تفسير سورة هود

التفسير المنير
تفسير سورة سورة هود من كتاب التفسير المنير .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

السيئات [الآية: ١١١] والصبر على الطاعة، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين [الآية: ١١٥].
١٣- محاربة الفساد في الأرض من أجل حفظ الأمة والأفراد من الهلاك:
فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ [الآية: ١١٦].
١٤- لا إهلاك ولا عذاب للأمم في حال الإصلاح [الآية: ١١٧].
١٥- تهديد المعرضين عن دعوة الحق بالعذاب، وجعل العاقبة للمتقين.
ويلاحظ أن التهديد والترغيب أمران متلازمان مفيدان في إصلاح الأفراد والجماعات، وبناء الأمة وتحقيق غلبتها على خصومها، لذا اقترنا غالبا في القرآن.
١٦- ختمت السورة بما بدئت به من الأمر بعبادة الله وحده والاتكال عليه، والتحذير من عقابه: وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ، ليتناسق البدء مع الختام.
إحكام القرآن ودعوته إلى عبادة الله والتوبة إليه والإيمان بالبعث
[سورة هود (١١) : الآيات ١ الى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤)
10
الإعراب:
كِتابٌ أُحْكِمَتْ كتاب: كتاب: خبر مبتدأ محذوف، وأُحْكِمَتْ صفة له، وقال الرازي:
الر اسم للسورة وهو مبتدأ، وكِتابٌ خبره، وذكر البيضاوي الوجهين.
مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ صفة ثانية، ويجوز أن يكون خبرا بعد خبر، وأن يكون صلة لأحكمت وفصلت، أي من عنده إحكامها وتفصيلها.
أَلَّا تَعْبُدُوا إما أن تكون «أن» مفسرة بمعنى أي لأنّ في تفصيل الآيات معنى القول كأنه قيل: قال: ألا تعبدوا إلا الله، أو آمركم ألا تعبدوا إلا الله، مثل قوله تعالى: أَنِ امْشُوا [ص ٣٨/ ٦] أي امشوا. وإما أن تكون مفعولا لأجله، على معنى: لئلا تعبدوا إلا الله.
وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا معطوف على أَلَّا تَعْبُدُوا على الوجهين السابقين.
إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ اعتراض وقع بين المعطوف والمعطوف عليه.
يُمَتِّعْكُمْ مجزوم لأنه جواب الأمر، وهو قوله: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ وجزم جواب الأمر لأنه جواب لشرط مقدّر.
وَإِنْ تَوَلَّوْا أصله: تتولّوا، فحذفت إحدى التاءين، لاجتماع حرفين متحركين من جنس واحد، فاستثقلوا اجتماعهما، فحذفوا إحداهما تخفيفا.
البلاغة:
أُحْكِمَتْ.. وفُصِّلَتْ بينهما طباق حسن لأن المعنى: أحكمها حكيم، وفصلها أي بينها وشرحها خبير عالم بكيفيات الأمور. وكذلك بين نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ طباق أيضا.
عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ إضافة العذاب إلى اليوم الكبير وهو يوم القيامة للتهويل.
المفردات اللغوية:
الر تقرأ بأسمائها ساكنة، كما ذكر في أول سورة يونس، فيقال: ألف، لام، را، وهي للتحدي والإلزام للعرب الفصحاء، لإثبات إعجاز القرآن وكونه من عند الله، أو هي حروف تنبيه مثل: ألا، لما سيلقى بعدها. والسور المفتتحة بمثل تلك الحروف مكية إلا سورتي البقرة وآل عمران. والسور المكية تعنى بإثبات التوحيد والبعث والوحي وإعجاز القرآن، وفيها غالبا قصص الأنبياء.
11
أُحْكِمَتْ آياتُهُ نظمت نظما محكما لا خلل فيه من جهة اللفظ والمعنى ثُمَّ فُصِّلَتْ بينت الأحكام والقصص والمواعظ، وبالإحكام والتفصيل يصبح القرآن كامل الصورة والمعنى. وقال الزمخشري: ثُمَّ فُصِّلَتْ كما تفصل القلائد (أي عقود النساء) بالفرائد من دلائل التوحيد والأحكام والمواعظ والقصص، أو جعلت فصولا سورة سورة، وآية آية، أو فرقت في التنزيل ولم تنزل جملة واحدة، أو فصل بها ما يحتاج إليه العباد، أي بيّن ولخص «١».
وقوله: ثُمَّ فُصِّلَتْ ليس معناها التراخي في الوقت، ولكن في الحال، كما تقول: هي محكمة أحسن الإحكام، ثم مفصلة أحسن التفصيل، وفلان كريم الأصل ثم كريم الفعل «٢».
مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أي من عند الله الحكيم الصنع في أقواله وأفعاله وأحكامه، العليم بأحوال الناس والكون، في الظاهر والباطن، الخبير بعواقب الأمور.
نَذِيرٌ بالعذاب إن كفرتم أو أشركتم وَبَشِيرٌ بالثواب إن آمنتم أو التزمتم عقيدة التوحيد وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ من الشرك والمعاصي ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ارجعوا بالطاعة يُمَتِّعْكُمْ في الدنيا مَتاعاً حَسَناً بطيب عيش وسعة رزق. والمتاع: كل ما ينتفع به في المعيشة.
إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو الموت أو العمر المقدّر وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ أي يعط كل محسن ذي فضل في العمل جزاءه وَإِنْ تَوَلَّوْا أصله: تتولوا، فحذفت إحدى التاءين، أي تعرضوا عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ هو يوم القيامة أو يوم الشدائد، وقد ابتلي مشركو مكة بالقحط حتى أكلوا الجيف.
إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ رجوعكم في ذلك اليوم وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ القادر على كل شيء، ومنه الثواب والعذاب، وكأنه تقرير لكبر ذلك اليوم.
التفسير والبيان:
موضوع هذه الآيات تقرير أصول الدين وهي إحكام القرآن وتفصيله، والدعوة إلى عبادة الله وتوحيده والإنابة إليه، والإيمان بالبعث والجزاء في عالم الآخرة.
والمعنى: هذا كتاب عظيم الشأن جليل القدر، محكم النظم والمعنى، لا خلل
(١) الكشاف: ٢/ ٨٩
(٢) الكشاف: ٢/ ٩٠
12
فيه ولا نقص، فهو كامل الصورة والمعنى لأنه صادر من عند الله الحكيم في أقواله وأحكامه، الخبير بحوائج عباده وبعواقب الأمور.
ففي هذه السورة كغيرها من السور تبيان حقائق الاعتقاد وتفنيد أباطيل الكافرين، وتوضيح أسلم الأحكام التشريعية للحياة، وأقوم المناهج والفضائل والمواعظ من خلال القصص القرآني والتنبيه إلى غرر الشمائل والأخلاق.
أَلَّا تَعْبُدُوا.. أي أن هذا الكتاب المحكم نزل بألا تعبدوا غير الله ولا تشركوا به شيئا، أو أنه نزل هذا القرآن المحكم المفصل لعبادة الله وحده لا شريك له، أو لئلا تعبدوا إلا الله، وهذا كقوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء ٢١/ ٢٥] وقوله: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل ١٦/ ٣٦].
إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ أي، وقل للناس: إنني كائن لكم من جهة الله، نذير من العذاب، إن خالفتموه، وبشير بالثواب إن أطعتموه، كما جاء
في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم صعد الصفا، فدعا بطون قريش الأقرب ثم الأقرب، فاجتمعوا، فقال: «يا معشر قريش، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا تصبحكم، ألستم مصدّقي؟» فقالوا: ما جربنا عليك كذبا، قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد».
وهذا بيان مهمة الرسول صلى الله عليه وسلّم ووظيفته وهي الإنذار لمن عصاه بالنار، والتبشير لمن أطاعه بالجنة.
وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ... أي: وآمركم بالاستغفار من الذنوب السالفة، أي أن تطلبوا المغفرة من الشرك والكفر والمعاصي، وأن تتوبوا منها إلى الله عز وجل بالندم على ما مضى، والعزم على عدم العودة إلى الذنوب في المستقبل،
13
والاستمرار على ذلك، فإن استغفرتم وتبتم من الذنوب، يمتعكم متاعا حسنا في الدنيا، أي يطوّل نفعكم في الدنيا بمنافع حسنة مرضية، من عيشة طيبة ورزق واسع ونعمة متتابعة إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي إلى أن يتوفاكم، كقوله تعالى:
فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً [النحل ١٦/ ٩٧]. والجمع بين الاستغفار والتوبة للدلالة على أنه لا سبيل إلى طلب المغفرة من عند الله إلا بإظهار التوبة، والاستغفار مطلوب بالذات، والتوبة مطلوبة لكونها من متممات الاستغفار، هذا على أساس أنهما معنيان متباينان لأن الاستغفار طلب المغفرة وهي الستر، والتوبة:
الانسلاخ من المعاصي، والندم على ما سلف منها، والعزم على عدم العود إليها، والمعنى: استغفروا من الشرك، ثم ارجعوا إليه بالطاعة. ومن قال: الاستغفار توبة، جعل قوله: ثُمَّ تُوبُوا بمعنى أخلصوا التوبة واستقيموا عليها بالطاعة والعبادة.
وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ أي ويعط في الآخرة كل من كان له فضل في العمل جزاء فضله لا يبخس منه.
والتمتيع في الدنيا والثواب في الآخرة جمع بين الجزاءين، إلا أن جزاء الدنيا موقوت محدود، وجزاء الآخرة دائم مطلق غير مقيد بشيء. وفي هذا دلالة على أن جميع خيرات الدنيا والآخرة ليس إلا منه تعالى، وليس إلا بإيجاده وتكوينه وإعطائه، كما أن فيه إشارة إلى أن ثواب الدنيا لمجموع الناس، لا لكل فرد فرد، وأما جزاء الآخرة فمخصوص بكل فرد على حدة.
ومن عادة القرآن أن يذكر الشيء وفائدته للترغيب فيه، ثم يذكر مقابله للترهيب والتهديد، والتنفير، فقال تعالى: وَإِنْ تَوَلَّوْا.. أي وإن أعرضتم عما دعوتكم إليه من عبادة الله وحده لا شريك له، فإني أخشى عليكم عذاب يوم كبير هو يوم القيامة، وصف بالكبر لما فيه من الأهوال، كما وصف بالعظم والثقل والشدة والألم، لما فيه من العظائم والشدائد والأثقال والآلام.
14
ثم بيّن عذاب اليوم الكبير بأن مرجعهم إلى من هو قادر على كل شيء، ومنه العذاب والثواب، أي أن معادهم يوم القيامة، إلى الله القادر على ما يشاء من إحسانه إلى أوليائه، وانتقامه من أعدائه، وإعادة الخلائق يوم القيامة. ولفظ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ يفيد الحصر، يعني أن مرجعنا إلى الله لا إلى غيره.
وهذا تهديد شديد لمن تولى عن أوامر الله تعالى، وكذّب رسله، فإن العذاب يناله يوم القيامة، لا محالة. وهو ترهيب يقابل الترغيب السابق.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- آي القرآن الكريم محكمة كلها لا خلل فيها ولا باطل، منظمة بنظم محكم اللفظ والمعنى، لا تناقض فيها ولا اضطراب، مفصلة تفصيلا تاما شاملا جميع الدلائل الدالة على التوحيد والنبوة والبعث وغيرها، فهي كاملة الصورة والمعنى، محققة للمصالح البشرية في الدنيا والآخرة. وقوله: الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ دليل على وجود الصانع الخالق.
٢- دعوة القرآن صريحة تتجه نحو تحقيق العبودية للخالق المنعم المتفضل، وتخصيصه وإفراده بالعبادة، دون أي أحد سواه، فالآية مشتملة على الأمر بعبادة الله، ومنع عبادة غير الله.
٣- وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلّم هي الإنذار والتخويف لمن عصاه بالعذاب، والتبشير بالرضوان والجنة لمن أطاعه.
٤- واجب الإنسان الاستغفار، أي طلب المغفرة من الشرك والذنوب، والتوبة والإنابة إلى الله بالطاعة والعبادة، فمعنى قوله تُوبُوا ارجعوا إليه بالطاعة والعبادة. قال بعض الصلحاء: الاستغفار بلا إقلاع عن الذنب توبة الكذابين.
15
٥- إن ثمرة الاستغفار والتوبة وهو الفضل الإلهي على الإنسان المؤمن الطائع أمر عظيم واسع شامل الدنيا والآخرة، ففي الدنيا تمتيع إلى نهاية العمر المقدر بالمنافع من سعة الرزق ورغد العيش، وعدم الاستئصال بالعذاب كما فعل بمن أهلك من الأمم السابقة، فالمتاع الحسن: وقاية من كل مكروه وأمر مخوف، واستمتاع بطيبات الحياة. وفي الآخرة إيتاء كل ذي عمل من الأعمال الصالحة جزاء عمله. ودلت الآية على أن لكل إنسان أجلا واحدا فقط.
٦- مرجع أو معاد الخلائق جميعا بعد الموت إلى الله تعالى القادر على كل شيء من ثواب وعقاب. وهذا ترهيب بعد الترغيب السابق.
إعراض الكفار عن الحق
[سورة هود (١١) : آية ٥]
أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٥)
البلاغة:
ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ يعرضون عن الحق، ويطوون صدورهم على ما فيها من حقد وحسد وعداوة النبي صلى الله عليه وسلّم لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أي يحاولوا الخفاء من الله أو ليتواروا عن محمد يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يتغطون بها يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ في قلوبهم وَما يُعْلِنُونَ في أفواههم، فالله تعالى يستوي في علمه سرهم وعلنهم، فكيف يخفى عليه ما عسى يظهرونه إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بالأسرار ذات الصدور، أو بالقلوب وأحوالها.
16
سبب النزول:
روى البخاري عن ابن عباس في قوله: أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ قال:
كان أناس يستحيون أن يتخلوا، فيفضوا بفروجهم إلى السماء، وأن يجامعوا نساءهم، فيفضوا إلى السماء، فنزل ذلك فيهم. أي كانوا يكرهون أن يستقبلوا السماء بفروجهم وحال وقاعهم، فأنزل الله هذه الآية، أي في المسلمين.
وأخرج ابن جرير وغيره عن عبد الله بن شداد قال: كان أحدهم إذا مرّ بالنبي صلى الله عليه وسلّم ثنى صدره لكيلا يراه، فنزلت.
وقيل: إنها نزلت في طائفة من المشركين قالوا: إذا أرخينا ستورنا، واستغشينا ثيابنا، وطوينا صدورنا على عداوة محمد، كيف يعلم؟
وذكر الواحدي والقرطبي: أنها نزلت في الأخنس بن شريق، وكان رجلا حلو المنطق، يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بما يحب، وينطوي له بقلبه على ما يسوء.
والظاهر لي أن الآية في إعراض الكفار عن الحق، بدليل ما قبلها وما بعدها.
المناسبة:
بعد وصف حالة الكفار وبيان أنهم إن أعرضوا عن عبادة الله وطاعته، تعرضوا لعذاب يوم كبير، بيّن الله تعالى أن التولي عن ذلك باطنا أو سرا كالتولي عنه ظاهرا، وأن إعراضهم متصف بالحيرة والجهل.
التفسير والبيان:
ألا إن الكفار أو المشركين حين يسمعون الدعوة إلى الله، يعرضون عن
17
النبي صلى الله عليه وسلّم بصدورهم، كيلا يراهم النبي صلى الله عليه وسلّم، ولا يراهم أحد، إمعانا في العناد والكفر. وقوله: أَلا للتنبيه.
ألا حين يستغشون ثيابهم ويغطون بها رؤوسهم، ليستخفوا أو يتواروا من محمد أو من الله، يظنون أن الله لا يراهم، مع أن الله يعلم ما يسرون في قلوبهم، وما يعلنون بأفواههم، ويعلم ما يسرون ليلا، وما يظهرون نهارا.
وكرر أَلا للتنبيه على وقت استخفائهم. وعود الضمير إلى الله أولى، لقوله تعالى: يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ.
إن الله عليم بالأسرار ذات الصدور، وبخواطر القلوب، فليحذر من يظن أن أسراره خفية على الله، وليعلم أن الله مطلع على كل شيء في الوجود، وما تنطوي عليه النفوس من شكوك وأوهام، ويجازي كل إنسان بما أسر وأعلن.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآية على تصميم الكفار في إعراضهم عن سماع القرآن، ودعوة النبي صلى الله عليه وسلّم إلى الإيمان برسالته، وأنهم بهذا الإعراض أغبياء جاهلون.
ودلت أيضا على أنه لا فائدة في استخفائهم وتواريهم عن الله أو عن محمد صلى الله عليه وسلّم لأن الله مطلع على كل شيء في الوجود من النيات والضمائر والسرائر، ومن الأقوال والأفعال العلنية، يستوي علمه بالسر مع علمه بالجهر، ولا تفاوت في علمه بين إسرارهم وإعلانهم.
18
فضل الله وعلمه وقدرته
[سورة هود (١١) : الآيات ٦ الى ٧]
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧)
المفردات اللغوية:
وَما مِنْ دَابَّةٍ: مِنْ: زائدة، والدّابة في اللغة: كل ما يدبّ على الأرض، زحفا على بطنه أو مشيا على قوائمه، وإطلاق الدّابة على الخيل والبغال والحمير إطلاق عرفي. رِزْقُها غذاؤها ومعاشها، لتكفله إياها تفضّلا ورحمة. وإنما أتى بلفظ الوجوب بهذا التّعبير تحقيقا لوصوله وضمانه وحملا على التّوكل فيه. مُسْتَقَرَّها مكانها من الأرض ومسكنها. وَمُسْتَوْدَعَها ما كانت مودعة فيه قبل الاستقرار من صلب أو رحم أو بيضة، والمراد بالمستقر والمستودع: أماكن الحياة والممات، أو الأصلاب والأرحام. كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ كلّ مما ذكر، أي كلّ واحد من الدواب وأحوالها ورزقها ومستقرّها ومستودعها مذكور في اللوح المحفوظ، مكتوب فيه مبيّن، والمراد بالآية كونه عالما بالمعلومات كلها، وكونه قادرا على الممكنات بأسرها، لتقرير التوحيد ولما سبق من الوعد والوعيد.
وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ أي وكان عرشه قبل خلق السموات والأرض على الماء، وفيه دليل على أن العرش والماء كانا مخلوقين قبل السّموات والأرض. وليس المعنى على سبيل كون أحدهما ملتصقا بالآخر، وإنما كقوله: السماء على الأرض. والماء أول حادث بعد العرش من أجرام هذا العالم. والعرش: مركز التنظيم للملك ومصدر التدبير، وهو أعظم من السموات والأرض.
لِيَبْلُوَكُمْ متعلّق بخلق، أي خلق ذلك لحكمة بالغة هي أن يعاملكم معاملة المبتلي لأحوالكم المختبر لأوضاعكم كيف تعملون. والابتلاء: الاختبار والامتحان. أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أي أطوع لله، وأعمال المؤمنين هي التي تتفاوت إلى حسن وأحسن، وأما أعمال الكافرين فتتفاوت إلى حسن
19
وقبيح. إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أي ما هذا القرآن الناطق بالبعث، والذي تقوله يا محمد إلا سحر، أي تخييل وتمويه، مُبِينٌ أي بيّن ظاهر البطلان. ويجوز تضمين قُلْتَ معنى ذكرت. ومعنى قولهم: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أن السحر أمر باطل، وأن بطلانه كبطلان السحر، تشبيها له به.
المناسبة:
لما بيّن الله تعالى في الآية السابقة أنه يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ أردفه بما يدلّ على كونه تعالى عالما بجميع المعلومات، قادرا على كل شيء، فهو الخالق والرّازق والعالم بأحوال البشر، والباعث لهم بعد الموت، فالبعث واقع لا محالة.
التفسير والبيان:
ما من نوع من أنواع دواب الأرض أو البحر أو الجوّ إلا على الله رزقها ومعيشتها وغذاؤها المناسب لها، المعدّ لطعامها بعد البحث والحركة والعمل، ويعلم مستقرّها ومستودعها، أي يعلم منتهى سيرها في الأرض حيث تأوي إليه وهو مستقرّها، والموضع الذي تأوي إليه من وكرها، ومكان موتها ودفنها، وهو مستودعها، وهذا يشمل بداية تكوينها ووجودها في الأصلاب والأرحام وأيام الحياة والممات.
وكل ما ذكر من كلّ الدّواب وأرزاقها ومستقرّها ومستودعها ثابت مكتوب في اللوح المحفوظ الذي كتب فيه جميع مقادير الخلق.
وهذا دليل على أن الله تعالى متكفل بأرزاق المخلوقات كلها، وقد أوجب ذلك على نفسه بكلمة عَلَى المفيدة للوجوب تفضّلا منه ورحمة، إلا أن الرّزق بمقتضى سنّته تعالى في الكون خاضع لمبدأ ارتباط الأسباب بالمسببات، أي أن الحصول على الرّزق مرتبط بالسّعي والعمل، بعد توافر الإلهام المودع في الخلائق، وهدايتهم إلى الطّلب والتّحصيل، كما قال تعالى: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه ٢٠/ ٥٠].
20
ونظير الآية قوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ، ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ، ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [الأنعام ٦/ ٣٨]، وقوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها، وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ، وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [الأنعام ٦/ ٥٩].
وبعد أن أثبت تعالى بالدليل المتقدم كونه عالما بالمعلومات، أثبت بكونه خالقا السموات والأرض كونه تعالى قادرا على كل المقدورات، وفي الحقيقة كل واحد من هذين الدليلين يدل على كمال علم الله وعلى كمال قدرته، فقال تعالى:
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ...
أي أنه تعالى يخبر عن قدرته على كل شيء، وأنه خلق أو أبدع وكوّن السموات والأرض في ستة أيام من أيام الله في الخلق والتكوين، لا كأيامنا الحالية، وهو الظاهر بدليل قوله تعالى: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج ٢٢/ ٤٧] وقوله: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج ٧٠/ ٤]. ويقدر علماء الفلك اليوم من أيام التكوين بألوف الألوف من سنوات الدنيا.
وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ العرش: أعظم المخلوقات، ولا نعلم حقيقته وإنما نؤمن به كما أخبر عنه تعالى، وأما استواؤه عليه، فالاستواء معلوم والكيف مجهول، كما روي عن أم سلمة رضي الله عنها ومالك وربيعة. وهذه الآية تدل على كيفية بدء الخلق قبل أن يخلق الله السموات والأرض، وعلى أن العرش والماء كانا قبل السموات والأرض، وأن العرش كان قبل أن يخلق شيئا، وأن ما تحت العرش هو الماء أصل المادة الحية، كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً، فَفَتَقْناهُما، وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ، أَفَلا يُؤْمِنُونَ
21
[الأنبياء ٢١/ ٣٠] وهذا ما يسميه علماء الفلك بنظرية السديم، ويعبر عنها القرآن بالدخان، أو الماء أو متن الريح.
ثم ذكر تعالى علة الخلق العجيب بقوله: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أي خلق السموات والأرض لنفع عباده الذين خلقهم ليعبدوه ولا يشركوا به شيئا، ولم يخلق ذلك عبثا، كما قال تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات ٥١/ ٥٦] وقال: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً، وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون ٢٣/ ١١٥].
والتكليف بالعبادة والطاعة واجتناب المعاصي للاختبار والامتحان، ومعرفة الأحسن عملا: وهو العمل الخالص لله عز وجل، القائم على أساس شريعة الله، فإذا فقد العمل أحد هذين الشرطين حبط وبطل، فمن شكر وأطاع أثابه الله، ومن كفر وعصى عاقبه. ولما أشبه ذلك اختبار المختبر قال:
لِيَبْلُوَكُمْ أي ليفعل بكم ما يفعل المبتلي لأحوالكم، كيف تعملون.
وبما أن للابتلاء والاختبار ثمرة، فلا بدّ من حصول الحشر والنشر، المقتضي تخصيص المحسن بالرحمة والثواب، وتخصيص المسيء بالعقاب، ولا بد للعاقل من الاعتراف بالمعاد والقيامة، لذا قال تعالى: وَلَئِنْ قُلْتَ: إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ....
والمعنى ولئن أقمت يا محمد الأدلة على البعث بعد الموت، وذكرت ذلك للمشركين، لقال الكافرون: هذا سحر، أي غرور باطل لأن السحر في مفهومهم باطل. ومعنى الجملة: ما البعث أو القول به أو القرآن المتضمن لذكره إلا كالسحر في الخديعة أو البطلان.
22
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- تكفل الله بأرزاق المخلوقات، وضمنها لهم تفضلا من الله تعالى لهم، ورحمة بهم. وهذا دليل على اتصافه تعالى بالعدل والرحمة. ولكن الرزق مرتبط بالسعي والكسب والعمل، كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا، فَامْشُوا فِي مَناكِبِها، وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ، وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الملك ٦٧/ ١٥].
٢- علم الله عز وجل محيط شامل بكل مخلوقات الأرض ودوابها البرية والبحرية والجوية، بدءا من وجود مادتها في الأصلاب والأرحام، إلى ظهورها في ساحة الحياة الحركية، إلى تنقلاتها وتحركاتها ومسيرها حيث تأوي إليه، وإلى الموضع الذي تموت فيه فتدفن.
٣- الله خالق السموات والأرض وما بينهما من كائنات حية، وهاتان الآيتان: وَما مِنْ دَابَّةٍ ووَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ تدلان على كمال علم الله تعالى وكمال قدرته.
٤- العرش مع كونه أعظم من السموات والأرض كان على الماء. والله تعالى أمسك الماء لا على قرار، والعرش الذي هو أعظم المخلوقات قد أمسكه الله تعالى فوق سبع سموات، من غير دعامة تحته، ولا علاقة فوقه.
٥- الله خلق السموات لابتلاء واختبار المكلف، وهذا يقتضي أن الله تعالى خلق هذا العالم الكبير لمصلحة المكلفين.
٦- الواجب قطعا وعقلا حصول الحشر والنشر، والاعتراف بالمعاد والقيامة، لإقامة العدل بين الخلائق، وللجزاء الذي يميز بين المحسنين والمسيئين، فيجازى المحسن بالثواب والرحمة، والمسيء بالعقاب والعذاب.
23
موقف الإنسان المؤمن والكافر عند النعمة والنقمة
[سورة هود (١١) : الآيات ٨ الى ١١]
وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١١)
الإعراب:
وَلَئِنْ أَخَّرْنا اللام للقسم، والجواب: لَيَقُولُنَّ.
وَلَئِنْ أَذَقْنَا اللام في لَئِنْ موطئة لقسم مقدّر، وليست جوابا للقسم، وإنما جوابه قوله: إنه ليئوس كفور. وأغنى جواب القسم عن جواب الشرط، كما في قوله تعالى: قُلْ: لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ، لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ [الإسراء ١٧/ ٨٨] فرفع لا يَأْتُونَ على أنه جواب القسم الذي هيأته اللام، وتقديره: والله لا يأتون. ولو كان جواب الشرط، لكان مجزوما، فلما رفع دل على أنه جواب القسم، واستغني به عن جواب الشرط.
أَلا يَوْمَ منصوب بخبر لَيْسَ مقدم عليه، وهو دليل على جواز تقديم خبرها عليها.
إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا في موضع نصب على الاستثناء من: الْإِنْسانَ لأن المراد به الجنس المفيد للاستغراق، كقوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا [العصر ١٠٣/ ٢]. وقوله: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ [العاديات ١٠٠/ ٦]. وإِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى [العلق ٩٦/ ٦]. وقيل: هو استثناء منقطع.
أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ مبتدأ وخبر.
24
البلاغة:
لَيَؤُسٌ كَفُورٌ من صيغ المبالغة، أي شديد اليأس، كثير الكفران.
نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
إِلى أُمَّةٍ المراد: إلى أجل معلوم، أي إلى مجيء أوقات أمة. والأمة في الأصل: الجماعة من جنس واحد، مثل: وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ [القصص ٢٨/ ٢٣]، وقد تطلق على الدين والملة، كما في قوله تعالى: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ [الزخرف ٤٣/ ٢٢] وقد تطلق على الرجل الجامع للخير الذي يقتدى به، كما في قوله تعالى:
إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً [النحل ١٦/ ١٢٠] وقد تطلق على الزمن، كما في قوله تعالى: وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ [يوسف ١٢/ ٤٥] وكما هنا. وأما أمة الأتباع فهم المصدقون للرسل، كما قال تعالى:
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران ٣/ ١١٠]. وفي الصحيح: «فأقول: أمتي أمتي».
لَيَقُولُنَّ استهزاء ما يَحْبِسُهُ ما يمنعه من النزول مَصْرُوفاً مدفوعا وَحاقَ نزل بهم العذاب وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ المراد بالإذاقة هنا: الإعطاء القليل. والمراد بالإنسان هنا:
الكافر أو مطلق الإنسان رَحْمَةً غنى وصحة نَزَعْناها سلبناها إياه لَيَؤُسٌ شديد اليأس من عود تلك النعمة، قنوط من رحمة الله كَفُورٌ شديد الكفر به.
نَعْماءَ هي النعمة والنّعمى: وهي الخير والمنفعة من صحة وغنى، ويقابلها: الضراء والضّر: وهو الألم من فقر وشدة السَّيِّئاتُ المصائب لَفَرِحٌ بطر مغتّر بالنعمة فَخُورٌ متعاظم على الناس بسبب النعم صَبَرُوا على الضراء إيمانا بالله تعالى واستسلاما لقضائه وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ في النعماء وَأَجْرٌ كَبِيرٌ هو الجنة.
المناسبة:
بعد أن حكى الله تعالى عن الكفار أنهم يكذبون الرسول صلى الله عليه وسلّم بقولهم: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ حكى عنهم في الآية الأولى: وَلَئِنْ أَخَّرْنا نوعا آخر من أباطيلهم، وهو أنه متى تأخر عنهم العذاب الذي توعدهم به الرسول صلى الله عليه وسلّم، أخذوا في الاستهزاء، وقالوا: ما سبب حبسه عنا؟
25
وبعد أن ذكر أن عذاب الكفار، وإن تأخر، فلا بد من مجيئه، ذكر بعده ما يدل على كفرهم واستحقاقهم لذلك العذاب، وهو سوء طبع الإنسان، ففي حال النعمة يبطر ويتفاخر، وفي حال الضر يجحد وييأس من رحمة الله، إلا من صبر وشكر وعمل صالحا.
التفسير والبيان:
والله لئن أخرنا العذاب عن الكفار أو المشركين، بعد أن توعدهم به الرسول صلى الله عليه وسلّم، إلى حين من الزمان، على وفق سنتنا وحكمتنا: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ [الرعد ١٣/ ٣٨] لقالوا استهزاء وتكذيبا واستعجالا: ما يحبسه؟ أي ما الذي يؤخر هذا العذاب عنا؟ ومعنى إِلى أُمَّةٍ إلى أجل معلوم وحين معلوم.
فأجابهم الله تعالى بأنه إذا جاء الوقت الذي عينه الله لنزول ذلك العذاب الذي كانوا يستهزئون به، لم يصرفه عنهم صارف، وسيحيط بهم حينئذ من كل جانب، جزاء بما كانوا يستهزئون به من العذاب قبل وقوعه، كما قال تعالى:
إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ، ما لَهُ مِنْ دافِعٍ [الطور ٥٢/ ٧- ٨] والمضاف الذي هو جزاء محذوف.
ثم أخبر تعالى عن صفات الإنسان الذميمة إلا من رحم الله من عباده المؤمنين: أنه إذا أعطاه الله نعمة من صحة ورزق وأمن وولد بارّ، رحمة منه، ثم سلبه تلك النعمة، وأبدله بها نقمة من مرض أو فقر أو خوف أو موت أو كارثة، أضحى شديد اليأس من رحمة ربه، كثير الكفر والجحود للماضي ولما عليه من نعم أخرى، فهو قانط بالنسبة للمستقبل، جاحد لماضي الحال كأنه لم ير خيرا، ولما عليه الآن من النعم، وذلك لعدم التزامه بفضيلة الصبر والشكر.
وإن أعطاه الله نعمة من بعد ضراء، كشفاء من مرض، وقوة من بعد ضعف، ويسر من بعد عسر، لقال: ذهب ما كان يسوؤني من المصائب، ولن
26
ينالي بعد اليوم ضيم ولا سوء، وأصبح شديد الفرح والبط بتلك النعمة أو بما في يده، متفاخرا متعاظما على غيره، محتقرا من دونه.
فهو في موقفه هذا لا يقابل النعمة بالشكر عليها، بل يبطر ويفخر على الناس، ولا يواسي البائس الفقير.
ويلاحظ أنه عبر في حال النعمة بقوله: أَذَقْنَا والذوق: إدراك الطعم، ليدل على التمتيع بالنعمة بأقل أوصافها، وفي حال الضراء بقوله:
مَسَّتْهُ والمس: مبدأ الوصول، ليشعر بأن الضر في أقل مرتبة من الإصابة.
وهناك مقابلة بين التعبير ب أَذَقْنَا الذي يفيد اللذة والاغتباط، وقوله: نَزَعْناها الذي يفيد شدة تعلقه بالنعمة والحرص عليها.
وكل هذا يدل على أن في الإنسان طبائع سيئة وأمراضا فتاكة وهي اليأس من رحمة الله والكفر بنعمته، والبطر والفخر والتكبير، ولا علاج لها إلا بالصبر والإيمان والرضا بالقضاء والقدر.
والمراد بالإنسان مطلق الإنسان بدليل استثناء الصابرين الذين يعملون الصالحات منه بقوله: إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل، فثبت أن المقصود بالإنسان المؤمن والكافر. وحينئذ يكون الإنسان شاملا المؤمن والكافر، والاستثناء متصل، قال القرطبي: وهو حسن.
وفي قول آخر: إن المراد منه الكافر، حملا على المعهود السابق في الآية المتقدمة وهو الكافر، ولأن الصفات المذكورة للإنسان في هذه الآية لا تليق إلا بالكافر، وهي صفات: اليؤوس، والكفور، وقوله: ذهب السيئات عني، والفرح، والفخور، وتلك هي صفات الكافرين، وليست من صفات أهل
27
الدين، وحينئذ يجب حمل الاستثناء على الاستثناء المنقطع، حتى لا تلزم هذه المحذورات.
ثم استثنى الله تعالى من جنس الإنسان الصابرين العاملين الصالحات بقوله:
إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ...
أي إلا الذين صبروا على الشدائد والمكاره كالجهاد والفقر والمصيبة، وعملوا الصالحات أي الأعمال الطيبة المفيدة في حال الرخاء أو النعمة والعافية، كأداء الفرائض وشكر النعمة وأعمال البر والخير والإحسان للناس، والتقرب إلى الله بصالح الأعمال، أولئك لهم مغفرة لذنوبهم بعملهم الصالح أو بما يصيبهم من الضراء، وأجر كبير في الآخرة على ما عملوا من بر وخير وما أسلفوا في زمن الرخاء، أقله الجنة.
وفي معنى الآية قوله تعالى: وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ، وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر ١٠٣/ ١- ٣]
والحديث النبوي الثابت: «والذي نفسي بيده لا يصيب المؤمن همّ ولا غمّ ولا نصب، ولا وصب «١»، ولا حزن، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه»
وفي الصحيحين: «والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له: إن أصابته سراء فشكر، كان خيرا له، وإن أصابته ضرّاء فصبر، كان خيرا له، وليس ذلك لأحد غير المؤمن».
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت الآيات ما يأتي:
١- أقسم الله تعالى على أن كل عذاب أوعد الله أو الرسول به الكفار آت
(١) النّصب: التعب، والوصب: المرض.
28
لا ريب فيه، ولا يصرفه عنهم صارف، وهو نازل محيط بهم، جزاء ما كانوا به يستهزئون. والمراد من العذاب إما عذاب الدنيا وهو عذاب الاستئصال أو الهزيمة الساحقة في معركة فاصلة كمعركة بدر، وإما عذاب الآخرة. وأخبر تعالى عن أحوال القيامة بلفظ الماضي: وَحاقَ مبالغة في التأكيد والتقرير.
٢- وأقسم عز وجل أيضا على أن الإنسان (وهو اسم شائع للجنس في جميع الناس، أو الكفار) إن وجد أقل القليل من الخيرات العاجلة وهو الإذاقة والذوق (وهو أقل ما يوجد به الطعم) يقع في التمرد والطغيان، وإن أدرك أقل القليل من المحنة والبلية، يقع في اليأس والقنوط والكفر. واليؤوس: من الرحمة، والكفور للنعم: الجاحد لها، وكلاهما من صيغ المبالغة، يراد به التكثير، كفخور للمبالغة.
وتفسير هذه الظاهرة: هو أن الكافر يعتقد أن سبب حصول تلك النعمة مصادفة ومجرد اتفاق. وأما المسلم فيعتقد أن تلك النعمة من الله تعالى وفضله وإحسانه، فلا يحصل له اليأس، ويأمل خيرا منها، ويصبر على فقدها كما قال تعالى: عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها، إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ [القلم ٦٨/ ٣٢] وقال تعالى: إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ [يوسف ١٢/ ٨٧].
٣- وأقسم تعالى ثالثا على أن الإنسان إن أمدّه الله بنعمة كالصحة والرخاء والسعة في الرزق، بعد ضر مسّه كالفقر والشدة، قال: ذهب السيئات عني أي المصائب التي تسوء صاحبها من الضر والفقر، وهو فرح (بطر) فخور (متعال على الناس) بما ناله من السعة، وينسى شكر الله عليه.
وفي لفظ الإذاقة والمس تنبيه على أن ما يجده الإنسان في الدنيا من النعم والمحن كالأنموذج لما يجده في الآخرة، كما قال البيضاوي.
٤- استثنى الله تعالى من أوصاف الإنسان الذميمة وأحواله حالة المؤمنين
29
الذين يصبرون على الشدائد والمكاره، ويكونون عند الرخاء والسعة من الشاكرين، ويعملون الأعمال الطيبة الخيّرة في الدنيا، فهؤلاء لهم من الله مغفرة على ما صبروا على عمل الخير وحال المصاب، ولهم ثواب كبير أقله الجنة. وهذا جمع بين المطلوبين: زوال العقاب والخلاص منه، وهو المراد من قوله لَهُمْ مَغْفِرَةٌ والفوز بالثواب، وهو المراد من قوله: وَأَجْرٌ كَبِيرٌ وهذا دليل على إعجاز القرآن لا بألفاظه فحسب، بل بمعانيه أيضا.
أما الكافر عند البلاء فلا يكون عادة من الصابرين، وعند الفوز بالنعمة لا يكون من الشاكرين لأن الشكر الحقيقي لا يكون إلا بالإيمان بالمنعم، والصبر لا ثواب له عليه ما لم ينبعث من الإيمان، وكثيرا ما يجزع وينفد صبره وربما ينتحر لأنه لا يجد سلوى أو عزاء له بمصابه يعوضه عنه في الآخرة لعدم إيمانه بالبعث والحساب والجزاء الحق من الله تعالى وحده.
والخلاصة: أن الآيات موازنة دقيقة بين أوصاف الإنسان المؤمن وأوصاف الإنسان الكافر، ومنشأ الفرق هو الإيمان والكفر.
٥- أحوال الدنيا غير باقية، بل هي متغيرة متحولة من النعمة إلى المحنة، ومن اللذات إلى الآفات، وبالعكس وهو الانتقال من المكروه إلى المحبوب، ومن المحرمات إلى الطيبات.
مطالبة مشركي مكّة بإنزال كنز أو مجيء ملك مع النّبي صلى الله عليه وسلّم وتحدّيهم بالقرآن
[سورة هود (١١) : الآيات ١٢ الى ١٤]
فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُواأُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٣) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤)
30
الإعراب:
وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ: ضائِقٌ: عطف على تارِكٌ، وصَدْرُكَ مرفوع به، وهاء بِهِ تعود على ما أو على بَعْضَ، أو على التّبليغ أو على التّكذيب. أَنْ يَقُولُوا في موضع نصب، أي كراهية أن يقولوا.
المفردات اللغوية:
فَلَعَلَّكَ هنا للاستفهام الإنكاري، الذي يراد به النّفي أو النّهي، أي لا تترك. والأصل أن «لعلّ» للتّرجي وتوقع المحبوب، وقد تكون للإعداد والتّهيئة، كما في قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة ٢/ ٢١ وغيرها]، وقد تكون للتّعليل كما في قوله تعالى: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طه ٢٠/ ٤٤].
تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ فلا تبلغهم إياه، وهو ما يخالف رأي المشركين، مخافة ردّهم واستهزائهم، ولا يلزم من توقع الشيء وجوده ووقوعه، لجواز أن يكون ما يصرف عنه وهو عصمة الرّسل من الخيانة في الوحي مانعا.
وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ عارض لك أحيانا ضيق الصّدر، بتلاوته عليهم، لأجل أن يقولوا، أي مخافة أن يقولواأُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أي هلا صحبه كنز ينفقه لكسب الأتباع كالملوك، والكنز: المال الحاصل بغير كسب. أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ يصدقه كما اقترحنا. إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ أي ليس عليك إلا الإنذار بما أوحي إليك، لا الإتيان بما اقترحوه. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ رقيب حفيظ للأمور، فتوكل عليه، فإنه عالم بحالهم، ومجازيهم على أقوالهم وأفعالهم.
أَمْ يَقُولُونَ: أَمْ بمعنى بل. افْتَراهُ الضمير لما يوحى وهو القرآن. بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ في الفصاحة والبلاغة والبيان وحسن النّظم، تحدّاهم أولا بالإتيان بمثل القرآن، ثم بعشر سور، ثم لما عجزوا عنها تحدّاهم بسورة. وتوحيد المثل باعتبار كلّ واحد. مُفْتَرَياتٍ مختلقات
31
من عند أنفسكم، إن صحّ أني اختلقته من عند نفسي، فإنكم عرب فصحاء مثلي، تقدرون على مثل ما أقدر عليه، بل أنتم أقدر لمعرفتكم بأساليب البيان خطابة وشعرا ونثرا. وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره إلى المعاونة على المعارضة. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أنه مفترى.
فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ أي بالإتيان بما دعوتم إليه للمعاونة. والاستجابة: الإجابة. وجمع ضمير لَكُمْ إما لتعظيم الرّسول صلى الله عليه وسلّم، أو لأن المؤمنين أيضا كانوا يتحدّونهم أيضا. فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ خطاب للمشركين: فاعلموا أنما أنزل مصحوبا بعلم الله فلا يعلمه إلا الله، ولا يقدر عليه سواه، وليس افتراء عليه.
وَأَنْ مخففة أي أنه. فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ثابتون على الإسلام راسخون فيه مخلصون إن كان الخطاب للمؤمنين؟ وهل أسلموا بعد هذه الحجة القاطعة إن كان الخطاب مع الكفار؟
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى افتراء المشركين على القرآن بأنه سحر مبين، وإعراضهم عنه كيلا يسمعوه، ذكر تكذيبهم للرّسول صلى الله عليه وسلّم وللقرآن، وظنّهم أنه مثل الملوك مدعوم بالمال للإغراء وكسب الأتباع، ومطالبتهم دعمه بالكنز أو بالملك، وتحدّيهم بالإتيان بعشر سور مثل القرآن الكريم.
سبب النّزول:
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رؤساء مكة قالوا: يا محمد، اجعل لنا جبال مكة ذهبا إن كنت رسولا. وقال آخرون: ائتنا بالملائكة يشهدون بنبوّتك، فقال: لا أقدر على ذلك، فنزلت هذه الآية.
التفسير والبيان:
لعلك أيها الرّسول تارك بعض ما يوحى إليك أحيانا أن تلقيه إليهم، وتبلغه إياهم مخافة ردّهم له وتهاونهم به، مثل تسفيه أحلامهم والتّنديد بعبادتهم الأوثان، وضائق به صدرك بأن تتلوه عليهم، أو لأجل أن يقولوا: أُنْزِلَ عَلَيْهِ
32
والمراد بهذا الاستفهام الإنكاري النّفي أو النّهي، أي لا تترك شيئا مما أوحينا إليك من تبليغه المشركين وغيرهم، ولا تتضايق من تلاوته عليهم. ويقصد من ذلك المبالغة في التّحذير، والإغراء بأداء الرّسالة، وعدم المبالاة بكلماتهم الفاسدة، تأكيدا على تبليغ كامل الوحي، سواء رضي الناس أو غضبوا، لأن مجاملتهم غير مفيدة. ولا يعني هذا وقوع المنهي عنه، لعصمة الرّسول من التّقصير أو الخيانة في الوحي، فقد أجمع المسلمون على أنه لا يجوز على الرّسول عليه الصّلاة والسّلام أن يخون في الوحي، والتّنزيل، وأن يترك بعض ما يوحى إليه لأن تجويزه يؤدي إلى الشّك في كلّ الشّرائع والتّكاليف، وذلك يقدح في النبوة.
أَنْ يَقُولُوا: أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ.. أي لا تتضايق لأجل أن يقولوا، أو كراهة أن يقولوا «١» : لولا أي هلا أنزل عليه كنز من عند ربّه يغنيه عن التّجارة والكسب، ويدلّ على صدقه، والقائل عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي، أو ينزل معه ملك من السماء يؤيد دعوته، كقوله تعالى:
وَقالُوا: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ، وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ؟ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ، فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً. أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ، أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها، وَقالَ الظَّالِمُونَ: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً [الفرقان ٢٥/ ٧- ٨]. وإنما قال:
ضائِقٌ ولم يقل «ضيق» ليشاكل تارِكٌ الذي قبله، ولأن الضائق عارض طارئ غير لازم، والضيق ألزم منه.
فهذا إرشاد من الله تعالى لنبيّه ألا يضيق صدره بتبليغ الوحي والرّسالة، وألا يثنيه شيء عن دعوتهم إلى الله آناء الليل وأطراف النهار، كما قال تعالى:
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ [الحجر ١٥/ ٩٧].
(١) وذلك مثل: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء ٤/ ١٧٦] أي لئلا تضلّوا.
33
ثم أكّد الله تعالى مهمّة نبيّه فقال: إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ... أي ليس عليك إلا إنذارهم بما أوحي إليك، غير مبال بما يقولون، ولا آت بما يقترحون، ولك أسوة بإخوانك من الرّسل قبلك، فإنهم كذّبوا وأوذوا، فصبروا حتى أتاهم نصر الله عزّ وجلّ، والله هو الرّقيب على عباده، الحفيظ للأمور، فتوكّل عليه، ولا تبال بهم، فإنه عالم بحالهم، ومجازيهم على أعمالهم. وهذا كقوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [البقرة ٢/ ٢٧٢]، وقوله تعالى: فَذَكِّرْ، إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية ٨٨/ ٢١- ٢٢]، وقوله تعالى:
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ، وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ، فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ [ق ٥٠/ ٤٥].
ثم أبان الله تعالى إعجاز القرآن الكريم بدليل تحدّي العرب به، فقال: أَمْ يَقُولُونَ: افْتَراهُ.. أي بل يقول مشركو مكة: افترى محمد القرآن أي اختلقه من عند نفسه، فإن كان ما يزعمون صحيحا، فليأتوا بعشر سور مثله مفتريات، تضارعه في الفصاحة والبلاغة، وإتقان الأحكام والتّشريعات في شؤون الحياة المختلفة من سياسة واجتماع واقتصاد ونظام تعامل، والإخبار بقصص الأنبياء والغيبيات، وهم أهل السّبق في البيان والتّفوق في ملكة اللسان. والمختار عند أكثر المفسّرين أن القرآن معجز بسبب الفصاحة، وقيل: بسبب الأسلوب، وقيل: بسبب عدم التناقض، وقيل: بسبب اشتماله على العلوم الكثيرة، وقيل:
بسبب إخباره عن المغيبات.
ولكنهم عجزوا لأنه لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله، ولا بعشر سور مثله، بل ولا بأقصر سورة من مثله لأن كلام الرّب تعالى لا يشبه كلام المخلوقين، كما أن صفاته لا تشبه صفات المحدثات، وذاته لا يشبهها شيء.
وهذه الآية اشتملت على خطابين: خطاب الرّسول صلى الله عليه وسلّم بقوله تعالى:
قُلْ: فَأْتُوا.. ، وخطاب الكفار بقوله: وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ...
34
ثم قال الله تعالى بعد هذا التّحدي: فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ.. أي فإن لم يأتوا بمعارضة ما دعوتموهم إليه، فاعلموا أنهم عاجزون عن ذلك، وأن القرآن نزل من عند الله، وبما لا يعلمه إلا الله من نظم معجز للخلق، وإخبار بغيوب لا سبيل لهم إليه، وتشريع بأمره ونهيه لا يبلغون مستواه. وجاء ضمير لَكُمْ بصيغة الجمع لأنه خطاب للرّسول صلى الله عليه وسلّم وللمؤمنين، والمراد أن الكفار إن لم يستجيبوا لكم في الإتيان بالمعارضة، فاعلموا أنما أنزل بعلم الله تعالى.
واعلموا أنه لا إله موجود ومعبود بحقّ إلا الله عزّ وجلّ.
فهل أنتم بعد قيام الحجة القاطعة على أنه، أي القرآن، من عند الله مسلمون، مؤمنون بالله وبهذا القرآن، وبما تضمنه من عقائد ووعد ووعيد وأخلاق وآداب ونظام شامل للحياة؟ وهذا يدلّ على أن الخطاب للكفار، فإن كان الخطاب للمسلمين فمعناه: فهل أنتم مخلصون؟
ومعنى هذا أنه بعد ظهور الدّليل القاطع على صدق النّبي صلى الله عليه وسلّم وصدق القرآن، يكون كفرهم مجرد عناد وإعراض واستكبار.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- وجوب تبليغ الوحي بكامله دون إنقاص أو إرجاء شيء منه، ولا يتنافى هذا الحكم مع مبدأ عصمة الرّسول صلى الله عليه وسلّم عن الخيانة في الوحي والتّنزيل، وترك بعض ما يوحى إليه، وهذا كقوله تعالى في تأكيد الأمر بإبلاغ الوحي: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة ٥/ ٦٧].
وهذا الحكم لا يختلف سواء قلنا: إن معنى الكلام في آية فَلَعَلَّكَ تارِكٌ.. الاستفهام الإنكاري أي هل أنت تارك ما فيه سبّ آلهتهم كما
35
سألوك؟ أو معنى الكلام النّفي مع استبعاد، أي لا يكون منك ذلك، بل تبلغهم كل ما أنزل إليك لأن مشركي مكة قالوا للنّبي صلى الله عليه وسلّم: لو أتيتنا بكتاب ليس فيه سبّ آلهتنا لاتّبعناك، فهمّ النّبي صلى الله عليه وسلّم أن يدع سبّ آلهتهم فنزلت.
٢- لا مجاملة ولا مهادنة ولا إرجاء في تبليغ الوحي، فسواء كره الناس تبليغهم ما أنزل الله أم قالوا: لولا أنزل عليه كنز أو ملك، فلا تراجع عن تبليغ الوحي.
٣- تحدّى الله العرب في هذه السّورة بأن يأتوا بعشر سور مثل سور القرآن، بعد أن كان تحدّاهم بالإتيان بمثل القرآن، فعجزوا في الحالين، كما عجزوا عن الإتيان بمثل سورة منه، في سورة أخرى. والتحدي ليثبت أن القرآن كلام الله المعجز.
٤- ثبت بقوله: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ عجزهم عن المعارضة، فقامت عليهم الحجة بأن القرآن ليس من عند محمد أو غيره، وإنما هو كلام الله، وليعلم الجميع أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ.
٥- إن وجوه إعجاز القرآن كثيرة منها البلاغة والفصاحة، ومنها الاشتمال على الغيبيات، ومنها الأحكام التّشريعية، ومنها مواكبه الاكتشافات العلمية الحديثة.
من أراد الدنيا وحدها حرم نعيم الآخرة
[سورة هود (١١) : الآيات ١٥ الى ١٦]
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٦)
36
الإعراب:
وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ابتداء وخبر، أي وباطل عمله.
المفردات اللغوية:
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها أي من قصد بعمله الطّيب وإحسانه وبرّه الدّنيا.
نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ نؤتهم ثمار أعمالهم وافية تامة، جزاء ما عملوه من خير كصدقة وصلة رحم.
فِيها بأن نوسع عليهم رزقهم. وَهُمْ فِيها أي الدّنيا. لا يُبْخَسُونَ ينقصون شيئا من أجورهم. حَبِطَ فسد وبطل ولم ينتفعوا به.
سبب النّزول:
قيل: إن الآية مختصّة بالكفار، أو بالمنافقين، وقيل: إنها عامّة مطلقة في أهل الرّياء، والظاهر أن المراد بهذا العام هو الكافر لأن قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ لا يليق إلا بالكفار.
المناسبة:
بعد أن أثبت الله تعالى أن القرآن من عند الله تعالى، وليس بالمفترى من محمد صلى الله عليه وسلّم كما يزعم المشركون، ذكر أن سبب المعارضة والتّكذيب هو الهوى والشهوة ومحض الحسد وحظوظ الدّنيا.
التفسير والبيان:
من كانت إرادته مقصورة على حبّ الدّنيا وزينتها، من متاع ولباس، وزينة وأثاث، ولم يكن طالبا السعادة الأخروية، يوصل الله إليه جزاء عمله في الدّنيا من الصّحة والرّياسة وسعة الرّزق وكثرة الأولاد، ويوفّيه ثمرة جهده تماما دون أن ينقصه شيئا من مردود العمل ونتيجة الكسب لأن الأرزاق منوطة بالأعمال، لا بالنّيات.
37
وذلك يدلّ على أن ثمرة العمل في الدّنيا مرتبطة بالكسب وتقدير الله، وأما جزاء الآخرة فهو محصور بإرادة الله وفضله وإحسانه.
وأولئك الذين لا همّ لهم إلا الدّنيا، لا حظّ لهم في الآخرة إلا النّار في مقابلة ما عملوا لأنهم استوفوا في الدّنيا ثمرة العمل الحسن، وبقي لهم في الآخرة وزر العمل السّيء، وتبدد أثر عملهم في الدّنيا، وبطل ثواب عملهم في الآخرة لأنهم لم يريدوا وجه الله تعالى، والعمدة في الثواب الأخروي هو الإخلاص لله عزّ وجلّ.
ونظير الآية قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ، ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً. وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [الإسراء ١٧/ ١٨- ١٩]، وقوله سبحانه: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ، وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها، وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى ٤٢/ ٢٠].
ويؤيّده الحديث المشهور في الصّحيحين عن عمر رضي الله عنه: «إنما الأعمال بالنّيات، وإنما لكلّ امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه» وقال قتادة: من كانت الدّنيا همّه ونيّته وطلبته، جازاه الله بحسناته في الدّنيا، ثم يفضي إلى الآخرة، وليس له حسنة يعطى بها جزاء. وأما المؤمن فيجازى بحسناته في الدّنيا، ويثاب عليها في الآخرة. أي أن للمؤمن على عمله الحسن ثوابين، ثواب الدّنيا وثواب الآخرة، وللكافر ثوابا واحدا وهو في الدّنيا فقط.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآيتان على ما يأتي:
38
١- اقتضى عدل الله وحكمته أن من قصد الدنيا وحدها وأتى بعمل البرّ والخير كصدقة وصلة رحم وكلمة طيّبة ونحو ذلك، يكافأ بها فقط بصحة الجسم، وكثرة الرّزق، لكن لا حسنة له في الآخرة، ويحرم من ثمرة عمله فيها.
٢- إن أهل الرّياء والسّمعة يعطون بحسناتهم في الدّنيا، حتى لا يظلموا شيئا منها مهما قلّ، ويحرمون من الثواب الأخروي لأن ثواب الجنة يكون بتزكية النفس بالإيمان والعمل الصالح، واجتناب المعاصي، وأما عمل أهل الدّنيا فمقصور عليها وعلى مظاهرها وشهواتها.
٣- ذهب أكثر العلماء إلى أن هذه الآية وأمثالها المذكورة مطلقة، تشمل المؤمن والكافر.
٤- إن العبد ينوي ويريد، والله سبحانه يحكم ما يريد.
٥- الكافر يخلد في النّار، والمؤمن لا يخلّد لقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء ٤/ ٤٨].
٦- الإسلام يدعو إلى إيثار العمل للآخرة على عمل الدّنيا، في النّيّة والقصد، فإن قصد الدّنيا والآخرة معا كان ذلك مقبولا شرعا.
من كان يريد الآخرة
[سورة هود (١١) : آية ١٧]
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١٧)
39
الإعراب:
أَفَمَنْ كانَ: فَمَنْ: مبتدأ، والهمزة للإنكار، والخبر محذوف تقديره: أفمن كان على بيّنة من ربّه كمن كان يريد الحياة الدّنيا، والهاء في يَتْلُوهُ للقرآن، والشاهد: الإنجيل. والهاء في مِنْهُ عائد لله تعالى، والهاء في قَبْلِهِ للإنجيل.
وكِتابُ مُوسى معطوف مرفوع على قوله: شاهِدٌ ففصل بين حرف العطف والمعطوف بالظرف، وهو قوله تعالى: مِنْ قَبْلِهِ وتقديره: ويتلوه كتاب موسى من قبله.
إِماماً وَرَحْمَةً نصب على الحال من كِتابُ مُوسى.
فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ مبتدأ وخبر، والجملة خبر وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ.
المفردات اللغوية:
بَيِّنَةٍ حجة وبيان وبرهان من الله يدلّه على الحقّ والصّواب فيما يأتيه ويذره، والبيّنة:
هي القرآن، وهو حكم يعمّ كلّ مؤمن مخلص، وقيل: المراد به النّبي صلى الله عليه وسلّم، أو المؤمنون، وقيل:
مؤمنو أهل الكتاب. وَيَتْلُوهُ يتبعه. شاهِدٌ له بصدقه. مِنْهُ أي من الله، و «الشاهد» : الإنجيل، وقيل: جبريل، وقيل: القرآن، وقيل: النّبي صلى الله عليه وسلّم. وَمِنْ قَبْلِهِ أي الإنجيل، وقيل: القرآن. كِتابُ مُوسى التّوراة شاهد له أيضا. إِماماً كتابا مؤتّما به في الدّين. أُولئِكَ أي من كان على بيّنة، ويراد بكلمة فَمَنْ المعنى الجماعي. يُؤْمِنُونَ بِهِ أي بالقرآن، فلهم الجنة.
وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ أهل مكة وجميع الكفار الذين تحزّبوا معهم على رسول الله صلى الله عليه وسلّم. فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ يردها لا محالة، أي مكان الوعد وهي النّار يردها. فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ في شكّ من الموعد المذكور، أو القرآن. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ أهل مكة وأمثالهم. لا يُؤْمِنُونَ لقلّة نظرهم واختلال فكرهم.
المناسبة:
تعلّق الآية بما قبلها واضح، فبعد أن ذكر الله تعالى من كان يريد الدّنيا وزينتها ولا يهتم بالآخرة وأعمالها، أعقبه بذكر من كان يريد الآخرة ويعمل لها، ومعه شاهد يدلّ على صدقه وهو القرآن.
40
التفسير والبيان:
أفمن كان على نور وبصيرة من الله تدلّه على الحقّ والصّواب، ويؤيّده شاهد له على صدقه، وهو كتاب الله من إنجيل أو قرآن، وهم المؤمنون بالفطرة بأنه لا إله إلا الله، كمن كان يريد الحياة الدّنيا وزينتها؟ كما قال تعالى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ، فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ [الزّمر ٣٩/ ٢٢]، وقال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها [الرّوم ٣٠/ ٣٠].
وكذلك يؤيّده كتاب موسى عليه السّلام وهو التّوراة، الذي أنزله الله تعالى إلى تلك الأمّة إماما لهم، أي كتابا مؤتما به في الدّين وقدوة يقتدون به، ورحمة من الله بهم لأنه همزة وصل بخير الدّارين، فمن آمن به حقّ الإيمان، قاده ذلك إلى الإيمان بالقرآن، ويكون ذلك الكتاب رحمة لمن آمن به وعمل به.
وكون الإنجيل والتّوراة تابعين للقرآن ليس في الوجود، بل في دلالتهما على هذا المطلوب، وتبشيرهما بالنّبي صلى الله عليه وسلّم وكونه موصوفا فيهما: يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ [الأعراف ٧/ ١٥٧].
أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ... أي أولئك الذين يؤمنون بما في التّوراة من البشارة بمحمد النّبي صلى الله عليه وسلّم، يؤمنون بهذا القرآن إيمانا حقّا عن يقين وإذعان.
وفي الجملة: من كان مؤمنا بالفطرة وبالعقل، وبنور القرآن، وبالوحي الثابت الذي نزل على موسى وعيسى وغيرهما من الرّسل، فهو على منهج الحقّ والصّواب.
ومن يكفر بالقرآن من أهل مكة ومن تحزّبوا على النّبي صلى الله عليه وسلّم وغيرهم من اليهود والنّصارى والوثنيين، فالنّار موعده لا ريب في وروده إياها، أي أن مآله حتما إلى جهنم وهو من أهل النّار، جزاء تكذيبه، كما قال تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ، وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها، وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [هود ١١/ ١٦]
41
والْأَحْزابِ هم كما قال مقاتل: بنو أميّة، وبنو المغيرة بن عبد الله المخزومي، وآل طلحة بن عبيد الله. وقال سعيد بن جبير: الأحزاب: أهل الأديان كلّها، وروي عن مقاتل: «من الملل كلّها» لأنهم يتحازبون.
وفي صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النّار».
فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ أي فلا تكن أيها المكلّف السّامع في شكّ من أمر هذا القرآن، فإنه حقّ من الله لا ريب ولا شكّ فيه، كما قال تعالى: الم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [السّجدة ٣٢/ ١- ٢]. والخطاب بقوله: فَلا تَكُ للنّبي صلى الله عليه وسلّم، والمراد جميع المكلّفين.
وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ.. أي ولكن أكثر الناس لا يؤمنون بهذا القرآن، كما قال تعالى: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف ١٢/ ١٠٣]، والسبب أن المشركين مستكبرون مقلّدون زعماءهم، وأن أهل الكتاب حرّفوا دين أنبيائهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآية إلى ما يأتي:
١- إن من تبيّن الرشد والصّواب بالفطرة والعقل، واهتدى بنور الوحي الإلهي فهو الذي يؤثر الآخرة على الدّنيا، ولا يستوي إطلاقا مع من آثر الدّنيا الفانية وزينتها الموقوتة على الآخرة الباقية الخالدة.
٢- اليهود والنصارى المؤمنون بحقّ يؤمنون بما في التّوراة والإنجيل من البشارة بالنّبي صلى الله عليه وسلّم، وأما غير المؤمنين بحقّ، المتأخرون منهم أو من غيرهم، فهم
42
الذين موعدهم النّار، فمن يكفر بالقرآن أو بالنّبي عليه الصّلاة والسّلام، من أهل الملل كلها أو أهل الأديان كلها، فهو من أهل النّار.
٣- القرآن الكريم حقّ ثابت من عند الله، فلا يشكّنّ أحد بذلك، وليبادر إلى الإيمان بما جاء فيه. ولكن مع الأسف أكثر الناس لا يؤمنون به.
الكافرون والمؤمنون وجزاء أعمال كلّ منهم
[سورة هود (١١) : الآيات ١٨ الى ٢٤]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (١٩) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (٢٠) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢١) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٢٢)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٣) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٤)
الإعراب:
الَّذِينَ يَصُدُّونَ إما نعت للظالمين، وإما خبر لمبتدأ أي هم الذين.
ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ ما: فيها ثلاثة أوجه:
43
أ- أن تكون ظرفية زمانية في موضع نصب بيضاعف، وتقديره: يضاعف لهم العذاب مدة استطاعتهم السمع والإبصار، أي أبدا، كقوله تعالى: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ [هود ١١/ ١٠٧] أي مدة دوام السموات والأرض، أي: أبدا.
ب- أن تكون في موضع نصب، على تقدير حذف حرف الجر، وتقديره: بما كانوا، فحذف حرف الجر، فاتصل الفعل به.
ج- أن تكون ما نافية، ومعناه لا يستطيعون السمع ولا الإبصار، لما قد سبق لهم في علم الله تعالى.
أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
مبتدأ وخبر.
لا جَرَمَ ردّ لكلامهم، وهو نفي لما ظنوا أنه ينفعهم. وجَرَمَ فعل ماض بمعنى كسب.
أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ في موضع نصب من وجهين: أحدهما- تقديره: كسب ذلك الفعل لهم أنهم في الآخرة هم الأخسرون، أي كسب ذلك الفعل الخسران في الآخرة. وهذا قول سيبويه. والثاني- التقدير: لا صدّ ولا منع عن أنهم في الآخرة، وحذف حرف الجر، فانتصب بتقدير حذف حرف الجر، وهذا قول الكسائي.
مَثَلًا تمييز منصوب.
البلاغة:
كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ تشبيه مرسل مجمل لوجود أداة التشبيه وحذف وجه الشبه، أي مثل الفريق الكافر كالأعمى والأصم في عدم البصر والسمع، ومثل الفريق المؤمن كالسميع والبصير.
المفردات اللغوية:
وَمَنْ أَظْلَمُ لا أحد. افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بنسبة الشريك والولد إليه. يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ في الموقف يوم القيامة مع جملة الخلق، بأن يحبسوا وتعرض أعمالهم، والمراد: يحاسبهم ربهم. الْأَشْهادُ جمع شاهد وهم الملائكة يشهدون للرسل بالبلاغ، وعلى الكفار بالتكذيب.
لَعْنَةُ اللَّهِ اللعنة واللعن: الطرد من رحمة الله تعالى. يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يصرفون عن دين الله: دين الإسلام. وَيَبْغُونَها عِوَجاً يطلبون السبيل معوجة، والعوج: الالتواء.
هُمْ تأكيد للأولى. مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ أي ما كانوا معجزين لله في الدنيا أن يعاقبهم، ولا يمكنهم أن يهربوا من عذاب الله تعالى. مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره.
44
أَوْلِياءَ أنصار يمنعونهم من عذابه أو عقابه، ولكنه أخر عقابهم إلى هذا اليوم ليكون أشد وأدوم. يُضاعَفُ لَهُمُ بإضلالهم غيرهم. ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ للحق. وَما كانُوا يُبْصِرُونَ أي يبصرونه، لفرط كراهتهم له، كأنهم لم يستطيعوا ذلك. خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
لمصيرهم إلى النار المؤبدة عليهم. وَضَلَ
غاب. يَفْتَرُونَ
على الله من ادعاء الشريك.
لا جَرَمَ حقا. قال الفراء: إنها بمنزلة قولنا: لا بد ولا محالة، ثم كثر استعمالها حتى صارت بمنزلة (حقا). تقول العرب: لا جرم أنك محسن، على معنى: حقا إنك محسن.
وَأَخْبَتُوا خشعوا وسكنوا وأخلصوا لله تعالى، وأصل الإخبات: قصد الخبث وهو المكان المطمئن المستوي. مَثَلُ صفة. الْفَرِيقَيْنِ الكفار والمؤمنين. كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ هذا مثل الكافر، وتشبيه بالأعمى لتعاميه عن آيات الله، وبالأصم لعدم استماعه كلام الله تعالى وتدبر معانيه. وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هذا مثل المؤمن لتبصره بالقرآن وسماعه له سماع تدبر وإمعان، فيكون كل واحد منهما مشبها باثنين. أَفَلا تَذَكَّرُونَ تتعظون، أصله: تتذكرون، فأدغم التاء في الذال.
المناسبة:
بعد أن تحدث القرآن عن فريقي الناس: وهما الذي يريد الدنيا وزينتها، والذي يريد الآخرة، أبان حال كل من الفريقين في الدنيا والآخرة.
وكان القصد من آية مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها ذم الحريصين على الدنيا ونسيان الآخرة، والقصد من آية أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ الرّد على منكري نبوة الرسول صلى الله عليه وسلّم والطعن في معجزاته، وأما المراد من آية وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فهو الرّد على المشركين الذين يزعمون أن الأصنام شفعاؤهم عند الله، وهذا محض الافتراء على الله تعالى، وهو داخل تحت عموم وعيد المفترين على الله تعالى.
التفسير والبيان:
يبين الله تعالى حال المفترين عليه ووصفهم بأنهم أظلم الناس، وفضيحتهم في الآخرة أمام الخلائق كلهم، فيذكر أنه لا أحد أظلم لنفسه ولغيره ممن اختلق
45
الكذب على الله تعالى، في صفته أو حكمه أو وحيه، أو زعم وجود شفعاء له بدون إذنه، أو اتخاذه ولدا من الملائكة كالعرب القائلين بأن الملائكة بنات الله، واليهود القائلين بأن عزيرا ابن الله، والنصارى القائلين بأن المسيح ابن الله.
أُولئِكَ يُعْرَضُونَ.. أي أولئك المغرقون في الكفر والشرك والافتراء على الله، يعرضون على ربهم أي يحاسبهم ربهم حسابا شديدا، ويقول الأشهاد من الملائكة الأبرار: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم وافتروا عليه، فلعنة الله على الظالمين، أي أنهم مطرودون من رحمة الله تعالى.
وبما أن العرض عام في كل العباد، فإن المراد به هنا عرض خاص وهو العرض بقصد افتضاحهم، فيحصل لهم الخزي والنكال في أسوأ حال، والعرض يكون على الأماكن المعدة للحساب والسؤال، أو على من شاء الله من الخلق بأمر الله تعالى، من الملائكة والأنبياء والمؤمنين.
والآية مثل قوله تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ. يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ، وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ، وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر ٤٠/ ٥١- ٥٢].
وروى الإمام أحمد والشيخان عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول في النجوى يوم القيامة: «إن الله عز وجل يدني المؤمن، فيضع عليه كنفه، ويستره من الناس، ويقرره بذنوبه، ويقول له: أتعرف ذنب كذا؟
أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه قد هلك، قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وإني أغفرها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته. وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين»
.
الَّذِينَ يَصُدُّونَ.. إن هؤلاء الظالمين يردون الناس عن اتباع الحق
46
والإيمان والطاعة، وسلوك طريق الهدى الموصلة إلى الله عز وجل، ويحولون بينهم وبين الجنة، وَيَبْغُونَها عِوَجاً أي ويعدلون بالناس عن سبيل الله إلى المعاصي والشرك، فهم يريدون أن يكون طريقهم عوجا غير معتدلة، والحال أنهم كافرون بالآخرة أي جاحدون بها مكذبون، وأعاد لفظ هُمْ تأكيدا.
أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ... إن أولئك الظالمين الصادين عن سبيل الله لا يعجزون ربهم أن يعاقبهم بالدمار والخسف كما فعل بغيرهم، بل هم تحت قهره وسلطانه، وهو قادر على الانتقام منهم في الدنيا قبل الآخرة، وليس لهم أنصار ينصرونهم من دون الله تعالى، ويحجبون عنهم العذاب، ويضاعف لهم العقاب بسبب إضلالهم غيرهم، كما ضلوا بأنفسهم، وكانوا صمّا عن سماع الحق، عميا عن اتباعه.
ونظير الآية قوله تعالى: إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ [إبراهيم ١٤/ ٤٢] وقوله سبحانه: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ [النحل ١٦/ ٨٨] وقوله صلى الله عليه وسلّم في الصحيحين: «إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته».
وعلة مضاعفة العذاب هي: ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ أي لم يستمعوا إلى القرآن سماع تدبر واتعاظ، ولم يبصروا طريق الحق والخير وينظروا إلى آيات القرآن وآيات الكون، الدالة على صدق الوحي، كما قال تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ، وَالْغَوْا فِيهِ، لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت ٤١/ ٢٦] وقال: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ [الأنعام ٦/ ٢٦].
فليس المراد نفي السمع والبصر، بل المقصود أنهم وإن كانوا يسمعون ويبصرون في الظاهر، إلا أنهم ما استخدموا هاتين الحاستين استخداما صحيحا في
47
تلقي المعارف والمعلومات وتكوين العقيدة السلمية، ونظرا لعنادهم وعتوهم وكراهتهم الحق والهدى، ما كانوا يطيقون سمع آيات القرآن والتبصر بآيات الكون.
أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا...
أي أولئك الموصوفون بالأوصاف السابقة خسروا أنفسهم لأنهم أدخلوا نارا حامية يتزايد سعيرها، كما قال تعالى:
مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ، كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً [الإسراء ١٧/ ٩٧] ولا موت ولا حياة فيها.
وضلّ عنهم أي ذهب عنهم الذي كانوا يفترونه من دون الله من الأنداد والأصنام، فلم تجد عنهم شيئا، بل ضرتهم كل الضرر، كما قال تعالى: وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً، وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ [الأحقاف ٤٦/ ٦] وقال سبحانه: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا، كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ، وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم ١٩/ ٨١- ٨٢].
لا جَرَمَ... حقا إنهم في الآخرة أخسر الناس صفقة لأنهم استبدلوا بنعيم الجنان ودرجاتها عذاب جهنم ودركاتها، واعتاضوا عن نعيم الجنان بحميم آن، وعن شرب الرحيق المختوم بسموم وحميم، وعن الحور العين بطعام من غسلين، وعن القصور العالية بالهاوية، وعن قرب الرحمن بغضب الديان وعقابه.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ... بعد أن ذكر تعالى حال الأشقياء أعقبه بذكر السعداء، وهم الذين آمنوا بالله ورسوله، وعملوا في الدنيا الأعمال الصالحة، فآمنت قلوبهم، وثابروا على الطاعات وترك المنكرات، وخشعوا لله وأنابوا إليه، فلهم جنات العلى ذات النعم التي لا تعد ولا تحصى، من كل ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وهم مخلدون فيها، ماكثون فيها على الدوام، لا يموتون ولا يهرمون، ولا يمرضون، ولا يخرج منهم مستقذر، وإنما هو رشح مسك يعرقون به.
48
ثم ذكر الله شبه الكافرين والمؤمنين وضرب مثلا لكليهما فقال: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ أي مثل الفريقين المذكورين اللذين وصفا سابقا وهم الكفار بالشقاء، والمؤمنين بالسعادة، كمثل الأعمى والأصم، والسميع والبصير الكافر مثل الأعمى، لتعاميه عن وجه الحق في الدنيا والآخرة، وعدم اهتدائه إلى الخير وعدم معرفته إياه، ومثل الأصم لعدم سماعه الحجج، فلا يسمع ما ينتفع به والمؤمن مثل متفتح السمع والبصر، لاستفادته بما يسمع من القرآن، ويرى في الأكوان. والسمع والبصر وسيلتا العلم والهدى، وطريقا تكوين العقل.
لا يستوي هذا وذاك صفة وحالا ومالا، أفلا تذكرون أي تعتبرون، فتفرقون بين هؤلاء وهؤلاء، وكيف لا تميزون بين هذه الصفات المتباينة؟! كما قال تعالى: لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ، أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ [الحشر ٥٩/ ٢٠] وقال سبحانه: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ، وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ، وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ، وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ، إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ، وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ [فاطر ٣٥/ ١٩- ٢٢] واستعمال: أَفَلا تَذَكَّرُونَ تنبيه على أنه يمكن علاج هذا العمى وهذا الصمم.
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت الآيات ما يأتي:
١- لا أحد أظلم لأنفسهم من الذين افتروا على الله كذبا، فنسبوا كلامه إلى غيره، وزعموا أن له شريكا وولدا، وقالوا للأصنام: هؤلاء شفعاؤنا عند الله.
٢- ينادى بالكفار والمنافقين على رؤوس الخلائق: هؤلاء الذين كذبوا على الله، ألا لعنة الله على الظالمين، أي بعده وسخطه وإبعاده من رحمته على الذين وضعوا العبادة في غير موضعها.
49
والأشهاد المنادون بذلك: هم الملائكة، أو الأنبياء والمرسلون، والعلماء لذين بلّغوا الرسالات.
٣- إن سبب اللعنة على الظالمين وطردهم من رحمة الله إنما هو صدّ أنفسهم وغيرهم عن الإيمان والطاعة لله تعالى، وعدولهم بالناس عن سبيل الله إلى المعاصي والشرك، وكفرهم وجحودهم بالآخرة.
٤- الظالمون وغيرهم لا يعجزون الله بعقابهم في الدنيا، ولا يقدرون على الإفلات من سلطان الله وقدرته وخسف الأرض بهم، وليس لهم أنصار ينصرونهم من دون الله تعالى، وعقابهم مضاعف على قدر كفرهم ومعاصيهم بسبب إضلالهم غيرهم، وبسبب تعطيلهم قدرات السمع والبصر في استماع الحق وإبصاره.
٥- هؤلاء الظالمين خسروا أنفسهم وضاع عنهم افتراؤهم، وتبدد كل ما تعلقوا به من آمال خاسرة، وهم حقا في الآخرة أخسر الناس صفقة لاستبدالهم بنعيم الجنة بعذاب جهنم.
٦- المؤمنون المصدقون بالله ورسوله، العاملون الصالحات، الخاشعون الخاضعون المنيبون لربهم، هم أصحاب الجنة الماكثون فيها أبدا.
٧- لا تساوي إطلاقا بين المؤمنين والكافرين، كما لا تساوي بين الأعمى والبصير، ولا بين الأصم والسميع، أفلا تنظرون في الوصفين وتتعظون وتعتبرون؟! والخلاصة: إن الله تعالى وصف السعداء أهل الجنة بصفات ثلاث هي:
الإيمان، والعمل الصالح، والخشوع إلى الله تعالى ووصف الأشقياء المنكرين الجاحدين أهل النار بأربع عشرة صفة هي:
١- كونهم مفترين على الله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ
50
٢- إنهم يعرضون على الله في موقف الذل والهوان والخزي والنكال:
أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ.
٣- حصول الخزي والنكال والفضيحة العظيمة لهم: وَيَقُولُ الْأَشْهادُ: هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ.
٤- كونهم ملعونين من عند الله: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ.
٥- كونهم صادّين عن سبيل الله مانعين عن متابعة الحق: الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ.
٦- سعيهم في إلقاء الشبهات، وتعويج الدلائل المستقيمة: وَيَبْغُونَها عِوَجاً.
٧- كونهم كافرين: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ.
٨- كونهم عاجزين عن الفرار من عذاب الله: أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ.
٩- إنهم ليس لهم أولياء يدفعون عنهم عذاب الله، فليست أصنامهم شفعاء عند الله: وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ.
١٠- مضاعفة العذاب لهم، لسعيهم في الإضلال ومنع الناس عن الدين، مع ضلالهم الشديد: يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ.
١١- تعطيلهم وسائل الإيمان والمعرفة والاعتقاد الصحيح: ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ.
١٢- كونهم خاسرين أنفسهم لاشترائهم عبادة الآلهة بعبادة الله تعالى:
أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
51
١٣- غيبة افترائهم وذهابه عنهم بحيث لم يعودوا يتنبهون لضلالهم: وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ.
١٤- كونهم خاسرين في الآخرة: لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ.
قصة نوح عليه السلام
[سورة هود (١١) : الآيات ٢٥ الى ٣١]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (٢٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (٢٨) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٩)
وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣٠) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٣١)
52
الإعراب:
أَنْ لا تَعْبُدُوا بدل من إِنِّي لَكُمْ أو مفعول مُبِينٌ ويجوز أن تكون أَنْ مفسرة متعلقة بأرسلنا أو بنذير.
ما نَراكَ الكاف: مفعول أول. الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا فاعل اتَّبَعَكَ، واتَّبَعَكَ وفاعله: مفعول ثان لنراك إذا كان من رؤية القلب، وفي موضع الحال إذا كان من رؤية العين.
بادِيَ الرَّأْيِ منصوب على الظرف، أو في بادي الرأي، والعامل فيه: نَراكَ أي ما قبل إلا لأنه يتوسع في الظروف ما لا يتوسع في غيرها. وبادِيَ بغير همز: اسم فاعل من بدا يبدو: إذا ظهر، أي: ظاهر الرأي، وقرئ بالهمز: من بدأ يبدأ، أي أول الرأي.
أَنُلْزِمُكُمُوها أنلزم: يتعدى إلى مفعولين، الأول: الكاف والميم، والثاني: الهاء والألف، وأثبت الواو في: أَنُلْزِمُكُمُوها، ردا إلى الأصل لأن الضمائر ترد الأشياء إلى أصولها، كقولك:
المال لك وله. وحيث اجتمع ضميران وليس أحدهما مرفوعا، وقدم الأعرف منهما، جاز في الثاني الفصل والوصل.
وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ جملة اسمية في موضع الحال، ولَها: في موضع نصب لأنه يتعلق بكارهون.
تَزْدَرِي تقديره: تزدريهم، فحذف المفعول من الصلة وهو العائد، مثل: أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا [الفرقان ٢٥/ ٤١] أي بعثه الله. وأصله: تزتري على وزن تفتعل، ثم أبدل من التاء دالا لقرب مخرجهما.
البلاغة:
فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ شبّه من لا يهتدي بالحجة لخفائها عليه بمن سلك الصحراء لا يعرف طرقها على سبيل الاستعارة التمثيلية.
أَفَلا تَذَكَّرُونَ استفهام للإنكار والتقريع.
المفردات اللغوية:
إِنِّي لَكُمْ أي بأني لكم. نَذِيرٌ مُبِينٌ بيّن الإنذار، أبيّن لكم موجبات العذاب ووجه الخلاص. أَنْ لا تَعْبُدُوا أي بألا تعبدوا. إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ إن عبدتم غيره عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ مؤلم في الدنيا والآخرة، وهو في الحقيقة صفة المعذّب، لكن يوصف به العذاب وزمانه على طريقة: جدّ جده، ونهاره صائم للمبالغة.
53
الْمَلَأُ الأشراف والزعماء. إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا لا فضل لك علينا، ولا مزية لك علينا تخصك بالنبوة ووجوب الطاعة. أَراذِلُنا أسافلنا وأخساؤنا وأصحاب الحرف الخسيسة والفقراء، جمع أرذل الذي هو جمع رذل، مثل كلب وأكلب وأكالب. بادِيَ الرَّأْيِ ظاهر الرأي من غير تعمق، من البدو، أو أول الرأي أو ابتداء الرأي من غير تفكر فيك، من البدء، أي في بدء الحكم عليك من أول وهلة ووقت حدوث أول رأيهم. وهو منصوب على الظرف، أي وقت حدوث أول رأيهم. وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ أي زيادة تؤهلكم للنبوة واستحقاق المتابعة. بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ في ادعاء الرسالة والنبوة، وهذا الخطاب أدرجوا قومه معه فيه، وغلب المخاطب على الغائبين.
أَرَأَيْتُمْ أخبروني. إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي أي على حجة شاهدة بصحة دعواي الرسالة أو معجزة. وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ أي النبوة.
فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ خفيت عليكم فلم تهدكم، وحقه أن يقال: فعميتا، ولكن أفرد الضمير إما لأن البينة في نفسها هي الرحمة، أو لأن حذفها للاختصار أو الاقتصار على ذكره مرة، أو لأنه لكل واحدة من البينة والرحمة. أَنُلْزِمُكُمُوها يعني أنجبركم أو أنكرهكم على قبولها والاهتداء بها.
وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ لا تختارونها ولا تتأملون فيها، أي لا نقدر على ذلك.
لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على التبليغ، وهو وإن لم يذكر فمعلوم مما ذكر. مالًا جعلا تعطونيه. إِنْ أَجرِيَ أى ما ثوابي المأمول. وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا جواب لهم حين سألوا طردهم. إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ بالبعث، فيجازيهم ويأخذ لهم ممن ظلمهم وطردهم.
تَجْهَلُونَ عاقبة أمركم. مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ أي يمنعني من عذابه، أي لا ناصر لي إن طردتهم. أَفَلا فهلا. تَذَكَّرُونَ تتعظون، فإن طردهم ليس بصواب.
خَزائِنُ اللَّهِ أي خزائن رزقه أو أمواله حتى جحدتم فضلي. وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ عطف، أي ولا أقول لكم: أنا أعلم الغيب حتى تكذبوني، أو حتى أعلم أن هؤلاء اتبعوني بادي الرأي من غير بصيرة ولا تصميم قلبي. وَلا أَقُولُ: إِنِّي مَلَكٌ بل أنا بشر مثلكم. تَزْدَرِي تحتقر شأنهم لفقرهم. لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً أي فإن ما أعد الله لهم في الآخرة خير مما آتاكم في الدنيا.
اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ قلوبهم. إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ أي إن قلت شيئا من ذلك.
المناسبة:
بعد أن أثبت الله تعالى بعثة النبي صلى الله عليه وسلّم، وأن القرآن وحي من الله تعالى، وبعد أن ذكر حال فريقي المؤمنين والكافرين المكذبين، وحض على الاعتبار
54
والاتعاظ بالحالين بقوله: أَفَلا تَذَكَّرُونَ ذكر مجموعة من قصص الأنبياء للعظة والتذكر، وبيان اشتراك النبي صلى الله عليه وسلّم مع من قبله من الأنبياء في الدعوة إلى أصول واحدة مشتركة بين الأنبياء، وهي عبادة الله وحده والإيمان بالبعث والجزاء، وتنبيها له على ملازمة الصبر على أذى الكفار إلى أن يكفيه الله أمرهم.
التفسير والبيان:
أول هذه القصص المذكورة هنا هي قصة نوح عليه السلام، وكان قد ذكر تعالى هذه القصة في سورة يونس، وأعاد ذكرها هنا لما فيها من عظات وفوائد، أهمها إعلام الكفار أن محمدا صلى الله عليه وسلّم كغيره من الرسل، جاء للدعوة إلى توحيد الله وإثبات البعث والحساب والجزاء.
وتضمنت قصة نوح هنا عدة عناصر هي:
وصف دعوته إجمالا، ومناقشة قومه والرد عليهم، واستعجالهم العذاب، وكيفية صنع نوح السفينة، وإغراقهم بالطوفان، ونجاة نوح ومن آمن معه، والتماس نوح إنجاء ابنه معه. وكان نوح عليه السلام أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض من المشركين عبدة الأصنام.
والمعنى: تالله لقد أرسلنا نوحا إلى قومه المشركين، فقال لهم: إني لكم نذير من الله ظاهر الإنذار، أنذركم عذابه وبأسه إن أنتم عبدتم غير الله، فآمنوا به وأطيعوا أمره، ولا تعبدوا غيره، ولا تشركوا به شيئا لأني أخاف عذاب يوم القيامة، الذي هو عذاب شديد الألم.
ثم ذكر الله تعالى أجوبة قومه له وهي أربع شبهات:
الأولى- فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا.. أي قال السادة الكبراء من الكافرين منهم: ما أنت إلا بشر مثلنا، أي لست بملك، ولكنك بشر مشابه لنا في الجنس، فلا مزية تمتاز بها علينا تستوجب الطاعة.
55
الثانية- وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ.. أي ولم يتبعك إلا أراذل القوم الأخساء أصحاب الحرف الخسيسة كالزرّاع والصناع، وهم الفقراء والضعفاء، في بادئ الأمر وظاهره دون تأمل ولا تفكر ولا تدبر في عواقب الأمور. ولو كنت صادقا لاتبعك الأشراف والأكياس من الناس، كقوله تعالى: أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [الشعراء ٢٦/ ١١١].
الثالثة- وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ أي ما رأينا لكم علينا امتيازا ظاهرا في فضيلة أو قوة أو ثروة أو علم أو عقل أو جاه أو رأي، يحملنا على اتباعكم: لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ [الأحقاف ٤٦/ ١١].
الرابعة- بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ أي بل يترجح لدينا كذبكم في ادعائكم الصلاح والسعادة في الدار الآخرة. ويلاحظ أنهم أشركوا معه أتباعه في هذه الإجابة، وكان الخطاب لنوح ومن آمن معه.
ثم أخبر الله تعالى عن ردود نوح عليه السلام على قومه الذين أثاروا تلك الشبهات، وغيرها مما لم يحكها القرآن وطواها، أو لم يقولوها ولكن كلامهم يستلزمها.
قالَ: يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ.. قال نوح: يا قومي، أخبروني ماذا أفعل وما ترون؟ إن كنت على يقين وحجة ظاهرة فيما جئتكم به من ربي، يتبين لي بها أني على حق من عنده، وآتاني رحمة من عنده وهي النبوة والوحي، فعمّيت عليكم أي خفيت عليكم، فلم تهتدوا إليها، ولا عرفتم قدرها، بل بادرتم إلى تكذيبها وردها، أنكرهكم على قبولها ونغصبكم عليها، وأنتم لها كارهون، معرضون عنها، فلا يعقل الإكراه في الدين.
وهذا دليل النبوة والترفع عن آراء الجهال والسذّج.
وَيا قَوْمِ، لا أَسْئَلُكُمْ.. أي لا أطلب منكم على نصحي لكم مالا أي أجرا
56
آخذه منكم، وإنما أجري على الله عز وجل. وهذا قول تكرر صدوره من جميع الأنبياء بعد نوح، مثل هود وصالح وشعيب ومحمد عليهم السلام.
وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا.. أي ليس من شأني طرد المؤمنين وتنحيتهم من مجلسي.
ويظهر من هذا أن أكابر الكفار كانوا يبغون تخصيصهم ببعض المزايا والامتيازات، كتخصيص مجلس خاص بهم، لا يلتقون فيه مع الضعفاء والفقراء، أنفة منهم وكبرا وترفعا، كما حدث تماما بين النبي محمد صلى الله عليه وسلّم وبين قومه قريش، فقال تعالى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ، يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الأنعام ٦/ ٥٢].
إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ إن هؤلاء الأتباع سيلقون ربهم وسيحاسبهم على أعمالهم، كما يحاسبكم، ويعاقب من طردهم، ولكني أراكم قوما تجهلون الحقائق وتترددون في ظلمات الجهل في استرذالكم لهم، وسؤالكم طردهم، فإن تفضيل الناس بعضهم على بعض إنما هو بالعمل الطيب والخلق الفاضل، لا بالثروة والمال والجاه كما تزعمون.
وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي... أي يا قوم من ينصرني من عذاب الله إن طردتهم، فذلك ظلم عظيم، كما قال تعالى: فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنعام ٦/ ٥٢] أفلا تذكّرون، أي أفلا تتعظون وتتفكرون فيما تقولون؟! وَلا أَقُولُ لَكُمْ.. أي لا تعني النبوة والرسالة أني أملك خزائن رزق الله تعالى، وأقدر على التصرف فيها، وإنما أنا بشر كغيري من الناس مؤيد بالمعجزات، أدعو إلى عبادة الله بإذنه، ولا أعلم من الغيب إلا ما أطلعني الله عليه، ولست ملكا من الملائكة، ولا أستطيع القول لهؤلاء الذين تحتقرونهم وتزدرونهم: لن ينالهم خير، وليس لهم ثواب على أعمالهم، وهو ما وعدهم الله به
57
على الإيمان من سعادة الدنيا والآخرة، الله أعلم بما في صدورهم، فإن كان باطنهم كظاهر هم في الإيمان، فلهم الحسنى، وإن حكم إنسان على سرائرهم، كان ظالما قائلا ما لا علم له به.
والمقصود بالآية أن نوحا عليه السلام أخبرهم بتذلله وتواضعه لله عز وجل.
وفي هذا دلالة على الخط الفاصل بين الأنبياء وبين الزعماء، الأولون يهتمون بإرشاد الناس إلى ما فيه سعادتهم الدنيوية والأخروية دون إغراء بمال أو عطاء نفعي، والآخرون يعتمدون في كسب الأتباع على الوعود بالمنافع المادية وبذل الأموال رخيصة من أجل كسب تأييدهم.
وفيه دلالة على أن النبي بشر لا ملك، وأنه لا يعلم الغيب وإنما علمه عند الله، كقوله تعالى: قُلْ: لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا، إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ، وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ، وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ [الأعراف ٧/ ١٨٨].
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- دعوة نوح قومه كدعوة سائر الأنبياء إلى عبادة الله وإطاعته وحده لا شريك له، وترك عبادة الأصنام.
٢- الاستمرار على الكفر أو عبادة الأصنام يوجب العذاب الأليم الموجع الشاق في الدار الآخرة.
٣- إن الغالب في إعراض قوم نوح من الأشراف والسادة والكبراء كإعراض كل المكذبين الجاحدين مبني على أعذار واهية، رأسها الاستكبار والاستعلاء على بقية الناس من الفقراء والضعفاء الذين يتبعون الحق غالبا، كما قال تعالى:
وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ، وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف ٤٣/ ٢٣].
58
وهكذا يكون الغالب على ضعفاء الناس اتباع الحق، والغالب على الأشراف والكبراء مخالفته، كما ذكرت الآية: إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها.. ولما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان صخر بن حرب عن صفات النبي صلى الله عليه وسلّم قال له فيما قال:
أشراف الناس اتبعوه أو ضعفاؤهم؟ قال: بل ضعفاؤهم. فقال هرقل: هم أتباع الرسل.
٤- قولهم: بادِيَ الرَّأْيِ ليس بمذمة ولا عيب في الواقع لأن الحق إذا وضح، لا يبقى للرأي ولا للفكر مجال، بل لا بد من اتباع الحق حينئذ لكل ذي عقل وذكاء، ولا يفكر عندئذ بالبعد عنه إلا غبي أو عيي، والرسل عليهم السلام إنما جاؤوا بأمر جلي واضح. جاء
في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت له كبوة غير أبي بكر، فإنه لم يتلعثم»
أي ما تردد ولا تروى لرؤيته أمرا عظيما واضحا، فبادر إليه وسارع.
٥- الأنبياء يتمسكون عادة بما ثبت لديهم يقينا من وحي الله تعالى، والنبوة والرسالة، ولو عارضهم أكثر الناس.
٦- لا يلجأ الأنبياء عادة إلى إكراه أحد من الناس على قبول دعوتهم:
أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ وهو استفهام بمعنى الإنكار، أي لا يمكنني أن أضطركم إلى الإيمان والمعرفة بها، وهي شهادة أن لا إله إلا الله، أو النبوة والرحمة الإلهية أو البينة. وهذا أول نص يمنع الإكراه على الدين.
٧- لا يصح عقلا وذوقا وأدبا طرد الأنبياء من يؤمنون بهم، لا لشيء إلا لأنهم فقراء ضعفاء، فلو فعل ذلك أحدهم فرضا لخاصموه عند الله، وجازاهم على إيمانهم، وجازى من طردهم، ولا يجد من ينصره ويمنعه من عذاب الله إن طردهم لأجل إيمانهم، ويكون طرد المؤمنين بصفة دائمة لطلب مرضاة الكفار من أصول المعاصي، ولا يقدم عليه نبي. والمقصود هو الطرد المطلق على سبيل التأبيد.
59
٨- خزائن الرزق في تصرف الله تعالى، والغيب لا يعلمه إلا الله عز وجل، ولا يقول نبي: إن منزلته عند الناس منزلة الملائكة.
٩- احتج بعض العلماء بآية: وَلا أَقُولُ: إِنِّي مَلَكٌ على أن الملائكة أفضل من الأنبياء؟ لدوامهم على الطاعة، واتصال عباداتهم مذ خلقوا إلى يوم القيامة.
١٠- الفضائل الحقيقة الروحانية ليست إلا ثلاثة أشياء: الاستغناء المطلق فلا أدعيه: وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ والعلم التام: وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ والقدرة التامة الكاملة: وَلا أَقُولُ: إِنِّي مَلَكٌ والملائكة أكمل المخلوقات في القدرة والقوة.
والمقصود من ذكر هذه الأمور الثلاثة أنه ما حصل لنوح عليه السلام إلا ما يليق بالقوة البشرية والطاقة الإنسانية، وأما الكمال المطلق فلا يدعيه.
١١- إن استحقاق المؤمن ثواب الله تعالى لا يمنعه اعتراض أحد: لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً أي ليس لاحتقاركم لهم تبطل أجورهم، أو ينقص ثوابهم، الله أعلم بما في أنفسهم فيجازيهم عليه ويؤاخذهم به.
استعجال قوم نوح العذاب ويأسه منهم
[سورة هود (١١) : الآيات ٣٢ الى ٣٥]
قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٣) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٣٤) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (٣٥)
60
الإعراب:
إِنْ أَرَدْتُ شرط، وجواب الشرط دل عليه: وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي وتقدير الكلام:
إن كان الله يريد أن يغويكم، فإن أردت أن أنصح لكم لا ينفعكم نصحي.
البلاغة:
فَعَلَيَّ إِجْرامِي مجاز بالحذف، أي عقوبة إجرامي، على سبيل الفرض، بدليل استعمال كلمة إِنِ الدالة على الشك. وأما إجرامهم فهو محقق: وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ.
المفردات اللغوية:
جادَلْتَنا خاصمتنا. فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فأطلته أو أتيت بأنواعه. فَأْتِنا بِما تَعِدُنا به من العذاب. إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في دعوى النبوة، والوعيد، فإن مناظرتك لا تؤثر فينا. إِنْ شاءَ تعجيله لكم، أو تأجيله، فإن أمره إليه لا إلي. وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ بدفع العذاب أو الهرب منه فلستم بفائتين الله تعالى.
نُصْحِي النصح: قصد الخير للمنصوح وإخلاص القول والعمل له. أَنْ يُغْوِيَكُمْ أي إغواءكم أي الإيقاع في الغيّ والفساد، وقيل: المراد أن يهلككم هُوَ رَبُّكُمْ خالقكم والمتصرف فيكم على وفق إرادته. وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فيجازيكم على أعمالكم.
أَمْ يَقُولُونَ بل أيقول كفار مكة. افْتَراهُ اختلق محمد القرآن. فَعَلَيَّ إِجْرامِي أي عقوبة ذنبي ووباله. وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ أي من إجرامكم في إسناد أو نسبة الافتراء إلي.
المناسبة:
بعد أن أجاب نوح قومه على شبهاتهم، أوردوا عليه أمرين: الأول- أنهم وصفوه بكثرة المجادلة، والثاني- أنهم استعجلوا العذاب الذي كان يتوعدهم به. ثم ذكر تعالى يأسه منهم، واعتراضا في القصة وهو براءة محمد من نسبة افترائهم إليه.
التفسير والبيان:
قال قوم نوح له: قد حاججتنا فأكثرت من ذلك، ونحن لا نتبعك، فأتنا بما تعدنا به من العذاب المعجل في الدنيا، إن كنت صادقا في دعواك أن الله
61
يعذبنا على عصيانه في الدنيا قبل الآخرة، وهذا كقوله تعالى: قالَ: رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً، فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً [نوح ٧١/ ٥- ٦].
قال لهم نوح: إنما الذي يعاقبكم ويعجل تعذيبكم الله الذي لا يعجزه شيء، إن شاء عقابكم عاجلا أو آجلا، فما أنتم بمعجزين أي بفائتي الله ولا بمستطيعي الهرب من عذابه لأنكم في قبضته وملكه وسلطانه.
ولا يفيدكم نصحي واجتهادي في إيمانكم، إن أراد الله إغواءكم أي إيقاعكم في الغي والضلال والفساد، ودماركم وهلاككم، هو ربكم أي خالقكم والمتصرف في أموركم، والحاكم العادل الذي لا يجور، وإليه ترجعون في الآخرة، فيجازيكم بما كنتم تعملون من خير أو شر.
ومعنى إرادة الله إغواءهم وإضلالهم: ربط الأسباب بالمسببات، لا خلقه للغواية والشقاوة فيهم، فإن ذلك منوط بالعمل والكسب، والنتائج متوقفة على المقدمات.
أَمْ يَقُولُونَ: افْتَراهُ..
هذا كلام معترض في وسط قصة نوح، مؤكد لها، مقرر لها، وهي حكاية لقوله مشركي مكة في تكذيب هذه القصص: أَمْ يَقُولُونَ: افْتَراهُ بل يقول هؤلاء الكافرون الجاحدون في مكة: إن محمدا افترى القرآن، أي اختلقه من قبل نفسه، ومنه ما أخبر به عن نوح وقومه، فرد الله معلما نبيه أن يقول لهم: إن افتريته فعلي عقوبة إثمي، وعذاب ذنبي، والاجرام: اقتراف المحظورات واكتسابها، وأنا بريء من آثامكم وذنوبكم، وسيجزيكم الله على أعمالكم، فجرمكم ليس مفتعلا ولا مفترى لأني اعلم ما عند الله من العقوبة لمن كذب عليه، فكل إنسان مسئول عن ذنبه، كما قال تعالى: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى، وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى، أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا
62
ما سَعى، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى، ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى
[النجم ٥٣/ ٣٦- ٤١].
ونظير الآية: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ: لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ، أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ، وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [يونس ١٠/ ٤١].
والأظهر أن قوله: أَمْ يَقُولُونَ: افْتَراهُ هو من محاورة نوح لقومه، كما قال ابن عباس لأنه ليس قبله ولا بعده إلا ذكر نوح وقومه، والخطاب منهم ولهم. وأنهم يقولون: افترى ما أخبركم به من دين الله وعقاب من أعرض عنه.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى الآتي:
١- إن عناد الكفار وغباءهم وحماقتهم استوجب كل ذلك التنكر لدعوة النبي نوح عليه السلام، مهما أتى به من الأدلة المثبتة لتوحيد الله ووجوب طاعته وعبادته، وورّطهم في طلب تعجيل نقمة الله وعذابه وسخطه، والبلاء موكل بالمنطق.
٢- الجدال في الدين لتقرير الأدلة وإزالة الشبهات أمر محمود، وهو حرفة الأنبياء، ولهذا جادل نوح والأنبياء قومهم حتى يظهر الحق، فمن قبله نجا، ومن ردّه خاب وخسر.
٣- التقليد والجهل والإصرار على الباطل حرفة الكفار، والجدال لغير الحق حتى يظهر الباطل في صورة الحق أمر مذموم، وصاحبه في الدارين ملوم.
٤- قوله تعالى: إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ رد على المعتزلة والقدرية ومن وافقهما الذين زعموا أن الله تعالى لا يريد أن يعصي العاصي، ولا يكفر الكافر، ولا يغوي الغاوي، وأنه يفعل ذلك، والله لا يريد ذلك.
63
والواقع أن الله هو الهادي والمضل، وإرادة الله يصح تعلقها بالإغواء، والمعنى أن الله يبين للناس طريق الهداية وطريق الضلال، ويختار الإنسان ما يشاء مع إرادة الله.
وكلام نوح عليه السلام دليل على أنه تعالى ما أغواهم، بل فوض الاختيار إليهم من وجهين:
الأول- لو أراد الله تعالى إغواءهم، لما بقي في النصح فائدة، ولما أمر الله نوحا بأن ينصح الكفار، وأجمع المسلمون على أن نبينا كغيره من الأنبياء مأمور بدعوة الكفار ونصيحتهم.
الثاني- لو ثبت الحكم عليهم بأن الله تعالى أغواهم أو خلقهم غاوين ضالين، لصار هذا عذرا لهم في عدم إيمانهم، ولصار عمل نوح غير ذي موضوع ولا هدف، ولا داعي له، ولا فائدة منه لأنه يسهل عليهم الاعتذار بذلك، والرد عليه بعدم جدوى دعواه.
والخلاصة: إن مبدأ أهل السنة أن الله تعالى قد يريد الكفر من الإنسان، ولكن لا يأمره بذلك، وإنما يأمره بالإيمان، وإذا أراد الكفر من العبد فإنه يمتنع صدور الإيمان منه.
٥- كل إنسان مسئول عن نفسه، فإن افترى أو اختلق نبي الوحي والرسالة كما يزعم قومه المعادون له، فعليه عقاب إجرامه، وإن كان محقا فيما يقول، وهو الحق الأكيد، فعليهم عقاب تكذيبهم وسيئاتهم.
64
نهي نوح عن الاغتمام بهلاك قومه وأمره بصنع السفينة
[سورة هود (١١) : الآيات ٣٦ الى ٤١]
وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (٣٨) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٩) حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (٤٠)
وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١)
الإعراب:
نُوحٍ منصرف لأنه خفيف، وإن كان فيه العجمة والتعريف.
مِنْ قَوْمِكَ يُؤْمِنَ فاعل يُؤْمِنَ. مَنْ يَأْتِيهِ مَنْ موصولة، مفعول العلم.
اثْنَيْنِ في موضع نصب لأنه مفعول احْمِلْ. ووَ أَهْلَكَ معطوف عليه.
مَنْ سَبَقَ منصوب على الاستثناء من أَهْلَكَ.
وَمَنْ آمَنَ في موضع نصب لأنه معطوف على اثنين، أو على أهلك.
65
مَجْراها فيه ثلاثة أوجه: الأول- أن يكون منصوبا على تقدير حذف ظرف مضاف إلى ذلك. وَمُرْساها عطف عليه، وتقديره: باسم الله وقت إجرائها وإرسائها، أي اركبوا فيها متبكرين باسم الله تعالى في هذين الوقتين. وبِسْمِ اللَّهِ متعلق بمحذوف في موضع نصب على الحال من واو ارْكَبُوا. وبِسْمِ اللَّهِ هو العامل في مَجْراها.
الثاني- أن يكون مَجْراها مبتدأ، وبِسْمِ اللَّهِ خبره، وتقديره: بسم الله إجراؤها وإرساؤها، والجملة حال من ضمير فِيها.
والثالث- أن يكون مَجْراها في موضع رفع بالظرف، والظرف حال من هاء:
فِيها.
ومن قرأ مَجْراها وَمُرْساها جعله اسم فاعل من أجراها الله فهو مجري، وأرساها فهو مرسي، وهو خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هو مجريها ومرسيها.
إِلَّا قَلِيلٌ مرفوع بفعل: آمَنَ ولا يجوز نصبه على الاستثناء لأن الكلام قبله لم يتم. والتعبير حصر بهم.
البلاغة:
وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا كناية عن الرعاية والحفظ.
المفردات اللغوية:
فَلا تَبْتَئِسْ تحزن، أي لا تغتم بهلاكهم، وهذا يعني أن الله أيأسه أو أقنطه من إيمانهم، ونهاه أن يغتم بما فعلوه من التكذيب والإيذاء. بِما كانُوا يَفْعَلُونَ من الشرك، فدعا عليهم بقوله: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح ٧١/ ٢٦] فأجاب الله دعاءه.
الْفُلْكَ السفينة، ويطلق على الواحد والجمع. بِأَعْيُنِنا بحفظنا وعنايتنا ورعايتنا، على طريق التمثيل. وَوَحْيِنا إليك كيف تصنعها. الَّذِينَ ظَلَمُوا كفروا بترك إهلاكهم والمقصود: لا تدعني برفع العذاب عنهم. إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ محكوم عليهم بالإغراق، فلا سبيل إلى كفه.
وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ حكاية حال ماضية. مَلَأٌ جماعة. سَخِرُوا مِنْهُ استهزءوا به لعمله السفينة، فإنه كان يعملها، في برية بعيدة عن الماء، فكانوا يضحكون منه ويقولون له: صرت نجارا بعد ما كنت نبيا. قالَ: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ أي سنهزأ بكم إذا أخذكم الغرق في الدنيا والحرق في الآخرة، ونجونا وتركناكم. وقيل: المراد بالسخرية: الاستجهال. عَذابٌ يُخْزِيهِ يذله ويفضحه. وَيَحِلُّ ينزل. عَذابٌ مُقِيمٌ دائم وهو عذاب النار.
66
حَتَّى إِذا.. حَتَّى هي التي يبتدأ بعدها الكلام، دخلت على الجملة من الشرط والجزاء. فإن كانت غاية فهي غاية للصنع، أي لقوله: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ أي وكان يصنعها إلى أن جاء وقت الموعد. ويكون ما بعد يَصْنَعُ من الكلام حالا من يَصْنَعُ كأنه قال:
يصنعها، والحال أنه كلما مر عليه ملأ من قومه، سخروا منه. وجواب كُلَّما إما سَخِرُوا وإما قالَ وسَخِرُوا بدل من مَرَّ أو صفة لملأ.
جاءَ أَمْرُنا بإهلاكهم. وَفارَ التَّنُّورُ أي نبع الماء فيه وارتفع كالقدر تفور، والتَّنُّورُ تنور الخبز، ابتدأ منه النبع، على خرق العادة، وكان ذلك علامة لنوح. وكان في الكوفة في موضع مسجدها، أو في الهند، أو بعين وردة بأرض الجزيرة. وقيل: التَّنُّورُ وجه الأرض.
احْمِلْ فِيها في السفينة. مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ أي ذكر وأنثى، أي من كل أنواعهما.
اثْنَيْنِ ذكرا وأنثى. جاء في القصة: إن الله حشر لنوح السباع والطير وغيرهما، فجعل يضرب بيديه في كل نوع، فتقع يده اليمنى على الذكر، واليسرى على الأنثى، فيحملها في السفينة.
وَأَهْلَكَ أي زوجته وأولاده. إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ أي منهم بالإهلاك والإغراق، وهو ولده كنعان وزوجته، وأخذ معه سام وحام ويافث وزوجاتهم الثلاثة.
إِلَّا قَلِيلٌ قيل: كانوا ثمانين، نصفهم رجال ونصفهم نساء، وقيل: كانوا تسعة وسبعين:
زوجته المسلمة، وبنوه الثلاثة (سام وحام ويافث) ونساؤهم، واثنان وسبعون رجلا وامرأة من غيرهم.
مَجْراها وَمُرْساها أي جريها ومنتهى سيرها. إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ أي لولا مغفرته للسيئات ورحمته بالعباد، لما أنجاكم، فهو رحيم حيث لم يهلكنا.
المناسبة:
الآيات تتمة لما ذكر قبلها، تتضمن الإعداد لإغراق قوم نوح وإهلاكهم، ومقابلة السخرية والتهكم بالتخطيط للنجاة وغرق القوم.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى أنه أوحى إلى نوح أنه لن يؤمن أحد من قومك بدعوتك إلا من قد آمن سابقا، فلا تحزن عليهم ولا يهمنك أمرهم، فدعا عليهم نوح عليه
67
السلام بقوله: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح ٧١/ ٢٦].
واصنع الفلك أي السفينة أداة النجاة بأعيننا أي بمرأى منا وبرعايتنا وحفظنا وحراستنا، وبتعليمك بوحينا كيفية الصنع، حتى لا تخطئ، فقوله وَوَحْيِنا يعني تعليمنا لك ما تصنعه، ويكون جمع الأعين للعظمة لا للتكثير.
واستعمل القرآن تعبير الأعين لكمال العناية وتمام الرعاية في قوله تعالى لموسى: وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي [طه ٢٠/ ٣٩] وقوله للنبي محمد صلى الله عليه وسلّم: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطور ٥٢/ ٤٨].
وَلا تُخاطِبْنِي... أي ولا تراجعني يا نوح ولا تدعني في شأن قومك ودفع العذاب عنهم بشفاعتك، فقد وجب عليهم العذاب، وتم الحكم عليهم بالإغراق. والمقصود ألا تأخذك بهم رأفة ولا شفقة.
وبدأ يصنع السفينة، وكلما مر عليه جماعة من أشراف قومه، استهزءوا منه ومن عمله السفينة، وكذبوا بما توعدهم به من الغرق. قال نوح متوعدا بوعيد شديد وتهديد أكيد: إن تسخروا منا لصنع ما نصنع مما لا يفيد شيئا في ظنكم، فإنا نسخر منكم في المستقبل حين الغرق، كما تسخرون منا الآن، أي نسخر منكم سخرية مثل سخريتكم إذا وقع عليكم الغرق في الدنيا، والحرق في الآخرة.
فسوف تعلمون قريبا بعد تمام عملنا من يأتيه عذاب يهينه في الدنيا، وهو عذاب الغرق، ويحل عليه عذاب مقيم، أي دائم مستمر أبدا في الآخرة.
حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا.. أي حتى إذا حان وقت أمرنا بالهلاك من الأمطار المتتابعة، وفار التنور أي نبع الماء من التنور، موقد الخبز، وارتفع كما تفور القدر بغليانها، والفوران: الغليان، وكان ذلك علامة لنوح عليه السلام،
68
وعن ابن عباس: التنور وجه الأرض، أي صارت الأرض عيونا تفور، حتى فار الماء من التنانير التي هي مكان النار، صارت تفور ماء. وهذا هو المعنى الأول لأن العرب تسمي وجه الأرض تنورا، قال تعالى: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ، وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً، فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ، وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ [القمر ٥٤/ ١١- ١٣].
وقلنا لنوح حينئذ: احمل في السفينة من كل نوع من أنواع الحيوان زوجين اثنين: ذكرا وأنثى، للحفاظ على أصل النوع الحيواني. واحمل فيها أهلك أي أهل بيتك من الذكور والإناث إلا أمرأتك وابنك: يام أو كنعان، وهما من سبق عليه القول أنه من أهل النار، للعلم بأنه يختار الكفر، لا لتقديره عليه، تعالى الله عن ذلك.
وخذ معك من آمن من قومك، وإن لم يؤمن إلا عدد قليل، أو نزر يسير، مع طول المدة ودعوتهم إلى الإيمان ألف سنة إلا خمسين عاما. قيل: كانوا ستة أو ثمانية رجال، ونساءهم: نوحا عليه السلام وأهله وأبناءه الثلاثة وأزواجهم، وقال ابن عباس: كانوا ثمانين نفسا، منهم نساؤهم.
ولم ير الحق سبحانه وتعالى حاجة لبيان العدد لقلتهم التي لا تستحق الذكر، ولم يبين أنواع الحيوان المحمولة ولا كيفية حملها، فذلك متروك للبشر.
وَقالَ: ارْكَبُوا فِيها أخبر تعالى عن نوح عليه السلام أنه قال لمن حملهم معه في السفينة: بسم الله يكون جريها على سطح الماء، وبسم الله يكون منتهى سيرها وهو رسوها، أي بتسخيره تعالى وقدرته يكون مجراها ومرساها، لا بقوتنا.
إن ربي غفور لذنوب عباده رحيم بهم، فلولا مغفرته لذنوبكم ورحمته بكم لما نجاكم فقوله: إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ أي لأهل السفينة.
أخرج الطبراني عن
69
الحسين بن علي رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أمان لأمتي من الغرق إذا ركبوا الفلك أن يقولوا: بسم الله الملك الرحمن الرحيم: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها، إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ».
وفي رواية أخرى لأبي القاسم الطبراني عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «أمان أمتي من الغرق إذا ركبوا في السفن أن يقولوا: بسم الله الملك الرحمن:
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ.. الآية. بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها.. الآية»
.
وذكر المغفرة والرحمة بعد ذكر الانتقام من الكافرين بإغراقهم أجمعين هو في الجملة شأن القرآن في بيان الأضداد والمتقابلات، كما في قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ، وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [الأعراف ٧/ ١٦٧] وقوله: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ [الرعد ١٣/ ٦] ونحو ذلك من الآيات التي تقرن بين الرحمة والانتقام.
وذكر آية المغفرة والرحمة هنا في وقت الإهلاك وإظهار القهر لبيان فضل الله على عباده الذين نجاهم، فهم في جميع الأحوال بحاجة إلى إعانة الله وفضله وإحسانه، والإنسان لا ينفك عادة عن أنواع الزلات والخطايا، فإن نجاتهم لا ببركة علمهم كما قد يظنون، وإنما بمحض فضل الله، لإزالة العجب منهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستفاد من الآيات ما يأتي:
١- الإياس من إيمان قوم نوح واستدامة كفرهم، تحقيقا لنزول الوعيد بهم.
وهذا يدل على صحة قول أهل السنة في القضاء والقدر، فإنه تعالى أخبر عن قوم نوح أنهم لا يؤمنون، ولا بد أن يقع ما يتفق مع هذا الخبر، وإلا انقلب علم الله جهلا وكذبا، وذلك محال.
70
٢- لطف الله بنبيه نوح، إذ أخبره قبل الهلاك بألا يغتم بهلاك قومه، حتى لا يصبح بائسا حزينا.
٣- أول سفينة عبرت البحر هي سفينة نوح، وكان صنعها برعاية الله وتعليمه نوحا كيفية الصنع. والمقصود من بِأَعْيُنِنا معنى الإدراك والإحاطة، لا التجسيم لأنه سبحانه منزه عن الحواسّ والتشبيه والتكييف، لا ربّ غيره.
واتخذ نوح عليه السلام السفينة في سنتين، كما قال ابن عباس، وقيل: في ثلاثين سنة، كما قال كعب، وقيل في مائة سنة كما ذكر زيد بن أسلم. وجاء في الخبر أن الملائكة كانت تعلّمه كيف يصنعها. أما طولها وعرضها فعن ابن عباس:
كان طولها ثلاث مائة ذراع، وعرضها خمسون، وسمكها ثلاثون ذراعا وكانت من خشب الساج.
٤- من الغباوة سخرية الناس من نبي يوحي إليه فيما يفعل، وسخريتهم إما بقولهم: يا نوح صرت بعد النبوة نجارا، وإما لأنهم لم يشاهدوا سفينة تبنى وتجري على الماء. وسخرية نوح كانت عند الغرق، والمراد بالسخرية الاستجهال أي إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم كما تستجهلونا.
٥- ماء الطوفان جاء من السماء: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ وفوران التنور على وجه الأرض كان علامة.
٦- من رحمة الله بخلقه نجاة نوح ومن آمن معه من قومه، وهم ثمانون إنسانا، منهم ثلاثة من بنيه: سام وحام ويافث وزوجاتهم. ومن فضله تعالى الحفاظ على أصل الثروة الحيوانية، إذ أمر الله نوحا عليه السلام باصطحاب الحيوانات من كل شيء زوجين ذكر وأنثى.
٧- الآية دليل على ذكر البسملة عند ابتداء كل فعل.
71
انتهاء الطوفان ونجاة السفينة وهلاك ابن نوح مع استشفاع أبيه
[سورة هود (١١) : الآيات ٤٢ الى ٤٧]
وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (٤٢) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (٤٣) وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٤) وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٤٦)
قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٤٧)
الإعراب:
لا عاصِمَ اسم لا، وخبرها: مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، وهو متعلق بمحذوف، تقديره:
لا ذا عصمة كائن من أمر الله. الْيَوْمَ معمول الظرف، وإن تقدم عليه، كقولهم: كلّ يوم لك درهم. أي في اليوم.
مَنْ رَحِمَ منصوب على أنه استثناء منقطع لأن عاصِمَ فاعل، ومَنْ رَحِمَ مفعول. وقيل: لا عاصِمَ بمعنى معصوم، فلا يكون مَنْ رَحِمَ استثناء منقطعا، وإنما هو
72
بدل مرفوع من عاصِمَ. والتقدير: لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم أي الراحم، وهو الله تعالى.
وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ مبتدأ وخبر.
إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ يعود الضمير إلى السؤال، أي إن سؤالك أن أنجي كافرا عمل غير صالح، أو يعود إلى الابن، والمراد: إنه ذو عمل غير صالح، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. ومن قرأه عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ جعله فعلا ماضيا، ونصب غَيْرُ على أنه مفعول به، وهذه القراءة تدل على أن الضمير في إِنَّهُ يعود على الابن.
فَلا تَسْئَلْنِ الأصل فيه أن تأتي بثلاث نونات: نوني التوكيد ونون الوقاية، فاجتمعت ثلاث نونات فاستثقلوا اجتماعها، فحذفوا الوسطى لأن نون الوقاية لا تحذف، وكسرت الشديدة للياء، ثم حذفت اكتفاء بالكسرة.
البلاغة:
يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي بين الأرض والسماء طباق، وبين ابلعي وأقلعي جناس ناقص.
قال أبو حيان: في هذه الآية و، حد وعشرون نوعا من البديع بالرغم من أن ألفاظها تسع عشرة لفظة: المناسبة في قوله: أَقْلِعِي وابْلَعِي، والمطابقة بذكر الأرض والسماء، والمجاز في قوله يا سَماءُ المراد مطر السماء.
والاستعارة في قوله: أَقْلِعِي، والإشارة في قوله وَغِيضَ الْماءُ فإنها إشارة إلى معان كثيرة، والتمثيل في قوله: وَقُضِيَ الْأَمْرُ عبر بالأمر عن إهلاك الهالكين ونجاة الناجين، والإرداف في قوله: وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ فلفظ وَاسْتَوَتْ كلام تام، أردفه بقوله عَلَى الْجُودِيِّ قصدا للمبالغة في التمكن بهذا المكان، والتعليل في قوله: وَغِيضَ الْماءُ فإنه علة للاستواء، والاحتراس في قوله: وَقِيلَ: بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وهو أيضا ذم لهم ودعاء عليهم، والإيضاح بقوله الظَّالِمِينَ أي القوم الذين سبق ذكرهم في قوله: وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ...
فالألف واللام في القوم للعهد، والمساواة وَاسْتَوَتْ فلفظها مساو لمعناها، وحسن النّسق، لعطف قضايا بعضها على بعض، والإيجاز لذكر القصة باللفظ القصير مستوعبا للمعاني الجمة، والتسهيم لأن أول الآية يا أَرْضُ ابْلَعِي فاقتضى آخرها وَيا سَماءُ أَقْلِعِي والتهذيب لأن مفردات الألفاظ موصوفة بكمال الحسن، والتمكين لأن الفاصلة مستقرة في قرارها، والتجنيس في قوله أَقْلِعِي وابْلَعِي والمقابلة في قوله: يا أَرْضُ ابْلَعِي وَيا سَماءُ أَقْلِعِي والذم في قوله:
73
بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ والوصف: قص القصة ووصفها بأحسن وصف (النهر الماد من البحر لأبي حيان: ٥/ ٢٢٧) بهامش البحر المحيط.
المفردات اللغوية:
وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ متصل بمحذوف دل عليه: ارْكَبُوا أي فركبوا مسمين، وهي تجري وهم فيها مَوْجٍ جمع موجة: وهي ما يرتفع من الماء الكثير عند اضطرابه كَالْجِبالِ في الارتفاع والعظم وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ كنعان وَكانَ فِي مَعْزِلٍ عن السفينة عزل فيه نفسه عن أبيه أو عن دينه سَآوِي سألجأ يَعْصِمُنِي يمنعني ويحفظني مِنْ أَمْرِ اللَّهِ عذاب إِلَّا لكن مَنْ رَحِمَ الله، فهو المعصوم ابْلَعِي ماءَكِ اشربي الماء الذي نبع منك، فشربته دون ما نزل من السماء، فصار أنهارا وبحارا أَقْلِعِي أمسكي عن المطر، فأمسكت.
وَغِيضَ نقص وَقُضِيَ الْأَمْرُ تم أمر هلاك قوم نوح الكافرين وإنجاء المؤمنين وَاسْتَوَتْ وقفت واستقرت السفينة عَلَى الْجُودِيِّ جبل بالجزيرة بقرب الموصل في ديار بكر. وهذا النداء والخطاب بالأمر استعارة مجازية بُعْداً هلاكا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الكافرين.
والآية في غاية الفصاحة لفخامة لفظها وحسن نظمها، والدلالة على كنه الحال، مع الإيجاز الخالي عن الإخلال. وإيراد الأخبار للمجهول للدلالة على تعظيم الفاعل، وأنه متعين في نفسه.
إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي إن كنعان من أهلي وقد وعدتني بنجاتهم وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ الذي لا خلف فيه وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ أعلمهم وأعدلهم.
إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ الناجين أو ليس من أهل دينك. قال ابن عباس: كان ابنه من صلبه، ولكنه لم يكن مؤمنا، وما بغت امرأة نبي قط. ومعنى الآية: إنه ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم معك. إِنَّهُ أي سؤالك إياي بنجاته أو إن ابنك ذو عمل غير صالح، فإنه كافر، ولا نجاة للكافرين. وفي قراءة بكسر ميم عَمَلٌ ونصب غير، فالضمير لابنه ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ من إنجاء ابنك مِنَ الْجاهِلِينَ بسؤالك ما لم تعلم لأن استثناء من سبق عليه القول من أهله قد دله على الحال، وأغناه عن السؤال، لكن أشغله حب الولد عنه، حتى اشتبه عليه الأمر.
أَنْ أَسْئَلَكَ في المستقبل ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ما لا علم لي بصحته وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي ما فرط مني من السؤال وَتَرْحَمْنِي بالتوبة والتفضل علي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ أعمالا.
المناسبة:
بعد أن أمر نوح عليه السلام أهله والمؤمنين بركوب السفينة قائلين: بسم
74
الله، أعقبه بتصوير إلهي رائع لسير السفينة وسط المياه ذات الأمواج العظيمة، بسبب الرياح الشديدة العاصفة، وبقصد بيان شدة الهول والفزع.
التفسير والبيان:
السفينة تجري بسرعة، سائرة بهم على وجه الماء الذي قد طبق جميع الأرض، حتى طفت على رؤوس الجبال، وارتفع عليها بخمسة عشر ذراعا، وقيل: بثمانين ميلا.
إنها تجري بهم وسط أمواج كالجبال الشاهقة في ارتفاعها وعظم حجمها، وهذا يدل على حصول رياح عاصفة شديدة حينذاك، والمقصود: بيان شدة الهول والفزع.
وهي تسير بإذن الله وتحت كنفه ورعايته وحراسته، كما قال تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ، لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ [الحاقة ٦٩/ ١١- ١٢] وقال سبحانه: وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ، تَجْرِي بِأَعْيُنِنا، جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ. وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر ٥٤/ ١٣- ١٥].
واستولت الشفقة وعاطفة الأبوة على نوح، فنادى ابنه وهو الابن الرابع، واسمه يام أو كنعان، وكان في مكان منعزل عنه، وكان كافرا دعاه أبوه عند ركوب السفينة أن يؤمن ويركب معهم، ولا يغرق مثل ما يغرق الكافرون، ناداه بقوله: يا بني اركب معنا الفلك، ولا تكن مع الكافرين الهالكين.
فرد الابن العاصي عليه قائلا: سآوي وأصير إلى جبل يحفظني من الغرق في الماء، ظنا منه أنه ماء سيل عادي يمكن النجاة منه بالتحصن في مكان عال أو جبل شامخ.
فأجابه نوح عليه السلام: ليس شيء يعصم اليوم من أمر الله وعذابه الذي
75
يعاقب به الكافرين، لكن يحفظ من رحم الله، ومن رحمه الله فهو المعصوم، أي إلا مكان من رحم الله من المؤمنين، وكان لهم غفورا رحيما، غفورا لذنوبهم رحيما بهم إذا تابوا وأنابوا. أو إلا الراحم وهو الله، وقيل: إن عاصما بمعنى معصوم، كما يقال: طاعم وكاس، بمعنى مطعوم ومكسو.
وحال الماء الذي بدأ يرتفع بين الوالد والولد أثناء النقاش فكان من المغرقين الهالكين.
وما أدهش هذا المنظر الرهيب، ماء ينهمر من السماء، وأرض تتفجر بالمياه، فيرتفع حتى يغطي أعالي الجبال، ويغمر الأرض.
ولما أغرق أهل الأرض كلهم إلا أصحاب السفينة، أمر الله الأرض أن تبلغ ماءها الذي نبع منها واجتمع عليها، وأمر السماء أن تقلع عن المطر، وتم النداء العلوي: يا أرض ابلعي ماءك الذي تفجر منك، ويا سماء كفّي عن المطر، فغاض الماء، أي نقص، امتثالا للأمر، وقضي الأمر، أي وأنجز ما وعد الله نوحا من هلاك قومه الظالمين، واستقرت السفينة بمن فيها على جبل الجودي بالجزيرة شمال العراق، في الموصل، وقيل: هلاكا وخسارا للقوم الظالمين، وبعدا من رحمة الله، فإنهم قد هلكوا عن آخرهم، فلم يبق لهم بقية، بسبب ظلمهم وكفرهم.
واستبدت العاطفة مرة أخرى بنوح على ابنه، فسأل ربه سؤال تسليم وكشف عن حال ولده، فقال مناديا ربه: رب إن ابني من أهلي، وقد وعدتني بنجاتهم، ووعدك الحق الذي لا يخلف، فما مصيره، وأنت أحكم الحاكمين وأعدلهم بالحق، فحكمك يصدر عن كمال العلم والحكمة، وتمام العدل والصواب، حكمت على قوم بالنجاة، وعلى قوم بالغرق.
فأجابه ربه: يا نوح إن ابنك ليس من أهلك الذين وعدت بإنجائهم لأني إنما وعدتك بنجاة من آمن من أهلك، وابنك ذو عمل غير صالح، أي تنكر
76
لدعوة الهدى والصلاح، وانضم مع الكافرين وهذا تعليل لانتفاء كونه من أهله، قال الجمهور: ليس من أهل دينك ولا ولايتك. ، فهو على حذف مضاف.
فلا تطلب مني شيئا ليس لك به علم صحيح، ولا تلتمس مني التماسا لا تعلم أصواب هو أم غير صواب، حتى تقف على كنهه.
إني أنهاك أن تكون من فئة الجاهلين الذين يطلبون إبطال حكمته وحكمه وتقديره في خلقه، رعاية لأهوائهم، ومجمل المعنى: أنهاك عن هذا السؤال وأحذرك أن تكون من الآثمين.
وقد تضمن دعاؤه معنى السؤال أو سمي نداؤه سؤالا، ولا سؤال فيه، أي وإن لم يصرح به لأن ذكر الوعد بنجاة أهله من الغرق استنجاز له، فرتب عليه طلب نجاة ابنه. وجعل سؤال ما لا يعرف كنهه جهلا وغباوة، ووعظه ألا يعود إليه وإلى أمثاله من أفعال الجاهلين.
وفي الآية دلالة على أن العبرة بقرابة الدين، لا بقرابة النسب، وأن حكم الله في خلقه قائم على العدل المطلق دون محاباة نبي أو ولي، وأن الأنبياء قد يخطئون في اجتهادهم، ويعد ذلك ذنبا بالنظر إلى مقامهم الرفيع وتمام معرفتهم بربهم، وأنه لا يجوز الدعاء بطلب ما يغاير سنن الله في خلقه، وأن من الجهالة أن يدعو ولي بما نهي عنه الأنبياء.
وهذا يدل على غاية التقريع ونهاية الزجر، وعلى جعل الجهل كناية عن الذنب، وهو أمر مشهور في القرآن، كما قالت تعالى: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [البقرة ٢/ ٦٧] وقال: يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ [النساء ٤/ ١٧].
ويحمل كل ما صدر من نوح وغيره من خطأ الاجتهاد على ترك الأفضل والأكمل، وحسنات الأبرار سيئات المقربين، وبناء عليه حصل العتاب والأمر
77
بالاستغفار، ولا يدل هذا الأمر على سابقة ذنب، مثل: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ... وَاسْتَغْفِرْهُ [النصر ١١٠/ ١ و٣] ومعلوم أن مجيء نصر الله والفتح ودخول الناس في دين الله أفواجا، ليست بذنب يوجب الاستغفار، وقال تعالى:
وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [محمد ٤٧/ ١٩] وليس جميعهم مذنبين، فدل ذلك على أن الاستغفار قد يكون بسبب ترك الأفضل.
لذا طلب نوح المغفرة من ربه، فقال: قالَ: رَبِّ، إِنِّي أَعُوذُ بِكَ..
أي قال نوح: رب إني التجئ إليك وأستعيذ بك وبجلالك أن أسألك ما ليس لي به علم صحيح، وإن لم تغفر لي ذنب سؤالي هذا، وترحمني بقبول توبتي وإنابتي، أكن من الخاسرين أعمالا.
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت الآيات العبر والعظات التالية:
١- إجراء السفن في البحار بقدرة الله تعالى وإرادته، وحفظه ورعايته.
٢- لن يحقق العناد والاستكبار فائدة أو مصلحة لمن يتصف بهما، فقد أغرق الله ابن نوح واسمه كنعان، وقيل: يام لأنه كان كافرا، ولم يستفد شيئا من الاعتصام بأعالي الجبال، فإذا وقع العذاب العام على الكفار فلا مانع منه لأنه يوم حقّ فيه ذلك العذاب، إلا من رحمه الله، فهو يعصمه.
٣- آية وَقِيلَ: يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ... في أعلى مستوى البلاغة والفصاحة والإيجاز، لما فيها من التعبير عن قضايا كثيرة تحتاج إلى بيان صاف، بعبارة محكمة موجزة، محققة لأغراض عديدة، وذات ألوان بيانية بلاغية وآفاق متنوعة.
٤- إنما سأل نوح عليه السلام ربه ودعا لإنجاء ابنه، لوعده تعالى له بإنجاء أهله في قوله: وَأَهْلَكَ وترك قوله: إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ بدليل
78
قوله له: وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ أي لا تكن منهم لأنه كان عنده مؤمنا في ظنه إذ محال أن يسأل هلاك الكفار، ثم يسأل في إنجاء بعضهم وكان ابنه يسرّ الكفر ويظهر الإيمان، فأخبر الله تعالى نوحا بما تفرد به من علم الغيوب، أي علمت من حال ابنك ما لم تعلمه أنت. وقال الحسن: كان منافقا ولذلك استحل نوح أن يناديه. وعنه أيضا: كان ابن امرأته، بدليل
قراءة عليّ:
«ونادى نوح ابنها»
لكنها قراءة شاذة، فلا نترك المتفق عليها، والصحيح أنه كان ابنه، لكن ليس على منهج أبيه في الدين والإيمان والاستقامة.
٥- لم يعص نوح الله تعالى فيما سأل من إنجاء ابنه، وإنما كان خطأ في الاجتهاد، بنية حسنة، وعدّ هذا ذنبا لأنه ما كان ينبغي لأمثاله من أهل العلم الصحيح الوقوع في هذا الخطأ غير المقصود، وترك الأفضل والأكمل، وحسنات الأبرار سيئات المقربين، لذا عاتبه الله تعالى وأمره بالاستغفار.
٦- إن رابطة الدين أقوى من رابطة النسب، ولا علاقة للصلاح والتقوى بالوارثة والأنساب، لذا نجى الله المؤمنين من قوم نوح، وأهلك ابنه وزوجته مع الكافرين. والصحيح أنه كان ابنه، ولكن كان مخالفا في النية والعمل والدّين، لذا قال تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ.
٧- هذه الآية تسلية للخلق في فساد أبنائهم، وإن كانوا صالحين. وفيها أيضا دليل على أن الابن من الأهل لغة وشرعا، ومن أهل البيت فمن أوصى لأهله دخل في ذلك ابنه، ومن تضمنه منزله، وهو في عياله. قال تعالى في آية أخرى: وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ. وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ [الصافات ٣٧/ ٧٥- ٧٦].
٨- العدل الإلهي مطلق، لا محاباة فيه لنبي أو ولي، وإنه تعالى يجزي الناس في الدنيا والآخرة بإيمانهم وأعمالهم، لا بأنسابهم: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ، وَلا يَتَساءَلُونَ [المؤمنون ٢٣/ ١٠١].
79
فمن يغتر بنسبه ولا يعمل بما يرضي ربه، فهو جاهل بشرع الله ودينه،
قال صلى الله عليه وسلّم فيما رواه الترمذي: «يا معشر قريش لا يأتيني الناس بالأعمال، وتأتوني بالأنساب».
٩- إن غيرة الله على حرماته اقتضت تحذير الأنبياء من الأخطاء ولو كانت غير مقصودة. قال ابن العربي عن آية: إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ:
وهذه زيادة من الله وموعظة، يرفع بها نوحا عن مقام الجاهلين، ويعليه بها إلى مقام العلماء والعارفين، فقال نوح: رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وهذه ذنوب الأنبياء عليهم السلام، فشكر الله تذلله وتواضعه.
١٠- كان اعتذار نوح بمثابة توبة كاملة تتضمن عنصري حقيقة التوبة وهما:
الأول- في المستقبل: وهو العزم على الترك، وإليه الإشارة بقوله: إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ والثاني- في الماضي: وهو الندم على ما مضى، وإليه الإشارة بقوله: وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ.
١١- كان الطوفان عاما شاملا لكل الأرض، في رأي المفسرين وأهل الكتاب، ويؤيدهم ما يقول علماء الجغرافية من وجود بعض الأصداف والأسماك المتحجرة في أعالي الجبال، وهي لا تكون إلا في البحر. والذي يجب اعتقاده أن الطوفان كان شاملا لقوم نوح الذين لم يكن في الأرض غيرهم، وذلك في منطقة الشرق الأوسط، أما أجزاء الكرة الأرضية الأخرى فلا يدل نص قاطع في القرآن على تغطيتها بالطوفان.
80
العبرة من قصة نوح عليه السلام
[سورة هود (١١) : الآيات ٤٨ الى ٤٩]
قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٨) تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (٤٩)
الإعراب:
تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ: تِلْكَ مبتدأ، وخبره: مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ. نُوحِيها خبر بعد خبر، أو في موضع نصب على الحال، أي تلك كائنة من أنباء الغيب نوحيها إليك.
ويجوز أن يكون: تِلْكَ مبتدأ، ونُوحِيها: خبره، ومِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ: من صلته، وتقديره: تلك نوحيها إليك من أنباء الغيب.
وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ أُمَمٍ مبتدأ، وسَنُمَتِّعُهُمْ صفة، والخبر محذوف تقديره: وممن معك أمم سنمتعهم، ودل عليه قوله مِمَّنْ مَعَكَ.
المفردات اللغوية:
اهْبِطْ بِسَلامٍ أنزل من السفينة بسلامة أو بتحية، أي مسلما من المكاره من جهتنا أو مسلما عليك وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ خيرات عليك ومباركا عليك، أو زيادات في نسلك حتى تصير آدم ثانيا وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ أي وعلى أمم هم الذين معك في السفينة، أي من أولادهم وذريتهم هم المؤمنون، سموا أمما لتشعب الأمم منهم، فهم أصول البشرية، وقد تسللت الأعراق والأجناس من أولاد نوح: سام (وهم السامانيون) وحام (وهم الأفارقة) ويافث (وهم أهل الصين واليابان وأمثالهم).
81
وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ أي وممن معك أمم سنمتعهم في الدنيا، ثم يمسّهم منا عذاب أليم في الآخرة، والمراد بهم الكفار من ذرية من معه، وقيل: قوم هود وصالح ولوط وشعيب، والعذاب: هو ما نزل بهم.
تِلْكَ إشارة إلى قصة نوح عليه السلام مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ من بعض أخبار ما غاب عنك نُوحِيها إِلَيْكَ يا محمد مِنْ قَبْلِ هذا القرآن فَاصْبِرْ على التبليغ وأذى قومك كما صبر نوح إِنَّ الْعاقِبَةَ المحمودة في الدنيا بالظفر، وفي الآخرة بالفوز لِلْمُتَّقِينَ عن الشرك والمعاصي.
المناسبة:
بعد أن أخبر الله تعالى عن استواء السفينة واستقرارها على الجودي، ونجاة المؤمنين وهلاك الكافرين، ذكر تعالى أمرين هما عبرة القصة:
الأول- تكريم نوح عليه السلام والمؤمنين معه بوعده تعالى عند الخروج من السفينة بالسلامة أولا، ثم بالبركة ثانيا، والسلامة تتضمن الدعوة لهم بالوقاية من المكروه لأنهم كانوا كالخائفين على وضعهم: كيف يعيشون وكيف يحققون حاجاتهم من المأكول والمشروب، بعد أن عم الغرق جميع الأرض، وعلموا أنه ليس في الأرض شيء مما ينتفع به من النبات والحيوان.
ثم إنه تعالى لما وعد نوحا ومن معه بالسلامة، أردفه بأن وعدهم بالبركة وهي عبارة عن الدوام والبقاء والثبات ونيل الأمل.
والثاني- الإخبار عن أمور غائبة عن الخلق، تكون بمثابة الإنذار والإرهاب والاعتبار، وإعطاء الأمثلة للصبر الذي هو مفتاح الفرج:
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عما قيل لنوح عليه السلام، حين أرست السفينة على الجودي، من السلام عليه وعلى من معه من المؤمنين وعلى كل مؤمن من ذريته
82
إلى يوم القيامة، كما قال محمد بن كعب: دخل في هذا السلام كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة. وكذلك في العذاب والمتاع كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة.
والمعنى: قال الله أو الملائكة لنوح بعد انتهاء الطوفان وحبس المطر وابتلاع الأرض ماءها: اهبط من السفينة إلى الأرض، أو من جبل الجودي إلى الأرض، فقد ابتلعت الماء وجفّت، بسلام منا، أي بسلامة وأمن أو بتحية، أي مسلما محفوظا من جهتنا، أو مسلما عليك مكرّما كما قال تعالى: سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ [الصافات ٣٧/ ٧٩]، وبركات عليك، والبركات: نعم ثابتة وخيرات نامية، أي ومباركا عليك في المعايش والأرزاق، تفيض عليك، وعلى أمم ممن معك نسلا وتولدا، أي هم ومن يتناسل منهم من ذرية، ويصير التقدير: وعلى ذرية أمم ممن معك، وذرية أمم سنمتعهم، فيدخل في قوله مِمَّنْ مَعَكَ كل مؤمن إلى يوم القيامة، وفي قوله: وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ كل كافر إلى يوم القيامة، كما روي ذلك عن محمد بن كعب.
والمعنى: إن السلام منا والبركات عليك وعلى أمم مؤمنين، ينشئون ممن معك. وممن معك أمم ممتعون بالدنيا، منقلبون إلى النار.
وكان نوح عليه السلام أبا الأنبياء، والخلق بعد الطوفان منه وممن كان معه في السفينة.
وهكذا عم السلام والتبريك كل المؤمنين، على اختلاف تجمعاتهم. لكن من أولئك المؤمنين سيكون من نسلهم أمم وجماعات آخرون من بعدهم، يمتعون في الدنيا بالأرزاق والبركات، ثم يصيبهم العذاب الأليم في الآخرة، لكفرهم وعنادهم، فانقسم الناس بعد نوح قسمين: قسم مؤمنون صالحون ممتعون في الدنيا والآخرة، وقسم ممتعون في الدنيا فقط معذبون في الآخرة.
ثم ذكر الله تعالى العبرة العامة من قصة نوح: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ
83
أي تلك الأخبار عن نوح وقومه من أخبار الغيوب السابقة، نوحيها إليك على وجهها، كأنك تشاهدها، ونعلمك بها وحيا منا إليك، ما كنت تعلمها أنت ولا أحد من قومك، حتى يقول من يكذبك: إنك تعلمتها من إنسان، بل أخبرك الله بها.
فاصبر على تكذيب المكذبين من قومك، وأذاهم لك، وعلى تبليغ رسالتك كما صبر نوح على أذى الكفار، فإن النصر والفوز والنجاة للمتقين الذين يطيعون الله ويتجنبون المعاصي، وإنا سننصرك ونرعاك ونجعل العاقبة لك ولأتباعك في الدنيا والآخرة، كما فعلنا بالمرسلين، حيث نصرناهم على أعدائهم: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا [غافر ٤٠/ ٥١] الآية، وقال تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ [الصافات ٣٧/ ١٧١- ١٧٢].
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيتان إلى ما يأتي:
١- السلامة والأمن، والتحية والتسليم والتكريم، والبركات والنعم من الله تعالى، على كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة، وذلك بدءا من نوح عليه السلام ومن آمن معه.
٢- المتاع والانتفاع بنعم الدنيا، والتعذيب في الآخرة، لكل كافر وكافرة إلى يوم القيامة، بدءا من ذرية المؤمنين في عصر نوح عليه السلام وذرية أمم من بعدهم.
٣- كان خبر نوح وقصته مع قومه من أنباء ما غاب عن النبي محمد صلى الله عليه وسلّم، أوحى الله بها إليه وأطلعه عليها، دون أن يكون عالما هو وقومه بها قبل ذلك،
84
فلم يعرف أحد أمر الطوفان، وكانت القصة على النحو الصحيح الدقيق مجهولة عند النبي صلى الله عليه وسلّم وعند قومه.
٤- كان الغرض من ذكر قصة نوح في سورة يونس هو معرفة وجه الشبه بين قوم نوح وقوم محمد عليهما السلام، وهو ان قوم نوح كذبوه لأنه هددهم بنزول العذاب، فاستعجلوه، ثم ظهر في نهاية الأمر، وكذلك قوم محمد صلى الله عليه وسلّم استعجلوا نزول العذاب مثل قوم نوح. فوجه الشبه في سورة يونس هو استعجال العذاب.
وفي هذه السورة (هود) أعاد الله تعالى ذكر هذه القصة لهدف آخر، وهو بيان أن إقدام الكفار على الإيذاء كان حاصلا في زمن نوح، فلما صبر عليه السلام، نال الفتح والظفر، فلتكن يا محمد كذلك، لتنال المقصود، فقد عرفت مآل الصبر عند نوح والمؤمنين، وعاقبة الكفر، فوجه الشبه هو الإيذاء، وأن الصبر عليه مؤد إلى النصر.
٥- إن الصبر على مشاق تبليغ الرسالة الإلهية، وإذاية القوم، مفتاح الفرج، وسبيل الظفر والنصر، كما صبر نوح ومحمد وأولو العزم من الرسل عليهم الصلاة والسلام، فقد صبر نوح على أذى قومه، ثم نصره الله عليهم، وكذلك صبر النبي صلى الله عليه وسلّم على أذى العرب الكفار، فأيده الله، وأعزّه، ونصره عليهم نصرا مؤزرا.
٦- إن العاقبة في الدنيا بالظفر، وفي الآخرة بالفوز للمتقين عن الشرك والمعاصي، القائمين بأوامر الله، الملتزمين حدوده، المطيعين شرعه.
٧- يدل إيراد قصة نوح عليه السلام على نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم، فما كان يعلم هو ولا أحد من قومه ذلك القصص المحكم التام الشامل لأخبار نوح وقومه.
85
قصة هود عليه السلام
[سورة هود (١١) : الآيات ٥٠ الى ٦٠]
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (٥٠) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (٥١) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (٥٢) قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤)
مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٥٧) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٨) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩)
وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (٦٠)
86
الإعراب:
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً أَخاهُمْ منصوب بفعل مقدر، أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم هودا. وغَيْرُهُ بالرفع صفة على محل الجار والمجرور، وقرئ بالجر صفة على اللفظ.
مِدْراراً حال من السَّماءَ، والعامل فيه يُرْسِلِ. والأصل في مدرار أن يكون مدرارة، ولكنهم يحذفون هاء التأنيث عادة من مفعال كامرأة معطار، ومن مفعيل كامرأة معطير، ومن فاعل كامرأة طالق وحائض. عَنْ قَوْلِكَ حال من الضمير في تاركي. ما مِنْ دَابَّةٍ في موضع رفع بالابتداء. إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا إن: حرف نفي بمعنى ما، أي ما نقول إلا هذه المقالة، فالاستثناء من المصدر الذي دل عليه الفعل، مثل أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى [الصافات ٣٧/ ٥٩] فموتتنا مستثنى من أنواع الموت الذي دل عليها قوله: بِمَيِّتِينَ.
فقد ذكر الفعل ويستثني من مدلوله، كما يستثني من الظرف والحال، مثال الأول: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ [يونس ١٠/ ٤٥] ساعَةً: مستثنى مما دل عليه لَمْ يَلْبَثُوا، أي كأن لم يلبثوا في الأوقات إلا ساعة من النهار ومثال الثاني: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا متمسكين بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ [آل عمران ٣/ ١١٢] أي ضربت عليهم الذلة في جميع الأحوال أينما ثقفوا إلا متمسكين بحبل من الله، أي عهد من الله. وَتِلْكَ عادٌ مبتدأ وخبر، وبُعْداً منصوب بفعل مقدر، أي أن المصدر قائم مقام فعله.
البلاغة:
يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً عبر بالسماء عن المطر من قبيل المجاز المرسل، لنزوله من السماء، ومدرار: للمبالغة.
فَكِيدُونِي جَمِيعاً أمر بمعنى التعجيز.
ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها استعارة تمثيلية، شبه الخلق وهم في قبضة الله وملكه بمن يقود دابة بناصيتها، فهي مقدورة له.
إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ استعارة، فإنه استعار الطريق المستقيم للدلالة على كمال العدل.
وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا الأمر كناية عن العذاب.
نَجَّيْنا هُوداً.. وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ فيه إطناب، لتكرار لفظ الإنجاء بقصد بيان أن الأمر شديد عظيم الأهوال.
وَعَصَوْا رُسُلَهُ المراد عصوا رسولهم هودا، من قبيل المجاز المرسل من باب إطلاق الكل وإرادة البعض.
87
أَلا إِنَّ عاداً.. أَلا بُعْداً لِعادٍ تكرار حرف التنبيه، وإعادة لفظ «عاد» للمبالغة في تهويل حالهم.
المفردات اللغوية:
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم من القبيلة وواحدا منهم، وهو عطف على قوله وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ وهُوداً: عطف بيان اعْبُدُوا اللَّهَ وحده.
ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ مِنْ: زائدة للتأكيد. إِنْ أَنْتُمْ ما أنتم في عبادتكم الأوثان. إِلَّا مُفْتَرُونَ كاذبون على الله باتخاذ الأوثان شركاء لله وجعلها شفعاء عند الله تعالى.
لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ الضمير في عَلَيْهِ عائد على الدعاء إلى الله وتوحيده. إِنْ أَجْرِيَ ما أجري. فَطَرَنِي خلقني على الفطرة السليمة- فطرة التوحيد لله والمقصود من الآية بيان إخلاصه في النصيحة، فإنها لا تفيد ما دامت مشوبة بالمطامع.
اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ من الشرك. ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ أخلصوا التوبة من المعاصي والكفر لله، وارجعوا إليه بالطاعة، أي اطلبوا المغفرة من الله بالإيمان، ثم توسلوا إليها بالتوبة، ثم لا يكون التبري من الغير إلا بالإيمان بالله والرغبة فيما عنده. يُرْسِلِ السَّماءَ المطر، وكانوا قد منعوه واشتدت حاجتهم إليه لأنهم كانوا أصحاب زروع. مِدْراراً كثير الدر. وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ أي يزدكم قوة مع قوتكم بالمال والولد، أو يضاعف قوتكم بالتناسل والأموال. وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ مشركين.
بِبَيِّنَةٍ ببرهان على قولك، وبحجة تدل على صحة دعواك، وهذا لفرط عنادهم، وعدم اعتدادهم بما جاءهم من المعجزات. بِتارِكِي آلِهَتِنا بتاركي عبادتهم. عَنْ قَوْلِكَ صادرين عن قولك أو لقولك. وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إقناط له من الإجابة والتصديق.
إِنْ نَقُولُ ما نقول في شأنك. اعْتَراكَ أصابك. بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ بجنون، لسبك إياها وصدك عنها، فأنت تهذي وتتكلم بالخرافات، والجملة مفعول القول، وإلا لغو لأن الاستثناء مفرغ. فَكِيدُونِي اجتمعوا على الكيد لي في إهلاكي من غير إنظار. جَمِيعاً أنتم وأوثانكم. ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ تمهلون. والمراد بيان عجزهم عن إلحاق الضرر به ليعلموا أن آلهتهم جماد لا تضر ولا تنفع. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي أي وإن بذلتم غاية وسعكم لم تضروني، فإني متوكل على الله، واثق برعايته.
ما مِنْ دَابَّةٍ نسمة تدب على الأرض. إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها أي إلا وهو مالك لها، قادر عليها، يصرفها على ما يريد بها، فلا نفع ولا ضرر إلا بإذنه، والأخذ بالنواصي تمثيل لذلك.
88
وخص الناصية بالذكر لأن من أخذ بناصيته يكون في غاية الذل. إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي على الحق والعدل، لا يضيع عنده معتصم، ولا يفوته ظالم.
فَإِنْ تَوَلَّوْا أي تعرضوا وتتولوا، وقد حذفت فيه إحدى التاءين. فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ أي فقد أديت ما علي من الإبلاغ، وإلزام الحجة، فلا تفريط مني ولا عذر لكم، فقد أبلغتكم رسالة ربي. وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ استئناف بالوعيد لهم، بأن الله يهلكهم، ويستخلف قوما آخرين في ديارهم وأموالهم. وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً بتوليكم وإشراككم. حَفِيظٌ رقيب.
أَمْرُنا عذابا أو أمرنا بالعذاب. وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ هداية، وكانوا أربعة آلاف. غَلِيظٍ شديد، وهذا تعريض بأنهم كما عذبوا في الدنيا بريح السموم، فهم معذبون في الآخرة بالعذاب الشديد.
وَتِلْكَ عادٌ أنت اسم الإشارة باعتبار القبيلة، أو لأن الإشارة إلى قبورهم وآثارهم، أي فانظروا آثارهم في الأرض. جَحَدُوا كفروا. وَعَصَوْا رُسُلَهُ جمع الرسل لأن من عصى رسولا، عصى جميع الرسل لاشتراكهم في أصل ما جاؤوا به وهو التوحيد. وَاتَّبَعُوا أي السفلة. أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ أي معاند للحق، يعني كبراءهم ورؤساءهم الطاغين، والمعنى:
عصوا من دعاهم إلى الإيمان وما ينجيهم، وأطاعوا من دعاهم إلى الكفر وما يرديهم.
وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً أي جعلت اللعنة تابعة لهم في الدارين، في الدنيا من الناس، ويوم القيامة لعنة على رؤوس الناس، توقعهم في العذاب. كَفَرُوا رَبَّهُمْ جحدوه أو كفروا نعمه، أو كفروا به، فحذف الجار. أَلا بُعْداً لِعادٍ أي من رحمة الله، وهو دعاء عليهم بالهلاك. والمراد به الدلالة على أنهم كانوا مستوجبين لما نزل عليهم من العذاب، بسبب أفعالهم.
قَوْمِ هُودٍ عطف بيان لعاد، لتمييزهم عن عاد الثانية عاد إرم.
المناسبة:
هذه هي القصة الثانية من القصص التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة، وقد ذكرت هذه القصة في سورة الأعراف بأسلوب ونظم آخر. وكان هود أول من تكلم بالعربية من ذرية نوح.
وفي إيراد هذه القصة هنا شبه بقصة نوح مع قومه، ففيها تبليغ هود الدعوة والتكاليف إلى قومه، وردهم عليه، وما انتهت به القصة من إنجاء المؤمنين، وإهلاك الكافرين.
89
التفسير والبيان:
دعا هود قومه إلى أنواع من التكاليف:
النوع الأول- دعوتهم إلى التوحيد، في قوله تعالى: يا قَوْمِ، اعْبُدُوا اللَّهَ أي وكما أرسلنا نوحا، أرسلنا إلى عاد أخاهم هودا، والمراد أخا لهم في النسب والقبيلة، لا في الدين لأن هودا كان رجلا من قبيلة عاد، فيقال للرجل: يا أخا العرب، والمراد رجل منهم، وكانت هذه القبيلة قبيلة عربية تسكن بناحية اليمن في الأحقاف (شمال حضرموت) وكانت قبيلة ذات قوة وشدة، وأصحاب زرع وضرع.
إنه أمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له، ناهيا لهم عن الأوثان التي افتروها، فقال لهم: آمركم بعبادة الله الذي لا إله غيره، ولا تعبدوا من دونه وثنا ولا صنما، ولا تشركوا به شيئا، مالكم من إله غيره، خلقكم ورزقكم، وأمدكم بالنعم الوفيرة، فما أنتم إلا مفترون الكذب على الله باتخاذكم الشركاء لله، ووصفكم إياهم بأنهم شفعاء.
ويا قوم، لا أطلب على ما أدعوكم عليه من عبادة الله ونبذ عبادة الأوثان أجرا أو مالا ينفعني، فما أجري أو ثوابي إلا على الله الذي خلقني على الفطرة السليمة فطرة التوحيد، أفلا تعقلون قول من يدعوكم إلى ما يصلحكم في الدنيا والآخرة من غير أجرة، وتقدرون ما يقال لكم من نصح قائم على الإخلاص والأمانة، وتعلمون أني مصيب في المنع من عبادة الأصنام.
والنوع الثاني- من التكاليف التي ذكرها هود لقومه: الاستغفار والتوبة فقال: ويا قوم، اطلبوا المغفرة من الله على الشرك والكفر والذنوب السابقة، وأخلصوا التوبة له، وعما تستقبلون، فإذا استغفرتم وتبتم يرسل الله
90
عليكم مطرا كثيرا متتابعا، وقد كانوا بأشد الحاجة إلى المطر بعد أن منعوه لأنهم أصحاب زروع وبساتين، ويزدكم قوة إلى قوتكم بالأموال والأولاد، وعزا إلى عزكم، وقد كانوا أشداء أقوياء يهمهم التفوق والغلبة على الناس، والاعتزاز بالقوة، كما قال تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ، وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً، فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأعراف ٧/ ٦٩] وقال سبحانه:
أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ. وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ. وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ. أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ [الشعراء ٢٦/ ١٢٨- ١٣٣] وقال عز وجل: فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَقالُوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت ٤١/ ١٥].
وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ولا تعرضوا عني وعن دعوتي وعما أرغبكم فيه، مصرّين على إجرامكم وآثامكم.
وفائدة الاستغفار المذكورة في الآية، لها ما يؤيدها في السنة النبوية، ففي الحديث الذي أخرجه أبو داود وابن ماجه عن ابن عباس: «من لزم الاستغفار، جعل الله له من كل همّ فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب».
وبعد أن حكى تعالى ما ذكره هود لقومه، حكى ما ذكره القوم له:
قالُوا: يا هُودُ.. أي قالوا لنبيهم: ما جئتنا بحجة وبرهان على ما تدعيه أنك رسول من عند الله، ولن نترك عبادة آلهتنا بمجرد قولك: اتركوهم، وما نحن لك بمصدقين، وما نظن إلا أن بعض آلهتنا أصابك بجنون وخبل في عقلك بسبب شتمك لها ونهيك عن عبادتها وعيبك لها.
فكان جوابهم متضمنا أربعة أشياء كلها عناد وحماقة واستكبار، وهي المطالبة بالبينة والإصرار على عبادة الآلهة، مع أنهم كانوا يعترفون بأن النافع والضار هو الله تعالى، وأن الأصنام لا تنفع ولا تضر وعدم التصديق برسالة هود مما يدل
91
على الإصرار والتقليد والجحود وإفساد عقله وجعله مجنونا بواسطة الآلهة.
فقال لهم هود: أشهد الله على نفسي واشهدوا على أني بريء من شرككم ومن عبادة الأصنام، ولا يعني هذا أنهم كانوا أهلا للشهادة، ولكنه نهاية للتقرير، أي لتعرفوا، ولم يقل: إني أشهد الله وأشهدكم، لئلا يفيد التشريك بين الشهادتين والتسوية بينهما، فإن إشهاد الله على البراءة من الشرك إشهاد صحيح ثابت في معنى تثبيت التوحيد، وأما إشهادهم فما هو إلا تهاون بدينهم، ودلالة على قلة المبالاة بهم.
وإذا كنت بريئا من جميع الأنداد والأصنام، أي مما تشركون من دون الله، فإني أعلن ذلك صراحة، فاجمعوا كل ما تستطيعون من أنواع الكيد لي، جميعا أي أنتم وآلهتكم، ولا تمهلوني طرفة عين، إني فوضت أمري كله لله ربي وربكم، ووكلته في حفظي، فهو على كل شيء قدير.
فما من دابة تدب على الأرض أو السماء إلا هي تحت سلطان الله وقهره فهو مصرف أمرها ومسخرها، وهو الحاكم العادل الذي لا يجور، إن ربي على الحق والعدل.
وقد تضمن جوابه الدال على التحدي والمعجزة الباهرة وقلة المبالاة بهم عدة أمور هي: البراءة من الشرك، وإشهاد الله على ذلك، وإشهادهم على براءته من شركهم، وطلبه المكايدة له، وإظهار قلة المبالاة بهم وعدم خوفه منهم ومن آلهتهم. وهذا موقف مشابه تماما لموقف نوح في قوله السابق: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ، ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً، ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ [يونس ١٠/ ٧١] وقوله: قُلِ: ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ، ثُمَّ كِيدُونِ، فَلا تُنْظِرُونِ [الأعراف ٧/ ١٩٥].
فَإِنْ تَوَلَّوْا.. أي فإن تتولوا وتعرضوا عما جئتكم به من عبادة الله ربكم
92
وحده لا شريك له، فقد بلغتكم رسالة ربي التي بعثني بها إليكم، ولا عتاب علي على تفريط في التبليغ، وكنتم محجوجين بأن ما أرسلت به إليكم قد بلغكم، فأبيتم إلا تكذيب الرسالة وعداوة الرسول. ثم استأنف كلاما جديدا فقال: ويهلككم الله ويجيء بقوم آخرين، يخلفونكم في دياركم وأموالكم ويكونون أطوع لله منكم، ولا تضرونه شيئا بتوليكم وكفركم، بل يعود وبال ذلك عليكم، وما تضرون إلا أنفسكم، إن ربي على كل شيء رقيب، مهيمن عليه، فما تخفى عليه أعمالكم، ولا يغفل عن مؤاخذتكم.
ثم ذكر الله تعالى العذاب وآثاره وعاقبة أمر هود وقومه، فقال: وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا.. أي ولما حان وقت نزول أمرنا بالعذاب، ووقع عذابنا، وهو الريح العقيم، نجينا هودا والمؤمنين معه من عذاب شديد شاق ثقيل، برحمة من لدنا ولطف منا، وأهلكنا قومه عن آخرهم.
وسبب ذلك العقاب أن عادا كفروا بآيات ربهم وحججه، وعصوا رسله، وقد جمع الرسل والمقصود رسولهم هودا لأن من كفر بنبي فقد كفر بجميع الأنبياء، فهم كفروا بهود، فصار كفرهم كفرا بجميع الأنبياء، واتّبعوا أمر رؤسائهم الجبابرة الطغاة المعاندين.
فلهذا لحقت بهم لعنة الله في الدنيا، ولعنة عباده المؤمنين كلما ذكروا، وينادى عليهم يوم القيامة على رؤوس الخلائق: ألا إن عادا كفروا بربهم وبنعمه، وجحدوا بآياته، وكذبوا رسله، ألا بعدا وطردا من رحمة الله لعاد قوم هود، وهذا دعاء عليهم بالهلاك والدمار والبعد من الرحمة.
والخلاصة: إنه تعالى جمع أوصاف عاد في ثلاثة: جحود دلائل المعجزات على الصدق، ودلالة المحدثات على وجود الصانع الحكيم، وعصيان رسولهم، ومن عصى رسولا واحدا، فقد عصى جميع الرسل، لقوله تعالى: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ
93
مِنْ رُسُلِهِ
[البقرة ٢/ ٢٨٥]، وتقليد القوم رؤساءهم، ثم ذكر تعالى عاقبة أحوالهم في الدنيا والآخرة وهي مصاحبة اللعن لهم في الدنيا والآخرة، ومعنى اللعنة:
الإبعاد من رحمة الله تعالى ومن كل خير، ثم بين تعالى السبب الأصلي في استحقاق تلك الأحوال فقال: أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أي جحدوه، أو كفروا بربهم على حذف الباء، أو نعمة ربهم، على حذف المضاف. وفائدة قوله: أَلا بُعْداً لِعادٍ بعد قوله: وَأُتْبِعُوا.. الدلالة على غاية التأكيد. وفائدة قوله لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ تعيين عاد القديمة، تمييزا لهم عن عاد التي هي إرم ذات العماد، فقصد به إزالة الاشتباه، أو لمزيد التأكيد.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت قصة هود مع قومه على ما يلي:
١- حصر هود عليه السلام دعوته في نوعين من التكاليف هما: الدعوة إلى التوحيد وعبادة الله وحده، والاستغفار ثم التوبة، والفرق بينهما أن الاستغفار:
طلب المغفرة وهو المطلوب بالذات، والتوبة: هي السبب إليها، وذلك بالإعراض أو الإقلاع عما يضاد المغفرة، وقدم المغفرة لأنها هي الغرض المطلوب، والتوبة سبب إليها. وقد تقدم في أول السورة توضيح الفرق.
٢- اقتصرت إجابة عاد قوم هود له على التركيز على عبادة الآلهة من الأصنام والأوثان، وتقليد الأسلاف، وذلك يدل على تعطيل الفكر والعقل، وعدم النظر الحر الطليق القائم على الاستدلال بالأدلة الكثيرة والمعجزات المتضافرة التي أظهرها الله على يد هود عليه السلام، ومنها تحديهم بالمكايدة والمعاداة والإضرار له جميعا هم وآلهتهم، وعدم الإمهال ساعة، وهو موقف يدل مع كثرة الأعداء على كمال الثقة بنصر الله تعالى، وهو أيضا من أعلام النبوة: أن يكون الرسول وحده
94
يقول لقومه: فَكِيدُونِي جَمِيعاً.. وكذلك
قال النبي صلى الله عليه وسلّم لقريش، وقال نوح عليه السلام: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ [يونس ١٠/ ٧١]
٣- التوكل على الله الخالق القاهر المتصرف بالمخلوقات كيف يشاء، والمانع مما يشاء هو من أصول الإيمان التي تمنع وصول الضرر إلى النبي هود عليه السلام وكل مؤمن صادق مخلص، فما من نفس تدب على الأرض أو في السماء إلا وهي تحت سلطان الله وقهره وتصرفه.
٤- الله تعالى قادر على الحق والعدل، وهو سبحانه وإن كان قادرا على قوم عاد العتاة الأشداء، لكنه لا يظلمهم، ولا يفعل بهم إلا ما هو الحق والعدل والصواب.
٥- مهمة الأنبياء هي تبليغ الرسالات ومحاجة الكفار، فإن أعرض الناس عن دعواتهم وبيانهم، فهم أي الأنبياء قد أبرؤوا الذمة، وأدوا الغرض، وكان الناس الكافرون المعرضون هم الذين يخسرون، ويتضررون، ويتعرضون للعذاب في الدنيا بالإهلاك، واستخلاف قوم آخرين هم أطوع لله منهم يوحدونه ويعبدونه، وفي الآخرة بدخول جهنم. والله رقيب على كل شيء من أقوال العباد وأفعالهم، ويحاسبهم ويجازيهم عليها.
٦- أحوال قبيلة عاد خطيرة ذات أوصاف ثلاثة: هي الجحود بآيات ربهم، وعصيان رسولهم، واتباعهم أو تقليدهم أوامر رؤسائهم دون تفكير ولا روية.
٧- كانت عقوبة قبيلة هود لحوق اللعنة عليهم في الدنيا من الله ومن الناس، وهلاكهم بريح صرصر عاتية وبعدهم عن الخير، والطرد من رحمة الله في يوم القيامة، وما ربك بظلام للعبيد.
95
قصة صالح عليه السلام
[سورة هود (١١) : الآيات ٦١ الى ٦٨]
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (٦١) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٦٢) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (٦٣) وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (٦٤) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (٦٥)
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٦٧) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (٦٨)
الإعراب:
ثَمُودَ ممنوع من الصرف عند الجمهور، على إرادة القبيلة، وقرأه بعضهم مصروفا على إرادة الحي.
لَكُمْ آيَةً إما حال من ناقَةُ اللَّهِ أي: هذه ناقة الله لكم آية بيّنة ظاهرة، وعامله معنى الإشارة، وإما تمييز أي: هذه ناقة الله لكم من جملة الآيات.
وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ من قرأه بالكسر أعربه على الأصل، ومن قرأه بالفتح بناه لإضافته
96
إلى غير متمكّن لأن ظرف الزمان إذا أضيف إلى اسم غير متمكن أو مبني أو فعل ماض، بني، كما في قول الشاعر:
على حين عاتبت المشيب على الصّبا فقلت: ألمّا تصح، والشيب وازع فبنى حين على الفتح لإضافته إلى الفعل الماضي. والتنوين في إذا من يَوْمِئِذٍ عوض عن جملة محذوفة، ويسمى تنوين التعويض.
وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ قال: أخذ لأنه فصل بين الفعل والفاعل بالمفعول وهو الَّذِينَ ظَلَمُوا أو لأن تأنيث الصيحة غير حقيقي، أو محمول على المعنى لأن الصيحة في معنى الصياح، كقوله تعالى: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ.. لأن موعظة في معنى وعظ.
أَلا إِنَّ ثَمُودَ من صرفه جعله اسم الحي، ومن لم يصرفه جعله اسم القبيلة معرفة، فلم ينصرف للتعريف والتأنيث.
كَأَنْ مخففة، واسمها محذوف، أي كأنهم.
البلاغة:
فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ؟ استفهام معناه النفي، أي لا ينصرني منه إن عصيته أحد.
المفردات اللغوية:
وَإِلى ثَمُودَ أي وأرسلنا إلى ثمود أَخاهُمْ من القبيلة اعْبُدُوا اللَّهَ وحدّوه هُوَ أَنْشَأَكُمْ ابتدأ خلقكم وتكوينكم منها، لا غيره، فإنه خلق آدم ومواد النّطف التي خلق نسله منها من التراب وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها جعلكم تعمرونها، وأبقاكم عمركم فيها، تسكنون بها فَاسْتَغْفِرُوهُ من الشرك ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ارجعوا إليه بالطاعة وأقلعوا عن الذنب إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ قريب الرحمة من خلقه بعلمه مُجِيبٌ لمن سأله أو لداعيه.
مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا مأمولا أن تكون لنا سيدا أو مستشارا في الأمور لما نرى فيك من مخايل الرشد والسداد، فلما سمعنا هذا القول الذي صدر منك، انقطع رجاؤنا عنك أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا من الأوثان، على حكاية الحال الماضية وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ من التوحيد، والتبري من الأوثان مُرِيبٍ موقع في الريبة أو الريب أي الظن والشك أَرَأَيْتُمْ من رؤية القلب، أي أتدبرتم؟
عَلى بَيِّنَةٍ بيان وبصيرة، واستعمل حرف الشك في قوله إِنْ كُنْتُ باعتبار
97
المخاطبين رَحْمَةً نبوة فَمَنْ يَنْصُرُنِي يمنعني مِنَ اللَّهِ أي من عذابه إِنْ عَصَيْتُهُ في تبليغ رسالته، والمنع عن الإشراك به فَما تَزِيدُونَنِي أي فما تطلبون مني باتباعكم غَيْرَ تَخْسِيرٍ تضليل أو إيقاع في الخسران باستبدال الشرك بالتوحيد، أو بإبطال ما منحني الله به والتعرض لعذابه، أو فما تزيدونني بما تقولون لي غير أن أنسبكم إلى الخسران فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ دعوها ترعى نباتها وتشرب ماءها وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ عقر فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ عاجل لا يتراخى عن مسكم لها بالسوء إلا يسيرا، وهو ثلاثة أيام، إن عقرتموها فَعَقَرُوها قتلوها، عقرها قدار بأمرهم فَقالَ صالح تَمَتَّعُوا عيشوا في منازلكم ثلاثة أيام: الأربعاء والخميس والجمعة، ثم تهلكون غَيْرُ مَكْذُوبٍ فيه.
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا بإهلاكهم نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وهم أربعة آلاف وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ أي ونجيناهم من هلاكهم بالصيحة أو ذلهم أو فضيحتهم يوم القيامة الْقَوِيُّ القادر على كل شيء الْعَزِيزُ الغالب على كل شيء. الصَّيْحَةُ المرة الواحدة من الصوت الشديد المهلك، والمراد بها الصاعقة التي أحدثت رجفة في القلوب، وصعق بها الكافرون جاثِمِينَ باركين على الركب ميتين، أو ساقطين على وجوههم مصعوقين، والجثوم للطائر كالبروك للبعير يَغْنَوْا يقيموا فِيها في دارهم بُعْداً هلاكا وطردا من رحمة الله، وهو اللعن.
المناسبة:
هذه هي القصة الثالثة من القصص المذكورة في هذه السورة، وهي قصة صالح مع ثمود، وصالح هو الرسول الثاني من العرب، ومساكن قبيلته ثمود:
الحجر: وهي بين الحجاز والشام، وآثار مدائنهم باقية إلى اليوم.
ونظم هذه القصة مثل النظم المذكور في قصة هود، إلا أنه لما أمرهم بالتوحيد هاهنا ذكر في تقريره دليلين: الإنشاء من الأرض، والاستعمار فيها أي جعلكم عمارها. وقد ذكرت قصة صالح في سورة الأعراف.
وسيأتي ذكر هذه القصة أيضا في سورة الشعراء والنمل والقمر والحجر وغيرها، ومضمون القصة تبليغ صالح دعوته، ومناقشتهم، وإنذارهم بالهلاك، وردودهم عليه، وتأييد صدقه بمعجزة الناقة، وقتلهم لها، وإهلاكهم بالصيحة أو الصاعقة.
98
التفسير والبيان:
ولقد أرسلنا إلى ثمود الذين كانوا يسكنون مدائن الحجر بين تبوك والمدينة، وكانوا بعد عاد، أرسلنا لهم رجلا منهم أي من قبيلتهم، وهو صالح عليه السلام، فأمرهم بعبادة الله وحده، وأقام لهم دليلين على التوحيد:
الدليل الأول- قوله: هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ أي ابتدأ خلقكم منها، إذ خلق منها أباكم آدم فهو أبو البشر، ومادة التراب هي المادة الأولى التي خلق منها آدم، ثم خلقكم أنتم من سلالة من طين، بالوسائط التالية: من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة تكسى بعدئذ بهيكل عظمي ولحم، وأصل النطفة من الدم، والدم من الغذاء، والغذاء إما من نبات الأرض أو من اللحم الذي يرجع إلى النبات.
والدليل الثاني- وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها أي جعلكم عمارا تعمرونها وتستغلونها بالزراعة والصناعة والبناء والتعدين. فكون الأرض قابلة للعمارة النافعة للإنسان، وكون الإنسان قادرا عليها، دليل على وجود الصانع الحكيم، الذي قدر فهدى، ومنح الإنسان العقل الهادي والأداة لتسخير موجودات الدنيا، وجعل له القدرة على التصرف.
وإذا كان الله هو المستحق للعبادة وحده، فاستغفروه لسالف ذنوبكم، من الشرك والمعصية، ثم توبوا إليه بالإقلاع عن الذنب في الماضي، والعزم على عدم العودة إليه وإلى أمثاله في المستقبل.
إن ربي قريب من خلقه بالرحمة والعلم والسمع، مجيب دعوة الداعي المحتاج المخلص بفضله ورحمته، كقوله تعالى: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي، فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ [البقرة ٢/ ١٨٦]
99
فأجابوه بكلام يدل على الجهل والعناد: قالُوا: يا صالِحُ.. أي قال قوم ثمود: يا صالح، قد كنا نرجوك في عقلك قبل أن تقول ما قلت، أو كنا نأمل أن تكون سيدا أو مستشارا في الأمور لما نرى لك من رجاحة في العقل وسداد في التفكير، فالآن خيبت الآمال وقطعت الرجاء. وقال كعب: كانوا يرجونه للمملكة بعد ملكهم لأنه كان ذا حسب وثروة. وعن ابن عباس: كان فاضلا خيّرا. والظاهر الذي حكاه الجمهور أن قوله: مَرْجُوًّا مشورا نؤمل فيك أن تكون سيدا سادّا مسدّ الأكابر.
ثم تعجبوا من دعوته قائلين:
أتنهانا عن عبادة الآباء والأسلاف؟ وقد تتابعوا على تلك العبادة كابرا عن كابر دون إنكار من أحد.
وإننا نشك كثيرا في صحة ما تدعونا إليه من عبادة الله وحده، وترك التوسل إليه بالشفعاء المقربين عنده، وهو شك موقع في التهمة وسوء الظن.
والشك: هو أن يبقى الإنسان متوقفا بين النفي والإثبات، والمريب: هو الذي يظن به السوء.
والمقصود من هذا الكلام التمسك بطريق التقليد، ووجوب متابعة الآباء والأسلاف. وهذا نظير ما حكاه الله تعالى عن كفار مكة حيث قالوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً، إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ [ص ٣٨/ ٥].
فأجابهم صالح مبينا ثباته على المبدأ ومنهج النبوة: قالَ: يا قَوْمِ، أَرَأَيْتُمْ.. أي كيف أعصي الله في ترك ما أنا عليه من البينة؟ أخبروني ماذا أفعل، إن كنت على برهان وبصيرة ويقين فيما أرسلني به إليكم، وآتاني منه رحمة، أي نبوة تتضمن تبليغ ما أوحى به إلي.
100
وقدّروا أني نبي على الحقيقة، وكان على يقين أنه على بيّنة لأن خطابه للجاحدين، وانظروا إن تابعتكم وعصيت ربي في أوامره، فمن يمنعني من عذاب الله؟! وإذا تابعتكم وتركت دعوتكم إلى الحق وعبادة الله وحده، لما نفعتموني، ولما رددتموني حينئذ غير خسارة وضلال، باستبدال بما عند الله ما عندكم.
ولما كانت عادة الأنبياء ابتداء الدعوة إلى عبادة الله، ثم اتباعها بدعوى النبوة، فإن صالحا عليه السلام الذي طلبوا منه المعجزة على صحة قوله، أتاهم بمعجزة الناقة. روي أن قومه خرجوا في عيد لهم، فسألوه أن يأتيهم بآية، وأن يخرج لهم من صخرة معينة أشاروا إليها ناقة، فدعا صالح ربه، فخرجت الناقة كما سألوا.
وقال لهم: هذه آية على صدقي: ناقة الله، التي تتميز عن سائر الإبل بأكلها وشربها وغزارة لبنها، كما قال تعالى: إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ، وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ [القمر ٥٤/ ٢٧- ٢٨].
فاتركوها تأكل ما شاءت في أرض الله من المراعي، دون أن تتحملوا عبء مؤنتها، ولا تمسوها بسوء أيا كان نوعه، فيأخذكم عذاب عاجل لا يتأخر عن إصابتكم إلا يسيرا وذلك ثلاثة أيام، ثم يقع عليكم.
فلم يسمعوا نصحه، وكذبوه وعقروها، عقرها بأمرهم قدار بن سالف، كما قال تعالى: فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ [القمر ٥٤/ ٢٩] فقال لهم: استمتعوا بالعيش في داركم، أي بلدكم، وتسمى البلاد الديار، مدة ثلاثة أيام، ذلك وعد مؤكد غير مكذوب فيه.
ثم وقع ما أوعدهم به: فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا.. أي فلما حان وقت أمرنا بالعذاب والإهلاك، وحل العقاب ووقعت الواقعة، ونزلت الصاعقة، نجينا صالحا والمؤمنين معه، برحمة منا، ونجيناهم من عذاب شديد، ومن ذل ومهانة
101
حدثت يومئذ أي يوم وقوع الهلاك أو يوم القيامة، والخزي: الذل العظيم البالغ حد الفضيحة، إن ربك هو القوي القادر الغالب على كل شيء، الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وكلمة يَوْمِئِذٍ إما بفتح الميم فهو معرب، أو بكسرها فهو مبني مضاف لغير متمكن.
وأصبح أمرهم أنه أخذتهم صيحة العذاب وهي الصاعقة ذات الصوت الشديد المهلك، التي تزلزل القلوب، وتصعق عند سماعها النفوس، فصعقوا بها جميعا، وأصبحوا جثثا هامدة ملقاة على الأرض.
وكأنهم لسرعة هلاكهم لم يوجدوا في الدنيا، ولم يقيموا في ديارهم، بسبب كفرهم وجحودهم بآيات ربهم، ألا إنهم كفروا بربهم، فاستحقوا عقابه الشديد، ألا بعدا لهم عن رحمة الله، وسحقا لثمود، وهلاكا لهم ولأمثالهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت قصة صالح مع قومه ثمود على العبر والعظات التالية:
١- إن جحود ثمود وكفرهم بآيات الله وعدم إطاعتهم أوامر رسولهم كان هو شأن هؤلاء القوم إيثارا لتقليد الآباء والأسلاف، بالرغم من أن صالحا عليه السلام منهم نسبا وقبيلة، وأقام لهم الأدلة الكافية الشافية على وجوب عبادة الله وتوحيده، من الخلق والإيجاد في الأرض، وجعلهم عمارا لها.
٢- إن الاستغفار من الذنوب والتوبة من المعاصي سبب سريع لإجابة الدعاء لأن الله قريب من عباده، رحيم بهم، مجيب دعوة المحتاجين والمضطرين، قريب الإجابة لمن دعاه.
٣- لا تلاقي بين جحود الجاحدين من ثمود وأمثالهم وبين النبي صالح وأمثاله من الأنبياء لأن الجاحدين متمسكون بتقليد الآباء والأسلاف، والنبي ثابت على مبدئه ثبوت الجبال الراسيات، لأنه على يقين من صحة دعوته، وبصيرة من
102
صدق ما أوحى الله به إليه، ولأنه أشد الناس خوفا من عذاب الله إن عصاه وخالف أمره.
٤- كانت الناقة معجزة عجيبة مدهشة لخلقها من الصخرة وخلقها في جوف الجبل، وخلقها حاملا من غير ذكر، وخلقها على تلك الصورة دفعة واحدة من غير ولادة، ولما كان لها من شرب يوم، ولكل القوم شرب يوم آخر، ولإدرارها بلبن كثير يكفي الخلق العظيم، فهذه ستة وجوه، كل وجه منه معجز، مما جعل تلك الناقة آية ومعجزة.
٥- اقتضى العدل الإلهي ورحمة الله إنجاء صالح عليه السلام ومن آمن معه، وكانوا أربعة آلاف، وإهلاك قبيلة ثمود بسبب الجحود برسالة نبيهم، وكفرهم بربهم، وإنكارهم وجوده.
٦- لا شك بأن وعد الأنبياء صادق صحيح، ووعيدهم مؤكد الحصول، وقد أوعد صالح قومه بالعذاب بعد ثلاثة أيام، وتحقق ذلك في اليوم الرابع.
٧- كان عذابهم بالصيحة أو بالصاعقة أو بالرجفة، صيح بهم فماتوا، وأصبحوا جثثا ملقاة هنا وهناك في أنحاء ديارهم. والصيحة: إما صيحة جبريل، أو صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة، وصوت كل شيء في الأرض، فتقطعت قلوبهم وماتوا، لما أحدثته من رهبة وهيبة عظيمة.
٨- سحقا وهلاكا لثمود الذين كفروا ربهم، وبعدا وطردا لهم عن رحمة الله بسبب جحودهم وكفرهم.
103
قصة إبراهيم عليه السلام- بشارته بإسحاق ويعقوب-
[سورة هود (١١) : الآيات ٦٩ الى ٧٦]
وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (٧١) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (٧٣)
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (٧٥) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (٧٦)
الإعراب:
وَلَقَدْ اللام لتأكيد الخبر، ودخلت لَقَدْ هاهنا لأن السامع لقصص الأنبياء يتوقع قصة بعد قصة، وقد للتوقع.
قالُوا: سَلاماً، قالَ: سَلامٌ الأول منصوب بقالوا أو على المصدر، والثاني مرفوع لأنه خبر مبتدأ محذوف أي هو سلام، أو مبتدأ محذوف الخبر، أي وعليكم سلام، أو مرفوع على الحكاية.
أَنْ جاءَ إما في محل نصب على تقدير حذف حرف الجرّ، أي عن جاء، وإما في محل
104
رفع على أنه فاعل لَبِثَ أي فما لبث مجيئه، أي ما أبطأ مجيئه بعجل حنيذ، أي مشوي.
وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ منصوب بتقدير فعل دل عليه فَبَشَّرْناها أي بشرناها بإسحاق، ووهبنا له يعقوب، أو معطوف على موضع قوله: بِإِسْحاقَ. ويقرأ بالضم مبتدأ، أو مرفوعا بالجار والمجرور، ويقرأ بالجر معطوفا على بِإِسْحاقَ.
شَيْخاً حال من معنى اسم الإشارة أو التنبيه، ويقرأ بالرفع إما خبرا بعد خبر أو بدلا من بَعْلِي أو يكون بَعْلِي بدلا من هذا، وشيخ خبر عن هذا، أو شيخ خبر مبتدأ آخر، أي هذا شيخ، ونظيره في هذه الأوجه الأربعة قوله تعالى: ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا [الكهف ١٨/ ١٠٦].
أَهْلَ الْبَيْتِ منصوب على المدح أو النداء بقصد التخصيص، والأصح أنه منصوب على الاختصاص.
فَلَمَّا ذَهَبَ.. لما ظرف زمان، جوابه محذوف، أي أقبل يجادلنا. وجملة يُجادِلُنا حال من ضمير أقبل وهو ضمير إبراهيم.
آتِيهِمْ عَذابٌ مرفوع باسم الفاعل الذي جرى خبرا، فجرى مجرى الفعل، أي فإنه يأتيهم.
البلاغة:
أَأَلِدُ؟ استفهام معناه التعجب.
ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ.. وَجاءَتْهُ بينهما طباق.
جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ كناية عن العذاب الذي حكم به الله عليهم.
المفردات اللغوية:
رُسُلُنا الملائكة، قيل: كانوا تسعة، وقيل: ثلاثة: جبريل وميكائيل وإسرافيل بِالْبُشْرى ببشارة الولد، وقيل: بهلاك قوم لوط قالُوا: سَلاماً سلمنا عليك سلاما، أو منصوب بقالوا أي ذكروا سلاما قالَ: سَلامٌ أمركم سلام أو جوابي سلام أو وعليكم سلام، وقد أجابهم بالرفع بأحسن من تحيتهم فَما لَبِثَ أبطأ حَنِيذٍ مشوي بالرّضف أي بالحجارة المحماة لا تَصِلُ إِلَيْهِ أي لا تمتد للتناول نَكِرَهُمْ أنكر ذلك منهم، ضد عرفه وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً أحسّ منهم خوفا في نفسه إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ إنا ملائكة مرسلة إليهم بالعذاب،
105
وإنما نمدّ إليه أيدينا لأنا لا نأكل. ولوط: النبي الكريم ابن أخي إبراهيم وأول من آمن به.
وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ وراء الستر، تسمع محاورتهم، أو تقوم بالخدمة. فَضَحِكَتْ سرورا بزوال الخوف، أو بهلاك أهل الفساد وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ أي وهبناها من بعد إسحاق يعقوب يا وَيْلَتى أصله يا ويلي وهلاكي أي يا عجبا، وهي كلمة تقال عند التعجب من بلية أو فجيعة أو فضيحة. بَعْلِي زوجي، وأصله القائم بالأمر، ويجمع على بعولة شَيْخاً ابن مائة أو مائة وعشرين أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ ابنة تسعين أو تسع وتسعين، فهي عقيم إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ يعني الولد من هرمين، وهو تعجب من حيث العادة لا القدرة الإلهية مِنْ أَمْرِ اللَّهِ قدرته وحكمته، فإن خوارق العادات باعتبار أهل بيت النبوة ومهبط المعجزات، وتخصيصهم بمزيد النعم والكرامات، ليس ببدع ولا حقيق بأن يستغربه عاقل، فضلا عمن نشأت وشبت في ملاحظة الآيات. إِنَّهُ حَمِيدٌ تحمد أفعاله مَجِيدٌ كثير الخير والإحسان الرَّوْعُ الخوف والرعب وَجاءَتْهُ الْبُشْرى بدل الروع.
يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ يجادل رسلنا في شأنهم قائلا: إن فيها لوطا. لَحَلِيمٌ غير عجول على الانتقام من المسيء إليه أَوَّاهٌ كثير التأوه من الذنوب والتأسف على الناس مُنِيبٌ راجع إلى الله، والمقصود من ذلك بيان الحامل له على المجادلة وهو رقة قلبه وفرط رحمته.
يا إِبْراهِيمُ على إرادة القول، أي قالت الملائكة: يا إبراهيم أَعْرِضْ عن هذا الجدال إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ قدره بمقتضى قضائه الأزلي بعذابهم وهو أعلم بحالهم غَيْرُ مَرْدُودٍ غير مصروف بجدال ولا دعاء ولا غير ذلك.
المناسبة:
هذه هي القصة الرابعة من القصص المذكورة في هذه السورة، وقد ذكرت قصة إبراهيم في سورة البقرة، وذكر إبراهيم في القرآن كثيرا، ذكر مع أبيه وقومه، وذكر هنا مع الملائكة مبشرين له بإسحاق ويعقوب، مخبرين له بهلاك قوم لوط، وذكر مع إسماعيل خاصة في موضع آخر، وكانت قرى لوط بنواحي الشام، وإبراهيم ببلاد فلسطين، فلما أنزل الله الملائكة بعذاب قوم لوط، مروا بإبراهيم ونزلوا عنده، وكان كل من نزل عنده يحسن ضيافته.
التفسير والبيان:
والله لقد جاءت رسلنا الملائكة وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل، وقيل مع
106
جبريل سبعة ملائكة آخرون، وذلك مروي عن عطاء وغيره من التابعين، جاءت الرسل إبراهيم بالبشرى تبشره بالولد إسحاق لقوله تعالى هنا:
فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وقوله: وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ [الذاريات ٥١/ ٢٨].
وقيل: البشرى بهلاك قوم لوط وسلامة لوط. قالوا: سلاما عليك، قال: سلام عليكم، وهذا أحسن مما حيوه لأن الرفع بقوله سَلامٌ يدل على الثبوت والدوام، كما ذكر علماء البيان.
فما لبث أي فما أبطأ وذهب سريعا، فأتاهم بالضيافة بعجل (وهو فتى البقر) مشوي على الرّضف (جمع رضفة) وهي الحجارة المحماة بالنار أو بالشمس، كما قال تعالى: فَراغَ إِلى أَهْلِهِ، فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ، فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ، قالَ: أَلا تَأْكُلُونَ [الذاريات ٥١/ ٢٦].
فلما رأى إبراهيم أيديهم لا تمتد إلى الطعام، أنكر ذلك منهم، ووجد في نفسه خوفا وفزعا منهم، إذ أدرك أنهم ليسوا بشرا، وربما كانوا ملائكة عذاب.
قالوا له: لا تخف، فنحن لا نريد سوءا بك، وإنما أرسلنا لا هلاك قوم لوط، وكانت ديارهم قريبة من دياره.
ونحن نبشرك بغلام عليم، يحفظ نسلك، ويبقي ذكرك، وهو إسحاق، ثم يعقوب من بعده وهو الذي من ذريته أنبياء بني إسرائيل.
وكانت امرأة إبراهيم قائمة وراء ستار بحيث ترى الملائكة، أو كانت واقفة تخدم الملائكة، فضحكت سرورا بزوال الخوف وتحقيق الأمن، أو استبشارا بهلاك قوم لوط لكراهتها لأفعالهم المنكرة، وغلظ كفرهم وعنادهم، فجوزيت بالبشارة بالولد بعد الإياس: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ أي فبشرناها بولد هو إسحاق، وسيلد لإسحاق ولد هو يعقوب كما في قوله تعالى: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ [الأنعام ٦/ ٨٤].
وفسر مجاهد وعكرمة: فَضَحِكَتْ أي حاضت، وكانت آيسة، تحقيقا للبشارة.
107
وهو تفسير غريب مخالف لرأي الجماهير.
وذلك لأنه لما ولد لإبراهيم إسماعيل من هاجر، تمنّت سارّة أن يكون لها ابن، وأيست لكبر سنّها، فبشرت بولد يكون نبيا، ويلد نبيا، فكان هذا بشارة لها بأن ترى ولد ولدها.
قالت سارّة لما بشرت بالولد: عجبا كيف ألد وأنا عجوز كبيرة شيخة عقيم، وزوجي في سن الشيخوخة لا يولد لمثله، إن هذا الخبر لشيء عجيب غريب عادة.
فأجابتها الملائكة: كيف تعجبين من قضاء الله وقدره، أي لا عجب من ان يرزقكما الله الولد، وهو إسحاق، فإن الله لا يعجزه شيء في الكون وهو على كل شيء قدير: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ [يس ٣٦/ ٨٢].
فإن رحمة الله الواسعة وبركاته الكثيرة عليكم يا أهل بيت النبوة، وقد توورثت النبوة في نسل إبراهيم إلى يوم القيامة، إنه تعالى المحمود في جميع أفعاله وأقواله، المستحق لجميع المحامد، الممجد في صفاته وذاته، الكثير الخير والإحسان، فهو محمود ماجد.
ثم أخبر الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه لما ذهب عنه الخوف من الملائكة حين لم يأكلوا، وبشروه بعد ذلك بالولد، وأخبروه بهلاك قوم لوط، وعلم أنهم ملائكة العذاب لقوم لوط، أخذ يجادل الملائكة وهم رسل الله في قوم لوط، وجعلت مجادلتهم مجادلة لله لأنهم جاؤوا بأمره.
لأن إبراهيم حليم غير متعجل بالانتقام من المسيء إليه، كثير التأوه مما يسوء الناس ويؤلمهم، ويرجع إلى الله في كل أموره، أي أن رقة قلبه وفرط رحمته حملته على المجادلة.
108
فأجابته الملائكة: يا إبراهيم أعرض عن الجدال في أمر قوم لوط، إنه قد جاء أمر ربك بتنفيذ القضاء والعذاب فيهم، وإنهم آتيهم عذاب غير مصروف ولا مدفوع عنهم أبدا، لا بجدال ولا بدعاء ولا بشفاعة ونحوها.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت القصة إلى ما يلي:
١- تبادل السلام بين الملائكة وبين الأنبياء، فقد سلم الملائكة على إبراهيم عليه السلام بقولهم: سلاما، كما تقول: قالوا خيرا، فرد عليهم بتحية أحسن، فقال: سلام عليكم.
٢- دلت الآية أن من أدب الضيف أن يعجّل قراه، فيقدم الموجود الميسر في الحال، ثم يتبعه بغيره إن كان لديه شيء وسعة، ولا يتكلف المفقود غير المستطاع الذي يتضايق به.
والضيافة من مكارم الأخلاق، ومن آداب الإسلام، ومن خلق النبيين والصالحين. وهي سنة وليست بواجبة،
لقوله صلى الله عليه وسلّم فيما رواه البخاري عن أبي شريح، وأحمد وأبو داود عن أبي هريرة: «الضيافة ثلاثة أيام، وجائزته يوم وليلة، فما كان وراء ذلك، فهو صدقة».
وقوله صلى الله عليه وسلّم فيما رواه الشيخان والنسائي وابن ماجه عن أبي شريح وأبي هريرة: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه».
والمخاطب بالضيافة أهل المدن أو الحضر والبادية في رأي الشافعي، وقال مالك: ليس على أهل الحضر ضيافة،
لحديث القضاعي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «الضيافة على أهل الوبر، وليست على أهل المدر»
لكنه حديث لا يصح، كما قال القرطبي.
109
والسنة إذا قدّم للضيف الطعام أن يبادر المقدّم إليه بالأكل فإن تكريم الضيف من مضيفه تعجيل التقديم، وتكريم صاحب المنزل من ضيفه المبادرة بالقبول. فلما قبض الملائكة أيديهم، تخوف إبراهيم، أن يكون وراءهم مكروه يقصدونه.
ومن أدب الطعام: أن ينظر المضيف في ضيفه، هل يأكل أولا؟ وذلك بلمح نظر سريع، لا بتأكيد النظر. روي أن أعرابيا أكل مع سليمان بن عبد الملك، فرأى سليمان في لقمة الأعرابي شعرة، فقال له: أزل الشعرة عن لقمتك فقال له: أتنظر إلي نظر من يرى الشعرة في لقمتي؟! والله لا أكلت معك.
٣- مشاركة الزوجة لعواطف زوجها أمر مستحسن، فإن سارّة ضحكت استبشارا بتعذيب قوم لوط، لكراهتها خبائثهم، قال الجمهور: هو الضحك المعروف. وأنكر بعض اللغويين أن يكون في لغة العرب: ضحكت بمعنى حاضت.
٤- من السنة قيام المرأة بخدمة الرجال الضيوف بنفسها، وترجم البخاري لحديث في ذلك: «باب قيام المرأة على الرجال في العرس وخدمتهم بالنفس» قال القرطبي: ويحتمل أن يكون هذا قبل نزول الحجاب.
٥- امتنع الملائكة من الطعام لأنهم ملائكة، والملائكة لا يأكلون ولا يشربون، وإنما أتوا إبراهيم في صورة الأضياف ليكونوا على صفة يحبها، وهو كان مشغوفا بالضيافة.
٦- ذكر الطبري أن إبراهيم عليه السلام لما قدّم العجل قالوا: لا نأكل طعاما إلا بثمن فقال لهم: «ثمنه أن تذكروا الله في أوله، وتحمدوه في آخره» فقال جبريل لأصحابه: بحق اتخذ الله هذا خليلا.
ودل هذا على أن التسمية في أول الطعام، والحمد في آخره مشروع في الأمم قبلنا.
110
٧- إن رحمة الله متكاثرة، وبركاته على أهل بيت النبوة متعاقبة، فكان التبشير بولادة ولد لزوجين عجوزين معجزة خارقة للعادة، وتخصيصا لبيت النبوة بكرامة عالية رفيعة، والله تعالى قادر على كل شيء، وإنه حميد مجيد، فلا عجب بعدئذ.
٨- إن جدل إبراهيم في شأن إهلاك قوم لوط ليس من الذنوب، بدليل إيراد المدح العظيم عقبه بقوله تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ أي إن رقة قلبه وفرط رحمته وسعة حلمه حملته على المجادلة، التي كان المراد منها سعي إبراهيم في تأخير العذاب عن قوم لوط، رجاء إقدامهم على الإيمان والتوبة من المعاصي.
٩- دلت آية رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ على أن زوجة الرجل من أهل البيت، وأن أزواج الأنبياء من أهل البيت، فعائشة رضي الله عنها وغيرها من جملة أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلّم وممن قال الله فيهم: وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الأحزاب ٣٣/ ٣٣].
قصة لوط عليه السلام مع قومه
[سورة هود (١١) : الآيات ٧٧ الى ٨٣]
وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (٧٩) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (٨٠) قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (٨١)
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (٨٣)
111
الإعراب:
يُهْرَعُونَ في موضع الحال.
هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ هؤُلاءِ مبتدأ، وبَناتِي عطف بيان، وهُنَّ ضمير فصل، وأَطْهَرُ خبر المبتدأ.
فِي ضَيْفِي وحّد الضيف وإن كان جمعا في المعنى لأن ضيفا في الأصل مصدر يصلح للواحد والاثنين والجماعة.
لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً.. لَوْ حرف امتناع لامتناع، وجوابه محذوف تقديره: لحلت بينكم وبين ما هممتم به من الفساد، والحذف هاهنا أبلغ لأنه يوهم تعظيم الجزاء. وآوِي منصوب بأن، ليكون الفعل معها بتأويل المصدر معطوفا على قُوَّةً وتقديره: لو أن لي بكم قوة أو اويا. مثل قول ميسون بنت الحارث أم يزيد بن معاوية:
ولبس عباءة وتقرّ عيني أحبّ إلى من لبس الشفوف أي: وأن تقرّ عيني.
إِلَّا امْرَأَتَكَ مستثنى منصوب من قوله: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ ويرفع على البدل من أَحَدٌ. والمراد بالنهي وَلا يَلْتَفِتْ في رأي المبرد المخاطب، ولفظه لغيره، كما تقول لغلامك: لا يخرج فلان، أي لا تدعه يخرج.
البلاغة:
أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ استفهام معناه التعجب والتوبيخ.
112
أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ استعارة، والمراد بها قومه وعشيرته لأن الإنسان يلجأ إليهم ويستند كالاستناد إلى ركن.
عالِيَها سافِلَها بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
سِيءَ بِهِمْ ساءه مجيئهم وحزن بسببهم لأنهم جاؤوا في صورة غلمان، فظن أنهم أناس، فخاف أن يقصدهم قومه، فيعجز عن مدافعتهم. وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً أي ضاق صدره بمجيئهم وكرهه، وهو كناية عن شدة الانقباض، للعجز عن مدافعة المكروه، يقال: ما لي به ذرع أي مالي به طاقة عَصِيبٌ شديد الأذى. يُهْرَعُونَ يسرعون، يقال: هرع وأهرع: إذا حمل على الإسراع وَمِنْ قَبْلُ قبل مجيئهم كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ الفواحش وهي إتيان الرجال في الأدبار. هؤُلاءِ بَناتِي فتزوجوهن هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ أنظف فعلا أو أقل فحشا، وقال أبو حيان: الأحسن أن تكون الإضافة مجازية أي بنات قومي، أي البنات أطهر لكم إذ النبي يتنزل منزلة الأب لقومه. وفي قراءة ابن مسعود: «النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم، وهو أب لهم» ويدل عليه: أنه فيما قيل: لم يكن له إلا بنتان، وهذا بلفظ الجمع، وأيضا فلا يمكن أن يزوج ابنتيه من جميع قومه. وقيل: أشار إلى بنات نفسه، وندبهم إلى النكاح إذ كان من سنتهم تزويج المؤمنة بالكافر. وقيل: (أحل وأطهر) ليس أفعل التفضيل إذ لا طهارة في إتيان الذكور. وَلا تُخْزُونِ تفضحوني، من الخزي، أو لا تخجلوني من الخزاية بمعنى الحياء فِي ضَيْفِي أضيافي، يطلق الضيف على الواحد والجمع رَشِيدٌ ذو رشد وعقل يهتدي إلى الحق ويرعوي عن القبيح مِنْ حَقٍّ من حاجة لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ من إتيان الرجال.
لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً طاقة، أي لو قويت بنفسي على دفعكم أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ قوي أمتنع به عنكم، أو عشيرة تنصرني، لبطشت بكم لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ بسوء فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ طائفة أو بقية من الليل، والسّرى: السير ليلا وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ ولا يتخلف أو ولا ينظر إلى ورائه، والنهي في اللفظ لأحد، وفي المعنى للوط، وسبب النهي ألا يرى عظيم ما ينزل بهم إِلَّا امْرَأَتَكَ فلا تسر بها إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ تعليل بطريقة الاستئناف، قيل: إنه لم يخرج بها، وقيل: خرجت والتفتت فقالت: وا قوماه، فجاءها حجر فقتلها. إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ كأنه علة الأمر بالإسراء، أو قد سألهم عن وقت هلاكهم، فأخبروه بذلك.
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا عذابنا أو أمرنا به جَعَلْنا عالِيَها أي قراهم سافِلَها بأن رفعها جبريل إلى السماء وأسقطها مقلوبة إلى الأرض مِنْ سِجِّيلٍ طين طبخ بالنار، بدليل آية أخرى لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ
[الذاريات ٥١/ ٣٣] أي طين متحجر.
113
مَنْضُودٍ متتابع منظم ومعدّ لعذابهم مُسَوَّمَةً معلمة للعذاب، أي لها علامة خاصة عند ربك أي في خزائنه وَما هِيَ الحجارة أو بلادهم مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ أي أهل مكة وأمثالهم، وهذا وعيد لكل ظالم،
روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه سأل جبريل عليه السلام، فقال: يعني ظالمي أمتك، ما من ظالم منهم إلا وهو بمعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة.
المناسبة:
هذه هي القصّة الخامسة من القصص المذكورة في هذه السّورة، وهي قصة لوط عليه السّلام، وقوم لوط: أهل سدوم في الأردن. قال ابن عباس: انطلقوا من عند إبراهيم إلى لوط (ابن أخي إبراهيم) وبين القريتين أربع فراسخ، ودخلوا عليه على صورة شباب مرد من بني آدم، وكانوا في غاية الحسن، ولم يعرف لوط أنهم ملائكة الله.
التفسير والبيان:
ولما جاءت رسلنا من الملائكة لوطا، بعد ما أعلموا إبراهيم بهلاكهم هذه الليلة، وكانوا في أجمل صورة بهيئة شباب حسان الوجوه، ابتلاء من الله، فساءه شأنهم ومجيئهم، وضاقت نفسه بسببهم لأنه ظنّ أنهم من الإنس، فخاف عليهم خبث قومه، وأن يعجزوا عن مقاومتهم، وقال: هذا يوم عصيب أي شديد البلاء.
وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ.. وجاء لوطا قومه عند ما سمعوا بالضّيوف وقدومهم، بإخبار امرأته قومها، يسرعون ويهرولون من فرحهم بذلك، لإتيان الفاحشة، وليس ذلك غريبا، فإنهم كانوا قبل مجيئهم يعملون السّيئات ويرتكبون الفواحش، فلم يزل هذا من سجيّتهم، حتى أخذوا وهم على تلك الحال، كما حكى الله عنهم: أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ، وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ، وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ [العنكبوت ٢٩/ ٢٩] أي ظلوا يقترفون الفاحشة إلى وقت الهلاك.
114
قالَ: يا قَوْمِ، هؤُلاءِ.. قال لوط: يا قوم، هؤلاء البنات فتزوّجوهنّ، والمراد بنات القوم ونساؤهم فإن النّبي للأمّة بمنزلة الوالد، كما قال ابن عباس، فأرشدهم إلى ما هو أنفع لهم في الدّنيا والآخرة، كما قال لهم في الآية الأخرى: أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ، وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ، بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ [الشّعراء ٢٦/ ١٦٥- ١٦٦]، قال مجاهد وقتادة وغير واحد: لم يكنّ بناته، ولكن كنّ من أمته، وكلّ نبي أبو أمته. وقال ابن جريج: أمرهم أن يتزوّجوا النّساء، لم يعرض عليهم سفاحا. وقال سعيد بن جبير: يعني نساءهم هنّ بناته، وهو أب لهم.
فَاتَّقُوا اللَّهَ.. أي فاخشوا الله، وأقبلوا ما آمركم به من الاقتصار على نسائكم، ولا تفضحوني أو لا تخجلوني في ضيوفي، فإن إهانتهم إهانة لي.
أليس منكم رجل فيه رشد وحكمة وعقل وخير يقبل ما آمر به ويترك ما أنهى عنه، ويهديكم إلى الطريق الأقوم.
قالوا: لقد علمت سابقا ألا حاجة لنا في النّساء ولا نشتهيهنّ، فلا فائدة فيما تقول، وليس لنا غرض إلا في الذّكور، وأنت تعلم ذلك منا، فأي فائدة في تكرار القول علينا في ذلك؟ والمراد أنهم صمموا على ما يريدون.
قال لوط لقومه متوعّدا: لو كان لدي قوة تقاتل معي، أو عشيرة تؤازرني وتنصرني عليكم، وتدفع الشّرّ عني، لكنت قاتلتكم وحلت بينكم وبين ما تريدون.
وبعد هذه المخاوف من الفضيحة التي أقلقت لوطا على ضيفانه، بشرته الملائكة بنجاته منهم وهلاكهم بالعذاب: قالُوا: يا لُوطُ، إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ..
أي قالت الملائكة للوط: إنا رسل ربّك أرسلنا لنجاتك من شرّهم، وإهلاكهم، لن يصلوا بسوء إليك ولا إلى ضيوفك، وحينئذ طمس الله أعينهم، فلم يعودوا
115
يبصروا لوطا ومن معه، كما قال تعالى: وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ، فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ، فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ [القمر ٥٤/ ٣٧].
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ.. أي فاخرج من هذه القرية في جزء من الليل يكفي لتجاوز حدودها، كما قال تعالى: فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذّاريات ٥١/ ٣٥- ٣٦].
وَلا يَلْتَفِتْ.. أي ولا ينظر أحد منكم إلى ما وراءه أبدا، حتى لا يصيبه شيء من العذاب، أو يتعاطف معهم، وامضوا حيث تؤمرون.
إِلَّا امْرَأَتَكَ... أي امض بأهلك إلا امرأتك فلا تأخذها معك، إنه مصيبها ما أصابهم من العذاب لأنها كانت كافرة خائنة.
ثم ذكر علّة الإسراء ليلا، فقال: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ.. أي إن موعد عذابهم وبدءه هو الصّبح من طلوع الفجر إلى شروق الشّمس، كما قال تعالى:
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ [الحجر ١٥/ ٧٣].
أليس موعد الصّبح بموعد قريب، وسبب اختيار هذا الوقت كونهم متجمعين في مساكنهم. روي أنهم لما قالوا للوط عليه السّلام: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ قال: أريد أعجل من ذلك، بل الساعة، فقالوا: أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ قال المفسّرون: إن لوطا عليه السّلام لما سمع هذا الكلام، خرج بأهله في الليل.
فلما جاء أمرنا بالعذاب، وكان ذلك عند طلوع الشّمس، ونفذ قضاؤنا، جعلنا عاليها وهي سدوم سافلها، وخسفنا بهم الأرض، وأمطرنا عليهم حجارة من طين متحجّر، منضّد بعضها فوق بعض وتتابع في النّزول عليهم، مسوّمة أي معلّمة للعذاب، عليها علامة خاصة عند ربّك أي في خزائنه، كقوله تعالى:
116
وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى. فَغَشَّاها ما غَشَّى [النّجم ٥٣/ ٥٣- ٥٤]. فمن لم يمت حتى سقط للأرض، أمطر الله عليه، وهو تحت الأرض الحجارة، حجارة من سجيل، أي طين متحجّر قوي شديد.
وفي التّفسير: أمطرنا في العذاب، ومطرنا في الرّحمة.
ثم ذكر الله تعالى العبرة من القصة متوعّدا بها كلّ ظالم فقال: وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ أي وما هذه النّقمة أو تلك القرى التي وقعت فيها ممن تشبه بهم في ظلمهم كأهل مكة ببعيد عنه، والمقصود أنه تعالى يرميهم بها.
قال أنس: سأل رسول الله صلى الله عليه وسلّم جبريل عن هذا، فقال: يعني عن ظالمي أمتك، ما من ظالم منهم، إلا وهو بمعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة.
وفي هذا عبرة للظالمين في كلّ زمان ومكان. وجاء بِبَعِيدٍ مذكّرا على معنى بمكان بعيد.
ونظير الآية: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ، وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ
[الصافات ٣٧/ ١٣٧- ١٣٨]، أي وإنكم لتمرّون على ديارهم في أسفاركم نهارا أو ليلا، أفلا تعقلون وتتدبّرون بما نزل بهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت قصة لوط عليه السّلام مع قومه على ما يأتي:
١- إنّ المؤمن يغار على حرمات الله، ويستبق وقوع الحوادث استعدادا للبلاء قبل نزوله، لذا استاء لوط عليه السّلام من مجيء وقد الملائكة (ملائكة العذاب الذين بشّروا إبراهيم بالولد) وضاق صدره بمجيئهم وكرهه، وقال: هذا يوم شديد في الشّر.
لما خرجت الملائكة من عند إبراهيم، وكان بين إبراهيم وقرية لوط أربعة فراسخ، بصرت بنتا لوط- وهما تستقيان- بالملائكة، ورأتا هيئة حسنة
117
فقالتا: ما شأنكم؟ ومن أين أقبلتم؟ قالوا: من موضع كذا نريد هذه القرية، قالتا: فإن أهلها أصحاب الفواحش فقالوا: أبها من يضيفنا؟ قالتا: نعم! هذا الشيخ، وأشارتا إلى لوط فلما رأى لوط هيئتهم خاف قومه عليهم.
٢- كان مجيء القوم مسرعين بقصد ارتكاب الفاحشة دليلا ماديا محسوسا للملائكة وغيرهم على استحقاقهم العذاب الأليم والعقاب السريع. وكان سبب إسراعهم ما روي أن امرأة لوط الكافرة، لما رأت الأضياف وجمالهم وهيئتهم، خرجت حتى أتت مجالس قومها، فقالت لهم: إنّ لوطا قد أضاف الليلة فتية، ما رئي مثلهم جمالا وكذا وكذا، فحينئذ جاؤوا يهرعون إليه.
ويذكر أن الرّسل لما وصلوا إلى بلد لوط، وجدوا لوطا في حرث (بستان) له. وقيل: وجدوا ابنته تستقي ماء من نهر سدوم.. إلخ ما ذكر سابقا.
٣- كان قوم لوط يعملون السّيئات، أي كانت عادتهم إتيان الرّجال، فلما جاؤوا إلى لوط، وقصدوا أضيافه قام إليهم لوط مدافعا، وقال: هؤلاء بناتي، أي أرشدهم إلى التّزوج بالنّساء، وإيثار البنات على الأضياف وقيل: ندبهم في هذه الحالة إلى النّكاح، وكانت سنّتهم جواز نكاح الكافر المؤمنة وقد كان هذا في أول الإسلام جائزا ثم نسخ فزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلّم بنتا له من عقبة بن أبي لهب، والأخرى من أبي العاص بن الرّبيع قبل البعثة والوحي، وكانا كافرين.
وقال جماعة من المفسّرين كمجاهد وسعيد بن جبير: أشار بقوله:
بَناتِي إلى النّساء جملة إذ نبيّ القوم أب لهم، ويؤيّد هذا أن في قراءة ابن مسعود: «النّبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأزواجه أمهاتهم، وهو أب لهم»، والظاهر أن هذا هو أمثل الآراء وأقربها إلى الصحة.
118
٤- إن الكريم الشّهم الأبي هو الذي يحافظ على كرامة ضيوفه، لذا قال لوط: فَاتَّقُوا اللَّهَ، وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أي لا تهينوني ولا تذلّوني.
ثم وبّخهم بقوله: أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ؟ أي شديد يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، أو ذو رشد، أو راشد أو مرشد أي صالح أو مصلح. والرّشد والرّشاد: الهدي والاستقامة.
٥- من ألف الفساد والفحش بعد عن الصّلاح والطّهر، لذا قال قوم لوط:
لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ أي ليس لنا إلى بناتك رغبة ولا هنّ نقصد، ولا لنا عادة نطلب ذلك، فإن نكاح الإناث أمر خارج عن مذهبنا أو طريقنا الذي نحن عليه، ولا حاجة لنا بالبنات، أو لأنك لا ترى مناكحتنا، وما هو إلا عرض لا جدّية فيه، فقوله: مِنْ حَقٍّ أي مالنا في بناتك من حاجة ولا شهوة.
ثم أعلنوا عن شهوتهم فقالوا: وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ إشارة إلى الأضياف، والرّغبة في إتيان الذّكور، وما لهم فيه من الشّهوة.
٦- لم يجد لوط عليه السّلام سبيلا للرّدع والإرهاب إلا التّهديد وإظهار الغضب والضّجر من موقف قومه، واستمرارهم في غيّهم، وضعفه عنهم وعجزه عن دفعهم، فتمنى لو وجد عونا على ردّهم، وقال على جهة التّفجع والاستكانة:
لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أي أنصارا وأعوانا، لرددت أهل الفساد، وحلت بينهم وبين ما يريدون، أو لو أجد ملجأ ألجأ وأنضوي إليه من قبيلة أو عشيرة تؤازرني ضدّ البغي والبغاة، والظّلم والظّالمين، والفسق والفاسقين. وهو دليل على أن لوطا كان في غاية القلق والحزن بسبب إقدام أولئك الأوباش على ما يوجب الفضيحة في حقّ أضيافه.
119
٧- لما رأت الملائكة حزن لوط عليه السّلام واضطرابه ومدافعته، عرّفوه بأنفسهم: قالُوا: يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ فلما علم أنهم رسل، مكّن قومه من الدّخول، فأمر جبريل عليه السّلام يده على أعينهم فعموا، وعلى أيديهم فجفّت.
وطمأنوه بقولهم: لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ بمكروه، وكان كلام الملائكة متضمّنا أنواعا خمسة من البشارات هي: أنهم رسل الله، وأن الكفار لن يصلوا إلى ما همّوا به، وأنه تعالى يهلكهم، وأنه تعالى ينجيه مع أهله من ذلك العذاب، وأن ركنه شديد، وأن ناصره هو الله تعالى.
٨- اقتضت رحمة الله تعالى وعدله إنجاء المؤمنين وإهلاك الكافرين، وتلك معجزة للنّبي وتكريم لمن آمن معه، وردع للظّالمين وإرهاب للكافرين. فأنقذ الله لوطا وأهله وهم بنتاه إلا امرأته، وأهلك قومه.
٩- كان إهلاك قوم لوط ما بين طلوع الفجر إلى شروق الشمس بقلب جبريل عليه السّلام قرى قوم لوط وجعل عاليها سافلها، وهي خمس: سدوم (وهي القرية العظمى) وعامورا، ودادوما، وضعوة، وقتم.
أي أن العذاب له وصفان: الأول: قوله تعالى: جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها، ثم قلبها دفعة واحدة وضربها على الأرض، والثاني قوله تعالى:
وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ.
وكان هذا العمل معجزة قاهرة من وجهين:
أحدهما- أن قلع الأرض وإصعادها إلى قريب من السماء فعل خارق للعادة.
والثاني- أن ضربها من ذلك البعد البعيد على الأرض، بحيث لم تتحرك
120
سائر القرى المحيطة بها بتاتا أمر عجيب.
ثم إن عدم وصول الآفة إلى لوط عليه السّلام وأهله، مع قرب مكانهم من ذلك الموضع معجزة قاهرة أيضا.
١٠- وصف الله تعالى الحجارة التي رمي بها قوم لوط بصفات ثلاث هي:
الأولى- كونها من سجّيل، أي الشّديد الكثير، أو الطين المتحجّر.
الثانية- قوله تعالى: مَنْضُودٍ أي متتابع، أو مصفوف بعضه على بعض، أو مرصوص.
الثالثة- مُسَوَّمَةً أي معلّمة، من السّيما وهي العلامة، أي كان عليها أمثال الخواتيم.
وقوله تعالى: عِنْدَ رَبِّكَ قال الحسن: دليل على أنها ليست من حجارة الأرض.
وقوله تعالى: وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ يعني قوم لوط أي لم تكن تخطئهم، وهي أيضا عبرة لكلّ ظالم من أهل مكة وغيرهم.
روي عن النّبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «سيكون في آخر أمتي قوم يكتفي رجالهم بالرّجال، ونساؤهم بالنّساء، فإذا كان ذلك، فارتقبوا عذاب قوم لوط، أن يرسل الله عليهم حجارة من سجّيل»، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلّم: وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ.
١١- دلّ قوله تعالى: وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ على أن من فعل فعل قوم لوط، حكمه الرّجم، كما تقدّم في سورة الأعراف.
121
قصة شعيب عليه السّلام
[سورة هود (١١) : الآيات ٨٤ الى ٩٥]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦) قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (٨٨)
وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (٩٠) قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (٩١) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٩٢) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (٩٣)
وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٩٤) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (٩٥)
122
الإعراب:
مُفْسِدِينَ حال مؤكدة لمعنى عاملها: تَعْثَوْا.
أَنْ نَفْعَلَ في موضع نصب، معطوف على نَتْرُكَ أي: أن نترك عبادة آبائنا وفعل ما نشاء في أموالنا.
لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي فاعل، والضمير مفعول أول، والثاني: أَنْ يُصِيبَكُمْ.
ضَعِيفاً حال من كاف لَنَراكَ لأنه من رؤية العين، ولو كان من رؤية القلب لكان مفعولا ثانيا.
مَنْ يَأْتِيهِ اسم موصول بمعنى الذي في موضع نصب بتعلمون.
وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ جاء بالتاء هنا على الأصل، ولم يعتد بالفصل بالمفعول به بين الفعل والفاعل، وقد جاء القرآن بالوجهين، وكأنه جيء بالتاء هاهنا طلبا للمشاكلة لأن بعدها: كما بعدت ثمود، وأنث الفعل على لفظ الصيحة، وذكر في قصة صالح على معنى الصياح.
البلاغة:
عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ مجاز عقلي، أسند الإحاطة للزمان الذي هو اليوم، مع أنه ليس بجسم والعذاب فيه.
وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا فيه استعارة تمثيلية كالشيء الذي يلقى وراء الظهر.
123
المفردات اللغوية:
وَإِلى مَدْيَنَ أي وأرسلنا إلى مدين. والمراد أهل مدين، وهو بلد بناه مدين بن إبراهيم عليه السّلام، فسمي باسمه. اعْبُدُوا اللَّهَ وحدوه. إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ بثروة، وسعة في الرزق، ونعمة تغنيكم عن التطفيف، أو أراكم بنعمة من الله تعالى، حقها أن تقابل بغير ما تفعلون، أو أراكم بخير، فلا تزيلوه عنكم بما أنتم عليه. وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ إن لم تؤمنوا عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ بكم، لا يشذ منه أحد منكم، يهلككم، ووصف اليوم به مجاز، لوقوعه فيه.
أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ أوفوهما بالعدل، أمر بالإيفاء بعد النهي عن ضده مبالغة وتنبيها على أنه لا يكفيهم الكف عن تعمد التطفيف، بل يلزمهم السعي في الإيفاء، ولو بزيادة لا يتأتى دونها. وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ لا تنقصوا من حقهم شيئا. وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ أي تفسدوا، بنقص الحق أو القتل أو غيره كالسرقة والغارة، وكل من الجملتين الأخيرتين تعميم بعد تخصيص، فقوله: لا تَبْخَسُوا أعم من أن يكون في المقدار أو في غيره. وقوله:
لا تَعْثَوْا يعمّ العثو تنقيص الحقوق وغيره من أنواع الفساد.
بَقِيَّتُ اللَّهِ رزقه الباقي لكم بعد إيفاء الكيل والوزن، أو ما أبقاه الله لكم من الحلال بعد التنزه عما حرم عليكم خَيْرٌ لَكُمْ من البخس ومما تجمعون بالتطفيف إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بشرط أن تؤمنوا، فإن ثواب الفعل الصالح والنجاة مشروط بالإيمان وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ أحفظكم عن القبائح، أو رقيب أحفظ عليكم أعمالكم، فأجازيكم عليها، وإنما أنا نذير ناصح مبلّغ، وقد أعذرت حين أنذرت.
قالُوا: يا شُعَيْبُ قالوا له استهزاء. أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا من الأصنام، أجابوا به بعد أن أمرهم بالتوحيد. أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا معطوف على ما، أي: وأن نترك فعلنا ما نشاء بأموالنا، والمعنى: هذا أمر باطل لا يدعو إليه داع بخير، وقصدوا الاستهزاء بصلاته، وكان شعيب كثير الصلوات، فخصوا الصلاة بالذكر، وقالوا: إن دعوتك لا يؤيدها داع عقلي، وإنما دعاك إليه خطرات ووساوس من جنس ما تواظب عليه من الصلاة. إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ قالوا ذلك استهزاء، وتهكموا به وقصدوا وصفه بضد ذلك. والحليم: العاقل المتأني، والرشيد: المستقيم على الهداية الراسخ فيها.
قالَ: يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي إشارة إلى ما آتاه الله من العلم والنبوة.
وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً ضمير مِنْهُ عائد إلى الله، وذلك إشارة إلى ما آتاه الله من الحلال، فهل أشوبه بالحرام، من البخس والتطفيف. وجواب الشرط محذوف تقديره: فهل يعقل لي مع هذه السعادة الروحانية والجسمانية أن أخون في وحيه وأخالفه في أمره ونهيه؟! وهو اعتذار عما أنكروا عليه من تغيير المألوف والنهي عن دين الآباء. إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ أذهب إلى ما نهيتكم
124
عنه فأرتكبه. إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ أي ما أريد إلا أن أصلحكم بالعدل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ أي وما قدرتي على ذلك وغيره من الطاعات، وما توفيقي لإصابة الحق والصواب إلا بهدايته ومعونته. عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ فوضت أمري إليه، فإنه القادر المتمكن من كل شيء، وما عداه عاجز في ذاته، بل معدوم ساقط عن درجة الاعتبار، وفيه إشارة إلى محض التوحيد. وَإِلَيْهِ أُنِيبُ أرجع، إشارة إلى معرفة المعاد، وهو أيضا يفيد الحصر، بتقديم الصلة على الفعل.
وفي هذه الكلمات طلب التوفيق لإصابة الحق من الله تعالى، والاستعانة به في أموره كلها، والإقبال عليه، وحسم أطماع الكفار، وعدم المبالاة بمعاداتهم، وتهديهم بالرجوع إلى الله للجزاء.
لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي لا يكسبنكم خلافي الشديد معكم ومعاداتي. ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ من الغرق أَوْ قَوْمَ هُودٍ من الريح أَوْ قَوْمَ صالِحٍ من الرجفة وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ أي منازلهم أو زمن هلاكهم، أي مكانا أو زمانا، فإن لم تعتبروا بمن قبلهم، فاعتبروا بهم. وإفراد بِبَعِيدٍ إما لأن المراد: وما إهلاكهم ببعيد، أو ما هم بشيء بعيد، أو بزمان أو مكان بعيد.
إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ بالمؤمنين، عظيم الرحمة بالتائبين. وَدُودٌ محب لهم، فاعل بهم من اللطف والإحسان ما يفعل الصادق الود بمن يوده، وهو وعد على التوبة بعد الوعيد على الإصرار.
قالُوا إيذانا بقلة المبالاة. ما نَفْقَهُ ما نفهم، والفقه: الفهم الدقيق المتعمق. مِمَّا تَقُولُ من التوحيد. ضَعِيفاً ذليلا رَهْطُكَ عشيرتك وقومك، والرهط: من الثلاثة إلى العشرة. لَرَجَمْناكَ بالحجارة. بِعَزِيزٍ أي كريم عن الرجم. وهذا ديدن السفيه المحجوج يقابل الحجج والآيات بالسب والتهديد.
أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ فتتركوا قتلي لأجلهم، ولا تحفظوني لله. وَاتَّخَذْتُمُوهُ أي الله. وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا جعلتموه بشرككم كالشيء الملقى خلف الظهر، لا تراقبونه، أو كالمنسي المنبوذ وراء الظهر بإشراككم به وإهانة رسوله. مُحِيطٌ علما بما تعملون، فيجازيكم لأنه لا يخفى عليه شيء منها.
عَلى مَكانَتِكُمْ حالتكم وتمكنكم في قوتكم. إِنِّي عامِلٌ على حالتي. سَوْفَ تَعْلَمُونَ الذي يعذبه الله تعالى. وَارْتَقِبُوا انتظروا عاقبة أمركم. رَقِيبٌ منتظر. وقد سبق مثله في سورة الأنعام بالفاء: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الأنعام ٦/ ١٣٥ ومواضع أخرى] والفاء للتصريح بان الإصرار على الكفر سبب للعذاب، وحذفها هاهنا لأنه جواب سائل قال: فماذا يكون بعد ذلك؟
فهو أبلغ في التهويل.
وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا بإهلاكهم. الصَّيْحَةُ صاح بهم جبريل فهلكوا. جاثِمِينَ
125
باركين على الرّكب ميتين. كَأَنْ مخففة أي كأنهم لَمْ يَغْنَوْا يقيموا. كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ شبههم بهم لأن عذابهم أيضا كان بالصيحة، غير أن صيحتهم كانت من تحتهم، وصيحة مدين كانت من فوقهم.
المناسبة:
هذه هي القصة السادسة من القصص المذكورة في هذه السورة، وقد تقدم ذكر هذه القصة في سورة الأعراف، وجيء بها في كل موضع لعظة وعبرة وأحكام مختلفة، مع اختلاف في الأسلوب والنظم.
وتضمنت القصة هنا تبليغ شعيب عليه السّلام دعوته، ومناقشة قومه له وردّه عليهم، وإنذار شعيب لهم بالعذاب، ثم وقوعه بالفعل، ونجاة المؤمنين.
ومدين: اسم مدينة بين الحجاز والشام قرب (معان) بناها مدين بن إبراهيم عليه السّلام.
التفسير والبيان:
ولقد أرسلنا إلى مدين أخاهم في القبيلة شعيبا الذي كان من أشرفهم نسبا، فقال: يا قوم اعبدوا الله وحده لا شريك له، فهذا أمر بالتوحيد الذي هو أصل الإيمان، ثم نهاهم عن التطفيف في المكيال والميزان فقال: وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ أي لا تنقصوا الناس حقوقهم في المكيال والميزان، كما قال تعالى:
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ. الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ. وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ [المطففين ٨٣/ ١- ٣] والمطففون: المنقصون، ويُخْسِرُونَ: ينقصون.
إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ أي إني أراكم بثروة وسعة في الرزق ورفاه في المعيشة، تغنيكم عن الطمع والدناءة في بخس الناس حقوقهم، وإني أخاف أن تسلبوا ما أنتم فيه بانتهاككم محارم الله تعالى، وإني أخشى عليكم عذاب يوم يحيط بكم جميعا،
126
فلا يترك أحدا منكم، وهو إما عذاب الاستئصال في الدنيا، وإما عذاب الآخرة في جهنم.
ويا قوم وفّوا الكيل والوزن بالعدل، آخذين ومعطين، وهو أمر بالإيفاء بعد النهي عن البخس، للتأكيد والتنبيه على أنه لا يكفي الامتناع عن تعمد التطفيف، بل يلزمهم الإيفاء ولو بزيادة قليلة.
ثم نهاهم عن النقص في كل الأشياء، فقال: وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ والبخس: النقص في كل الأشياء، أي إياكم والظلم أو الجور في حقوق الناس.
وَلا تَعْثَوْا.. العثو: الفساد التام، أي لا تفسدوا شيئا من مصالح الدين والدنيا، وقد كانوا يقطعون الطريق، وأنتم تتعمدون الإفساد، فقوله تعالى:
وَلا تَعْثَوْا يشمل إنقاص الحقوق وغيره من أنواع الفساد الدنيوية والدينية، وقوله بعدها مُفْسِدِينَ معناه: حالة كونكم قاصدين الإفساد، فلا إثم في حال الخطأ أو إرادة الإصلاح.
بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ.. أي ما يبقى لكم من الربح الحلال بعد إيفاء المكيال والميزان خير لكم من الحرام، وأكثر بركة وأرجى عاقبة مما تأخذونه بطريق الحرام، بشرط أن تكونوا مؤمنين لأن جعل البقية خيرا لهم إنما هو متحقق في حال الإيمان، وأما مع الكفر فلا خير لهم في شيء من الأعمال، ثم إن الإيمان حافز باعث على الطاعة، فإنهم إن كانوا مؤمنين مقرين بالثواب والعقاب، عملوا على تحصيل ما يؤدي إلى الثواب والنجاة من العقاب، وذلك خير من مسعاهم في أخذ الزائد القليل من الحرام في أثناء الكيل والوزن.
وما أنا عليكم برقيب على أعمالكم، ولا مستطيع منعكم من القبائح، وإنما أنا ناصح أمين، فافعلوا الحلال والواجب بدافع من أنفسكم لله عز وجل، ولا تفعلوه ليراكم الناس، ما علي إلا البلاغ، وعلى الله حساب الأقوال والأفعال.
127
ثم ذكر الله تعالى ردّ أهل مدين على شعيب عليه السّلام في الأمر بعبادة الله وحده، وترك البخس أو عدم نقص الكيل والميزان.
أما الردّ على الأول وهو العبادة لله فقالوا: يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ... أي هل صلاتك (أي الأعمال المخصوصة) - وكان شعيب كثير الصلاة- تأمرك بترك عبادة الآباء والأجداد وهي عبادة الأوثان والأصنام؟! قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء والسخرية، وأعلنوا التمسك بطريقة التقليد في التدين والإيمان، كما يقال اليوم لعالم الدين المصلح: هل علمك أو مشيختك دافع لك إلى ترك ما نحن عليه؟! وأما الرّد على الأمر الثاني وهو ترك البخس فقالوا: أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا.. أي وهل صلاتك تأمرك أن نفعل في أموالنا ما نريد فعله؟ والمقصود بيان أنهم أحرار في أموالهم يتصرفون فيها بما هو مصلحة لهم، ولا يؤدون الزكاة، ولا ينفقون منها شيئا في سبيل الخير، وإنما يزيدونها بمختلف الوسائل، فما أمرتنا به من ترك التطفيف والبخس، والاقتناع بالحلال القليل، وأنه خير من الحرام الكثير، مناف لسياسة تنمية المال وتكثيره، وما ذلك إلا حجر على حريتنا الاقتصادية.
والخلاصة: أن ردهم على شعيب في الأمرين تضمن إمعانهم في التمسك بالتقليد، وفي الطمع المادي الذي لا يبالي فيه صاحبه بالحلال والحرام.
ثم أكدوا سخريتهم وهزءهم بقولهم: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ أي إنك لصاحب الحلم والأناة والعقل والتروي، والرشد والاستقامة! وأرادوا وصفه بضد ذلك من الجهالة والطيش وسفاهة الرأي، وغواية الفعل، فعكسوا ليتهكموا به.
ثم حسم أطماع الكفر فقال: يا قَوْمِ، أَرَأَيْتُمْ.. أي أخبروني يا قوم إن كنت على بصيرة من ربي فيما أدعو إليه، ويقين تام وحجة واضحة فيما آمركم به
128
وأنهاكم عنه، ورزقني من لدنه رزقا طيبا من النبوة والحكمة، أو رزقا حسنا حلالا طيبا من غير بخس ولا تطفيف، أخبروني إن كنت على يقين من ربي، وكنت نبيا على الحقيقة، أيصح لي ألا آمركم بترك عبادة الأوثان، والكف عن المعاصي، والأنبياء لا يبعثون إلا لذلك، فجواب الكلام محذوف.
وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ أي لا أنهاكم عن الشيء، وأخالف أنا في السر، فأفعله خفية عنكم، والمراد لم أكن أنهاكم عن أمر وأرتكبه، بل أنا متمسك به.
ثم أكد مهمته: إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ... أي ما أريد إلا أن أصلحكم بموعظتي ونصيحتي، وأمري بالمعروف، ونهي عن المنكر، مدة استطاعتي للإصلاح، لا آلو جهدا في ذلك. وفيه إيماء إلى إثبات عقله ورشده، وإبطال تهكمكم.
وما توفيقي في إصابة الحق فيما أريده إلا بالله وهدايته وعونه، عليه توكلت في جميع أموري، ومنها تبليغ رسالتي، وإليه أنيب أي أرجع. وهذا يعني ثباته على المبدأ والدعوة، دون أن يخشى منهم سوءا.
ويا قوم، لا يحملنكم خلافي معكم، ولا تحملنكم عداوتي وبغضي على الإصرار على ما أنتم عليه من الكفر والفساد، فيصيبكم ما أصاب غيركم وأمثالكم من العذاب والنقمة، مثل ما أصاب قوم نوح من الغرق، أو قوم هود من الريح الصرصر العاتية، أو قوم صالح من الرجفة.
وما حدث بقوم لوط من العذاب ليس ببعيد زمانا ولا مكانا، فإن لم تعتبروا بمن قبلهم، فاعتبروا بهم.
وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ.. أي اطلبوا المغفرة من ربكم على سالف الذنوب من
129
عبادة الأوثان ونجس المكيال والميزان، ثم توبوا إليه فيما تستقبلونه من الأعمال السيئة، وارجعوا إلى طاعته، فإن ربي رحيم بمن تاب إليه وأناب، كثير الود والمحبة، يحب من تاب، فهو عظيم الرحمة للتائبين، كثير المودة فاعل بهم ما يفعل البليغ المودّة بمن يودّه من الإحسان. وهذا دليل على أن الاستغفار والتوبة عن الذنوب يسقطها، ويكون سببا لخيري الدنيا والآخرة.
وبعد أن فشلت المحاورات والمجادلات، لجأ القوم إلى الإهانة والتهديد وإلصاق التهم الباطلة بشعيب عليه السّلام، وعدم المبالاة به.
قالُوا: يا شُعَيْبُ، ما نَفْقَهُ.. قال أهل مدين: يا شعيب ما نفهم كثيرا من قولك، مع أنه كما قال الثوري: كان يقال له خطيب الأنبياء، وأنت واحد ضعيف، لا حول لك ولا قوة ولا قدرة على شيء من النفع والضر، ولولا جماعتك وعشيرتك الأقربون ومعزتهم علينا، لرجمناك بالحجارة، وليس عندنا لك معزة ولا تكريم، ولا حرمة ولا منزلة في الصدور. والرهط: من الثلاثة إلى العشرة، ورهط الرجل: عشيرته الذين يستند إليهم ويتقوى بهم. والمعنى أنك لما لم تكن علينا عزيزا، سهل علينا الإقدام على قتلك وإيذائك.
وكل ما ذكروه لا يبطل ما قرره شعيب عليه السّلام من الدلائل، بل هو مقابلة الدليل والحجة بالشتم والسفاهة.
فوبخهم شعيب على سفاهتهم: قالَ: يا قَوْمِ، أَرَهْطِي... أي يا قومي وأهلي، أرهطي أعز وأكرم عليكم من الله، أتتركوني لأجل قومي؟
ولا تتركوني لأجل الله، والله تعالى أولى أن يتبع أمره، وقد اتخذتم جانب الله وراءكم ظهريا، أي نبذتموه خلفكم لا تطيعونه ولا تعظمونه، ولا تخافون بأسه وعقابه إن أقدمتم على الإساءة لنبيه ورسوله. إن ربي محيط علمه بعملكم، عالم بأحوالكم، فلا يخفى عليه شيء منها، وسيجازيكم. وذلك تحذير وتهديد ووعيد.
130
ولما يئس شعيب عليه السّلام من استجابتهم لدعوته أعلن موقف الحسم والفصل فيما بينه وبينهم: وَيا قَوْمِ، اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ.. أي يا قوم اعملوا على طريقتكم، واعملوا كل ما في وسعكم وطاقتكم على إلحاق الشر بي، فإني أيضا عامل على طريقتي بما آتاني الله من القدرة، أي أنتم باقون على الكفر والضلال، وأنا ثابت على الدعوة والثقة بقدرة الله تعالى، وهذا تهديد شديد.
سوف تعلمون من ينزل به عذاب يخزيه ويذله في الدنيا والآخرة، ومن هو كاذب في قوله مني ومنكم، وانتظروا ما أقول لكم من إيقاع العذاب، إني معكم رقيب منتظر. وهذا تصريح منه بالوعيد، بعد الترك على ما هم عليه.
ثم جاء ما يؤيد صدقه: وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا... أي ولما جاء أمرنا بعذابهم، ونفذ قضاؤنا فيهم، نجينا رسولنا شعيبا والمؤمنين معه، برحمة خاصة بهم، وأخذت الظالمين بظلمهم الصيحة: وهي صوت من السماء شديد مهلك مرجف، وفي سورة الأعراف: هي الرجفة، وفي الشعراء: عذاب يوم الظلة، وهم أمة واحدة، اجتمع عليهم يوم عذابهم هذه النقم كلها، فأصبحوا قعودا ميتين لا يتحركون، وقد اختلف التعبير في كل سورة بما يناسب الإساءة، ففي الأعراف هددوا بإخراج شعيب ومن معه من قريتهم، فذكر هناك الرجفة، وهنا أساؤوا الأدب في مقالتهم مع نبيهم فذكر الصيحة التي أخمدتهم، وفي الشعراء طلبوا إسقاط كسف من السماء عليهم، فأخذهم عذاب يوم الظلة.
كأنهم لم يقيموا في بلادهم طويلا في رغد عيش، ولم يعيشوا فيها قبل ذلك، ألا بعدا من رحمة الله، وهلاكا لهم، كما بعدت وهلكت من قبلهم ثمود، وكانوا جيرانهم قريبا منهم في الدار، وشبيها بهم في الكفر وقطع الطريق، وكانوا عربا مثلهم.
فكان عذابهم واحدا وهو الصاعقة ذات الصوت الشديد، التي زلزلت الأرض
131
من شدتها ورجفت، فخروا ميتين. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لم يعذب الله تعالى أمتين بعذاب واحد إلا قوم شعيب وقوم صالح، فأما قوم صالح فأخذتهم الصيحة من تحتهم، وقوم شعيب أخذتهم من فوقهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت قصة شعيب مع قومه على ما يأتي، ومجملة: إيقاع العذاب بعد الإعراض عن رسالة السماء:
١- اشتملت دعوة شعيب على جانبين: إصلاح العقيدة وإصلاح الحياة الاجتماعية، ففي الجانب الأول: دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وفي الجانب الثاني: أمرهم بإيفاء الكيل والميزان وترك البخس والنقص أو التطفيف، فإنهم كانوا مع كفرهم أهل بخس ونقص في حقوق الناس كانوا إذا جاءهم البائع بالطعام، أخذوا بكيل زائد، واستوفوا بغاية ما يقدرون عليه وظلموا وإن جاءهم مشتر للطعام باعوه بكيل ناقص، وشحوا عليه بما يقدرون، فأمروا بالإيمان إقلاعا عن الشرك، وبالوفاء بالحق التام الكامل نهيا عن التطفيف، علما بأنهم كانوا بخير وفي سعة من الرزق وكثرة النعم، لكن الطمع والشره المادي أرادهم وجعل سمعتهم سيئة بين الناس.
٢- كان عذاب أهل مدين عذاب استئصال في الدنيا، ودمار عام لقوله تعالى: وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ وصف اليوم بالإحاطة، أي الإحاطة بهم، فإن يوم العذاب إذا أحاط بهم، فقد أحاط العذاب بهم، وهو كقولك: يوم شديد أي شديد حره. وقيل: هو عذاب النار في الآخرة. جاء
في الحديث الذي رواه الطبراني عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلّم: «ما أظهر قوم البخس في المكيال والميزان إلا ابتلاهم الله بالقحط والغلاء».
132
٣- اكتفى شعيب بمرة واحدة بالدعوة إلى توحيد الإله، ولكنه كرر وأكد النهي عن بخس الحقوق بألوان مختلفة، فأمر بالإيفاء (أي الإتمام) بعد أن نهى عن التطفيف تأكيدا، ووصف الإيفاء بالقسط أي بالعدل والحق، لكي يصل كل ذي حق إلى حقه، وأراد ألا تنقصوا حجم المكيال عن المعهود، وكذا الصّنجات، ثم عمم بعد التخصيص عن بخس الناس أشياءهم، أي لا تنقصوهم مما استحقوه شيئا، ثم نهى عن الإفساد في مصالح الدنيا والآخرة: وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ أي أن الخيانة في المكيال والميزان مبالغة في الفساد في الأرض.
وذكر أن البخس بطر وترف وطمع، فلم يكونوا بحاجة، وإنما كانوا بخير:
إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ أي سعة في الرزق والمعيشة، وقال: بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ أي ما يبقيه الله لكم بعد إيفاء الحقوق بالقسط أكثر بركة، وأحمد عاقبة مما تبقونه أنتم لأنفسكم من فضل التطفيف بالتجبر والظلم. وشرط للاستقامة وجود الإيمان:
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ شرط هذا لأنهم إنما يعرفون صحة كون بقية الله خيرا إن كانوا مؤمنين.
وجعل رقابة الله في السر والعلن على كل تاجر هي الأساس والباعث على الخشية والطاعة وأداء الحقوق: وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ أي رقيب أرقبكم عند كيلكم ووزنكم، فلا يمكنني شهود كل معاملة تصدر منكم حتى أؤاخذكم بإيفاء الحق.
٤- كانت ردود القوم المحجوجين بالأدلة والبينات في غاية الجهالة والسفاهة، فأعلنوا تمسكهم بالتقليد في عبادة الأوثان والأصنام، وادعاء حريتهم التجارية التي لا تقوم على العدل والحق، وسخروا من صلاته وعبادته التي كان يكثر منها، ونالوا من صفاته، فقالوا على سبيل الاستهزاء والسخرية:
أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ؟ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ! أي أنت ذو سفاهة
133
وطيش، وغواية وضلال، لا لشيء إلا لأن شعيبا عليه السّلام أمرهم بترك ما كان يعبد آباؤهم!! وإنما أقروا له بذلك لأنه كان مشهورا فيما بين الناس بصفة الحلم والرشد.
٥- كان من قبائحهم قرض الدراهم لتنقيص قدرها، وكسرها لإفساد وصفها، قال المفسرون: كان مما ينهاهم عنه، وعذّبوا لأجله قطع الدنانير والدراهم، كانوا يقرضون من أطراف الصحاح لتفضل لهم القراضة، وكانوا يتعاملون على الصحاح عدّا، وعلى المقروضة وزنا، وكانوا يبخسون في الوزن.
وتلك معاص ومفاسد تستحق العقاب، وتوجب ردّ الشهادة.
٦- حسم شعيب عليه السّلام أطماع الكفار، سواء في العقيدة أو في صلاح التعامل، وأعلن ثباته على مبدئه بقوله: إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ أي ما أريد إلا فعل الصلاح وإزالة الفساد، وهو أن تصلحوا دنياكم بالعدل، وآخرتكم بالعبادة، ولم يتزحزح عن موقفه في توحيد الله تعالى: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وثقته به وتفويض أمره إليه ورجوعه إليه في جميع النوائب، واعتماده في الرشد والتوفيق عليه: وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْهِ أُنِيبُ.
وإذا كانت هذه صفاتي فاعلموا أن أمري بالتوحيد وترك إيذاء الناس هو دين حق، وأن مهمتي هي الإبلاغ والإنذار، وأما الإجبار على الطاعة فلا أقدر عليه.
ولم يتردد شعيب عليه السّلام لحظة واحدة في إيفاء الحقوق وإتمام الكيل والميزان: وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً أي واسعا حلالا، وكان شعيب عليه السّلام كثير المال وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ أي ليس
134
أنهاكم عن شيء وأرتكبه، كما لا أترك ما أمرتكم به. وهكذا فإن فعل النبي مطابق لقوله لأنه الأسوة الحسنة، ولا يعقل غير ذلك.
والخلاصة: إنه تعالى لما آتاني جميع السعادات الروحانية والجسمانية، وهي المال والرزق الحسن، فهل يسعني مع هذا الإنعام العظيم أن أخون في وحيه، وأن أخالفه في أمره ونهيه.
٧- دلّ قوله: وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً على أن ذلك الرزق إنما حصل من عند الله تعالى وبإعانته، وأنه لا مدخل للكسب فيه، وفيه تنبيه على أن الإعزاز من الله تعالى، والإذلال من الله تعالى، وإذا كان الكل من الله فإن شعيبا أراد القول لهم: فأنا لا أبالي بمخالفتكم، ولا أفرح بموافقتكم، وإنما أقرر دين الله، وأوضح شرائعه.
٨- التهديد والإنذار بالعذاب قبل وقوعه رحمة بالناس ولطف بهم، لعلهم يرعوون ويرجعون من قريب إلى الله تعالى وإلى طاعته، وإلى توحيده، والتخلص من الشرك والوثنية. وقد أنذر شعيب عليه السّلام قومه أهل مدين بقوله: لا يكسبنكم معاداتي أن يصيبكم عذاب الاستئصال في الدنيا، مثل ما حصل لقوم نوح عليه السّلام من الغرق، ولقوم هود من الريح العقيم، ولقوم صالح من الرجفة، ولقوم لوط من الخسف، وكانوا حديثي عهد بهلاك قوم لوط.
٩- الاستغفار والتوبة من الذنوب الماضية والتصميم على عدم العود إلى مثلها في المستقبل طريق النجاة والأمن من العذاب لأن الله عظيم الرحمة كثير الودّ والمحبة لعباده لينقذهم من العقاب.
روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه كان إذا ذكر شعيبا قال: «ذاك خطيب الأنبياء».
١٠- بعد أن يئس الكفار أهل مدين من تحقيق مآربهم عن طريق التهكم
135
والاستهزاء والسخرية من شعيب عليه السّلام، لجؤوا إلى التهديد والوعيد مظهرين أنه ضعيف لا سند له، وأنهم أعزة أقوياء، ولولا مجاملة عشيرته لقتلوه رجما بالحجارة، وما هو بعزيز عليهم ولا كريم، ولا بغالب ولا قاهر ولا ممتنع.
وهذا شأن الكفار عادة، يعتمدون على القوة المادية، ويهملون النظر إلى تدبير الله وقوته وقهره وقدرته، لذا أراد شعيب أن يلفت نظرهم إلى ضرورة رعاية جانب الله تعالى، وليس مجرد رعاية جانب قومه، فقال: أنتم تزعمون أنكم تتركون قتلي إكراما لرهطي، والله تعالى أولى أن يتبع أمره.
١١- قابلهم شعيب عليه السّلام بتهديد ووعيد أشد وآكد وأوقع وأصدق، وقال لهم: اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ سوف تعلمون الصادق من الكاذب، وسوف ترون من يأتيه عذاب يخزيه ويهلكه. وانتظروا العذاب والسخط، فإني منتظر النصر والرحمة.
١٢- كان عذاب أهل مدين كثمود بالصيحة، قيل: صاح بهم جبريل صيحة، فخرجت أرواحهم من أجسادهم، وصاروا ميتين، كأن لم يعيشوا في دارهم.
١٣- ينضم إلى العذاب الدعاء على الكفار وإعلان الطرد من رحمة الله تعالى: أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ أي هلاكا لهم وبعدا عن رحمة الله، كما هلكت قبلهم ثمود، وبعدت من رحمة الله تعالى.
١٤- من فضل الله ورحمته أنه نجى شعيبا ومن معه من المؤمنين، وهو تنبيه على أن كل ما يصل إلى العبد، لا يكون إلا بفضل الله ورحمته، وأن الخلاص والنجاة والإيمان والطاعة والأعمال الصالحة لا تحصل إلا بتوفيق الله تعالى.
136
قصة موسى عليه السّلام مع فرعون وملئه
[سورة هود (١١) : الآيات ٩٦ الى ٩٩]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (٩٩)
البلاغة:
فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ استعارة مكنية، شبه النار بماء يورد، وحذف المشبه به، ورمز له بشيء من لوازمه، وهو الورود، وشبه فرعون في تقدمه على قومه بمنزلة من يتقدم على الواردين إلى الماء، للري من العطش.
وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ تأكيد لما سبق لأن الورد يكون عادة لتسكين العطش، وفي النار إلهاب للعطش.
المفردات اللغوية:
بِآياتِنا أي بالمعجزات، وهي الآيات التسع المذكورة في سورة الإسراء [الآية ١٠١] وسورة النمل [الآية ١٢] والمفصّلة في سورة الأعراف [الآية ١٣٣]. وَسُلْطانٍ مُبِينٍ السلطان: الدلائل والحجج القوية الظاهرة، والمبين: الظاهر الجلي. والفرق بين هذه الكلمات الثلاث: أن الآيات: اسم للقدر المشترك بين العلامات التي تفيد الظن، وبين الدلائل التي تفيد اليقين. وأما السلطان: فهو اسم لما يفيد القطع واليقين، لكنه اسم للقدر المشترك بين الدلائل التي تؤكد بالحس، وبين الدلائل التي لم تتأكد بالحس. والسلطان المبين: هو الدليل القاطع الذي تأكد بالحس. ولما كانت معجزات موسى عليه السّلام هكذا، وصفها الله بأنها سلطان مبين.
وَمَلَائِهِ الملأ: أشراف القوم وزعماؤهم. وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ أي وما شأنه وتصرفه بمرشد أو سديد أو بذي رشد وهدى، وإنما هو غيّ محض وضلال صريح.
137
يَقْدُمُ قَوْمَهُ أي يتقدمهم يوم القيامة إلى النار، كما كان يتقدمهم في الدنيا إلى الضلال ويتبعونه في الحالين، يقال: قدم بمعنى تقدم. فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ أدخلهم فيها، ذكره بلفظ الماضي مبالغة في تحقيقه، ونزل النار لهم منزلة الماء، فسمي إتيانها موردا. وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ هي، أي بئس المورد الذي وردوه، فإن المورد يراد عادة لتبريد الأكباد وتسكين العطش، والنار بالضد من ذلك. والآية كالدليل على قوله: وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ فإن من هذه عاقبته لم يكن في أمره رشيدا.
وَأُتْبِعُوا ألحقوا فِي هذِهِ الدنيا لَعْنَةً طردا من رحمة الله وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أي يلعنون في الدنيا والآخرة بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ أي بئس العون المعان، أو العطاء المعطى.
والمخصوص بالذم محذوف، أي رفدهم وهو اللعنة في الدارين.
المناسبة:
هذه هي القصة السابعة من القصص التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة، وهي آخر قصة في هذه السورة، وقد ذكرت قصة موسى عليه السّلام مع فرعون وملئه في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، فذكرت في سورة الأعراف [١٠٤- ١٠٥] وفي سورة الشعراء [١٧- ٢٨] وفي سورة طه [٤٨- ٥٥] وفي سورة القصص [٣٨] وفي سورة غافر [٣٦- ٣٧].
والعبرة منها واضحة وهي نجاة موسى ومن آمن معه، وهلاك فرعون وأشراف قومه، واللعنة عليهم في الدنيا والآخرة، مثل كفار أولئك الأقوام الظالمين الذين أعرضوا عن دعوة أنبيائهم، كما تقدم، ولكن عذاب فرعون وملئه وهو الغرق في البحر لم يعمّ جميع قومه.
التفسير والبيان:
تالله لقد أرسلنا موسى بآياتنا التسع ودلالاتنا الباهرة الدالة على توحيد الله إلى فرعون ملك القبط وملئه، وفيها السلطان الواضح الجلي أي الدلالة القاطعة المؤيدة بالحس المشاهد، على صدق نبوته.
138
وقيل: المراد من الآيات: التوراة مع ما فيها من الشرائع والأحكام.
وقيل: المراد بها الآيات التسع البينات وهي المعجزات، وهي العصا، واليد، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، ونقص من الثمرات والأنفس. ومنهم من أبدل بنقص الثمرات والأنفس إضلال الجبل، وفلق البحر.
وفي هذه الآيات سلطان مبين لموسى على صدق نبوته.
فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ أي تبع الملأ منهج فرعون ومسلكه وطريقته في الغيّ والضلال، من الكفر بموسى، وظلم بني إسرائيل بتقتيل أبنائهم واستحياء نسائهم. وإنما خصّ الملأ بالذكر لأنهم القادة والرؤساء المستشارون والمنفذون وغيرهم تبع لهم.
وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ أي وما شأنه وتصرفه ومنهجه بصالح معقول، فليس فيه رشد ولا هدى، وإنما هو جهل وضلال، وكفر وعناد، وظلم وفساد وجزاؤهم في الآخرة: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ، فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ أي يتقدم فرعون كبير قومه وقائدهم إلى نار جهنم يوم القيامة، فيدخلهم فيها لأنه كما اتبعوه في الدنيا وكان مقدمهم ورئيسهم، كذلك هو يقدم يوم القيامة إلى النار، فأوردهم إياها، وله فيها الحظ الأوفر من العذاب الأكبر، كما قال تعالى:
فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ، فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا [المزمل ٧٣/ ١٦] وكذلك شأن المتبوعين يكونون موفرين في العذاب يوم القيامة، كما قال تعالى: لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ [الأعراف ٧/ ٣٨] وأخبر تعالى عن الكفرة أنهم يقولون في النار: رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً [الأحزاب ٣٣/ ٦٨]
وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «امرؤ القيس حامل لواء شعراء الجاهلية إلى النار».
وورد في القرآن أن آل فرعون يعرضون على النار منذ ماتوا صباحا ومساء
139
كل يوم، كما قال تعالى: وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ. النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ، أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ [غافر ٤٠/ ٤٥- ٤٦].
وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ أي وبئس المورد الذي يردونه النار وبئس المدخل المدخول فيه وهو النار لأن وارد الماء يرده للتبريد وإطفاء حرّ الظمأ، ووارد النار يزداد احتراقا بلهبها ويتلظى بسعيرها. والورد قد يكون بمعنى الورود مصدرا، وقد يكون بمعنى الوارد، والمورود: الماء الذي يورد، والموضع الذي يورد.
وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أي ألحق الله بهم زيادة على عذاب النار لعنة عظيمة في الدنيا من الأمم الآتية بعدهم، وكذلك يوم القيامة يلعنهم أهل الموقف جميعا، وهم من المقبوحين، فعليهم لعنتان في الدنيا والآخرة فوق عذابهم، كما قال تعالى: وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ [القصص ٢٨/ ٤٢] قال مجاهد: زيدوا لعنة يوم القيامة، فتلك لعنتان.
بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ أي بئس العون المعان والعطاء المعطى هذه اللعنة اللاحقة بهم في الدنيا والآخرة، فقد سميت اللعنات رفدا تهكما بهم، والرفد: هو العطية. قال ابن عباس عن هذه الجملة: هو اللعنة بعد اللعنة.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات المذكورة من قصة موسى مع فرعون وقومه إلى العظات التالية:
١- تتابعت آيات الله من التوراة وما فيها من شرائع وأحكام، ومن المعجزات الدالة على وحدانية الله تعالى، إلى فرعون وقومه، فما أفادتهم الآيات، وعصوها، واتبعوا منهج فرعون ومسلكه في الغي والضلال.
140
٢- ليس مسلك فرعون وغيره من الفراعنة المتألهين بسديد يؤدي إلى الصواب، ولا بمرشد إلى خير، وإنما هو غيّ وضلال، وكفر وفساد.
٣- كل قائد إلى الضلال في الدنيا قائد إلى النار يوم القيامة، وله عذاب مضاعف.
٤- لفرعون وآله فوق عذاب جهنم لعنتان: في الدنيا والآخرة، وهم معذبون في قبورهم عذابا شديدا، ويعرضون فيها على النار صباحا ومساء.
٥- بئست عاقبة الكافرين، وبئس العطاء المعطى لهم وهو نار جهنم، الموصوفة في قوله تعالى: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ، يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ، وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ، كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ [الحج ٢٢/ ١٩- ٢٢].
العبرة من قصص الأمم الظالمة في الدنيا
[سورة هود (١١) : الآيات ١٠٠ الى ١٠٢]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (١٠١) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢)
الإعراب:
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ مبتدأ وخبر، أو على إضمار مبتدأ أي الأمر ذلك، وذلك: يشار به إلى الواحد والاثنين والجماعة. نَقُصُّهُ عَلَيْكَ خبر بعد خبر، أي ذلك النبأ بعض أنباء القرى المهلكة مقصوص عليك.
مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ جملة مستأنفة لا محل لها، أي بعضها باق وبعضها عافي الأثر كالزرع القائم على ساقه والذي حصد.
141
وَهِيَ ظالِمَةٌ حال من القرى.
البلاغة:
مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ استعارة مكنية، شبه الباقي من آثار القرى بعد تدميرها بالزرع القائم على ساقه، وشبه ما دمّر مع أهله بالزرع المحصود.
وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بينهما طباق السلب.
إِذا أَخَذَ الْقُرى مجاز مرسل، أطلق المحل وأراد الحالّ وهو أهل القرى.
المفردات اللغوية:
ذلِكَ النبأ المذكور سابقا. مِنْ أَنْباءِ الْقُرى المهلكة. نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مقصوص عليك يا محمد. مِنْها أي من تلك القرى. قائِمٌ باق كالزرع القائم، وهلك أهله دونه.
وَحَصِيدٌ أي ومن القرى زال أثره وهلك بأهله، فلا أثر له كالزرع المحصود بالمناجل.
وَما ظَلَمْناهُمْ بإهلاكهم بغير ذنب. وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالشرك الذي عرضوها به للعذاب. فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ فما نفعتهم ولا قدرت أن تدفع عنهم، بل ضرتهم. آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ التي يعبدون. مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره. مِنْ شَيْءٍ من صلة زائدة. لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ حين جاءهم عذابه ونقمته. وَما زادُوهُمْ بعبادتهم لها. غَيْرَ تَتْبِيبٍ غير هلاك أو تخسير.
وَكَذلِكَ ومثل ذلك الأخذ. إِذا أَخَذَ الْقُرى أي أهلها. وَهِيَ ظالِمَةٌ بالذنوب، فلا يغني عنهم من أخذهم شي. إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ووجيع غير مرجوّ الخلاص منه، وهو مبالغة في التهديد والتحذير.
المناسبة:
المناسبة ظاهرة بين هذه الآيات وما قبلها من الآيات، فبعد أن ذكر الله تعالى قصص الأنبياء مع الأمم السابقة (وهي سبع قصة نوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، وشعيب، وموسى عليه السّلام) قال منبها إلى ما فيها من العظة والعبرة: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ، مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ.
فيتعلم منها الإنسان أسلوب الجدال ومقارعة الحجة بالحجة، وتأييد الأدلة
142
العقلية بالقصص الواقعية، ويتهيأ السامع والقارئ للاستفادة من عبرها وعظاتها، فيلين قلبه، وترق نفسه، وتخشع جوارحه لذكر الله ويرهب عذابه للعصاة، ويعلم أن المؤمن يخرج من الدنيا مع الثناء الجميل فيها، والثواب الجزيل في الآخرة، وأن الكافر يخرج من الدنيا مع اللعن فيها، والعقاب في الآخرة.
وهي دليل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم، لإخباره عن تلك القصص من غير مطالعة كتب، ولا مدارسة مع معلم، ولا تلمذة لأحد، وهي معجزة عظيمة تدل على النبوة، كما قال تعالى: ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى، وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ.. [يوسف ١٢/ ١١١] «١».
التفسير والبيان:
لما أخبر الله تعالى عن الأنبياء وما جرى لهم مع أممهم، وكيف أهلك الكافرين، ونجى المؤمنين قال: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى أي ذلك النبأ المذكور بعض أنباء القرى المهلكة مقصوص عليك يا محمد، لتخبر به الناس، ويتلوه المؤمنون إلى يوم القيامة تبليغا عنك. وقوله ذلِكَ إشارة إلى الغائب، والمراد به هنا الإشارة إلى القصص المتقدمة، وهي حاضرة، كما في قوله: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة ٢/ ٢].
من تلك القرى ما له أثر باق كالزرع القائم على ساقه، كقوم صالح، ومنها ما عفا أثره ودرس حتى لم يعد له أثر كالزرع المحصود، مثل قرى قوم لوط.
وما ظلمناهم بإهلاكهم من غير ذنب، ولكن ظلموا أنفسهم بتكذيبهم رسلنا وكفرهم بهم، وشركهم وإفسادهم في الأرض، وثقتهم أن آلهتهم المزعومة تدفع عنهم
(١) تفسير الرازي: ١٨/ ٥٥ [.....]
143
المخاوف والمخاطر والمحاذير. فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ.. فما نفعتهم شيئا ولا دفعت عنهم بأس الله، بل ضرتهم أوثانهم التي كانوا يعبدونها ويدعونها من دون الله أو غيره، فما نفعوهم ولا أنقذوهم بإهلاكهم. وفي قوله تعالى: الَّتِي يَدْعُونَ حذف، أي التي كانوا يدعون أي يعبدون. وقوله: وَما زادُوهُمْ فيه إضمار ومضاف محذوف أي ما زادتهم عبادة الأصنام.
وما زادوهم غير تخسير وهلاك لأن سبب هلاكهم ودمارهم إنما كان باتباعهم تلك الآلهة، فخسروا الدنيا والآخرة.
ومثل ذلك الأخذ بالعذاب، وكما أهلكنا أولئك القرون الظالمة المكذبة لرسلنا، كذلك نفعل بأشباههم، فنأخذ القرى ونهلكها وهي في حالة الظلم الشديد، إن أخذه وجيع شديد لا يرجى منه الخلاص. وهو إنذار وتحذير من سوء عاقبة الظلم. وفي قوله: وَهِيَ ظالِمَةٌ مضاف محذوف أي وأهلها ظالمون، مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف ١٢/ ٨٢]. ومعنى: إن أخذه أليم شديد أي عقوبته لأهل الشرك موجعة غليظة.
ورد في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه، لم يفلته، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ الآية».
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
١- فائدة القصص القرآني العظة والاعتبار، فإن كل من يشاهد آثار تلك القرى المهلكة، أو يعلم بما حدث لها من غير وجود أثر ظاهر، يأخذه الخوف والوجل والرهبة، ويخشى أن يتعرض لما تعرض له الأقدمون من عذاب مخيف.
144
٢- إن الله تعالى كما أخذ الأمم المتقدمة كقوم نوح، وعاد وثمود، يأخذ جميع الظالمين على النحو ذاته، كما أفاده قوله: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ... ثم زاده تأكيدا وتقوية بقوله: إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ فوصف العذاب بالإيلام والشدة، والألم وشدته سبب المنغصة في الدنيا والآخرة. والآية تفيد أن كل من شارك المتقدمين في فعل ما لا ينبغي، فلا بد وأن يشاركهم في الأخذ الأليم ٣- لم يكن عقاب تلك الأمم الظالمة إلا بما بدر منهم من ظلم وهو الكفر والمعاصي، وكان عقابهم عدلا وحكمة.
٤- كل من أقدم على ظلم، يجب عليه أن يتدارك ظلمه بالتوبة والإنابة، لئلا يقع في الأخذ الذي وصفه الله تعالى بأنه أليم شديد.
٥- لم تنفع المشركين والكافرين آلهتهم المزعومة بل أضرت بهم، وما زادتهم عبادة الأصنام إلا خسارة ثواب الآخرة.
العبرة في قصص القرآن بجزاء الآخرة
[سورة هود (١١) : الآيات ١٠٣ الى ١٠٩]
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٠٧)
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨) فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (١٠٩)
145
الإعراب:
مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ مَجْمُوعٌ خبر المبتدأ أو نعت ليوم، وقوله: ذلِكَ يَوْمٌ مبتدأ وخبر، والنَّاسُ مرفوع لمجموع، أي يجمع له الناس، لأن اسم المفعول بمنزلة اسم الفاعل في العمل لشبه الفعل.
فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ ابتداء وخبر.
يَوْمَ يَأْتِ فيه ضمير يعود إلى قوله: يَوْمٌ مَشْهُودٌ. ولا تَكَلَّمُ إما صفة ليوم، أي يوم يأتي لا تكلّم نفس فيه، كقوله تعالى: يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ [البقرة ٢/ ٤٨] أي فيه، وإما حال من ضمير يَأْتِ أي يوم يأتي اليوم المشهود غير متكلم فيه نفس، وتكلم: حذف منه إحدى التاءين. ويوم: منصوب بما دل عليه قوله تعالى: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ أي شقي حينئذ من شقي، وسعد من سعد.
ما دامَتِ السَّماواتُ.. ما ظرفية زمانية مصدرية في موضع نصب، تقديره: مدة دوام السموات والأرض.
إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ ما في موضع نصب لأنه استثناء منقطع.
عَطاءً.. منصوب على المصدر المؤكد، أي أعطوا عطاء، أو منصوب على الحال من الْجَنَّةِ.
غَيْرَ مَنْقُوصٍ حال من النصيب.
البلاغة:
شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ بينهما طباق.
فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فيه لف ونشر مرتب.
المفردات اللغوية:
إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من القصص أو ما نزل بالأمم الهالكة. لَآيَةً لعبرة لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ أي يعتبر بتلك القصص من خاف العذاب الأخروي، لعلمه بأن ما نزل بتلك الأقوام أنموذج مما أعد الله للمجرمين في الآخرة. ذلِكَ يَوْمٌ أي يوم القيامة، دل عليه عذاب الآخرة. يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ أي يجمع له الناس، واستعمل صيغة مَجْمُوعٌ للدلالة على ثبات معنى الجمع لليوم، وأنه من شأنه لا محالة، وأن الناس لا ينفكون عنه، فهو أبلغ من قوله:
يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ [التغابن ٦٤/ ٩] ومعنى الجمع له: الجمع لما فيه من الحساب والجزاء.
146
وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ يشهده جميع الخلائق، والمعنى الأدق: مشهود فيه أهل السموات والأرضين، ولو جعل اليوم مشهودا في نفسه، لبطل المقصود من تعظيم اليوم وتمييزه، فإن سائر الأيام كذلك.
وَما نُؤَخِّرُهُ أي اليوم. إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ أي لوقت معلوم عند الله، فهو على حذف مضاف، أي إلا لانتهاء مدة معدودة متناهية. يَوْمَ يَأْتِ ذلك اليوم والجزاء. إِلَّا بِإِذْنِهِ بإذن الله تعالى. فَمِنْهُمْ أي من الخلق أهل الموقف. شَقِيٌّ وجبت له النار بمقتضى الوعيد، فالشقي: من استحق النار لإساءته. وَسَعِيدٌ وجبت له الجنة، بموجب الوعد، والسعيد: من استحق الجنة لعمله مع فضل الله ورحمته فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا في علم الله تعالى.
زَفِيرٌ صوت شديد. وَشَهِيقٌ صوت ضعيف، والمراد بهما الدلالة على شدة كربهم وغمهم.
وأصل الزفير: إخراج النّفس، الشهيق: إدخال النفس مع السرعة والجهد.
خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أي مدة دوامهما في الدنيا، وليس المراد ارتباط دوامهم في النار بدوام السموات والأرض، فإن النصوص دالة على تأبيد دوامهم، وانقطاع دوامهما.
والمقصود التعبير عن التأبيد بما كانت العرب يعبرون به على سبيل التمثيل. والمفهوم لا يقاوم المنطوق. إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ غير ما شاء الله من الزيادة على مدتها، مما لا منتهى له، والمعنى:
خالدين فيها أبدا. أو أن هذا استثناء من الخلود في النار لأن بعضهم وهم فسّاق الموحدين يخرجون منها.
والخلاصة: إن خلود أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار ثابت بنصوص القرآن العديدة، وأما الاستثناء بالمشيئة هنا، فيراد به الدلالة على الثبوت والاستمرار، وعبر بذلك لبيان أن هذه القضايا بمشيئة الله تعالى إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ أي من غير اعتراض أحد.
عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ غير مقطوع، وهو تصريح بأن الثواب لا ينقطع.
فَلا تَكُ يا محمد. فِي مِرْيَةٍ شك. مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ من الأصنام، إنا نعذبهم، كما عذبنا من قبلهم، وهذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلّم. كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ أي كعبادتهم، والاستثناء بقوله:
إِلَّا كَما يَعْبُدُ معناه تعليل النهي عن المرية، أي هم وآباؤهم سواء في الشرك. نَصِيبَهُمْ حظهم من العذاب. غَيْرَ مَنْقُوصٍ أي تاما.
المناسبة:
الآيات متصلة بما قبلها من أجل بيان العبرة من قصص الأمم الظالمة، فبعد أن ذكر الله تعالى العبرة من إهلاك الأمم الظالمة في الدنيا، ذكر هنا العبرة بجزاء الآخرة لكل من الأشقياء والسعداء، وهي إقامة الدليل على صدق الأنبياء وصدق
147
وعد الله في الآخرة، والترهيب من عصيان الله والكفر به، لئلا يكون الإنسان من الأشقياء الذين يصلون النار، والترغيب بالإيمان وطاعة الله ليصير المؤمن الطائع مع السعداء الذين يتمتعون بالجنة.
التفسير والبيان:
إن في ذلك القصص المتقدم المتضمن إهلاك الكافرين وإنجاء المؤمنين لدليلا واضحا وحجة قوية على صدق وعد الله في الآخرة، لمن يؤمن بها ويخاف عذابها، فيتقي الكفر والظلم والعصيان في الدنيا لأنه يعلم أن ما أخبر به الأنبياء من البعث والجزاء صدق لا شك فيه، وأن من عذب الظالمين في الدنيا قادر أن يعذبهم في الآخرة، وأن ما أصاب المجرمين في الدنيا ما هو إلا أنموذج لعذاب الآخرة.
قال الزمخشري: قوله: إِنَّ فِي ذلِكَ إشارة إلى ما قص الله من قصص الأمم الهالكة بذنوبهم وقوله: لَآيَةً أي لعبرة لمن خاف عذاب الآخرة لأنه ينظر إلى ما أحل الله بالمجرمين في الدنيا، وما هو إلا أنموذج مما أعدّ لهم في الآخرة، فإذا رأى عظمه وشدته، اعتبر به عظم العذاب الموعود، فيكون له عبرة وعظة ولطفا في زيادة التقوى والخشية من الله تعالى، ونحوه: إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى [النازعات ٧٩/ ٢٦] «١».
ذلك اليوم يوم عذاب الآخرة يجمع فيه الناس جميعا أولهم عن آخرهم، ليحاسبوا على أعمالهم، ثم يجازوا عليها، كقوله تعالى: وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً [الكهف ١٨/ ٤٧] وذلك يوم مشهود، أي عظيم تحضره الملائكة، ويجتمع فيه الرسل، وتحشر فيه الخلائق بأسرهم من الإنس والجن والطير والوحوش والدواب، ويحكم فيه العادل الذي لا يظلم مثقال ذرة، وإن تك حسنة يضاعفها.
(١) الكشاف: ٢/ ١١٥
148
والتصرف في الخلائق، سواء في الدنيا بإهلاك تلك الأمم وأمثالها، أو في الآخرة، إنما هو بإرادة الله واختياره لتربية الأمم، لا بالطبيعة كما يزعم الماديون الذين قالوا: إن الطوفان أو الغرق، والصاعقة، وخسف الأرض أو الزلازل أمور طبيعية غير إلهية. وأبسط رد عليهم أن تلك العقوبات حدثت بعد إنذار الرسل لأقوامهم، وحددوا لهم وقتا معلوما، كما قال صالح عليه السّلام: تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ [هود ١١/ ٦٥] وقال لوط: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ [هود ١١/ ٨١].
ثم أخبر الله تعالى عن تأخير يوم القيامة وعذابه إلى أجل معين: وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ أي ما نؤخر إقامة القيامة إلا لانتهاء مدة محدودة في علمنا، لا يزاد عليها ولا ينقص منها، وهي عمر الدنيا، لإعطاء الفرصة الكافية للناس لإصلاح أعمالهم، وتصحيح عقيدتهم، كقوله تعالى: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ، لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا، لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ، بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ، لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا [الكهف ١٨/ ٥٨].
يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ.. أي يوم يأتي يوم القيامة، لا يتكلم أحد إلا بإذن الله تعالى، فهو صاحب الأمر والنهي، ولا يملك أحد فيه قولا ولا فعلا إلا بإذنه، كقوله تعالى: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا، لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ، وَقالَ صَواباً [النبأ ٧٨/ ٣٨] وقوله سبحانه: يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ، وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ، فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً [طه ٢٠/ ١٠٨].
فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ.. أي فمن أهل الجمع من الناس في ذلك اليوم شقي معذّب لكفره وعصيانه، ومنهم سعيد منعّم في الجنان لإيمانه واستقامته، كما أخبر تعالى:
فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ، وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى ٤٢/ ٧] فمن أريد له الشر فعمل
149
الشر فهو من أهل الشقاوة، ومن أريد له الخير فعمل الخير، فهو من أهل السعادة، وكل ميسر لما خلق له.
روى الترمذي والحافظ أبو يعلى في مسنده عن عمر قال: لما نزلت:
فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ سألت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، علام نعمل؟
على شيء قد فرغ منه، أم على شيء لم يفرغ منه؟ فقال: «على شيء قد فرغ منه يا عمر، وجرت به الأقلام، ولكن كل ميسّر لما خلق له، وقرأ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى [الليل ٩٢/ ٥- ١٠].
ثم بيّن الله تعالى حال الأشقياء وحال السعداء فقال عن الفريق الأول:
فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا.. أي فأما الأشقياء فهم في جهنم مستقرهم ومثواهم، بسبب اعتقادهم الفاسد وعملهم السيء، لهم من الهم والكرب وضيق الصدر زفير وشهيق، تنفسهم زفير، وإخراجهم النّفس، وشهيق، لما هم فيه من العذاب، كما ذكر ابن كثير، مع أن الزفير في العادة هو إخراج النّفس، والشهيق: ردّه.
خالِدِينَ فِيها.. أي ماكثين فيها على الدوام، مدة بقاء السموات والأرض، والمراد التأبيد ونفي الانقطاع، على سبيل التمثيل وقول العرب:
أفعل كذا أو لا أفعله ما أقام ثبير، وما لاح كوكب، وما تغنّت حمامة. ويجوز أن يكون المراد سماء الآخرة وأرضها، وهي دائمة مخلوقة للأبد، والدليل على أن للآخرة سموات (ما هو فوق الخلائق) وأرض (ما هم مستقرون عليه) وقوله:
تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ [إبراهيم ١٤/ ٤٨] وقوله:
وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ [الزمر ٣٩/ ٧٤] ولأنه لا بد لأهل الآخرة مما يقلّهم ويظلهم، وكل ما أظلك فهو سماء. قال ابن عباس: لكل جنة أرض وسماء.
150
إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ يراد بهذا الاستثناء الدلالة على الثبوت والاستمرار لأنه ثبت خلود أهل الجنة والنار فيهما إلى الأبد من غير استثناء، والمقصود بذلك بيان أن الخلود بمشيئة الله تعالى، ولا يخرج شيء في الدنيا والآخرة عن المشيئة الإلهية. وهو كقوله تعالى: النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ، إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام ٦/ ١٢٨] وقوله: قُلْ: لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ [الأعراف ٧/ ١٨٨] وقوله: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ [الأعلى ٨٧/ ٦- ٧] والمراد بذلك كله تقييد الأحكام بمشيئة الله تعالى فقط، لا لإفادة عدم عمومها.
وهذا هو الظاهر الراجح. قال ابن جرير: من عادة العرب إذا أرادت أن تصف الشيء بالدوام أبدا قالت: هذا دائم دوام السموات والأرض، وكذلك يقولون: هو باق ما اختلف الليل والنهار.
وللعلماء المفسرين أحد عشر قولا ذكرها القرطبي «١»، قال الزمخشري: هو استثناء من الخلود في عذاب النار، ومن الخلود في نعيم الجنة، وذلك أن أهل النار لا يخلدون في عذاب النار وحده، بل يعذبون بالزمهرير وبأنواع من العذاب سوى عذاب النار، بما هو أغلظ منها كلها، وهو سخط الله عليهم وإهانته إياهم. وكذلك أهل الجنة لهم سوى الجنة ما هو أكبر منها، وأجلّ موقعا منهم وهو رضوان الله، ولهم ما يتفضل الله به عليهم سوى ثواب الجنة، مما لا يعرف كنهه إلا هو، فهو المراد بالاستثناء، والدليل عليه قوله: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ «٢».
أي أنهم خالدون في كل من الجنة والنار إلا ما شاء ربك من تغيير هذا
(١) تفسير القرطبي: ٩/ ٩٩ وما بعدها، تفسير الرازي: ١٨/ ٦٥ وما بعدها.
(٢) الكشاف: ٢/ ١١٦
151
النظام المعدّ، أو الإضافة أو النقص منه، ويكون المراد أن كل شيء في قبضته وتحت تصرفه، إن شاء أبقاه وإن شاء منعه.
وقال أبو حيان: والظاهر أن قوله إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ استثناء من الزمان الدال عليه قوله: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ والمعنى إلا الزمان الذي شاءه الله تعالى، فلا يكون في النار ولا في الجنة، ويمكن أن يكون هذا الزمان المستثنى هو الزمان الذي يفصل الله بين الخلق يوم القيامة، إذا كان الاستثناء من الكون في النار والجنة لأنه زمان يخلو فيه الشقي والسعيد من دخول النار أو الجنة.
وأما إن كان الاستثناء من الخلود، فيمكن ذلك بالنسبة إلى أهل النار، ويكون الزمان المستثنى هو الزمان الذي فات أهل النار العصاة من المؤمنين الذين يخرجون من النار، ويدخلون الجنة، فليسوا خالدين في النار إذ قد أخرجوا منها، وصاروا في الجنة. وأما بالنسبة إلى أهل الجنة فلا يتأتى منهم ما تأتى في أهل النار إذ ليس منهم من يدخل الجنة، ثم لا يخلد فيها «١».
إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ أي يفعل ما يشاء، على وفق علمه ومقتضى حكمته، فهو يفعل بأهل النار ما يريد من العذاب، كما يعطي أهل الجنة عطاءه الذي لا انقطاع له.
ثم ذكر الله تعالى جزاء الفريق الثاني وهم السعداء: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا أي وأما أهل السعادة وهم أتباع الرسل، فمأواهم الجنة، خالدين فيها، أي ماكثين فيها أبدا، مدة دوام السماء والأرض، بمشيئة الله تعالى، عطاء غير منقطع ولا ممنوع، ولكنه ممتد إلى غير نهاية، كقوله تعالى: لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [الانشقاق ٨٤/ ٢٥].
(١) البحر المحيط: ٥/ ٢٦٣
152
قال ابن كثير: معنى الاستثناء هاهنا أن دوامهم فيما هم فيه من النعيم ليس أمرا واجبا بذاته، بل هو موكول إلى مشيئة الله تعالى، فله المنة عليهم دائما، ولهذا يلهمون التسبيح والتحميد، كما يلهمون النّفس».
فكل من جزائي أهل النار وأهل الجنة دائم بمشيئة الله تعالى، فعذاب أهل النار في النار دائما مردود إلى مشيئته تعالى، وأنه بعدله وحكمته موافق لأعمالهم، وثواب أهل الجنة في الجنة بحسب مشيئته تعالى أيضا جزاء بما كانوا يعملون، إلا أنه تعالى أورد فرقا في ختام آية كل من الفريقين، فقال عقب بيان حال الأشقياء: إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ كما قال: لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الأنبياء ٢١/ ٢٣] وقال عقب بيان حال السعداء: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ لتطييب القلوب، والإشارة إلى أن جزاء المؤمنين هبة منه تعالى وإحسان دائم،
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيما أخرجه البخاري ومسلم والنسائي عن أبي هريرة: «لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟
قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته»
.
وجاء في الصحيحين: «يؤتى بالموت في صورة كبش أملح، فيذبح بين الجنة والنار، ثم يقال: يا أهل الجنة، خلود فلا موت، ويا أهل النار، خلود فلا موت»
وفي الصحيح أيضا: «فيقال: يا أهل الجنة، إن لكم أن تعيشوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا، وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا، وإن لكم أن تنعموا، فلا تيأسوا أبدا».
وبعد ذكر أحوال الأشقياء والسعداء، أنذر الله تعالى أعداء النبي صلى الله عليه وسلّم بتعذيبهم كما عذب الأمم المهلكة المتقدمة، فقال: فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ أي إذا علمت يا محمد كل ما ذكر، وعرفت سنة الله في عباده، فلا تك في شك في عاقبة
(١) تفسير ابن كثير: ٢/ ٤٦٠
153
ما يعبد المشركون، وفي نهايتهم، فكل ما يعبدون باطل وجهل وضلال، وعذابهم محقق لا شك فيه، وفي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلّم ووعيد لقومه.
إنهم يعبدون الأوثان والأصنام مثلما يعبد آباؤهم، فهم مثلهم في الجهل، وهم مقلدون لهم، فليس لهم مستند فيما هم فيه إلا اتباع الآباء في الجهالات، وسيجزيهم الله على ذلك أتم الجزاء، فيعذبهم عذابا لا يعذبه أحدا، أما حسنات أعمالهم في الدنيا فقد وفاهم الله إياها في الدنيا قبل الآخرة تماما غير منقوص، فإذا كانوا محسنين فيها كبّر الوالدين وصلة الأرحام، والإحسان إلى الفقراء، وفعل الخير، فإن الله تعالى يوفيهم جزاءهم عليها في الدنيا بسعة الرزق والصحة، والسرور، ودفع الضرر، وهو جزاء عاجل زائل، وتمام غير نقص بمقتضى العدل الإلهي، فلا يغترن أحد بما يراه في الكفار أحيانا من نعمة ورخاء في الدنيا، فإن لهم الدنيا فقط، ويحرمون من نعيم الآخرة، وليس لهم فيها إلا العذاب الشديد بسبب كفرهم بالله تعالى.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على الأحكام التالية:
١- الأنبياء على صدق تام فيما أخبروا به من أخبار الماضين، ومغيبات المستقبل، سواء في عالم الدنيا، أو في عالم الآخرة، من وقوع العذاب والعقاب، والحشر والحساب: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ أي لعبرة وموعظة لمن يخشى عذاب القيامة. وقوله: مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ يدل على إثبات الحشر، فالجمع: الحشر، أي يحشرون ليوم القيامة. وهو يوم يشهده البر والفاجر، ويشهده أهل السماء.
٢- البعث حق، ولكن اقتضت حكمة الله تأخير يومه لأجل معلوم معدود سبق به قضاؤه.
154
٣- السلطان المطلق في يوم القيامة لله عز وجل، فلا يتكلم فيه أحد بحجة ولا شفاعة إلا بإذنه تعالى. قال قوم: ذلك اليوم طويل، وله مواطن ومواقف، في بعضها يمنعون من الكلام، وفي بعضها يطلق لهم الكلام. وهذا يدل على أنه لا تتكلم نفس إلا بإذنه.
٤- الناس يوم القيامة صنفان: شقي وسعيد، الأشقياء في النار، والسعداء في الجنة، وكلاهما خالد مخلد فيما هم فيه، من العذاب أو الثواب، بمشيئة الله وإرادته.
وهذا الحكم من الله لا يتغير ولا يتبدل، فمن حكم الله عليه بحكم، وعلم منه عمله وأمره، امتنع أن يصير بخلافه، وإلا لزم أن يصير خبر الله تعالى كذبا، وعلمه جهلا، وذلك محال، فثبت أن السعيد لا ينقلب شقيا، وأن الشقي لا ينقلب سعيدا.
٥- اتفق الجمهور الأعظم من الأمة على أن عذاب الكافر دائم لأن الخلود المذكور في الآية المرتبط بدوام السموات والأرض يقصد به الدوام، على نحو تعبير العرب الذين يعبرون عن الدوام والأبد بقولهم: ما دامت السموات والأرض، وقولهم: ما اختلف الليل والنهار، وما طما البحر، وما أقام الجبل. أو أن المراد سموات الآخرة وأرضها، وفي الآخرة سماء وأرض، بدليل قوله تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ، وَالسَّماواتُ [إبراهيم ١٤/ ٤٨] وقوله: وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ [الزمر ٣٦/ ٧٤] وأيضا لا بد لأهل الآخرة مما يقلهم ويظلهم، وذلك هو الأرض والسموات.
٦- قوله تعالى: إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ يدل على أن خلود أهل النار فيها وخلود أهل الجنة فيها حاصل بمشيئة الله تعالى، ولا يخرج شيء في الدنيا والآخرة عن المشيئة الإلهية، والمراد بالآية الدلالة على الثبوت والاستمرار. واستدل الرازي
155
بالآية على أنه تعالى يخرج الفساق المؤمنين من أهل الصلاة من النار، وهو المراد بهذا الاستثناء في ترجيحه المشابه له ترجيح أبي حيان، فالآية استثناء من الخلود، وهي في الذين زال حكم الخلود عنهم وهم عصاة المؤمنين.
وأما الاستثناء بالنسبة لأهل السعادة فيراد به في وجه ذكره الرازي رفع المنازل، فقد يرفع الله من الجنة إلى العرش، وإلى المنازل الرفيعة التي لا يعلمها إلا الله تعالى، قال سبحانه: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، خالِدِينَ فِيها، وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ، وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة ٩/ ٧٢].
٧- نعيم أهل الجنة دائم غير منقطع ولا ممنوع، لقوله تعالى: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ وقوله: لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ [الواقعة ٥٦/ ٣٣].
٨- إن عبادة المشركين أوثانهم وأصنامهم لا دليل عليها من العقل والمنطق، وإنما صادرة عن محض الجهل وتقليد الآباء والأسلاف، كما قال تعالى: فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ.. الآية، أي فلا تك في شك من حال ما يعبدون في أنها لا تضر ولا تنفع، وأن الله عز وجل ما أمرهم بعبادتها، وإنما يعبدونها كما كان آباؤهم يفعلون تقليدا لهم.
٩- الله تعالى عادل أيضا في حق الكفار، فيوفيهم ثواب أعمالهم الحسنة، في الدنيا، ولا يكون لهم ثواب عليها في الآخرة لأن قبول الأعمال حينئذ منوط بالإيمان، ولقوله تعالى: وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ أي أنهم وإن كفروا وأعرضوا عن الحق فإنا موفوهم نصيبهم من الرزق والخيرات الدنيوية.
ويحتمل أن يكون المراد: ما وعدوا به من خير أو شر، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما، ويحتمل أيضا إرادة أنه يوفيهم نصيبهم من العذاب، وربما كان الكل مرادا.
156
أهداف القصة في القرآن:
قد يتكرر إيراد القصة الواحدة في القرآن بأساليب مختلفة، لمناسبات متعددة، وتأثير نفسي متفاوت، وإيحاء متنوع الهدف. ويظهر لنا من بيان قصص الأمم السابقة في هذه السورة وغيرها من السور المكية غالبا أنها تهدف إلى تحقيق أغراض معينة أهمها ما يأتي:
١- الإخبار عن تواريخ بعض الأمم الماضية، وإلقاء الأضواء على حوادث غيبية مهمة جدا، لم يكن يدري بها النبي صلى الله عليه وسلّم ولا أحد من قومه ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ، وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ، وَهُمْ يَمْكُرُونَ [يوسف ١٢/ ١٠٢]، فيكون ذلك دليلا على صدق نبوته، وأن هذا القرآن من عند الله، وليس افتراء منه، كما زعم المشركون إذ قالوا كما حكى القرآن الكريم:
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ، وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ، فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً. وَقالُوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ «١» اكْتَتَبَها، فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا. قُلْ: أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً [الفرقان ٢٥/ ٤- ٦].
٢- إخبار الناس جميعا عن جهود الأنبياء والرسل في سبيل نشر دعوتهم، وصراعهم مع أقوامهم، ومجادلاتهم ومناقشاتهم السديدة المتنوعة لإظهار الحق وإبطال الباطل، ومدى استجابة أقوامهم لهم وإعراضهم عنهم، وتسلية لنبيا صلى الله عليه وسلّم عما كان يؤلمه من صدود الناس عن الإيمان برسالته، كما قال تعالى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ، وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ [هود ١١/ ١٢٠] وفيها بيان كونهم الأسوة الحسنة للجهاد والصبر
(١) أساطير الأولين: القصص والأكاذيب القديمة، وكانت العرب لجهلها تزعم ذلك.
157
الشديد على الدعوة: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ، وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ [الأحقاف ٤٦/ ٣٥].
٣- إظهار كون الأنبياء متفقين في أصول رسالتهم، وتأييد بعضهم بعضا في الدعوة إلى توحيد الله، والإيمان بالبعث والجزاء واليوم الآخر، وتبيان أصول الخير المشترك من الفضائل والأخلاق والقيم العليا: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ، ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى، وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ، وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف ١٢/ ١١١].
٤- القصة عنصر مشوق، جذاب محبب، مرغوب فيه في التربية والتعليم وإثبات البراهين العقلية بالوقائع الحسية، لا يختلف في التأثير بأسلوبها وحكاية عناصرها الكبار والشباب، والنساء والفتيات، وذلك يؤدي إلى غرس بذور الإيمان، والترغيب في الطاعة، والترهيب من المعصية، مما يجعل القصة مدرسة إلهية للمؤمنين، أساتذتها الأنبياء، وواقعها الأقوام، وتاريخها قديم عريق، وموضوعها إهلاك الظالمين، وغايتها التهذيب والإصلاح والتربية الحسنة.
٥- تهدف القصة القرآنية في المرتبة الأولى إلى إثبات توحيد الله وتقرير وجوده، وإثبات النبوة، والبعث، ويتخللها أحكام تشريعية هادفة مفيدة للفرد والجماعة، وللأمة والدولة، ولكل الشعوب والحكام.
٦- تبين القصة أن مهمة النبي مجرد تبليغ الوحي، وإعلام الناس بالإنذارات الإلهية بوقوع العذاب قريبا أم بعيدا، دون أن يكون لديه سلطان ما في التأخير والتغيير، والنفع والضر.
٧- تظهر القصة أيضا مدى التماثل في طباع البشر، ومدى استعدادهم للإيمان والكفر، والخير والشر.
158
٨- في القصة إظهار سلطان الله وقدرته وقوته القاهرة في تعجيل العذاب، الذي هو أنموذج عن عذاب الآخرة.
٩- تتضمن القصة التأييد الإلهي للرسل، وإظهار آيات الله ومعجزاته وحججه على الناس، مما يحمل على الإقناع بصحة الدعوة الإلهية، والإيمان بأصحابها الرسل.
١٠- كان لكل قصة مواعظ وعبر خاصة، تختلف باختلاف أصحابها، فقصة قوم نوح مثلا تمثل الغرور المستحكم والإصرار على الوثنية، وقصة قوم عاد تظهر مدى الاعتداد بالبطش والقوة والتجبر والعتو، وقصة قوم لوط تدل على انحطاط المستوى الإنساني، والشذوذ الجنسي، والفحش الأخلاقي، وقصة قوم شعيب مظهر من مظاهر الانحراف الاجتماعي أو الظلم الاجتماعي وأخذ حقوق الناس وأكل أموالهم بالباطل، وقصة قوم فرعون مثل بارز للاعتماد على السلطان والثروة والجاه، تهز عروش وكيان المتفرعنين الجبابرة في كل زمان ومكان، وجميع تلك القصص لمقاومة الوثنية والفوضى في نظام المجتمع، فإن كل أولئك الأمم كانوا وثنيين عبدة أصنام، وكانت جهود الأنبياء المكثفة مركزة على تخليص الناس من عبادة الأوثان والأصنام.
١١- القصة في الجملة عظة وعبرة، وعلاج للنفوس، واعتبار بما حل بالعصاة والكفار المتمردين، مما يذهل العقل، ويشيب الرأس، ويقطّع نياط القلب، ويجعل الإنسان في دهشة وخوف ورعب.
١٢- إن إخبار نبي أمي غير كاتب ولا قارئ، ولا راو ولا حافظ، وهو نبينا عليه الصلاة والسلام، عن تلك القصص، دليل قاطع على نبوته، وسمو رسالته، وحرصه على نشر العلوم والمعارف، وخفق ألوية الهدى والرشاد، ودليل قبل كل شيء على أن هذا القرآن كلام الله ودستوره لبني البشر إلى يوم القيامة.
159
١٣- تضمنت القصص صلابة كل نبي على مبدئه ودعوته، وإن تعرض للإساءة وتسفيه الرأي، والتصميم أحيانا على قتله أو إبعاده، والأمثلة كثيرة، منها: ما حكاه القرآن عن نوح عليه السّلام: قالَ: يا قَوْمِ، أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ، فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ، أَنُلْزِمُكُمُوها، وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ [هود ١١/ ٢٨] وتكرر مثل ذلك على لسان شعيب [هود ١١/ ٨٨] وغيره من الأنبياء.
ومنها ما حكاه عن هود: قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ: إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ، وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ. قالَ: يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [الأعراف ٧/ ٦٦- ٦٧].
ومنها ما قال قوم شعيب: قالُوا: يا شُعَيْبُ، ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ، وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً، وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ، وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ [هود ١١/ ٩١].
١٤- تكرار القصة الواحدة في سور القرآن أكثر من مرة إنما هو لتحقيق مقاصد وأهداف ومعان كثيرة، لتكون ماثلة أمام الأعين في كل جيل. ولكن تكرارها لم يكن مملا وإنما كان بأساليب متنوعة تجتذب الأنظار، وتنبه العقول، وتطرد السامة والملل من نفس القارئ والسامع.
التذكير بعاقبة الاختلاف في التوراة
[سورة هود (١١) : الآيات ١١٠ الى ١١١]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١١)
160
الإعراب:
وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا.. إن بالتشديد هو الأصل فيها، وكُلًّا: اسمها المنصوب. ومن قرأ إِنَّ بالتخفيف، أعمل إن المخففة، كما أعملها مشددة، كما يعمل الفعل تاما ومخففا. وأما لَمَّا بالتشديد فهو مشكل، إذ ليست هنا بمعنى الزمان، ولا بمعنى إلا، ولا بمعنى لم، وقيل فيها بأوجه منها: أن الأصل فيها «لمن ما» ثم أدغم النون في الميم، فاجتمع ثلاث ميمات، فحذفت الميم المكسورة، وتقديره: وإن كلا لمن خلق ليوفينهم. ومنها: أن تكون «ما» زائدة، وتحذف إحدى الميمات، وتقديره: لخلق ليوفينهم. ومن خفف الميم من «لما» جعل «ما» زائدة، أتى بها ليفصل بين اللام التي في خبر إِنَّ ولام القسم التي في لَيُوَفِّيَنَّهُمْ. وقال الزمخشري: وَإِنَّ كُلًّا التنوين عوض من المضاف إليه، يعني وإن كلهم، وإن جميع المختلفين فيه. ولَيُوَفِّيَنَّهُمْ جواب قسم محذوف واللام في لَمَّا موطئة للقسم، وما: مزيدة للفصل، والمعنى: وإن جميعهم والله ليوفينهم، ولام لَيُوَفِّيَنَّهُمْ للتأكيد.
البلاغة:
وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ الكلمة هنا كناية عن القضاء والقدر.
المفردات اللغوية:
الْكِتابَ التوراة فَاخْتُلِفَ فِيهِ بالتصديق والتكذيب فآمن به قوم وكفر به قوم، كما اختلف مشركو مكة في القرآن وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ بتأخير الحساب والجزاء للخلائق يوم القيامة لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ في الدنيا فيما اختلفوا فيه، بإنزال ما يستحقه المبطل، ليتميز به عن المحق وَإِنَّهُمْ وإن كفار مكة، أو المكذبين بالتوراة لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ لفي شك في القرآن أو في التوراة، موقع في الريبة.
وَإِنَّ كُلًّا إن بالتشديد والتخفيف، أي وإن كل المختلفين، المؤمنين منهم والكافرين، والتنوين: بدل المضاف إليه لَمَّا ما: زائدة، واللام موطئة لقسم محذوف مقدر، واللام الثانية التي في لَيُوَفِّيَنَّهُمْ للتأكيد، أو بالعكس، وما: مزيدة للفصل بين اللامين. لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ أي جزاءها إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ عالم ببواطن العمل كظواهره.
المناسبة:
بعد أن ذكّر الله تعالى مشركي مكة بمصير الأمم الهالكة لكفرهم، ذكّرهم هنا
161
أيضا بقوم موسى الذين اختلفوا في التوراة، بين مؤمن وكافر، فعاقبهم الله وجازاهم بسوء أعمالهم. وهو يدل على أن سيرة الكفار الفاسدة مع كل الأنبياء واحدة، فكما أنكر كفار مكة التوحيد، أنكروا أيضا نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم، وكذبوا بكتابه، شأنهم في ذلك شأن وعادة الكفار من قبلهم.
التفسير والبيان:
والله لقد آتينا موسى الكتاب الذي هو التوراة، فاختلف فيه بنو إسرائيل من بعده، ظلما وبغيا، وتنازعا على الزعامة والمصالح المادية، فآمن به قوم وكفر به آخرون، مع أن الكتاب نزل لتوحيد الكلمة وجمع الناس على منهج واحد، فلا تبال يا محمد باختلاف قومك في القرآن، فلك بمن سلف من الأنبياء قبلك أسوة، فلا تجزع لتكذيبهم.
ولولا كلمة من ربك أي لولا سبق القضاء والقدر بتأخير العذاب إلى أجل مسمى، لقضي بينهم في الدنيا، بإهلاك العصاة، وإنجاء المؤمنين، كما حدث لأمم آخرين.
وإن المكذبين لفي شك موقع في الريبة والقلق، والظاهر عود الضمير في قوله: وَإِنَّهُمْ وقوله: بَيْنَهُمْ على قوم موسى عليه السّلام إذ هم المختلفون في الكتاب، الشاكون في التوراة، كما قال تعالى: وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ [الشورى ٤٢/ ١٤] والذين أورثوا الكتاب: هم اليهود والنصارى، والتوراة قد فقدت مع إحراق البابليين لهيكل سليمان، وقيل: يعود الضمير على المختلفين في الرسول من معاصريه. قال ابن عطية: وأن يعمهم اللفظ أحسن عندي. وهذه الجملة من جملة تسليته صلى الله عليه وسلّم «١».
(١) البحر المحيط لأبي حيان: ٥/ ٢٦٦
162
وإن كلا من المؤمنين والكافرين المختلفين في كتاب الله ليوفينهم الله جزاء أعمالهم، وما وعدوا به من خير أو شر لأنه خبير بتلك الأعمال كلها، ولا يخفى عليه شيء منها. وهذا أيضا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلّم، وتهديد ووعيد لقومه.
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيتين ما يأتي:
١- عادة الناس واحدة مع كل الأنبياء، فمنهم من يقبل دعوتهم، ويؤمن برسالتهم، ومنهم من ينكرها، وكفار قوم موسى وغيرهم أنكروا التوحيد، وأصروا على إنكار النبوات، والتكذيب بالكتب السماوية، وكذلك كفار مكة وغيرهم من قوم محمد صلى الله عليه وسلّم وغيرهم مثل من تقدمهم فيما ذكر، فيكون جزاؤهم واحدا.
٢- الاختلاف في الكتاب الإلهي كالتوراة والقرآن، بأن يؤمن به بعضهم ويكفر به بعضهم الآخر، موجب للعقاب والعذاب في الآخرة.
٣- حكم الله عز وجل أن يؤخر عقاب الكافرين كبني إسرائيل لانقسامهم بالنسبة للتوراة بين مكذب بها ومصدّق بها، إلى يوم القيامة، لما علم في حكم التأخير من الصلاح ولولا التأخير، لقضي بينهم أجلهم، بأن يثيب المؤمن ويعاقب الكافر، وينزل عذاب الاستئصال عليهم، لكن المتقدم من قضاء الله أخر العذاب عنهم في دنياهم.
٤- إن أولئك المختلفين في التوراة من اليهود لفي شك من كتاب موسى، وهم في شك أيضا من القرآن.
٥- إن كل الأمم والأفراد، المؤمن منهم والكافر، يرون في الآخرة جزاء أعمالهم، سواء من أقوام الأنبياء السابقين أو من قوم محمد عليهم السلام، فمن
163
عجلت عقوبته ومن أخّرت، ومن صدّق الرسل ومن كذب، حالهم سواء في أنه تعالى يوفيهم جزاء أعمالهم في الآخرة، وهو مأخوذ من الآية لَيُوَفِّيَنَّهُمْ التي جمعت بين الوعد والوعيد، فإن إيفاء جزاء الطاعات وعد عظيم، وإيفاء جزاء المعاصي وعيد عظيم.
وتأكد الوعد والوعيد بقوله تعالى: إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ لأنه تعالى لما كان عالما بجميع المعلومات، كان عالما بمقادير الطاعات والمعاصي، وعالما بالقدر المناسب لكل عمل من الجزاء، فلا يضيع شيء عنده من الحقوق والجزاءات.
وأكد الله تعالى توفية الجزاءات على المستحقين في الآية المذكورة: وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ بسبعة أنواع من المؤكدات: وهي إنّ، وكل، والام الداخلة على خبر إن، وحرف «ما» إذا جعلناه على قول الفراء موصولا، والقسم المضمر، فإن تقدير الكلام: وإن جميعهم والله ليوفينهم، واللام الثانية الداخلة على جواب القسم، والنون المؤكدة في قوله: لَيُوَفِّيَنَّهُمْ فكل هذه الألفاظ السبعة الدالة على التوكيد، تدل على أن أمر الربوبية والعبودية لا يتم إلا بالبعث والقيامة وأمر الحشر والنشر، ثم أردفه بقوله: إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ كما تقدم، وهو من أعظم المؤكدات «١».
الاستقامة على أوامر الله تعالى
[سورة هود (١١) : الآيات ١١٢ الى ١١٣]
فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (١١٣)
(١) تفسير الرازي: ١٨/ ٧٠
164
الإعراب:
وَمَنْ تابَ مَعَكَ مرفوع بالعطف على ضمير فَاسْتَقِمْ وجاز العطف على الضمير المرفوع لأن الفصل بالظرف، وهو قوله تعالى: كَما أُمِرْتَ ينزّل منزلة التأكيد، فجاز العطف. ويجوز أن يكون وَمَنْ تابَ في موضع نصب لأنه مفعول معه.
وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ الواو للحال.
المفردات اللغوية:
فَاسْتَقِمْ على العمل بأمر ربّك والدّعاء إليه، والاستقامة شاملة للاستقامة في العقائد والأعمال، من تبليغ الوحي وبيان الشرائع كما أنزلت، والقيام بوظائف العبادات من غير إفراط ولا تفريط. والاستقامة في غاية العسر، لذا
قال عليه الصّلاة والسّلام: «شيبتني سورة هود».
وَمَنْ تابَ مَعَكَ أي وليستقم من تاب معك، بأن تاب من الشرك والكفر وآمن معك.
وَلا تَطْغَوْا لا تجاوزوا حدود الله، والطغيان: مجاوزة الحدّ بالإفراط أو التفريط. إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فهو مجازيكم عليه، وهو في معنى التّعليل للأمر والنّهي.
وَلا تَرْكَنُوا لا تميلوا إليهم أدنى ميل، والرّكون: الميل اليسير. إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا لا تميلوا إلى الظالمين بمودة أو مداهنة أو رضى بأعمالهم. فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ فتصيبكم النّار كونكم إليهم. وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره. مِنْ أَوْلِياءَ مِنْ: زائدة، وأَوْلِياءَ مناصرون يحفظونكم منه، أو أنصار يمنعون العذاب عنكم. ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ تمنعون من عذابه، ولا ينصركم الله إذ سبق في حكمه أن يعذبكم ولا يبقي عليكم. وثُمَّ: لاستبعاد نصره إياهم بعد أن أوعدهم بالعذاب على فعلهم، وأوجبه.
المناسبة:
لما بيّن الله تعالى أمر المختلفين في التّوحيد والنبّوة، وأطنب في بيان وعدهم ووعيدهم، أمر رسوله صلى الله عليه وسلّم بالاستقامة مثلما أمر بها غيره، وهي كلمة شاملة لكلّ ما ينعق بالعقيدة والعلم والعمل والأخلاق.
التفسير والبيان:
فالزم يا محمد ومن آمن معك طريق الاستقامة في الاعتقاد والأعمال
165
والأخلاق، دون إفراط ولا تفريط. فالاستقامة تقتضي توحيد الله في ذاته وصفاته، والإيمان بالغيب من جنّة ونار وبعث وحساب وجزاء، وملائكة وعرش، والتزام ما أمر به القرآن في نطاق العبادات والمعاملات. وهي درجة عليا وعسيرة إلا على من جاهد نفسه، وترفّع عن أهوائه وشهواته، وقد أمر بها موسى وهارون بقوله تعالى: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [يونس ١٠/ ٨٩]، وكان جزاؤها تطمين الملائكة بعدم الخوف والحزن، والتّبشير بالجنّة، فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا: رَبُّنَا اللَّهُ، ثُمَّ اسْتَقامُوا، تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت ٤١/ ٣٠]،
وأجاب النّبي صلى الله عليه وسلّم سائلا- هو سفيان الثقفي فيما رواه مسلّم- قال: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك؟ فقال: «قل آمنت بالله ثم استقم».
ولا يعني أمر الرّسول بالاستقامة أنه لم يكن مستقيما، وإنما كان على العكس في غاية الاستقامة، والمقصود بهذا الأمر الدّوام والاستمرار على ما هو عليه. فالله تعالى يأمر رسوله وعباده المؤمنين بالثبات والدّوام على الاستقامة، وذلك من أكبر العون على النّصر على الأعداء. وخطاب الرّسول صلى الله عليه وسلّم ومن معه من المؤمنين بالاستقامة للتّثبيت على الاستقامة.
وفي الآية دليل على وجوب اتّباع النّصوص الشّرعية من غير تصرّف وانحراف، ولا تقليد وعمل برأي فاسد غير صحيح، ومن حاد عن منهج السّلف زاغ وضلّ، فكانوا كقوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الرّوم ٣٠/ ٣٢].
وطريق رفع الخلاف الرّد إلى القرآن والسّنة، فقال تعالى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النّساء ٤/ ٥٩].
166
وبعد أن أمر الله تعالى بالاستقامة، نهى عن ضدّها وهو الطّغيان، أي البغي وتجاوز حدود الله، فإنه مزلقة إلى الهلاك، فقال تعالى: وَلا تَطْغَوْا.
ثمّ حذّر الله تعالى من المخالفة، فقال: إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي إنه تعالى بصير بأعمال العباد، لا يغفل عن شيء، ولا يخفى عليه شيء، فيجازي عليها.
والدّعوة إلى الاستقامة وتجنّب الطّغيان هو هدف القرآن الكريم المتكرر فيه، فقال تعالى: فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ، وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ، وَقُلْ: آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ، وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ، اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ، لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ، لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ، اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ [الشورى ٤٢/ ١٥].
ثم نبّه الله تعالى إلى خطر الميل مع الظالمين، فقال: وَلا تَرْكَنُوا.. أي ولا تميلوا إلى الظالمين بمودة أو مداهنة أو رضى بأعمالهم، أو استعانة بهم، أو اعتماد عليهم، فتصيبكم النّار بركونكم إليهم، فالرّكون إلى الظّالمين ظلم، وليس لكم من غير الله أنصار أبدا ينفعونكم، ويمنعون العذاب عنكم، ثم لا ينصركم الله، أي لا تجدون من ينصركم من تلك الواقعة لأنه تعالى لا ينصر الظّالمين:
وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ [البقرة ٢/ ٢٧٠]، وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [الحجّ ٢٢/ ٧١، فاطر ٣٥/ ٣٧].
والآية تدلّ على عاقبة الرّكون، وعلى أن الميل إلى الظّالمين موقع عادة في الظّلم، ومزلقة تستدعي إقرارهم على ما يفعلون، والرّضى بما هم عليه من الظّلم، واستحسان طريقتهم، وتزيينها عندهم وعند غيرهم، ومشاركتهم في أعمالهم الظّالمة. قال البيضاوي: ولعل الآية أبلغ ما يتصوّر في النّهي عن الظّلم والتّهديد عليه.
وإذا كان الرّكون إلى الظّلم موجبا عذاب النّار، فكيف يكون حال الظّالم في نفسه؟!
167
فقه الحياة أو الأحكام:
تدلّ الآيتان على الأمر بالاستقامة والثّبات والدّوام عليها، وعلى تحريم ضدّها وهو الطّغيان، أي تجاوز حدود الله تعالى، وعدم الاعتماد على الظّلمة والرّضا بظلمهم.
والاستقامة: امتثال أمر الله، وليست تلك مهمة سهلة وإنما هي شاقّة عسيرة تستدعي الطّاعة الدّائمة، ومراقبة الإنسان نفسه، والحذر من المخالفة، قال ابن عباس: ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلّم آية هي أشدّ ولا أشقّ من هذه الآية عليه، ولذلك
قال لأصحابه حين قالوا له: لقد أسرع إليك الشّيب! فقال:
«شيّبتني هود وأخواتها».
وروي عن أبي علي السّري قال: رأيت النّبي صلى الله عليه وسلّم في المنام، فقلت: يا رسول الله! روي عنك أنك قلت: «شيّبتني هود»، فقال:
«نعم»، فقلت: ما الذي شيّبك منها؟ قصص الأنبياء وهلاك الأمم! فقال:
«لا، ولكن قوله تعالى: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ».
والاستقامة تقتضي اتّباع نصوص القرآن والسنّة، والبعد عن التّأويلات الباطلة، والعمل بالرّأي الفاسد المخالف روح الشّريعة ومبادئها العامة.
ثمّ حذّرت الآية من الاعتماد على الظّلمة، والرّضا بظلمهم، والاستعانة بهم، والتعاون معهم، وودّهم وإطاعتهم لأن ودّهم يستدعي إطراءهم وتملّقهم، وتزييف الحقائق، وكتمان الحقّ، والسّكوت عن المنكر، وعدم الأمر بالمعروف.
والظّلم: يشمل الشّرك وكلّ أنواع القبائح والمعاصي والمنكرات، والآية دالّة على هجران أهل الكفر والمعاصي من أهل البدع وغيرهم، فإن صحبتهم كفر أو معصية، إذ الصّحبة لا تكون إلا عن مودّة. أما صحبة الظّالم على التّقيّة، فهي مستثناة من النّهي بحال الاضطرار.
روى الإمام أحمد وأصحاب السّنن عن أبي بكر أنه قام، فحمد الله،
168
وأثنى عليه، ثم قال: أيّها النّاس، إنكم تقرؤون هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ألا وإن النّاس إذا رأوا الظّالم، فلم يأخذوا على يديه، أوشك الله أن يعمّهم بعقابه، ألا وإنّي
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «إنّ النّاس إذا رأوا المنكر بينهم، فلم ينكروه، يوشك أن يعمّهم الله بعقابه».
وقد تضمّنت الآية صراحة بيان عاقبة الرّكون إلى الظّلمة، وهي الإحراق بالنّار، بسبب مخالطتهم ومصاحبتهم وممالأتهم على ما هم عليه، وموافقتهم في أمورهم.
والظّلمة: هم أعداء المؤمنين، من المشركين، أو كلّ ظالم، سواء أكان كافرا أم مسلما، والرّأي الثّاني أصح لأن الأخذ بعموم الكلام أولى.
ويلاحظ من اختلاف التّعبيرين: فَاسْتَقِمْ ووَ لا تَرْكَنُوا أن الأوامر بأفعال الخير أفردت للنّبي صلى الله عليه وسلّم، وإن كانت عامة في المعنى: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وقوله في الآية التالية: وَأَقِمِ الصَّلاةَ، وَاصْبِرْ. أما المنهيّات فقد جمعت للأمة: وَلا تَطْغَوْا، وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا.
الأمر بالصّلاة والصّبر
[سورة هود (١١) : الآيات ١١٤ الى ١١٥]
وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١١٥)
الإعراب:
طَرَفَيِ النَّهارِ منصوب على الظّرف لأنه مضاف إليه.
169
البلاغة:
إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ بينهما طباق.
ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ بينهما جناس اشتقاق.
لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ عدول عن المضمر، ليكون كالبرهان على المقصود، ودليلا على أن الصّبر والصّلاة إحسان، وإيماء بأنه لا يعتدّ بهما دون الإخلاص.
المفردات اللغوية:
طَرَفَيِ النَّهارِ أي في الغداة والعشي، أي الصّبح والظّهر والعصر كما قال الحسن وقتادة والضّحاك، وطرف الشيء: الطّائفة منه من النّهاية والبداية. وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ جمع زلفة أي طائفة وجزء من أول الليل قريب من النّهار، وذلك يشمل صلاة المغرب وصلاة العشاء، كما قال الحسن البصري.
إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ يكفرنها،
وفي الحديث الذي أخرجه أبو نعيم عن أنس: «الصلوات الخمس كفارة لما بينهن ما اجتنبت الكبائر»
والحسنات كالصلوات الخمس وغيرها من أعمال البر، والسيئات: الذنوب الصغائر. ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ عظة للمتعظين.
وَاصْبِرْ على الطاعات وعن المعاصي. لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ بالصبر على الطاعة.
سبب النزول:
روى الشيخان، وابن جرير، عن ابن مسعود أن رجلا أصاب من امرأة قبلة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلّم، فأخبره، فأنزل الله: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ، إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ فقال الرجل: إليّ هذه؟ قال:
لجميع أمتي كلهم.
وأخرج الترمذي وغيره عن أبي اليسر قال: أتتني امرأة تبتاع تمرا، فقلت:
في البيت أطيب منه، فدخلت معي البيت، فأهويت إليها فقبلتها، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فذكرت ذلك له، فقال: أخلفت غازيا في سبيل الله في أهله بمثل هذا؟! وأطرق طويلا، حتى أوحى الله إليه: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ إلى قوله: لِلذَّاكِرِينَ
170
وروي ذلك من حديث أبي أمامة ومعاذ بن جبل وابن عباس وبريدة وغيرهم. ومنه يفهم أن ذنب الرجل لا حدّ فيه، وإنما هو ذنب يكفره العمل الصالح، من إقامة الصلاة وإحسان القول والعمل.
ورواية الترمذي عن ابن مسعود هي: قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فقال: إني عالجت امرأة في أقصى المدينة، وإني أصبت منها ما دون أن أمسّها، وأنا هذا، فاقض فيّ ما شئت. فقال له عمر: لقد سترك الله! لو سترت على نفسك فلم يردّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم شيئا، فانطلق الرجل، فأتبعه رسول الله صلى الله عليه وسلّم رجلا فدعاه، فتلا عليه: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ، وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ، إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ، ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ إلى آخر الآية، فقال رجل من القوم: هذا له خاصة؟ قال: «لا، بل للناس كافة»
قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
المناسبة:
بعد أن أمر الله تعالى رسوله والمؤمنين بالاستقامة، وعدم تجاوز حدود الدين، وعدم الركون إلى ذوي الظلم، أردفه بالأمر بالصلاة والصبر، وهو يدل على أن أعظم العبادات بعد الإيمان بالله هو الصلاة، ويليها الصبر، فإنه نصف الإيمان، فهما عدة الامتثال، والصلاة أساس العبادات، وعمود الدين.
التفسير والبيان:
موضوع هاتين الآيتين: الاستعانة بالصلاة والصبر، كما قال تعالى في آية أخرى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ، إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة ٢/ ١٥٣].
أما بالنسبة للصلاة فالآية في تحديد أوقاتها، ومعناها: أدّ الصلاة تامة كاملة الأركان والشروط والأوصاف، باعتبارها صلة بين العبد والرب، مطهرة
171
للنفس، مرضاة للرب، مانعة عن الفحشاء والمنكر، وأداؤها في جميع أجزاء اليوم، فقوله: طَرَفَيِ النَّهارِ يشمل ثلاث صلوات هي الصبح والظهر والعصر، وقوله: وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ يشمل صلاتي المغرب والعشاء.
فتكون الآية شاملة جميع أوقات الصلاة، كما جاء في آيات أخر هي:
١- أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ، وَقُرْآنَ الْفَجْرِ، إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً [الإسراء ١٧/ ٧٨].
٢- فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ. وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا، وَحِينَ تُظْهِرُونَ [الروم ٣٠/ ١٧- ١٨] فصلاة الصبح عند الإصباح، وبقية الصلوات تدخل تحت تعبير المساء لأنه يشمل ما بين الظهر والغروب فما بعده.
٣- وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها، وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ، فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ، لَعَلَّكَ تَرْضى [طه ٢٠/ ١٣٠] والتسبيح يكون بالصلاة وغيرها.
ثم ذكر الله تعالى فائدة الصّلاة بقوله: إِنَّ الْحَسَناتِ.. أي إنّ فعل الخيرات أو الأعمال الحسنة، ومنها الصّلوات الخمس، تكفّر الذّنوب السّالفة، والسّيئات الصّغائر، كما جاء
في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السّنن عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قال: كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلّم حديثا نفعني الله بما شاء أن ينفعني منه، وإذا حدّثني عنه أحد، استحلفته، فإذا حلف صدّقته، وحدّثني أبو بكر- وصدق أبو بكر- أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول:
«ما من مسلم يذنب ذنبا، فيتوضأ، ويصلّي ركعتين، إلا غفر له».
وفي الصّحيحين عن أمير المؤمنين عثمان بن عفّان: أنه توضأ لهم كوضوء رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يتوضأ، وقال: «من
172
توضأ وضوئي هذا، ثم صلّى ركعتين، لا يحدّث فيهما نفسه، غفر له ما تقدّم من ذنبه».
والحسنات: جميع الأعمال الصّالحة، حتى ترك السّيئة، والسّيئات: الذّنوب الصّغائر لأن الكبائر لا يكفّرها إلا التّوبة لقوله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ، وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً [النّساء ٤/ ٣١]، ولما رواه مسلم: «الصّلوات الخمس كفّارة لما بينهن، إذا اجتنبت الكبائر».
وأمّا شروط التّوبة الصّادقة فهي أربعة: الإقلاع عن الذّنب، والنّدم عليه، والعزم على عدم العود إلى مثله في المستقبل، والعمل الصّالح الذي يساعد على محو أثر الذّنب، ومنه ردّ الحقوق لأصحابها، وطلب السّماح ممن آذاه.
ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ أي إنّ النّصح السّابق بفعل الحسنات والاستقامة، وعدم تجاوز حدود الدّين، وعدم الرّكون إلى الظّلمة، عظة للمتّعظين الذي يعقلون الأحداث ويقدّرون مخاطرها ويخشون الله عزّ وجلّ.
وَاصْبِرْ.. أي الزم الصّبر على الطّاعة ومشاقّها، وعن المعصية ومغرياتها، وابتعد عن المنكر والمحرّمات، وفي حال الشّدائد والمصائب، فإن الله لا يهدر ثواب المحسنين أعمالا، الصّابرين على مراد الله وقدره. وهذا دليل على أن الصّبر إحسان وفضيلة.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيتان إلى ما يأتي:
١- الأمر بالصّلوات المفروضة وإيجابها، وخصّت بالذّكر هنا لأنها ثانية الإيمان، وإليها يفزع في النّوائب، وكان النّبي صلى الله عليه وسلّم إذا حزبه «١» أمر، فزع إلى الصّلاة.
(١) حزبه: نزل به مهمّ، أو أصابه غمّ.
173
٢- الآية دليل على قول أبي حنيفة رحمه الله في أنّ التّنوير بالفجر أفضل، وفي أنّ تأخير العصر أفضل لأنّ ظاهر هذه الآية يدلّ على وجوب إقامة الصّلاة في طرفي النّهار، وطرفا النّهار: الزّمان الأوّل لطلوع الشّمس والزّمان الثاني لغروبها، وبما أنّ ظاهر الآية غير مراد بالإجماع، فوجب حمله على المجاز، وهو إقامة الصّلاة في الوقت الذي يقرب من طرفي النّهار لأنّ ما يقرب من الشيء يجوز أن يطلق عليه اسمه. وإقامة صلاة الفجر عند التّنوير أقرب إلى وقت الطّلوع من إقامتها عند التّغليس، وكذلك إقامة صلاة العصر عند ما يصير ضلّ كلّ شيء مثليه أقرب إلى وقت الغروب من إقامتها عند ما يصير ظلّ كلّ شيء مثله، والمجاز كلما كان أقرب إلى الحقيقة كان حمل اللفظ عليه أولى.
٣- أوضحت الآية أوقات الصّلوات الخمس المفروضة لأنّ طرفي النّهار يشملان صلاة الصّبح، وصلاة الظّهر والعصر، والزّلف من الليل يقتضي الأمر بإقامة صلاتي المغرب والعشاء. والزّلف: الساعات القريبة بعضها من بعض، وزلف الليل تشمل المغرب والعشاء.
٤- الحسنات وهي الأعمال الصّالحة ومنها الصّلوات الخمس، وقول الرّجل:
سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، والأولى حمل اللفظ على عمومه. وأما السّيئات فهي الذّنوب الصّغائر، للحديث المتقدّم: «ما اجتنبت الكبائر».
٥- دلّت الآية على أنّ المعصية لا تضرّ مع الإيمان لأنّ الإيمان أشرف الحسنات وأجلّها وأفضلها. وعلى أنّ الحسنات يذهبن السّيئات، فالإيمان الذي هو أعلى الحسنات درجة، يذهب الكفر الذي هو أعلى درجة في العصيان، فلأن يقوى على المعصية التي هي أقل السّيئات درجة، كان أولى، فإن لم يفد إزالة العقاب بالكليّة، فلا أقل من أن يفيد إزالة العذاب الدائم.
174
٦- دلّت الآية مع الأحاديث الواردة في سبب نزولها على أن القبلة واللّمس الحرام لا يجب فيهما الحدّ. واختار ابن المنذر أنه لا يجب فيهما أدب أو تعزير.
٧- القرآن الكريم موعظة وتوبة لمن اتّعظ وتذكّر، وخصّ الذّاكرين بالذّكر لأنهم المنتفعون بالذّكرى.
٨- الصّبر على الصّلاة كما قال تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها [طه ٢٠/ ١٣٢]، والصّبر على الطّاعات، وعلى ما يلقاه المؤمن من أذى الأعداء، وعلى الشّدائد والمصائب، الصّبر على كلّ ذلك إحسان وفضيلة، وله ثواب عظيم،
وقد قال النّبي صلى الله عليه وسلّم فيما رواه أبو نعيم في الحلية والبيهقي في شعب الإيمان: «الصّبر نصف الإيمان، واليقين: الإيمان كلّه» إلا أنه ضعيف.
سبب إهلاك القرى والأمم السّالفة
[سورة هود (١١) : الآيات ١١٦ الى ١١٩]
فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (١١٧) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١١٩)
الإعراب:
175
أُولُوا بَقِيَّةٍ كما جاز الرّفع في قوله تعالى: إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ [يونس ١٠/ ٩٨] وإن كان استثناء منقطعا، وهي لغة بني تميم.
وَاتَّبَعَ عطف على مضمر دلّ عليه الكلام إذ المعنى: فلم ينهوا عن الفساد، واتّبع الذين ظلموا.
وَكانُوا مُجْرِمِينَ عطف على اتَّبَعَ أو جملة اعتراضية.
بِظُلْمٍ حال من الفاعل، أي واستحال في الحكمة أن يهلك الله القرى ظالما لها.
المفردات اللغوية:
فَلَوْلا فَلَوْلا: للتّحضيض والحثّ على الفعل، أي فهلا كان. مِنَ الْقُرُونِ جمع قرن، وهو الجيل من الناس المقترنون في زمن واحد، وشاع تقديره بمئة سنة. أُولُوا بَقِيَّةٍ أولو عقل ورأي وبصر بالأمور، أو أولو فضل، والأصل في البقية: ما يبقى من الشيء بعد ذهاب أكثره، واستعمل كثيرا في الباقي الأصلح لإنفاق الأردأ عادة وإبقاء الأجود، وتلك قاعدة بقاء الأصلح، ومنه يقال: فلان من بقيّة القوم، أي من خيارهم. ويجوز أن يكون مصدرا كالتّقية، أي ذوو إبقاء على أنفسهم وصيانة لها من العذاب.
ما أُتْرِفُوا فِيهِ أي ما أنعموا فيه من الشهوات. وَكانُوا مُجْرِمِينَ أي كافرين، وهو سبب استئصال الأمم، وهو فشو الظلم فيهم، واتّباعهم الهوى، وترك النّهي عن المنكرات مع الكفر. بِظُلْمٍ بشرك. وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ فيما بينهم، لا يضمون إلى شركهم فسادا وتباغيا، وذلك لفرط رحمة الله ومسامحته في حقوقه، ولذلك قدم الفقهاء عند تزاحم الحقوق حقوق العباد على حقوق الله تعالى.
وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً مسلمين كلّهم، وهو دليل ظاهر على أن الأمر غير الإرادة، وأنه تعالى لم يرد الإيمان من كلّ أحد، وأن ما أراده يجب وقوعه. وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ بعضهم على الحق، وبعضهم على الباطل، لا تكاد تجد اثنين يتفقان مطلقا. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ إلا أناسا هداهم الله من فضله، فاتّفقوا على ما هو أصول دين الحقّ والعمدة فيه. وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ: إن كان الضمير للناس، فالإشارة إلى الاختلاف، واللام للعاقبة، أي الصّيرورة، أو أن الضّمير يعود للنّاس وإلى الرّحمة. وإن كان الضّمير يعود لمن رحم، فإلى الرّحمة.
وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ وعيده وقضاؤه وأمره. مِنَ الْجِنَّةِ الجنّ، سمّوا بهذا لاستتارهم.
وقوله تعالى: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أي من عصاتهما. أَجْمَعِينَ صفة للعصاة، أو منهما أجمعين لا من أحدهما.
176
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى ما حلّ بالأمم السّابقة المكذّبة لرسلها، من عذاب الاستئصال في الدّنيا، واستحقاق النّار في الآخرة، ذكر هنا سبب العذاب وهو أمران: الأول- أنه ما كان فيهم قوم ينهون عن الفساد في الأرض، والثاني- أن الظّالمين اتّبعوا طلب الشّهوات واللّذات، واشتغلوا بتحصيل الرّياسات.
والظّالمون: هم تاركو الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.
التّفسير والبيان:
فهلا وجد من القرون، أي الأمم والأقوام الماضية الذين أهلكناهم بظلمهم وفسادهم جماعة أولو عقل ورأي وبصيرة وأهل خير ينهون عما كان يقع بينهم من الشّرور والمنكرات والفساد في الأرض. وهذا توبيخ للكفار.
لكن قد وجد قليل من هؤلاء، وهم الذين أنجاهم الله تعالى عند حلول غضبه وفجأة نقمته، قد نهوا عن الفساد في الأرض. فهذا استثناء منقطع، ولا يمكن جعله استثناء متّصلا، وإلا كان القليل من النّاجين غير مرغّبين في النّهي عن الفساد.
واتّبع الظّالمون أنفسهم، وهم الأكثرية ما أترفوا فيه من نعيم وعزّة وسلطان.
والمترف: الذي أبطرته النّعمة وسعة المعيشة. والمراد بالذين ظلموا: تاركو النّهي عن المنكر. واتّباعهم التّرف: اشتغالهم بالشّهوات والمال واللّذات والرّياسات، واستمرارهم على ما هم عليه من المعاصي والمنكرات، وعدم التفاتهم إلى إنكار المصلحين منهم، وإيثار الترف على الآخرة.
وَكانُوا مُجْرِمِينَ أي والحال أنهم كانوا ظالمين. فالله تعالى لم يهلك قرية إلا وهي ظالمة لنفسها، كما قال تعالى: وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [هود ١١/ ١٠١]، وقال تعالى: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصّلت ٤١/ ٤٦].
177
وفي الآية إيماء إلى أن التّرف مدعاة إلى الإسراف، والإسراف يفضي إلى الفسوق والعصيان، والظّلم والانحراف، وتلك عادة متّبعة كما قال تعالى:
وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها، فَفَسَقُوا فِيها، فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ، فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً
[الإسراء ١٧/ ١٦].
ثمّ بيّن تعالى عدله وسنّته في المصلحين، فقال تعالى: وَما كانَ رَبُّكَ أي ليس من شأن الله تعالى أن يهلك أهل القرى، ظالما لها، وأهلها قوم مصلحون، تنزيها لذاته تعالى عن الظّلم، وإيذانا بأن إهلاك المصلحين من الظّلم. وقيل الظّلم: الشّرك، ومعناه: أنه لا يهلك القرى بسبب شرك أهلها، وهم مصلحون في المعاملات فيما بينهم، أو في أمورهم الاجتماعية، يتعاطون الحقّ فيما بينهم، ولا يضمون إلى شركهم فسادا آخر، أي لا ينزل عذاب الاستئصال لأجل كون القوم مجرّد كونهم معتقدين للشّرك والكفر، بل إنما ينزل العذاب إذا أساؤوا في المعاملات، وسعوا في الإيذاء والظّلم، كما فعل قوم شعيب، وقوم هود، وقوم فرعون، وقوم لوط. ويؤيده أنّ الأمم تبقى مع الكفر، ولا تبقى مع الظّلم.
ثم أخبر الله تعالى أنه قادر على جعل الناس أمة واحدة من إيمان أو كفر، فقال تعالى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ.. قال الزّمخشري معبّرا عن مذهب المعتزلة:
يعني لاضطرهم إلى أن يكونوا أهل ملّة واحدة، وهي ملّة الإسلام، كقوله تعالى: وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً [المؤمنون ٢٣/ ٥٢]. فهم يحملون الآية على مشيئة الإلجاء والإجبار، والمراد نفي الاضطرار، وأنه لم يقهرهم على الاتّفاق على دين الحقّ، ولكنه مكّنهم من الاختيار الذي هو أساس التّكليف، فاختار بعضهم الحقّ، وبعضهم الباطل، فاختلفوا، ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربّك أي إلا أناسا هداهم الله ولطف بهم، فاتّفقوا على دين الحقّ غير مختلفين فيه.
ويرى أهل السّنّة: أن الآية بيان لقدرة الله تعالى على جعل الناس كلهم على
178
منهج واحد من إيمان أو كفر، بخلقهم قابلين دينا واحدا، لكنه تعالى لم يشأ ذلك، مثل قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً [يونس ١٠/ ٩٩] وإنما شاء أن يكون لهم دور اختياري في الاتّجاه إلى الحقّ والإيمان ونبذ الضّلالة والشّرك، وقوله تعالى: إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ استثناء منقطع، أي لكن من رحم ربّك بالإيمان والهدى فإنه لم يختلف.
وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ أي في الأديان والاعتقادات والمذاهب والآراء، وقيل: في الهدى، أو في الرّزق يسخر بعضهم بعضا، قال ابن كثير: والمشهور الصّحيح الأول.
إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ أي المرحومين من أتباع الرّسل الذين تمسّكوا بما أمروا به من الدّين، الذي أخبرتهم به رسل الله إليهم، ولم يزل ذلك دأبهم، حتى جاء خاتم الرّسل، ففاز من اتّبعه بسعادة الدّنيا والآخرة، فهم الفرقة النّاجية.
وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ قال الزّمخشري ممثلا رأي المعتزلة: لِذلِكَ: إشارة إلى ما دلّ عليه الكلام الأول وتضمّنه، يعني: ولذلك المذكور من التّمكين والاختيار الذي كان عنه الاختلاف، خلقهم، ليثيب مختار الحقّ بحسن اختياره، ويعاقب مختار الباطل بسوء اختياره «١».
ويرى أهل السّنة كما ذكر أبو حيان: أنّ اللام ليست للتّعليل، وإنما هي على التّحقيق لام الصّيرورة في ذلك المحذوف، أي ليس الاختلاف والرّحمة علّة الخلق، وإنما خلقهم ليصير أمرهم إلى الاختلاف. مثل قوله تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص ٢٨/ ٨]. ولا يتعارض هذا مع قوله
(١) الكشّاف: ٢/ ١٢٠
179
تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذّاريات ٥١/ ٥٦] لأن معنى هذا الأمر بالعبادة «١».
والإشارة في قوله تعالى: لِذلِكَ: إشارة إلى الاختلاف والرّحمة معا في رأي ابن عباس، واختاره الطّبري، وقال مجاهد وقتادة: لِذلِكَ: إشارة إلى الرّحمة التي تضمّنها قوله تعالى: إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ والضّمير في خَلَقَهُمْ عائد على المرحومين.
وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ.. أي سبق في قضاء الله وقدره لعلمه التّام وحكمته النّافذة أن ممن خلقه من يستحق الجنّة، ومنهم من يستحق النّار، وأنه لا بدّ أن يملأ جهنّم من هذين الثّقلين: الجنّ والإنس، وهم الذين لا يهتدون بما أرسل الله به الرّسل من الآيات والأحكام. قال ابن عباس: خلقهم فريقين: فريقا يرحم فلا يختلف، وفريقا لا يرحم فيختلف، فذلك قوله تعالى: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ. وقوله تعالى: مِنَ الْجِنَّةِ مَنْ: لبيان الجنس، أي من جنس الجنّة وجنس النّاس.. وقوله تعالى: أَجْمَعِينَ تأكيد.
وفي الصّحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «اختصمت الجنّة والنّار، فقالت الجنّة: مالي لا يدخلني إلا ضعفاء النّاس وسقطهم «٢»، وقالت النّار: أوثرت بالمتكبّرين والمتجبّرين، فقال الله عزّ وجلّ للجنّة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء، وقال للنّار: أنت عذابي أنتقم بك ممن أشاء، ولكلّ واحدة منكما ملؤها، فأما الجنّة فلا يزال فيها فضل حتى ينشئ الله لها خلقا يسكن فضل الجنّة، وأما النّار فلا تزال تقول: هل من مزيد، حتى يضع لها ربّ العزّة قدمه، فتقول: قط قط «٣»، وعزّتك».
(١) البحر المحيط: ٥/ ٢٧٣
(٢) السّقط: رديء المتاع.
(٣) قط بمعنى حسب، وهو الاكتفاء. والقطّ: الكتاب والصّكّ بالجائزة، ومنه قوله تعالى:
عَجِّلْ لَنا قِطَّنا.
180
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
١- وجوب النّهي عن المنكر والفساد، والأمر بالمعروف، كما قال تعالى:
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ، وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران ٣/ ١٠٤]،
وفي الحديث الصّحيح: «إن الناس إذا رأوا المنكر، فلم يغيّروه، أوشك أن يعمّهم الله بعقاب».
٢- المصلحون في كلّ زمان، النّاهون عن الفساد في الأرض كقوم يونس، وأتباع الأنبياء وأهل الحقّ ناجون من عذاب الله تعالى.
٣- التّرف يدعو عادة إلى الإسراف المؤدّي إلى الفسوق والعصيان والظلم، والمترف: الذي أبطرته النّعمة وسعة المعيشة.
٤- الظّلم أو الاجرام كالشّرك والكفر وإلحاق الأذى والضّرر بالنّاس سبب موجب للعقاب في الدّنيا والآخرة، لكن المعاصي أقرب إلى عذاب الاستئصال في الدّنيا من الشّرك، وإن كان عذاب الشّرك في الآخرة أصعب.
٥- لم يكن الله ليهلك قوما بالكفر وحده، حتى ينضم إليه الفساد في المعاملات والعلاقات الاجتماعية، كما أهلك الله قوم شعيب ببخس المكيال والميزان، وقوم لوط باللواط.
٦- الله تعالى قادر على جعل النّاس كلّهم أمّة واحدة من إيمان أو كفر. قال الضّحّاك في آية: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ..: أهل دين واحد، أهل ضلالة، أو أهل هدى. وقال سعيد بن جبير: على ملّة الإسلام وحدها.
وأما قوله تعالى: وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ فقال مجاهد وقتادة: أي على أديان شتّى.
181
وقوله تعالى: وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ قال الحسن ومقاتل وعطاء: الإشارة إلى الاختلاف، أي وللاختلاف خلقهم. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضّحّاك: ولرحمته خلقهم. واختار الطّبري وتابعه القرطبي: الإشارة بذلك للاختلاف والرّحمة، وهو أولى في تقديري لأنه يعمّ، أي ولما ذكر خلقهم. ولام وَلِذلِكَ للعاقبة والصّيرورة كما بيّنا.
والقول بعموم إشارة وَلِذلِكَ أشار إليه مالك رحمه الله قال أشهب:
سألت مالكا عن هذه الآية قال: خلقهم ليكون فريق في الجنّة، وفريق في السّعير، أي خلق أهل الاختلاف للاختلاف، وأهل الرّحمة للرّحمة. وقال ابن عباس أيضا كما تقدّم: خلقهم فريقين: فريقا يرحمه وفريقا لا يرحمه.
٧- استدلّ أهل السّنّة بآية: إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ على أنّ الهداية والإيمان لا تحصل إلا بتخليق الله تعالى لأن تلك الرّحمة ليست عبارة عن إعطاء القدرة والعقل، وإرسال الرّسل، وإنزال الكتب، وإزالة العذر، فإن كلّ ذلك حاصل في حقّ الكفار، فلم يبق إلا أن يقال: تلك الرّحمة هو أنه سبحانه خلق فيه تلك الهداية والمعرفة «١».
٨- مما ثبت في الأزل وأخبر تعالى عنه وقدر أنه يملأ ناره، ويملأ جنّته، فقال تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ.. ،
وأخرج البخاري عن أبي هريرة أنّ النّبي صلى الله عليه وسلّم قال عن الجنّة والنّار: «ولكلّ واحدة ملؤها».
(١) تفسير الرّازي: ١٨/ ٧٧- ٧٨ [.....]
182
الفائدة العملية من قصص الأنبياء والأمر بالعبادة والتوكل على الله تعالى
[سورة هود (١١) : الآيات ١٢٠ الى ١٢٣]
وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٢٣)
الإعراب:
وَكُلًّا منصوب على المصدر ب نَقُصُّ وتنوينه عوض عن المضاف إليه، أي كل ما يحتاج إليه، وكل نوع من أنواع الاقتصاص نقص عليك.
ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ بيان لقوله: وَكُلًّا أو بدل منه، أو مفعول به.
المفردات اللغوية:
وَكُلًّا وكل نبأ نَقُصُّ نخبرك به، والقص: تتبع أثر الشيء للإحاطة به، كما قال تعالى: وَقالَتْ لِأُخْتِهِ: قُصِّيهِ.. [القصص ٢٨/ ١١]. مِنْ أَنْباءِ جمع نبأ: وهو الخبر المهم. نُثَبِّتُ بِهِ نقوّي ونطمئن. فُؤادَكَ قلبك، أي نجعله راسخا كالجبل، وهو المقصود من الاقتصاص، وهو زيادة يقينه، وطمأنينة قلبه، وثبات نفسه على أداء الرسالة، واحتمال أذى الكفار. وَجاءَكَ فِي هذِهِ الأنباء أو الآيات الْحَقُّ ما هو حق وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ إشارة إلى سائر فوائده العامة، وخصّ المؤمنون بالذكرى لانتفاعهم بها في الإيمان، بخلاف الكفار.
عَلى مَكانَتِكُمْ على حالتكم أو على تمكنكم واستطاعتكم. إِنَّا عامِلُونَ على حالتنا، وهو تهديد لهم. وَانْتَظِرُوا عاقبة أمركم. إِنَّا مُنْتَظِرُونَ أن ينزل بكم نحو ما نزل بأمثالكم.
183
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي علم ما غاب فيهما، لا يخفى عليه خافية مما فيهما.
وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ أي يرجع إليه أمرك وأمرهم، لا محالة، فينتقم ممن عصى.
فَاعْبُدْهُ وحده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ثق به، فإنه كافيك. وتقديم الأمر بالعبادة على التوكل تنبيه على ما هو الأنفع للعابد. وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أنت وهم، فيجازي كلّا ما يستحقه، وإنما يؤخرهم لوقتهم.
المناسبة:
بعد أن قص الله على نبيه أخبار الأنبياء مع أقوامهم، ذكر فائدة تلك القصص وحصرها في نوعين من الفائدة وهما: تثبيت الفؤاد على أداء الرسالة وعلى الصبر واحتمال الأذى، وبيان ما هو حق وعظة وعبرة وذكرى تذكر المؤمنين. ثم ختم السورة بما بدأها به وهو الأمر بالعبادة، والتوكل على الله، وعدم المبالاة بعداوة المشركين.
التفسير والبيان:
وكل خبر من الأخبار التي هي من أنباء الرسل المتقدمين من قبلك مع أممهم نقصها عليك لفائدتين:
الأولى- ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ أي ما به يقوى الفؤاد على أداء الرسالة وعلى الصبر واحتمال الأذى لأن الأنبياء الذين من قبلك تحملوا في محاجة أقوامهم الأذى الكثير، فصبروا على ما كذبوا به، فنصرهم الله وخذل أعداءهم الكافرين، فلك بمن مضى من إخوانك المرسلين أسوة.
الثانية- وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ أي وتبين لك في هذه السورة المشتملة على قصص الأنبياء، أو في هذه الأنباء والآيات، ما هو الحق والصدق واليقين: وهو وحدانية الله وعبادته وحده، وإثبات البعث، وفضيلة التقوى والخلق الفاضل، وفي تلك الأنباء عظة وعبرة يرتدع بها
184
الكافرون، وذكرى يتذكر بها المؤمنون. وخصّ هذه السورة بالذكر لأن فيها أخبار الأنبياء والجنة والنار.
والحق: البراهين الدالة على التوحيد والعدل والنبوة.
والموعظة: التنفير من الاعتماد الكلي على الدنيا وما فيها من شقاوة، وإيثارها على الآخرة وما فيها من سعادة.
والذكرى: الإرشاد إلى الأعمال الصالحة الباقية.
وبعد هذا الإنذار والترهيب والترغيب أمر الله رسوله بقوله: وَقُلْ لِلَّذِينَ أي وقل للكافرين الذين لا يؤمنون بما جئت به من ربك، على وجه التهديد: اعملوا على طريقتكم ومنهجكم وحالكم، وافعلوا كل ما تقدرون عليه في حقي من الشرّ، كما قال شعيب عليه السّلام لقومه، فنحن أيضا عاملون على طريقتنا ومنهجنا وما نقدر عليه من الدعوة إلى الخير، وانتظروا بنا نهاية أمرنا، إما بموت أو غيره مما تتأملون، إنا منتظرون عاقبة أمركم، وما ينزل بكم من عقاب نزل بأمثالكم، إما من عند الله أو بأيدي المؤمنين. قال ابن عباس رضي الله عنهما: وانتظروا الهلاك، فإنا منتظرون لكم العذاب.
والتهديد بقوله: اعْمَلُوا.. مثل قوله تعالى لإبليس: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ... [الإسراء ١٧/ ٦٤] وقوله سبحانه: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف ١٨/ ٢٩].
وتمني انتهاء أمر النبي حكاه الله عن المشركين بقوله: أَمْ يَقُولُونَ: شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطور ٥٢/ ٣٠].
وانتظار مصير الفريقين له شبيه في قوله تعالى: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [الأنعام ٦/ ١٣٥].
185
ثم ختم الله تعالى السورة بخاتمة جامعة سامية، جمعت كل مطالب الخير، فقال: وَلِلَّهِ غَيْبُ.. أي أنه تعالى عالم غيب السموات والأرض في الماضي والحاضر والمستقبل، وعلمه نافذ في جميع الكليات والجزئيات، والمعدومات والموجودات، والحاضرات والغائبات، ومرجع الكل ومصير الخلائق والكائنات إليه لأنه مصدر الكل ومبدأ الكل، وهو عظيم القدرة نافذ المشيئة، قهار للعبيد، وسيحاسب كل عامل بما عمل يوم الحساب، من صغير أو كبير.
وإذا كان الله هو المتصف بما ذكر، فاعبده وحده ومن معك من المؤمنين، وتوكل عليه في كل أمورك حق التوكل، وثق به تمام الثقة فيما تستطيع وما لا تستطيع، فمن توكل على الله فهو حسبه وكافيه، وما ربك بغافل عما تعملون، أي ليس بخفي عليه كل ما يعمل به المكذبون والمصدقون، وما عليه أحوالهم، وما تصدر عنه أقوالهم، وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء في الدنيا والآخرة، وسينصرك وحزبك عليهم في الدارين، فلا تبال بهم.
روى أحمد والترمذي وابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «الكيّس: من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز: من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني».
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- في إيراد قصص الأنبياء وما كابدوه من مشاق من أجل دعوتهم تسلية للنبي صلى الله عليه وسلّم، وتثبيت له على أداء الرسالة، والصبر على ما يناله فيها من الأذى.
وفيها بما تضمنته من بيان ما هو الحق واليقين عظة وعبرة وذكرى لكل مؤمن.
والموعظة: ما يتّعظ به من إهلاك الأمم الماضية. والذكرى: تذكر المؤمنين
186
ما نزل بمن هلك فيتوبون. وخصّ الله تعالى المؤمنين لأنهم المتعظون إذا سمعوا قصص الأنبياء.
٢- فيها تهديد ووعيد الكافرين على أعمالهم، وندب لهم أن يفعلوا في حق النبي صلى الله عليه وسلّم كل ما يقدرون عليه من الشر، فلن ينالوا منه شيئا. وفي هذا إعلان الثقة التامة بعصمة الله له، وتأكيد الإيمان بصحة عمله، والإنذار بسوء عاقبة المخالفين.
٣- العلم بالغيب والشهادة في جميع السموات والأرض، في الحاضر والماضي والمستقبل مختص بالله تعالى.
٤- المرجع والمآب في الدار الآخرة إلى الله تعالى، وليس لمخلوق أمر إلا بإذنه.
٥- إيجاب العبادة بالإخلاص لله وحده، وإيجاب التوكل على الله في كل شيء، أي اللجوء إليه والثقة به وتفويض الأمور إليه.
٦- الله مطلع على أحوال العباد وأقوالهم وأفعالهم، ويجازي كلّا بعمله، فلا يضيع طاعات المطيعين، ولا يهمل أحوال المتمردين الجاحدين، والجزاء بإحضارهم في موقف القيامة، وحسابهم على الصغير والكبير، والعتاب على كل شيء. وتحصل عاقبة الأمر: فريق في الجنة وفريق في السعير.
187

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة يوسف عليه السّلام
مكية وهي مائة وإحدى عشرة آية.
تسميتها وسبب نزولها:
سميت سورة يوسف، لإيراد قصة النبي يوسف عليه السّلام فيها،
روي أن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن قصة يوسف فنزلت السورة.
وقال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه- فيما رواه عنه الحاكم وغيره-: أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فتلاه عليهم زمانا، فقالوا: لو قصصت علينا فنزل: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ [يوسف ١٢/ ٣] و [الكهف ١٨/ ١٣] فتلاه عليهم زمانا، فقالوا: لو حدثتنا فنزل: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ [الزمر ٣٩/ ٢٣].
وقد نزلت بعد اشتداد الأزمة على النبي صلى الله عليه وسلّم في مكة مع قريش، وبعد عام الحزن الذي فقد فيه النبي زوجته الطاهرة خديجة، وعمه أبا طالب الذي كان نصيرا له.
روي في سبب نزولها أن كفار مكة لقي بعضهم اليهود وتباحثوا في شأن محمد صلى الله عليه وسلّم، فقال لهم اليهود: سلوه، لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر، وعن قصة يوسف، فنزلت.
وبالرغم من أنها سورة مكية، فأسلوبها هادئ ممتع، مصطبغ بالأنس والرحمة، واللطف والسلاسة، لا يحمل طابع الإنذار والتهديد كما هو الشأن
188
الغالب في السور المكية. قال عطاء: لا يسمع سورة يوسف محزون إلا استراح إليها. وروى البيهقي في الدلائل عن ابن عباس أن طائفة من اليهود حين سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم يتلو هذه السورة، أسلموا لموافقتها ما عندهم.
مناسبتها لما قبلها:
نزلت هذه السورة بعد سورة هود، وهي مناسبة لها، لما في كلّ من قصص الأنبياء، وإثبات الوحي على النبي صلى الله عليه وسلّم. وقد تكررت قصة كل نبي في أكثر من سورة في القرآن، بأسلوب مختلف، ولمقاصد وأهداف متنوعة، بقصد العظة والاعتبار، إلا قصة يوسف عليه السّلام، فلم تذكر في غير هذه السورة، وإنما ذكرت جميع فصولها بنحو متتابع شامل، للإشارة إلى ما في القرآن من إعجاز، سواء في القصة الكاملة أو في فصل منها، وسواء في حالة الإجمال أو حالة التفصيل والبيان. قال العلماء: ذكر الله أقاصيص الأنبياء في القرآن، وكرّرها بمعنى واحد في وجوه مختلفة، بألفاظ متباينة على درجات البلاغة، وذكر قصة يوسف ولم يكررها، فلم يقدر مخالف على معارضة ما تكرّر، ولا على معارضة غير المتكرر، والإعجاز لمن تأمل «١».
ما اشتملت عليه السورة:
تضمنت هذه السورة قصة يوسف عليه السّلام، بجميع فصولها المثيرة، المفرحة حينا والمحزنة حينا آخر، فبدأت ببيان منزلته عند أبيه يعقوب وصلته به، ثم علاقته بإخوته (مؤامرتهم عليه، وإلقاؤه في البئر، وبيعه لرئيس شرطة مصر، وشراؤهم الطعام منه في المرة الأولى ومنحهم إياه دون مقابل، ومنعهم شراء الطعام في المرة الثانية إن لم يأتوه بأخيهم (بنيامين) وإبقاء أخيه بنيامين لديه في
(١) تفسير القرطبي: ٩/ ١١٨
189
حيلة مدروسة وسرقة مزعومة، حتى يأتوه بأخيهم لأبيهم، ثم تعريفه نفسه لإخوته)، ومحنة يوسف وجماله الرائع، وقصة يوسف مع امرأة العزيز، وبراءته المطلقة، يوسف في غياهب السجون يدعو لدينه، بوادر الفرج وتعبير رؤيا الملك، توليته وزيرا للمالية والتجارة ورئاسة الحكم، إبصار يعقوب حين جاء البشير بقميص يوسف، لقاء يوسف في مصر مع أبويه وجميع أسرته.
ثم إيراد العبرة من هذه القصة، وإثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم، وتسليته، وبشائر الفرج بعد الضيق، والأنس بعد الوحشة، فإن يوسف عليه السّلام انتقل من السجن إلى القصر، وجعل عزيزا في أرض مصر، وكل من صبر على البلاء فلا بد من أن يأتيه الفرج والنصر، وتحذير المشركين من نزول العذاب بهم كما حدث لمن قبلهم، والدروس والأخلاق المستفادة من قصة يوسف عليه السّلام، وأهمها نصر الرسل بعد الاستيئاس.
أضواء من التاريخ على قصة يوسف عليه السّلام «١» :
نسب يوسف:
هو يوسف بن يعقوب (إسرائيل الله) بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام.
وهو أحد أولاد يعقوب الاثني عشر ذكرا الذين ولدوا في فدان آرام أثناء رعاية غنم خاله (لابان) مقابل تزوجه ابنتيه، إلا بنيامين فقد ولد في أرض كنعان بعد رحيله إليها.
قال النبي صلى الله عليه وسلّم عن يوسف فيما أخرجه أحمد والبخاري عن ابن عمر: «الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم: يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم».
وكان يوسف رائع الجمال، محبوبا لدى أبيه، مما أثار حقد إخوته عليه وتآمرهم عليه. وقد رأى في منامه في صغره في سن السابعة عشرة سنة أو
(١) انظر قصص الأنبياء للأستاذ عبد الوهاب النجار ١٢٠ وما بعدها
190
الثانية عشرة أن أحد عشر كوكبا والشمس والقمر سجدوا له، فقصّ الرؤيا على أبيه، فبشره بالنبوة وتعبير الأحلام.
إلقاء يوسف في البئر:
أخذه إخوته معهم إلى البرية بقصد السياحة واللعب، ثم ألقوه في البئر، وأخبروا أباهم كذبا أن الذئب أكله، فلم يقتنع الأب الصالح بكلامهم، واتهمهم بمكيدة أوقعوها فيه، ثم أنقذه الله بتعلقه بحبل دلو أدلي في البئر، ثم باعه آخذوه في مصر بثمن نجس، وادعوا أنهم اشتروه من سيده، باعوه لرئيس الشرطة وهو العزيز في محافظة الشرقية قرب بحيرة المنزلة، واسمه (فوطيفار) أو (أطفير) فأحبه وقال لامرأته زليخا: أَكْرِمِي مَثْواهُ.. وجعله صاحب أمره ونهيه، ورئيس خدمه والمتصرف في بيته، وتولاه الله تعالى بالهداية والتربية والتوفيق.
محنة يوسف:
وكان جماله الرائع سبب محنته،
روى مسلم في صحيحة أنه صلى الله عليه وسلّم قال: «فإذا أنا بيوسف إذا هو قد أعطي شطر الحسن»
فأحبته امرأة العزيز، وراودته عن نفسه، فأبى إيمانا بالله، وامتثالا لأمره، واجتنابا لمنهياته، وتقديرا لأفضال زوجها عليه: إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وامتنع همّه بها لوجود البرهان عنده، وهو حرصه على الطاعة، والتمسك بآداب آبائه، لأنحرف امتناع لوجود، امتنع الهم لوجود البرهان، كما في قوله تعالى:
وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً، إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ، أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها، لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [القصص ٢٨/ ١٠] أي امتنع إبداؤها بما في نفسها على ابنها، لوجود الربط على قلبها.
مكيدة امرأة العزيز:
ولما خابت في تحقيق رغبتها منه، حقدت عليه، كما هو شأن السادة عند ما
191
يخالفهم أحد الأتباع. ولما رأت زوجها لدى الباب يريد الدخول، لفقت عليه التهمة، وأفهمته أنه يريدها بسوء، فكذبها يوسف الصّديق، فاحتكم الزوج العاقل إلى القرائن: إن كان قميصه مزّق من الأمام فهي الكاذبة، وإن مزق من الخلف فهو الصادق، لأن المقدم على المرأة يظهر أثر مقاومتها ودفاعها من الناحية الإمامية، والهارب من المرأة يظهر أثر لحاقها به من الخلف، فظهرت براءته، والتصقت التهمة بها، وأمر يوسف بكتمان الخبر، وأمرها بالاستغفار لذنبها.
ومع هذا، شاع خبر امرأة العزيز وفتاها في أرجاء المدينة، ولامتها النساء، فأعدت لهن طعاما يحتاج إلى القطع بالسكين، وآتت كل واحدة سكينا، وأمرت يوسف أن يخرج عليهن، فبهرهن جماله، فقطعن أيديهن، وقلن: ما هذا بَشَراً، إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ فعذرنها، ثم هددته بالسجن إن لم يستجب لها، وفشا أمره بين الناس، فرأى سيده أن يزجه في السجن، ليحمي سمعة امرأته.
دخول يوسف إلى السجن ودعوته لدينه فيه:
وأدخل يوسف السجن، ودخل معه السجن فتيان: أحدهما: رئيس الخبازين عند الملك، والثاني: رئيس سقاته، فرأى الثاني في منامه أنه يعصر في كأس الملك خمرا، ورأى الأول أنه يحمل فوق رأسه خبزا وطيرا تأكل الناس منه، وطلبا من يوسف تعبير الرؤيا.
فأظهر يوسف مقدرته على تأويل الرؤيا، ولكنه قدم لذلك بدعوته السجناء إلى توحيد الله، قائلا لصاحبيه: أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ؟ وقال للساقي: إنه يسقي ربه خمرا، وقال للآخر: إنه سيصلب، فتأكل الطير من رأسه. وتأمل يوسف الفرج وقال لمن ظن أنه ناج منهما:
اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ، فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ، فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ.
192
رؤيا الملك:
ثم رأى الملك أن سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف، وسبع سنابل خضراء حسنة في ساق واحدة يأكلهن سبع يابسات، فدعا بالسحرة لسؤالهم عن تأويل المنام، فقالوا: أضغاث أحلام، وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين.
فتذكر ساقي الملك يوسف في السجن، فعرض الأمر على الملك، فوافق على أن يرسله إلى السجن ليأتي له بالتفسير الصحيح للمنام، فجاءه فيه، ثم عاد بالجواب إلى الملك، فقال الملك: ائتوني بيوسف، فأبى يوسف الخروج من السجن، حتى تظهر براءته وحقيقة أمره مع النساء، فأحضرهن الملك، وسألهن عنه، قلن: حاشا لله ما علمنا عليه من سوء، وأقرت امرأة العزيز (زليخا) ببراءته، وقالت: الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ، أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ. ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ، وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ. وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي، إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ، إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي، إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ وآية:
إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ منصوب لأنه استثناء منقطع، ويجوز فيه الرّفع على البدل من
وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي من قول امرأة العزيز، لا من قول يوسف كما يذكر بعض المفسرين خطأ.
خروج يوسف من السجن إلى القصر:
وخرج يوسف من السجن بريئا من التهمة، وسأله الملك عن أي عمل يرضاه لنفسه؟ فقال يوسف: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ فجعله على كل أرض مصر، وصاحب الأمر والنهي، ووزيرا للمالية والتجارة ورئاسة الحكم، وجعل خاتمه في يد يوسف الذي أصبح عمره ثلاثين سنة.
طلب إخوة يوسف الطعام منه:
ومرت السنوات السبع المخصبة، ثم جاءت السبع المجدبة، فباع يوسف المصريين من مخازن القمح التي كان قد ادخرها أثناء الخصب، ثم جاءه أهل
193
فلسطين، وأرسل يعقوب أولاده مع الجمال والحمير لحمل الطعام من مصر، فلما قدموا عرفهم يوسف ولم يعرفوه، إذ أصبح في سن الأربعين، وطلب منهم أن يأتوه بأخ لهم من أبيهم مرة أخرى، وأعطاهم الطعام بلا ثمن، ليأتوه بأخيهم، دون أن يعلموا أنه ردّ عليهم الثمن، ووضع نقودهم في أوعيتهم لأنهم سيعودون بها إليه لأنهم لا يقبلون ما ليس لهم.
ولما اشتد القحط بأهل فلسطين، سمح يعقوب بسفر ابنه (بنيامين) مع إخوته، فلما قدموا أحسن يوسف ضيافتهم واستقبالهم في حفل غداء ظهرا، ولكنه لم يأكل معهم جريا على عادة المصريين الذين يعتبرون الأكل مع العبرانيين نجاسة، وأخبروا خادما ليوسف أنهم عادوا بالفضة ثمن الطعام سابقا، وبفضة أخرى لشراء القمح.
حيلة يوسف في إبقاء أخيه عنده:
أمر يوسف بتجهيز إخوته من الطعام، وأمر أن توضع فضة كل واحد في عدله، وأن يوضع صواع الملك في رحل أخيه بنيامين، وعند ما عزموا على المسير، نودوا بأنهم سرقوا سقاية الملك، وأن من سرقه فهو فداؤه في قانون الملك. ففتشت أعدالهم، ثم أخرج الصواع من عدل بنيامين، فتوسطوا لدى الملك واسترحموا أن يأخذ أحدهم بدلا عنه لأن له أبا شيخا كبيرا، فأبى، فقالوا: إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل، فأسرها يوسف في نفسه، وقال لهم: أنتم شرّ مكانا من هذا السارق.
وسرقة يوسف المزعومة:
أن أمه ماتت وهو صغير، فكفلته عمته، ولما أراد أبوه أن يأخذه منها، ألبسته منطقة لإبراهيم كانت عندها، وأخفتها تحت ثيابه، ثم أظهرت أنها سرقت منها، ثم أخرجتها من تحت ثيابه، وطلبت بقاءه عندها يخدمها مدة، جزاء له بما صنع.
194
فلما قدم إخوة يوسف على أبيهم يعقوب ما عدا أكبرهم وأصغرهم، أخبروه بما حدث، فازداد حزنا حتى ابيضت عيناه، وتذكر يوسف فقال: يا أسفا على يوسف.
تعارف الإخوة ولقاء الأسرة:
ثم جاء إخوة يوسف إلى مصر في المرة الثالثة، وطلبوا إمدادهم بالطعام، لما تعرضوا له من الضرّ (الجوع) قائلين: وجئنا ببضاعة مزجاة أي قليلة، كما طلبوا إطلاق سراح أخيهم، فذكرهم يوسف بإساءتهم القديمة قائلا: هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ، إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ فعرفوا أنه يوسف: قالُوا: أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ؟ قالَ: أَنَا يُوسُفُ، وَهذا أَخِي، قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا...
وأعطاهم قميصه لإلقائه على وجه أبيهم، والإتيان بأهله أجمعين إليه، فلما وصلوا فلسطين ألقوا القميص على وجه يعقوب، فارتد بصيرا، وبشره البشير بسلامة يوسف وأخيه.
فجاء يعقوب وآله إلى مصر، فآوى يوسف إليه أبويه: يعقوب وزوجه خالة يوسف، لموت أمه وهو صغير، وسجد له أبوه وأمه وإخوته الأحد عشر سجود تحية وتعظيم، لا سجود عبادة، وتلك هي تأويل رؤياه السابقة بسجود أحد عشر كوكبا له مع الشمس والقمر، وكان هذا اللقاء فرحة كبري للأسرة برئاسة يعقوب، استوجبت من يوسف إعلان شكر الله تعالى على نعمه عليه، من العلم والملك، وطلب من الله تعالى أن يتولاه في الدنيا والآخرة، وأن يتوفاه مسلما أي مطيعا لله، غير عاص، وأن يلحقه بالصالحين من آبائه الأنبياء.
العبر والعظات المستفادة من قصة يوسف:
يمكن استخلاص عبر كثيرة وعظات عديدة، وأخلاق وفضائل سامية من قصة يوسف عليه السّلام، منها:
195
١- قد تؤدي النقمة إلى النعمة، فقد بدأت قصة يوسف بالأحزان والمفاجآت المدهشة، من الإلقاء به في البئر، ثم بيعه عبدا لرئيس شرطة مصر، ثم كانت محنته الشديدة مع النساء، فزجّ به في غياهب السجون، ثم آل الأمر به إلى أن يصبح حاكم مصر الفعلي.
٢- قد توجد ضغائن وأحقاد بين الإخوة ربما تدفع إلى الموت أو الهلاك.
٣- كانت نشأة يوسف في بيت النبوة نشأة صالحة، تربى فيها على الأخلاق الكريمة، والخصال الرفيعة، فشب على تلك الأوصاف الكاملة التي ورثها من آبائه وأجداده الأنبياء، وقد أفاده ذلك في مختلف الأحداث الكبرى التي مرا، وانتصر بها على المحن، وجاءه الفرج بعد الشدة، والعز والنصر بعد الذل والانكسار.
٤- إن العفة والأمانة والاستقامة مصدر الخير كله، للرجال والنساء، على حدّ سواء، وإن الاستمساك بالدين والفضيلة مصدر الاحترام وحسن السمعة، وإن الحق وإن استتر زمنا لا بدّ من أن يظهر ولو بعد حين.
٥- إن مثار الفتنة هو خلوة الرجل بالمرأة، لذا حرمها الإسلام، وحرم سفر المرأة لمسافة قصيرة بغير محرم، ولو بوسائط النقل السريعة الحديثة، لما يطرأ لها من عثرات ومضايقات ملحوظة ومشكلات تصاحب الأسفار، ثبت في الحديث الذي أخرجه الترمذي والنسائي: «لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان».
٦- الإيمان بالمبدأ، وصلابة الاعتقاد سبيل لتخطي الصعاب، والترفع عن الدنايا، وذلك هو الذي جعل ليوسف نفسا كريمة، وروحا طاهرة، وعزيمة صماء لا تلين أمام الشهوات والمغريات.
٧- الاعتصام بالله عند الشدة، واللجوء إليه عند الضيق، فلم يأبه يوسف
196
عليه السّلام بتوعد امرأة العزيز له بالسجن، وإنما لجأ إلى الله قائلا: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ.
٨- المحنة لا تثني المؤمن عن واجبه في الدعوة إلى الله تعالى، فإن يوسف عليه السّلام بالرغم من كونه في السجن، انتهز فرصة تأويل رؤيا سجينين معه، فبادر إلى الدعوة إلى التوحيد ودين الله، لعل الموجودين معه يؤمنون بدعوته، وقد أسلم فعلا الملك، ومستعبر الرؤيا الساقي، والشاهد فيما يقال.
٩- الفطنة لاستغلال الأحداث والاتصاف بالإباء والشمم، فلم يبادر يوسف عليه السّلام إلى الخروج من السجن، حتى تعلن براءته، وتظهر طهارته، وشرف نفسه، حتى لا يوصف بأنه مجرم، أودع السجون بجرمه.
١٠- إظهار فضيلة الصبر، فقد كان يوسف متدرعا بدرع الصبر على الأذى، لاجتياز العقبات والصعاب والمصائب التي تعرّض لها وهي ما ذكر، والصبر مفتاح الفرج، ونصف الإيمان، وطريق تحقيق النصر، وقد نصره الله كما نصر باقي الرسل بعد الاستيئاس. وتوّج نصره بالعفو عن إخوته وكرمه في العفو الذي أصبح مضرب الأمثال، حتى قال: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ، يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ....
١١- أسفرت قصة يوسف عن براءته المطلقة، كبراءة الذئب من دمه، فقد تضافرت شهادات عديدة على براءته، كما ذكر الرازي «١» :
أولها- شهادة رب العالمين: فقد شهد الله تعالى ببراءته عن الذنب بقوله:
كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ، إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ شهد تعالى في هذه الآية على طهارته أربع مرات، بقوله: لِنَصْرِفَ.. واللام للتأكيد
(١) تفسير الرازي: ١٨/ ١١٦ وما بعدها.
197
والمبالغة، وقوله: وَالْفَحْشاءَ وقوله: إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا وقوله:
الْمُخْلَصِينَ.
وثانيها- شهادة الشيطان ببراءته بقوله: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص ٣٨/ ٨٢] فأقر بأنه لا يمكنه إغواء المخلصين، ويوسف من المخلصين، للآية السابقة.
وثالثها- شهادة يوسف عليه السّلام بقوله: هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وقوله: رَبِّ، السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ.
ورابعها- شهادة امرأة العزيز: فإنها اعترفت ببراءته وطهارته، فقالت للنسوة: وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ، فَاسْتَعْصَمَ وقالت: الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ، أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ.
وخامسها- الشهود من أهل العزيز: وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها، إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ. وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ، فَكَذَبَتْ، وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ.. الآية.
وسادسها- شهادة النسوة اللائي قطّعن أيديهن بقولهن: ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ.
كل تلك الشهادات قاطعة ببراءة يوسف عليه السّلام، فمن أراد أن يتهمه بالهمّ على السوء- علما بأن الهمّ أمر نفسي لا عقاب عليه- فهو من دعاة السوء، وأهل الجهالة والغباوة، وأدنى من الشيطان الذي شهد كما أوضحنا بطهارة يوسف.
١٢- أرشدت قصة يوسف إلى أنه لا دافع لقضاء الله تعالى، ولا مانع من قدر الله تعالى، وأنه تعالى إذا قضى للإنسان بخير ومكرمة، لم يمنعه عنه أحد ولو اجتمع العالم عليه.
198
Icon