر عن الأول الخاص منه بالهداية وإصلاح النفس وتزكيتها، ولهذا نقتصر منه في تفسيرنا على ما قصر فيه المفسرون باختصار لا يشغل عن الهداية المقصودة بالذات، وقد نجعله من باب الاستطراد بعد بيان معنى الآية أو الآيات، ولهذا جعلت ما أحببت بيانه في بلاغة هذه الآية الفنية علاوة من هذه العلاوات، وقد أطال العلماء الأخصائيون فيها حتى أفردها بعضهم بمصنفات خاصة، وتكلم صاحب [ الطراز في علوم الإعجاز ] عليها في ٢٥ صفحة، ولعله أحسنهم فيها كلاما، وإن كان السكاكي هو السابق إليه وكلهم فيه عيال عليه، وذكر بعض المفسرين جملا مختصرة أو وسطا منه أنقل منها هنا ما لخصه السيد الآلوسي في روح المعاني من كلام السكاكي وغيره بتصرف كعادته قال :
واعلم أن هذه الآية الكريمة قد بلغت من مراتب الإعجاز أقاصيها، واستدلت مصاقع العرب فسفعت بنواصيها، وجمعت من المحاسن ما يضيق عنه نطاق البيان، وكانت من سمهري البلاغة مكان السنان.
يروى أن كفار قريش قصدوا أن يعارضوا القرآن فعكفوا على لباب البر ولحوم الضأن وسلاف الخمر أربعين يوما لتصفوا أذهانهم، فلما أخذوا فيما قصدوه وسمعوا هذه الآية قال بعضهم لبعض : هذا الكلام لا يشبه كلام المخلوقين، فتركوا ما أخذوا فيه وتفرقوا. ويروى أيضا أن ابن المقفع وكان –كما في القاموس- فصيحا بليغا، بل قيل إنه أفصح أهل وقته- رام أن يعارض القرآن فنظم كلاما وجعله مفصلا وسماه سورا، فاجتاز يوما بصبي يقرؤها في مكتب فرجع ومحا ما عمل، وقال أشهد أن هذا لا يعارض أبدا وما هو من كلام البشر. ولا يخفى أن هذا لا يستدعي أن لا يكون سائر آيات القرآن العظيم معجزا لما أن حد الإعجاز هو المرتبة التي يعجز البشر عن الإتيان بمثلها ولا تدخل على قدرته قطعا وهي تشتمل على شيئين : الأول الطرف الأعلى من البلاغة أعني ما ينتهي إليه البلاغة ولا يتصور تجاوزها إياه، والثاني ما يقرب من ذلك الطرف أعني المراتب العلمية التي تتقاصر القوى البشرية عنها أيضا.
ومعنى إعجاز آيات الكتاب المجيد بأسرها هو كونها مما تتقاصر القوى البشرية عن الإتيان بمثلها سواء كانت من القسم الأول أو الثاني فلا يضر تفاوتها في البلاغة، وهو الذي قاله علماء هذا الشأن.
وقد فصل بعض مزايا هذه الآية المهرة المتقنون، وتركوا من ذلك ما لا يكاد يصفه الواصفون، ولا بأس بذكر شيء مما ذكر إفادة لجاهل، وتذكيرا لفاضل غافل، فنقول :
جهات بلاغة الآية الأربع : أولها جهة علم البيان
ذكر العلامة السكاكي أن النظر فيها من أربع جهات : من جهة علم البيان، ومن جهة علم المعاني وهما مرجعا البلاغة. ومن جهة الفصاحة المعنوية، ومن جهة الفصاحة اللفظية : أما النظر فيها من جهة علم البيان وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بذلك من القرينة والترشيح والتعريض، فهو أنه عز سلطانه لما أراد أن يبين معنى : أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد، وأن نقطع طوفان المساء فانقطع، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض، وأن نقضي أمر نوح عليه السلام وهو إنجاز ما كنا وعدناه من إغراق قومه فقضى، وأن نسوي السفينة على الجودي فاستوت، وأبقينا الظلمة غرقى – بنى سبحانه الكلام على تشبيه المراد منه بالمأمور الذي لا يتأتى منه –لكما هيبته من الآمر- العصيان، وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكون المقصود تصويرا لاقتداره سبحانه العظيم، وأن هذه الأجرام العظيمة من السماوات والأرض تابعة لإرادته تعالى إيجادا وإعداما، ولمشيئته فيها تغييرا وتبديلا، كأنها عقلاء مميزون قد عرفوه جل شأنه حق معرفته، وأحاطوا علما بوجوب الانقياد لأمره، والإذعان لحكمه، ويحتم بذل المجهود عليهم في تحصيل مراده، وتصوروا مزيد اقتداره، فعظمت مهابته في نفوسهم، وضربت سرادقها في أفنية ضمائرهم، فكما يلوح لهم إشارته سبحانه كان المشار إليه مقدما، وكما يرد عليهم أمره تعالى شأنه كان المأمور به متمما، لا تلقي لإشارته بغير الإمضاء والانقياد، ولا لأمره بغير الإذعان والامتثال.
" ثم بنى على مجموع التشبيهين نظم الكلام فقال جل وعلا قيل : على سبيل المجاز عن الإرادة من باب ذكر المسبب وإرادة السبب، لأن الإرادة تكون سببا لوقوع القول في الجملة، وجعل قرينة هذا المجاز خطاب الجماد وهو [ يا أرض- ويا سماء ] إذ يصح أن يراد حصول شيء متعلق بالجماد ولا يصح القول له. ثم قال سبحانه كما ترى [ يا أرض، ويا سماء ] مخاطبا لهما على سبيل الاستعارة للشبه المذكور، والظاهر أنه أراد أن هناك استعارة بالكناية حيث ذكر المشبه أعني السماء والأرض المراد منهما حصول أمر وأريد المشبه به أعني المأمور الموصوف بأنه لا يتأتى منه العصيان ادعاء بقرينة نسبة الخطاب إليه، ودخول حرف النداء عليه، وهما من خواص المأمور المطيع ويكون هذا تخييلا. وقد يقال : أراد أن الاستعارة ههنا تصريحية تبعية في حرف النداء بناء على تشبيه تعلق الإرادة بالمراد منه بتعلق النداء والخطاب بالمنادي المخاطب، وليس بشيء إذ لا يحسن هذا التشبيه ابتداء بل تبعا للتشبيه الأول فكيف يجعل أصلا لمتبوعه ؟ على أن قوله للشبه المذكور يدفع هذا الحمل.
ثم استعار لغئور الماء في الأرض [ البلع ] الذي هو إعمال الجاذبة في المطعوم للشبه بينهما وهو الذهاب إلى مقر خفي. وفي الكشاف : جعل البلع مستعارا لنشف الأرض الماء وهو أولى فإن النشف دال على جذب من إجزاء الأرض لما عليها كالبلع بالنسبة إلى الحيوان، ولأن النشف فعل الأرض والغثور فعل الماء مع الطباق بين الفعلين تعديا. ثم استعار الماء للغذاء استعارة بالكناية تشبيها له بالغذاء لتقوي الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار تقوي الآكل بالطعام وجعل قرينة الاستعارة لفظة [ ابلعي ] لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء.
ولا يخفى عليك أنه إذا اعتبر مذهب السلف في الاستعارة يكون [ ابلعي ] استعارة تصريحية ومع ذلك يكون بحسب اللفظ قرينة للاستعارة بالكناية في الماء على حد ما قالوا في ﴿ ينقضون عهد الله ﴾ وأما إذا اعتبر مذهبه فينبغي أن يكون البلع باقيا على حقيقته كالإنبات في : أنبت الربيع البقل. وهو بعيد، أو يجعل مستعارا لأمر متوهم كما في : نطقت الحال فيلزمه القول بالاستعارة التبعية كما هو المشهور.
ثم إنه تعالى أمر على سبيل الاستعارة للتشبيه الثاني وخاطب في الأمر تشريحا لاستعارة النداء، والحاصل أن في لفظ [ ابلعي ] باعتبار جوهرة استعارة لغئور الماء وباعتبار صورته أعني كونه صورة أمر استعارة أخرى لتكوين المراد، وباعتبار كونه أمر خطاب ترشيح للاستعارة المكنية التي في المنادى، فإن قرينتها النداء وما زاد على قرينة المكنية يكون ترشيحا لها. وأما جعل النداء استعارة تصريحية تبعية حتى يكون خطاب الآمر ترشيحا لها فقد عرفت ما فيه.
ثم قال جل وعلا [ ماءك ] بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز تشبيها لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالملك، واختار ضمير الخطاب لأجل التشريح وحاصله أن هناك مجازا لغويا في الهيئة الإضافية الدالة على الاختصاص الملكي، ولهذا جعل الخطاب ترشيحا لهذه الاستعارة من حيث إن الخطاب يدل على صلوح الأرض للمالكية، فما قيل إن المجاز عقلي والعبارة مصروفة عن الظاهر ليس بشيء.
ثم اختار لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان من المطر أو الفعل، ففي [ أقلعي ] استعارة باعتبار جوهره وكذا باعتبار صيغته أيضا وهي مبنية على تشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافد، والخطاب فيه أيضا ترشيح لاستعارة النداء، والحاصل أن الكلام فيه مثل ما مر في [ ابلعي ].
" ثم قال سبحا

﴿ قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء ﴾ أي سألجأ إلى جبل عال يحفظني من الماء أن يصل إلي فأغرق ﴿ قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم ﴾ أي لا شيء في هذا اليوم العصيب يعصم أحدا من أمر الله الذي قضاه، فليس الأمر والشأن أمر ماء يرتفع بكثرة المطر كالمعتاد، فيتقي الحازم ضره بما يقدر عليه من الأسباب، وإنما هو أمر انتقام عام من أشرار العباد، الذين أشركوا بالله وظلموا وطغوا في البلاد، لكن من رحم الله منهم فهو يعصمه ويحفظه، وقد اختص بهذه الرحمة من أمر بحملهم في هذه السفينة ﴿ وحال بينهما الموج ﴾ وكان قد بدأ يرتفع في أثناء هذا الحديث حتى حال بين الولد ووالده ﴿ فكان من المغرقين ﴾ الهالكين
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( كان نوح مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم حتى كان آخر زمانه غرس شجرة فعظمت وذهبت كل مذهب ثم قطعها ثم جعل يعمل منها سفينة ويمرون فيسألونه فيقول أعملها سفينة فيسخرون منه ويقولون تعمل سفينة في البر فكيف تجري ؟ قال سوف تعلمون فلما فرغ منها وفار التنور وكثر الماء في السكك خشيت أم الصبي عليه وكانت تحبه حبا شديدا فخرجت إلى الجبل حتى بلغت ثلثه فلما بلغها الماء خرجت حتى استوت على الجبل فلما بلغ الماء رقبته رفعته بين يديها حتى ذهب الماء بها، فلو رحم الله منهم أحدا لرحم أم الصبي ).
هذا الحديث رواه من ذكرنا كلهم من طريق موسى بن يعقوب، وقد قال الحاكم في مستدركه : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه اه. يعني البخاري ومسلم وتعقبه الذهبي فقال إسناده مظلم وموسى ليس بذاك. وذكر في الميزان ووافقه الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب أنهم اختلفوا في موسى هذا وثقه ابن معين، وقال النسائي : ليس بالقوي، وقال أبو داود : هو صالح، وقال ابن المديني : ضعيف منكر الحديث.
وقد وصف الله حدوث هذا الطوفان بقوله في سورة القمر ﴿ كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر فدعا ربه أني مغلوب فانتصر ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر وحملناه على ذات ألواح ودسر تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر ولقد تركناها آية فهل من مذكر فكيف كان عذابي ونذر ﴾ [ القمر : ٩-١٦ ] وإنه لوصف وجيز، في أعلى مراقي البلاغة والتأثير.
ما أفظع هذا المنظر ! ما أشد هوله ! ما أعظم روعته ! ماء ينهمر من آفاق السماء انهمارا، وأرض تتفجر عيونا خوارة فتفيض مدرارا، ماء ثجاج، يصير بحرا ذا أمواج، خفيت من تحته الأرض بجبالها، وخفيت من فوقه السماء بشمسها وكواكبها، وكانت عليه هذه السفينة كما كان عرض الله على الماء في بدء التكوين، كأن ملك الله الأرضي قد انحصر فيها، فتخيل أنك ناظر إليها كما صورها لك التنزيل، تتفكر فيما يؤول إليه أمر هذا الخطب الجليل، واستمع لما بينه به الذكر الحكيم، أوجز عبارة وأبلغها تأثيرا، جعلت أعظم ما في العالم كأن لم يكن شيء مذكورا.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:علاوات لتفسير قصة نوح عليه السلام
العلاوة الأولى : البلاغة الفنية في الآية ٤٣
سبق لنا أن قلنا في الكلام على إعجاز القرآن ببلاغته ومذهب المتكلمين وأدباء الفنون في التحدي به : إن هذا النوع من الإعجاز يقل من يفقهه في هذا العصر لفقد أهله ملكتي البلاغة الذوقية السليقية والبيانية الفنية بله الجمع بينهما، وهو ضروري لإدراك هذا النوع من الإعجاز، وإن من يفقهه ويدرك عدم استطاعة أحد أن يأتي بسورة مثله قد يخفى عليه وجه دلالته على أنه لا بد أن يكون وحيا من الله تعالى وحجة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولذلك جزموا بوقوع العجز واختلفوا في وجه الدلالة، فمثلهم كمثل حداق الفنانين في الوشي والتطريز إذا رأوا صنع قدماء الهنود من أهل لاهور وكشمير وأقروا بالعجز عن محاكاته، والمصورين إذا رأوا أدق صور رفائيل في تصوير الإنسان بأدق مناظر أعضائه وشمائله وملامح صفاته النفسية وإمارات انفعالاته ولا سيما المتقاربة كالخوف والفزع والحزن والغم والغضب ونظر الإقرار ونظر الإنكار ونظر الشهوة ونظر العطف ونظر الرحمة ونظر الإعجاب والعجب ونظر المتفكر والمتحير، فقد يقرون بعجزهم عن محاكاتها ولكنهم لا يقولون بعدم إمكانها، بل يقولون بإمكانها وبقرب وقوعها بالفعل إذا وجدت الداعية القوية كمنفعة مالية كبيرة أو مصلحة قومية أو دولية عظيمة.
ومن المعلوم من تاريخ النبي صلى الله عليه وسلم مع فصحاء قريش وغيرهم أنه حدثت لهم أعظم الدواعي والمصالح المعارضة للقرآن بعد تحديثهم بسورة مثله مطلقا والتحدي بعشر سور في المكرر ولو مفترى، فأيقنوا بعجزهم عن الإتيان بها وبهن، ولو ظاهرهم عليه جميع الإنس عن كثرة بلغائهم وفصحائهم، والجن الذين يعتقدون أن منهم هواجس تلقنهم الشعر من حيث لا يرونهم، وكذا آلهتهم القادرون بخصائصهم الغيبية أو بمكانتهم عند الله تعالى على كل ما يريدون في هذا العالم بزعمهم، قد عجزوا مع هذا كله واضطروا إلى مقاومة النبي بالقتال، وما أعقبهم من خسارة المال، وسبي النساء والأطفال، ثم ما هو أشد عليهم وهو احتمال الذل والنكال، وروي أن كبراءهم زعموا على التعاون على المعارضة واستعدوا لها فسمعوا هذه الآية [ وقيل يا أرض ] فتضاءلت قواهم واستخذت أنفسهم ورجعوا عن عزمهم، كما يأتي قريبا.
عرف بلغاء قريش من بلاغة هذه الآية الروحية الكامنة في فصاحتها اللفظية الظاهرة وغيرها ما لم يعرفه بلغاء الفنون بعدهم منها، فكان هؤلاء أعلم بما للحسن والجمال الصوري في الكلام من المقاييس الفلسفية والموازين الفنية ودرجات الراجح على المرجوح. وكان أولئك أدق شعورا بما لهذا الحسن والجمال من السلطان على القلوب والحكم على العقول. مثال ذلك أن للجمال البدني في حسان النساء مقاييس وموازين لتناسب الأعضاء بعضها مع بعض يمكن ضبطها والعدل في الحكم بينها. وأما الجمال المعنوي وهو خفة الروح وسلطان التأثير في القلوب، فليس له مقياس، ولا ميزان عشري يضبط به وزنه أو مساحته فيعرف الراجح من المرجوح، وإنما يعرف هذا الجمال الأعلى بملكة نفسية، لا بأوزان صناعية، كما قال أبو الطيب في الخيل :
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها وأعضائها فالحسن عنك مغيب١
وإنما أحدث القرآن في الأمة العربية ما أحدث من الثورة الدينية والاجتماعية والانقلاب العالمي بالنوع الثاني من إدراك بلاغته لا الأول، وكل منها كامل من بابه، كما بينا ذلك في موضعه من عهد قريب، وإن كثرة البحث في الثاني ليشغل المفسر والمتدبر عن الأول الخاص منه بالهداية وإصلاح النفس وتزكيتها، ولهذا نقتصر منه في تفسيرنا على ما قصر فيه المفسرون باختصار لا يشغل عن الهداية المقصودة بالذات، وقد نجعله من باب الاستطراد بعد بيان معنى الآية أو الآيات، ولهذا جعلت ما أحببت بيانه في بلاغة هذه الآية الفنية علاوة من هذه العلاوات، وقد أطال العلماء الأخصائيون فيها حتى أفردها بعضهم بمصنفات خاصة، وتكلم صاحب [ الطراز في علوم الإعجاز ] عليها في ٢٥ صفحة، ولعله أحسنهم فيها كلاما، وإن كان السكاكي هو السابق إليه وكلهم فيه عيال عليه، وذكر بعض المفسرين جملا مختصرة أو وسطا منه أنقل منها هنا ما لخصه السيد الآلوسي في روح المعاني من كلام السكاكي وغيره بتصرف كعادته قال :
واعلم أن هذه الآية الكريمة قد بلغت من مراتب الإعجاز أقاصيها، واستدلت مصاقع العرب فسفعت بنواصيها، وجمعت من المحاسن ما يضيق عنه نطاق البيان، وكانت من سمهري البلاغة مكان السنان.
يروى أن كفار قريش قصدوا أن يعارضوا القرآن فعكفوا على لباب البر ولحوم الضأن وسلاف الخمر أربعين يوما لتصفوا أذهانهم، فلما أخذوا فيما قصدوه وسمعوا هذه الآية قال بعضهم لبعض : هذا الكلام لا يشبه كلام المخلوقين، فتركوا ما أخذوا فيه وتفرقوا. ويروى أيضا أن ابن المقفع وكان –كما في القاموس- فصيحا بليغا، بل قيل إنه أفصح أهل وقته- رام أن يعارض القرآن فنظم كلاما وجعله مفصلا وسماه سورا، فاجتاز يوما بصبي يقرؤها في مكتب فرجع ومحا ما عمل، وقال أشهد أن هذا لا يعارض أبدا وما هو من كلام البشر. ولا يخفى أن هذا لا يستدعي أن لا يكون سائر آيات القرآن العظيم معجزا لما أن حد الإعجاز هو المرتبة التي يعجز البشر عن الإتيان بمثلها ولا تدخل على قدرته قطعا وهي تشتمل على شيئين : الأول الطرف الأعلى من البلاغة أعني ما ينتهي إليه البلاغة ولا يتصور تجاوزها إياه، والثاني ما يقرب من ذلك الطرف أعني المراتب العلمية التي تتقاصر القوى البشرية عنها أيضا.
ومعنى إعجاز آيات الكتاب المجيد بأسرها هو كونها مما تتقاصر القوى البشرية عن الإتيان بمثلها سواء كانت من القسم الأول أو الثاني فلا يضر تفاوتها في البلاغة، وهو الذي قاله علماء هذا الشأن.
وقد فصل بعض مزايا هذه الآية المهرة المتقنون، وتركوا من ذلك ما لا يكاد يصفه الواصفون، ولا بأس بذكر شيء مما ذكر إفادة لجاهل، وتذكيرا لفاضل غافل، فنقول :
جهات بلاغة الآية الأربع : أولها جهة علم البيان
ذكر العلامة السكاكي أن النظر فيها من أربع جهات : من جهة علم البيان، ومن جهة علم المعاني وهما مرجعا البلاغة. ومن جهة الفصاحة المعنوية، ومن جهة الفصاحة اللفظية : أما النظر فيها من جهة علم البيان وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بذلك من القرينة والترشيح والتعريض، فهو أنه عز سلطانه لما أراد أن يبين معنى : أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد، وأن نقطع طوفان المساء فانقطع، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض، وأن نقضي أمر نوح عليه السلام وهو إنجاز ما كنا وعدناه من إغراق قومه فقضى، وأن نسوي السفينة على الجودي فاستوت، وأبقينا الظلمة غرقى – بنى سبحانه الكلام على تشبيه المراد منه بالمأمور الذي لا يتأتى منه –لكما هيبته من الآمر- العصيان، وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكون المقصود تصويرا لاقتداره سبحانه العظيم، وأن هذه الأجرام العظيمة من السماوات والأرض تابعة لإرادته تعالى إيجادا وإعداما، ولمشيئته فيها تغييرا وتبديلا، كأنها عقلاء مميزون قد عرفوه جل شأنه حق معرفته، وأحاطوا علما بوجوب الانقياد لأمره، والإذعان لحكمه، ويحتم بذل المجهود عليهم في تحصيل مراده، وتصوروا مزيد اقتداره، فعظمت مهابته في نفوسهم، وضربت سرادقها في أفنية ضمائرهم، فكما يلوح لهم إشارته سبحانه كان المشار إليه مقدما، وكما يرد عليهم أمره تعالى شأنه كان المأمور به متمما، لا تلقي لإشارته بغير الإمضاء والانقياد، ولا لأمره بغير الإذعان والامتثال.
" ثم بنى على مجموع التشبيهين نظم الكلام فقال جل وعلا قيل : على سبيل المجاز عن الإرادة من باب ذكر المسبب وإرادة السبب، لأن الإرادة تكون سببا لوقوع القول في الجملة، وجعل قرينة هذا المجاز خطاب الجماد وهو [ يا أرض- ويا سماء ] إذ يصح أن يراد حصول شيء متعلق بالجماد ولا يصح القول له. ثم قال سبحانه كما ترى [ يا أرض، ويا سماء ] مخاطبا لهما على سبيل الاستعارة للشبه المذكور، والظاهر أنه أراد أن هناك استعارة بالكناية حيث ذكر المشبه أعني السماء والأرض المراد منهما حصول أمر وأريد المشبه به أعني المأمور الموصوف بأنه لا يتأتى منه العصيان ادعاء بقرينة نسبة الخطاب إليه، ودخول حرف النداء عليه، وهما من خواص المأمور المطيع ويكون هذا تخييلا. وقد يقال : أراد أن الاستعارة ههنا تصريحية تبعية في حرف النداء بناء على تشبيه تعلق الإرادة بالمراد منه بتعلق النداء والخطاب بالمنادي المخاطب، وليس بشيء إذ لا يحسن هذا التشبيه ابتداء بل تبعا للتشبيه الأول فكيف يجعل أصلا لمتبوعه ؟ على أن قوله للشبه المذكور يدفع هذا الحمل.
ثم استعار لغئور الماء في الأرض [ البلع ] الذي هو إعمال الجاذبة في المطعوم للشبه بينهما وهو الذهاب إلى مقر خفي. وفي الكشاف : جعل البلع مستعارا لنشف الأرض الماء وهو أولى فإن النشف دال على جذب من إجزاء الأرض لما عليها كالبلع بالنسبة إلى الحيوان، ولأن النشف فعل الأرض والغثور فعل الماء مع الطباق بين الفعلين تعديا. ثم استعار الماء للغذاء استعارة بالكناية تشبيها له بالغذاء لتقوي الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار تقوي الآكل بالطعام وجعل قرينة الاستعارة لفظة [ ابلعي ] لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء.
ولا يخفى عليك أنه إذا اعتبر مذهب السلف في الاستعارة يكون [ ابلعي ] استعارة تصريحية ومع ذلك يكون بحسب اللفظ قرينة للاستعارة بالكناية في الماء على حد ما قالوا في ﴿ ينقضون عهد الله ﴾ وأما إذا اعتبر مذهبه فينبغي أن يكون البلع باقيا على حقيقته كالإنبات في : أنبت الربيع البقل. وهو بعيد، أو يجعل مستعارا لأمر متوهم كما في : نطقت الحال فيلزمه القول بالاستعارة التبعية كما هو المشهور.
ثم إنه تعالى أمر على سبيل الاستعارة للتشبيه الثاني وخاطب في الأمر تشريحا لاستعارة النداء، والحاصل أن في لفظ [ ابلعي ] باعتبار جوهرة استعارة لغئور الماء وباعتبار صورته أعني كونه صورة أمر استعارة أخرى لتكوين المراد، وباعتبار كونه أمر خطاب ترشيح للاستعارة المكنية التي في المنادى، فإن قرينتها النداء وما زاد على قرينة المكنية يكون ترشيحا لها. وأما جعل النداء استعارة تصريحية تبعية حتى يكون خطاب الآمر ترشيحا لها فقد عرفت ما فيه.
ثم قال جل وعلا [ ماءك ] بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز تشبيها لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالملك، واختار ضمير الخطاب لأجل التشريح وحاصله أن هناك مجازا لغويا في الهيئة الإضافية الدالة على الاختصاص الملكي، ولهذا جعل الخطاب ترشيحا لهذه الاستعارة من حيث إن الخطاب يدل على صلوح الأرض للمالكية، فما قيل إن المجاز عقلي والعبارة مصروفة عن الظاهر ليس بشيء.
ثم اختار لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان من المطر أو الفعل، ففي [ أقلعي ] استعارة باعتبار جوهره وكذا باعتبار صيغته أيضا وهي مبنية على تشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافد، والخطاب فيه أيضا ترشيح لاستعارة النداء، والحاصل أن الكلام فيه مثل ما مر في [ ابلعي ].
" ثم قال سبحا

﴿ وقيل يا أرض ابلعي ماءك ﴾ أي وصدر من عالم الغيب الأعلى نداء خاطب الأرض والسماء، بأمر التكوين الذي يسجد له العقلاء وغير العقلاء : يا أرض ابلعي ماءك كله الذي عليك، أو الذي تفجر من باطنك، إن صح أن ماء السماء صار بحرا، والبلع ازدراد الطعام أو الشراب بسرعة ﴿ ويا سماء أقلعي ﴾ أي كفي عن الأمطار فامتثل الأمر في الحال، وما هو إلا أن قيل كن فكان ﴿ وغيض الماء ﴾ أي غار في الأرض ونضب بابتلاعها له نضوبا ﴿ وقضي الأمر ﴾ أي نفذ الأمر بإهلاك الظالمين، ونجاء المؤمنين.
﴿ واستوت على الجودي ﴾ أي واستقرت السفينة راسية على الجبل المعروف بالجودي ﴿ وقيل بعدا للقوم الظالمين ﴾ أي هلاكا وسحقا لهم، وبعدا من رحمة الله تعالى بما كان من رسوخهم في الظلم واستمرارهم عليه، وفقدهم الاستعداد للتوبة والرجوع إلى الله عز وجل، وسيأتي مثل هذا في أمثالهم من أقوام الأنبياء ﴿ ألا بعدا لعاد قوم هود ﴾ [ هود : ٦٠ ] ﴿ ألا بعدا لثمود ﴾ [ هود : ٦٨ ] والظاهر أن هذا الجبل قد غمره الماء ولم يرتفع فوقه إلا قليلا، فلما بلغته السفينة كان الماء فوقه رقراقا وبدأ يتقلص ويغيض فاستوت عليه.
قرر علماء البلاغة الفنية أن هذه الآية أبلغ آية في الكتاب العزيز أحاطت بالبلاغة من جميع جوانبها وأرجائها اللفظية والمعنوية التي وضعت لفلسفتها الفنون الثلاثة : المعاني والبيان والبديع، وإن مثل هذا التفاضل بين الآيات الذي يقتضيه الحال والمقام، لا ينافي بلوغ كل آية في موضعها وموضوعها درجة الإعجاز، ولا يعد من التفاوت المعهود في كلام أشهر البلغاء كأبي تمام والمتنبي وكذا غيرهما من شعراء الجاهلية ومن بعدهم في الدرجات الثلاث العليا والسفلي وما بينهما، فآياته كلها في الدرجة العليا المعجزة للبشر، وإن كان لبعضها مزية على بعض كما تراه في تكرار القصة الواحدة من هذه القصص، وقد بسطناه في تفسير آية التحدي ﴿ بعشر سور مثله مفتريات ﴾ من هذه السورة.
مثال ذلك ما تراه من بلاغة هذه الآية في باب العبرة المقصودة بالذات من سياق هذه القصص كلها، وهو فوق ما ذكروه من نكت الفنون فيها، وبيانه أن الله قد أنذر الظالمين وأوعدهم الهلاك في آيات كثيرة – ومنهم مكذبو الرسل عليهم السلام- كلها معجزة في بلاغتها، ولكنك ترى في هذه الآية من تأثير تقبيح الظلم والوعيد عليه نوعا لا تجده في غيرها، لأن حادثة الطوفان أكبر ما حدث في الأرض من مظاهر سخط الله تعالى على الظالمين، وقد علم من أول القصة أنها عقاب للظالمين، بيد أن إعادته في هذه الآية عقب تصوير حادثة الطوفان بارزة في أشد مظاهر هولها، وإشعار القلوب عظمة الجبار العزيز الحكيم في الفصل فيها، بما تتلاقى فيه نهايتها ببدايتها.
والتعبير عن هذه النهاية بالدعاء على الظالمين بالبعد والطرد الذي يحتمل عدة معان مذمومة شرها الطرد من رحمة الله تعالى، يمثل لك هؤلاء الظالمين من قوم نوح بصورة تمثال من الخزي واللعن والرجس لا ترى مثله في أمثالهم من أقوام الأنبياء، على ما تراه في التعبير عنها بالعبارات الرائعة في البلاغة وعلوم الأسلوب، وإحداثها الرعب في القلوب، كقوله تعالى :﴿ كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر فكيف كان عذابي ونذر ﴾ [ القمر : ١٨- ٢١ ] وهذه الآيات في طبقة ما قبلها من قصة نوح في هذه السورة وقد أوردناها آنفا، وقوله تعالى :﴿ كذبت ثمود وعاد بالقارعة فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية ﴾ [ الحاقة : ٤-٨ ] ؟ الخ وناهيك بما وصف به عذاب قوم لوط في هذه السورة وغيرها، وسأصف الفرق بين البلاغتين المعنوية الروحية والفنية وإضراب المثل لجلالهما وجمالهما عند العرب الخلص وأهل الفنون من العلماء-في العلاوة الأولى من علاوات هذه القصة.
وحكمة هذه المبالغات في عقاب الظالمين والمجرمين من الغابرين، إنما هي إنذار أمثالهم من الحاضرين، وقد كرر عقوبة كل قوم في سورة القمر، وكرر معها ﴿ ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ﴾ [ القمر : ١٧ ] وترى الظالمين في كل زمان غافلين، وترى المفسرين للقرآن يعنون ببسط إعراب القرآن وبلاغة عبارته ولفظه، ولا يعنون ببسط عبرته ووعظه، ولقد قال حكيم الشعراء أبو العلاء المعري في أهل عصره :
والأرض للطوفان مشتاقة لعلها من درن تغسل
ونحن نقول : رحم الله أبا العلاء فكيف لو رأى زماننا هذا ؟ كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وقد أنشدت قول لبيد :
ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب١
قالت : رحم الله لبيدا فكيف لو أرى زماننا هذا ؟ رويناه مسلسلا إليها من طريق شيخنا أبي المحاسن الشيخ محمد القاوقجي رحمه لله وسنعقد فصلا للكلام على عقاب الله للظالمين والمجرمين في عصرنا بما نورده من علاوات هذه القصة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:علاوات لتفسير قصة نوح عليه السلام
العلاوة الأولى : البلاغة الفنية في الآية ٤٣
سبق لنا أن قلنا في الكلام على إعجاز القرآن ببلاغته ومذهب المتكلمين وأدباء الفنون في التحدي به : إن هذا النوع من الإعجاز يقل من يفقهه في هذا العصر لفقد أهله ملكتي البلاغة الذوقية السليقية والبيانية الفنية بله الجمع بينهما، وهو ضروري لإدراك هذا النوع من الإعجاز، وإن من يفقهه ويدرك عدم استطاعة أحد أن يأتي بسورة مثله قد يخفى عليه وجه دلالته على أنه لا بد أن يكون وحيا من الله تعالى وحجة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولذلك جزموا بوقوع العجز واختلفوا في وجه الدلالة، فمثلهم كمثل حداق الفنانين في الوشي والتطريز إذا رأوا صنع قدماء الهنود من أهل لاهور وكشمير وأقروا بالعجز عن محاكاته، والمصورين إذا رأوا أدق صور رفائيل في تصوير الإنسان بأدق مناظر أعضائه وشمائله وملامح صفاته النفسية وإمارات انفعالاته ولا سيما المتقاربة كالخوف والفزع والحزن والغم والغضب ونظر الإقرار ونظر الإنكار ونظر الشهوة ونظر العطف ونظر الرحمة ونظر الإعجاب والعجب ونظر المتفكر والمتحير، فقد يقرون بعجزهم عن محاكاتها ولكنهم لا يقولون بعدم إمكانها، بل يقولون بإمكانها وبقرب وقوعها بالفعل إذا وجدت الداعية القوية كمنفعة مالية كبيرة أو مصلحة قومية أو دولية عظيمة.
ومن المعلوم من تاريخ النبي صلى الله عليه وسلم مع فصحاء قريش وغيرهم أنه حدثت لهم أعظم الدواعي والمصالح المعارضة للقرآن بعد تحديثهم بسورة مثله مطلقا والتحدي بعشر سور في المكرر ولو مفترى، فأيقنوا بعجزهم عن الإتيان بها وبهن، ولو ظاهرهم عليه جميع الإنس عن كثرة بلغائهم وفصحائهم، والجن الذين يعتقدون أن منهم هواجس تلقنهم الشعر من حيث لا يرونهم، وكذا آلهتهم القادرون بخصائصهم الغيبية أو بمكانتهم عند الله تعالى على كل ما يريدون في هذا العالم بزعمهم، قد عجزوا مع هذا كله واضطروا إلى مقاومة النبي بالقتال، وما أعقبهم من خسارة المال، وسبي النساء والأطفال، ثم ما هو أشد عليهم وهو احتمال الذل والنكال، وروي أن كبراءهم زعموا على التعاون على المعارضة واستعدوا لها فسمعوا هذه الآية [ وقيل يا أرض ] فتضاءلت قواهم واستخذت أنفسهم ورجعوا عن عزمهم، كما يأتي قريبا.
عرف بلغاء قريش من بلاغة هذه الآية الروحية الكامنة في فصاحتها اللفظية الظاهرة وغيرها ما لم يعرفه بلغاء الفنون بعدهم منها، فكان هؤلاء أعلم بما للحسن والجمال الصوري في الكلام من المقاييس الفلسفية والموازين الفنية ودرجات الراجح على المرجوح. وكان أولئك أدق شعورا بما لهذا الحسن والجمال من السلطان على القلوب والحكم على العقول. مثال ذلك أن للجمال البدني في حسان النساء مقاييس وموازين لتناسب الأعضاء بعضها مع بعض يمكن ضبطها والعدل في الحكم بينها. وأما الجمال المعنوي وهو خفة الروح وسلطان التأثير في القلوب، فليس له مقياس، ولا ميزان عشري يضبط به وزنه أو مساحته فيعرف الراجح من المرجوح، وإنما يعرف هذا الجمال الأعلى بملكة نفسية، لا بأوزان صناعية، كما قال أبو الطيب في الخيل :
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها وأعضائها فالحسن عنك مغيب١
وإنما أحدث القرآن في الأمة العربية ما أحدث من الثورة الدينية والاجتماعية والانقلاب العالمي بالنوع الثاني من إدراك بلاغته لا الأول، وكل منها كامل من بابه، كما بينا ذلك في موضعه من عهد قريب، وإن كثرة البحث في الثاني ليشغل المفسر والمتدبر عن الأول الخاص منه بالهداية وإصلاح النفس وتزكيتها، ولهذا نقتصر منه في تفسيرنا على ما قصر فيه المفسرون باختصار لا يشغل عن الهداية المقصودة بالذات، وقد نجعله من باب الاستطراد بعد بيان معنى الآية أو الآيات، ولهذا جعلت ما أحببت بيانه في بلاغة هذه الآية الفنية علاوة من هذه العلاوات، وقد أطال العلماء الأخصائيون فيها حتى أفردها بعضهم بمصنفات خاصة، وتكلم صاحب [ الطراز في علوم الإعجاز ] عليها في ٢٥ صفحة، ولعله أحسنهم فيها كلاما، وإن كان السكاكي هو السابق إليه وكلهم فيه عيال عليه، وذكر بعض المفسرين جملا مختصرة أو وسطا منه أنقل منها هنا ما لخصه السيد الآلوسي في روح المعاني من كلام السكاكي وغيره بتصرف كعادته قال :
واعلم أن هذه الآية الكريمة قد بلغت من مراتب الإعجاز أقاصيها، واستدلت مصاقع العرب فسفعت بنواصيها، وجمعت من المحاسن ما يضيق عنه نطاق البيان، وكانت من سمهري البلاغة مكان السنان.
يروى أن كفار قريش قصدوا أن يعارضوا القرآن فعكفوا على لباب البر ولحوم الضأن وسلاف الخمر أربعين يوما لتصفوا أذهانهم، فلما أخذوا فيما قصدوه وسمعوا هذه الآية قال بعضهم لبعض : هذا الكلام لا يشبه كلام المخلوقين، فتركوا ما أخذوا فيه وتفرقوا. ويروى أيضا أن ابن المقفع وكان –كما في القاموس- فصيحا بليغا، بل قيل إنه أفصح أهل وقته- رام أن يعارض القرآن فنظم كلاما وجعله مفصلا وسماه سورا، فاجتاز يوما بصبي يقرؤها في مكتب فرجع ومحا ما عمل، وقال أشهد أن هذا لا يعارض أبدا وما هو من كلام البشر. ولا يخفى أن هذا لا يستدعي أن لا يكون سائر آيات القرآن العظيم معجزا لما أن حد الإعجاز هو المرتبة التي يعجز البشر عن الإتيان بمثلها ولا تدخل على قدرته قطعا وهي تشتمل على شيئين : الأول الطرف الأعلى من البلاغة أعني ما ينتهي إليه البلاغة ولا يتصور تجاوزها إياه، والثاني ما يقرب من ذلك الطرف أعني المراتب العلمية التي تتقاصر القوى البشرية عنها أيضا.
ومعنى إعجاز آيات الكتاب المجيد بأسرها هو كونها مما تتقاصر القوى البشرية عن الإتيان بمثلها سواء كانت من القسم الأول أو الثاني فلا يضر تفاوتها في البلاغة، وهو الذي قاله علماء هذا الشأن.
وقد فصل بعض مزايا هذه الآية المهرة المتقنون، وتركوا من ذلك ما لا يكاد يصفه الواصفون، ولا بأس بذكر شيء مما ذكر إفادة لجاهل، وتذكيرا لفاضل غافل، فنقول :
جهات بلاغة الآية الأربع : أولها جهة علم البيان
ذكر العلامة السكاكي أن النظر فيها من أربع جهات : من جهة علم البيان، ومن جهة علم المعاني وهما مرجعا البلاغة. ومن جهة الفصاحة المعنوية، ومن جهة الفصاحة اللفظية : أما النظر فيها من جهة علم البيان وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بذلك من القرينة والترشيح والتعريض، فهو أنه عز سلطانه لما أراد أن يبين معنى : أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد، وأن نقطع طوفان المساء فانقطع، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض، وأن نقضي أمر نوح عليه السلام وهو إنجاز ما كنا وعدناه من إغراق قومه فقضى، وأن نسوي السفينة على الجودي فاستوت، وأبقينا الظلمة غرقى – بنى سبحانه الكلام على تشبيه المراد منه بالمأمور الذي لا يتأتى منه –لكما هيبته من الآمر- العصيان، وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكون المقصود تصويرا لاقتداره سبحانه العظيم، وأن هذه الأجرام العظيمة من السماوات والأرض تابعة لإرادته تعالى إيجادا وإعداما، ولمشيئته فيها تغييرا وتبديلا، كأنها عقلاء مميزون قد عرفوه جل شأنه حق معرفته، وأحاطوا علما بوجوب الانقياد لأمره، والإذعان لحكمه، ويحتم بذل المجهود عليهم في تحصيل مراده، وتصوروا مزيد اقتداره، فعظمت مهابته في نفوسهم، وضربت سرادقها في أفنية ضمائرهم، فكما يلوح لهم إشارته سبحانه كان المشار إليه مقدما، وكما يرد عليهم أمره تعالى شأنه كان المأمور به متمما، لا تلقي لإشارته بغير الإمضاء والانقياد، ولا لأمره بغير الإذعان والامتثال.
" ثم بنى على مجموع التشبيهين نظم الكلام فقال جل وعلا قيل : على سبيل المجاز عن الإرادة من باب ذكر المسبب وإرادة السبب، لأن الإرادة تكون سببا لوقوع القول في الجملة، وجعل قرينة هذا المجاز خطاب الجماد وهو [ يا أرض- ويا سماء ] إذ يصح أن يراد حصول شيء متعلق بالجماد ولا يصح القول له. ثم قال سبحانه كما ترى [ يا أرض، ويا سماء ] مخاطبا لهما على سبيل الاستعارة للشبه المذكور، والظاهر أنه أراد أن هناك استعارة بالكناية حيث ذكر المشبه أعني السماء والأرض المراد منهما حصول أمر وأريد المشبه به أعني المأمور الموصوف بأنه لا يتأتى منه العصيان ادعاء بقرينة نسبة الخطاب إليه، ودخول حرف النداء عليه، وهما من خواص المأمور المطيع ويكون هذا تخييلا. وقد يقال : أراد أن الاستعارة ههنا تصريحية تبعية في حرف النداء بناء على تشبيه تعلق الإرادة بالمراد منه بتعلق النداء والخطاب بالمنادي المخاطب، وليس بشيء إذ لا يحسن هذا التشبيه ابتداء بل تبعا للتشبيه الأول فكيف يجعل أصلا لمتبوعه ؟ على أن قوله للشبه المذكور يدفع هذا الحمل.
ثم استعار لغئور الماء في الأرض [ البلع ] الذي هو إعمال الجاذبة في المطعوم للشبه بينهما وهو الذهاب إلى مقر خفي. وفي الكشاف : جعل البلع مستعارا لنشف الأرض الماء وهو أولى فإن النشف دال على جذب من إجزاء الأرض لما عليها كالبلع بالنسبة إلى الحيوان، ولأن النشف فعل الأرض والغثور فعل الماء مع الطباق بين الفعلين تعديا. ثم استعار الماء للغذاء استعارة بالكناية تشبيها له بالغذاء لتقوي الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار تقوي الآكل بالطعام وجعل قرينة الاستعارة لفظة [ ابلعي ] لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء.
ولا يخفى عليك أنه إذا اعتبر مذهب السلف في الاستعارة يكون [ ابلعي ] استعارة تصريحية ومع ذلك يكون بحسب اللفظ قرينة للاستعارة بالكناية في الماء على حد ما قالوا في ﴿ ينقضون عهد الله ﴾ وأما إذا اعتبر مذهبه فينبغي أن يكون البلع باقيا على حقيقته كالإنبات في : أنبت الربيع البقل. وهو بعيد، أو يجعل مستعارا لأمر متوهم كما في : نطقت الحال فيلزمه القول بالاستعارة التبعية كما هو المشهور.
ثم إنه تعالى أمر على سبيل الاستعارة للتشبيه الثاني وخاطب في الأمر تشريحا لاستعارة النداء، والحاصل أن في لفظ [ ابلعي ] باعتبار جوهرة استعارة لغئور الماء وباعتبار صورته أعني كونه صورة أمر استعارة أخرى لتكوين المراد، وباعتبار كونه أمر خطاب ترشيح للاستعارة المكنية التي في المنادى، فإن قرينتها النداء وما زاد على قرينة المكنية يكون ترشيحا لها. وأما جعل النداء استعارة تصريحية تبعية حتى يكون خطاب الآمر ترشيحا لها فقد عرفت ما فيه.
ثم قال جل وعلا [ ماءك ] بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز تشبيها لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالملك، واختار ضمير الخطاب لأجل التشريح وحاصله أن هناك مجازا لغويا في الهيئة الإضافية الدالة على الاختصاص الملكي، ولهذا جعل الخطاب ترشيحا لهذه الاستعارة من حيث إن الخطاب يدل على صلوح الأرض للمالكية، فما قيل إن المجاز عقلي والعبارة مصروفة عن الظاهر ليس بشيء.
ثم اختار لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان من المطر أو الفعل، ففي [ أقلعي ] استعارة باعتبار جوهره وكذا باعتبار صيغته أيضا وهي مبنية على تشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافد، والخطاب فيه أيضا ترشيح لاستعارة النداء، والحاصل أن الكلام فيه مثل ما مر في [ ابلعي ].
" ثم قال سبحا


١ - البيت من الكامل، وهو في ديوان لبيد ص ١٥٣، ١٥٧، وفيه "في شلخ" بدل "في خلق"، ولسان العرب [شلخ]، [خلف]، وكتاب العين ٤/ ٢٦٦، والمخصص ١٢/ ١٥٧، وتاج العروس [شلخ]، [خلف]، وتهذيب اللغة ٧/ ٨٤، ٣٩٤، وجمهرة اللغة ص ٦١٥، وإصلاح المنطق ص ١٣، ٦٦، والبيان والتبيين ١/ ٢٦٧، ٢/ ١٧٠، والكامل ص ١٣٩٤، وسمط اللآلي ص ٤١٦، والأغاني ١٧/٧١، ٢٥، ٥٤، وأمالي القالي ١/ ١٥٨..
{ ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين ( ٤٥ ) قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين ( ٤٦ ) قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين ( ٤٧ ) ]
هذه الآيات الثلاث في مسألة فرعية من قصة نوح لا من صلب القصة وأصول وقائعها ولكنها تدخل في العقائد وأصول الدين من بابين اثنين لا من باب واحد، أحدهما : باب الإلهيات بما فيها من حكم الله وعدله وسنته في خلقه بلا محاباة لولي ولا نبي، وثانيهما : اجتهاد الأنبياء وجواز الخطأ فيه وعده ذنبا عليهم بالإضافة إلى مقامه ومعرفتهم بربهم- وهي ما عرض له عليه السلام من الاجتهاد في أمر ابنه الذي تخلف عن السفينة وكان من المغرقين كما مر في الآية ٤٣ وكان ظاهر الترتيب أن تجعل بعدها فتكون ٤٤ ووجه هذا التقديم والتأخير بينهما الذي اقتضته البلاغة العليا، والحكمة البالغة المثلى، هو أن قدمت الآية المتممة لأصل القصة المبينة لوجه العبرة فيها بأروع التعبير، الذي يقرع أبواب القلوب بأبلغ قوارع التأثير، فكان اتصالها بها كاتصال الموجب بالسالب من الكهربائية التي يتولد به البرق الذي يخطف الأبصار، والصاعقة التي تمحق ما تصيبه من الأشياء والأشخاص.
فالآية الثالثة والأربعون تصور لقارئها وسامعها نكبة الطوفان بأعظم الصور هولا ورعبا ودهشا تطيش لها الألباب، وتحار في تصور كشفها وما يؤول إليه أمرها الأخيلة والأفكار، فتتلوها الآية الرابعة والأربعون فتكون الفاصلة بكشف ذلك الكرب العظيم بكلمتين وجيزتين من كلمات التكوين الإلهي قضي بهما الأمر بنجاة المؤمنين الصالحين، وهلاك المشركين الظالمين، ولو فصل بينهما بهذه الآيات الثلاث [ ٤٥-٤٧ ] اللواتي وضعن بعدهما، لضاع تسعة أعشار بلاغتهما وتأثيرهما في العبرة والموعظة المقصودة من القصة كلها، التي كانت كاشتعال الكهرباء مظهرا لسرعة مشيئته تعالى في كشف الكرب، فكان منها نور ظهرت به رحمته في إنجاء السفينة وأهلها المؤمنين، وصاعقة محقت جميع الظالمين.
﴿ ونادى نوح ربه ﴾ في إثر ندائه لابنه الذي تخلف عن السفينة ودعاه إليها فلم يستجب ﴿ فقال رب إن ابني من أهلي ﴾ هذا تفسير لنادى، أي فكان نداؤه أن قال يا رب إن ابني هذا من أهلي الذين وعدتني بنجاتهم إذ أمرتني بحملهم في السفينة ﴿ وإن وعدك الحق ﴾ الذي لا خلف فيه وهذا منه ﴿ وأنت أحكم الحاكمين ﴾ أي أحق من كل من يتصور منهم الحكم وأحسنهم وخيرهم حكما كما قال تعالى :﴿ ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ﴾ [ المائدة : ٥٠ ] وقال :﴿ وهو خير الحاكمين ﴾ [ الأعراف : ٨٧ ] وذلك أن حكمه تعالى لا يكون إلا بالحق والعدل، لأنه يصدر عن كمال العلم والعدل والحكمة، فلا يعرض له الخطأ ولا المحاباة، ولا الحيف والظلم، وحكمه تعالى يطلق على ما يشرعه من الأحكام، وعلى ما ينفذه في عباده من جزاء على الأعمال، ومراد نوح بهذا أن ينجي ابنه الذي تخلف عن السفينة بعد أن دعاه إليها فامتنع معللا نفسه بأن يأوي إلى جبل يعتصم به من الغرق ولم يقتنع بقوله له ﴿ لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم ﴾ [ هود : ٤٣ ] فالمعقول أن الدعاء وقع بعد هذه المحاورة مع ابنه وقبل أن يحول بينهما الموج.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:علاوات لتفسير قصة نوح عليه السلام
العلاوة الأولى : البلاغة الفنية في الآية ٤٣
سبق لنا أن قلنا في الكلام على إعجاز القرآن ببلاغته ومذهب المتكلمين وأدباء الفنون في التحدي به : إن هذا النوع من الإعجاز يقل من يفقهه في هذا العصر لفقد أهله ملكتي البلاغة الذوقية السليقية والبيانية الفنية بله الجمع بينهما، وهو ضروري لإدراك هذا النوع من الإعجاز، وإن من يفقهه ويدرك عدم استطاعة أحد أن يأتي بسورة مثله قد يخفى عليه وجه دلالته على أنه لا بد أن يكون وحيا من الله تعالى وحجة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولذلك جزموا بوقوع العجز واختلفوا في وجه الدلالة، فمثلهم كمثل حداق الفنانين في الوشي والتطريز إذا رأوا صنع قدماء الهنود من أهل لاهور وكشمير وأقروا بالعجز عن محاكاته، والمصورين إذا رأوا أدق صور رفائيل في تصوير الإنسان بأدق مناظر أعضائه وشمائله وملامح صفاته النفسية وإمارات انفعالاته ولا سيما المتقاربة كالخوف والفزع والحزن والغم والغضب ونظر الإقرار ونظر الإنكار ونظر الشهوة ونظر العطف ونظر الرحمة ونظر الإعجاب والعجب ونظر المتفكر والمتحير، فقد يقرون بعجزهم عن محاكاتها ولكنهم لا يقولون بعدم إمكانها، بل يقولون بإمكانها وبقرب وقوعها بالفعل إذا وجدت الداعية القوية كمنفعة مالية كبيرة أو مصلحة قومية أو دولية عظيمة.
ومن المعلوم من تاريخ النبي صلى الله عليه وسلم مع فصحاء قريش وغيرهم أنه حدثت لهم أعظم الدواعي والمصالح المعارضة للقرآن بعد تحديثهم بسورة مثله مطلقا والتحدي بعشر سور في المكرر ولو مفترى، فأيقنوا بعجزهم عن الإتيان بها وبهن، ولو ظاهرهم عليه جميع الإنس عن كثرة بلغائهم وفصحائهم، والجن الذين يعتقدون أن منهم هواجس تلقنهم الشعر من حيث لا يرونهم، وكذا آلهتهم القادرون بخصائصهم الغيبية أو بمكانتهم عند الله تعالى على كل ما يريدون في هذا العالم بزعمهم، قد عجزوا مع هذا كله واضطروا إلى مقاومة النبي بالقتال، وما أعقبهم من خسارة المال، وسبي النساء والأطفال، ثم ما هو أشد عليهم وهو احتمال الذل والنكال، وروي أن كبراءهم زعموا على التعاون على المعارضة واستعدوا لها فسمعوا هذه الآية [ وقيل يا أرض ] فتضاءلت قواهم واستخذت أنفسهم ورجعوا عن عزمهم، كما يأتي قريبا.
عرف بلغاء قريش من بلاغة هذه الآية الروحية الكامنة في فصاحتها اللفظية الظاهرة وغيرها ما لم يعرفه بلغاء الفنون بعدهم منها، فكان هؤلاء أعلم بما للحسن والجمال الصوري في الكلام من المقاييس الفلسفية والموازين الفنية ودرجات الراجح على المرجوح. وكان أولئك أدق شعورا بما لهذا الحسن والجمال من السلطان على القلوب والحكم على العقول. مثال ذلك أن للجمال البدني في حسان النساء مقاييس وموازين لتناسب الأعضاء بعضها مع بعض يمكن ضبطها والعدل في الحكم بينها. وأما الجمال المعنوي وهو خفة الروح وسلطان التأثير في القلوب، فليس له مقياس، ولا ميزان عشري يضبط به وزنه أو مساحته فيعرف الراجح من المرجوح، وإنما يعرف هذا الجمال الأعلى بملكة نفسية، لا بأوزان صناعية، كما قال أبو الطيب في الخيل :
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها وأعضائها فالحسن عنك مغيب١
وإنما أحدث القرآن في الأمة العربية ما أحدث من الثورة الدينية والاجتماعية والانقلاب العالمي بالنوع الثاني من إدراك بلاغته لا الأول، وكل منها كامل من بابه، كما بينا ذلك في موضعه من عهد قريب، وإن كثرة البحث في الثاني ليشغل المفسر والمتدبر عن الأول الخاص منه بالهداية وإصلاح النفس وتزكيتها، ولهذا نقتصر منه في تفسيرنا على ما قصر فيه المفسرون باختصار لا يشغل عن الهداية المقصودة بالذات، وقد نجعله من باب الاستطراد بعد بيان معنى الآية أو الآيات، ولهذا جعلت ما أحببت بيانه في بلاغة هذه الآية الفنية علاوة من هذه العلاوات، وقد أطال العلماء الأخصائيون فيها حتى أفردها بعضهم بمصنفات خاصة، وتكلم صاحب [ الطراز في علوم الإعجاز ] عليها في ٢٥ صفحة، ولعله أحسنهم فيها كلاما، وإن كان السكاكي هو السابق إليه وكلهم فيه عيال عليه، وذكر بعض المفسرين جملا مختصرة أو وسطا منه أنقل منها هنا ما لخصه السيد الآلوسي في روح المعاني من كلام السكاكي وغيره بتصرف كعادته قال :
واعلم أن هذه الآية الكريمة قد بلغت من مراتب الإعجاز أقاصيها، واستدلت مصاقع العرب فسفعت بنواصيها، وجمعت من المحاسن ما يضيق عنه نطاق البيان، وكانت من سمهري البلاغة مكان السنان.
يروى أن كفار قريش قصدوا أن يعارضوا القرآن فعكفوا على لباب البر ولحوم الضأن وسلاف الخمر أربعين يوما لتصفوا أذهانهم، فلما أخذوا فيما قصدوه وسمعوا هذه الآية قال بعضهم لبعض : هذا الكلام لا يشبه كلام المخلوقين، فتركوا ما أخذوا فيه وتفرقوا. ويروى أيضا أن ابن المقفع وكان –كما في القاموس- فصيحا بليغا، بل قيل إنه أفصح أهل وقته- رام أن يعارض القرآن فنظم كلاما وجعله مفصلا وسماه سورا، فاجتاز يوما بصبي يقرؤها في مكتب فرجع ومحا ما عمل، وقال أشهد أن هذا لا يعارض أبدا وما هو من كلام البشر. ولا يخفى أن هذا لا يستدعي أن لا يكون سائر آيات القرآن العظيم معجزا لما أن حد الإعجاز هو المرتبة التي يعجز البشر عن الإتيان بمثلها ولا تدخل على قدرته قطعا وهي تشتمل على شيئين : الأول الطرف الأعلى من البلاغة أعني ما ينتهي إليه البلاغة ولا يتصور تجاوزها إياه، والثاني ما يقرب من ذلك الطرف أعني المراتب العلمية التي تتقاصر القوى البشرية عنها أيضا.
ومعنى إعجاز آيات الكتاب المجيد بأسرها هو كونها مما تتقاصر القوى البشرية عن الإتيان بمثلها سواء كانت من القسم الأول أو الثاني فلا يضر تفاوتها في البلاغة، وهو الذي قاله علماء هذا الشأن.
وقد فصل بعض مزايا هذه الآية المهرة المتقنون، وتركوا من ذلك ما لا يكاد يصفه الواصفون، ولا بأس بذكر شيء مما ذكر إفادة لجاهل، وتذكيرا لفاضل غافل، فنقول :
جهات بلاغة الآية الأربع : أولها جهة علم البيان
ذكر العلامة السكاكي أن النظر فيها من أربع جهات : من جهة علم البيان، ومن جهة علم المعاني وهما مرجعا البلاغة. ومن جهة الفصاحة المعنوية، ومن جهة الفصاحة اللفظية : أما النظر فيها من جهة علم البيان وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بذلك من القرينة والترشيح والتعريض، فهو أنه عز سلطانه لما أراد أن يبين معنى : أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد، وأن نقطع طوفان المساء فانقطع، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض، وأن نقضي أمر نوح عليه السلام وهو إنجاز ما كنا وعدناه من إغراق قومه فقضى، وأن نسوي السفينة على الجودي فاستوت، وأبقينا الظلمة غرقى – بنى سبحانه الكلام على تشبيه المراد منه بالمأمور الذي لا يتأتى منه –لكما هيبته من الآمر- العصيان، وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكون المقصود تصويرا لاقتداره سبحانه العظيم، وأن هذه الأجرام العظيمة من السماوات والأرض تابعة لإرادته تعالى إيجادا وإعداما، ولمشيئته فيها تغييرا وتبديلا، كأنها عقلاء مميزون قد عرفوه جل شأنه حق معرفته، وأحاطوا علما بوجوب الانقياد لأمره، والإذعان لحكمه، ويحتم بذل المجهود عليهم في تحصيل مراده، وتصوروا مزيد اقتداره، فعظمت مهابته في نفوسهم، وضربت سرادقها في أفنية ضمائرهم، فكما يلوح لهم إشارته سبحانه كان المشار إليه مقدما، وكما يرد عليهم أمره تعالى شأنه كان المأمور به متمما، لا تلقي لإشارته بغير الإمضاء والانقياد، ولا لأمره بغير الإذعان والامتثال.
" ثم بنى على مجموع التشبيهين نظم الكلام فقال جل وعلا قيل : على سبيل المجاز عن الإرادة من باب ذكر المسبب وإرادة السبب، لأن الإرادة تكون سببا لوقوع القول في الجملة، وجعل قرينة هذا المجاز خطاب الجماد وهو [ يا أرض- ويا سماء ] إذ يصح أن يراد حصول شيء متعلق بالجماد ولا يصح القول له. ثم قال سبحانه كما ترى [ يا أرض، ويا سماء ] مخاطبا لهما على سبيل الاستعارة للشبه المذكور، والظاهر أنه أراد أن هناك استعارة بالكناية حيث ذكر المشبه أعني السماء والأرض المراد منهما حصول أمر وأريد المشبه به أعني المأمور الموصوف بأنه لا يتأتى منه العصيان ادعاء بقرينة نسبة الخطاب إليه، ودخول حرف النداء عليه، وهما من خواص المأمور المطيع ويكون هذا تخييلا. وقد يقال : أراد أن الاستعارة ههنا تصريحية تبعية في حرف النداء بناء على تشبيه تعلق الإرادة بالمراد منه بتعلق النداء والخطاب بالمنادي المخاطب، وليس بشيء إذ لا يحسن هذا التشبيه ابتداء بل تبعا للتشبيه الأول فكيف يجعل أصلا لمتبوعه ؟ على أن قوله للشبه المذكور يدفع هذا الحمل.
ثم استعار لغئور الماء في الأرض [ البلع ] الذي هو إعمال الجاذبة في المطعوم للشبه بينهما وهو الذهاب إلى مقر خفي. وفي الكشاف : جعل البلع مستعارا لنشف الأرض الماء وهو أولى فإن النشف دال على جذب من إجزاء الأرض لما عليها كالبلع بالنسبة إلى الحيوان، ولأن النشف فعل الأرض والغثور فعل الماء مع الطباق بين الفعلين تعديا. ثم استعار الماء للغذاء استعارة بالكناية تشبيها له بالغذاء لتقوي الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار تقوي الآكل بالطعام وجعل قرينة الاستعارة لفظة [ ابلعي ] لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء.
ولا يخفى عليك أنه إذا اعتبر مذهب السلف في الاستعارة يكون [ ابلعي ] استعارة تصريحية ومع ذلك يكون بحسب اللفظ قرينة للاستعارة بالكناية في الماء على حد ما قالوا في ﴿ ينقضون عهد الله ﴾ وأما إذا اعتبر مذهبه فينبغي أن يكون البلع باقيا على حقيقته كالإنبات في : أنبت الربيع البقل. وهو بعيد، أو يجعل مستعارا لأمر متوهم كما في : نطقت الحال فيلزمه القول بالاستعارة التبعية كما هو المشهور.
ثم إنه تعالى أمر على سبيل الاستعارة للتشبيه الثاني وخاطب في الأمر تشريحا لاستعارة النداء، والحاصل أن في لفظ [ ابلعي ] باعتبار جوهرة استعارة لغئور الماء وباعتبار صورته أعني كونه صورة أمر استعارة أخرى لتكوين المراد، وباعتبار كونه أمر خطاب ترشيح للاستعارة المكنية التي في المنادى، فإن قرينتها النداء وما زاد على قرينة المكنية يكون ترشيحا لها. وأما جعل النداء استعارة تصريحية تبعية حتى يكون خطاب الآمر ترشيحا لها فقد عرفت ما فيه.
ثم قال جل وعلا [ ماءك ] بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز تشبيها لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالملك، واختار ضمير الخطاب لأجل التشريح وحاصله أن هناك مجازا لغويا في الهيئة الإضافية الدالة على الاختصاص الملكي، ولهذا جعل الخطاب ترشيحا لهذه الاستعارة من حيث إن الخطاب يدل على صلوح الأرض للمالكية، فما قيل إن المجاز عقلي والعبارة مصروفة عن الظاهر ليس بشيء.
ثم اختار لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان من المطر أو الفعل، ففي [ أقلعي ] استعارة باعتبار جوهره وكذا باعتبار صيغته أيضا وهي مبنية على تشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافد، والخطاب فيه أيضا ترشيح لاستعارة النداء، والحاصل أن الكلام فيه مثل ما مر في [ ابلعي ].
" ثم قال سبحا

{ ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين ( ٤٥ ) قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين ( ٤٦ ) قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين ( ٤٧ ) ]
هذه الآيات الثلاث في مسألة فرعية من قصة نوح لا من صلب القصة وأصول وقائعها ولكنها تدخل في العقائد وأصول الدين من بابين اثنين لا من باب واحد، أحدهما : باب الإلهيات بما فيها من حكم الله وعدله وسنته في خلقه بلا محاباة لولي ولا نبي، وثانيهما : اجتهاد الأنبياء وجواز الخطأ فيه وعده ذنبا عليهم بالإضافة إلى مقامه ومعرفتهم بربهم- وهي ما عرض له عليه السلام من الاجتهاد في أمر ابنه الذي تخلف عن السفينة وكان من المغرقين كما مر في الآية ٤٣ وكان ظاهر الترتيب أن تجعل بعدها فتكون ٤٤ ووجه هذا التقديم والتأخير بينهما الذي اقتضته البلاغة العليا، والحكمة البالغة المثلى، هو أن قدمت الآية المتممة لأصل القصة المبينة لوجه العبرة فيها بأروع التعبير، الذي يقرع أبواب القلوب بأبلغ قوارع التأثير، فكان اتصالها بها كاتصال الموجب بالسالب من الكهربائية التي يتولد به البرق الذي يخطف الأبصار، والصاعقة التي تمحق ما تصيبه من الأشياء والأشخاص.
فالآية الثالثة والأربعون تصور لقارئها وسامعها نكبة الطوفان بأعظم الصور هولا ورعبا ودهشا تطيش لها الألباب، وتحار في تصور كشفها وما يؤول إليه أمرها الأخيلة والأفكار، فتتلوها الآية الرابعة والأربعون فتكون الفاصلة بكشف ذلك الكرب العظيم بكلمتين وجيزتين من كلمات التكوين الإلهي قضي بهما الأمر بنجاة المؤمنين الصالحين، وهلاك المشركين الظالمين، ولو فصل بينهما بهذه الآيات الثلاث [ ٤٥-٤٧ ] اللواتي وضعن بعدهما، لضاع تسعة أعشار بلاغتهما وتأثيرهما في العبرة والموعظة المقصودة من القصة كلها، التي كانت كاشتعال الكهرباء مظهرا لسرعة مشيئته تعالى في كشف الكرب، فكان منها نور ظهرت به رحمته في إنجاء السفينة وأهلها المؤمنين، وصاعقة محقت جميع الظالمين.
﴿ قال يا نوح إنه ليس من أهلك ﴾ الذين أمرتك أن تسلكهم في السفينة لإنجائهم، وفسر هذا النفي وعلله أو وجهه بقوله تعالى :﴿ إنه عمل غير صالح ﴾ قرأ الجمهور " عمل " برفع اللام والتنوين على المبالغة في التشبيه كرجل عدل كأنه لفساده واجتنابه للصلاح والتزامه العمل غير الصالح نفس العمل كما قالت الخنساء في وصف الناقة :
ترتع ما رتعت حتى إذا ذكرت فإنما هي إقبال وإدبار١
وقرأ الكسائي ويعقوب بصيغة الفعل الماضي بتقدير عمل عملا غير صالح، والأول أبلغ والمراد أنه كان كافرا يعمل عمل الكافرين، والكفر يقطع الولاية بين المؤمنين والكافرين من الأقربين، ويوجب براءة بعضهم من بعض، كما قال تعالى :﴿ قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ﴾ [ الممتحنة : ٤ ] كما أن الإيمان يوجب الولاية بين المؤمنين الأبعدين – بله الأقربين- كما قال عز وجل :﴿ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ﴾ [ التوبة : ٧١ ].
وقيل إن معنى الجملة : إن سؤالك إياي يا نوح عنه وطلبك لنجاته عمل غير صالح لا أرضاه لك رواه ابن جرير عن ابن عباس وما أراه يصح عنه، وقيل إنه كان ولد زنا أو كان ولد غيره من امرأته وهو ظاهر البطلان لأن الله تعالى سماه ابنه.
فإن قيل : كيف وقع هذا من نوح عليه السلام وقد استثنى الله تعالى من أهله الذين وعده بنجاتهم فقال :﴿ وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم ﴾ [ المؤمنون : ٢٧ ] ولا يعزب عن علمه أن الذين سبق عليهم القول هم الكافرون الذي قضى الله بهلاكهم بعد دعائه عليهم بقوله ﴿ رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ﴾ [ نوح : ٢٦ ] وكانت امرأته وابنه هذا منهم، ولا يعقل أن يخفى عليه أمرهما ؟ ولكن امرأته لم تذكر في قصته وإنما ذكرت في سورة التحريم مع امرأة لوط في خيانة زوجيهما ودخولهما النار، واستثنيت امرأة لوط من النجاة مع المؤمنين في قصته.
قلنا : يحتمل أن يكون حين رأى ابنه بمعزل عن الكفار، ظن أنه قد بدا له في كفره فكرهه وجنح للإيمان، ويحتمل أن يكون قد فهم أنه غير داخل في عموم قوله تعالى له :﴿ إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن ﴾ [ هود : ٣٦ ] لأنه تعالى جعل الناجين قسمين أهله إلا من استثنى، ومن آمن من قومه، فجاز في فهمه أن يؤمن من أهله من كان كافرا لأنهم قسيم لقومه لا قسم منهم، ووافق هذا الفهم وقواه رحمة الأبوة فسأل الله تعالى أن يحققه، ولما كان هذا اجتهادا ظنيا لا يليق بنبي رسول من أولي العزم أن يخاطب به ربه عاتبه تعالى وأدبه عليه بقوله :
﴿ فلا تسألن ما ليس لك به علم ﴾ أي فلا تسألني في شيء ما من الأشياء ليس لك به علم صحيح أنه حق وصواب، سمى دعاءه سؤالا لأنه تضمن ذكر الوعد بنجاة أهله وما رتبه عليه من طلب نجاة ولده، وقرأ ابن كثير تسألن بفتح اللام وتشديد النون المفتوحة، وابن عامر بتشديدها مكسورة وكذا نافع مع إثبات الياء. وهذا النهي يدل على أنه يشترط في الدعاء أن يكون بما هو جائز في شرع الله وسننه في خلقه، فلا يجوز سؤال ما هو محرم وما هو مخالف لسنن الله القطعية بما يقتضي تبديلها ولا تحويلها وقلب نظام الكون لأجل الداعي، ولكن يجوز الدعاء بتسخير الأسباب، وتوفيق الأقدار للأقدار، والهداية إلى العلم بالمجهول من السنن والنظام، مع ما يؤدي إلى ذلك من الأعمال – كما فصلناه من قبل.
﴿ إني أعظك أن تكون من الجاهلين ﴾ أي أنهاك أن تكون من زمرة الجاهلين الذين يسألون أن يبطل تعالى تشريعه أو حكمته وتقديره في خلقه إجابة لشهواتهم وأهوائهم في أنفسهم أو أهليهم ومحبيهم. وأجهل منهم وأضل سبيلا من يسألون بعض الصالحين عندهم ما نهى الله عنه نبيا من أولي العزم من رسله أن يسأله إياه كان هؤلاء الصالحون يعطونهم أو يتوسلون إلى الله أن يعطيهم ما لم يعط مثله لرسله، بل ما عد طلبه منه ذنبا من ذنوبهم أمرهم بالتوبة منه وعدم العودة إلى مثله كما يدل عليه الوعظ هنا بمعونة قوله تعالى :﴿ يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين ﴾ [ النور : ١٧ ] وتقدم معنى الوعظ في تفسيره [ ١٠ : ٥٧ ج١١ ].
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:علاوات لتفسير قصة نوح عليه السلام
العلاوة الأولى : البلاغة الفنية في الآية ٤٣
سبق لنا أن قلنا في الكلام على إعجاز القرآن ببلاغته ومذهب المتكلمين وأدباء الفنون في التحدي به : إن هذا النوع من الإعجاز يقل من يفقهه في هذا العصر لفقد أهله ملكتي البلاغة الذوقية السليقية والبيانية الفنية بله الجمع بينهما، وهو ضروري لإدراك هذا النوع من الإعجاز، وإن من يفقهه ويدرك عدم استطاعة أحد أن يأتي بسورة مثله قد يخفى عليه وجه دلالته على أنه لا بد أن يكون وحيا من الله تعالى وحجة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولذلك جزموا بوقوع العجز واختلفوا في وجه الدلالة، فمثلهم كمثل حداق الفنانين في الوشي والتطريز إذا رأوا صنع قدماء الهنود من أهل لاهور وكشمير وأقروا بالعجز عن محاكاته، والمصورين إذا رأوا أدق صور رفائيل في تصوير الإنسان بأدق مناظر أعضائه وشمائله وملامح صفاته النفسية وإمارات انفعالاته ولا سيما المتقاربة كالخوف والفزع والحزن والغم والغضب ونظر الإقرار ونظر الإنكار ونظر الشهوة ونظر العطف ونظر الرحمة ونظر الإعجاب والعجب ونظر المتفكر والمتحير، فقد يقرون بعجزهم عن محاكاتها ولكنهم لا يقولون بعدم إمكانها، بل يقولون بإمكانها وبقرب وقوعها بالفعل إذا وجدت الداعية القوية كمنفعة مالية كبيرة أو مصلحة قومية أو دولية عظيمة.
ومن المعلوم من تاريخ النبي صلى الله عليه وسلم مع فصحاء قريش وغيرهم أنه حدثت لهم أعظم الدواعي والمصالح المعارضة للقرآن بعد تحديثهم بسورة مثله مطلقا والتحدي بعشر سور في المكرر ولو مفترى، فأيقنوا بعجزهم عن الإتيان بها وبهن، ولو ظاهرهم عليه جميع الإنس عن كثرة بلغائهم وفصحائهم، والجن الذين يعتقدون أن منهم هواجس تلقنهم الشعر من حيث لا يرونهم، وكذا آلهتهم القادرون بخصائصهم الغيبية أو بمكانتهم عند الله تعالى على كل ما يريدون في هذا العالم بزعمهم، قد عجزوا مع هذا كله واضطروا إلى مقاومة النبي بالقتال، وما أعقبهم من خسارة المال، وسبي النساء والأطفال، ثم ما هو أشد عليهم وهو احتمال الذل والنكال، وروي أن كبراءهم زعموا على التعاون على المعارضة واستعدوا لها فسمعوا هذه الآية [ وقيل يا أرض ] فتضاءلت قواهم واستخذت أنفسهم ورجعوا عن عزمهم، كما يأتي قريبا.
عرف بلغاء قريش من بلاغة هذه الآية الروحية الكامنة في فصاحتها اللفظية الظاهرة وغيرها ما لم يعرفه بلغاء الفنون بعدهم منها، فكان هؤلاء أعلم بما للحسن والجمال الصوري في الكلام من المقاييس الفلسفية والموازين الفنية ودرجات الراجح على المرجوح. وكان أولئك أدق شعورا بما لهذا الحسن والجمال من السلطان على القلوب والحكم على العقول. مثال ذلك أن للجمال البدني في حسان النساء مقاييس وموازين لتناسب الأعضاء بعضها مع بعض يمكن ضبطها والعدل في الحكم بينها. وأما الجمال المعنوي وهو خفة الروح وسلطان التأثير في القلوب، فليس له مقياس، ولا ميزان عشري يضبط به وزنه أو مساحته فيعرف الراجح من المرجوح، وإنما يعرف هذا الجمال الأعلى بملكة نفسية، لا بأوزان صناعية، كما قال أبو الطيب في الخيل :
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها وأعضائها فالحسن عنك مغيب١
وإنما أحدث القرآن في الأمة العربية ما أحدث من الثورة الدينية والاجتماعية والانقلاب العالمي بالنوع الثاني من إدراك بلاغته لا الأول، وكل منها كامل من بابه، كما بينا ذلك في موضعه من عهد قريب، وإن كثرة البحث في الثاني ليشغل المفسر والمتدبر عن الأول الخاص منه بالهداية وإصلاح النفس وتزكيتها، ولهذا نقتصر منه في تفسيرنا على ما قصر فيه المفسرون باختصار لا يشغل عن الهداية المقصودة بالذات، وقد نجعله من باب الاستطراد بعد بيان معنى الآية أو الآيات، ولهذا جعلت ما أحببت بيانه في بلاغة هذه الآية الفنية علاوة من هذه العلاوات، وقد أطال العلماء الأخصائيون فيها حتى أفردها بعضهم بمصنفات خاصة، وتكلم صاحب [ الطراز في علوم الإعجاز ] عليها في ٢٥ صفحة، ولعله أحسنهم فيها كلاما، وإن كان السكاكي هو السابق إليه وكلهم فيه عيال عليه، وذكر بعض المفسرين جملا مختصرة أو وسطا منه أنقل منها هنا ما لخصه السيد الآلوسي في روح المعاني من كلام السكاكي وغيره بتصرف كعادته قال :
واعلم أن هذه الآية الكريمة قد بلغت من مراتب الإعجاز أقاصيها، واستدلت مصاقع العرب فسفعت بنواصيها، وجمعت من المحاسن ما يضيق عنه نطاق البيان، وكانت من سمهري البلاغة مكان السنان.
يروى أن كفار قريش قصدوا أن يعارضوا القرآن فعكفوا على لباب البر ولحوم الضأن وسلاف الخمر أربعين يوما لتصفوا أذهانهم، فلما أخذوا فيما قصدوه وسمعوا هذه الآية قال بعضهم لبعض : هذا الكلام لا يشبه كلام المخلوقين، فتركوا ما أخذوا فيه وتفرقوا. ويروى أيضا أن ابن المقفع وكان –كما في القاموس- فصيحا بليغا، بل قيل إنه أفصح أهل وقته- رام أن يعارض القرآن فنظم كلاما وجعله مفصلا وسماه سورا، فاجتاز يوما بصبي يقرؤها في مكتب فرجع ومحا ما عمل، وقال أشهد أن هذا لا يعارض أبدا وما هو من كلام البشر. ولا يخفى أن هذا لا يستدعي أن لا يكون سائر آيات القرآن العظيم معجزا لما أن حد الإعجاز هو المرتبة التي يعجز البشر عن الإتيان بمثلها ولا تدخل على قدرته قطعا وهي تشتمل على شيئين : الأول الطرف الأعلى من البلاغة أعني ما ينتهي إليه البلاغة ولا يتصور تجاوزها إياه، والثاني ما يقرب من ذلك الطرف أعني المراتب العلمية التي تتقاصر القوى البشرية عنها أيضا.
ومعنى إعجاز آيات الكتاب المجيد بأسرها هو كونها مما تتقاصر القوى البشرية عن الإتيان بمثلها سواء كانت من القسم الأول أو الثاني فلا يضر تفاوتها في البلاغة، وهو الذي قاله علماء هذا الشأن.
وقد فصل بعض مزايا هذه الآية المهرة المتقنون، وتركوا من ذلك ما لا يكاد يصفه الواصفون، ولا بأس بذكر شيء مما ذكر إفادة لجاهل، وتذكيرا لفاضل غافل، فنقول :
جهات بلاغة الآية الأربع : أولها جهة علم البيان
ذكر العلامة السكاكي أن النظر فيها من أربع جهات : من جهة علم البيان، ومن جهة علم المعاني وهما مرجعا البلاغة. ومن جهة الفصاحة المعنوية، ومن جهة الفصاحة اللفظية : أما النظر فيها من جهة علم البيان وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بذلك من القرينة والترشيح والتعريض، فهو أنه عز سلطانه لما أراد أن يبين معنى : أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد، وأن نقطع طوفان المساء فانقطع، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض، وأن نقضي أمر نوح عليه السلام وهو إنجاز ما كنا وعدناه من إغراق قومه فقضى، وأن نسوي السفينة على الجودي فاستوت، وأبقينا الظلمة غرقى – بنى سبحانه الكلام على تشبيه المراد منه بالمأمور الذي لا يتأتى منه –لكما هيبته من الآمر- العصيان، وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكون المقصود تصويرا لاقتداره سبحانه العظيم، وأن هذه الأجرام العظيمة من السماوات والأرض تابعة لإرادته تعالى إيجادا وإعداما، ولمشيئته فيها تغييرا وتبديلا، كأنها عقلاء مميزون قد عرفوه جل شأنه حق معرفته، وأحاطوا علما بوجوب الانقياد لأمره، والإذعان لحكمه، ويحتم بذل المجهود عليهم في تحصيل مراده، وتصوروا مزيد اقتداره، فعظمت مهابته في نفوسهم، وضربت سرادقها في أفنية ضمائرهم، فكما يلوح لهم إشارته سبحانه كان المشار إليه مقدما، وكما يرد عليهم أمره تعالى شأنه كان المأمور به متمما، لا تلقي لإشارته بغير الإمضاء والانقياد، ولا لأمره بغير الإذعان والامتثال.
" ثم بنى على مجموع التشبيهين نظم الكلام فقال جل وعلا قيل : على سبيل المجاز عن الإرادة من باب ذكر المسبب وإرادة السبب، لأن الإرادة تكون سببا لوقوع القول في الجملة، وجعل قرينة هذا المجاز خطاب الجماد وهو [ يا أرض- ويا سماء ] إذ يصح أن يراد حصول شيء متعلق بالجماد ولا يصح القول له. ثم قال سبحانه كما ترى [ يا أرض، ويا سماء ] مخاطبا لهما على سبيل الاستعارة للشبه المذكور، والظاهر أنه أراد أن هناك استعارة بالكناية حيث ذكر المشبه أعني السماء والأرض المراد منهما حصول أمر وأريد المشبه به أعني المأمور الموصوف بأنه لا يتأتى منه العصيان ادعاء بقرينة نسبة الخطاب إليه، ودخول حرف النداء عليه، وهما من خواص المأمور المطيع ويكون هذا تخييلا. وقد يقال : أراد أن الاستعارة ههنا تصريحية تبعية في حرف النداء بناء على تشبيه تعلق الإرادة بالمراد منه بتعلق النداء والخطاب بالمنادي المخاطب، وليس بشيء إذ لا يحسن هذا التشبيه ابتداء بل تبعا للتشبيه الأول فكيف يجعل أصلا لمتبوعه ؟ على أن قوله للشبه المذكور يدفع هذا الحمل.
ثم استعار لغئور الماء في الأرض [ البلع ] الذي هو إعمال الجاذبة في المطعوم للشبه بينهما وهو الذهاب إلى مقر خفي. وفي الكشاف : جعل البلع مستعارا لنشف الأرض الماء وهو أولى فإن النشف دال على جذب من إجزاء الأرض لما عليها كالبلع بالنسبة إلى الحيوان، ولأن النشف فعل الأرض والغثور فعل الماء مع الطباق بين الفعلين تعديا. ثم استعار الماء للغذاء استعارة بالكناية تشبيها له بالغذاء لتقوي الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار تقوي الآكل بالطعام وجعل قرينة الاستعارة لفظة [ ابلعي ] لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء.
ولا يخفى عليك أنه إذا اعتبر مذهب السلف في الاستعارة يكون [ ابلعي ] استعارة تصريحية ومع ذلك يكون بحسب اللفظ قرينة للاستعارة بالكناية في الماء على حد ما قالوا في ﴿ ينقضون عهد الله ﴾ وأما إذا اعتبر مذهبه فينبغي أن يكون البلع باقيا على حقيقته كالإنبات في : أنبت الربيع البقل. وهو بعيد، أو يجعل مستعارا لأمر متوهم كما في : نطقت الحال فيلزمه القول بالاستعارة التبعية كما هو المشهور.
ثم إنه تعالى أمر على سبيل الاستعارة للتشبيه الثاني وخاطب في الأمر تشريحا لاستعارة النداء، والحاصل أن في لفظ [ ابلعي ] باعتبار جوهرة استعارة لغئور الماء وباعتبار صورته أعني كونه صورة أمر استعارة أخرى لتكوين المراد، وباعتبار كونه أمر خطاب ترشيح للاستعارة المكنية التي في المنادى، فإن قرينتها النداء وما زاد على قرينة المكنية يكون ترشيحا لها. وأما جعل النداء استعارة تصريحية تبعية حتى يكون خطاب الآمر ترشيحا لها فقد عرفت ما فيه.
ثم قال جل وعلا [ ماءك ] بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز تشبيها لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالملك، واختار ضمير الخطاب لأجل التشريح وحاصله أن هناك مجازا لغويا في الهيئة الإضافية الدالة على الاختصاص الملكي، ولهذا جعل الخطاب ترشيحا لهذه الاستعارة من حيث إن الخطاب يدل على صلوح الأرض للمالكية، فما قيل إن المجاز عقلي والعبارة مصروفة عن الظاهر ليس بشيء.
ثم اختار لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان من المطر أو الفعل، ففي [ أقلعي ] استعارة باعتبار جوهره وكذا باعتبار صيغته أيضا وهي مبنية على تشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافد، والخطاب فيه أيضا ترشيح لاستعارة النداء، والحاصل أن الكلام فيه مثل ما مر في [ ابلعي ].
" ثم قال سبحا


١ - البيت من البسيط، وهو في ديوان الخنساء ص ٣٨٣، والأشباه والنظائر ١/ ١٩٨، وخزانة الأدب ١/ ٤٣١/ ٢/ ٣٤، وشرح أبيات سيبويه ١/ ٢٨٢، والشعر والشعراء ١/ ٣٥٤، والكتاب ١/ ٣٣٧، ولسان العرب [رهط]، [قبل]، [سوا] والمقتضب ٤/ ٣٠٥، والمنصف ١/ ١٩٧، والبيت بلا نسبة في الأشباه والنظائر ٢/ ٣٨٧، ٤/ ٦٨، وشرح الأشموني ١/ ٢١٣، وشرح المفصل ١/ ١١٥، والمحتسب ٢/ ٤٣..
{ ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين ( ٤٥ ) قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين ( ٤٦ ) قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين ( ٤٧ ) ]
هذه الآيات الثلاث في مسألة فرعية من قصة نوح لا من صلب القصة وأصول وقائعها ولكنها تدخل في العقائد وأصول الدين من بابين اثنين لا من باب واحد، أحدهما : باب الإلهيات بما فيها من حكم الله وعدله وسنته في خلقه بلا محاباة لولي ولا نبي، وثانيهما : اجتهاد الأنبياء وجواز الخطأ فيه وعده ذنبا عليهم بالإضافة إلى مقامه ومعرفتهم بربهم- وهي ما عرض له عليه السلام من الاجتهاد في أمر ابنه الذي تخلف عن السفينة وكان من المغرقين كما مر في الآية ٤٣ وكان ظاهر الترتيب أن تجعل بعدها فتكون ٤٤ ووجه هذا التقديم والتأخير بينهما الذي اقتضته البلاغة العليا، والحكمة البالغة المثلى، هو أن قدمت الآية المتممة لأصل القصة المبينة لوجه العبرة فيها بأروع التعبير، الذي يقرع أبواب القلوب بأبلغ قوارع التأثير، فكان اتصالها بها كاتصال الموجب بالسالب من الكهربائية التي يتولد به البرق الذي يخطف الأبصار، والصاعقة التي تمحق ما تصيبه من الأشياء والأشخاص.
فالآية الثالثة والأربعون تصور لقارئها وسامعها نكبة الطوفان بأعظم الصور هولا ورعبا ودهشا تطيش لها الألباب، وتحار في تصور كشفها وما يؤول إليه أمرها الأخيلة والأفكار، فتتلوها الآية الرابعة والأربعون فتكون الفاصلة بكشف ذلك الكرب العظيم بكلمتين وجيزتين من كلمات التكوين الإلهي قضي بهما الأمر بنجاة المؤمنين الصالحين، وهلاك المشركين الظالمين، ولو فصل بينهما بهذه الآيات الثلاث [ ٤٥-٤٧ ] اللواتي وضعن بعدهما، لضاع تسعة أعشار بلاغتهما وتأثيرهما في العبرة والموعظة المقصودة من القصة كلها، التي كانت كاشتعال الكهرباء مظهرا لسرعة مشيئته تعالى في كشف الكرب، فكان منها نور ظهرت به رحمته في إنجاء السفينة وأهلها المؤمنين، وصاعقة محقت جميع الظالمين.
﴿ قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم ﴾ أي إني أعتصم وأحتمي بك من أن أسألك بعد الآن ما ليس لي علم صحيح بأنه جائز لائق ﴿ وإلا تغفر لي ﴾ أي وإن لم تغفر لي ذنب هذا السؤال الذي سولته لي رحمتي الأبوية، وطمعي برحمتك الربانية ﴿ وترحمني ﴾ بقبول توبتي الصادقة ورحمتك التي وسعت كل شيء ﴿ أكن من الخاسرين ﴾ فيما حاولته من الربح بنجاة أولادي كلهم وسعادتهم بطاعتك وأنت أعلم بهم مني والعبرة في هذه المسألة من وجوه.
أولها : إن سؤال نوح عليه السلام ما سأله لابنه لم يكن معصية لله تعالى خالف فيها أمره أو نهيه، وإنما كانت خطأ في اجتهاد رأي بنية صالحة، وإنما عدها الله تعالى ذنبا له لأنها كانت دون مقام العلم الصحيح اللائق بمنزلته من ربه، هبطت بضعفه البشري وما غرس في الفطرة من الرأفة بالأولاد إلى اتباع الظن، ومثل هذا الاجتهاد لم يعصم منه الأنبياء فيقعون فيه أحيانا ليشعروا بحاجتهم إلى تأديب ربهم وتكميله إياهم آنا بعد آن، بما يصعدون في معارج العرفان.
ثانيهما : إن الإيمان والصلاح لا علاقة له بالوراثة والأنساب، وقد يختلف باختلاف استعداد الأفراد، وما يحيط بهم من الأسباب، وما يكونون عليه من الآراء والأعمال، ولو كان بالوراثة لكان جميع ولد آدم كأبيهم، غاية ما يقع منهم معصية تقع عن النسيان وضعف العزم، وتتبعها التوبة واجتباء الرب، ثم لكان سلائل أبناء نوح المؤمنين الذين نجوا معه في السفينة كلهم مؤمنين صالحين، والمشهور أن نسل البشر انحصر فيهم، وقد دلت الآية الآتية على أن فيهم الصالحين وأيد ذلك الواقع، بل لما كان أحدهم المذكور هنا كافرا هالكا.
ثالثها : إن الله تعالى يجزي الناس في الدنيا والآخرة بإيمانهم وأعمالهم لا بأنسابهم، ولا يحابي أحدا منهم لأجل آبائه وأجداده الصالحين وإن كانوا من الأنبياء المرسلين، وأن من سأله من هؤلاء الآباء ما يخالف سننه في شرعه وحكمته في نظام خلقه، كان مذنبا يستحق التأديب، حتى يتوب وينيب.
رابعها : إن هؤلاء المغرورين بأنسابهم من الشرفاء الجاهلين بكتاب ربهم وما يليق بعظمة الربوبية، وعلو الألوهية، الجاهلين بسنة نبيهم، الذين يزعمون أنهم أفضل من العلماء العاملين، والصالحين المصلحين، والأغنياء الشاكرين، والفقراء الصابرين، وإن كانوا عراة مما كسا الله هؤلاء الأصناف من لباس التقوى والدين، وأنهم يستحقون سعادة الدنيا والآخرة بنسبهم، ويستحقها من عظمهم وأفاض عليهم من ماله بمحاباة الله له لأجلهم، أولئك هم الجاهلون الذين يشهد عليهم كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهديه في إنذار عشيرته وأهل بيته، وكقوله لبنته سيدة نساء العالمين ( يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئا ) ١ رواه الشيخان من حديث طويل.
هؤلاء الجاهلون المساكين يعدون أعدى أعدائهم من يدعوهم أو يدعو الناس إلى كتب الله وسنة رسوله خاتم النبيين، ويعدون أصدق أصدقائهم المبتدعين الخرافيين المشعوذين.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:علاوات لتفسير قصة نوح عليه السلام
العلاوة الأولى : البلاغة الفنية في الآية ٤٣
سبق لنا أن قلنا في الكلام على إعجاز القرآن ببلاغته ومذهب المتكلمين وأدباء الفنون في التحدي به : إن هذا النوع من الإعجاز يقل من يفقهه في هذا العصر لفقد أهله ملكتي البلاغة الذوقية السليقية والبيانية الفنية بله الجمع بينهما، وهو ضروري لإدراك هذا النوع من الإعجاز، وإن من يفقهه ويدرك عدم استطاعة أحد أن يأتي بسورة مثله قد يخفى عليه وجه دلالته على أنه لا بد أن يكون وحيا من الله تعالى وحجة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولذلك جزموا بوقوع العجز واختلفوا في وجه الدلالة، فمثلهم كمثل حداق الفنانين في الوشي والتطريز إذا رأوا صنع قدماء الهنود من أهل لاهور وكشمير وأقروا بالعجز عن محاكاته، والمصورين إذا رأوا أدق صور رفائيل في تصوير الإنسان بأدق مناظر أعضائه وشمائله وملامح صفاته النفسية وإمارات انفعالاته ولا سيما المتقاربة كالخوف والفزع والحزن والغم والغضب ونظر الإقرار ونظر الإنكار ونظر الشهوة ونظر العطف ونظر الرحمة ونظر الإعجاب والعجب ونظر المتفكر والمتحير، فقد يقرون بعجزهم عن محاكاتها ولكنهم لا يقولون بعدم إمكانها، بل يقولون بإمكانها وبقرب وقوعها بالفعل إذا وجدت الداعية القوية كمنفعة مالية كبيرة أو مصلحة قومية أو دولية عظيمة.
ومن المعلوم من تاريخ النبي صلى الله عليه وسلم مع فصحاء قريش وغيرهم أنه حدثت لهم أعظم الدواعي والمصالح المعارضة للقرآن بعد تحديثهم بسورة مثله مطلقا والتحدي بعشر سور في المكرر ولو مفترى، فأيقنوا بعجزهم عن الإتيان بها وبهن، ولو ظاهرهم عليه جميع الإنس عن كثرة بلغائهم وفصحائهم، والجن الذين يعتقدون أن منهم هواجس تلقنهم الشعر من حيث لا يرونهم، وكذا آلهتهم القادرون بخصائصهم الغيبية أو بمكانتهم عند الله تعالى على كل ما يريدون في هذا العالم بزعمهم، قد عجزوا مع هذا كله واضطروا إلى مقاومة النبي بالقتال، وما أعقبهم من خسارة المال، وسبي النساء والأطفال، ثم ما هو أشد عليهم وهو احتمال الذل والنكال، وروي أن كبراءهم زعموا على التعاون على المعارضة واستعدوا لها فسمعوا هذه الآية [ وقيل يا أرض ] فتضاءلت قواهم واستخذت أنفسهم ورجعوا عن عزمهم، كما يأتي قريبا.
عرف بلغاء قريش من بلاغة هذه الآية الروحية الكامنة في فصاحتها اللفظية الظاهرة وغيرها ما لم يعرفه بلغاء الفنون بعدهم منها، فكان هؤلاء أعلم بما للحسن والجمال الصوري في الكلام من المقاييس الفلسفية والموازين الفنية ودرجات الراجح على المرجوح. وكان أولئك أدق شعورا بما لهذا الحسن والجمال من السلطان على القلوب والحكم على العقول. مثال ذلك أن للجمال البدني في حسان النساء مقاييس وموازين لتناسب الأعضاء بعضها مع بعض يمكن ضبطها والعدل في الحكم بينها. وأما الجمال المعنوي وهو خفة الروح وسلطان التأثير في القلوب، فليس له مقياس، ولا ميزان عشري يضبط به وزنه أو مساحته فيعرف الراجح من المرجوح، وإنما يعرف هذا الجمال الأعلى بملكة نفسية، لا بأوزان صناعية، كما قال أبو الطيب في الخيل :
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها وأعضائها فالحسن عنك مغيب١
وإنما أحدث القرآن في الأمة العربية ما أحدث من الثورة الدينية والاجتماعية والانقلاب العالمي بالنوع الثاني من إدراك بلاغته لا الأول، وكل منها كامل من بابه، كما بينا ذلك في موضعه من عهد قريب، وإن كثرة البحث في الثاني ليشغل المفسر والمتدبر عن الأول الخاص منه بالهداية وإصلاح النفس وتزكيتها، ولهذا نقتصر منه في تفسيرنا على ما قصر فيه المفسرون باختصار لا يشغل عن الهداية المقصودة بالذات، وقد نجعله من باب الاستطراد بعد بيان معنى الآية أو الآيات، ولهذا جعلت ما أحببت بيانه في بلاغة هذه الآية الفنية علاوة من هذه العلاوات، وقد أطال العلماء الأخصائيون فيها حتى أفردها بعضهم بمصنفات خاصة، وتكلم صاحب [ الطراز في علوم الإعجاز ] عليها في ٢٥ صفحة، ولعله أحسنهم فيها كلاما، وإن كان السكاكي هو السابق إليه وكلهم فيه عيال عليه، وذكر بعض المفسرين جملا مختصرة أو وسطا منه أنقل منها هنا ما لخصه السيد الآلوسي في روح المعاني من كلام السكاكي وغيره بتصرف كعادته قال :
واعلم أن هذه الآية الكريمة قد بلغت من مراتب الإعجاز أقاصيها، واستدلت مصاقع العرب فسفعت بنواصيها، وجمعت من المحاسن ما يضيق عنه نطاق البيان، وكانت من سمهري البلاغة مكان السنان.
يروى أن كفار قريش قصدوا أن يعارضوا القرآن فعكفوا على لباب البر ولحوم الضأن وسلاف الخمر أربعين يوما لتصفوا أذهانهم، فلما أخذوا فيما قصدوه وسمعوا هذه الآية قال بعضهم لبعض : هذا الكلام لا يشبه كلام المخلوقين، فتركوا ما أخذوا فيه وتفرقوا. ويروى أيضا أن ابن المقفع وكان –كما في القاموس- فصيحا بليغا، بل قيل إنه أفصح أهل وقته- رام أن يعارض القرآن فنظم كلاما وجعله مفصلا وسماه سورا، فاجتاز يوما بصبي يقرؤها في مكتب فرجع ومحا ما عمل، وقال أشهد أن هذا لا يعارض أبدا وما هو من كلام البشر. ولا يخفى أن هذا لا يستدعي أن لا يكون سائر آيات القرآن العظيم معجزا لما أن حد الإعجاز هو المرتبة التي يعجز البشر عن الإتيان بمثلها ولا تدخل على قدرته قطعا وهي تشتمل على شيئين : الأول الطرف الأعلى من البلاغة أعني ما ينتهي إليه البلاغة ولا يتصور تجاوزها إياه، والثاني ما يقرب من ذلك الطرف أعني المراتب العلمية التي تتقاصر القوى البشرية عنها أيضا.
ومعنى إعجاز آيات الكتاب المجيد بأسرها هو كونها مما تتقاصر القوى البشرية عن الإتيان بمثلها سواء كانت من القسم الأول أو الثاني فلا يضر تفاوتها في البلاغة، وهو الذي قاله علماء هذا الشأن.
وقد فصل بعض مزايا هذه الآية المهرة المتقنون، وتركوا من ذلك ما لا يكاد يصفه الواصفون، ولا بأس بذكر شيء مما ذكر إفادة لجاهل، وتذكيرا لفاضل غافل، فنقول :
جهات بلاغة الآية الأربع : أولها جهة علم البيان
ذكر العلامة السكاكي أن النظر فيها من أربع جهات : من جهة علم البيان، ومن جهة علم المعاني وهما مرجعا البلاغة. ومن جهة الفصاحة المعنوية، ومن جهة الفصاحة اللفظية : أما النظر فيها من جهة علم البيان وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بذلك من القرينة والترشيح والتعريض، فهو أنه عز سلطانه لما أراد أن يبين معنى : أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد، وأن نقطع طوفان المساء فانقطع، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض، وأن نقضي أمر نوح عليه السلام وهو إنجاز ما كنا وعدناه من إغراق قومه فقضى، وأن نسوي السفينة على الجودي فاستوت، وأبقينا الظلمة غرقى – بنى سبحانه الكلام على تشبيه المراد منه بالمأمور الذي لا يتأتى منه –لكما هيبته من الآمر- العصيان، وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكون المقصود تصويرا لاقتداره سبحانه العظيم، وأن هذه الأجرام العظيمة من السماوات والأرض تابعة لإرادته تعالى إيجادا وإعداما، ولمشيئته فيها تغييرا وتبديلا، كأنها عقلاء مميزون قد عرفوه جل شأنه حق معرفته، وأحاطوا علما بوجوب الانقياد لأمره، والإذعان لحكمه، ويحتم بذل المجهود عليهم في تحصيل مراده، وتصوروا مزيد اقتداره، فعظمت مهابته في نفوسهم، وضربت سرادقها في أفنية ضمائرهم، فكما يلوح لهم إشارته سبحانه كان المشار إليه مقدما، وكما يرد عليهم أمره تعالى شأنه كان المأمور به متمما، لا تلقي لإشارته بغير الإمضاء والانقياد، ولا لأمره بغير الإذعان والامتثال.
" ثم بنى على مجموع التشبيهين نظم الكلام فقال جل وعلا قيل : على سبيل المجاز عن الإرادة من باب ذكر المسبب وإرادة السبب، لأن الإرادة تكون سببا لوقوع القول في الجملة، وجعل قرينة هذا المجاز خطاب الجماد وهو [ يا أرض- ويا سماء ] إذ يصح أن يراد حصول شيء متعلق بالجماد ولا يصح القول له. ثم قال سبحانه كما ترى [ يا أرض، ويا سماء ] مخاطبا لهما على سبيل الاستعارة للشبه المذكور، والظاهر أنه أراد أن هناك استعارة بالكناية حيث ذكر المشبه أعني السماء والأرض المراد منهما حصول أمر وأريد المشبه به أعني المأمور الموصوف بأنه لا يتأتى منه العصيان ادعاء بقرينة نسبة الخطاب إليه، ودخول حرف النداء عليه، وهما من خواص المأمور المطيع ويكون هذا تخييلا. وقد يقال : أراد أن الاستعارة ههنا تصريحية تبعية في حرف النداء بناء على تشبيه تعلق الإرادة بالمراد منه بتعلق النداء والخطاب بالمنادي المخاطب، وليس بشيء إذ لا يحسن هذا التشبيه ابتداء بل تبعا للتشبيه الأول فكيف يجعل أصلا لمتبوعه ؟ على أن قوله للشبه المذكور يدفع هذا الحمل.
ثم استعار لغئور الماء في الأرض [ البلع ] الذي هو إعمال الجاذبة في المطعوم للشبه بينهما وهو الذهاب إلى مقر خفي. وفي الكشاف : جعل البلع مستعارا لنشف الأرض الماء وهو أولى فإن النشف دال على جذب من إجزاء الأرض لما عليها كالبلع بالنسبة إلى الحيوان، ولأن النشف فعل الأرض والغثور فعل الماء مع الطباق بين الفعلين تعديا. ثم استعار الماء للغذاء استعارة بالكناية تشبيها له بالغذاء لتقوي الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار تقوي الآكل بالطعام وجعل قرينة الاستعارة لفظة [ ابلعي ] لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء.
ولا يخفى عليك أنه إذا اعتبر مذهب السلف في الاستعارة يكون [ ابلعي ] استعارة تصريحية ومع ذلك يكون بحسب اللفظ قرينة للاستعارة بالكناية في الماء على حد ما قالوا في ﴿ ينقضون عهد الله ﴾ وأما إذا اعتبر مذهبه فينبغي أن يكون البلع باقيا على حقيقته كالإنبات في : أنبت الربيع البقل. وهو بعيد، أو يجعل مستعارا لأمر متوهم كما في : نطقت الحال فيلزمه القول بالاستعارة التبعية كما هو المشهور.
ثم إنه تعالى أمر على سبيل الاستعارة للتشبيه الثاني وخاطب في الأمر تشريحا لاستعارة النداء، والحاصل أن في لفظ [ ابلعي ] باعتبار جوهرة استعارة لغئور الماء وباعتبار صورته أعني كونه صورة أمر استعارة أخرى لتكوين المراد، وباعتبار كونه أمر خطاب ترشيح للاستعارة المكنية التي في المنادى، فإن قرينتها النداء وما زاد على قرينة المكنية يكون ترشيحا لها. وأما جعل النداء استعارة تصريحية تبعية حتى يكون خطاب الآمر ترشيحا لها فقد عرفت ما فيه.
ثم قال جل وعلا [ ماءك ] بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز تشبيها لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالملك، واختار ضمير الخطاب لأجل التشريح وحاصله أن هناك مجازا لغويا في الهيئة الإضافية الدالة على الاختصاص الملكي، ولهذا جعل الخطاب ترشيحا لهذه الاستعارة من حيث إن الخطاب يدل على صلوح الأرض للمالكية، فما قيل إن المجاز عقلي والعبارة مصروفة عن الظاهر ليس بشيء.
ثم اختار لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان من المطر أو الفعل، ففي [ أقلعي ] استعارة باعتبار جوهره وكذا باعتبار صيغته أيضا وهي مبنية على تشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافد، والخطاب فيه أيضا ترشيح لاستعارة النداء، والحاصل أن الكلام فيه مثل ما مر في [ ابلعي ].
" ثم قال سبحا


١ - أخرجه البخاري في الوصايا باب ١١، وتفسير سورة ٢٦، باب ٢، والنسائي في الوصايا باب٦، والدارمي في الرقاق باب ٢٣، وأحمد في المسند ١/ ٢٠٦..
﴿ قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم ( ٤٨ ) تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين ( ٤٩ ) ﴾
الآية الأولى من هاتين الآيتين خاتمة قصة نوح عليه السلام، والتي تليها استدلال بها على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. وقد وردت كل منهما مفصولة مما قبلها غير معطوفة عليه. ولولا الفصل بين الأولى وبين آية ﴿ وقيل يا أرض ابلعي ماءك ﴾ لما بيناه من الحكمة في ذلك لكان الوجه أن تعطف عليها إما مع إعادة القيل وإما بدون بأن يقال : ويا نوح اهبط بسلام منا، ولكم الفصل بالآيات الثلاث في مسألة نوح وولده صار مانعا من الوصل بما قبله، ومقتضيا أن تذكر مفصولة على الاستئناف البياني الذي هو جواب عن سؤال مقدر، وأن يبدأ بفعل " قيل " المجهول، لأنه هو المتعين المعلوم.
﴿ قيل يا نوح اهبط بسلام منا ﴾ أي قال الله عز وجل الذي بيده ملكوت كل شيء وعالم الغيب والشهادة ومدبر أمر العالم كله لنوح بعد انتهاء أمر الطوفان، وإقلاع السماء عن إمطارها، وابتلاء الأرض لمائها، وإمكان السكنى والعمل على ظهرها : يا نوح اهبط من السفينة أو من الجودي الذي استوت عليه إلى الصفصف المستوي منها، ملابسا أو مزودا وممتعا بسلام من عظمتنا ورحمتنا الربانية وهو التحية والسلامة من الفتن والعداوة التي أحدثها المشركون الظالمون فيها.
﴿ وبركات ﴾ في المعايش وسعة الرزق فائضة ﴿ عليك وعلى أمم ممن معك ﴾ أي وعلى من معك الآن في السفينة وعلى ذريات يتناسلون منهم ويتفرقون في الأرض، فيكونون أمما مستقلا بعضهم دون بعض، وهم ممتعون بهذا السلام المعنوي والبركات المادية، ويجوز أن يشمل لفظ الأمم ما كان مع نوح من أنواع الحيوان فقد قال تعالى :﴿ وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ﴾ [ الأنعام : ٣٨ ].
﴿ وأمم سنمتعهم ﴾ أي وثم أمم آخرون من بعدهم سنمتعهم في الدنيا بأرزاقها وبركاتها دون السلام الرباني، الممنوح من الألطاف الرحماني، لسليمي الفطرة من المؤمنين، فإن أولئك سيغويهم الشيطان الرجيم، ويزين لهم الشرك بربهم، والظلم والبغي فيما بينهم، ﴿ ثم يمسهم منا عذاب أليم ﴾ في الدنيا والآخرة لأنهم لا يحافظون على السلام الذي كان عليه من قبلهم، بل يبغي بعضهم على بعض لتفرقهم واختلافهم في هداية الدين، التي نبعث بها المرسلين، كما وقع لك مع قومك الأولين.
هذا هو المتبادر من معنى هذه الآية، وما بيناه في تفسير ما قبلها من آيات القصة هو المتبادر من مدلول ألفاظها الفصيحة نصا واقتضاء الموافق لسنن الله تعالى في الأمم، فهي لا تحتمل كثرة الآراء التي قرنت بها، لولا كثرة الروايات الغريبة التي غشيتها حتى ما لا يقبله اللفظ ولا الشرع ولا العقل منها، وسنبين مجامع العبرة فيها.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:علاوات لتفسير قصة نوح عليه السلام
العلاوة الأولى : البلاغة الفنية في الآية ٤٣
سبق لنا أن قلنا في الكلام على إعجاز القرآن ببلاغته ومذهب المتكلمين وأدباء الفنون في التحدي به : إن هذا النوع من الإعجاز يقل من يفقهه في هذا العصر لفقد أهله ملكتي البلاغة الذوقية السليقية والبيانية الفنية بله الجمع بينهما، وهو ضروري لإدراك هذا النوع من الإعجاز، وإن من يفقهه ويدرك عدم استطاعة أحد أن يأتي بسورة مثله قد يخفى عليه وجه دلالته على أنه لا بد أن يكون وحيا من الله تعالى وحجة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولذلك جزموا بوقوع العجز واختلفوا في وجه الدلالة، فمثلهم كمثل حداق الفنانين في الوشي والتطريز إذا رأوا صنع قدماء الهنود من أهل لاهور وكشمير وأقروا بالعجز عن محاكاته، والمصورين إذا رأوا أدق صور رفائيل في تصوير الإنسان بأدق مناظر أعضائه وشمائله وملامح صفاته النفسية وإمارات انفعالاته ولا سيما المتقاربة كالخوف والفزع والحزن والغم والغضب ونظر الإقرار ونظر الإنكار ونظر الشهوة ونظر العطف ونظر الرحمة ونظر الإعجاب والعجب ونظر المتفكر والمتحير، فقد يقرون بعجزهم عن محاكاتها ولكنهم لا يقولون بعدم إمكانها، بل يقولون بإمكانها وبقرب وقوعها بالفعل إذا وجدت الداعية القوية كمنفعة مالية كبيرة أو مصلحة قومية أو دولية عظيمة.
ومن المعلوم من تاريخ النبي صلى الله عليه وسلم مع فصحاء قريش وغيرهم أنه حدثت لهم أعظم الدواعي والمصالح المعارضة للقرآن بعد تحديثهم بسورة مثله مطلقا والتحدي بعشر سور في المكرر ولو مفترى، فأيقنوا بعجزهم عن الإتيان بها وبهن، ولو ظاهرهم عليه جميع الإنس عن كثرة بلغائهم وفصحائهم، والجن الذين يعتقدون أن منهم هواجس تلقنهم الشعر من حيث لا يرونهم، وكذا آلهتهم القادرون بخصائصهم الغيبية أو بمكانتهم عند الله تعالى على كل ما يريدون في هذا العالم بزعمهم، قد عجزوا مع هذا كله واضطروا إلى مقاومة النبي بالقتال، وما أعقبهم من خسارة المال، وسبي النساء والأطفال، ثم ما هو أشد عليهم وهو احتمال الذل والنكال، وروي أن كبراءهم زعموا على التعاون على المعارضة واستعدوا لها فسمعوا هذه الآية [ وقيل يا أرض ] فتضاءلت قواهم واستخذت أنفسهم ورجعوا عن عزمهم، كما يأتي قريبا.
عرف بلغاء قريش من بلاغة هذه الآية الروحية الكامنة في فصاحتها اللفظية الظاهرة وغيرها ما لم يعرفه بلغاء الفنون بعدهم منها، فكان هؤلاء أعلم بما للحسن والجمال الصوري في الكلام من المقاييس الفلسفية والموازين الفنية ودرجات الراجح على المرجوح. وكان أولئك أدق شعورا بما لهذا الحسن والجمال من السلطان على القلوب والحكم على العقول. مثال ذلك أن للجمال البدني في حسان النساء مقاييس وموازين لتناسب الأعضاء بعضها مع بعض يمكن ضبطها والعدل في الحكم بينها. وأما الجمال المعنوي وهو خفة الروح وسلطان التأثير في القلوب، فليس له مقياس، ولا ميزان عشري يضبط به وزنه أو مساحته فيعرف الراجح من المرجوح، وإنما يعرف هذا الجمال الأعلى بملكة نفسية، لا بأوزان صناعية، كما قال أبو الطيب في الخيل :
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها وأعضائها فالحسن عنك مغيب١
وإنما أحدث القرآن في الأمة العربية ما أحدث من الثورة الدينية والاجتماعية والانقلاب العالمي بالنوع الثاني من إدراك بلاغته لا الأول، وكل منها كامل من بابه، كما بينا ذلك في موضعه من عهد قريب، وإن كثرة البحث في الثاني ليشغل المفسر والمتدبر عن الأول الخاص منه بالهداية وإصلاح النفس وتزكيتها، ولهذا نقتصر منه في تفسيرنا على ما قصر فيه المفسرون باختصار لا يشغل عن الهداية المقصودة بالذات، وقد نجعله من باب الاستطراد بعد بيان معنى الآية أو الآيات، ولهذا جعلت ما أحببت بيانه في بلاغة هذه الآية الفنية علاوة من هذه العلاوات، وقد أطال العلماء الأخصائيون فيها حتى أفردها بعضهم بمصنفات خاصة، وتكلم صاحب [ الطراز في علوم الإعجاز ] عليها في ٢٥ صفحة، ولعله أحسنهم فيها كلاما، وإن كان السكاكي هو السابق إليه وكلهم فيه عيال عليه، وذكر بعض المفسرين جملا مختصرة أو وسطا منه أنقل منها هنا ما لخصه السيد الآلوسي في روح المعاني من كلام السكاكي وغيره بتصرف كعادته قال :
واعلم أن هذه الآية الكريمة قد بلغت من مراتب الإعجاز أقاصيها، واستدلت مصاقع العرب فسفعت بنواصيها، وجمعت من المحاسن ما يضيق عنه نطاق البيان، وكانت من سمهري البلاغة مكان السنان.
يروى أن كفار قريش قصدوا أن يعارضوا القرآن فعكفوا على لباب البر ولحوم الضأن وسلاف الخمر أربعين يوما لتصفوا أذهانهم، فلما أخذوا فيما قصدوه وسمعوا هذه الآية قال بعضهم لبعض : هذا الكلام لا يشبه كلام المخلوقين، فتركوا ما أخذوا فيه وتفرقوا. ويروى أيضا أن ابن المقفع وكان –كما في القاموس- فصيحا بليغا، بل قيل إنه أفصح أهل وقته- رام أن يعارض القرآن فنظم كلاما وجعله مفصلا وسماه سورا، فاجتاز يوما بصبي يقرؤها في مكتب فرجع ومحا ما عمل، وقال أشهد أن هذا لا يعارض أبدا وما هو من كلام البشر. ولا يخفى أن هذا لا يستدعي أن لا يكون سائر آيات القرآن العظيم معجزا لما أن حد الإعجاز هو المرتبة التي يعجز البشر عن الإتيان بمثلها ولا تدخل على قدرته قطعا وهي تشتمل على شيئين : الأول الطرف الأعلى من البلاغة أعني ما ينتهي إليه البلاغة ولا يتصور تجاوزها إياه، والثاني ما يقرب من ذلك الطرف أعني المراتب العلمية التي تتقاصر القوى البشرية عنها أيضا.
ومعنى إعجاز آيات الكتاب المجيد بأسرها هو كونها مما تتقاصر القوى البشرية عن الإتيان بمثلها سواء كانت من القسم الأول أو الثاني فلا يضر تفاوتها في البلاغة، وهو الذي قاله علماء هذا الشأن.
وقد فصل بعض مزايا هذه الآية المهرة المتقنون، وتركوا من ذلك ما لا يكاد يصفه الواصفون، ولا بأس بذكر شيء مما ذكر إفادة لجاهل، وتذكيرا لفاضل غافل، فنقول :
جهات بلاغة الآية الأربع : أولها جهة علم البيان
ذكر العلامة السكاكي أن النظر فيها من أربع جهات : من جهة علم البيان، ومن جهة علم المعاني وهما مرجعا البلاغة. ومن جهة الفصاحة المعنوية، ومن جهة الفصاحة اللفظية : أما النظر فيها من جهة علم البيان وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بذلك من القرينة والترشيح والتعريض، فهو أنه عز سلطانه لما أراد أن يبين معنى : أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد، وأن نقطع طوفان المساء فانقطع، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض، وأن نقضي أمر نوح عليه السلام وهو إنجاز ما كنا وعدناه من إغراق قومه فقضى، وأن نسوي السفينة على الجودي فاستوت، وأبقينا الظلمة غرقى – بنى سبحانه الكلام على تشبيه المراد منه بالمأمور الذي لا يتأتى منه –لكما هيبته من الآمر- العصيان، وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكون المقصود تصويرا لاقتداره سبحانه العظيم، وأن هذه الأجرام العظيمة من السماوات والأرض تابعة لإرادته تعالى إيجادا وإعداما، ولمشيئته فيها تغييرا وتبديلا، كأنها عقلاء مميزون قد عرفوه جل شأنه حق معرفته، وأحاطوا علما بوجوب الانقياد لأمره، والإذعان لحكمه، ويحتم بذل المجهود عليهم في تحصيل مراده، وتصوروا مزيد اقتداره، فعظمت مهابته في نفوسهم، وضربت سرادقها في أفنية ضمائرهم، فكما يلوح لهم إشارته سبحانه كان المشار إليه مقدما، وكما يرد عليهم أمره تعالى شأنه كان المأمور به متمما، لا تلقي لإشارته بغير الإمضاء والانقياد، ولا لأمره بغير الإذعان والامتثال.
" ثم بنى على مجموع التشبيهين نظم الكلام فقال جل وعلا قيل : على سبيل المجاز عن الإرادة من باب ذكر المسبب وإرادة السبب، لأن الإرادة تكون سببا لوقوع القول في الجملة، وجعل قرينة هذا المجاز خطاب الجماد وهو [ يا أرض- ويا سماء ] إذ يصح أن يراد حصول شيء متعلق بالجماد ولا يصح القول له. ثم قال سبحانه كما ترى [ يا أرض، ويا سماء ] مخاطبا لهما على سبيل الاستعارة للشبه المذكور، والظاهر أنه أراد أن هناك استعارة بالكناية حيث ذكر المشبه أعني السماء والأرض المراد منهما حصول أمر وأريد المشبه به أعني المأمور الموصوف بأنه لا يتأتى منه العصيان ادعاء بقرينة نسبة الخطاب إليه، ودخول حرف النداء عليه، وهما من خواص المأمور المطيع ويكون هذا تخييلا. وقد يقال : أراد أن الاستعارة ههنا تصريحية تبعية في حرف النداء بناء على تشبيه تعلق الإرادة بالمراد منه بتعلق النداء والخطاب بالمنادي المخاطب، وليس بشيء إذ لا يحسن هذا التشبيه ابتداء بل تبعا للتشبيه الأول فكيف يجعل أصلا لمتبوعه ؟ على أن قوله للشبه المذكور يدفع هذا الحمل.
ثم استعار لغئور الماء في الأرض [ البلع ] الذي هو إعمال الجاذبة في المطعوم للشبه بينهما وهو الذهاب إلى مقر خفي. وفي الكشاف : جعل البلع مستعارا لنشف الأرض الماء وهو أولى فإن النشف دال على جذب من إجزاء الأرض لما عليها كالبلع بالنسبة إلى الحيوان، ولأن النشف فعل الأرض والغثور فعل الماء مع الطباق بين الفعلين تعديا. ثم استعار الماء للغذاء استعارة بالكناية تشبيها له بالغذاء لتقوي الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار تقوي الآكل بالطعام وجعل قرينة الاستعارة لفظة [ ابلعي ] لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء.
ولا يخفى عليك أنه إذا اعتبر مذهب السلف في الاستعارة يكون [ ابلعي ] استعارة تصريحية ومع ذلك يكون بحسب اللفظ قرينة للاستعارة بالكناية في الماء على حد ما قالوا في ﴿ ينقضون عهد الله ﴾ وأما إذا اعتبر مذهبه فينبغي أن يكون البلع باقيا على حقيقته كالإنبات في : أنبت الربيع البقل. وهو بعيد، أو يجعل مستعارا لأمر متوهم كما في : نطقت الحال فيلزمه القول بالاستعارة التبعية كما هو المشهور.
ثم إنه تعالى أمر على سبيل الاستعارة للتشبيه الثاني وخاطب في الأمر تشريحا لاستعارة النداء، والحاصل أن في لفظ [ ابلعي ] باعتبار جوهرة استعارة لغئور الماء وباعتبار صورته أعني كونه صورة أمر استعارة أخرى لتكوين المراد، وباعتبار كونه أمر خطاب ترشيح للاستعارة المكنية التي في المنادى، فإن قرينتها النداء وما زاد على قرينة المكنية يكون ترشيحا لها. وأما جعل النداء استعارة تصريحية تبعية حتى يكون خطاب الآمر ترشيحا لها فقد عرفت ما فيه.
ثم قال جل وعلا [ ماءك ] بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز تشبيها لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالملك، واختار ضمير الخطاب لأجل التشريح وحاصله أن هناك مجازا لغويا في الهيئة الإضافية الدالة على الاختصاص الملكي، ولهذا جعل الخطاب ترشيحا لهذه الاستعارة من حيث إن الخطاب يدل على صلوح الأرض للمالكية، فما قيل إن المجاز عقلي والعبارة مصروفة عن الظاهر ليس بشيء.
ثم اختار لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان من المطر أو الفعل، ففي [ أقلعي ] استعارة باعتبار جوهره وكذا باعتبار صيغته أيضا وهي مبنية على تشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافد، والخطاب فيه أيضا ترشيح لاستعارة النداء، والحاصل أن الكلام فيه مثل ما مر في [ ابلعي ].
" ثم قال سبحا

﴿ قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم ( ٤٨ ) تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين ( ٤٩ ) ﴾
الآية الأولى من هاتين الآيتين خاتمة قصة نوح عليه السلام، والتي تليها استدلال بها على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. وقد وردت كل منهما مفصولة مما قبلها غير معطوفة عليه. ولولا الفصل بين الأولى وبين آية ﴿ وقيل يا أرض ابلعي ماءك ﴾ لما بيناه من الحكمة في ذلك لكان الوجه أن تعطف عليها إما مع إعادة القيل وإما بدون بأن يقال : ويا نوح اهبط بسلام منا، ولكم الفصل بالآيات الثلاث في مسألة نوح وولده صار مانعا من الوصل بما قبله، ومقتضيا أن تذكر مفصولة على الاستئناف البياني الذي هو جواب عن سؤال مقدر، وأن يبدأ بفعل " قيل " المجهول، لأنه هو المتعين المعلوم.
﴿ تلك من أنباء الغيب ﴾ الإشارة إلى قصة نوح المفصلة هذا التفصيل البديع، من أنباء الغيب الماضية ﴿ نوحيها إليك ﴾ أيها الرسول في هذه السورة متمما ومفصلا لما أوحيناه إليك قبلها ﴿ ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا ﴾ الوحي الذي نزل مبينا لها، والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم ما كان يعلمها هو ولا قومه يعلمونها بهذا التفصيل وقد كان هو يعلمها بالإجمال، وهو لا يمنع أن يكون بعضهم قد علم منه أو من غيره شيئا ما منها. ولو كان قومه وهم قريش يعلمونها على الوجه المنفي هنا وأكثرهم كافرون به لكذبوه، ولنقل تكذيبهم الخاص له فيها كما نقل تكذيبهم العام للقصص كلها، إذ قالوا إنه افتراها، ولكن هذا طعن مفتعل في شيء لا يعلم من قبلهم، وقد تحدوا فيه بما قامت به الحجة عليهم، وأما تكذيبه الخاص فيما يعلم من ناحيتهم-وهو العلم بهذه القصة من قبل هذا- فلو وقع لكان يكون حجة ولو ظاهرة لهم، ولكنه لم يقع فتمت به الحجة عليهم وعلى من بعدهم.
﴿ فاصبر إن العاقبة للمتقين ﴾ أي فاصبر كما صبر نوح على قومه فإن سنة الله في رسله وأقوامهم أن تكون العاقبة بالفوز والنجاة للمتقين، وأنت ومن اتبعك المتقون، فأنتم الناجون المفلحون، والمصرون على عداوتك هم الخاسرون الهالكون، فارتقب إنهم مرتقبون.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:علاوات لتفسير قصة نوح عليه السلام
العلاوة الأولى : البلاغة الفنية في الآية ٤٣
سبق لنا أن قلنا في الكلام على إعجاز القرآن ببلاغته ومذهب المتكلمين وأدباء الفنون في التحدي به : إن هذا النوع من الإعجاز يقل من يفقهه في هذا العصر لفقد أهله ملكتي البلاغة الذوقية السليقية والبيانية الفنية بله الجمع بينهما، وهو ضروري لإدراك هذا النوع من الإعجاز، وإن من يفقهه ويدرك عدم استطاعة أحد أن يأتي بسورة مثله قد يخفى عليه وجه دلالته على أنه لا بد أن يكون وحيا من الله تعالى وحجة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولذلك جزموا بوقوع العجز واختلفوا في وجه الدلالة، فمثلهم كمثل حداق الفنانين في الوشي والتطريز إذا رأوا صنع قدماء الهنود من أهل لاهور وكشمير وأقروا بالعجز عن محاكاته، والمصورين إذا رأوا أدق صور رفائيل في تصوير الإنسان بأدق مناظر أعضائه وشمائله وملامح صفاته النفسية وإمارات انفعالاته ولا سيما المتقاربة كالخوف والفزع والحزن والغم والغضب ونظر الإقرار ونظر الإنكار ونظر الشهوة ونظر العطف ونظر الرحمة ونظر الإعجاب والعجب ونظر المتفكر والمتحير، فقد يقرون بعجزهم عن محاكاتها ولكنهم لا يقولون بعدم إمكانها، بل يقولون بإمكانها وبقرب وقوعها بالفعل إذا وجدت الداعية القوية كمنفعة مالية كبيرة أو مصلحة قومية أو دولية عظيمة.
ومن المعلوم من تاريخ النبي صلى الله عليه وسلم مع فصحاء قريش وغيرهم أنه حدثت لهم أعظم الدواعي والمصالح المعارضة للقرآن بعد تحديثهم بسورة مثله مطلقا والتحدي بعشر سور في المكرر ولو مفترى، فأيقنوا بعجزهم عن الإتيان بها وبهن، ولو ظاهرهم عليه جميع الإنس عن كثرة بلغائهم وفصحائهم، والجن الذين يعتقدون أن منهم هواجس تلقنهم الشعر من حيث لا يرونهم، وكذا آلهتهم القادرون بخصائصهم الغيبية أو بمكانتهم عند الله تعالى على كل ما يريدون في هذا العالم بزعمهم، قد عجزوا مع هذا كله واضطروا إلى مقاومة النبي بالقتال، وما أعقبهم من خسارة المال، وسبي النساء والأطفال، ثم ما هو أشد عليهم وهو احتمال الذل والنكال، وروي أن كبراءهم زعموا على التعاون على المعارضة واستعدوا لها فسمعوا هذه الآية [ وقيل يا أرض ] فتضاءلت قواهم واستخذت أنفسهم ورجعوا عن عزمهم، كما يأتي قريبا.
عرف بلغاء قريش من بلاغة هذه الآية الروحية الكامنة في فصاحتها اللفظية الظاهرة وغيرها ما لم يعرفه بلغاء الفنون بعدهم منها، فكان هؤلاء أعلم بما للحسن والجمال الصوري في الكلام من المقاييس الفلسفية والموازين الفنية ودرجات الراجح على المرجوح. وكان أولئك أدق شعورا بما لهذا الحسن والجمال من السلطان على القلوب والحكم على العقول. مثال ذلك أن للجمال البدني في حسان النساء مقاييس وموازين لتناسب الأعضاء بعضها مع بعض يمكن ضبطها والعدل في الحكم بينها. وأما الجمال المعنوي وهو خفة الروح وسلطان التأثير في القلوب، فليس له مقياس، ولا ميزان عشري يضبط به وزنه أو مساحته فيعرف الراجح من المرجوح، وإنما يعرف هذا الجمال الأعلى بملكة نفسية، لا بأوزان صناعية، كما قال أبو الطيب في الخيل :
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها وأعضائها فالحسن عنك مغيب١
وإنما أحدث القرآن في الأمة العربية ما أحدث من الثورة الدينية والاجتماعية والانقلاب العالمي بالنوع الثاني من إدراك بلاغته لا الأول، وكل منها كامل من بابه، كما بينا ذلك في موضعه من عهد قريب، وإن كثرة البحث في الثاني ليشغل المفسر والمتدبر عن الأول الخاص منه بالهداية وإصلاح النفس وتزكيتها، ولهذا نقتصر منه في تفسيرنا على ما قصر فيه المفسرون باختصار لا يشغل عن الهداية المقصودة بالذات، وقد نجعله من باب الاستطراد بعد بيان معنى الآية أو الآيات، ولهذا جعلت ما أحببت بيانه في بلاغة هذه الآية الفنية علاوة من هذه العلاوات، وقد أطال العلماء الأخصائيون فيها حتى أفردها بعضهم بمصنفات خاصة، وتكلم صاحب [ الطراز في علوم الإعجاز ] عليها في ٢٥ صفحة، ولعله أحسنهم فيها كلاما، وإن كان السكاكي هو السابق إليه وكلهم فيه عيال عليه، وذكر بعض المفسرين جملا مختصرة أو وسطا منه أنقل منها هنا ما لخصه السيد الآلوسي في روح المعاني من كلام السكاكي وغيره بتصرف كعادته قال :
واعلم أن هذه الآية الكريمة قد بلغت من مراتب الإعجاز أقاصيها، واستدلت مصاقع العرب فسفعت بنواصيها، وجمعت من المحاسن ما يضيق عنه نطاق البيان، وكانت من سمهري البلاغة مكان السنان.
يروى أن كفار قريش قصدوا أن يعارضوا القرآن فعكفوا على لباب البر ولحوم الضأن وسلاف الخمر أربعين يوما لتصفوا أذهانهم، فلما أخذوا فيما قصدوه وسمعوا هذه الآية قال بعضهم لبعض : هذا الكلام لا يشبه كلام المخلوقين، فتركوا ما أخذوا فيه وتفرقوا. ويروى أيضا أن ابن المقفع وكان –كما في القاموس- فصيحا بليغا، بل قيل إنه أفصح أهل وقته- رام أن يعارض القرآن فنظم كلاما وجعله مفصلا وسماه سورا، فاجتاز يوما بصبي يقرؤها في مكتب فرجع ومحا ما عمل، وقال أشهد أن هذا لا يعارض أبدا وما هو من كلام البشر. ولا يخفى أن هذا لا يستدعي أن لا يكون سائر آيات القرآن العظيم معجزا لما أن حد الإعجاز هو المرتبة التي يعجز البشر عن الإتيان بمثلها ولا تدخل على قدرته قطعا وهي تشتمل على شيئين : الأول الطرف الأعلى من البلاغة أعني ما ينتهي إليه البلاغة ولا يتصور تجاوزها إياه، والثاني ما يقرب من ذلك الطرف أعني المراتب العلمية التي تتقاصر القوى البشرية عنها أيضا.
ومعنى إعجاز آيات الكتاب المجيد بأسرها هو كونها مما تتقاصر القوى البشرية عن الإتيان بمثلها سواء كانت من القسم الأول أو الثاني فلا يضر تفاوتها في البلاغة، وهو الذي قاله علماء هذا الشأن.
وقد فصل بعض مزايا هذه الآية المهرة المتقنون، وتركوا من ذلك ما لا يكاد يصفه الواصفون، ولا بأس بذكر شيء مما ذكر إفادة لجاهل، وتذكيرا لفاضل غافل، فنقول :
جهات بلاغة الآية الأربع : أولها جهة علم البيان
ذكر العلامة السكاكي أن النظر فيها من أربع جهات : من جهة علم البيان، ومن جهة علم المعاني وهما مرجعا البلاغة. ومن جهة الفصاحة المعنوية، ومن جهة الفصاحة اللفظية : أما النظر فيها من جهة علم البيان وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بذلك من القرينة والترشيح والتعريض، فهو أنه عز سلطانه لما أراد أن يبين معنى : أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد، وأن نقطع طوفان المساء فانقطع، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض، وأن نقضي أمر نوح عليه السلام وهو إنجاز ما كنا وعدناه من إغراق قومه فقضى، وأن نسوي السفينة على الجودي فاستوت، وأبقينا الظلمة غرقى – بنى سبحانه الكلام على تشبيه المراد منه بالمأمور الذي لا يتأتى منه –لكما هيبته من الآمر- العصيان، وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكون المقصود تصويرا لاقتداره سبحانه العظيم، وأن هذه الأجرام العظيمة من السماوات والأرض تابعة لإرادته تعالى إيجادا وإعداما، ولمشيئته فيها تغييرا وتبديلا، كأنها عقلاء مميزون قد عرفوه جل شأنه حق معرفته، وأحاطوا علما بوجوب الانقياد لأمره، والإذعان لحكمه، ويحتم بذل المجهود عليهم في تحصيل مراده، وتصوروا مزيد اقتداره، فعظمت مهابته في نفوسهم، وضربت سرادقها في أفنية ضمائرهم، فكما يلوح لهم إشارته سبحانه كان المشار إليه مقدما، وكما يرد عليهم أمره تعالى شأنه كان المأمور به متمما، لا تلقي لإشارته بغير الإمضاء والانقياد، ولا لأمره بغير الإذعان والامتثال.
" ثم بنى على مجموع التشبيهين نظم الكلام فقال جل وعلا قيل : على سبيل المجاز عن الإرادة من باب ذكر المسبب وإرادة السبب، لأن الإرادة تكون سببا لوقوع القول في الجملة، وجعل قرينة هذا المجاز خطاب الجماد وهو [ يا أرض- ويا سماء ] إذ يصح أن يراد حصول شيء متعلق بالجماد ولا يصح القول له. ثم قال سبحانه كما ترى [ يا أرض، ويا سماء ] مخاطبا لهما على سبيل الاستعارة للشبه المذكور، والظاهر أنه أراد أن هناك استعارة بالكناية حيث ذكر المشبه أعني السماء والأرض المراد منهما حصول أمر وأريد المشبه به أعني المأمور الموصوف بأنه لا يتأتى منه العصيان ادعاء بقرينة نسبة الخطاب إليه، ودخول حرف النداء عليه، وهما من خواص المأمور المطيع ويكون هذا تخييلا. وقد يقال : أراد أن الاستعارة ههنا تصريحية تبعية في حرف النداء بناء على تشبيه تعلق الإرادة بالمراد منه بتعلق النداء والخطاب بالمنادي المخاطب، وليس بشيء إذ لا يحسن هذا التشبيه ابتداء بل تبعا للتشبيه الأول فكيف يجعل أصلا لمتبوعه ؟ على أن قوله للشبه المذكور يدفع هذا الحمل.
ثم استعار لغئور الماء في الأرض [ البلع ] الذي هو إعمال الجاذبة في المطعوم للشبه بينهما وهو الذهاب إلى مقر خفي. وفي الكشاف : جعل البلع مستعارا لنشف الأرض الماء وهو أولى فإن النشف دال على جذب من إجزاء الأرض لما عليها كالبلع بالنسبة إلى الحيوان، ولأن النشف فعل الأرض والغثور فعل الماء مع الطباق بين الفعلين تعديا. ثم استعار الماء للغذاء استعارة بالكناية تشبيها له بالغذاء لتقوي الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار تقوي الآكل بالطعام وجعل قرينة الاستعارة لفظة [ ابلعي ] لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء.
ولا يخفى عليك أنه إذا اعتبر مذهب السلف في الاستعارة يكون [ ابلعي ] استعارة تصريحية ومع ذلك يكون بحسب اللفظ قرينة للاستعارة بالكناية في الماء على حد ما قالوا في ﴿ ينقضون عهد الله ﴾ وأما إذا اعتبر مذهبه فينبغي أن يكون البلع باقيا على حقيقته كالإنبات في : أنبت الربيع البقل. وهو بعيد، أو يجعل مستعارا لأمر متوهم كما في : نطقت الحال فيلزمه القول بالاستعارة التبعية كما هو المشهور.
ثم إنه تعالى أمر على سبيل الاستعارة للتشبيه الثاني وخاطب في الأمر تشريحا لاستعارة النداء، والحاصل أن في لفظ [ ابلعي ] باعتبار جوهرة استعارة لغئور الماء وباعتبار صورته أعني كونه صورة أمر استعارة أخرى لتكوين المراد، وباعتبار كونه أمر خطاب ترشيح للاستعارة المكنية التي في المنادى، فإن قرينتها النداء وما زاد على قرينة المكنية يكون ترشيحا لها. وأما جعل النداء استعارة تصريحية تبعية حتى يكون خطاب الآمر ترشيحا لها فقد عرفت ما فيه.
ثم قال جل وعلا [ ماءك ] بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز تشبيها لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالملك، واختار ضمير الخطاب لأجل التشريح وحاصله أن هناك مجازا لغويا في الهيئة الإضافية الدالة على الاختصاص الملكي، ولهذا جعل الخطاب ترشيحا لهذه الاستعارة من حيث إن الخطاب يدل على صلوح الأرض للمالكية، فما قيل إن المجاز عقلي والعبارة مصروفة عن الظاهر ليس بشيء.
ثم اختار لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان من المطر أو الفعل، ففي [ أقلعي ] استعارة باعتبار جوهره وكذا باعتبار صيغته أيضا وهي مبنية على تشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافد، والخطاب فيه أيضا ترشيح لاستعارة النداء، والحاصل أن الكلام فيه مثل ما مر في [ ابلعي ].
" ثم قال سبحا

قصة هود عليه السلام
تقدمت قصته في ثماني آيات في سورة الأعراف وهي هنا في إحدى عشرة آية، ولكل منهما سياق وأسلوب ونظم، وفي كل منهما من العلم والعبرة والموعظة ما ليس في الأخرى، وستأتي في سورة الشعراء بأسلوب ونظم وسياق آخر، وكذا في سورتي المؤمنين والأحقاف بدون ذكر اسمه عليه السلام، وذكر عقاب قومه [ عاد ] في سورة فصلت والذاريات والقمر والحاقة والفجر.
وقد ذكرت في أول تفسيرها من سورة الأعراف ما ورد فيها من الروايات المأثورة ومنها أن هودا أول من تكلم باللغة العربية فهو أول رسول لأول أمة من ولد سام بن نوح الأب الثاني للبشر، وبهذا يكون أول رسول من ذرية نوح عربيا، وآخر رسول وهو خاتم النبيين عربيا صلى الله عليه وسلم.
﴿ وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إلاه غيره إن أنتم إلا مفترون ( ٥٠ ) يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون ( ٥١ ) ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين ( ٥٢ ) ﴾
هذه الآيات الثلاث في تبليغ هود عليه السلام قومه دعوة ربه.
﴿ وإلى عاد أخاهم هودا ﴾ هذا معطوف على قوله :﴿ ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه ﴾ أي وأرسلنا إلى عاد الأولى أخاهم في النسب والقومية هودا ﴿ قال يا قوم اعبدوا الله ﴾ وحده ولا تشركوا به شيئا ﴿ ما لكم من إلاه غيره ﴾ فإن الإله الحق للناس ربهم الذي خلقهم ويربيهم بنعمه وهو واحد باعترافكم ﴿ إن أنتم إلا مفترون ﴾ أي ما أنتم في عبادة غيره إلا مفترون كذبا عليه باتخاذ الأنداد والأولياء شركاء، وتسميتهم شفعاء، تتقربون بهم أو بقبورهم أو بصورهم وتماثيلهم إليه، وترجون النفع وكشف الضر عنكم بجاههم عنده.
قصة هود عليه السلام
تقدمت قصته في ثماني آيات في سورة الأعراف وهي هنا في إحدى عشرة آية، ولكل منهما سياق وأسلوب ونظم، وفي كل منهما من العلم والعبرة والموعظة ما ليس في الأخرى، وستأتي في سورة الشعراء بأسلوب ونظم وسياق آخر، وكذا في سورتي المؤمنين والأحقاف بدون ذكر اسمه عليه السلام، وذكر عقاب قومه [ عاد ] في سورة فصلت والذاريات والقمر والحاقة والفجر.
وقد ذكرت في أول تفسيرها من سورة الأعراف ما ورد فيها من الروايات المأثورة ومنها أن هودا أول من تكلم باللغة العربية فهو أول رسول لأول أمة من ولد سام بن نوح الأب الثاني للبشر، وبهذا يكون أول رسول من ذرية نوح عربيا، وآخر رسول وهو خاتم النبيين عربيا صلى الله عليه وسلم.
﴿ وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إلاه غيره إن أنتم إلا مفترون ( ٥٠ ) يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون ( ٥١ ) ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين ( ٥٢ ) ﴾
هذه الآيات الثلاث في تبليغ هود عليه السلام قومه دعوة ربه.
﴿ يا قوم لا أسألكم عليه أجرا ﴾ تقدم مثله آنفا في قصة نوح، والمراد أني ناصح مخلص أمين في هذا الذي أدعوكم إليه من عبادة الله وحده لا أسألكم أجرا فتتهموني بطلب المنفعة لنفسي ﴿ إن أجري إلا على الذي فطرني ﴾ أي ما أجري الذي أرجوه على تبليغكم إياه إلا على الله الذي خلقني على الفطرة السليمة من هذه البدع الوثنية التي ابتدعها قوم نوح بتصوير الصالحين منهم لحفظ ذكراهم فزين لهم الشيطان تعظيم صورهم وتماثيلهم فعبادتها [ كما رواه البخاري عن ابن عباس ] ﴿ أفلا تعقلون ﴾ ما يقال لكم فتميزوا بين الحق والباطل والنافع والضار، وأن الأخ لا يغش إخوته، ولا يعرض نفسه لغضب قومه بدعوتهم إلى ما يضرهم ولا ينفعه.
قصة هود عليه السلام
تقدمت قصته في ثماني آيات في سورة الأعراف وهي هنا في إحدى عشرة آية، ولكل منهما سياق وأسلوب ونظم، وفي كل منهما من العلم والعبرة والموعظة ما ليس في الأخرى، وستأتي في سورة الشعراء بأسلوب ونظم وسياق آخر، وكذا في سورتي المؤمنين والأحقاف بدون ذكر اسمه عليه السلام، وذكر عقاب قومه [ عاد ] في سورة فصلت والذاريات والقمر والحاقة والفجر.
وقد ذكرت في أول تفسيرها من سورة الأعراف ما ورد فيها من الروايات المأثورة ومنها أن هودا أول من تكلم باللغة العربية فهو أول رسول لأول أمة من ولد سام بن نوح الأب الثاني للبشر، وبهذا يكون أول رسول من ذرية نوح عربيا، وآخر رسول وهو خاتم النبيين عربيا صلى الله عليه وسلم.
﴿ وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إلاه غيره إن أنتم إلا مفترون ( ٥٠ ) يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون ( ٥١ ) ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين ( ٥٢ ) ﴾
هذه الآيات الثلاث في تبليغ هود عليه السلام قومه دعوة ربه.
﴿ ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه ﴾ تقدم هذا الأمر بلفظه في الآية الثالثة من هذه السورة ﴿ يرسل السماء عليكم مدرارا ﴾ هذا الجزاء الأول للأمر قبله، والسماء هنا المطر أو السحاب الممطر، وإرساله إمطاره، والمدرار الكثير الدرور، وأصله كثرة در اللبن يقال : درت الشاة تدر درا ودرورا فهي دارّ [ بغير هاء ] أي كثر فيض لبنها ولعل نكتة التعبير به الإشارة إلى الكثرة النافعة، فإن بعضه قد يكون ضارا وقد يكون عذابا، وكانت بلادهم الأحقاف [ جمع حقف وهو الرمل المائل ] شديدة الحاجة إلى المطر لزرعها وشجرها لأن الرمل يسرع إليه الجفاف إذا قل المطر، وروي عن الضحاك أن الله أمسك عنهم المطر ثلاث سنين فأجدبت بلادهم وقحطت بسبب كفرهم، ولا أدري من أين جاءت هذه الرواية، ولكن يدل على شدة حاجتهم إلى المطر أنهم لما رأوا بادرة العذاب الذي أنذروا به استبشروا إذ ظنوا أنه سحاب يمطرهم. قال تعالى في سورة الأحقاف :﴿ فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين ﴾ [ الأحقاف : ٢٤، ٢٥ ].
﴿ ويزدكم قوة إلى قوتكم ﴾ هذا الجزاء الثاني للأمر وهو مما كانوا يطلبونه ويعنون به ويفخرون على الناس، إذ كانوا قد بسط لهم في الأجسام وأعطوا القوة فيها كما تراه في قوله تعالى :﴿ فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون ﴾ [ فصلت : ١٥، ١٦ ] وقوله :﴿ وإذا بطشتم بطشتم جبارين ﴾ [ الشعراء : ١٣٠ ] فيا ليت دول أوروبا المستكبرة بقوتها التي يهدد بها بعضها بعضا تعتبر بهذا، وأنى وهم أشد من قوم عاد كنودا ؟ ﴿ ولا تتولوا مجرمين ﴾ أي ولا تنصرفوا معرضين عما أدعوكم إليه مما يكون سببا لنعمة المعيشة وسعة الرزق وزيادة القوة وهي جزاء الاستقامة على الحق.
﴿ قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين ( ٥٣ ) إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون ( ٥٤ ) من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون ( ٥٥ ) إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم ( ٥٦ ) فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا إن ربي على كل شيء حفيظ ( ٥٧ ) ﴾
هذه الآيات الخمس في رد قومه للدعوة وجحودهم للبينة، وحجته عليهم وإنذاره لهم.
﴿ قالوا يا هود ما جئتنا ببينة ﴾ أي بحجة ناهضة تدل على أن ما جئت به من الله تعالى :﴿ وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك ﴾ أي وما نحن بالذين نترك عبادة آلهتنا صادرين عن قولك أو تركا صادرا عن قولك من تلقاء نفسك وأنت بشر مثلنا ﴿ وما نحن لك بمؤمنين ﴾ أي وما نحن بمتبعين لك اتباع إيمان وتصديق برسالتك التي لا بينة لك عليها، وما قولهم هذا إلا جحود وعناد، فإن حجته عليه السلام موافقة للعقل والفطرة السليمة.
﴿ قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين ( ٥٣ ) إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون ( ٥٤ ) من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون ( ٥٥ ) إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم ( ٥٦ ) فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا إن ربي على كل شيء حفيظ ( ٥٧ ) ﴾
هذه الآيات الخمس في رد قومه للدعوة وجحودهم للبينة، وحجته عليهم وإنذاره لهم.
﴿ إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء ﴾ أي ما نجد من قول نقوله فيك إلا أن بعض آلهتنا أصابك بجنون أو خبل وهو الهوج والبله لإنكارك لها وصدك إيانا عنها ﴿ قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه ﴾ هذا بدء جواب يتضمن عدة مسائل إحداها : البراءة من شركهم أو شركائهم التي افتروها ولا حقيقة لها، الثانية : إشهاد الله على ذلك لثقته بأنه على بينة منه فيه – وإشهاده إياهم عليه أيضا لإعلامهم بعدم مبالاته بهم وبما يزعمون من قدرة شركائهم على إيذائه الثالثة : قوله :﴿ فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون ﴾ أي فأجمعوا أنتم وشركاؤكم ما تستطيعون من الكيد للإيقاع بي ثم لا تمهلوني ولا تؤخروا الفتك بي إن استطعتم، أي إنه لا يخافهم ولا يخاف آلهتهم. وتقدم مثل هذا في تلقين نبينا صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى بعد تقرير عجز آلهة المشركين وهو ﴿ قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون ﴾ [ الأعراف : ١٩٥ ] ومثله حكاية عن نوح في سورة يونس ﴿ فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون ﴾ [ يونس : ٧١ ] وقد قدم نوح على هذا الأمر توكله على الله تعالى، وأخره هود بقوله وهو المسألة الرابعة :﴿ إني توكلت على الله ربي وربكم ﴾
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٤:﴿ قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين ( ٥٣ ) إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون ( ٥٤ ) من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون ( ٥٥ ) إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم ( ٥٦ ) فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا إن ربي على كل شيء حفيظ ( ٥٧ ) ﴾
هذه الآيات الخمس في رد قومه للدعوة وجحودهم للبينة، وحجته عليهم وإنذاره لهم.
﴿ إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء ﴾ أي ما نجد من قول نقوله فيك إلا أن بعض آلهتنا أصابك بجنون أو خبل وهو الهوج والبله لإنكارك لها وصدك إيانا عنها ﴿ قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه ﴾ هذا بدء جواب يتضمن عدة مسائل إحداها : البراءة من شركهم أو شركائهم التي افتروها ولا حقيقة لها، الثانية : إشهاد الله على ذلك لثقته بأنه على بينة منه فيه – وإشهاده إياهم عليه أيضا لإعلامهم بعدم مبالاته بهم وبما يزعمون من قدرة شركائهم على إيذائه الثالثة : قوله :﴿ فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون ﴾ أي فأجمعوا أنتم وشركاؤكم ما تستطيعون من الكيد للإيقاع بي ثم لا تمهلوني ولا تؤخروا الفتك بي إن استطعتم، أي إنه لا يخافهم ولا يخاف آلهتهم. وتقدم مثل هذا في تلقين نبينا صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى بعد تقرير عجز آلهة المشركين وهو ﴿ قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون ﴾ [ الأعراف : ١٩٥ ] ومثله حكاية عن نوح في سورة يونس ﴿ فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون ﴾ [ يونس : ٧١ ] وقد قدم نوح على هذا الأمر توكله على الله تعالى، وأخره هود بقوله وهو المسألة الرابعة :﴿ إني توكلت على الله ربي وربكم ﴾

﴿ قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين ( ٥٣ ) إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون ( ٥٤ ) من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون ( ٥٥ ) إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم ( ٥٦ ) فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا إن ربي على كل شيء حفيظ ( ٥٧ ) ﴾
هذه الآيات الخمس في رد قومه للدعوة وجحودهم للبينة، وحجته عليهم وإنذاره لهم.
﴿ إني توكلت على الله ربي وربكم ﴾ هذا احتجاج على ما دل عليه ما قبله من عدم الخوف منهم ومن آلهتهم، يقول إني وكلت أمر حفظي وخذلانكم إلى الله معتمدا عليه وحده إذ هو ربي وربكم أي مالك أمري وأموركم المتصرف فيها وفي غيرها بدليل قوله :﴿ وما من دابة ﴾ تدب على هذه الأرض ﴿ إلا هو آخذ بناصيتها ﴾ أي مسخرها ومتصرف فيها، والتعبير بالأخذ بالناصية وهو مقدم شعر الرأس تمثيل لتصرف القهر، والخضوع الذي لا مهرب منه ولا مفر، وتقدمت الجملة في أول الآية السادسة من هذه السورة. ويؤيده من سورة العلق ﴿ لئن لم ينته لنسفعن بالناصية ﴾ [ العلق : ١٥ ] أي لنأخذن بها أخذ القاهر المؤدب قال في الأساس : وسفع بناصية الفرس ليلجمه أو يركبه، وسفع بناصية الرجل ليلطمه ويؤدبه اه. ﴿ إن ربي على صراط مستقيم ﴾ أي على طريق الحق والعدل لا يسلط أهل الباطل من أعدائه على أهل الحق من رسله ومتبعيهم من أوليائه، ولا يضيع حقا ولا يفوته ظالم.
﴿ قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين ( ٥٣ ) إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون ( ٥٤ ) من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون ( ٥٥ ) إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم ( ٥٦ ) فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا إن ربي على كل شيء حفيظ ( ٥٧ ) ﴾
هذه الآيات الخمس في رد قومه للدعوة وجحودهم للبينة، وحجته عليهم وإنذاره لهم.
﴿ فإن تولوا ﴾ أي فإن تتولوا مجرمين ولم تنتهوا بنهيي لكم عن التولي ولم تطيعوا أمري لكم بعبادة الله وحدة وترك الإشراك به ﴿ فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ﴾ أي فقد أبلغتكم رسالة ربي التي أرسلني بها إليكم وليس علي غير البلاغ ولزمتكم الحجة، وحقت عليكم كلمة العذاب ﴿ ويستخلف ربي قوما غيركم ﴾ إذا هو أهلككم بإصراركم على كفركم وإجرامكم ﴿ ولا تضرونه شيئا ﴾ ما من الضرر بتوليكم عن الإيمان، فإنه غني عنكم وعن إيمانكم ﴿ إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم ﴾ [ الزمر : ٧ ] ويستلزم هذا أنكم لا تضرون رسوله ولعله هو المراد، ويؤيده قوله :﴿ إن ربي على كل شيء حفيظ ﴾ أي قائم ورقيب عليه بالحفظ والبقاء، على ما اقتضته سنته وتعلقت به مشيئته، ومنه أنه ينصر رسله ويخذل أعداءه وأعداءهم إذا أصروا على الكفر بعد قيام الحجة عليهم.
﴿ ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ ( ٥٨ ) وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد ( ٥٩ ) وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عاد كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود ( ٦٠ ) ﴾
هذه الآيات الثلاث في إنجاء هود ومن آمن معه والجزاء والعقوبة لقومه المعاندين.
﴿ ولما جاء أمرنا ﴾ عذابنا أو وقته ﴿ نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ﴾ أي برحمة من لدنا خاصة بهم مخالفة للعادة في أسباب النجاة من العذاب العارض الذي يصيب بعض الناس دون بعض وهي التي أشير إليها في قول نوح لولده ﴿ لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم ﴾ [ هود : ٤٣ ] ﴿ ونجيناهم من عذاب غليظ ﴾ أعاد فعل التنجية للفصل بين [ منا ] التي هي صفة الرحمة وبين [ من ] الداخلة على العذاب، أي وإنما نجيناهم من عذاب غليظ شديد الغلظة فظيع شديد الفظاعة غير معهود في العالم، وهو ما عبر عنه بالريح العقيم، التي لا تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم، وبقوله :﴿ إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر ﴾ [ القمر : ١٩، ٢٠ ] وقوله في وصف هذه الريح العاتية ﴿ فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية ﴾ [ الحاقة : ٧، ٨ ].
﴿ ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ ( ٥٨ ) وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد ( ٥٩ ) وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عاد كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود ( ٦٠ ) ﴾
هذه الآيات الثلاث في إنجاء هود ومن آمن معه والجزاء والعقوبة لقومه المعاندين.
﴿ وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم ﴾ أي كفروا بجنس الآيات التي يؤيد بها رسله بجحود ما جاءهم به رسولهم منها، أنث الإشارة إليهم على إرادة القبيلة وقيل إشارة إلى آثارهم، والجحود بالآيات تكذيب الدلائل الواضحة عنادا في الظاهر دون الباطن، كما قال في قوم فرعون ﴿ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا ﴾ [ النمل : ١٤ ] ﴿ وعصوا رسله ﴾ أي عصوا جنسهم بعصيان رسوله إليهم وإنكار رسالته فإن عصيان الواحد عصيان للجنس كله، إذ هو مبني على رفض الرسالة نفسها، بادعاء أن الرسول لا يكون بشرا ﴿ واتبعوا أمر كل جبار عنيد ﴾ أي واتبع سوادهم ودهماؤهم كل جبار عنيد من رؤسائهم الطغاة العتاة المستبدين فيهم بالقهر، فالجبار القاهر الذي يجبر غيره على اتباعه بالقهر والإذلال، أو من يجبر نقص نفسه بالكبر ودعوى العظمة، والعنيد الطاغي الذي يأبى الحق ولا يذعن له، وإن ظهر له وقام عليه الدليل عنده، فهل يعتبر بهذه بقايا الملوك الجبارين في الأرض قبل انقراضهم ؟
﴿ ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ ( ٥٨ ) وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد ( ٥٩ ) وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عاد كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود ( ٦٠ ) ﴾
هذه الآيات الثلاث في إنجاء هود ومن آمن معه والجزاء والعقوبة لقومه المعاندين.
﴿ وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ﴾ إتباع الشيء الشيء لحوقه به وإدراكه إياه بحيث لا يفوته، أي لحقت بهم لعنة في هذه الدنيا فكان كل من علم بحالهم من بعدهم ومن أدرك آثارهم، وكل من بلغه الرسل من بعدهم خبرهم يلعنونهم ﴿ ويوم القيامة ﴾ وتتبعهم يوم القيامة عند ما يلعن الأشهاد الظالمين أمثالهم كما تقدم في الآية الثامنة عشرة من هذه السورة. قال قتادة : تتابعت عليهم لعنتان من الله لعنة في الدنيا ولعنة في الآخرة ﴿ ألا إن عادا كفروا ربهم ﴾ هذه شهادة مؤكدة عليهم بالكفر أي كفروا نعمه عليهم بجحودهم بآياته وتكذيبهم لرسله كبرا وعنادا، يقال كفره وكفر به، وشكره وشكر له، ومعنى مادة الكفر في الأصل التغطية ﴿ ألا بعدا لعاد قوم هود ﴾ دعاء عليهم بالهلاك والبعد من الرحمة حكاية لبدئه، وتسجيلا لدوامه، كرر ألا المنبهة لما بعدها تعظيما لأمره، وكرر اسمهم ووصفهم بقوم هود ليفيد السامع بالتكرير تقرير استحقاقهم للعنة والإبعاد وسببه، وأنهم ليس لهم شبهة عذر لرد الدعوة، المعقبة للحرمان مما كانوا فيه من خير ونعمة، والانتهاء إلى ضده من شقاء ونقمة.
قصة صالح عليه السلام
هو النبي الرسول الثاني من العرب وتقدم ذكر قصته في سبع آيات من سورة الأعراف ذكرت في أول تفسيرها مساكن قبيلته ثمود وهي الحجر بين الحجاز والشام وها هي ذي قد ذكرت هنا في ثماني آيات تضاهي تلك السبع، وستجيء في ١٩ آية من سورة الشعراء أقصر من آيات هاتين السورتين ثم في ثمان من سورة النمل تناهز آيات الأعراف، ثم في عشر من سورة القمر قصار، وذكرت قبلهن في خمس من سورة الحجر، وبعدهن في خمس من سورة الشمس، وثلاث من سورة الذاريات، وثنتين من سورة النجم، وفي كل من الموعظة والعبرة في موضعها ما يليق بها، ولا يغني عنها غيرها.
﴿ وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب ( ٦١ ) قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب ( ٦٢ ) قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدوني غير تخسير ( ٦٣ ) ﴾
هذه الآيات الثلاث في تبليغ دعوة صالح لقومه وردهم لها واحتجاجه عليهم.
﴿ وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ﴾ هذا نص ما تقدم في تبليغ هود عليهما السلام، ثم قال :﴿ هو أنشأكم من الأرض ﴾ أي هو بدأ خلقكم من الأرض بخلق أبيكم آدم منها مباشرة ثم بخلق كل منكم من سلالة من طين الأرض، فإن النطفة التي تتحول في الرحم إلى علقة فمضغة فهيكل عظمي يحيط به لحم هي من الدم، والدم من الغذاء، والغذاء الغالب إما نبات من الأرض، وإما لحم يرجع إلى النبات في طور واحد أو أكثر ﴿ واستعمركم فيها ﴾ أي وجعلكم عمارا فيها من العمران فقد كانوا زراعا وصناعا وبنائين ﴿ وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين ﴾ [ الحجر : ٨٢ ] وقيل من العمر أي أطال أعماركم فيها والصحيح الأول، واستعمل الاستعمار في عصرنا بمعنى استيلاء الدول القوية على بلاد المستضعفين واستثمارهم واستعباد أهلها لمصالحهم، والمراد أنه هو المنشئ لخلقكم والممدكم بأسباب العمران والنعم فيها فلا يصح أن تعبدوا فيها غيره، لأنه هو صاحب الفضل كله، والمستحق للعبادة وحده.
﴿ فاستغفروه ثم توبوا إليه ﴾ أي فاسألوه أن يغفر لكم ما أشركتم وما أجرمتم ثم توبوا وارجعوا إليه كلما وقع منكم ذنب أو خطأ، وتقدم مثله في دعوة هود قريبا وفي دعوة محمد صلى الله عليه وسلم في أول السورة ﴿ إن ربي قريب مجيب ﴾ قريب من عباده لا يخفى عليه شيء من استغفارهم والباعث عليه من أحوالهم، مجيب لدعاء من دعاه مؤمنا مخلصا له الدين كما قال في سورة البقرة ﴿ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ﴾ [ البقرة : ١٨٦ ] فيراجع تفسيرها المفصل هنالك.
قصة صالح عليه السلام
هو النبي الرسول الثاني من العرب وتقدم ذكر قصته في سبع آيات من سورة الأعراف ذكرت في أول تفسيرها مساكن قبيلته ثمود وهي الحجر بين الحجاز والشام وها هي ذي قد ذكرت هنا في ثماني آيات تضاهي تلك السبع، وستجيء في ١٩ آية من سورة الشعراء أقصر من آيات هاتين السورتين ثم في ثمان من سورة النمل تناهز آيات الأعراف، ثم في عشر من سورة القمر قصار، وذكرت قبلهن في خمس من سورة الحجر، وبعدهن في خمس من سورة الشمس، وثلاث من سورة الذاريات، وثنتين من سورة النجم، وفي كل من الموعظة والعبرة في موضعها ما يليق بها، ولا يغني عنها غيرها.
﴿ وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب ( ٦١ ) قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب ( ٦٢ ) قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدوني غير تخسير ( ٦٣ ) ﴾
هذه الآيات الثلاث في تبليغ دعوة صالح لقومه وردهم لها واحتجاجه عليهم.
﴿ قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا ﴾ أي قد كنت موضع رجائنا لمهمات أمورنا لما لك من المكانة في بيتك وفي صفاتك الشخصية من العقل والرأي قبل هذا الذي تدعونا إليه من تبديل ديننا بما تزعم من بطلانه فانقطع رجاؤنا منك ﴿ أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا ﴾ الاستفهام للإنكار والتعجب أي أتنهانا أن نعبد ما كان يعبد آباؤنا من قبلنا واستمر فيما لا ينكره ولا يستقبحه أحد ؟ فالآباء يشمل الغابرين والحاضرين، ولو قالوا ما عبد آباؤنا لما أفاد هذا، فلا حاجة إلى القول بأن التعبير بالمضارع حكاية مصورة للحال الماضية في صورة الحاضرة.
﴿ وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب ﴾ أي وإنا لواقعون في شك مما تدعونا من عبادة الله وحده لا نتوسل إليه بأحد من أوليائه وأحبائه الشفعاء لنا عنده المقربين لنا إليه، ولا بتعظيم ما وضعه آباؤنا لهم من الصور والتماثيل المذكرة بهم، لا ندري مرادك وغرضك منه، فإنه موجب للريب وسوء الظن. قال في المصباح المنير : الريب الظن والشك ورابني الشيء يريبني إذا جعلك شاكا، قال أبو زيد رابني من فلان أمر يريبني ريبا : إذا استيقنت منه الريبة، فإذا أسأت به الظن ولم تستيقن منه الريبة، قلت أرابني منه أمر هو فيه إرابة، وأرابني فلان إرابة فهو مريب : إذا بلغك عنه شيء أو توهمته اه.
قصة صالح عليه السلام
هو النبي الرسول الثاني من العرب وتقدم ذكر قصته في سبع آيات من سورة الأعراف ذكرت في أول تفسيرها مساكن قبيلته ثمود وهي الحجر بين الحجاز والشام وها هي ذي قد ذكرت هنا في ثماني آيات تضاهي تلك السبع، وستجيء في ١٩ آية من سورة الشعراء أقصر من آيات هاتين السورتين ثم في ثمان من سورة النمل تناهز آيات الأعراف، ثم في عشر من سورة القمر قصار، وذكرت قبلهن في خمس من سورة الحجر، وبعدهن في خمس من سورة الشمس، وثلاث من سورة الذاريات، وثنتين من سورة النجم، وفي كل من الموعظة والعبرة في موضعها ما يليق بها، ولا يغني عنها غيرها.
﴿ وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب ( ٦١ ) قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب ( ٦٢ ) قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدوني غير تخسير ( ٦٣ ) ﴾
هذه الآيات الثلاث في تبليغ دعوة صالح لقومه وردهم لها واحتجاجه عليهم.
﴿ قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة ﴾ تقدم مثل هذا حكاية عن نوح في الآية ٢٨ إلا أنه قال ﴿ رحمة من عنده ﴾ أي أخبروني عن حالي معكم إن كنت على حجة واضحة قطعية من ربي فيما أدعوكم إليه ووهبني رحمة خاصة منه جعلني بها نبيا مرسلا إليكم ﴿ فمن ينصرني من الله إن عصيته ﴾ بكتمان الرسالة أو ما يسوءكم من بطلان عبادة أصنامكم وأوثانكم تقليدا لآبائكم ؟ أي لا أحد ينصرني من الله ويدفع عني عقابه في هذه الحالة، وإذن لا أبالي بفقد رجائكم في، ولا بما أنتم فيه من شك وارتياب في أمري.
﴿ فما تزيدونني غير تخسير ﴾ أي ما تزيدونني بحرصي على رجائكم، واتقاء سوء ظنكم وارتيابكم، غير إيقاع في الخسران بإيثار ما عندكم على ما عند الله، واشتراء رضاكم بسخط الله تعالى، أو غير إيقاع في الهلاك. قال في مجاز الأساس : وخسره سوء عمله : أهلكه، وفي المصباح المنير : وخسرت فلانا بالتثقيل أبعدته، وخسرته نسبته إلى الخسران مثل كذبته بالتثقيل إذا نسبته إلى الكذب، ومثله فسقته وفجرته إذا نسبته إلى هذه الأفعال، وقال الفراء في الجملة : فما تزيدونني غير تضليل وإبعاد من الخير، وقال مجاهد وعطاء الخراساني : ما تزدادون أنتم إلا خسارا اه. ولعل مرادهما ما تزيدونني بقولكم إلا علما بخساركم باستبدال الشرك بالتوحيد.
قصة صالح عليه السلام
هو النبي الرسول الثاني من العرب وتقدم ذكر قصته في سبع آيات من سورة الأعراف ذكرت في أول تفسيرها مساكن قبيلته ثمود وهي الحجر بين الحجاز والشام وها هي ذي قد ذكرت هنا في ثماني آيات تضاهي تلك السبع، وستجيء في ١٩ آية من سورة الشعراء أقصر من آيات هاتين السورتين ثم في ثمان من سورة النمل تناهز آيات الأعراف، ثم في عشر من سورة القمر قصار، وذكرت قبلهن في خمس من سورة الحجر، وبعدهن في خمس من سورة الشمس، وثلاث من سورة الذاريات، وثنتين من سورة النجم، وفي كل من الموعظة والعبرة في موضعها ما يليق بها، ولا يغني عنها غيرها.
﴿ وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب ( ٦١ ) قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب ( ٦٢ ) قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدوني غير تخسير ( ٦٣ ) ﴾
هذه الآيات الثلاث في تبليغ دعوة صالح لقومه وردهم لها واحتجاجه عليهم.
﴿ ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب ( ٦٤ ) فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب ( ٦٥ ) فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ إن ربك هو القوي العزيز ( ٦٦ ) وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين ( ٦٧ ) كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمودا كفروا ربهم ألا بعدا لثمود ( ٦٨ ) ﴾
هذه الآيات الخمس في بينة الله لصالح عليه السلام وهي آيته على رسالته، وإنذارهم الهلاك وعذاب الاستئصال إذا هم مسوها بسوء، ووقوع ذلك بالفعل.
﴿ ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية ﴾ أي الناقة التي شرفها الله بإضافتها إلى اسمه يجعلها ممتازة دون الإبل بما ترون من أمرها وأكلها وشربها، أشير إليها حال كونها لكم آية منه بينة دالة على هلاككم إن خالفتم أمره فيها ﴿ فذروها تأكل في أرض الله ﴾ مما فيه من المراعي لا يعرض لها أحد بمنع ﴿ ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب ﴾ أي لا يمسها أحد منكم بأذى فيأخذكم كلكم عذاب عاجل لا يتأخر عن مسكم إياها بعقر أو غيره، وقد تقدم هذا الإنذار بنصه في قصته من سورة الأعراف إلا أنه قال هناك ﴿ عذاب أليم ﴾ [ الأعراف : ٧٣ ] وكل من الوصفين حق وقد تكلمت هنالك على هذه الناقة ومعنى إضافتها إلى الله تعالى، وما جاء فيها من السور الأخرى ومنه قسمة الماء بينها وبينهم [ فيراجع في ج ٨ ].
قصة صالح عليه السلام
هو النبي الرسول الثاني من العرب وتقدم ذكر قصته في سبع آيات من سورة الأعراف ذكرت في أول تفسيرها مساكن قبيلته ثمود وهي الحجر بين الحجاز والشام وها هي ذي قد ذكرت هنا في ثماني آيات تضاهي تلك السبع، وستجيء في ١٩ آية من سورة الشعراء أقصر من آيات هاتين السورتين ثم في ثمان من سورة النمل تناهز آيات الأعراف، ثم في عشر من سورة القمر قصار، وذكرت قبلهن في خمس من سورة الحجر، وبعدهن في خمس من سورة الشمس، وثلاث من سورة الذاريات، وثنتين من سورة النجم، وفي كل من الموعظة والعبرة في موضعها ما يليق بها، ولا يغني عنها غيرها.
﴿ وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب ( ٦١ ) قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب ( ٦٢ ) قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدوني غير تخسير ( ٦٣ ) ﴾
هذه الآيات الثلاث في تبليغ دعوة صالح لقومه وردهم لها واحتجاجه عليهم.
﴿ ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب ( ٦٤ ) فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب ( ٦٥ ) فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ إن ربك هو القوي العزيز ( ٦٦ ) وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين ( ٦٧ ) كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمودا كفروا ربهم ألا بعدا لثمود ( ٦٨ ) ﴾
هذه الآيات الخمس في بينة الله لصالح عليه السلام وهي آيته على رسالته، وإنذارهم الهلاك وعذاب الاستئصال إذا هم مسوها بسوء، ووقوع ذلك بالفعل.
﴿ فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ﴾ يقولون عقر الناقة [ من باب ضرب ] بالسيف إذا ضرب قوائمها به أو نحرها، أي فقتلوا الناقة عقب ذلك الإنذار غير مصدقين له ولا مبالين بالوعيد، فضرب لهم صالح ثلاثة أيام موعدا يتمتعون بها في وطنهم كما كانوا في معايشهم { ذلك وعد غير مكذوب ؛ أي وعد من الله غير مكذوب فيه، وكذب يتعدى بنفسه فيقال كذب فلان حديثا وكذبه الحديث أي كذب عليه فيه، والوعد خبر موقوت كأن الواعد قال للموعود بأنني أفي به في وقته، فإن وفى فقد صدقه ولم يكذبه، ويجوز أن يكون [ مكذوب ] مصدرا وله نظائر كالمفتون والمجلود ومنه [ بأيكم المفتون ].
قصة صالح عليه السلام
هو النبي الرسول الثاني من العرب وتقدم ذكر قصته في سبع آيات من سورة الأعراف ذكرت في أول تفسيرها مساكن قبيلته ثمود وهي الحجر بين الحجاز والشام وها هي ذي قد ذكرت هنا في ثماني آيات تضاهي تلك السبع، وستجيء في ١٩ آية من سورة الشعراء أقصر من آيات هاتين السورتين ثم في ثمان من سورة النمل تناهز آيات الأعراف، ثم في عشر من سورة القمر قصار، وذكرت قبلهن في خمس من سورة الحجر، وبعدهن في خمس من سورة الشمس، وثلاث من سورة الذاريات، وثنتين من سورة النجم، وفي كل من الموعظة والعبرة في موضعها ما يليق بها، ولا يغني عنها غيرها.
﴿ وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب ( ٦١ ) قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب ( ٦٢ ) قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدوني غير تخسير ( ٦٣ ) ﴾
هذه الآيات الثلاث في تبليغ دعوة صالح لقومه وردهم لها واحتجاجه عليهم.
﴿ ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب ( ٦٤ ) فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب ( ٦٥ ) فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ إن ربك هو القوي العزيز ( ٦٦ ) وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين ( ٦٧ ) كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمودا كفروا ربهم ألا بعدا لثمود ( ٦٨ ) ﴾
هذه الآيات الخمس في بينة الله لصالح عليه السلام وهي آيته على رسالته، وإنذارهم الهلاك وعذاب الاستئصال إذا هم مسوها بسوء، ووقوع ذلك بالفعل.
﴿ فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ ﴾ أي فلما جاء أمرنا بإنجاز وعدنا بعذابهم نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة خاصة منها، ونجيناهم من خزي ذلك اليوم أي ذله ونكاله باستئصال القوم من الوجود، وما يتبعه من سوء الذكر ولعنة الأبعاد من رحمة الله تعالى، وأصل التعبير نجيناهم برحمة منا من خزي يومئذ ففصل بين " من " التي هي صفة الرحمة، ومن الموصلة للعذاب كما تقدم في قصة هود بدون إعادة فعل التنجية الذي صرح به هناك، وقدر هنا استغناء عن ذكره بقرب مثله.
فهذه الآية كالآية ٥٧ في قصة هود ومعناهما واحد، إلا أن هذه جاءت بالفاء [ فلما ] وتلك بالواو وهو الأصل في مثل هذا العطف، وإنما كانت الفاء هي المناسبة لما هنا لأن ما قبلها جاء بالفاءات المتعاقبة الواقعة في مواقعها من أمر الإنذار فالوعيد على المخالفة فالمخالفة فتحديد موعد العذاب بثلاثة أيام فالإخبار بإنجازه ووقوعه-فما كان المناسب في هذا إلا أن يكون بالفاء تعقيبا على ما قبله كما قال في آخر سورة الشمس ﴿ فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها ﴾ [ الشمس : ١٣، ١٤ ] وإنما بينت من نكت البلاغة لأنني لم أره في التفاسير التي تعنى بها.
فليتأمل القارئ هذه الدقة الغريبة في اختلاف التعبير عن المعنى الواحد في الموضوع الواحد والفروق الدقيقة في العطف، فإنها لا توجد في كلام أحد من بلغاء البشر البتة، وليعذر الذين يفهمونها إذا جعلوا بلاغة القرآن هي التي أعجزت العرب والإنس والجن عن الإتيان بسورة مثله وإن كان إعجازه العلمي من وجوهه الكثيرة أعلى ﴿ إن ربك هو القوي العزيز ﴾ إن ربك أيها الرسول الذي فعل هذا قادر على فعل مثله بقومك إذا أصروا على الجحود، فإنه هو القوي المقتدر الذي لا يعجزه إنجاز وعده، العزيز الغالب على أمره.
قرأ الجمهور [ يومئذ ] بجر يوم بالإضافة، وقرأه نافع والكسائي بالفتح وهما لغتان، ومثله في سورة المعارج ﴿ لو يفتدي من عذاب يومئذ ﴾.
قصة صالح عليه السلام
هو النبي الرسول الثاني من العرب وتقدم ذكر قصته في سبع آيات من سورة الأعراف ذكرت في أول تفسيرها مساكن قبيلته ثمود وهي الحجر بين الحجاز والشام وها هي ذي قد ذكرت هنا في ثماني آيات تضاهي تلك السبع، وستجيء في ١٩ آية من سورة الشعراء أقصر من آيات هاتين السورتين ثم في ثمان من سورة النمل تناهز آيات الأعراف، ثم في عشر من سورة القمر قصار، وذكرت قبلهن في خمس من سورة الحجر، وبعدهن في خمس من سورة الشمس، وثلاث من سورة الذاريات، وثنتين من سورة النجم، وفي كل من الموعظة والعبرة في موضعها ما يليق بها، ولا يغني عنها غيرها.
﴿ وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب ( ٦١ ) قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب ( ٦٢ ) قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدوني غير تخسير ( ٦٣ ) ﴾
هذه الآيات الثلاث في تبليغ دعوة صالح لقومه وردهم لها واحتجاجه عليهم.
﴿ ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب ( ٦٤ ) فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب ( ٦٥ ) فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ إن ربك هو القوي العزيز ( ٦٦ ) وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين ( ٦٧ ) كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمودا كفروا ربهم ألا بعدا لثمود ( ٦٨ ) ﴾
هذه الآيات الخمس في بينة الله لصالح عليه السلام وهي آيته على رسالته، وإنذارهم الهلاك وعذاب الاستئصال إذا هم مسوها بسوء، ووقوع ذلك بالفعل.
﴿ وأخذ الذين ظلموا الصيحة ﴾ الأخذ في أصل اللغة التناول باليد واستعمل في المعاني كأخذ الميثاق والعهد وفي الإهلاك، والصيحة المرة من الصوت الشديد والمراد بها هنا صيحة الصاعقة التي نزلت بقوم صالح فأحدثت رجفة في القلوب وزلزلة في الأرض، وصعق بها جميع القوم ﴿ فأصبحوا في ديارهم جاثمين ﴾ أي ساقطين على وجوههم مصعوقين لم ينج منهم أحد، شبهوا بالطير في لصوقها بالأرض يقال جثم الطائر والأرنب [ من باب ضرب ] جثوما وهو كالبروك من البعير. وتقدم في سورة الأعراف ﴿ فأخذتهم الرجفة ﴾ [ الأعراف : ٧٨ ] إلخ، وقد فصلنا في تفسيرها ما ورد من اختلاف التعبير فيها وفي هذه الآية ومثلها آية سورة القمر وفي سورة فصلت حيث قال :﴿ فأخذتهم الصاعقة ﴾ [ الذاريات : ٤٤ ] وبينا معنى الصاعقة الذي عرف من سنن الله تعالى في نوعي الكهربائية الإيجابي والسلبي فيراجع [ ج ٨ تفسير ] ومنه يعلم غلط من قال إن الصيحة صوت جبريل عليه السلام.
قصة صالح عليه السلام
هو النبي الرسول الثاني من العرب وتقدم ذكر قصته في سبع آيات من سورة الأعراف ذكرت في أول تفسيرها مساكن قبيلته ثمود وهي الحجر بين الحجاز والشام وها هي ذي قد ذكرت هنا في ثماني آيات تضاهي تلك السبع، وستجيء في ١٩ آية من سورة الشعراء أقصر من آيات هاتين السورتين ثم في ثمان من سورة النمل تناهز آيات الأعراف، ثم في عشر من سورة القمر قصار، وذكرت قبلهن في خمس من سورة الحجر، وبعدهن في خمس من سورة الشمس، وثلاث من سورة الذاريات، وثنتين من سورة النجم، وفي كل من الموعظة والعبرة في موضعها ما يليق بها، ولا يغني عنها غيرها.
﴿ وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب ( ٦١ ) قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب ( ٦٢ ) قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدوني غير تخسير ( ٦٣ ) ﴾
هذه الآيات الثلاث في تبليغ دعوة صالح لقومه وردهم لها واحتجاجه عليهم.
﴿ ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب ( ٦٤ ) فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب ( ٦٥ ) فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ إن ربك هو القوي العزيز ( ٦٦ ) وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين ( ٦٧ ) كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمودا كفروا ربهم ألا بعدا لثمود ( ٦٨ ) ﴾
هذه الآيات الخمس في بينة الله لصالح عليه السلام وهي آيته على رسالته، وإنذارهم الهلاك وعذاب الاستئصال إذا هم مسوها بسوء، ووقوع ذلك بالفعل.
﴿ كأن لم يغنوا فيها ﴾ هو من غني بالمكان [ كرضي ] إذا أقام فيه، أي كأنهم في سرعة زوالهم، وعدم بقاء أحد منهم في ديارهم، لم يقيموا فيها البتة ﴿ ألا إن ثمودا كفروا ربهم ألا بعدا لثمود ﴾ تقدم مثله آنفا في قوم هود، وفي ثمود قراءتان سبعيتان مشهورتان تنوينه لأنه مصروف بمعنى الحي أو القوم، ومنعه من الصرف بمعنى القبيلة، وهذه قراءة أكثر الناس في زماننا.
إبراهيم صلى الله عليه وسلم مع الملائكة عليهم السلام
ذكر إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله في ٢٤ سورة من القرآن منها ما هو في قصته مع أبيه وقومه في وطنه مجملا ومفصلا على ما علمناه من سنة القرآن، ومنها ما هو في بيان إمامته وكون ملته أساس دين الله تعالى على ألسنة رسله من عهده إلى خاتمهم عليهم الصلاة والسلام ومنها ما هو في بشارته بولديه إسماعيل فإسحاق عليهما السلام وما وعده الله له ولهما ولذريتهما، وما هو خاص بإسماعيل وقومه العرب من بناء البيت الحرام وإسكانه هنالك، ومنها ما هو في بشارة الملائكة إياه بإسحاق وإخباره بإهلاك قوم لوط ومنه هذه الآيات.
﴿ ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ ( ٦٩ ) فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط ( ٧٠ ) وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ( ٧١ ) قالت يا ويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب ( ٧٢ ) قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد ( ٧٣ ) ﴾
هذه الآيات الخمس خاصة ببشارة الملائكة لإبراهيم وامرأته بإسحاق ويعقوب.
﴿ ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى ﴾ خبر مؤكد بالقسم لغرابته عند العرب معطوف على قوله تعالى :﴿ ولقد أرسلنا نوحا ﴾ أو على ما عطف عليه من أول السورة لا على ما قبله مباشرة من قصة صالح التي عطفت على قصة هود لتماثلهما، والمراد بالرسل جماعة من الملائكة اختلفت الرواية فيهم، فعن عطاء أنهم جبريل ومكيائيل وإسرافيل عليهم السلام، وعن محمد بن كعب القرظي أنهم جبريل وسبعة أملاك معه، وقيل غير ذلك وهو مما لا يعلم إلا بتوقيف من الوحي ولا توقيف فيه. وستذكر البشرى بعد التحية والضيافة.
﴿ قالوا سلاما ﴾ أي نسلم عليك سلاما، أو ذكروا هذا اللفظ ﴿ قال سلام ﴾ أي أمركم سلام، أو عليكم سلام، قال المفسرون : إن الرفع أبلغ من النصب، فقد حياهم بأحسن من تحيتهم، أي على عادته ودأبه في إكرام الضيف وظن أنهم أضياف ﴿ فما لبث أن جاء بعجل حنيذ ﴾ أي ما مكث وما أبطأ عن مجيئه إياهم بعجل سمين حينئذ أي مشوي بالرضف وهي الحجارة المحمية – والمشوي عليها يكون أنظف من المشوي على النار وألذ طعما، وقد اهتدى البشر إلى شي اللحم من صيد وغيره على الحجارة المحمية بحر الشمس قبل اهتدائهم لطبخه بالنار، وفي سورة الذاريات بعد السلام ﴿ فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين فقربه إليهم قال ألا تأكلون ﴾ [ الذاريات : ٢٦، ٢٧ ] وهو نص في المبادرة إلى الإتيان به بدون مهلة كأنه كان مشويا معدا لمن يجيء من الضيف أو شوي عند وصولهم من غير تريث.
إبراهيم صلى الله عليه وسلم مع الملائكة عليهم السلام
ذكر إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله في ٢٤ سورة من القرآن منها ما هو في قصته مع أبيه وقومه في وطنه مجملا ومفصلا على ما علمناه من سنة القرآن، ومنها ما هو في بيان إمامته وكون ملته أساس دين الله تعالى على ألسنة رسله من عهده إلى خاتمهم عليهم الصلاة والسلام ومنها ما هو في بشارته بولديه إسماعيل فإسحاق عليهما السلام وما وعده الله له ولهما ولذريتهما، وما هو خاص بإسماعيل وقومه العرب من بناء البيت الحرام وإسكانه هنالك، ومنها ما هو في بشارة الملائكة إياه بإسحاق وإخباره بإهلاك قوم لوط ومنه هذه الآيات.
﴿ ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ ( ٦٩ ) فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط ( ٧٠ ) وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ( ٧١ ) قالت يا ويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب ( ٧٢ ) قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد ( ٧٣ ) ﴾
هذه الآيات الخمس خاصة ببشارة الملائكة لإبراهيم وامرأته بإسحاق ويعقوب.
﴿ فلما رأى أيديهم لا تصل إليه ﴾ أي لا تمتد إليه للتناول منه كما يمد الآكل يده إلى الطعام ﴿ نكرهم وأوجس منهم خيفة ﴾ نكر الشيء " كعلم وتعب " وأنكره ضد عرفه، أي نكر ذلك منهم ووجده على غير ما يعهد من الضيف، فإن الضيف لا يمتنع من طعام المضيف إلا لريبة أو قصد سيء، وأحس في نفسه خيفة منهم وفزعا، أو أدرك ذلك وأضمر إذ شعر أنهم ليسوا بشرا أو أنهم ربما كانوا من ملائكة العذاب، والوجس " كالوعد " الصوت الخفي ويطلق على ما يعتري النفس من الشعور والخواطر عند الفزع ﴿ قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط ﴾ أي قالوا وقد علموا ما يساور نفسه من الوجس : لا تخف فنحن لا نريد بك سوءا وإنما أرسلنا إلى قوم لوط لإهلاكهم، ولوط ابن أخيه، وأول من آمن به، وكان مكانه من مهاجره قريبا من مكانه، وفي سورة الحجر أنه صارحهم بخوفه ووجله منهم، فطمأنوه بأنهم مبشرون له بغلام عليم، وكذا في سورة الذاريات، وفيها أنه بعد البشارة له سألهم عن خطبهم وما وجاءوا لأجله فأخبروه فجادلهم فيه كما ذكر هنا مجملا.
إبراهيم صلى الله عليه وسلم مع الملائكة عليهم السلام
ذكر إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله في ٢٤ سورة من القرآن منها ما هو في قصته مع أبيه وقومه في وطنه مجملا ومفصلا على ما علمناه من سنة القرآن، ومنها ما هو في بيان إمامته وكون ملته أساس دين الله تعالى على ألسنة رسله من عهده إلى خاتمهم عليهم الصلاة والسلام ومنها ما هو في بشارته بولديه إسماعيل فإسحاق عليهما السلام وما وعده الله له ولهما ولذريتهما، وما هو خاص بإسماعيل وقومه العرب من بناء البيت الحرام وإسكانه هنالك، ومنها ما هو في بشارة الملائكة إياه بإسحاق وإخباره بإهلاك قوم لوط ومنه هذه الآيات.
﴿ ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ ( ٦٩ ) فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط ( ٧٠ ) وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ( ٧١ ) قالت يا ويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب ( ٧٢ ) قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد ( ٧٣ ) ﴾
هذه الآيات الخمس خاصة ببشارة الملائكة لإبراهيم وامرأته بإسحاق ويعقوب.
﴿ وامرأته قائمة فضحكت ﴾ وكانت امرأة إبراهيم في تلك الحالة قائمة أي واقفة-ولعل قيامها كان للخدمة- فضحكت قيل تعجبا مما رأت وسمعت، وقيل سرورا بالأمن من الخوف أو بقرب عذاب قوم لوط لكراهتها لسيرتهم الخبيثة، وقيل تعجبا من البشارة بالولد وهذا يكون أولى إن كانت البشارة قبل الضحك، والظاهر أنها بعده لعطفها عليه بالفاء وهو ﴿ فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ﴾ وزعم الفراء أن فيه تقديما أو تأخيرا، ولا مقتضى ولا مسوغ له، لضحكها أسبابا ذكرنا بعضها وزاد غيرنا عليها، على أن بشارتها كانت بالتبع لبشارة بعلها وهو المقصود بالذات وصرح به في سور الحجر والصافات والذاريات خاصا به، أي بشرناها بالتبع لتبشيره بإسحاق، ومن بعد إسحاق يعقوب يعني أنه سيكون لإسحاق ولد أيضا. قرأ ابن عامر وحمزة وحفص [ يعقوب ] منصوبا بفعل مقدر تفسره قرينة الكلام كوهبناها من وراء إسحاق يعقوب، كما قال :﴿ ووهبنا له إسحاق ويعقوب ﴾ [ الأنعام : ٨٤ ] وقرأه الباقون مرفوعا بالابتداء والتقدير : ويعقوب من وراء إسحاق، وروي عن ابن عباس أن الورى ولد الولد.
إبراهيم صلى الله عليه وسلم مع الملائكة عليهم السلام
ذكر إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله في ٢٤ سورة من القرآن منها ما هو في قصته مع أبيه وقومه في وطنه مجملا ومفصلا على ما علمناه من سنة القرآن، ومنها ما هو في بيان إمامته وكون ملته أساس دين الله تعالى على ألسنة رسله من عهده إلى خاتمهم عليهم الصلاة والسلام ومنها ما هو في بشارته بولديه إسماعيل فإسحاق عليهما السلام وما وعده الله له ولهما ولذريتهما، وما هو خاص بإسماعيل وقومه العرب من بناء البيت الحرام وإسكانه هنالك، ومنها ما هو في بشارة الملائكة إياه بإسحاق وإخباره بإهلاك قوم لوط ومنه هذه الآيات.
﴿ ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ ( ٦٩ ) فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط ( ٧٠ ) وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ( ٧١ ) قالت يا ويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب ( ٧٢ ) قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد ( ٧٣ ) ﴾
هذه الآيات الخمس خاصة ببشارة الملائكة لإبراهيم وامرأته بإسحاق ويعقوب.
﴿ قالت يا ويلتي أألد ﴾ [ كما يقال يا عجبا بدل يا عجبي ] وهي كلمة تقال عندما يفاجأ الإنسان أمر مهم من بلية أو فجيعة أو فضيحة تعجبا منه أو استنكارا له أو شكوى منه، وأكثر ما يجري على ألسنة النساء قديما وحديثا. ونساء مصر يقلن " يا دهوتي " ﴿ أألد وأنا عجوز ﴾ عقيم لا يلد مثلها ﴿ وهذا بعلي ﴾ وأشارت إليه – كما ترون ﴿ شيخا ﴾ كبيرا لا يولد لمثله ﴿ إن هذا ﴾ الذي بشرتمونا به ﴿ لشيء عجيب ﴾ وفي سفر التكوين أن إبراهيم كان عمره يومئذ مائة سنة، وأن زوجه سارة هذه كانت ابنة تسعين سنة ومثلها لا يلد بل الغالب أن ينقطع حيض المرأة في سن الخمسين فيبطل استعدادها للحمل والولادة، على أنها كانت عقيما كما في سورة الذاريات، فأما الرجال فلا يزال يوجد في المعمرين منهم من يولد له في سن المائة وما بعدها ولكنه نادر.
وقد حدثتنا صحف الأخبار عن رجل تركي منهم اسمه [ زارو أغا ] مات في هذا العام ١٣٥٣ عن مائة وخمسة وثلاثين عاما، ثم عن رجل عربي في العراق قريب من عمره لا يزال حيا وقد ولد لكل منهما بعد المائة. ثم عن رجل عربي سوري من مجدل زوين التابع لقضاء صور اسمه السيد حسين هاشم عمره ١٢٥ سنة بشهادة المحكمة الشرعية ومختار بلدته، وهو لا يزال منتصب القامة جيد الصحة قوي الذاكرة وقد تزوج أولا وهو في سن العشرين وثانيا وهو في العشرين بعد المائة رزق من الأولى ١٤ ولدا منهم ذكرا ومن الثانية ولدا واحدا، ويعيش عيشة فطرية إسلامية.
والظاهر أن سارة علمت من حال بعلها أنه بعد ولادة هاجر لابنه إسماعيل بزمن قريب أو بعيد فقد الاستعداد لإتيان النساء أو كانت تعتقد كما يعتقد أن مثله في تلك السن لا يولد له فقد قال هو للملائكة ﴿ أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون ﴾ [ الحجر : ٥٤ ] ويكفي في خرق العادة أن يكون من قبلها وهي ولذلك أنكروا عليها.
إبراهيم صلى الله عليه وسلم مع الملائكة عليهم السلام
ذكر إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله في ٢٤ سورة من القرآن منها ما هو في قصته مع أبيه وقومه في وطنه مجملا ومفصلا على ما علمناه من سنة القرآن، ومنها ما هو في بيان إمامته وكون ملته أساس دين الله تعالى على ألسنة رسله من عهده إلى خاتمهم عليهم الصلاة والسلام ومنها ما هو في بشارته بولديه إسماعيل فإسحاق عليهما السلام وما وعده الله له ولهما ولذريتهما، وما هو خاص بإسماعيل وقومه العرب من بناء البيت الحرام وإسكانه هنالك، ومنها ما هو في بشارة الملائكة إياه بإسحاق وإخباره بإهلاك قوم لوط ومنه هذه الآيات.
﴿ ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ ( ٦٩ ) فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط ( ٧٠ ) وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ( ٧١ ) قالت يا ويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب ( ٧٢ ) قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد ( ٧٣ ) ﴾
هذه الآيات الخمس خاصة ببشارة الملائكة لإبراهيم وامرأته بإسحاق ويعقوب.
﴿ قالوا أتعجبين من أمر الله ﴾ هذا استفهام إنكار لاستفهامهما التعجبي أي لا ينبغي لك أن تعجبي من شيء هو من أمر الله الذي لا يعجزه شيء ﴿ إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ﴾ [ يس : ٨٢ ] وإنما يصح العجب من وقوع ما يخالف سننه تعالى في خلقه إذا لم يكن واضح السنن ونظام الأسباب هو الذي أراد أن يستثني منها واقعة يجعلها من آياته، لحكمة من حكمه في عباده ﴿ رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت ﴾ هذه جملة دعائية استجيبت فمعناه الذي فسره الزمان إلى الآن : رحمة الله الخاصة وبركاته الكثيرة الواسعة عليكم يا معشر أهل بيت النبوة والرسالة، تتصل وتتسلسل في نسلكم وذريتكم إلى يوم القيامة، فلا محل للعجب أن يكون من آياته تعالى أن يهب رسوله وخليله الولد منكما في كبركما وشيخوختكما، فما هي بأول آياته له وقد نجاه من نار قومه الظالمين، وآواه إلى الأرض التي بارك فيها للعالمين. وهذه الرحمة والبركات والسلام عليهم، إرث أو تجديد لما هبط به نوح من السلام والبركات عليه وعلى أمم ممن معه كما تقدم في الآية [ ٤٨ ].
﴿ إنه حميد مجيد ﴾ أنه جل جلاله مستوجب لأنواع الثناء والحمد، حقيق بأسنى غايات المجد، وبتأثيلهما لأهل البيت. والجملة تعليل لما قبلها، وأصل المجد في اللغة أن تقع إبل في الأرض واسعة المرعى، يقال : مجدت تمجد [ من باب نصر ] مجدا ومجادة، وأمجدها الراعي، والمجد في البيوت والأنساب ما يعده الرجل من سعة كرم آبائه وكثرة نوالهم، ووصف الله كتابه بالمجيد كما وصف نفسه به لسعة هداية كتابه، وسعة كرمه وفضله على عباده، ومن هذه الآية أخذ النبي صلى الله عليه وسلم دعاء الصلاة الذي أمر به أمته عقب التشهد الأخير من الصلاة.
إبراهيم صلى الله عليه وسلم مع الملائكة عليهم السلام
ذكر إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله في ٢٤ سورة من القرآن منها ما هو في قصته مع أبيه وقومه في وطنه مجملا ومفصلا على ما علمناه من سنة القرآن، ومنها ما هو في بيان إمامته وكون ملته أساس دين الله تعالى على ألسنة رسله من عهده إلى خاتمهم عليهم الصلاة والسلام ومنها ما هو في بشارته بولديه إسماعيل فإسحاق عليهما السلام وما وعده الله له ولهما ولذريتهما، وما هو خاص بإسماعيل وقومه العرب من بناء البيت الحرام وإسكانه هنالك، ومنها ما هو في بشارة الملائكة إياه بإسحاق وإخباره بإهلاك قوم لوط ومنه هذه الآيات.
﴿ ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ ( ٦٩ ) فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط ( ٧٠ ) وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ( ٧١ ) قالت يا ويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب ( ٧٢ ) قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد ( ٧٣ ) ﴾
هذه الآيات الخمس خاصة ببشارة الملائكة لإبراهيم وامرأته بإسحاق ويعقوب.
﴿ فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط ﴾ أي فلما سري عن إبراهيم وانكشف ما راعه من الخيفة والرعب إذ علم أن هؤلاء الرسل من ملائكة العذاب، وجاءته البشرى بالولد واتصال النسل، أخذ يجادل رسلنا فيما أرسلناهم به من عقاب قوم لوط، جعلت مجادلتهم ومراجعتهم مجادلة له تعالى لأنها مجادلة في تنفيذ أمره، وإنما قال [ يجادلنا ] دون [ جادلنا ] - والأصل في جواب " لما " أن يكون فعلا ماضيا –لتصوير تلك الحال كأنها حاضرة، أو لتقدير ماض قبله كالذي قلنا، والمراد بالمجادلة ما ذكر في سورة العنكبوت ﴿ فلما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكو أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم لمن فيها لننجيه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين ﴾ [ العنكبوت : ٣١، ٣٢ ].
إبراهيم صلى الله عليه وسلم مع الملائكة عليهم السلام
ذكر إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله في ٢٤ سورة من القرآن منها ما هو في قصته مع أبيه وقومه في وطنه مجملا ومفصلا على ما علمناه من سنة القرآن، ومنها ما هو في بيان إمامته وكون ملته أساس دين الله تعالى على ألسنة رسله من عهده إلى خاتمهم عليهم الصلاة والسلام ومنها ما هو في بشارته بولديه إسماعيل فإسحاق عليهما السلام وما وعده الله له ولهما ولذريتهما، وما هو خاص بإسماعيل وقومه العرب من بناء البيت الحرام وإسكانه هنالك، ومنها ما هو في بشارة الملائكة إياه بإسحاق وإخباره بإهلاك قوم لوط ومنه هذه الآيات.
﴿ ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ ( ٦٩ ) فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط ( ٧٠ ) وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ( ٧١ ) قالت يا ويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب ( ٧٢ ) قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد ( ٧٣ ) ﴾
هذه الآيات الخمس خاصة ببشارة الملائكة لإبراهيم وامرأته بإسحاق ويعقوب.
﴿ إن إبراهيم لحليم أواه منيب ﴾ هذا تعليل لمجادلة إبراهيم في عذاب قوم لوط وهو أنه كان حليما لا يحب المعاجلة بالعقاب، كثير التأوه مما يسوء ويؤلم، منيب يرجع إلى الله في كل أمر، وقد تقدم وصفه بالأواه الحليم في الآية [ ٩ : ١١٤ ].
وهذه المجادلة المشار إليها هنا المجملة في سورة العنكبوت مفصلة في الفصل الثامن عشر من سفر التكوين من أوله إلى آخره، وجعلت فيه مجادلة للرب سبحانه لا لرسله، ففي أوله أن الرب ظهر لإبراهيم وهو جالس في باب الخيمة فظهر له ثلاثة رجال، وذكر خبر ضيافته لهم بالعجل وخبز الملة وأنهم أكلوا وبشروه بالولد، وأن امرأته سارة سمعت فضحكت وتعجبت، وعللت تعجبها بكبرها وانقطاع عادة النساء عنها " فقال الرب لإبراهيم لماذا ضحكت سارة هل يستحيل على الرب شيء ؟ " الخ ثم قال " وانصرف الرجال [ يعني الملائكة ] من هناك وذهبوا نحو سدوم [ أي قرية قوم لوط ] وأما إبراهيم فكان لم يزل قائما أمام الرب * فتقدم إبراهيم وقال : أفتهلك البار مع الأثيم * عسى أن يكون هناك خمسون بارا في المدينة، أفتهلك المكان ولا تصفح عنه من أجل الخمسين بارا الذين فيه ؟ *فقال الرب إن وجدت في سدوم خمسين بارا فإني أصفح عن المكان كله من أجلهم " ثم كلمة إبراهيم مثل هذا في خمسة وأربعين ثم في أربعين ثم في ثلاثين ثم في عشرين ثم في عشرة، والرب بعده في كل من هذه الأعداد بأنه من أجلهم لا يهلك القوم ثم قال :" وذهب الرب عند ما فرغ من الكلام مع إبراهيم إلى مكانه " اه فتأمل الفرق بين عبارات القرآن الوجيزة المفيدة المنزهة للرب تعالى عن مشابهة الخلق وعبارات ما يسمونه التوراة في تشبيه الله بعباده وتطويلها غير المفيد.
إبراهيم صلى الله عليه وسلم مع الملائكة عليهم السلام
ذكر إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله في ٢٤ سورة من القرآن منها ما هو في قصته مع أبيه وقومه في وطنه مجملا ومفصلا على ما علمناه من سنة القرآن، ومنها ما هو في بيان إمامته وكون ملته أساس دين الله تعالى على ألسنة رسله من عهده إلى خاتمهم عليهم الصلاة والسلام ومنها ما هو في بشارته بولديه إسماعيل فإسحاق عليهما السلام وما وعده الله له ولهما ولذريتهما، وما هو خاص بإسماعيل وقومه العرب من بناء البيت الحرام وإسكانه هنالك، ومنها ما هو في بشارة الملائكة إياه بإسحاق وإخباره بإهلاك قوم لوط ومنه هذه الآيات.
﴿ ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ ( ٦٩ ) فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط ( ٧٠ ) وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ( ٧١ ) قالت يا ويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب ( ٧٢ ) قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد ( ٧٣ ) ﴾
هذه الآيات الخمس خاصة ببشارة الملائكة لإبراهيم وامرأته بإسحاق ويعقوب.
﴿ يا إبراهيم أعرض عن هذا ﴾ بيان مستأنف لما أجابته به الملائكة عن الله تعالى، أي أعرض عن الجدال في أمر قوم لوط والاسترحام لهم ﴿ إنه قد جاء أمر ربك ﴾ أي أن الحال والشأن فيهم قد قضي بمجيء أمر ربك الذي قدره لهم ﴿ وإنهم آتيهم عذاب غير مردود ﴾ بجدال ولا شفاعة فهو واقع ما له من دافع، فهل يعتبر بهذا من يتخذون الله أندادا من أوليائه أو أوليائهم يزعمون أنهم يتصرفون في الكون كما يشاءون، وأن قوله تعالى في أهل الجنة ﴿ لهم ما يشاءون عند ربهم ﴾ [ الزمر : ٣٤ ] هو لهؤلاء الأولياء في الدنيا فلا يرد لهم طلبا ولا شفاعة ولا يريد ما لا يريدونه ! يكذبون على الله ويحرفون كتابه وهم يدعون أنهم مسلمون مؤمنون بأن أفضل الخلق بعد محمد جده إبراهيم الخليل عليهما وآلهما الصلاة والسلام.
قصة لوط عليه السلام وإهلاك قومه
في سفر التكوين أن لوطا عليه السلام ابن هارون أخي إبراهيم صلى الله عليه وسلم وأنه هاجر معه من مسقط رأسهما [ أورالكلدانيين ] في العراق إلى أرض الكنعانيين وسكن إبراهيم في أرض كنعان، ولوط في مدن دائرة الأردن، وقاعدتها سدوم ويليها عمورة فصوغر، وإنما افترقا اتقاء اختلاف رعيانهما وإيقاعهما في الخصومة التي لا ينبغي أن تكون بين الأخوين [ أي العم وابن أخيه ] وكان لوط عليه السلام في سدوم ويظن الكثيرون من الباحثين أن بحيرة لوط قد عمرت موضعها بعد الخسف فلا يعلم موضعه بالضبط. وقيل إنه عثر على آثارها في هذا العهد.
﴿ ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب ( ٧٧ ) وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال يا قوم بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد ( ٧٨ ) قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد ( ٧٩ ) قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد ( ٨٠ ) ﴾.
هذه الآيات الأربع في إهراع قوم لوط إليه للاعتداء على ضيفه وسوء حاله معهم
﴿ ولما جاءت رسلنا لوطا ﴾ بعد ذهابهم من عند إبراهيم ﴿ سيء بهم وضاق بهم ذرعا ﴾ أي وقع فيما ساءه وغمه بمجيئهم وضاق بهم ذرعه أي عجز عن احتمال ضيافتهم، فذرع الإنسان منتهى طاقته التي يحملها بمشقة. ذلك لما يتوقعه من اعتداء قومه عليهم كعادتهم، وروي أنهم جاءوه بشكل غلمان حسان الوجوه ﴿ وقال هذا يوم عصيب ﴾ شديد الأذى، مرهوب الشذى، مشتق من العصب بفتح فسكون أي الشد، فهو بمعنى معصوب، ويجوز أن يكون بمعنى عاصب، والعصب بالتحريك أطناب المفاصل، ومنه العصابة التي يشد بها الرأس.
قصة لوط عليه السلام وإهلاك قومه
في سفر التكوين أن لوطا عليه السلام ابن هارون أخي إبراهيم صلى الله عليه وسلم وأنه هاجر معه من مسقط رأسهما [ أورالكلدانيين ] في العراق إلى أرض الكنعانيين وسكن إبراهيم في أرض كنعان، ولوط في مدن دائرة الأردن، وقاعدتها سدوم ويليها عمورة فصوغر، وإنما افترقا اتقاء اختلاف رعيانهما وإيقاعهما في الخصومة التي لا ينبغي أن تكون بين الأخوين [ أي العم وابن أخيه ] وكان لوط عليه السلام في سدوم ويظن الكثيرون من الباحثين أن بحيرة لوط قد عمرت موضعها بعد الخسف فلا يعلم موضعه بالضبط. وقيل إنه عثر على آثارها في هذا العهد.
﴿ ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب ( ٧٧ ) وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال يا قوم بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد ( ٧٨ ) قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد ( ٧٩ ) قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد ( ٨٠ ) ﴾.
هذه الآيات الأربع في إهراع قوم لوط إليه للاعتداء على ضيفه وسوء حاله معهم
﴿ وجاءه قومه يهرعون إليه ﴾ أي جاءوه يهرولون متهيجة أعصابهم كأن سائقا يسوقهم، قال في المصباح المنير : هرع وأهرع بالبناء فيهما للمفعول إذا أعجل على الإسراع، أي حمل على العجل به اه. وقال الكسائي والفراء وغيرهما : لا يكون الإهراع إلا إسراعا مع رعدة من برد أو غضب أو حمى اه. وينبغي أن يزاد عليه أو شهوة شديدة، وقال مجاهد : هو مشي بين الهرولة والعدو ﴿ ومن قبل كانوا يعملون السيئات ﴾ ومن قبل هذا المجيء كأن يعملون السيئات الكثيرة وشرها أفظع الفاحشة وأنكر في الفطرة البشرية والشرائع الإلهية والوضعية، وهي إتيان الرجال شهوة من دون النساء، ومجاهرتهم بها في أنديتهم كأنها من الفضائل، يتسابقون إليها ويتبارون فيها، كما حكى الله عنه من قوله بعد رميهم بالفاحشة ﴿ أإنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر ﴾ [ العنكبوت : ٢٩ ] فماذا فعل لوط وبم واجههم وعارضهم ؟
﴿ قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم ﴾ فتزوجوهن، قيل أراد بناته من صلبه، وأنه سمح بتزويجهم بهن بعد امتناع لصرفهم عن أضيافه، وقيل أراد بنات قومه في جملتهن، لأن النبي في قومه كالولد في عشيرته، قاله ابن عباس { رضي الله عنه ] ومجاهد وسعيد بن جبير، ويدخل فيه نساؤهم المدخول بهن وغيرهن من المعدات للزواج، يعني أن الاستمتاع بهن بالزواج أطهر من التلوث برجس اللواط، فإنه يكبح جماح الشهوة مع الأمن من الفساد، وصيغة التفضيل هنا للمبالغة في الطهر فلا مفهوم لها، وهذا كثير في اللغة ويقول النحويون فيه : إن أفعل التفضيل على غير بابه، والظاهر أنه يأمرهم في هذه الحال الذي هاجت فيه شهوتهم واشتد سبقهم، أن يأتوا نساءهم كما ورد في الإرشاد النبوي لمن رأى امرأة أعجبته أن يأتي امرأته في تلك الحالة التي هاجته فيها رؤيتها.
وزعم بعض المفسرين أنه عليه السلام عرض على هؤلاء الفساق المجرمين بناته أن يستمتعوا بهن كما يشاءون، ومثل هذا في سفر التكوين [ ١٩ : ٨ ] وفيه أنهما اثنتان، ولا يعقل أن يقع هذا الأمر من أي رجل صالح فضلا عن نبي مرسل، ولا يصح في مثله أن يعبر عنه بأنه أطهر لهم، فغسل الدم بالبول ليس من الطهارة في شيء، وإن كان يعتقد أنهم لا يجيبونه إلى هذا الفعل، بل الذنب في هذه الحال أكبر، لأنه أمر بالمنكر، وخروج عن الحكم الشرعي، إيثارا للتجمل الشخصي، وهو لا يتعارض مع قوله لهم بعده ﴿ فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي ﴾ فإن الزنا ليس من التقوى بل هو هدم لها، وإنما معنى هذا الأمر والنهي : فاجمعوا بما أمرتكم به بين تقوى الله باجتناب الفاحشة، وبين حفظ كرامتي وعدم إذلالي وامتهاني بفضيحتي في ضيفي فإن فضيحة الضيف فضيحة للمضيف وإهانة له، ولفظ الضيف يطلق على الواحد والمثنى والجمع.
﴿ أليس منكم رجل رشيد ﴾ ذو رشد يعقل هذا فيرشدكم إليه ؟
قصة لوط عليه السلام وإهلاك قومه
في سفر التكوين أن لوطا عليه السلام ابن هارون أخي إبراهيم صلى الله عليه وسلم وأنه هاجر معه من مسقط رأسهما [ أورالكلدانيين ] في العراق إلى أرض الكنعانيين وسكن إبراهيم في أرض كنعان، ولوط في مدن دائرة الأردن، وقاعدتها سدوم ويليها عمورة فصوغر، وإنما افترقا اتقاء اختلاف رعيانهما وإيقاعهما في الخصومة التي لا ينبغي أن تكون بين الأخوين [ أي العم وابن أخيه ] وكان لوط عليه السلام في سدوم ويظن الكثيرون من الباحثين أن بحيرة لوط قد عمرت موضعها بعد الخسف فلا يعلم موضعه بالضبط. وقيل إنه عثر على آثارها في هذا العهد.
﴿ ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب ( ٧٧ ) وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال يا قوم بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد ( ٧٨ ) قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد ( ٧٩ ) قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد ( ٨٠ ) ﴾.
هذه الآيات الأربع في إهراع قوم لوط إليه للاعتداء على ضيفه وسوء حاله معهم
﴿ قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق ﴾ فإنهن محرمات علينا في دينك، أو ينفون أن الحق عندهم نكاح الذكور مستشهدين بعلمه به تهكما، أو الحق هنا الحاجة والأرب، المعنى لقد علمت من قبل أنه ليس لنا في بناتك من حاجة أو رغبة في تزوجهن فتصرفنا بعرضهن علينا عما نريده، أو لقد علمت الذي لنا في نسائنا اللواتي تسميهن بناتك من حق الاستمتاع وما نحن عليه معهن فلا معنى لعرضك إياهن علينا لصرفنا عما نريده ﴿ وإنك لتعلم ما نريد ﴾ من الاستمتاع بالذكر وإننا لا نؤثر عليه شيئا. أي تعرف ذلك حق المعرفة لا ترتاب فيه، فلم تحاول صدنا عنه ؟ فعلم أنهم مصرون على إرادتهم فماذا فعل ؟
قصة لوط عليه السلام وإهلاك قومه
في سفر التكوين أن لوطا عليه السلام ابن هارون أخي إبراهيم صلى الله عليه وسلم وأنه هاجر معه من مسقط رأسهما [ أورالكلدانيين ] في العراق إلى أرض الكنعانيين وسكن إبراهيم في أرض كنعان، ولوط في مدن دائرة الأردن، وقاعدتها سدوم ويليها عمورة فصوغر، وإنما افترقا اتقاء اختلاف رعيانهما وإيقاعهما في الخصومة التي لا ينبغي أن تكون بين الأخوين [ أي العم وابن أخيه ] وكان لوط عليه السلام في سدوم ويظن الكثيرون من الباحثين أن بحيرة لوط قد عمرت موضعها بعد الخسف فلا يعلم موضعه بالضبط. وقيل إنه عثر على آثارها في هذا العهد.
﴿ ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب ( ٧٧ ) وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال يا قوم بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد ( ٧٨ ) قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد ( ٧٩ ) قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد ( ٨٠ ) ﴾.
هذه الآيات الأربع في إهراع قوم لوط إليه للاعتداء على ضيفه وسوء حاله معهم
﴿ قال لو أن لي بكم قوة ﴾ أي قال لوط لأضيافه حينئذ : لو أن لي بكم قوة تقاتل معي هؤلاء القوم، وتدفع شرهم لقاتلتهم، أو أتمنى لو أن لي بكم قوة ألقاهم بها، أو قال هذا لقومه، والمعنى كما قال في الكشاف : لو قويت عليكم بنفسي
﴿ أو آوي إلى ركن شديد ﴾ من أصحاب العصبيات القوية الذين يحمون اللاجئين ويجيرون المستجيرين [ كزعماء العرب ] تمنى ذلك لأنه لم يكن منهم فيعتز بهم، وأن سماهم قومه بمعنى أهل جواره ووطنه الجديد، وإنما هو غريب جاء مع عمه من أور الكلدانيين في العراق.
ويرجح الأول جواب الملائكة له، وقد رأوا شدة كربه وما آلت إليه حاله وهو :{ قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يتلفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب ( ٨١ )
قصة لوط عليه السلام وإهلاك قومه
في سفر التكوين أن لوطا عليه السلام ابن هارون أخي إبراهيم صلى الله عليه وسلم وأنه هاجر معه من مسقط رأسهما [ أورالكلدانيين ] في العراق إلى أرض الكنعانيين وسكن إبراهيم في أرض كنعان، ولوط في مدن دائرة الأردن، وقاعدتها سدوم ويليها عمورة فصوغر، وإنما افترقا اتقاء اختلاف رعيانهما وإيقاعهما في الخصومة التي لا ينبغي أن تكون بين الأخوين [ أي العم وابن أخيه ] وكان لوط عليه السلام في سدوم ويظن الكثيرون من الباحثين أن بحيرة لوط قد عمرت موضعها بعد الخسف فلا يعلم موضعه بالضبط. وقيل إنه عثر على آثارها في هذا العهد.
﴿ ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب ( ٧٧ ) وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال يا قوم بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد ( ٧٨ ) قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد ( ٧٩ ) قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد ( ٨٠ ) ﴾.
هذه الآيات الأربع في إهراع قوم لوط إليه للاعتداء على ضيفه وسوء حاله معهم
﴿ قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فاسر بأهلك بقطع من الليل ولا يتلفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب ( ٨١ ) فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها فأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود ( ٨٢ ) مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد ( ٨٣ ) ﴾
هذه الآيات الثلاث في إنجاء لوط بأهله إلا امرأته وإهلاك قومه.
﴿ قالوا يا لوط إنا رسل ربك ﴾ من ملائكته أرسلنا لتنجيتك من شرهم وإهلاكهم.
﴿ لن يصلوا إليك ﴾ بسوء في نفسك ولا فينا، وحينئذ طمس الله أعينهم فلم يعودوا يبصرون لوطا ولا من معه كما قال تعالى :﴿ ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم ﴾ [ القمر : ٣٧ ] فانقلبوا عميانا يتخبطون.
﴿ فاسر بأهلك بقطع من الليل ﴾ أي فاخرج من هذه القرية أو القرى مصحوبا بأهلك بطائفة من الليل تكفي لتجاوز حدود هؤلاء القوم. والسرى بالضم والإسراء في الليل كالسير في النهار، قرئ أسر بقطع الهمزة ووصلها منهما حيث وقعت في القرآن وفي سورة الذاريات ﴿ فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين ﴾ [ الذاريات : ٣٥، ٣٦ ].
﴿ ولا يلتفت منكم أحد ﴾ إلى ما وراءه لئلا يرى العذاب فيصيبه، وفي سورة الحجر ﴿ وامضوا حيث تؤمرون ﴾ [ الحجر : ٦٥ ] وقد بينه لهم الملائكة.
﴿ إلا امرأتك ﴾ وكان كافرة خائنة ضلعها مع القوم.
﴿ إنه مصيبها ما أصابهم ﴾ أي مقضي هذا عليها فهو واقع لا بد منه. قرئ امرأتك بالنصب وبالرفع.
﴿ إن موعدهم الصبح ﴾ أي موعد عذابهم يبتدئ من طلوع الفجر وينتهي بشروقها كما قال :﴿ فأخذتهم الصيحة مشرقين ﴾ [ الحجر : ٧٣ ] وهذا تعليل الإسراء ببقية من الليل كما قلنا.
﴿ أليس الصبح بقريب ﴾ أي موعد قريب لم يبق له إلا ليلة واحدة تنجو فيها بأهلك وهذا تقرير مؤكد لما قبله وجواب عن استعجال لوط لهلاكهم وحكمته أنهم يكونون مجتمعين فيه من مساكنهم فلا يفلت أحد منهم.
قصة لوط عليه السلام وإهلاك قومه
في سفر التكوين أن لوطا عليه السلام ابن هارون أخي إبراهيم صلى الله عليه وسلم وأنه هاجر معه من مسقط رأسهما [ أورالكلدانيين ] في العراق إلى أرض الكنعانيين وسكن إبراهيم في أرض كنعان، ولوط في مدن دائرة الأردن، وقاعدتها سدوم ويليها عمورة فصوغر، وإنما افترقا اتقاء اختلاف رعيانهما وإيقاعهما في الخصومة التي لا ينبغي أن تكون بين الأخوين [ أي العم وابن أخيه ] وكان لوط عليه السلام في سدوم ويظن الكثيرون من الباحثين أن بحيرة لوط قد عمرت موضعها بعد الخسف فلا يعلم موضعه بالضبط. وقيل إنه عثر على آثارها في هذا العهد.
﴿ ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب ( ٧٧ ) وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال يا قوم بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد ( ٧٨ ) قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد ( ٧٩ ) قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد ( ٨٠ ) ﴾.
هذه الآيات الأربع في إهراع قوم لوط إليه للاعتداء على ضيفه وسوء حاله معهم
﴿ قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فاسر بأهلك بقطع من الليل ولا يتلفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب ( ٨١ ) فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها فأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود ( ٨٢ ) مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد ( ٨٣ ) ﴾
هذه الآيات الثلاث في إنجاء لوط بأهله إلا امرأته وإهلاك قومه.
﴿ فلما جاء أمرنا ﴾ أي عذابنا أو موعده.
﴿ جعلنا عليها سافلها ﴾ أي قلبنا أرضها أو قراها كلها وخسفنا بها الأرض، وسنة الله تعالى في خسف الأرض في قطر من الأقطار أن يحدث تحتها فراغ بقدرها بسبب تحول الأبخرة التي في جوفها بمشيئته وقدرته، فينقلب ما فوق إما مستويا وإما مائلا إلى جانب من الجوانب إن كان الفراغ تحته أوسع، وفي بعض هذه الأحوال يكون عاليها سافلها، ويجوز أن يكون معنى جعل عاليها سافلها إن ما كان سطحا لها هبط وغار فكان سافلها وحل محله غيره من اليابسة المجاورة أو من الماء، والمرجح عند علماء الأرض أن قرى لوط التي خسف بها تحت الماء المعروف ببحر لوط أو بحيرة لوط، وقيل من عهد قريب إن الباحثين عثروا على بعض آثارها كما تقدم.
﴿ وأمطرنا عليها ﴾ أي قبل القلب، أو في أثنائه، وحكمته أن يصيب الشذاذ المتفرقين من أهلها.
﴿ حجارة من سجيل ﴾ وفي سورة الذاريات ﴿ لنرسل عليهم حجارة من طين ﴾ [ الذاريات : ٣٣ ]. فالمراد إذا حجارة من مستنقع، وقال مجاهد : أولها حجر وآخرها طين، وقال الحسن : أصل الحجارة طين متحجر، والمعقول ما قلنا، وهو موافق لقول الراغب : السجيل حجر وطين مختلط، أصله فارسي فعرب، وقيل : إنه من النار، وأصله سجين، فأبدلت نونه لاما، وهو موافق لرواية سفر التكوين، فإن صح يكون من بركان من البراكين، ومثل هذا المطر يحصل عادة بإرسال الله إعصارا من الريح يحمل ذلك من بعض المستنقعات أو الأنهار فتلقيها حيث يشاء، ولا يمنع أن يكون هذا بتدبير الملائكة الموكلين بالأرض.
﴿ منضود ﴾ أي متراكب بعضه في أثر بعض يقع طائفة بعد طائفة.
قصة لوط عليه السلام وإهلاك قومه
في سفر التكوين أن لوطا عليه السلام ابن هارون أخي إبراهيم صلى الله عليه وسلم وأنه هاجر معه من مسقط رأسهما [ أورالكلدانيين ] في العراق إلى أرض الكنعانيين وسكن إبراهيم في أرض كنعان، ولوط في مدن دائرة الأردن، وقاعدتها سدوم ويليها عمورة فصوغر، وإنما افترقا اتقاء اختلاف رعيانهما وإيقاعهما في الخصومة التي لا ينبغي أن تكون بين الأخوين [ أي العم وابن أخيه ] وكان لوط عليه السلام في سدوم ويظن الكثيرون من الباحثين أن بحيرة لوط قد عمرت موضعها بعد الخسف فلا يعلم موضعه بالضبط. وقيل إنه عثر على آثارها في هذا العهد.
﴿ ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب ( ٧٧ ) وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال يا قوم بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد ( ٧٨ ) قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد ( ٧٩ ) قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد ( ٨٠ ) ﴾.
هذه الآيات الأربع في إهراع قوم لوط إليه للاعتداء على ضيفه وسوء حاله معهم
﴿ قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فاسر بأهلك بقطع من الليل ولا يتلفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب ( ٨١ ) فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها فأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود ( ٨٢ ) مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد ( ٨٣ ) ﴾
هذه الآيات الثلاث في إنجاء لوط بأهله إلا امرأته وإهلاك قومه.
﴿ مسومة عند ربك ﴾ لها سومة، أي علامة خاصة في علم ربك أيها الرسول، أي أمطرناها خاصة بها لا تصيب غير أهلها، أو هي من قولهم : سومت فلانا في مالي أو في الأمر إذا حكمته فيه، وخليته وما يريد لا تثنى له يد في تصرفه، وقد ظهر لي هذا المعنى الآن من مراجعة المجاز الأساس، والمعنى أنه سخرها عليهم وحكمها في إهلاكهم لا يمنعها منه شيء، كما قال في الملائكة التي أمد الله المؤمنين في غزوة بدر :[ مسومين ]، وزعم بعض المفسرين أن هذا التسويم كان حسيا بخطوط في ألوانها، أو أمثال الخواتيم عليها أو بأسماء أهلها، ولكن هذا من أمور الغيب لا يثبت إلا بنص عن المعصوم ولا نص، وما قلناه مفهوم من اللفظ، ومعقول في نفسه ليس فيه رجم بالغيب.
﴿ وما هي من الظالمين ببعيد ﴾ أي وما هذه العقوبة أو القرى أو الأرض التي حل بها العذاب المخزي بمكان بعيد المسافة من مشركي مكة الظالمين لأنفسهم بتكذيبك والتماري بنذرك أيها الرسول، بل هي قريبة منهم واقعة على طريقهم في رحلة الصيف إلى الشام كما قال :﴿ فأخذتهم الصيحة مشرقين فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل إن في ذلك لآيات للمتوسمين وإنها لبسبيل مقيم ﴾ [ الحجر : ٧٣، ٧٦ ] أي في طريق ثابت معروف بين المدينة والشام، وقال في سورة الصافات بعد ذكر هلاكهم :﴿ وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون ﴾ [ الصافات : ١٣٧، ١٣٨ ] قال الجلال :" وإنكم لتمرون عليهم " على آثارهم ومنازلهم في أسفاركم.
[ مصبحين ] أي وقت الصباح، يعني بالنهار، " وبالليل أفلا تعقلون " ما حل بهم فتعتبروا به اه.
والتعبير بصفة الظالمين وكون العقوبة آية مرادة لا مصادفة، يجعل العبارة عبرة لكل الأقوام الظالمة في كل زمان، وإن كان العذاب يختلف باختلاف الأحوال من أنواع الظلم وكثرته وعمومه وما دونهما، وقيل : إن المعنى المتبادر أن هذه العاقبة ليست ببعيدة من الظالمين من قوم لوط بل نزلت بهم عن استحقاق، أو من مشركي مكة، وقدم هذا من قدمه من المفسرين وأخر ما قلناه لكنه هو الذي تؤيده شواهد القرآن.
وفي خرافات المفسرين المروية عن الإسرائيليات أن جبريل عليه السلام قلعها من تخوم الأرض بجناحه وصعد بها إلى عنان السماء حتى سمع أهل السماء أصوات الكلاب والدجاج فيها ثم قلبها قلبا مستويا فجعل عاليها سافلها، وهذا تصور مبني على اعتقاد متصوره أن الأجرام السماوية المأهولة بالسكان مما يمكن أن يقرب منهم سكان الأرض وما فيها من الحيوان ويبقون أحياء. وقد ثبت بالمشاهدة والاختبار الفعلي في هذه الأيام التي نكتب هذا فيها أن الطيارات والمناطيد التي تحلق في الجو تصل إلى حيث يخف ضغط الهواء ويستحيل حياة الناس فيها، وهم يصنعون أنواعا منها يضعون فيها من أكسجين الهواء ما يكفي استنشاقه وتنفسه للحياة في طبقات الجو العليا ويصعدون فيها، وقد أشير في الكتاب العزيز إلى ما يكون للتصعيد في جو السماء من التأثير في ضيق الصدر من عسر التنفس بقوله تعالى :﴿ فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء ﴾ [ الأنعام : ١٢٥ ].
فإن قيل : إن هذا الفعل المروي عن جبريل عليه السلام من الممكنات العقلية وكان وقوعه من خوارق العادات، فلا يصح أن يجعل تصديقه موقوفا على ما عرف من سنن الكائنات، قلت : نعم ولكن الشرط الأول لقبول الرواية في أمر جاء على غير السنن والنواميس التي أقام الله بها نظام العالم من عمران وخراب أن تكون الرواية عن وحي إلهي نقل بالتواتر عن المعصوم أو بسند صحيح متصل الإسناد لا شذوذ فيه ولا علة على الأقل، ولم يذكر في كتاب الله تعالى ولم يرد فيه حديث مرفوع إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا تظهر حكمة الله فيه، وإنما روي عن بعض التابعين دون الصحابة، ولا شك أنه من الإسرائيليات، ومما قالوه فيها أن عدد أهلها كان أربعة آلاف ألف، وبلاد فلسطين كلها لا تسع هذا العدد، فأين كان هؤلاء الملايين يسكنون من تلك القرى الأربع ؟
وهذه الإسرائيليات المشوهة لهذه القصة كغيرها من قصص الأنبياء مخالفة لما عند باثيها من زنادقة اليهود في توراتهم، وملخص ما في الفصل التاسع من سفر التكوين الخاص بلوط عليه السلام وقومه أن الملكين اللذين أتياه بصورة رجلين ضربا بالعمى جميع قومه وقالا له " أصهارك وبنيك وبناتك وكل من لك في المدينة أخرج من هذا المكان* لأننا مهلكان أهل هذا المكان إذ قد عظم صراخهم أمام الرب فأرسلنا الرب لنهلكه* فخرج لوط وكلم أصهاره الآخذين بناته وقال : قوموا واخرجوا من هذا المكان لأن الرب مهلك المدينة فكان كمازح في أعين أصهاره * ولما طلع الفجر كان الملاكان يعجلون لوطا قائلين قم خذ امرأتك وابنتيك الموجودتين لئلك تهلك بإثم المدينة، ثم أخرجاه ودفعاه إلى مدينة اسمها صوغر وعداه بعدم إهلاكها ومعه امرأته وبنتاه وأمراه بأن لا ينظر وراءه ثم قال :[ وإذ أشرقت الشمس على الأرض دخل لوط إلى صوغر فأمطر الرب على سدوم وعمورة كبريتا ونارا من عند الرب من السماء*وقلب تلك المدن وكل الدائرة وجميع سكان المد ونبات الأرض * ونظرت امرأته من ورائه فصارت عمود ملح* وبكر إبراهيم في الغد إلى المكان الذي وقف فيه أمام الرب * وتطلع نحو سدوم وعمورة ونحو كل أرض الدائرة ونظر وإذا دخان الأرض يصعد كدخان الأتون ].
ومقتضى هذه الرواية أنه لم ينج مع لوط إلا ابنتان له، وقد ختم الفصل بما يتبرأ منه المسلمون كغيره مما يخالف القرآن، وهو أن ابنتي لوط الناجيتين- وكانت إحداهما بكرا والأخرى ثيبا- وأنهما أسكرتا أباهما بالخمر مرة بعد أخرى، وباتتا معه فحملتا منه وولدتا أولادا، وبقي نسلهما منه متسلسلا - يقول الكاتب :[ إلى اليوم ] - وهم الموابيون وبنو عمون ! ! فمن كتب هذا ؟ ومتى كتبه ؟ هذا ما لا يعلمه إلا الله تعالى، وكل ما خالف القرآن فهو باطل، وما فسرناه به هو الظاهر المتبادر.
قصة شعيب عليه السلام مع قومه
تقدمت قصة شعيب في بضع آيات من سورة الأعراف من الآية ٨٥-٩٢ وها هي ذي نسقت هنا في اثنتي عشرة آية من الآية ٨٤-٩٥ وفي كل منها من الحكم والأحكام والمواعظ ما ليس في الأخرى، مع السلامة من الاختلاف والتفاوت والتعارض، وقد تكلمنا على نسبه وما ورد فيه وفي قومه في تفسيرها من سورة الأعراف فتراجع في جزء التفسير الثامن.
﴿ وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ( ٨٤ ) ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين ( ٨٥ ) بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ ( ٨٦ ) ﴾
هذه الآيات الثلاث في تبليغ شعيب قومه الدعوة، وهي الأمر بتوحيد الله في العبادة، والنهي عن أشد الرذائل فشوا فيهم والأمر بالفضيلة التي تقابلها.
﴿ وإلى مدين أخاهم شعيبا ﴾ معطوف على ما تقدمه مثله، أي وأرسلنا إلى أهل مدين أخاهم في النسب شعيبا.
﴿ قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ﴾ اعبدوا الله وحده ولا تعبدوا معه غيره، ما لكم من إله غيره فيعبد، وهذا ما كان يدعو إليه جميع رسل الله كما تقدم. ثم انتقل إلى ما هو خاص بهم من الأحكام العملية فقال ﴿ ولا تنقصوا المكيال والميزان ﴾ فيما تكيلون وما تزنون من المبيعات كما هي عادتكم وكانوا تجارا مطففين.
﴿ إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ﴾ [ المطففين : ٢، ٣ ] أي ينقصون.
﴿ إني أراكم بخير ﴾ أي بثروة وسعة في الرزق يجب أن ترفع أنفسكم عن دناءة بخس حقوق الناس وأكل أموالهم بالباطل بما تنقصون من المبيع من مكيل وموزون، وهو كفر لنعمة الله عليكم بالغنى والسعة، والواجب عليكم شكرها بالزيادة على سبيل الإحسان، فالجملة تعليل للنهي عن النقصان.
﴿ وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ﴾ أي عذاب يوم محيط ما يقع فيه من العذاب بكم إذا أنتم أصررتم على شرككم بالله بعبادة غيره، وكفركم بنعمه بنقص المكيال والميزان، وهذا اليوم يصدق بيوم القيامة ويوم عذاب الاستئصال.
قصة شعيب عليه السلام مع قومه
تقدمت قصة شعيب في بضع آيات من سورة الأعراف من الآية ٨٥-٩٢ وها هي ذي نسقت هنا في اثنتي عشرة آية من الآية ٨٤-٩٥ وفي كل منها من الحكم والأحكام والمواعظ ما ليس في الأخرى، مع السلامة من الاختلاف والتفاوت والتعارض، وقد تكلمنا على نسبه وما ورد فيه وفي قومه في تفسيرها من سورة الأعراف فتراجع في جزء التفسير الثامن.
﴿ وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ( ٨٤ ) ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين ( ٨٥ ) بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ ( ٨٦ ) ﴾
هذه الآيات الثلاث في تبليغ شعيب قومه الدعوة، وهي الأمر بتوحيد الله في العبادة، والنهي عن أشد الرذائل فشوا فيهم والأمر بالفضيلة التي تقابلها.
﴿ ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ﴾ لا ينسين القارئ ما تقدم من حكمة تكرار النداء بلقب قومي من الاستعطاف، وهذا أمر بالواجب بعد النهي عن ضده لتأكيده، وتنبيه لكون عدم التعمد للنقص لا يكفي لتحري الحق، بل يجب معه تحري الإيفاء بالعدل والسوية من غير زيادة ولا نقص، وإن كان الثقة به لا تحصل أو لا تتيقن إلا بزيادة قليلة، فهي قد تدخل في باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وتعمدها في الكيل أو الوزن للناس سخاء فهو فضيلة مندوب، وفي الاكتيال أو الوزن عليهم طمع فهو رذيلة محظور.
﴿ ولا تبخسوا الناس أشياءهم ﴾ هذا أعم مما سبقه فإن البخس يشمل النقص والعيب في كل شيء، يقال : بخسه [ من باب نفع ] حقه وبخسه ماله وبخسه علمه وفضله. والأشياء جمع شيء وهو أعم الألفاظ وجمعه يشمل ما للأفراد وما للجماعات والأقوام من مكيل وموزون ومعدود ومحدود بالحدود الحسية ومن حقوق مادية ومعنوية، وقد فصلنا هذا وبينا العبرة فيه بتعامل أهل الشرق مع أهل الغرب في هذا العصر في تفسير سورة الأعراف [ ٨ : ٥٨ ] فتراجع في الجزء الثامن.
﴿ ولا تعثوا في الأرض مفسدين ﴾ أي ولا تفسدوا فيها حال كونكم متعمدين للإفساد، يقال عثي يعثي [ كرضي يرضى ] عثيا بكسرتين وتشديد الياء- وعثا يعثو [ كغزا يغزو ] عثوا بضمتين والتشديد أيضا – أفسد، وهذا نهي آخر عام يشمل غير ما تقدم كقطع الطرق وتهديد الأمن والخروج على السلطان وقطع الشجر وقتل الحيوان، وقيده بقصد الإفساد لأن بعض ما هو إفساد في الظاهر قد يراد به الإصلاح أو دفع أخف الضررين كالذي يقع في الحرب من قطع الأشجار، أو فتح سدود الأنهار، أو إحراق بعض الأشياء بالنار، ومنه خرق الخضر للسفينة التي كانت لمساكين يعملون في البحر لمنع الملك الظالم الذي وراءهم من أخذها إذا أعجبته. والإفساد تعطيل يشمل مصالح الدنيا وصفات النفس وأخلاقها وأمور الدين، وكل هذه المفاسد فاشية في هذا العصر.
قصة شعيب عليه السلام مع قومه
تقدمت قصة شعيب في بضع آيات من سورة الأعراف من الآية ٨٥-٩٢ وها هي ذي نسقت هنا في اثنتي عشرة آية من الآية ٨٤-٩٥ وفي كل منها من الحكم والأحكام والمواعظ ما ليس في الأخرى، مع السلامة من الاختلاف والتفاوت والتعارض، وقد تكلمنا على نسبه وما ورد فيه وفي قومه في تفسيرها من سورة الأعراف فتراجع في جزء التفسير الثامن.
﴿ وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ( ٨٤ ) ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين ( ٨٥ ) بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ ( ٨٦ ) ﴾
هذه الآيات الثلاث في تبليغ شعيب قومه الدعوة، وهي الأمر بتوحيد الله في العبادة، والنهي عن أشد الرذائل فشوا فيهم والأمر بالفضيلة التي تقابلها.
﴿ بقية الله خير لكم ﴾ أي ما يبقى لكم بعد إيفاء الكيل والميزان من الربح الحلال، خير لكم مما تأخذونه بالتطفيف ونحوه من الحرام، أو بقية الله الأعمال الصالحة التي يبقى أثرها الحسن في الدنيا وثوابها في الآخرة، وقال ابن عباس : هي رزق الله، ومجاهد : طاعة الله، والربيع : وصية الله. والفراء : مراقبة الله، وقتادة : حظكم من الله.
﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ به حق الإيمان، فإن الإيمان هو الذي يطهر النفس من دناءة الطمع، ويحليها بفضيلة القناعة والكرم والسخاء.
﴿ وما أنا عليكم بحفيظ ﴾ فأحفظكم من هذه المعاصي والرذائل أو أعاقبكم عليها، وإنما أنا مبلغ عليم وناصح أمين.
قصة شعيب عليه السلام مع قومه
تقدمت قصة شعيب في بضع آيات من سورة الأعراف من الآية ٨٥-٩٢ وها هي ذي نسقت هنا في اثنتي عشرة آية من الآية ٨٤-٩٥ وفي كل منها من الحكم والأحكام والمواعظ ما ليس في الأخرى، مع السلامة من الاختلاف والتفاوت والتعارض، وقد تكلمنا على نسبه وما ورد فيه وفي قومه في تفسيرها من سورة الأعراف فتراجع في جزء التفسير الثامن.
﴿ وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ( ٨٤ ) ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين ( ٨٥ ) بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ ( ٨٦ ) ﴾
هذه الآيات الثلاث في تبليغ شعيب قومه الدعوة، وهي الأمر بتوحيد الله في العبادة، والنهي عن أشد الرذائل فشوا فيهم والأمر بالفضيلة التي تقابلها.
﴿ قالوا يا شعيب أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد ( ٨٧ ) قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ( ٨٨ ) ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد ( ٨٩ ) واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود ( ٩٠ ) ﴾
هذه الآيات استئناف بياني كأمثالها من المراجعات في مناقشة قوم شعيب له بالآراء التقليدية في التدين والإيمان، والنظريات الشيطانية في الحرية والأموال.
﴿ قالوا يا شعيب أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا ﴾ قرأ جمهور القراء [ صلواتك ] بالجمع، واستدل بها على أنه كان كثير الصلاة، وحمزة والكسائي [ صلاتك ] بالإفراد، والاستفهام للإنكار، والاستهزاء به وبعبادته عليه السلام، والصلاة تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر بما تكسبه من مراقبة الله تعالى، ومن نهى نفسه كان جديرا بأن ينهى غيره، يعنون أهذه الصلاة التي تداوم عليها تقتضي بتأثيرها في نفسك أن تحملنا على ما ترك ما كان عليه آباؤنا من عبادة هذه الأصنام التي كانوا يعبدونها تقربا إلى الله بها، وتشفعا عنده بجاه الأرواح التي تحتلها، أو الأولياء التي وضعت لذكارهم، وما أنت خير منهم، وأجدر باتباعهم.
﴿ أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ﴾ من تنمية واستغلال، وتصرف في الكسب من الناس بما نستطيع من حذق واحتيال، وخديعة واهتبال، وهو حجر على حريتنا، وتحكم في ذكائنا ؟ ردوا بهذا وبما قبله عليه دعوته من جانبيها الديني والدنيوي نشرا مرتبا على لف، ونقضا لما بنيت عليه من حجة وعطف، ولذلك ذيلوه بما يشير إلى هذا النقض، فقالوا بصد التعريض والتنديد.
﴿ إنك لأنت الحليم الرشيد ﴾ الحليم العاقل الكامل في أناته وترويه فلا يتعجل بأمر قبل الثقة من صحته، والرشيد الراسخ في هدايته وهديه، فلا يأمر إلا بما استبان به من الخير والرشد، ووصفه بهما وصفا مركبا بالجملة الاسمية وإن واللام في تعليل إنكارهم لما أمرهم به وما نهاهم عنه كلاهما صريح في الاستهزاء به، والتعريض بما يعتقدون من اتصافه بضدهما، وهو الجهالة والسفه في الرأي، والغواية في الفعل، بهوس الصلاة، قال ابن عباس [ رضي الله عنه ] : يقولون إنك لست بحليم ولا رشيد.
قصة شعيب عليه السلام مع قومه
تقدمت قصة شعيب في بضع آيات من سورة الأعراف من الآية ٨٥-٩٢ وها هي ذي نسقت هنا في اثنتي عشرة آية من الآية ٨٤-٩٥ وفي كل منها من الحكم والأحكام والمواعظ ما ليس في الأخرى، مع السلامة من الاختلاف والتفاوت والتعارض، وقد تكلمنا على نسبه وما ورد فيه وفي قومه في تفسيرها من سورة الأعراف فتراجع في جزء التفسير الثامن.
﴿ وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ( ٨٤ ) ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين ( ٨٥ ) بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ ( ٨٦ ) ﴾
هذه الآيات الثلاث في تبليغ شعيب قومه الدعوة، وهي الأمر بتوحيد الله في العبادة، والنهي عن أشد الرذائل فشوا فيهم والأمر بالفضيلة التي تقابلها.
﴿ قالوا يا شعيب أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد ( ٨٧ ) قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ( ٨٨ ) ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد ( ٨٩ ) واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود ( ٩٠ ) ﴾
هذه الآيات استئناف بياني كأمثالها من المراجعات في مناقشة قوم شعيب له بالآراء التقليدية في التدين والإيمان، والنظريات الشيطانية في الحرية والأموال.
﴿ قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ﴾ أي يا قومي الذين أنا منهم وهم مني، وأحب لهم ما أحب لنفسي، أخبروني عن شأني وشأنكم إن كنت على حجة واضحة من ربي فيما دعوتكم إليه وما أمرتكم به وما نهيتكم عنه فكان وحيا منه لا رأيا مني. ﴿ ورزقني منه رزقا حسنا ﴾ في كثرته وفي صفته، وهو كسبه بالحلال بدون تطفيف مكيال ولا ميزان، ولا بخس لحق أحد من الناس، فأنا مجرب في الكسب الطيب وما فيه من خير وبركة، لا فقير معدم أخترع الآراء النظرية فيما ليس لي خبرة به، أي أرأيتم والحالة هذه ماذا أفعل ؟ وماذا أقول لكم غير الذي قلته عن نبوة ربانية، وتجارب غنى مالية ؟ هل يسعني الكتمان أو التقصير في البيان ؟
﴿ وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ﴾ أي وإنني على بينتي ونعمتي ما أريد أن أخالفكم في ذلك مائلا إلا ما أنهاكم عنه مؤثرا لنفسي عليكم، بل أنا مستمسك به قبلكم. وأصل المخالفة أن يأخذ كل واحد طريقا غير طريق الآخر في قوله أو فعله أو حاله، وأن يقال خالفه في الشيء، فإذا خالفه فيما هو مول عنه تارك له قيل خالف إليه، وإذا خالفه فيما هو مقبل عليه قيل خالفه عنه، وفي كل منهما تضمين الفعل معنى الميل إليه أو عنه، أو الرغبة فيه أو عنه. ومن الثاني قوله تعالى :﴿ فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ﴾ [ النور : ٦٣ ] أي يخالفون الرسول راغبين عن أمره مائلين عنه.
﴿ إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت ﴾ أي ما أريد إلا الإصلاح العام فيما آمر به وفيما أنهى عنه ما دمت أستطيعه لأنه أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، ليس لي هوى ولا منفعة شخصية خاصة بي فيهما، ولولا ذلك لما فعلته. قال القاضي البيضاوي : ولهذه الأجوبة الثلاثة على هذا النسق شأن وهو التنبيه على أن العاقل يجب أن يراعي في كل ما يأتيه ويذره أحد حقوق ثلاثة : أهمها وأعلاها حق الله تعالى، وثانيها حق النفس، وثالثها حق الناس، وكل ذلك يقتضي أن آمركم بما أمرتكم وأنهاكم عما نهيتكم. وما مصدرية واقعة موقع الظرف، وقيل خبرية بدل من الإصلاح، أي المقدر الذي استطعته، أو إصلاح ما استطعته فحذف المضاف اه. وفي هذا إثبات لعقله ورويته ولرشده وحكمته، وهو إبطال لتهكمهم واستهزائهم بلقب الحليم الرشيد، والنبي فوق ذلك.
﴿ وما توفيقي إلا بالله ﴾ التوفيق ضد الخذلان، وهو الفوز والفلاح في إصابة الإصلاح، وكل عمل صالح وسعي حسن، فإن حصوله يتوقف على التوفيق بين شيئين : أحدهما كسب العالم وطلبه الشيء من طريقه، وثانيهما موافقة الأسباب الكونية والخارجية التي يتوقف عليها النجاح في كسبه وسعيه، وتسخيرها إنما يكون من الله وحده، والمعنى : وما توفيقي لإصابة ذلك فيما أستطيعه منه إلا بحول الله وقوته، وفضله ومعونته، وأعلاها ما خصني به دونكم من نبوته ورسالته.
﴿ عليه توكلت ﴾ في أداء ما كلفني من تبليغكم ما أرسلت به، لا على حولي وقوتي.
﴿ وإليه أنيب ﴾ أي وإليه وحده أرجع في كل ما نابني من الأمور في الدنيا، وإلى الجزاء على أعمالي في الآخرة، فأنا لا أرجو منكم أجرا، ولا أخاف منكم ضرا.
قصة شعيب عليه السلام مع قومه
تقدمت قصة شعيب في بضع آيات من سورة الأعراف من الآية ٨٥-٩٢ وها هي ذي نسقت هنا في اثنتي عشرة آية من الآية ٨٤-٩٥ وفي كل منها من الحكم والأحكام والمواعظ ما ليس في الأخرى، مع السلامة من الاختلاف والتفاوت والتعارض، وقد تكلمنا على نسبه وما ورد فيه وفي قومه في تفسيرها من سورة الأعراف فتراجع في جزء التفسير الثامن.
﴿ وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ( ٨٤ ) ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين ( ٨٥ ) بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ ( ٨٦ ) ﴾
هذه الآيات الثلاث في تبليغ شعيب قومه الدعوة، وهي الأمر بتوحيد الله في العبادة، والنهي عن أشد الرذائل فشوا فيهم والأمر بالفضيلة التي تقابلها.
﴿ قالوا يا شعيب أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد ( ٨٧ ) قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ( ٨٨ ) ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد ( ٨٩ ) واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود ( ٩٠ ) ﴾
هذه الآيات استئناف بياني كأمثالها من المراجعات في مناقشة قوم شعيب له بالآراء التقليدية في التدين والإيمان، والنظريات الشيطانية في الحرية والأموال.
﴿ ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح ﴾ قرأ الجمهور :[ يجرمنكم ] بفتح الياء وكسر الراء من جرم الذنب أو المال بمعنى كسبه، وابن كثير : بضمها، من أجرمته الذنب إذا جعلته جارما له. فجرمه وأجرمه ككسبه هو، وكسبه إياه غيره، يتعدى الثلاثي من كل منهما بنفسه إلى مفعول واحد وإلى مفعولين كالرباعي، والشقاق شدة الخلاف الذي يكون به أحد المختلفين في شق وجانب غير الذي يكون فيه الآخر، أي لا تحملنكم وتكسبنكم مشاقتكم وعداوتكم لي أن تفضي بالإصرار عليها إلى إصابتكم بمثل ما أصاب مكذبي الرسل قبلكم : قوم نوح أو هود أو صالح من عذاب الخزي والاستئصال.
﴿ وما قوم لوط منكم ببعيد ﴾ زمانا ولا مكانا ولا إجراما، قال الزمخشري : يجوز أن يستوي في بعيد وقريب وقليل وكثير المذكر والمؤنث لورودها على وزن المصادر كالصهيل والشهيق ونحوهما. وقدر البعيد قبل ذلك موصوفا فقال : بشيء بعيد، وقدر غيره : وما إهلاك قوم لوط الخ، ويقاس عليه مثله.
قصة شعيب عليه السلام مع قومه
تقدمت قصة شعيب في بضع آيات من سورة الأعراف من الآية ٨٥-٩٢ وها هي ذي نسقت هنا في اثنتي عشرة آية من الآية ٨٤-٩٥ وفي كل منها من الحكم والأحكام والمواعظ ما ليس في الأخرى، مع السلامة من الاختلاف والتفاوت والتعارض، وقد تكلمنا على نسبه وما ورد فيه وفي قومه في تفسيرها من سورة الأعراف فتراجع في جزء التفسير الثامن.
﴿ وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ( ٨٤ ) ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين ( ٨٥ ) بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ ( ٨٦ ) ﴾
هذه الآيات الثلاث في تبليغ شعيب قومه الدعوة، وهي الأمر بتوحيد الله في العبادة، والنهي عن أشد الرذائل فشوا فيهم والأمر بالفضيلة التي تقابلها.
﴿ قالوا يا شعيب أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد ( ٨٧ ) قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ( ٨٨ ) ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد ( ٨٩ ) واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود ( ٩٠ ) ﴾
هذه الآيات استئناف بياني كأمثالها من المراجعات في مناقشة قوم شعيب له بالآراء التقليدية في التدين والإيمان، والنظريات الشيطانية في الحرية والأموال.
﴿ واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه ﴾ أي اطلبوا منه المغفرة لما أنتم عليه من الشرك والمعاصي بتركهما، ثم توبوا إليه كلما وقع منكم معصية، وقد تقدم مثل هذا غير مرة.
﴿ إن ربي رحيم ودود ﴾ هذا تعليل لما قبله، أي عظيم الرحمة للمستغفرين التائبين بمغفرته وعفوه، كثير المودة لهم بإحسانه ونعمه، والمودة في اللغة عطف الصلة، والإكرام بالفعل كما يعلم من استعمالها، وتساهل أو غلط من فسرها بالمحبة، وهذا وعد قفى به على الوعيد الذي قبله، وترك له الخيار فيما يرجحونه منهما بعد إقامة الحجة عليهم، والآية دليل على أن الندم على فعل الفساد والظلم بالتوبة واستغفار الرب تعالى من أسباب خير الدنيا والآخرة، كما تقدم نظيره مكررا في هذه السورة، وكذلك يقتضيان فعل العدل والصلاح اللذين هما سبب العمران والخير في الدنيا، ومغفرة الله ومثوبته في الآخرة، وقد عبر عنهما هنا بما يدل عليهما من صفاته تعالى وهي الرحمة والمودة، وارجع إلى ما عبر به عن فائدة الاستغفار والتوبة في الآية الثالثة و ٥٢ و ٦١ وتأمل هذه البلاغة والتفنن في بيان المعنى الواحد.
قصة شعيب عليه السلام مع قومه
تقدمت قصة شعيب في بضع آيات من سورة الأعراف من الآية ٨٥-٩٢ وها هي ذي نسقت هنا في اثنتي عشرة آية من الآية ٨٤-٩٥ وفي كل منها من الحكم والأحكام والمواعظ ما ليس في الأخرى، مع السلامة من الاختلاف والتفاوت والتعارض، وقد تكلمنا على نسبه وما ورد فيه وفي قومه في تفسيرها من سورة الأعراف فتراجع في جزء التفسير الثامن.
﴿ وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ( ٨٤ ) ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين ( ٨٥ ) بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ ( ٨٦ ) ﴾
هذه الآيات الثلاث في تبليغ شعيب قومه الدعوة، وهي الأمر بتوحيد الله في العبادة، والنهي عن أشد الرذائل فشوا فيهم والأمر بالفضيلة التي تقابلها.
﴿ قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز ( ٩١ ) قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا إن ربي بما تعملون محيط ( ٩٢ ) ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب ( ٩٣ ) ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين ( ٩٤ ) كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود ( ٩٥ ) ﴾
هذه الآيات الخمس في بيان تحول قوم شعيب عن مجادلته بالتي هي أحسن إلى الإهانة والتهديد، ومقابلته إياهم بالإنذار بقرب الوعيد، ونزول العذاب الشديد، ووقوع ذلك بالفعل العتيد.
﴿ قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول ﴾ حققنا في تفسير سورة الأعراف أن الفقه في اللغة أخص من الفهم والعلم، وهو الفهم الدقيق العميق المؤثر في النفس الباعث على العمل، أي ما نفقه كثيرا مما ترمي مما وراء ظواهر أقوالك من بواطنها وتأويلها، كبطلان عبادة آلهتنا، وقبح حرية التصرف في أموالنا، وعذاب محيط يبيدنا، وإصابتنا بمثل الأحداث الجوية التي نزلت بمن قبلنا، كأن أمرها بيدك وتصرفك أو تصرف ربك، يصيب بها من تشاء أو يشاء لأجلك.
﴿ وإنا لنراك فينا ضعيفا ﴾ لا حول ولا قوة تمتنع بها منا إن أردنا أن نبطش بك، وأنت على ضعفك تنذرنا العذاب المحيط الذي لا يفلت منه أحد.
﴿ ولولا رهطك ﴾ أي عشيرتك الأقربون، والرهط الجماعة من الثلاثة إلى السبعة أو العشرة.
﴿ لرجمناك ﴾ لقتلناك شر قتلة، وهي الرمي بالحجارة حتى تدفن فيها.
﴿ وما أنت علينا بعزيز ﴾ أي بذي عزة ومنعة علينا تحول بيننا وبين رجمك، وإنما نعز رهطك ونكرمهم على قلتهم، لأنهم منا وعلى ديننا الذي نبذته وراء ظهرك، وأهنته، ودعوتنا إلى تركه لبطلانه وفساده في زعمك.
قصة شعيب عليه السلام مع قومه
تقدمت قصة شعيب في بضع آيات من سورة الأعراف من الآية ٨٥-٩٢ وها هي ذي نسقت هنا في اثنتي عشرة آية من الآية ٨٤-٩٥ وفي كل منها من الحكم والأحكام والمواعظ ما ليس في الأخرى، مع السلامة من الاختلاف والتفاوت والتعارض، وقد تكلمنا على نسبه وما ورد فيه وفي قومه في تفسيرها من سورة الأعراف فتراجع في جزء التفسير الثامن.
﴿ وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ( ٨٤ ) ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين ( ٨٥ ) بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ ( ٨٦ ) ﴾
هذه الآيات الثلاث في تبليغ شعيب قومه الدعوة، وهي الأمر بتوحيد الله في العبادة، والنهي عن أشد الرذائل فشوا فيهم والأمر بالفضيلة التي تقابلها.
﴿ قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز ( ٩١ ) قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا إن ربي بما تعملون محيط ( ٩٢ ) ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب ( ٩٣ ) ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين ( ٩٤ ) كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود ( ٩٥ ) ﴾
هذه الآيات الخمس في بيان تحول قوم شعيب عن مجادلته بالتي هي أحسن إلى الإهانة والتهديد، ومقابلته إياهم بالإنذار بقرب الوعيد، ونزول العذاب الشديد، ووقوع ذلك بالفعل العتيد.
﴿ قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله ﴾ هذا استفهام إنكاري، أي أرهطي أعز وأكرم عليكم من الله الذي أدعوكم إليه بأمره.
﴿ واتخذتموه وراءكم ظهرياْ ﴾ أي أشركتم به، وجعلتموه كالشيء اللّقا الذي ينبذ وراء الظهر لهوانه على نابذه وعدم حاجته إليه، فينسى حتى لا يحسب له حساب. تقول العرب : جعله بظهر وظهريا، واتخذه ظهريا بالكسر والتشديد، أي نسيا منسيا لا يذكر كأنه غير موجود، وكسر الظاء من تصرفهم في النسب، وكان القوم يؤمنون بالله ويشركون به، ولا عجب من حالهم هذه فإنه شأن أكثر الناس اليوم، لا يراقبون الله في أقوالهم ولا في أعمالهم فيرجوه إذا أحسنوا، ويخافوه إذا أساءوا، أو فيمتنعوا عن الإساءة ويتسابقوا إلى الإحسان ابتغاء مرضاته.
﴿ إن ربي بما تعملون محيط ﴾ علما، فهو يحصيه عليكم ويجزيكم به، وأما رهطي فلا يستطيعون لكم ضررا ولا نفعا.
قصة شعيب عليه السلام مع قومه
تقدمت قصة شعيب في بضع آيات من سورة الأعراف من الآية ٨٥-٩٢ وها هي ذي نسقت هنا في اثنتي عشرة آية من الآية ٨٤-٩٥ وفي كل منها من الحكم والأحكام والمواعظ ما ليس في الأخرى، مع السلامة من الاختلاف والتفاوت والتعارض، وقد تكلمنا على نسبه وما ورد فيه وفي قومه في تفسيرها من سورة الأعراف فتراجع في جزء التفسير الثامن.
﴿ وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ( ٨٤ ) ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين ( ٨٥ ) بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ ( ٨٦ ) ﴾
هذه الآيات الثلاث في تبليغ شعيب قومه الدعوة، وهي الأمر بتوحيد الله في العبادة، والنهي عن أشد الرذائل فشوا فيهم والأمر بالفضيلة التي تقابلها.
﴿ قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز ( ٩١ ) قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا إن ربي بما تعملون محيط ( ٩٢ ) ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب ( ٩٣ ) ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين ( ٩٤ ) كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود ( ٩٥ ) ﴾
هذه الآيات الخمس في بيان تحول قوم شعيب عن مجادلته بالتي هي أحسن إلى الإهانة والتهديد، ومقابلته إياهم بالإنذار بقرب الوعيد، ونزول العذاب الشديد، ووقوع ذلك بالفعل العتيد.
﴿ ويا قوم اعملوا على مكانتكم ﴾ هذا أمر تهديد ووعيد من واثق بقوته بربه، على انفراده في شخصه، وضعف قومه على كثرتهم، وإدلالهم عليه وتهديدهم له بقوتهم، أي اعملوا ما استطعتم على منتهى تمكنكم في قوتكم وعصبيتكم، [ من مكن مكانة كضخم ضخامة إذا تمكن كل التمكن مما هو فيه وبصدده ] أو على مكانكم الذي أنتم فيه، إذ يقال مكان ومكانة [ كمقام ومقامة ]. ﴿ إني عامل ﴾ على مكانتي التي أعطانيها أو وهبنيها ربي من دعوتكم إلى التوحيد وأمركم بالمعروف ونهيكم عن المنكر.
﴿ سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب ﴾ هذا تصريح بالوعيد، بعد التلميح به بالأمر بالعمل المستطاع للتعجيز، وهو جواب سؤال مقدر على طريق الاستئناف البياني، ولذلك لم يقرن بالفاء كقوله في سورة الأنعام [ قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار } [ الأنعام : ١٣٥ ] إذ المراد هنالك أن ما قبل سوف سبب لما بعدها، وقطعها هنا أشد مبالغة في الوعيد والتهديد لاقتضاء تهديد الكفار إياه بالرجم، أن يبالغ في تهديدهم وإظهار عزة الله ورسوله بالحق، وتقديرهما : فإن قلتم ماذا يكون من أمرك ؟ أقل لكم سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويذله ؟ أنا أم أنتم ؟ ومن هو كاذب في قوله ومن هو صادق مني ومنكم ؟ وقد كانوا أنذروه غير الرجم الذي وجد المانع منه : أنذروه إنذارا مؤكدا بالقسم ما حكاه الله عنهم بقوله :﴿ قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب واللذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا ﴾ [ الأعراف : ٨٨ ] الخ فهو يعرض بكذبهم في كل ما صدر عنهم هنا وهناك، موقنا بوقوع ما أنذرهم به، وهو برهان على أنه على بينة من الله به.
﴿ وارتقبوا إني معكم رقيب ﴾ وانتظروا مراقبين لما سيقع، إني معكم مراقب منتظر له. رقيب هنا بمعنى مراقب، كعشير بمعنى معاشر، ويجوز أن يكون بمعنى فاعل.
قصة شعيب عليه السلام مع قومه
تقدمت قصة شعيب في بضع آيات من سورة الأعراف من الآية ٨٥-٩٢ وها هي ذي نسقت هنا في اثنتي عشرة آية من الآية ٨٤-٩٥ وفي كل منها من الحكم والأحكام والمواعظ ما ليس في الأخرى، مع السلامة من الاختلاف والتفاوت والتعارض، وقد تكلمنا على نسبه وما ورد فيه وفي قومه في تفسيرها من سورة الأعراف فتراجع في جزء التفسير الثامن.
﴿ وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ( ٨٤ ) ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين ( ٨٥ ) بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ ( ٨٦ ) ﴾
هذه الآيات الثلاث في تبليغ شعيب قومه الدعوة، وهي الأمر بتوحيد الله في العبادة، والنهي عن أشد الرذائل فشوا فيهم والأمر بالفضيلة التي تقابلها.
﴿ قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز ( ٩١ ) قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا إن ربي بما تعملون محيط ( ٩٢ ) ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب ( ٩٣ ) ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين ( ٩٤ ) كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود ( ٩٥ ) ﴾
هذه الآيات الخمس في بيان تحول قوم شعيب عن مجادلته بالتي هي أحسن إلى الإهانة والتهديد، ومقابلته إياهم بالإنذار بقرب الوعيد، ونزول العذاب الشديد، ووقوع ذلك بالفعل العتيد.
﴿ ولما جاء أمرنا ﴾ بعذابهم الذي أنذروه ﴿ نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا ﴾ خاصة بهم دون أحد من القوم كما تقدم مثله قريبا.
﴿ وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين ﴾ أي أخذتهم صيحة العذاب التي أخذت ثمود، فأصبحوا كلهم ميتين، باركين على ركبهم، مكبين على وجوههم في ديارهم.
ومن دقيق نكت البلاغة في الآيات قوله تعالى في إهلاك مدين هنا ﴿ ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا ﴾ الخ فعطف [ لما ] على ما قبلها بالواو، ومثله في قوم هود، ولكنه عطفها بالفاء في قصة ثمود [ ٦٦ ] وقصة قوم لوط. ووجه هذا الأخير أن الآيتين جاءتا عقب الإنذار بالعذاب واستحقاقه وحلول موعده فعطفتا بالفاء الدالة على التعقيب. وأما عطف مثلهما في قوم هود وقوم شعيب فليس كذلك فعطف بالواو على الأصل في العطف المطلق. أما الأول فظاهر لأنه ليس قبل الآية وعيد بالعذاب، وأما الثاني ففيه وعيد مسوف فيه مقرون بالارتقاب لا الاقتراب، فلا يناسب العطف عليه بالفاء التي تفيد التعقيب بدون انفصال، فهل تصادف مثل هذه الدقائق اللغوية في غير القرآن ؟
قصة شعيب عليه السلام مع قومه
تقدمت قصة شعيب في بضع آيات من سورة الأعراف من الآية ٨٥-٩٢ وها هي ذي نسقت هنا في اثنتي عشرة آية من الآية ٨٤-٩٥ وفي كل منها من الحكم والأحكام والمواعظ ما ليس في الأخرى، مع السلامة من الاختلاف والتفاوت والتعارض، وقد تكلمنا على نسبه وما ورد فيه وفي قومه في تفسيرها من سورة الأعراف فتراجع في جزء التفسير الثامن.
﴿ وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ( ٨٤ ) ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين ( ٨٥ ) بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ ( ٨٦ ) ﴾
هذه الآيات الثلاث في تبليغ شعيب قومه الدعوة، وهي الأمر بتوحيد الله في العبادة، والنهي عن أشد الرذائل فشوا فيهم والأمر بالفضيلة التي تقابلها.
﴿ قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز ( ٩١ ) قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا إن ربي بما تعملون محيط ( ٩٢ ) ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب ( ٩٣ ) ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين ( ٩٤ ) كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود ( ٩٥ ) ﴾
هذه الآيات الخمس في بيان تحول قوم شعيب عن مجادلته بالتي هي أحسن إلى الإهانة والتهديد، ومقابلته إياهم بالإنذار بقرب الوعيد، ونزول العذاب الشديد، ووقوع ذلك بالفعل العتيد.
﴿ كأن لم يغنوا فيها ﴾ أي كأنهم لم يقيموا فيها وقتا من الأوقات.
﴿ ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود ﴾ أي هلاكا لهم وبعدا من رحمة الله كبعد الهلاك واللعنة التي عوقبت بها ثمود من قبلهم، فإنهما من جنس واحد وهو الصيحة كما في الآية ٦٧، وسيأتي مثله في سورة الحجر أولا في قوم لوط، وذكرناه في قصتهم هنا، وثانيا في أصحاب الحجر وهو ثمود ﴿ فأخذتهم الصيحة مصبحين ﴾ [ الحجر : ٨٣ ]، وكذا في سورة المؤمنون بدون تصريح باسمهم ﴿ فأخذتهم الصيحة بالحق ﴾ [ المؤمنون : ٤١ ]، وفي سورة القمر ﴿ إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتضر ﴾ [ القمر : ٣١ ]، وتقدم في عذاب ثمود ومدين من سورة الأعراف أنهم أخذتهم الرجفة كما في آيتي [ ومثلهما آية ١٥٥ في السبعين المختارين من قوم موسى ] وسيأتي أيضا في مدين من سورة العنكبوت ﴿ فكذبوه فأخذتهم الرجفة ﴾ [ العنكبوت : ٣٧ ] الخ، وفي سورة فصلت [ حم السجدة ] في ثمود ﴿ فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون ﴾ [ فصلت : ١٧ ]، وفي سورة الذاريات ﴿ فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون ﴾ [ الذاريات : ٤٤ ].
فعلم بهذا أن المراد بالصيحة صوت الصاعقة، وفي أن الصاعقة أخذت بني إسرائيل الذين قالوا لموسى : أرنا الله جهرة، ولكن الله تعالى أحياهم عقبها، والرجفة هي الهزة والاضطرابة الشديدة، وهي تصدق باضطراب أبدانهم وأفئدتهم كأرضهم، فالجامع بين هذه الألفاظ أن الله تعالى أرسل على كل من ثمود ومدين صاعقة ذات صوت شديد فرجفوا أو رجفت أرضهم وزلزلت من شدتها وخروا ميتين، فكانت صاعقتهم أشد من صاعقة بني إسرائيل، لأن هذه تربية لقوم نبي في حضرته، وتلك صاعقة كانت عذاب خزي وهوان لمشركين ظالمين معاندين أنجى الله نبي كل منهم ومؤمنيهم قبلها، وأما قول بعض المفسرين : إن الصيحة التي أخذت ثمود ومدين كان صيحة من جبريل عليه السلام فهو من أخبار الغيب التي لا تقبل إلا من نصوص الوحي، ولا نص فتعين أنه من الرجم بالغيب. وقد بينا أسباب الصواعق مرارا، آخرها في تحقيق الجمع بين هذه الآيات في هلاك ثمود من سورة الأعراف.
ختم قصص الرسل بآيات من قصة موسى وفرعون
﴿ ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين ( ٩٦ ) إلى فرعون وملئه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد ( ٩٧ ) يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود ( ٩٨ ) وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود ( ٩٩ ) ﴾.
حكمة هذه الآيات الأربع من قصة موسى عليه السلام مع فرعون وملئه هي الإعلام بأن عاقبة فرعون وأشراف قومه اللعنة والهلاك ككفار أولئك الأقوام الظالمين، ولكن عذاب الخزي لم يشمل جميع قوم فرعون لما بيناه من قبل، ولم نر أحدا سبقنا إلى مثله. ولما كان إرسال موسى إلى فرعون لا يصح أن يعطف على إرسال شعيب إلى مدين، لأنه لا يشاركه في نوعه المشترك مع إرسال صالح وهود عطف على قوله ﴿ ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى ﴾، وقد بينا حكمة اختلافه عما قبله فراجعه.
﴿ ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين ﴾ أي بآياتنا التسع المعدودة في سورة الإسراء والمفصلة في غيرها [ وقد سبق ذكرها في قصته من سورة الأعراف ]، وسلطان مبين أي وبرهان واضح البيان، وهو ما آتاه الله من الحجة البالغة في محاوراته مع فرعون، وقيل : هي العصا ؛ لأنها أكبر آياته، وعطفها على ما قبلها من عطف الخاص على العام، ولكن الله تعالى قال :﴿ وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها ﴾ [ الزخرف : ٤٨ ].
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:والعبرة في الآيات أنه لا يزال يوجد في البشر فراعنة يغوون الناس ويستخفونهم ويستعبدونهم فيطيعونهم ويذلون لهم ذل العبد لسيده، والحمار لراكبه، والحيوان لمالكه، ولم يستفيدوا شيئا من هداية القرآن ورشده، وتجهيله لقوم فرعون في اتباع أمره، مع وصفه بقوله :﴿ وما أمر فرعون برشيد ﴾، وبيان أنه كان سببا لاتباعهم لعنة في الدنيا ولعنة يوم القيامة، وأنه سيقودهم في الآخرة إلى النار، كما قادهم في الدنيا إلى الغي والفساد، ومنهم من يدعون الإسلام ولم يفقهوا قول الله تعالى لرسوله في آي مبايعة النساء :﴿ ولا يعصينك في معروف ﴾ [ الممتحنة : ١٢ ] وقوله صلى الله عليه وسلم :( لا طاعة لأحد في معصية الله إنما الطاعة في المعروف ) ١ [ متفق عليه من حديث علي ].
ختم قصص الرسل بآيات من قصة موسى وفرعون
﴿ ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين ( ٩٦ ) إلى فرعون وملئه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد ( ٩٧ ) يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود ( ٩٨ ) وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود ( ٩٩ ) ﴾.
حكمة هذه الآيات الأربع من قصة موسى عليه السلام مع فرعون وملئه هي الإعلام بأن عاقبة فرعون وأشراف قومه اللعنة والهلاك ككفار أولئك الأقوام الظالمين، ولكن عذاب الخزي لم يشمل جميع قوم فرعون لما بيناه من قبل، ولم نر أحدا سبقنا إلى مثله. ولما كان إرسال موسى إلى فرعون لا يصح أن يعطف على إرسال شعيب إلى مدين، لأنه لا يشاركه في نوعه المشترك مع إرسال صالح وهود عطف على قوله ﴿ ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى ﴾، وقد بينا حكمة اختلافه عما قبله فراجعه.
﴿ إلى فرعون وملئه ﴾ بينا مرارا أن الملأ أشراف القوم وزعماؤهم، وأضافهم إلى فرعون وخصهم بالذكر لأنهم أهل الحل والعقد والاستشارة في دولته الذين كان يسألهم رأيهم في موسى وفي غيره، ويعهد إليهم بتنفيذ ما يتقرر من الأمور كمسألة السحرة، وإنما يذكر قومه في مقام الأتباع له في الكفر والظلم وعذاب الآخرة دون عذاب الاستئصال.
﴿ فاتبعوا أمر فرعون ﴾ في كل ما قرره من الكفر بموسى، وجمع السحرة لإبطال معجزته، ومن قتل السحرة لإيمانهم به، ومن تشديد الظلم على بني إسرائيل بتقتيل أبنائهم واستحياء نسائهم، وغير ذلك مما هو مفصل في قصته من السور الأخرى.
﴿ وما أمر فرعون برشيد ﴾ أي ما شأنه وتصرفه بذي رشد وهدى ؛ بل هو محض الغي والضلال والظلم والفساد في غروره بنفسه، وكفره بربه، وطغيانه في حكمه، وماذا يكون جزاؤه مع قومه في الآخرة ؟ الجواب :
﴿ يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود ( ٩٨ ) ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:والعبرة في الآيات أنه لا يزال يوجد في البشر فراعنة يغوون الناس ويستخفونهم ويستعبدونهم فيطيعونهم ويذلون لهم ذل العبد لسيده، والحمار لراكبه، والحيوان لمالكه، ولم يستفيدوا شيئا من هداية القرآن ورشده، وتجهيله لقوم فرعون في اتباع أمره، مع وصفه بقوله :﴿ وما أمر فرعون برشيد ﴾، وبيان أنه كان سببا لاتباعهم لعنة في الدنيا ولعنة يوم القيامة، وأنه سيقودهم في الآخرة إلى النار، كما قادهم في الدنيا إلى الغي والفساد، ومنهم من يدعون الإسلام ولم يفقهوا قول الله تعالى لرسوله في آي مبايعة النساء :﴿ ولا يعصينك في معروف ﴾ [ الممتحنة : ١٢ ] وقوله صلى الله عليه وسلم :( لا طاعة لأحد في معصية الله إنما الطاعة في المعروف ) ١ [ متفق عليه من حديث علي ].
ختم قصص الرسل بآيات من قصة موسى وفرعون
﴿ ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين ( ٩٦ ) إلى فرعون وملئه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد ( ٩٧ ) يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود ( ٩٨ ) وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود ( ٩٩ ) ﴾.
حكمة هذه الآيات الأربع من قصة موسى عليه السلام مع فرعون وملئه هي الإعلام بأن عاقبة فرعون وأشراف قومه اللعنة والهلاك ككفار أولئك الأقوام الظالمين، ولكن عذاب الخزي لم يشمل جميع قوم فرعون لما بيناه من قبل، ولم نر أحدا سبقنا إلى مثله. ولما كان إرسال موسى إلى فرعون لا يصح أن يعطف على إرسال شعيب إلى مدين، لأنه لا يشاركه في نوعه المشترك مع إرسال صالح وهود عطف على قوله ﴿ ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى ﴾، وقد بينا حكمة اختلافه عما قبله فراجعه.
﴿ يقدم قومه يوم القيامة ﴾ أي يتقدمهم، ويكونون تبعا له في ذلك اليوم، كما كانوا تابعين له في الدنيا، إلا من كان مؤمنا.
﴿ فأوردهم النار ﴾ أي فيوردهم نار جهنم معه، أي يدخلهم إياها، فالإيراد هنا بمعنى الإدخال، كما استعمل الورود بمعنى الدخول، وعبر عنه بالفعل الماضي لتحقق وقوعه، وقيل : إن المراد أنه بإغوائه إياهم قد جعلهم مستحقين لها، وقد ورد أن آله يعرضون عليها منذ ماتوا صباحا ومساء من كل يوم، وهو قوله تعالى :﴿ وحاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ﴾ [ غافر : ٤٥، ٤٦ ].
﴿ وبئس الورد المورود ﴾ هي لأن وارد الماء يرده لتبريد كبده وإطفاء غلته من حر الظمأ، ووارد النار يحترق فيها احتراقا، وفيه إشارة إلى الخيبة.
الورود في أصل اللغة بلوغ الماء وموافاته في مورده من نهر وغيره. والورد بالكسر اسم المصدر، ويطلق على الماء، يقال : ورد البعير أو غيره الماء يرده وردا، فهو وارد، والماء مورود، وأورده إياه إيرادا جعله يرده، ومنه ورود جهنم بمعنى دخلوها. قال ابن عباس [ رضي الله عنه ] في الآية : الورود الدخول، وقال : الورود في القرآن أربعة أوراد : في هود قوله :﴿ وبئس الورد المورود ﴾، وفي مريم ﴿ وإن منكم إلا واردها ﴾ [ مريم : ٧١ ]، وورد في الأنبياء ﴿ حصب جهنم أنتم لها واردون ﴾ [ الأنبياء : ٩٨ ]، وورد في مريم أيضا ﴿ ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا ﴾ [ مريم : ٨٦ ]، وكان يقول : والله ليردن جهنم كل بر وفاجر ﴿ ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا ﴾ [ مريم : ٧٢ ].
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:والعبرة في الآيات أنه لا يزال يوجد في البشر فراعنة يغوون الناس ويستخفونهم ويستعبدونهم فيطيعونهم ويذلون لهم ذل العبد لسيده، والحمار لراكبه، والحيوان لمالكه، ولم يستفيدوا شيئا من هداية القرآن ورشده، وتجهيله لقوم فرعون في اتباع أمره، مع وصفه بقوله :﴿ وما أمر فرعون برشيد ﴾، وبيان أنه كان سببا لاتباعهم لعنة في الدنيا ولعنة يوم القيامة، وأنه سيقودهم في الآخرة إلى النار، كما قادهم في الدنيا إلى الغي والفساد، ومنهم من يدعون الإسلام ولم يفقهوا قول الله تعالى لرسوله في آي مبايعة النساء :﴿ ولا يعصينك في معروف ﴾ [ الممتحنة : ١٢ ] وقوله صلى الله عليه وسلم :( لا طاعة لأحد في معصية الله إنما الطاعة في المعروف ) ١ [ متفق عليه من حديث علي ].
ختم قصص الرسل بآيات من قصة موسى وفرعون
﴿ ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين ( ٩٦ ) إلى فرعون وملئه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد ( ٩٧ ) يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود ( ٩٨ ) وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود ( ٩٩ ) ﴾.
حكمة هذه الآيات الأربع من قصة موسى عليه السلام مع فرعون وملئه هي الإعلام بأن عاقبة فرعون وأشراف قومه اللعنة والهلاك ككفار أولئك الأقوام الظالمين، ولكن عذاب الخزي لم يشمل جميع قوم فرعون لما بيناه من قبل، ولم نر أحدا سبقنا إلى مثله. ولما كان إرسال موسى إلى فرعون لا يصح أن يعطف على إرسال شعيب إلى مدين، لأنه لا يشاركه في نوعه المشترك مع إرسال صالح وهود عطف على قوله ﴿ ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى ﴾، وقد بينا حكمة اختلافه عما قبله فراجعه.
﴿ وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ﴾ أي وألحقت بهم في الدنيا لعنة أتبعهم الله إياها بقوله ﴿ وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين ﴾ [ القصص : ٤٢ ]، وقال هنا ﴿ ويوم القيامة ﴾، أي واتبعوا يوم القيامة لعنة أخرى، فهم يلعنون في الدنيا والآخرة. وقد سمى هذه رفدا تهكما بهم فقال :﴿ بئس الرفد المرفود ﴾، الرفد [ بالكسر ] في أصل اللغة : العطاء والعون، يقال : رفده [ من باب ضرب ] أعانه وأعطاه، وأرفده مثله، أو جعل له رفدا يتناوله شيئا فشيئا، فرفده وأرفده كسقاه وأسقاه، وبئس الرفد المرفود أي العطاء المعطى هذه اللعنة التي أتبعوها، وحكى الماوردي عن الأصمعي أن الرفد بالفتح القدح وبالكسر ما فيه من الشراب، وهو تفسير للعام بالخاص مناسب للورد المورود قبله. أي بئس ما يسقونه في النار عند ما يردونها ذلك الشراب الذي يسقونه فيها، وهو ما وصفه الله تعالى بقوله :﴿ وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم ﴾ [ محمد : ١٥ ].
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:والعبرة في الآيات أنه لا يزال يوجد في البشر فراعنة يغوون الناس ويستخفونهم ويستعبدونهم فيطيعونهم ويذلون لهم ذل العبد لسيده، والحمار لراكبه، والحيوان لمالكه، ولم يستفيدوا شيئا من هداية القرآن ورشده، وتجهيله لقوم فرعون في اتباع أمره، مع وصفه بقوله :﴿ وما أمر فرعون برشيد ﴾، وبيان أنه كان سببا لاتباعهم لعنة في الدنيا ولعنة يوم القيامة، وأنه سيقودهم في الآخرة إلى النار، كما قادهم في الدنيا إلى الغي والفساد، ومنهم من يدعون الإسلام ولم يفقهوا قول الله تعالى لرسوله في آي مبايعة النساء :﴿ ولا يعصينك في معروف ﴾ [ الممتحنة : ١٢ ] وقوله صلى الله عليه وسلم :( لا طاعة لأحد في معصية الله إنما الطاعة في المعروف ) ١ [ متفق عليه من حديث علي ].
العبرة العامة في إهلاك الأمم الظالمة
﴿ ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد ( ١٠٠ ) وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب ( ١٠١ ) وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ( ١٠٢ ) ﴾.
هذه الآيات الثلاث في العبرة العامة بما في إهلاك الأمم الظالمة في الدنيا من موعظة، ويتلوها العبرة بعذاب الآخرة.
وقال تعالى :
﴿ ذلك من أنباء القرى ﴾ أي ذلك الذي قصصناه عليك أيها الرسول بعض أنباء الأمم، أي أهم أخبارها، وأطوار اجتماعها في القرى والمدائن من قوم نوح من بعدهم.
﴿ نقصه عليك ﴾ في هذه القرآن، أو هذه السورة، لتتلوه على الناس، ويتلوه المؤمنون آنا بعد آن، للإنذار به تبليغا عنا، فهو مقصوص من لدنا بكلامنا.
{ منها قائم وحصيد ] أي من تلك القرى ما له بقايا ماثلة وآثار باقية كالزرع القائم في الأرض، كقرى قوم صالح، ومنها ما عفا ودرست آثاره كالزرع المحصود الذي لم يبق منه بقية في الأرض، كقرى قوم لوط.
العبرة العامة في إهلاك الأمم الظالمة
﴿ ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد ( ١٠٠ ) وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب ( ١٠١ ) وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ( ١٠٢ ) ﴾.
هذه الآيات الثلاث في العبرة العامة بما في إهلاك الأمم الظالمة في الدنيا من موعظة، ويتلوها العبرة بعذاب الآخرة.
﴿ وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم ﴾ أي وما كان إهلاكهم بغير جرم استحقوا به الهلاك، ولكن ظلموا أنفسهم بشركهم وفسادهم في الأرض، وإصرارهم حتى لم يعد فيهم بقية من قبول الحق وإيثار الخير على الشر، بحيث لو بقوا زمنا آخر لما ازدادوا إلا ظلما وفجورا وفسادا، كما قال نوح عليه السلام :﴿ إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا ﴾ [ نوح : ٢٧ ]، وقد بالغ رسلهم في وعظهم وإرشادهم، فما زادهم نصحهم لهم إلا عنادا وإصرارا، وأنذروهم العذاب فتماروا بالنذر استكبارا، واتكلوا على دفع آلهتهم العذاب عنهم إن هو نزل.
﴿ فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك ﴾ أي فما نفعتهم آلهتهم التي كانوا يدعونها، ويطلبون منها أن تدفع عنهم الضر بنفسها، أو بشفاعتها عند الله تعالى لما جاء عذاب ربك تصديقا لنذر رسله.
﴿ وما زادوهم غير تتبيت ﴾ أي هلاك وتخسير وتدمير، وهو من التباب أي الخسران والهلاك، يقال : تببه تتبيبا أي أهلكه، وتب فلان وتبت يده أي خسر أو هلك، " وتبا له " في الدعاء بالهلاك، ومعنى زيادتهم إياهم تتبيبا أنهم باتكالهم عليهم ازدادوا كفرا وإصرارا على ظلمهم وفسادهم، ظنا أنهم ينتقمون لهم من الرسل كما قال بعضهم لرسولهم :﴿ إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء ﴾ [ هود : ٥٤ ].
العبرة العامة في إهلاك الأمم الظالمة
﴿ ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد ( ١٠٠ ) وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب ( ١٠١ ) وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ( ١٠٢ ) ﴾.
هذه الآيات الثلاث في العبرة العامة بما في إهلاك الأمم الظالمة في الدنيا من موعظة، ويتلوها العبرة بعذاب الآخرة.
﴿ وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة ﴾ أي ومثل ذلك الأخذ بالعذاب وعلى نحو منه أخذ ربك لأهل القرى في حال تلبسها بالظلم في كل زمان وكل قوم.
﴿ إن أخذه أليم شديد ﴾ أي وجيع قاس، لا هوادة فيه، ولا مفر منه، ولا مناص، فالجملة بيان للتشبيه فيما قبلها. أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه مرفوعا ( إن الله سبحانه وتعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ) ثم قرأ صلى الله عليه وسلم هذه الآية١. وهو تصريح بعمومها، ولكن الظالمين قلما يعتبرون، ولا سيما إذا كانوا مع ظلمهم مغرورين بدين يتحلون بلقبه، ولا يحسبون حسابا لإملاء الله تعالى واستدراجه.
١ - أخرجه البخاري في تفسيره سورة ١١، باب ٥، ومسلم في البر حديث ٦٢، والترمذي في تفسيره سورة ١١، باب ٢، وابن ماجه في الفتن باب ٢٢..
العبرة العامة في هذه القصص بعذاب الآخرة
﴿ إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود ( ١٠٣ ) وما نؤخره إلا لأجل معدود ( ١٠٤ ) يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد ( ١٠٥ ) فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق ( ١٠٦ ) خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد ( ١٠٧ ) وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ ( ١٠٨ ) فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص ( ١٠٩ ) ﴾
هذه البضع الآيات في العبرة بجزاء الآخرة للأشقياء والسعداء.
﴿ إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ﴾ أي في ذلك الذي قصه الله من إهلاك أولئك الأقوام، وما قفى عليه من بيان سنته في الظالمين، لحجة بينة وعبرة ظاهرة، على أن ما يجري في خلقه من نظام سننه هو بمشيئته واختياره، وإنما هو آية وعبرة لمن يخاف عذاب الآخرة يعتبر بها فيتقي الظلم في الدنيا بجميع أنواعه، لإيمانه بأن من عذب الأمم الظالمة في الدنيا قادر على تعذيبهم في الآخرة، ولا يغتر بعدم وقوع العذاب عليه في الدنيا كأولئك الأقوام كما كانوا مغرورين، فإن كان العذاب العام إنما نزل بمن أجمع منهم على الشرك والظلم والفساد، فتلك سنته تعالى في الأقوام دون الأفراد، وقد علم منها أن الله تعالى لا يهلك الأمة في جملتها مادام أحد من أهل التوحيد والتقوى، إذ كان يخرج رسله وأتباعهم من قومهم قبل هلاكهم، وأما الأفراد فتعذيبهم في الدنيا بظلمهم كثير ولكنه غير مطرد، وقد تكون نجاتهم فيها بصلاح غيرهم من أهلها كما بيناه مرارا، ولذلك أفرد الخائف هنا.
قال القاضي البيضاوي في تخصيص الآية بالخائف : يعتبر بها لعلمه بأنه من إله مختار يعذب من يشاء ويرحم من يشاء، فإن من أنكر الآخرة وأحال فناء هذا العالم لم يقل بالفاعل المختار، وجعل تلك الوقائع لأسباب فلكية اتفقت في تلك الأيام لا لذنوب المهلكين بها اه.
أقول : ذكرت في الكلام على العبرة بهلاك قوم نوح بالطوفان أن كفار الماديين وملاحدة المليين في هذا الزمان يقولون مثل هذا الذي حكاه البيضاوي عن منكري الآخرة في عصره، يقولون : إن الطوفان حدث بسبب طبيعي لا بإرادة الله واختياره لتربية الأمم، وإنهم هكذا يقولون فيمن هلكوا بالريح وبالصاعقة وبخسف الأرض. وقلت في الرد عليهم : إن حدوث المصائب بالأسباب الموافقة لسنن الله في نظام العالم هو المراد بالقضاء والقدر في القرآن، ولكن الله تعالى أحدث الأسباب في تلك الأوقات بحكمته لأجل عقاب تلك الأمم بها، ولم تكن بالمصادفة والاتفاق، والدليل على ذلك إنذار الرسل لأقوامهم إياها قبل وقوعها، ومنهم من ذكر موعدها بالتعيين والتحديد، وهكذا يفعل الله بالظالمين في كل زمان، وإن لم يكن فيه رسل يطلعهم على وقت وقوعه لينذروا الناس به اكتفاء بإنذار القرآن، وقد قال فيه ﴿ وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ﴾.
﴿ ذلك يوم مجموع له الناس ﴾ أي ذلك اليوم الذي يقع فيه عذاب الآخرة. فكان ذكره دليلا عليه يوم يجمع له الناس كلهم، أي لأجل ما يقع فيه من الحساب الذي يترتب عليه الجزاء. وفي جعل جمع الناس له [ بصيغة اسم المفعول ] صفة من صفاته مبالغة، كانت بها الجملة هنا أبلغ من جملة ﴿ يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن ﴾ [ التغابن : ٩ ] في إثبات الجمع، لأن تلك سيقت لأجل إثبات ما يقع في ذلك اليوم من التغابن، أي غبن الناس بعضهم بعضا بتفاوت أعمالهم من الخير والشر وجزائهم عليها، وهذه لأجل إثبات الجمع له في ذاته لتصوير هوله، ومثله قوله :﴿ وذلك يوم مشهود ﴾ يشهده الخلائق كلهم من الإنس والجن والملائكة والحيوانات وغيرها، وقد صار هذا التعبير الوجيز البليغ مثلا توصف به المجامع الحافلة بكثرة الناس، أو الأوقات التي يكثر من يشهدها منهم.
العبرة العامة في هذه القصص بعذاب الآخرة
﴿ إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود ( ١٠٣ ) وما نؤخره إلا لأجل معدود ( ١٠٤ ) يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد ( ١٠٥ ) فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق ( ١٠٦ ) خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد ( ١٠٧ ) وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ ( ١٠٨ ) فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص ( ١٠٩ ) ﴾
هذه البضع الآيات في العبرة بجزاء الآخرة للأشقياء والسعداء.
﴿ وما نؤخره إلا لأجل معدود ﴾ أي وما نؤخر ذلك اليوم إلا لانتهاء مدة معدودة في علمنا لا تزيد ولا تنقص عن تقديرنا لها بحكمتنا، وهو انقضاء عمر هذه الدنيا، وكل ما هو معدود محدود النهاية فهو قريب، وقد ثبت بنصوص القرآن والأحاديث الصحيحة أن الله تعالى لم يطلع أحدا من خلقه على وقت قيام الساعة.
العبرة العامة في هذه القصص بعذاب الآخرة
﴿ إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود ( ١٠٣ ) وما نؤخره إلا لأجل معدود ( ١٠٤ ) يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد ( ١٠٥ ) فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق ( ١٠٦ ) خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد ( ١٠٧ ) وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ ( ١٠٨ ) فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص ( ١٠٩ ) ﴾
هذه البضع الآيات في العبرة بجزاء الآخرة للأشقياء والسعداء.
﴿ يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه ﴾ أي في الوقت الذي يجيء فيه ذلك اليوم المعين لا تتكلم نفس من الأنفس الناطقة إلا بإذن الله تعالى لأنه يومه الخاص الذي لا يملك أحد فيه قولا ولا فعلا إلا بإذنه، كما قال :﴿ يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ﴾ [ النبأ : ٣٨ ] وقال :﴿ يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمان فلا تسمع إلا همسا يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا ﴾ [ طه : ١٠٨، ١٠٩ ] وقال الكفار ﴿ هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون ﴾ [ المرسلات : ٣٥، ٣٦ ] وقال :﴿ اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم ﴾ [ يس : ٦٥ ] الخ، وفسرت كلمة [ يوم ] في الآية بالوقت المطلق، أي غير المحدود ؛ لأنه ظرف لليوم المحدود الموصوف بما ذكر، الذي هو فاعل يأتي.
وأراد بعضهم الهرب من جعل يوم ظرفا لليوم، فقالوا : المعنى يوم يأتي جزاؤه، أو هوله، أو الله تعالى، واستشهدوا للأخير بقوله :﴿ هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله ﴾ [ البقرة : ٢١٠ ]، والشواهد التي أوردناها نص في هذا المقام، ولا حاجة إلى غير جعل يوم بمعنى وقت أو حين. وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة [ يأت ] بحذف الياء اجتزاء عنها بالكسرة، وهذا هو الموافق لرسم المصحف الإمام، وهو لغة هذيل، تقول : ما أدر ما تقول. ونفي الكلام في ذلك اليوم إلا بإذنه تعالى يفسر لنا الجمع بين الآيات النافية له مطلقا والمثبتة له مطلقة.
﴿ فمنهم شقي وسعيد ﴾ أي فمن الأنفس المكلفة التي تجمع فيه شقي مستحق لوعيد الكافرين بالعذاب الدائم، ومنهم سعيد مستحق لما وعد به المتقون من الثواب الدائم، ولا يدخل في هذا التقسيم غير المكلفين كالأطفال والمجانين، وأما من تستوي حسناتهم وسيئاتهم من المؤمنين، ومن تغلب سيئاتهم منهم، ويعاقبون عليها في النار عقابا موقوتا، ثم يدخلون الجنة، فهم من فريق السعداء، باعتبار الخاتمة في الدنيا والآخرة، فالسعداء درجات، والأشقياء دركات.
روى الترمذي وحسنه، وأبو يعلى، وأشهر رواة التفسير عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : لما نزلت ﴿ فمنهم شقي وسعيد ﴾ قلت : يا رسول الله فعلام نعمل ؟ على شيء قد فرغ منه، أو على شيء لم يفرغ منه ؟ قال " بل على شيء قد فرغ منه وجرت به الأقلام يا عمر، ولكن كل ميسر لما خلق له " وحديث " كل ميسر لما خلق له " رواه أحمد والشيخان وغيرهما، ولفظ البخاري عن عمران بن حصين رضي الله عنه قلت : يا رسول الله فيم يعمل العاملون ؟ قال :" كل ميسر لما خلق له " وعن علي كرم الله وجهه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان في جنازة فأخذ عودا فجعل ينكت في الأرض فقال :" ما منكم أحد إلا كتب مقعده من الجنة أو من النار " قالوا : ألا تتكل ؟ قال :" اعملوا، فكل ميسر لما خلق له ". وقرأ :﴿ فأما من أعطى واتقى ﴾ ١. الخ
ومعناه -الذي غفل عنه، أو جهله الكثيرون على ظهوره- : إن الله تعالى يعلم الغيب، وعلمه بأن زيدا يدخل الجنة، أو النار، ليس معناه أنه يدخلها بغير عمل يستحقها به بحسب وعده وحكمته، ولا أنه لا فرق فيما يعمله في الجزاء، وإنما يعلم الله المستقبل كله بجميع أجزائه وأطرافه، ومنه عمل العاملين وما يترتب على كل عمل من الجزاء بحسب وعده ووعيده في كتابه المنزل وكتابته للمقادير، ولا تناقض ولا تعارض بينهما، ونحن لا نعلم الغيب، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم علمنا ما نعلم به ما سيكون في الجملة، وهو أن الجزاء بالعمل، وأن كل إنسان ميسر له، ومسهل عليه ما خلقه الله لأجله من سعادة الجنة وشقاوة النار، وأن ما وهبه للإنسان من العزم والإرادة يكون له من التأثير في تربية النفس ما يوجهها به إلى ما يعتقد أن فيه سعادته. ثم بين جزاء الفريقين بالتفصيل فقال.
١ - أخرج الحديث بألفاظه المتقدمة، البخاري في تفسيره سورة ٩٢، باب ٣- ٥، ٧ والأدب باب ١٢٠، والقدر باب ٤، والتوحيد باب ٥٤، ومسلم في القدر حديث ٦- ٨، وأبو داود في السنة باب ١٦، والترمذي في القدر باب ٣، وتفسير سورة ١١، باب٣، وابن ماجه في المقدمة باب ١٠، والتجارات باب ٢، وأحمد في المسند ١/ ٦، ٢٩، ٨٢، ١٢٩، ١٣٣، ١٤٠، ١٥٧، ٢/ ٥٢، ٧٧، ٣/ ٢٩٣، ٤/ ٦٧، ٤٣١..
العبرة العامة في هذه القصص بعذاب الآخرة
﴿ إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود ( ١٠٣ ) وما نؤخره إلا لأجل معدود ( ١٠٤ ) يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد ( ١٠٥ ) فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق ( ١٠٦ ) خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد ( ١٠٧ ) وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ ( ١٠٨ ) فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص ( ١٠٩ ) ﴾
هذه البضع الآيات في العبرة بجزاء الآخرة للأشقياء والسعداء.
﴿ فأما الذين شقوا ﴾ أي الذين شقوا في الدنيا بالفعل بما كانوا يعملون من أعمال الأشقياء، لفساد عقائدهم الموروثة بالتقليد، حتى أحاطت بهم خطيئاتهم، واطفأت نور الفطرة من أنفسهم ﴿ ففي النار ﴾ مستقرهم ومثواهم ﴿ لهم فيها زفير وشهيق ﴾ من ضيق أنفاسهم، وحرج صدورهم، وشدة كروبهم : فالزفير والشهيق صوتان يخرجان من الصدر عند شدة الكرب والحزن في بكاء أو غيره، قال الزمخشري في الكشاف : الزفير إخراج النفس، والشهيق رده، قال الشماخ :
بعيد مدى التطريب أول صوته زفير ويتلوه شهيق محشرج١
وقال الراغب في الآية : فالزفير تردد النفس حتى تنتفخ الضلوع منه، ثم قال : الشهيق طول الزفير، وهو رد النفس، والزفير مده. وقال في اللسان : الشهيق أقبح الأصوات، شهق [ كعلم وضرب ] شهيقا وشهاقا ردد البكاء في صدره اه. والتحقيق أن تنفس الصعداء من الهم والكرب، إذا امتد واشتد فسمع صوته كان زفيرا، وإن كان النشيج في البكاء إذا اشتد تردده في الصدر وارتفع به الصوت سمي شهيقا، وأصل اشتقاقه من الشهوق، وقولهم جبل شاهق، وما أبلغ قول شيخنا في مقدمة العروة الوثقى يصف كرب المسلمين من شدة اعتداء المستعمرين الظالمين : وسرى الألم في أرواح المؤمنين سريان الاعتقاد في مداركهم، وهم من تذكار الماضي ومراقبة الحاضر يتنفسون الصعداء، ولا نأمن أن يصير التنفس زفيرا بل نفيرا عاما، بل يكون صاخة تمزق من أصمّه الطمع.
١ - يروى البيت:
بعيد ندى التغريد أرفع صوته سحيل وأدناه شحيح محشرج
والبيت من الطويل، وهو بلا نسبة في كتاب العين ٨/ ٧٨.
.

العبرة العامة في هذه القصص بعذاب الآخرة
﴿ إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود ( ١٠٣ ) وما نؤخره إلا لأجل معدود ( ١٠٤ ) يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد ( ١٠٥ ) فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق ( ١٠٦ ) خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد ( ١٠٧ ) وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ ( ١٠٨ ) فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص ( ١٠٩ ) ﴾
هذه البضع الآيات في العبرة بجزاء الآخرة للأشقياء والسعداء.
﴿ خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض ﴾ أي ماكثين فيها مكث بقاء وخلود لا يبرحونها مدة دوام السماوات التي تظلهم والأرض التي تقلهم، وهذا معنى قوله في آيات أخرى ﴿ خالدين فيها أبدا ﴾ [ النساء : ٥٧ ]، فإن العرب تستعمل هذا التعبير بمعنى الدوام، وغلط من قالوا : المراد مدة دوامهما في الدنيا، فإن هذه الأرض تبدل وتزول بقيام الساعة، وسماء كل من أهل النار وأهل الجنة ما هو فوقهم، وأرضهم ما هم مستقرون عليه وهو تحتهم، قال ابن عباس : لكل جنة أرض وسماء، وروي مثله عن السدي والحسن.
﴿ إلا ما شاء ربك ﴾ أي إن هذا الخلود الدائم هو المعد لهم في الآخرة المناسب لصفة أنفسهم الجهول الظالمة التي أحاطت بها ظلمة خطيئاتها وفساد أخلاقها -كما فصلناه مرارا -إلا ما شاء ربك من تغيير في هذا النظام في طور آخر، فهو إنما وضع بمشيئته، وسيبقى في قبضة مشيئته، وقد عهد مثل هذا الاستثناء في سياق الأحكام القطعية للدلالة على تقييد تأبيدها بمشيئته تعالى فقط، لا لإفادة عدم عمومها، كقوله تعالى :﴿ قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ﴾ [ الأعراف : ١٨٨ ]، أي لا أملك شيئا من ذلك قدرتي وإرادتي إلا ما شاء الله أن يملكنيه منه بتسخير أسبابه وتوفيقه، ومثله في [ ١٠ : ٤٩ ] مع تقديم الضر. وقوله :﴿ سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله ﴾ [ الأعلى : ٦، ٧ } على أن الاستثناء لتأكيد النفي، أي إنه تعالى ضمن لنبيه حفظ هذا القرآن الذي يقرئه إياه بقدرته وعصمه أن لا ينسى منه شيئا بمقتضى الضعف البشري، فهو لا يقع إلا أن يكون بمشيئة الله، فهو وحده هو القادر عليه.
﴿ إن ربك فعال لما يريد ﴾ فهو إن شاء غير ذلك فعله، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وإنما تتعلق مشيئته بما سبق به علمه واقتضته حكمته، وما كان كذلك لم يكن إخلافا لشيء من وعده، ولا من وعيده، كخلود أهل النار فيها، فإن هذا الوعيد مقيد بمشيئته، وهي تجري بمقتضى علمه وحكمته، ولهذا قال في مثل هذا الاستثناء من سورة الأنعام :﴿ قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم ﴾ [ الأنعام : ١٢٨ ] وقد فصلنا في تفسير تلك الآية ما قاله العلماء من المفسرين وغيرهم من الخلاف في أبدية النار وعذابها، ووعدنا بالعودة إليه في تفسير هذه الآية، وسنجعله في الخلاصة الإجمالية للسورة لتبقى سلسلة التفسير هنا متصلة.
العبرة العامة في هذه القصص بعذاب الآخرة
﴿ إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود ( ١٠٣ ) وما نؤخره إلا لأجل معدود ( ١٠٤ ) يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد ( ١٠٥ ) فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق ( ١٠٦ ) خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد ( ١٠٧ ) وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ ( ١٠٨ ) فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص ( ١٠٩ ) ﴾
هذه البضع الآيات في العبرة بجزاء الآخرة للأشقياء والسعداء.
﴿ وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ ﴾ أي دائما غير مقطوع، من جذه يجذه [ من باب نصر ] إذا قطعه أو كسره، فهو كقوله تعالى :﴿ لهم أجر غير ممنون ﴾ [ فصلت : ٨ ]، والفرق بين هذا التذييل وما قبله عظيم، فكل من الجزاءين منه تعالى، ومقيد دوامه بمشيئته، ولكنه ذيل هذا بأنه هبة منه، وإحسان دائم غير مقطوع، ولو كان الأول مثله غير مقطوع لما كان فضلا وإحسانا، وقد تكرر وعد الله للمؤمنين المحسنين بأنه يجزيهم بالحسنى وبأحسن مما عملوا، وبأنه يزيدهم من فضله، وبأنه يضاعف لهم الحسنة بعشر أمثالها وبأكثر ذلك إلى سبعمائة ضعف. ولم يعد بزيادة جزاء الكافرين والمجرمين على ما يستحقون، بل كرر الوعد بأنه يجزيهم بما عملوا، وبأن السيئة بمثلها وهم لا يظلمون، وبأنه لا يظلم أحدا، دع ما ورد من الآيات في سعة رحمته، وفي الأحاديث الصحيحة من سبقها لغضبه.
وما قاله العلماء في حل هذا الإشكال غير ظاهر، وخلاصته أن عذاب النار الشديد الأبدي الذي لا نهاية له إنما كان جزاء لأهلها بمثل ما عملوا في سنين أو أشهر معدودة، باعتبار أنهم كانوا عازمين على الاستمرار على كفرهم وظلمهم وفسقهم لو كانوا خالدين في الدنيا، فهو إذن جزاء لهم على نيتهم وعزمهم اه. وإنما كان هذا الجواب غير ظاهر ؛ لأن الجاحدين عنادا واستكبارا من الرؤساء والزعماء هم الذين يصح فيهم العزم على الاستمرار، وهم الأقلون، لما علم بالاختبار والواقع من إيمان أهل مكة ثم أكثر العرب لما زالت الموانع، وظهر لهم منه ما كان خفيا عليهم، على أن قاعدة هذه الشريعة السمحة أن الله لا يؤاخذ من نوى أن يعمل سيئة ولم يعملها، والمعقول في تعليل الخلود في النار هو ما بيناه في سورة الأنعام وغيرها من أن عذاب النار الدائم أثر طبيعي لتدسية النفس بالكفر والظلم والفساد. وسنعود إليه في الخلاصة الإجمالية للسورة إن شاء الله تعالى.
العبرة العامة في هذه القصص بعذاب الآخرة
﴿ إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود ( ١٠٣ ) وما نؤخره إلا لأجل معدود ( ١٠٤ ) يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد ( ١٠٥ ) فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق ( ١٠٦ ) خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد ( ١٠٧ ) وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ ( ١٠٨ ) فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص ( ١٠٩ ) ﴾
هذه البضع الآيات في العبرة بجزاء الآخرة للأشقياء والسعداء.
﴿ فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ﴾ هذه فذلكة ما تقدم من الإرشاد إلى الاعتبار بما حل بالأمم المهلكة، وإنذار أعداء النبي صلى الله عليه وسلم به، يقول : إذا كان أمر الأمم المشركة الظالمة في الدنيا ثم في الآخرة كما قصصناه عليك أيها الرسول فلا تكن في أدنى شك وامتراء مما يعبد قومك هؤلاء في عاقبته بمقتضى تلك السنة التي لا تبديل لها، فالنهي تسلية له صلى الله عليه وسلم وإنذار لقومه. ثم بين حالهم في عبادتهم وجزائهم بيانا مستأنفا فقال ﴿ ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل ﴾ فهم مقلدون لآبائهم كما يقولون، وكما قال أقوام أولئك الأنبياء من قبلهم.
﴿ وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص ﴾ أي وإنا لمعطوهم نصيبهم من جزاء أعمالهم في الدنيا والآخرة وافيا تاما لا ينقص منه شيء، كما وفينا آباءهم الأولين من قبل، فإنه ما من خير يعمله أحد منهم كَبِر الوالدين، وصلة الأرحام، وإغاثة الملهوف، وعمل المعروف إلا ويوفيهم الله تعالى جزاءهم عليه، في الدنيا بسعة الرزق، وكشف الضر جزاء تاما وافيا، لا ينقصه شيء، يجزون عليه في الآخرة، فلا يغترن أغنياؤهم وكبراؤهم بما هم فيه من سعة ونعمة ووجاهة، فهو متاع عاجل لا يلبث أن ينقضي، ولا يحتجن به على رضى الله عنهم وإعطائهم مثله في الآخرة على فرض وجودها، كما أعطاهم في الدنيا كما حكى عن قائلهم :﴿ ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا ﴾ [ الكهف : ٣٦ ]، وعن آخر ﴿ ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى ﴾ [ فصلت : ٥٠ ]، فإن الحسنى عند الرب تعالى في الآخرة لا تكون إلا للمؤمنين المتقين، الذين يزكون أنفسهم في الدنيا باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، وما بلغهم عنه من موجبات الرحمة عنده بفضله.
﴿ ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب ( ١١٠ ) وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير ( ١١١ ) ﴾.
هاتان الآيتان في بقية العبرة بسنة الله تعالى في الأمم وأقوام الأنبياء عليهم السلام، ذكر الله قوم خاتم النبيين وأمته أولا بأقوام الذين غلب عليهم الكفر والجحود فلم يؤمن إلا قليل منهم، فوفاهم الله جزاء أعمالهم في الدنيا، وسيوفهم إياها في الآخرة، فإن سنته في الدارين واحدة، وذكرهم في هاتين الآيتين بقوم موسى الذين آتاهم الكتاب فاختلفوا فيه، وكلمته في تأخير جزاءهم إلى الآخرة ؛ لأنهم لم يستحقوا عذاب الاستئصال في الدنيا، وأن مثل الذين يختلفون من أمته في الكتاب كمثل هؤلاء قال.
﴿ ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ﴾ أي فاختلَف فيه قومه من بعده بغيا بينهم، وتنازعا على الرياسة، فكانوا شيعا، كل شيعة تنتحل مذهبا وتعادي من يخالفها فيه، وإنما أوتوا الكتاب لجمع الكلمة، وتقدم تفصيل إنزال الله الكتب على الأنبياء للحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه من الآية الجامعة.
﴿ ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم ﴾ أي في الدنيا بإهلاك البغاة المثيرين للاختلاف فيه بأهوائهم، المعتصمين بالوحدة والاتفاق على هدايته، كما أهلك الذين ردوا دعوة الرسل جحودا وعنادا، والمراد بهذه الكلمة إنظارهم إلى يوم القيامة، وتقدم مثل هذا التعليق بالكلمة في جميع المختلفين في [ ١٠ : ١٩ ]، ثم فسرت في بني إسرائيل بقوله :﴿ إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ﴾ [ يونس : ٩٣ ]، ومثله في [ ٤٥ : ١٧ ]، وسيأتي تحقيق القول في الاختلاف في تفسير الآية ١١٩ هنا.
﴿ وإنهم لفي شك منه مريب ﴾ الظاهر أن هذا في قوم موسى وكتابهم التوراة، أي إنهم لمرتكسون في شك من أمر كتابهم موقع في الريب والاضطراب.
وذهب بعض كبار المفسرين إلى أنه في مشركي مكة وأمثالهم الذين شكوا في القرآن، وهو خطأ ظاهر في اللفظ والمعنى والسياق، وما في معنى الآية من السور الأخرى، ومثلها في سورة حم السجدة [ فصلت ] بنصها، وفي معناها من سورة الشورى ما يفسر الإجمال في هاتين الآيتين ويفصله، فإنه بعد ذكر بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم بالقرآن واختلاف البشر فيه وحكمه تعالى هو في الاختلاف قال ﴿ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب ﴾ [ الشورى : ١٣، ١٤ ] فهذه الآية الأخيرة تفسير لآيتي هود وحم السجدة [ فصلت ]، فإن الذين أورثوا الكتاب من بعد مَن ذكر في الآيات هم اليهود والنصارى الذين جاءوا بعد أنبيائهم وقبل بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء قد عَرض لهم من الشك والريب في كتبهم ما لم يكن في عهد سلفهم، فإن التوراة التي كتبها موسى عليه السلام قد فُقدت في إحراق البابليين لهيكل سليمان كما بيناه مفصلا من قبل. ولذلك قال الله تعالى في عيسى عليه السلام ﴿ ويعلمه التوراة والإنجيل ﴾ [ آل عمران : ٤٨ ]، فهو لم يأخذ التوراة من أيدي اليهود الذين زعموا أن عزرا كتبها بعد الرجوع من سبي بابل، وإن كان يَحتج عليهم بما كانوا يخالفونه مما حفظوه منها، وقد اختلفوا في كتبهم وفي شرعهم إلى مذاهب، وأما النصارى فكانوا أشد اختلافا في كتبهم ومذاهبهم كما فصلناه من قبل.
ومن الغفلة الشنيعة والتكلف البعيد أن يفسروا الكتاب في آية سورة الشورى مع هذا التفصيل فيها بالقرآن الذي وصف بأنه ( لا ريب فيه )، ويصفوا الذين أورثوه بأنهم ( في شك منه مريب )، ولا يصح أن يقال فيمن لم يؤمنوا به : إنهم أورثوه، وكذلك الذين لم يؤمنوا بموسى وبعيسى لا يقال : إنهم أورثوا التوراة والإنجيل، وإنما يقال : ورث الكتاب من آمن به سواء منهم من أحسن العمل ومن أساء، كما قال تعالى :﴿ أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ﴾ [ فاطر : ٣٢ ] ولكن الذين أخطأوا في فهم الآيتين المجملتين في السورتين حملوا عليهما الآية المفصلة وجعلوا تفسيرهن واحد.
﴿ ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب ( ١١٠ ) وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير ( ١١١ ) ﴾.
هاتان الآيتان في بقية العبرة بسنة الله تعالى في الأمم وأقوام الأنبياء عليهم السلام، ذكر الله قوم خاتم النبيين وأمته أولا بأقوام الذين غلب عليهم الكفر والجحود فلم يؤمن إلا قليل منهم، فوفاهم الله جزاء أعمالهم في الدنيا، وسيوفهم إياها في الآخرة، فإن سنته في الدارين واحدة، وذكرهم في هاتين الآيتين بقوم موسى الذين آتاهم الكتاب فاختلفوا فيه، وكلمته في تأخير جزاءهم إلى الآخرة ؛ لأنهم لم يستحقوا عذاب الاستئصال في الدنيا، وأن مثل الذين يختلفون من أمته في الكتاب كمثل هؤلاء قال.
﴿ وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم ﴾ أي وإن كل أولئك المختلفين فيه، أو كل أحد منهم، والله ليوفينهم ربك جزاء أعمالهم، لا يظلم منهم أحدا،
﴿ إنه بما يعملون خبير ﴾ لا يخفى عليه منه شيء، فيترتب عليه بعض التوفية دون بعض.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر :[ وإن ] بتخفيف النون مع إعمالها عمل الثقيلة اعتبار للأصل، و [ لما ] بالتخفيف على أن لامها موطئة للقسم أو فارقة، وهي فاصلة بينها وبين اللام الداخلة على فعل القسم. وأما على قراءة تشديد [ لما ] - وهي قراءة ابن عامر ونافع وحمزة - فهي بمعنى إلا، وإن نافية، قاله الجلال.
﴿ فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير ( ١١٢ ) ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون ( ١١٣ ) ﴾
هذا السياق تفصيل للأوامر والنواهي التي هي ثمرة الاعتبار بما كان من سيرة الأمم مع الرسل : من جحدوا فأهلكوا، ومن آمنوا ثم اختلفوا وتفرقوا، فمن جمع بين هذا الأمر والنهي كمل إيمانه، وما بعدهما تفضيل لهما.
﴿ فاستقم كما أمرت ﴾ أي إذا كان أمر أولئك الأمم كما قصصنا عليك أيها الرسول فاستقم مثل ما أمرناك في هذا الكتاب، أي الزم الصراط المستقيم الذي لا عوج فيه بالثبات عليه، واتقاء الاختلاف فيه.
﴿ ومن تاب معك ﴾ أي وليستقم معك من تاب من الشرك وآمن بك واتبعك ﴿ ولا تطغوا ﴾ فيه بتجاوز حدوده غلوا في الدين، فإن الإفراط فيه كالتفريط، كل منهما زيغ عن الصراط المستقيم، وهو يدل على وجوب اتباع النصوص في الأمور الدينية وهي العقائد والعبادات وعلى اجتناب الرأي وبطلان التقليد فيها.
﴿ إنه بما تعملون بصير ﴾ أي إنه تعالى بصير بعملكم، يبصر به، ويراه وحيط به علما، فيجزيكم به. يقال : بصر بالشيء في اللغة الفصحى ومنه ﴿ فبصرت به عن جنب ﴾ [ القصص : ١١ ].
وقال تعالى في مثل هذا السياق من سورة الشورى بعد ما تقدم :﴿ فلذلك فادع واستقم كما أمرت وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير ﴾ [ الشورى : ١٥ ] أمره أن يدعوه إلى الدين الذي كان عليه الرسل في عصورهم، قبل الاختلاف فيه الذي ابتدع من بعدهم، وأن يستقيم عليه كما أمره الله، وأن يخاطب أهل الكتاب بما يتبرأ به من الاختلاف، ومن إثارته بحجج الجدال، واكتفى في سورة هود بالأمر بالاستقامة على الجادة، والنهي عن الطغيان، ومنه البغي الذي يورث الاختلاف، لأن المقام مقام العبرة العامة بقصص الرسل كافة، لا بحال قوم موسى ومن أورثوا الكتاب خاصة، فهذا فرق ما بين المقامين في هذه الآيات المتشابهة.
وقد أوجز القاضي البيضاوي في وصف هذه الاستقامة فقال :" وهي شاملة للاستقامة في العقائد، كالتوسط بين التشبيه والتعطيل، بحيث يبقى العقل مصونا من الطرفين، والأعمال من تبليغ الوحي وبيان الشرائع كما أنزل، والقيام بوظائف العبادات من غير تفريط وإفراط مفوت للحقوق ونحوها، وهي في غاية العسر " [ كذا قال ] ثم قال :" وفي الآية دليل على وجوب اتباع النصوص من غير تصرف وانحراف بنحو قياس أو استحسان " اه. وهذا أحسن مما قبله، وهو ينقض بعضه.
فأحق النصوص بالاتباع من غير تصرف نصوص العقائد من صفات الله تعالى وعالم الغيب، إذ لا مجال للعقل والرأي فيها، وقد كان تحكيم النظريات العقلية فيها مثار الاختلاف والشقاق والافتراق في الأمة الذي نعاه القرآن على أهل الكتاب، وحذرنا منه في هذا السياق، وفيما هو أوضح منه من سياق سورة الشورى، وما في معناهما من السور الأخرى، وقد ترك البيضاوي بابه مفتوحا بزعمه أن الاستقامة في العقائد وسط بين التعطيل والتشبيه، ويعني به التأويل الكلامي، لأنه من أساطين نظاره، وحجته قوله : بحيث يبقى العقل مصونا من الطرفين.
والصواب أن تحكيم العقل البشري في الخوض في ذات الله وصفاته وفيما دون ذلك من عالم الغيب كملائكته وعرشه وجنته وناره طغيان من العقل، وتجاوز لحدوده وقد نهى عنه، لا صيانة له، فإن أكبر نظار البشر وفلاسفتهم عقولا قد عجزوا إلى اليوم عن معرفة كنه أنفسهم وأنفس ما دونهم من المخلوقات حتى الحشرات كالنحل والنمل، فأنى لهم أن يعرفوا كنه ذات الله وصفاته وأفعاله أو ملائكته، ولما خرجوا عن هدي سلف الأمة من الصحابة والتابعين وحملة الآثار زاغوا فكانوا ﴿ من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون ﴾ [ الروم : ٣٢ ] سقط بعضهم في خبال التعطيل، وبعضهم في خبال التشبيه، وبعضهم في حيرة النفي المحض هربا من الأمرين، وبعضهم في الذبذبة بتأويل بعض النصوص دون بعض، وهو ما سماه البيضاوي وسطا، فهم يتأولون علو الرب على جميع خلقه، واستواءه على عرشه، ورحمته بعباده، وحبه للمحسنين والمتوكلين، وأمثال هذه الصفات المرغبة في الحق والعدل، والمنفرة من الظلم والبغي، يتأولونها هربا من التشبيه بزعمهم لأنها مستعملة في صفات البشر، وما من تأويل لها إلا وهو بألفاظ بشرية مثلها تحتاج إلى تأويل، وقصاراها أنها إيثار لما اختاروه في وصفه تعالى على ما أنزله في كتابه ورضيه لنفسه.
ثم إنهم لا يؤولون صفات العلم والقدرة والمشيئة والسمع والبصر مع القطع بأن معانيها اللغوية المستعملة في البشر تستلزم التشبيه الذي قالوه في الرحمة والحب والرضى والغضب، فإن علمه تعالى ليس كعلمنا في استمداده من المعلومات، ولا في صورتها في النفس –فكيف إذا قلنا في الدماغ ؟- ولا في انقسامه إلى تصور وتصديق ينقسمان إلى بديهي ونظري، ولا قدرته تعالى ومشيئته في كنهها وتعلقهما بالأشياء كقدرتنا ومشيئتنا، فالواجب إذا أن نؤمن بأن كل ما وصف الله تعالى به نفسه فهو حق وكمال إلا أنه أعلى وأكمل من صفات خلقه التي وضعت لها تلك الأسماء، وكذلك الأفعال، وقد قالوا في رؤيته تعالى إنها حق بلا كيف، فلم لا يقولون مثل هذا في غيرها ؟
وإنما نقول هنا : لو أن التأويل الكلامي الذي عناه البيضاوي هنا شيء يقتضيه إدراك العقل البشري بالعلم الضروري أو النظري الذي ينتهي إلى الضرورة بإجماع العقلاء لما وقع فيه ما وقع من الاختلاف المذموم شرعا ومصلحة، حتى انتهى ببعض الفرق إلى المروق من الملة بتأويل أركان الدين حتى العملية التي لا مساغ فيها للتأويل، ولم يقع مثل هذا الاختلاف في أصول العقائد ولا أركان الإسلام العملية بين الصحابة رضوان الله عليهم وهم أعلم بالدين ممن بعدهم بالإجماع.
فقوله تعالى :﴿ فاستقم كما أمرت ﴾ يقتضي الإيمان بالغيب كله كما جاء في القرآن بلا تعطيل ولا تمثيل ولا تأويل، وبذلك دون سواه نجتنب ما أمر الله به جميع رسله وأتباعهم من اجتناب الاختلاف والتفرق في الدين، الذي أوعد الله أهله بالعذاب العظيم، وبرأ رسوله من أهله المفرقين والمتفرقين.
وكذلك يقتضي التزام كتاب الله وما فسرته به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من العبادات العملية بدون تحكم بالرأي والقياس كما قال البيضاوي وغيره، وفي معناها وحكمها التحريم الديني، فكل منهما لا يثبت إلا بالنص القطعي أو الإجماع، وأما الاختلاف فيما عدا ذلك من أمور القضاء والسياسة فهو طبيعي لا يمكن الاحتراس منه ولا يخل بالدين، ولا يصح أن يجعل سببا لقطع إخوته، وقد بين الله المخرج منه في سورة النساء بقوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ﴾ [ النساء : ٥٩ ].
هذا وإن مقام الاستقامة لأعلى المقامات، يرتقى به لأعلى الدرجات، كما يدل عليه هذا الأمر به للرسول صلى الله عليه وسلم في هاتين الآيتين، ولموسى وهارون عليهما السلام في قوله ﴿ قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ﴾ [ يونس : ٨٩ ]، وقوله تعالى :﴿ إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا ﴾ [ فصلت : ٣٠ ] الآيات. وروى مسلم عن سفيان الثقفي قال : قلت : يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك، قال ( قل آمنت بالله ثم استقم ) ١، فالاستقامة عين الكرامة كما قالوا.
قال السيد عبد الفتاح الزعبي الجيلاني لعم والدي السيد أحمد أبي الكمال وهو زوج عمته : يا سيدي إنك صحبت الشيخ محمودا الرافعي، وإني أرى أتباعه يذكرون له كثيرا من الكرامات، فأرجو أن تخبرني بما رأيت منه، قال : رأيت منه كرامة واحدة وهي الاستقامة. أخبرني الشيخ عبد الفتاح هذا الخبر وقال : أنا لم أكن أصدق ما ينقلونه من تلك الكرامات فسألته ؛ لأنني أعتقد أنه كان من الصديقين في هذا العصر. وكان الشيخ عبد الفتاح نقادة، وسيء الظن بما ينقله أهل طرابلس عن بعض شيوخ الطريق الذين اشتهروا بالصلاح ممن لم يدركهم، ويعتقد أن بعض ما ينقلونه عنهم من الكرامات كذب كما عهده من كثير من معاصريه، وبعضه أوهام. واختبر التزام الشيخ أحمد للصدق بطول المعاشرة، للمودة بين الأسرتين والمصاهرة، وقد ذكرت هذه الحكاية على صغر شأنها لأن أولي الصدق والاستقامة في هذه البيوتات القديمة أمسى قليلا في بعضها، وخلا من بعض، وإذا كان البيضاوي قال في القرن السابع وغيره قبله وبعده : إن الاستقامة في غاية العسر فما قال ذلك إلا لقلة من يرعاها حق رعايتها بالثبات عليها أو بلوغ الكمال فيها، لا لعسرها في نفسها، فإن الله لم يكلفنا من شرعه عسرا ﴿ يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ﴾ [ البقرة : ١٨٥ ].
١ - أخرجه مسلم في الإيمان حديث ٦٢، وأحمد في المسند ٣/ ٤١٣، ٤/ ٣٨٥..
﴿ فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير ( ١١٢ ) ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون ( ١١٣ ) ﴾
هذا السياق تفصيل للأوامر والنواهي التي هي ثمرة الاعتبار بما كان من سيرة الأمم مع الرسل : من جحدوا فأهلكوا، ومن آمنوا ثم اختلفوا وتفرقوا، فمن جمع بين هذا الأمر والنهي كمل إيمانه، وما بعدهما تفضيل لهما.
﴿ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا ﴾ أي ولا تستندوا إلى الذين ظلموا من قومكم المشركين ولا من غيرهم فتجعلوهم ركنا لكم تعتمدون عليهم فتقرونهم على ظلمهم، وتوالونهم في سياستكم الحربية أو أعمالكم الملية. فإن الظالمين بعضهم أولياء بعض، فالركون من ركن البناء، وهو الجانب القوي منه، ومنه قوله تعالى حكاية عن لوط عليه السلام ﴿ لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد ﴾ [ هود : ٨٠ ]، والسند بمعنى الركن، وقد اشتق منه سند إلى الشيء [ كركن إليه ]، واستند إليه، وفسره الفيروزأبادي في قاموسه بالتبع للجوهري بالميل إلى الشيء والسكون له، وهو تفسير بالأعم كعادتهم، وفسره الزمخشري بالميل اليسير، وتبعه البيضاوي وغيره من المفسرين الذين يعتمدون عليه في تحريره للمعاني اللغوية، لدقة فهمه، وذوقه، وحسن تعبيره، وإنه لكذلك، وقلما يخطئ في اللغة إلا متحرفا إلى شيوخ المذهب [ المعتزلة ]، أو متحيزا إلى فئة رواة المأثور من الصحابة والتابعين، أو نقلة اللغة، وشيوخ المذهب يخطئون في الاجتهاد، وفئة الروايات تخطئ في اعتماد الأسانيد الضعيفة والإسرائيليات، ورواة اللغة يفسرون اللفظ أحيانا بما هو أعم منه، أو بلازمه، أو بغير ذلك من قرائن المجاز في بعض كلام العرب، ولا يعنون أن ذلك هو حد اللفظ بحقيقته، وقد فسر الركون بعضهم بالميل والسكون إلى الشيء، وهو من تساهلهم، ولكنهم قد ذكروا في مادته ما يدل على هذا التساهل ويؤيد ما حققناه.
قال في القاموس المحيط تبعا للصحاح : ركن إليه – كنصر- ركونا : مال وسكن، والركن بالضم الجانب الأقوى. [ زاد الجوهري : من كل شيء ]، والأمر العظيم، والعز والمنعة اه، ومثله في لسان العرب وذكر الآية، وأن الركون فيها من مال إلى الشيء واطمأن إليه، والاطمئنان أقوى من السكون، وفسره في المصباح المنير بالاعتماد على الشيء، وهو أقوى من الاطمئنان، والمعاني الأربعة أي الميل والسكون والاطمئنان والاعتماد من لوازم معنى الركون، ولا تحيط بحقيقته، وأقواها آخرها.
قال في اللسان كغيره : وركن الشيء جانبه الأقوى، والركن الناحية القوية، وما تقوى به من ملك وجند وغيره، وبه فسر قوله تعالى :﴿ فتولى بركنه ﴾ [ الذاريات : ٣٩ ]، ودليل ذلك قوله تعالى :﴿ فأخذناه وجنوده ﴾ [ القصص : ٤٠ ] أي أخذناه وركنه الذي تولى به الخ ما قال، وهو يدل على ما حققاه في معنى الركون الحقيقي، وإنما عنيت بتحقيقه لما جاءوا به تفسيره وتفسير الظلم المطلق المعاقب عليه من التشديد الذي لا ترضاه الآية، كما فعلوا في تفسير الاستقامة، إذا تجاوزوا بهما سماحة دين الفطرة ويسر الحنيفية السمحة، فإن الله تعالى جعل دينه يسرا لا عسر فيه، وسمحا لا حرج على متبعيه.
فسر الزمخشري الذين ظلموا بقوله : أي إلى الذين وجد منهم الظلم، ولم يقل إلى الظالمين، وحكي أن الموفق صلى خلف الإمام فقرأ بهذه الآية فغشي عليه، فلما أفاق قيل له، فقال : هذا فيمن ركن إلى ظلم، فكيف بالظالم ؟ اه. ومعنى هذا أن الوعيد في الآية يشمل مَن مال ميلا يسيرا إلى من وقع منه ظلم قليل، أي ظلم كان، وهذا غلط أيضا، وإنما المراد بالذين ظلموا في الآية فريق الظالمين من أعداء المؤمنين الذين يؤذونهم ويفتنونهم عن دينهم من المشركين ليردوهم عنه، فهم كالذين كفروا في الآيات الكثيرة التي يراد بها فريق الكافرين، لا كل فرد من الناس وقع منه كفر في الماضي، وحسبك منها قوله تعالى :﴿ إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ﴾ [ البقرة : ٦ ]، والمخاطبون بالنهي هم المخاطبون بالآية السابقة بقوله ﴿ فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ﴾ [ هود : ١١٢ ]، وقد عبر عن هؤلاء الأعداء المشركين بالذين ظلموا كما عبر عن أقوام الرسل الأولين في قصصهم من هذه السورة في الآيات [ ٢٧، ٦٧ و٩٤ ]، وعبر عنهم فيها بالظالمين أيضا كقوله :﴿ وقيل بعدا للقوم الظالمين ﴾ [ هود : ٤٤ ]، فلا فرق في هذه الآيات بين التعبير بالوصف والتعبير بالذين وصلته، فإنهما في الكلام عن الأقوام بمعنى واحد.
فقوله تعالى :﴿ فتمسكم النار ﴾ معناه فتصيبكم النار التي هي جزاء الظالمين، بسبب ركونكم إليهم بولايتهم، والاعتزاز بهم، والاعتماد عليهم في شؤونكم الملية ؛ لأن الركون إلى الظلم وأهله ظلم ﴿ ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين ﴾ [ المائدة : ٥١ ]، روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه فسر الظلم هنا بالشرك، والذين ظلموا بالمشركين ؛ إذ السورة مكية، ولم يكن في مكة وما حولها غير المشركين الذين ظلموا أنفسهم وظلموا المؤمنين، ومعنى الآية عام في موضوعها، فولاية أهل الكتاب على المؤمنين كولاية المشركين، لا خلاف في هذا، وهو منصوص، ولكن قال بعض المفسرين : إن الآية عامة في كل نوع من أنواع الظلم، فيشمل ظلم المسلمين لأنفسهم في أحكامهم وأعمالهم، وسيأتي بيانه بعد تمام تفسيرها الذي نفهمه من مدلول ألفاظها وسياقها وحال المخاطبين بها مع الظالمين لهم في عصرهم، ويدل على ما حققناه قوله تعالى :
﴿ وما لكم من دون الله من أولياء ﴾ أي وما لكم في هذه الحال التي تركنون إليهم فيها غير الله من أنصار يتولونكم.
﴿ ثم لا تنصرون ﴾ بسبب من الأسباب، ولا بنصر الله تعالى، فإن الذين يركنون إلى الظالمين يكونون منهم، وهو لا ينصر الظالمين، كما قال ﴿ وما للظالمين من أنصار ﴾ [ البقرة : ٢٧٠ ] ؛ بل تكون غايتكم الحرمان مما وعد الله رسله، ومن ينصره من المؤمنين من نصره الخاص، فالتعبير ب( ثم ) للدلالة على الغاية والعاقبة المقدرة لهم إن ركنوا إلى أعدائه وأعدائهم الظالمين. وقال الزمخشري ومن تبعه : إنها دالة على استبعاد نصرهم في هذه الحالة ؛ لأن حكمة الله اقتضت عقابهم بالنار، وما قلته أقرب ولله الحمد والمنة.
وفي معنى الآية ما ورد من الآيات الكثيرة في النهي عن ولاية الكفار واتخاذ وليجة من دون الله ورسوله منهم، وعن اتخاذ المؤمنين بطانة من دونهم، وقد اتخذ المشركون وسائل كثيرة لاستمالة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الركون إليهم، فعصمه الله من ذلك بعد أن كاد يرجح له اجتهاده أن في بعض ذلك مصلحة واستمالة لهم إلى الإيمان، وذلك قوله تعالى :﴿ ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا ﴾ [ الإسراء : ٧٤، ٧٥ ]، يعني لولا أن ثبتناك بالعصمة لقاربت أن تركن إليهم شيئا قليلا من الركون، كأن تصدقهم أنهم أهل لأن يعتمد عليهم بعض الاعتماد، إذا أقبلت عليهم وأعرضت عن فقراء المؤمنين لاستمالتهم كما فعلت مع الأعمى، ولكن تثبيتنا إياك عَصَمَك من مقاربة أقل الركون إليهم، فضلا عن مقارفة هذا الأقل، فالآية الأولى نص في أنه صلى الله عليه وسلم ما ركن أقل الركون ولا قارب أن يركن، والآية الثانية نص في أنه لو فعل ذلك [ فرضا ] لعاقبه الله عقابا مضاعفا في الحياة والممات معا، وهذه مبالغة في الزجر والوعيد لغيره صلى الله عليه وسلم على الركون إليهم لا تصل بلاغة الكلام البشري إلى مبادئها فضلا عن أوساطها أو غاياتها.
ولو كان معنى الركون في اللغة الميل اليسير مهما يكن نوعه -كما زعم الزمخشري ومقلدوه - لكان هذا الوعيد الشديد على قليل منه على قلته في نفسه مما لا يمكن أن تراد به حقيقته، لأنه أشد الوعيد على ما لا يستطيع بشر اتقاءه إلا بعصمة خاصة من الله تعالى، كما سترى في تفسيرهم له، أما والحق ما قلناه، وهو أن الركون إلى الشخص أو الشيء هو الاعتماد عليه، والاستناد إليه، وجعله ركنا شديدا للراكن، فأجدر بقليله أن يتعذر اجتنابه على أكمل البشر إلا بالعصمة والتثبيت الخاص من الله عز وجل، فكيف ينهى جميع المؤمنين عن الميل اليسير إلى من وقع منه أي نوع من الظلم ؟
لم يكن ميل النفس الطبعي من المؤمنين إلا أولادهم وأرحامهم المشركين الظالمين، ولا البر بهم والإحسان إليهم محظورا عليهم، لأنه ليس من الركون إليهم الخاص بالولاية لهم والاعتماد عليهم، وهو المنهي عنه، ولا من الميل إليهم لأجل الظلم، ولما فعل حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه فعلته التي هي أقرب إلى الولاية الحربية منها إلى صلة الرحم- كما تأولها - أنزل الله تعالى سورة الممتحنة التي نهى فيها عن ولاية المشركين الظالمين المقاتلين في الدين والمودة فيها، وقال ﴿ ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون ﴾ [ التوبة : ٢٣ ]، وأذن بالبر والقسط لغيرهم منهم، ولا تنس ما ورد في الصحيح من نزول قوله تعالى :﴿ إنك لا تهدي من أحببت ﴾ [ القصص : ٥٦ ] في حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إسلام عمه أبي طالب الذي كفله في صغره، وكان يحميه ويناضل عنه في نوبته، واذكر قول السيدة خديجة رضي الله عنها له في حديث بدء الوحي : كلا والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم وتقري الضيف وتحمل الكل١الخ.
بل لم تكن الثقة ببعض المشركين والاعتماد عليهم في أهم الأعمال من الركون المنهي عنه، فقد وثق النبي صلى الله عليه وسلم والصديق الأكبر رضي الله عنه بمشرك من بني الديل، وائتمناه على الراحلتين اللتين هاجرا عليهما، ليوافيهما بهما في الغار بعد ثلاث، وكان المشركون الظالمون يبحثون عنهما، وقد جعلوا لمن يدلهم عليهما قدر ديتهما، واختلف أئمة العلم في استعانة المسلمين بالكافر في الحرب لتعارض الأحاديث فيها، وجمع الحافظ بينها في التلخيص بقوله : إن الاستعانة كانت ممنوعة، ثم رخص فيها. قال الشوكاني : وهذا أقربها، وعليه نص الشافعي اه. ولا شك أنهم لم يعدوها من الركون إليهم.
ومن مباحث القراءات اللفظية أن بعضهم قرأ [ تركُنوا ] بضم الكاف، وهي لغة قيس وتميم ونجد. وبعضهم قرأها وقرأ ( تمسكم ) بكسر تائهما وهي لغة تميم.
نموذج من قصور أقوال
المفسرين وغلطهم وتقليدهم في تفسير الآية
الروايات المأثورة والمعتمدون عليها.
١-روى الإمام ابن جرير المتوفى سنة ٣١٠ عن ابن عباس رضي الله عنه أنه فسر الآية بالركون إلى الشرك- [ وهو أقوى ما روي فيها ]- وروى عنه تفسيره بالميل، وإنه قال : لا تميلوا إلى الذين ظلموا. وروى عنه ابن المنذر وابن أبي حاتم :[ ولا تركنوا ] لا تذهبوا، وهو ليس تفسيرا بالمعنى اللغوي، ولا يظهر المراد الشرعي منه إلا بقرينة ما قبله - إن جمع بينهما بإرادة المشركين الظالمين للمؤمنين-، وروي عن عكرمة أنه فسر الركون بالطاعة أو المودة أو الاصطناع، وعن أبي العالية قال : لا ترضوا أعمالهم- [ وهو تفسير بأحد اللوازم البعيدة ] -وعن الحسن قال : خصلتان إذا صلحتا للعبد صلح ما سواهما من أمره : الطغيان في النعمة، والركون إلى الظلم، ثم تلا الآية، وهذا من فقه الآيتين، لا تفسيرا لهما، وعن قتادة قال : يعني لا تلحقوا بالشرك وهو الذي خرجتم منه. وأخذ ابن جرير خلاصة هذه الروايات فقال في تفسير الآية : ولا تميلوا أيها الناس إلى قول هؤلاء الذين كفروا بالله، فتقبلوا منهم، وترضوا عن أعمالهم، فتمسكم النار بفعلكم الخ.
وما قاله ورواه حق في نفسه، ولكنه لا يحيط بمعنى الآية، وما كانت تلك الروايات إلا كلمات مجملة وجيزة ذكرت بالمناسبة، لا بقصد تحقيق معنى الآية في لغتها وأسلوبها وموقعها من العبرة بقصص الرسل مع أقوامهم الظالمين، وقال مثله كل من البغوي وابن كثير، فإنهما يعتمدان على المأثور، قل أو كثر.
٢
١ - أخرجه البخاري في بدء الوحي باب٣، وتفسير سورة ٩٦، باب١، ومسلم في الإيمان حديث ٢٥٢، وأحمد في المسند ٦/ ٢٢٣، ٢٣٣..
﴿ وأقم الصلاة طرفي النار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين ( ١١٤ ) واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ( ١١٥ ) ﴾
هذا أمر بأعظم العبادات وبأعظم الأخلاق، اللذين يستعان بهما على ما قبلهما من الأمر بالاستقامة والنهي عن الطغيان والركون إلى أولي الظلم، ولذلك عطفا عليهما.
﴿ وأقم الصلاة طرفي النهار ﴾ خص إقامة الصلاة بالذكر في هذه الوصية العامة المجملة ؛ لأنها رأس العبادات المغذية للإيمان، والمعينة على سائر الأعمال، أي أدِّها على الوجه القويم، وأدمها في طرفي النهار من كل يوم، طرف الشيء والزمن الناحية، والطائفة منه ونهايته، فطرفا النهار هنا البكرة والأصيل، أو الغدو والعشي، وقد أمرنا تعالى في التنزيل بالذكر والتسبيح فيهما.
﴿ وزلفا من الليل ﴾ أي وفي زلف من الليل، جمع زلفة، وهي بالضم كقرب جمع قربة لفظا ومعنى. وتطلق كما في معاجم اللغة على الطائفة من أول الليل لقربها من النهار. وقالوا : الزلف ساعات الليل الآخذة من النهار، وساعات النهار الآخذة من الليل. روي عن ابن عباس أن صلاة طرفي النهار المغرب والغداة [ أي الفجر ]، وزلف الليل العتمة [ أي العشاء ]. وعن الحسن : أن صلاة طرفي النهار الفجر والعصر، وقال في زلف الليل : هما زلفتان : صلاة المغرب وصلاة العشاء. وقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( هما زلفتا الليل ) ١، وهذا أقرب إلى اللغة مما قبله، فإن صح الحديث فلا معدل عنه، ولكنه من مراسيل الحسن، فيبحث عمن رفعه، وأدخل بعض المفسرين صلاة الظهر في طرفي النهار، إذ يصح أن يسمى وقتها طرفا، بمعنى أنه طائفة وناحية من النهار يفصلها من غيرها زوال الشمس، ولكنه طرف ثالث، واللفظ هنا مثنى، وفي سورة طه ﴿ وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى ﴾ [ طه : ١٣٠ ] فجمع الأطراف بعد ذلك الطرفين الأخيرين بالمعنى وهما وقتا صلاتي الفجر والعصر.
والأظهر في أمثال هذه الآيات أن ذكر الله تعالى وتسبيحه المطلق فيها عام، فيدخل فيه الصلاة وغيرها الآية الصريحة في أوقات الصلوات الخمس قوله تعالى :﴿ فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات الأرض وعشيا وحين تظهرون ﴾ [ الروم : ١٧، ١٨ ]. تمسون تدخلون في المساء، وهو ما بين الظهر إلى المغرب، نقله في المصباح عن ابن القوطية، وذكر هو وغيره مثل هذا في تفسير العشي، وهو غلط سببه اشتراك الوقتين باتصال آخر المساء بأول العشي، وهو أول الليل، حيث يختلط النور بالظلام، فصلاة المغرب العشاء الأولى، وصلاة العتمة العشاء الآخرة التي يزول عندها الشفق وهو آخر أثر لنور النهار، وفي معنى هذا قوله تعالى :﴿ أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر ﴾ [ الإسراء : ٧٨ ] الآية، فدلوك الشمس زوالها، أي أقمها لأول وقتها هذا وفيه صلاة الظهر، منتهيا إلى غسق الليل وهو ابتداء ظلمته ويدخل في صلاة العصر والعشاءين وأقم صلاة الفجر.
﴿ إن الحسنات يذهبن السيئات ﴾ الجملة تعليل للأمر قبلها مبين لحكمته وفائدته، ومعناها أن للأعمال الحسنة من تزكية النفس وإصلاحها ما يمحو منها تأثير الأعمال السيئة وإفسادها، روي عن ابن مسعود وابن عباس تفسير الحسنات فيها بالصلوات الخمس، زاد ابن عباس : والباقيات الصالحات، ولا غرو ؛ فالصلاة أعظم الحسنات، وأكبر العبادات المكفرة للسيئات، ولكن لفظ الحسنات عام يشمل جميع الأعمال الصالحات، حتى التروك فإنها عمل نفسي، ومنه ﴿ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما ﴾ [ النساء : ٣١ ]، وفي الحديث ( وأتبع السيئة الحسنة تمحها ) ٢. إن في ﴿ ذلك ذكرى للذاكرين ﴾ أي إن فيما ذكر من الوصايا من الأمر بالاستقامة إلى هنا لموعظة للمتعظين الذين يراقبون الله ولا ينسونه.
وقد فسروا السيئات هنا بالصغائر، وأيدوه بما روي في سبب نزول الآية عن ابن مسعود أن رجلا أصاب من امرأة قبلة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك كأنه يسأله عن كفارتها، فأنزلت عليه ﴿ وأقم الصلاة طرفي النهار ﴾ الخ، فقال : يا رسول الله ألي هذه ؟ قال ( هي لمن عمل بها من أمتي ) ٣. رواه الجماعة إلا أبا داود، وأشهر رواة التفسير المأثور، وفي رواية لغير البخاري وأبي داود منهم أن الرجل قال للنبي : إنني وجدت امرأة في البستان ففعلت بها كل شيء غير أني لم أجامعها، قبلتها ولزمتها، ولم أفعل غير ذلك، فافعل بي ما شئت، فلم يقل له رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، فذهب الرجل فقال عمر :" لقد ستر الله عليه لو ستر على نفسه، فأتبعه رسول الله بصره فقال :( ردوه علي )، فردوه فقرأ عليه ﴿ وأقم الصلاة طرفي النهار ﴾ الآية. فقال معاذ بن جبل : يا رسول الله أله وحده أم الناس كافة ؟ قال :( بل للناس كافة ) ٤، وليس في هذه الرواية أن الآية نزلت في هذه النازلة.
وهنالك روايات أخرى عن معاذ بن جبل وابن عباس في معنى حديث ابن مسعود في الجملة مغزاه، وقد سمي الرجل في بعضها بأبي اليسر، ومنها حديث أبي أمامة عند أحمد ومسلم وأبي داود وغيرهم أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله أقم فيّ حد الله – مرة أو مرتين- فأعرض عنه، ثم أقيمت الصلاة، فلما فرغ منها قال :( أين الرجل ؟ ) قال : أنا ذا، قال :( أتممت الوضوء وصليت معنا آنفا ) ؟ قال : نعم، قال :( فإنك خرجت من خطيئتك كيوم ولدتك أمك فلا تعد ). والمراد خرجت من خطيئتك التي طلبت تكفيرها بإقامة الحد، وهي لا حد فيها. وإنما يجب في تكفيرها التوبة والعمل الصالح الذي يزكي النفس، ومن أعظمها الوضوء التام وإقامة الصلاة، وقد تاب الرجل توبة نصوحا بدليل طلبه إقامة الحد عليه، والتوبة مع العمل الصالح تكفر الصغائر والكبائر إلا حقوق العباد، فإنه يجب أداؤها أو استحلال أهلها منها إن أمكن. وذهب بعض العلماء إلى أن تكفير الحسنات للصغائر لا يشترط فيه التوبة إذا اجتنبت الكبائر، ويقول الغزالي : إن كل نوع من الحسنات يكفر ما هو ضده من السيئات، كتكفير البخل بالإنفاق، والإساءة إلى الناس بالإحسان الخ.
والآيات في تكفير السوء والسيئات المطلقة والمعينة كثيرة، ومن الثاني كفارات الظهار ومحرمات الإحرام والحنث بالإيمان، وأمثال هذه لا يشترط فيها التوبة، فذنوبها عارضة ليس من شهوات النفس تكرارها كالفواحش والمنكرات المدنسة للنفس باتباع الهوى والشهوات الباعثة على الإصرار، فهذه لا يطهرها منها ويزكيها إلا التوبة، وإنما تتحقق التوبة بالندم على فعل الذنب المقتضي لتركه وإزالة أثره من النفس بالعمل الصالح، فبجملة هذه المعاني الثلاث يحصل الرجوع إلى الله بعد الإعراض والبعد عنه بعصيانه، وشرح الغزالي هذا المعنى للتوبة بقوله : إنها مركبة من علم وحال وعمل، كل منها سبب لما بعده : فالعلم بحرمة الذنب وكونه سببا لسخط الله تعالى وعقابه يوجب الحال أي يحدثه، وهو الخوف وألم النفس، وهذا يوجب العمل، وهو ترك الذنب وتكفيره بالعمل الصالح اه بالمعنى موجزا.
وقد تكلمنا على التوبة في مواضع من هذا التفسير : منها الكلام على توبة آدم في سورتي البقرة والأعراف، ومنها في سورة النساء قوله تعالى :﴿ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب ﴾ [ النساء : ١٧ ] إلى آخر الآيتين، ومنها في سورة الأنعام ﴿ وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم ﴾ [ الأنعام : ٥٤ ] وسيأتي في معناه من سورة النحل ﴿ ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ﴾ [ النحل : ١١٩ ]، ومثله في سورة طه ﴿ وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ﴾ [ طه : ٨٢ ]، وناهيك بما تقدم في أواخر التوبة من آيات التوبة، ولا سيما توبة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك ؛ ففيها أكبر العبر للمؤمنين المسلمين.
١ - روى ابن الأثير الجزري في النهاية من حديث ابن مسعود "زلف الليل" وهي ساعاته، واحدتها زلفة، وقيل الطائفة من الليل، قليلة كانت أو كثيرة، النهاية في غريب الحديث ٢/ ٣١٠..
٢ - أخرجه الترمذي في البر باب ٥٥، والدرامي في الرقاق باب ٧٤، وأحمد في المسند ٥/ ١٥٣، ١٥٨، ١٦٩، ١٧٧، ٢٢٨، ٢٣٦..
٣ - أحرجه البخاري في تفسير سورة ١١، باب ٦، والترمذي في تفسير سورة ١١، باب٦، وابن ماجه في الزهد باب ٣٠..
٤ - أخرجه مسلم في التوبة حديث ٤٢، وأبو داود في الحدود باب ٣١، والترمذي في تفسير سورة ١١، باب ٤، وأحمد في المسند ١/ ٤٤٩..
﴿ وأقم الصلاة طرفي النار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين ( ١١٤ ) واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ( ١١٥ ) ﴾
هذا أمر بأعظم العبادات وبأعظم الأخلاق، اللذين يستعان بهما على ما قبلهما من الأمر بالاستقامة والنهي عن الطغيان والركون إلى أولي الظلم، ولذلك عطفا عليهما.
﴿ واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ﴾ أي ووطن نفسك على احتمال المشقة في سبيل ما أمرت به وما نهيت عنه في هذه الوصايا حتى الصلاة، كما قال ﴿ وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها ﴾ [ طه : ١٣٢ ] واستعن بالصبر والصلاة على سائر أعباء الدعوة إلى الإسلام والإصلاح، وانتظار عاقبتها من النصر والفلاح، فإن هذا من الإحسان الذي لا جزاء له إلا الإحسان، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين في أعمالهم في الدنيا ولا في الآخرة، بل يوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله، ولكن للجزاء في أمور الأمم آجالا وأقدارا يجب الصبر في انتظارها، وعدم استعجالها قبل أوانها.
﴿ فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين ( ١١٦ ) وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ( ١١٧ ) ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين ( ١١٨ ) إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ( ١١٩ ) ﴾
هذه الآيات الثلاث في بيان سنن الله العامة في إهلاك أولئك الأقوام الذين قص على رسوله قصصهم وأمثالهم جاءت بعدما تقدم من بيان عاقبتهم في الدنيا والآخرة، وإنذار قومه صلى الله عليه وسلم بهم، وما يجب عليه وعلى من آمن وتاب معه من الاستقامة والصلاح، واجتناب أهل الظلم والفساد.
قال :﴿ فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض ﴾ لولا تحضيضية بمعنى هلا، والقرون الأمم والأقوام، والقرن في اللغة كما في المصباح :" الجيل من الناس. قيل ثمانون سنة، وقيل سبعون ". أقول : ثم اشتهر تقديره بمائة سنة. والبقية من الشيء ما يبقى منه بعد ذهاب أكثره، ومن الناس كذلك، واستعمل في الخيار والأصلح والأنفع، قيل : لأن الناس ينفقون في العادة أردأ ما عندهم وأقربه إلى التلف والفساد أولا، ويستبقون الأجود فالأجود، ونقول : لأن الأحياء يهلك منهم الأضعف فالأضعف أولا ويبقى الأقوى فالأقوى، ومن هذا ما يعرف في علم الاجتماع بسنة الانتخاب الطبيعي، وهو إفضاء تنازع الأحياء إلى بقاء الأمثل والأصلح، كما ورد في المثل الذي ضربه الله للحق والباطل بقوله تعالى :﴿ فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ﴾ [ الرعد : ١٧ ] ومن ثم يعبرون عن الخيار بالبقية يقولون : في الزوايا خبايا، وفي الناس بقايا، وبهذا فسرت الآية.
والمعنى : فهلا كان أي وجد من أولئك الأقوام الذين أهلكناهم بظلمهم وفسادهم في الأرض جماعة أصحاب بقية من النهي والرأي والصلاح ينهونهم عن الفساد في الأرض -وهو الظلم واتباع الهوى والشهوات التي تفسد عليهم أنفسهم ومصالحهم- فيحول نهيهم إياهم دون هلاكهم، فإن من سنتنا أن لا نهلك قوما إلا إذا عم الفساد والظلم أكثرهم كما يأتي في الآية التالية.
﴿ إلا قليلا ممن أنجينا منهم ﴾ أي لم يكن فيهم بقية من هؤلاء العقلاء الأخيار، الناهين عن المنكر، الآمرين بالمعروف، ولكن كان هنالك قليل من الذين أنجيناهم، أو هم الذين أنجيناهم مع الرسل منهم، وكانوا منبوذين لا يقبل نهيهم وأمرهم، مهددين مع رسلهم بالطرد، والإبعاد، بعد الأذى والاضطهاد.
﴿ واتبع الذين ظلموا ﴾ وهم الأكثرون منهم. ﴿ ما أترفوا فيه ﴾ أي ما رزقناهم وآتيناهم من أسباب الترف والنعيم فبطروا. يقال : أترفته النعمة أي أبطرته وأفسدته، والبطر الطغيان في المرح وخفة النشاط والفرح.
﴿ وكانوا مجرمين ﴾ أي متلبسين بالإجرام الذي ولده الترف راسخين فيه، فكان هو المسخر لعقولهم في ترجيح ما أعطوا من ذلك على اتباع الرسل.
روى ابن مردويه في تفسيره عن أبي بن كعب قال : أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أولوا بقية وأحلام )، والأشبه عندي أنه صلى الله عليه وسلم ذكر الأحلام تفسيرا لا قرآنا. والمعنى أن العقول السليمة الرشيدة كافية لفهم ما في دعوة الرسل عليهم السلام من الخير والصلاح لو لم يمنع من استعمال هدايتها الافتتان بالترف، والتفنن في أنواعه، بدلا من القصد والاعتدال فيه وشكر الله المنعم به عليه، فالإتراف هو الباعث على الإسراف والفسوق والعصيان، والظلم والإجرام يظهر في الكبراء والرؤساء، ويسري بالتقليد في الدهماء، فيكون سبب الهلاك بالاستئصال، أو فقد الاستقلال، وذلك قوله تعالى :﴿ وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ﴾ [ الإسراء : ١٦ ] فهذا بيان لسنته تعالى في الأمم قديمها وحديثها، ولا تغني عن شعوب الإفرنج معرفتهم بهذه السنة ومحاولة اتقائهم لها، فحكماؤهم وهم أولو البقية والأحلام الذين ينهونهم عن الفساد في الأرض يصرحون بأنهم سيهلكون كما هلك من قبلهم، ولن تغني عنهم قوتهم، بل تكون هي المهلكة لهم بأيديهم، كما قال تعالى :﴿ قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض ﴾ [ الأنعام : ٦٥ ] فراجع تفسيرها.
ومن عجائب الجهل والغي أن متبعي الأتراف من شعوبنا يقلدون الإفرنج في الإسراف فيه دون ما به يرجو الإفرنج اتقاء الهلاك من فساده وهو القوة الحربية وفنون الصناعة، فإذا كان فسق الأتراف يهلك الأمم القوية، فكيف تبقى مع أتباعه وفساده الأمم الضعيفة ؟ وكيف يزول والمتبعون له هم الملوك والأمراء، والزعماء والحكام، والكتاب والخطباء، وهم الأكثرون الظاهرون، والناهون عن فسادهم الأقلون الخاملون ؟ ثم بين سنته تعالى في إهلاك الأمم وما يحول دونه بقوله :﴿ وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ﴾
﴿ فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين ( ١١٦ ) وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ( ١١٧ ) ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين ( ١١٨ ) إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ( ١١٩ ) ﴾
هذه الآيات الثلاث في بيان سنن الله العامة في إهلاك أولئك الأقوام الذين قص على رسوله قصصهم وأمثالهم جاءت بعدما تقدم من بيان عاقبتهم في الدنيا والآخرة، وإنذار قومه صلى الله عليه وسلم بهم، وما يجب عليه وعلى من آمن وتاب معه من الاستقامة والصلاح، واجتناب أهل الظلم والفساد.
﴿ وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ﴾ أي وما كان من شأن ربك وسنته في الاجتماع البشري أن يهلك الأمم بظلم منه لها في حال كون أهلها مصلحين في الأرض، مجتنبين للفساد والظلم، وإنما أهلكهم ويهلكهم بظلمهم وإفسادهم فيها، كما ترى في الآيات العديدة من هذه السورة وغيرها.
وفي الآية وجه آخر وهو أنه ليس من سنته تعالى أن يهلك القرى بظلم يقع فيها مع تفسير الظلم بالشرك وأهلها مصلحون في أعمالهم الاجتماعية والعمرانية، وأحكامهم المدنية والتأديبية، فلا يبخسون الحقوق كقوم شعيب، ولا يرتكبون الفواحش ويقطعون السبيل ويأتون في ناديهم المنكر كقوم لوط، ولا يبطشون بالناس بطش الجبارين كقوم هود، ولا يذلون لمتكبر جبار يستعبد الضعفاء، كقوم فرعون ؛ بل لا بد أن يضموا إلى الشرك الإفساد في الأعمال والأحكام، وهو الظلم المدمر للعمران، ويحتمل أن يراد أنه لا يهلكها بظلم قليل من أهلها لأنفسهم، إذا كان الجمهور الأكبر منهم مصلحين في جل أعمالهم ومعاملاتهم للناس. أخرج الطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والديلمي عن جرير بن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن تفسير هذه الآية فقال :( وأهلها ينصف بعضهم بعضا ). وروي موقوفا على جرير رضي الله عنه، فتنكير الظلم في هذا للتقليل والتحقير، وفيما قبله للتعظيم، وهو مأخوذ من قوله تعالى ﴿ إن الشرك لظلم عظيم ﴾ [ لقمان : ١٣ ] والآية تدل على أن إهلاك المصلحين ظلم فلذلك يتنزه الله عنه.
وذكر المفسرون في الوجه الثاني القول المشهور المعبر عن تجارب الناس، وهو أن الأمم تبقى مع الكفر، ولا تبقى مع الظلم، والأوجه الثلاثة في الآية صحيحة ويجوز إرادتها كلها على القول بأن جميع ما يدل عليه الكلام مما شأن صاحبه أن يعلمه، ولا يكون متعارضا في نفسه يصح أن يكون مرادا له، وإن كان من المشترك، أو كان بعضه حقيقة وبعضه مجازا، ومن أركان بلاغة القرآن جمع المعاني الكثيرة في اللفظ القليل، وأن يكون بعضها واضحا في هذه المعاني وبعضها خفيا يراد به أن يذهب الذهن والفكر فيه كل مذهب، وهذا مما يتنافس فيه البلغاء.
﴿ فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين ( ١١٦ ) وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ( ١١٧ ) ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين ( ١١٨ ) إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ( ١١٩ ) ﴾
هذه الآيات الثلاث في بيان سنن الله العامة في إهلاك أولئك الأقوام الذين قص على رسوله قصصهم وأمثالهم جاءت بعدما تقدم من بيان عاقبتهم في الدنيا والآخرة، وإنذار قومه صلى الله عليه وسلم بهم، وما يجب عليه وعلى من آمن وتاب معه من الاستقامة والصلاح، واجتناب أهل الظلم والفساد.
﴿ ولو شاء ربك ﴾ أيها الرسول الحريص على إيمان قومه الآسف على إعراض أكثرهم عن إجابة دعوته، واتباع هدايته ﴿ لجعل الناس أمة واحدة ﴾ على دين واحد بمقتضى الغريزة والفطرة لا رأي لهم فيه ولا اختيار، وإذن لما كانوا هم هذا النوع من الخلق المسمى بالبشر وبنوع الإنسان، بل لكانوا في حياتهم الاجتماعية كالنحل أو النمل، وفي حياتهم الروحية كالملائكة مفطورين على اعتقاد الحق وطاعة الله عز وجل، فلا يقع بينهم اختلاف، ولكنه خلقهم بمقتضى حكمته كاسبين للعلم لا ملهمين، وعاملين بالاختيار وترجيح بعض الممكنات المتعارضة على بعض لا مجبورين ولا مضطرين، وجعلهم متفاوتين في الاستعداد وكسب العلم واختلاف الاختيار، وقد كانوا في طور الطفولة النوعية في الحياة الفردية والزوجية والاجتماع البدوي الساذج أمة واحدة لا مثار للاختلاف بينهم، ثم كثروا ودخلوا في طور الحياة الاجتماعية فظهر استعدادهم للاختلاف والتنازع فاختلفوا، كما قال تعالى :﴿ وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ﴾ [ يونس : ١٩ ] في كل شيء بالتبع لاختلاف الاستعداد.
﴿ ولا يزالون مختلفين ﴾ في كل شيء حتى الدين الذي شرعه الله لتكميل فطرتهم وإزالة الاختلاف بينهم.
﴿ فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين ( ١١٦ ) وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ( ١١٧ ) ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين ( ١١٨ ) إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ( ١١٩ ) ﴾
هذه الآيات الثلاث في بيان سنن الله العامة في إهلاك أولئك الأقوام الذين قص على رسوله قصصهم وأمثالهم جاءت بعدما تقدم من بيان عاقبتهم في الدنيا والآخرة، وإنذار قومه صلى الله عليه وسلم بهم، وما يجب عليه وعلى من آمن وتاب معه من الاستقامة والصلاح، واجتناب أهل الظلم والفساد.
﴿ إلا من رحم ربك ﴾ منهم فاتفقوا على حكم كتاب الله فيهم، وهو القطعي الدلالة منه الذي لا مجال للاختلاف فيه، وعليه مدار جمع الكلمة ووحدة الأمة، إذ الظني لا يكلفون الاتفاق على معناه ؛ لأنه موكول إلى الاجتهاد الذي لا يجب العمل به إلا على من ثبت عنده رجحانه، وتقدم تفصيل وحدة البشر، فاختلافهم، فبعثة النبيين، وإنزال الكتاب معهم للحكم بين الناس في الآية [ البقرة : ٢١٣ ]، وتفسيرها في الجزء الثاني من هذا التفسير.
﴿ ولذلك خلقهم ﴾ أي ولذلك الذي دل عليه الكلام من مشيئته تعالى فيهم خلقهم مستعدين للاختلاف، والتفرق في علومهم ومعارفهم وآرائهم وشعورهم، وما تبع ذلك من إرادتهم واختيارهم في أعمالهم، ومن ذلك الدين والإيمان والطاعة والعصيان، وحكمته أن يكونوا مظهرا لأسرار خلقه المادية والمعنوية في الأجسام والأرواح وسننه في الأحياء، وتعلق قدرته ومشيئته بخلق جميع الممكنات، وبهذا كانوا خلفاء الأرض ﴿ وعلم آدم الأسماء كلها ﴾ [ البقرة : ٣١ ]. وقال الحسن وعطاء : خلقهم للاختلاف، وقال مجاهد وعكرمة : خلقهم للرحمة، وقال ابن عباس : خلقهم فريقين : فريقا يرحم فلا يختلف، وفريقا لا يرحم فيختلف، فذلك قوله :﴿ فمنهم شقي وسعيد ﴾ [ هود : ١٠٥ ]، وهذا أصح مما قبله لأنه جامع للقولين.
وفي معناه قول مالك بن أنس وقد سأله أشهب عن الآية فقال : خلقهم ليكون فريق في الجنة وفريق في السعير اه. أي كان الاختلاف سبب دخول كل من الدارين، وفي الرواية عن ابن عباس تقديم المعلول على العلة، والمعقول المشروع عكسه، فالترتيب في الجزاء أن يقال : فريق اتفقوا في الدين، فجعلوا كتاب الله حكما بينهم فيما اختلفوا فيه، فاجتمعت كلمتهم، وكانوا أمة واحدة، فرحمهم الله بوقايتهم من شر الاختلاف وغوائله في الدنيا ومن عذاب الآخرة، وفريق اختلفوا فيه كما اختلفوا في مصالح الدنيا ومنافعها وسلطانها، فكان بأسهم بينهم شديدا، فذاقوا عقاب الاختلاف والشقاق في الدنيا وأعقبهم جزاءه في الآخرة، فكانوا محرومين من رحمته بظلمهم لأنفسهم لا بظلم منه لهم.
﴿ وتمت كلمة ربك ﴾ التي قالها في غير المهتدين ﴿ لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ﴾ أي من عالمي الإنس والجن الذين لا يهتدون بما أرسل به رسله وأنزل معهم كتبه لهداية المكلفين والحكم بين المختلفين، ففي سورة ألم السجدة ﴿ ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم ﴾ [ السجدة : ١٣ ]، فهذا فريق السعير، ومنه يعلم جزاء الفريق الآخر، والمقام يقتضي الإنذار.
﴿ وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين ( ١٢٠ ) وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون ( ١٢١ ) وانتظروا إنا منتظرون ( ١٢٢ ) ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون ( ١٢٣ ) ﴾
هذه الآيات الأربع خاتمة هذه السورة، وهي في بيان ما أفادت رسول الله وخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم من أنباء أشهر الرسل الأولين مع أقوامهم في نفسه، وما تفيده المؤمنين بما جاء به، وما يجب أن يبلغه غير المؤمنين به من الإنذار والتهديد لهم، والإشارة إلى ما ينتظره كل فريق، وأن عاقبته له لا لهم، ثم أمره بعبادته والتوكل عليه، وعدم المبالاة بما يعملون من عداوته والكيد له.
قال تعالى :
﴿ وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ﴾ أي وكل نوع من أنباء الرسل نقص عليك ونحدثك به على وجهه الذي يعلم من تتبعه واستقصائه به، فإن معنى القص في الأصل تتبع أثر الشيء للإحاطة به، ومنه ﴿ وقالت لأخته قصيه ﴾ [ القصص : ١١ ] ثم قيل : قص خبره إذا حدث به على وجهه الذي استقصاه، والنبأ الخبر المهم، فهذه الكلية تشمل أنواع الأنباء المفيدة من قصص الرسل الصحيحة في صورها الكلامية وأساليبها البيانية، وأنواع فوائدها العلمية، وعبرها ومواعظها النفسية، دون الأمور العادية المستغنى عن ذكرها، كالتي تراها في سفر التكوين الذين يعدونه من التوراة وأمثاله.
﴿ ما نثبت به فؤادك ﴾ أي نقص منها عليك ما نثبت به فؤادك، أي نقويه ونجعله راسخا في ثباته كالجبل في القيام بأعباء الرسالة ونشر الدعوة بما في هذه القصص من زيادة العلم بسنن الله في الأقوام، وما قاساه رسلهم من الإيذاء فصبروا صبر الكرام.
﴿ وجاءك في هذه الحق ﴾ أي في هذه السورة، وهو المروي عن ابن عباس وأبي موسى الأشعري من الصحابة وسعيد بن جبير والحسن البصري من التابعين وعليه الجمهور. وقيل : في هذه الأنباء المقتصة عليك بيان الحق الذي دعا إليه جميع أولئك الرسل من أصل دين الله وأركانه، وهو توحيده بعبادته وحده، واتقائه، واستغفاره، والتوبة إليه، وترك ما يسخطه من الفواحش والمنكرات والظلم والإجرام، والإيمان بالبعث والجزاء الصالح.
﴿ وموعظة وذكرى للمؤمنين ﴾ الذي يتعظون بما حل بالأمم من عقاب الله، ويتذكرون ما فيها من عاقبة الظلم والفساد، ونصره تعالى لمن نصره، ونصر رسله، فالمؤمنون هنا يشمل من كانوا آمنوا بالفعل، والمستعدين للإيمان الذين آمنوا بهذه الموعظة والذكرى كالذين آمنوا بعد، وفي هذه الآية من إعجاز الإيجاز، ما يناسب إعجاز تلك القصص التي جمعت فوائدها بهذه الكلمات.
﴿ وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين ( ١٢٠ ) وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون ( ١٢١ ) وانتظروا إنا منتظرون ( ١٢٢ ) ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون ( ١٢٣ ) ﴾
هذه الآيات الأربع خاتمة هذه السورة، وهي في بيان ما أفادت رسول الله وخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم من أنباء أشهر الرسل الأولين مع أقوامهم في نفسه، وما تفيده المؤمنين بما جاء به، وما يجب أن يبلغه غير المؤمنين به من الإنذار والتهديد لهم، والإشارة إلى ما ينتظره كل فريق، وأن عاقبته له لا لهم، ثم أمره بعبادته والتوكل عليه، وعدم المبالاة بما يعملون من عداوته والكيد له.
﴿ وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم ﴾ أي فبشر به المؤمنين الذين يتعظون ويتذكرون، وقل للكافرين الذين لا يؤمنون فلا يتعظون : اعملوا على ما في مكنتكم أو تمكنكم واستطاعتكم من مقاومة الدعوة وإيذاء الداعي والمستجيبين له، وهذا الأمر للتهديد والوعيد، أي فسوف تلقون جزاء ما تعملون من العقاب والخذلان.
﴿ إنا عاملون ﴾ على مكانتنا من الثبات على الدعوة وتنفيذ أمر الله وطاعته.
﴿ وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين ( ١٢٠ ) وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون ( ١٢١ ) وانتظروا إنا منتظرون ( ١٢٢ ) ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون ( ١٢٣ ) ﴾
هذه الآيات الأربع خاتمة هذه السورة، وهي في بيان ما أفادت رسول الله وخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم من أنباء أشهر الرسل الأولين مع أقوامهم في نفسه، وما تفيده المؤمنين بما جاء به، وما يجب أن يبلغه غير المؤمنين به من الإنذار والتهديد لهم، والإشارة إلى ما ينتظره كل فريق، وأن عاقبته له لا لهم، ثم أمره بعبادته والتوكل عليه، وعدم المبالاة بما يعملون من عداوته والكيد له.
﴿ وانتظروا ﴾ بنا ما تتمنون لنا من انتهاء أمرنا بالموت أو غيره مما تتحدثون به، ومنه ما حكاه تعالى عنهم في قوله ﴿ أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون ﴾ [ الطور : ٣٠ ]، وما في معناه.
﴿ إنا منتظرون ﴾ ما وعدنا ربنا من النصر وظهر هذا الدين كله ولو كره الكافرون، وإتمام نوره ولو كره المشركون، وعقاب المعاندين منهم في الدنيا بعذاب من عنده أو بأيدي المؤمنين.
﴿ وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين ( ١٢٠ ) وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون ( ١٢١ ) وانتظروا إنا منتظرون ( ١٢٢ ) ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون ( ١٢٣ ) ﴾
هذه الآيات الأربع خاتمة هذه السورة، وهي في بيان ما أفادت رسول الله وخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم من أنباء أشهر الرسل الأولين مع أقوامهم في نفسه، وما تفيده المؤمنين بما جاء به، وما يجب أن يبلغه غير المؤمنين به من الإنذار والتهديد لهم، والإشارة إلى ما ينتظره كل فريق، وأن عاقبته له لا لهم، ثم أمره بعبادته والتوكل عليه، وعدم المبالاة بما يعملون من عداوته والكيد له.
﴿ ولله غيب السماوات والأرض ﴾ أي وله وحده ما هو غائب عن علمك أيها الرسول وعن علمهم من فوقكم أو من تحت أرجلكم، مما تنتظر من وَعْد الله لك ووعيده لهم، ومما ينتظرون من أمانيهم وأوهامهم، فهو المالك له المتصرف فيه، العالم بما سيقع منه وبوقته الذي يقع فيه.
﴿ وإليه يرجع الأمر كله ﴾ فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. قرأ الجمهور " يرجع " بفتح الياء وكسر الجيم، ونافع وحفص بضم الأولى وفتح الثانية، والمعنى واحد.
﴿ فاعبده وتوكل عليه ﴾ أي وإذا كان له كل شيء، وإليه يرجع كل أمر، فاعبده كما أمرت بإخلاص الدين له وحده من عبادة شخصية قاصرة عليك، ومن عبادة متعدية النفع لغيرك، وهي الدعوة إلى ربك بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، وتوكل عليه ليتم لك وعليك ما وعدك بما لا تبلغه استطاعتك، فالتوكل لا يصح بغير العبادة، والأخذ بالأسباب المستطاعة، وإنما يكون بدونهما من التمني الكاذب والآمال الخادعة، كما أن العبادة وهي ما يراد به وجه الله من كل عمل لا تكمل إلا بالتوكل الذي يكمل به التوحيد، قال صلى الله عليه وسلم :( الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ) ١. رواه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم عن شداد بن أوس بسند صحيح.
﴿ وما الله بغافل عما تعملون ﴾ جميعا : ما تعمله أنت أيها النبي والمؤمنون من عبادته والتوكل عليه، والصبر على أذى المشركين، وتوطين النفس على مصابرتهم وجهادهم، فهو يوفيكم جزاءه في الدنيا والآخرة، وما يعمله المشركون من الكفر والكيد لكم، وهذه قراءة نافع وحفص، وقرأ الجمهور [ يعملون ] بالتحتية، وهي نص في وعيد المشركين وحدهم بالجزاء على جميع أعمالهم، وقد صدق الله وعده، ونصر عبده محمدا رسول الله وخاتم النبيين، فالحمد لله رب العالمين.
١ - أخرجه الترمذي في القيامة باب ٢٥، وابن ماجه في الزهد باب ٣١، وأحمد في المسند ٤/ ١٢٤..
Icon