تفسير سورة هود

تفسير القاسمي
تفسير سورة سورة هود من كتاب محاسن التأويل المعروف بـتفسير القاسمي .
لمؤلفه جمال الدين القاسمي . المتوفي سنة 1332 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

١١- سورة هود
أضيفت إليه لتضمنها نبأه مع قومه، وتمييزا لها، وإن تضمنت أنباء غيره من الأنبياء عليهم السلام.
وقال المهايميّ : سميت به لقوله١ :﴿ إني توكلت على الله ربي وربكم، ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها، إن ربي على صراط مستقيم ﴾ الدال على توحيد الأفعال، مع استقامته بإعطاء كل مستعد ما يستعد له، المقتضية للأحكام والجزاء، وهي من أعظم المقاصد. اه.
وهي مكية. واستثني منها ثلاث آيات أنزلت بالمدينة فألحقت بها :﴿ فلعلك تارك ﴾ ٢ ﴿ أفمن كان على بينة من ربه ﴾ ٣، ﴿ وأقم الصلاة طرفي النهار ﴾ ٤.
وآياتها مائة وثلاث عشرون.
روى الحاكم عن أبي بكر رضي الله عنه قال :" يا رسول الله ! قد شبت ! قال : قد شيبتني ( هود ) و ( الواقعة ) و ( المرسلات ) و ﴿ عم يتساءلون ﴾ و ﴿ إذا الشمس كورت ﴾ ". ورواه هو والترمذي عن ابن عباس.
وروي أيضا عن أنس وسهل وعمران. وفي رواية :" شيبتني هود وأخواتها ذكر يوم القيامة وقصص الأمم ". وفي رواية :" شيبتني هود وأخواتها. وما فعل بالأمم ".
١ [١١ / هود / ٥٦]..
٢ [١١ / هود ١٢]..
٣ [١١ / هود / ١٧]..
٤ [١١ / هود / ١١٤]..

القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١)
الر تقدم الكلام على مثلها في أول سورة البقرة فليتذكر.
كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ أي نظمت نظما رصينا محكما معجزا، وأثبتت دائمة على حالها لا تتبدل ولا تتغير ولا تفسد، محفوظة عن كل نقص وآفة ثُمَّ فُصِّلَتْ أي لأنواع من دلائل التوحيد والأحكام والمواعظ والقصص، كما تفصل القلائد بالفرائد. أو جعلت فصولا سورة سورة، وآية آية، أو فصل فيها ما يحتاج إليه العباد، أي: بيّن ولخّص.
قيل: (ثم) هنا للتراخي في الحكم، أي الرتبة أو التراخي بين الإخبارين، لا للتراخي في الوقت، لأن التفصيل والإحكام صفتان لشيء واحد، لا تنفك إحداهما عن الأخرى، فليس بينهما ترتب وتراخ، وهذا التكلف، على أن (ثم) تقتضي الترتيب، وقد خالف قوم في اقتضائها إياه، كما حكاه في (المغني).
مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أي إحكامها وتفصيلها من لدن حكيم بناها على علم وحكمة، لا يمكن أحسن منها، وأشد إحكاما. وخبير بتفاصيلها على ما ينبغي في النظام الحكمي في تقديرها وتوقيتها وترتيبها- قاله القاشاني-.
قال الزمخشري: وفيه طباق حسن، لأن المعنى أحكمها حكيم وفصلها، أي بيّنها وشرحها خبير عالم بكيفيات الأمور.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٢]
أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢)
أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قال القاشاني: أي تنطق عليكم بلسان الحال والدلالة، ألا تشركوا بالله في عبادته، وخصوه بالعبادة.
وقال الزمخشري: أَلَّا مفعول له، أي لئلا. أو (أن) مفسرة، لأن في تفصيل
الآيات معنى القول، كأنه قيل: قال لا تعبدوا إلا الله، أو أمركم ألا تعبدوا إلا الله.
وقوله تعالى: إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ كلام على لسان الرسول، أي إنني أنذركم، من الحكيم الخبير، عقاب الشرك وتبعته، وأبشركم منه بثواب التوحيد وفائدته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٣]
وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣)
وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ أي من الشرك ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ لطاعة. أو المعنى: ثم أخلصوا التوبة واستقيموا عليها، كقوله: ثُمَّ اسْتَقامُوا [فصلت: ٣٠] و [الأحقاف: ١٣].
يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي يطوّل نفعكم في الدنيا بمنافع حسنة مرضية، من عيشة واسعة. ونعم متتابعة، إلى وقت وفاتكم، كقوله: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً [النحل: ٩٧].
وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ أي ويعط كل ذي فضل في العمل الصالح في الدنيا أجره، وثواب فضله في الآخرة.
وَإِنْ تَوَلَّوْا أي تتولوا عن التوحيد والتوبة إليه فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ وهو يوم القيامة.
قال القاشاني: (كبير) أي شاق عليكم، وهو يوم الرجوع إلى الله، القادر على كل شيء، أي يوم ظهور عجزكم، وعجز ما تعبدون، بظهوره تعالى في صفة قادريته، فيقهركم بالعذاب، ولذا قال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : الآيات ٤ الى ٥]
إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤) أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٥)
إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
ثمّ بيّن تعالى إعراضهم بجسمهم أيضا، إلى الإشارة إلى توليهم بقلبهم، بقوله:
أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ أي يزورّون عن الحق واستماعه بصدورهم لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ أي في قلوبهم وَما يُعْلِنُونَ أي يجهرون بأفواههم إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بما في ضمائر القلوب. ونظير ما حكي هنا عن مشركي مكة من كراهتهم لاستماع كلامه تعالى، ما قاله تعالى عن قوم نوح: وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً [نوح: ٧]، وما ذكرناه هو أظهر ما تحمل عليه الآية- والله أعلم-.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٦]
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦)
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها أي ما تعيش به، وإنما جيء ب (على) اعتبارا لسبق الوعد به، وتحقيقا لوصوله إليها البتة، بطريق التكفل الشبيه بالإيجاب وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها أي مسكنها في الدنيا. أو في الصّلب وَمُسْتَوْدَعَها أي بعد الموت، أو في الرحم كُلٌّ أي من الدواب ورزقها ومستقرها ومستودعها فِي كِتابٍ مُبِينٍ أي مسطور في كتاب عنده تعالى، مبين عن جميع ذلك.
ثم بين تعالى عظيم قدرته في تكوينه وإبداعه بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٧]
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ من الأحد إلى الجمعة وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ أي ما كان تحته قبل خلق السموات والأرض، وارتفاعه فوقها، إلا الماء. وفيه دليل على أن العرش والماء كانا مخلوقين قبل السموات والأرض- كذا في الكشاف-.
قال القاضي: أي لم يكن بينهما حائل، لا أنه كان موضوعا على متن الماء.
قال: قتادة: ينبئنا تعالى في هذه الآية كيف كان بدء خلقه قبل أن يخلق السموات والأرض.
74
روى الإمام أحمد «١» عن أبي رزين- واسمه لقيط بن عامر العقيليّ- قال: قلت يا رسول الله! أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال: كان في عماء، ما تحته هواء، وما فوقه هواء، ثم خلق العرش بعد ذلك. ورواه الترمذي «٢»
وحسنه وقال: قال أحمد:
يريد بالعماء أنه ليس معه شيء.
وقال البيهقيّ في كتاب (الأسماء والصفات) :(العماء) ممدود كما رأيته مقيدا كذلك، ومعناه السحاب الرقيق، أي فوق سحاب، مدبرا له، وعاليا عليه. كما قال تعالى: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ [الملك: ١٦]، يعني من فوق السماء. وقوله:
(ما فوقه هواء) أي ما فوق السحاب هواء. وكذلك قوله: (وما تحته هواء) أي ما تحت السحاب هواء.
وقد قيل: إن ذلك (العمى) مقصور، بمعنى لا شيء ثابت، لأنه مما عمي عن الخلق، فكأنه قال في جوابه: كان قبل أن يخلق الخلق، ولم يكن شيء غيره. و (ما) فيهما نافية. أي: ليس فوق العمى، الذي هو لا شيء موجود، هواء، ولا تحته هواء.
لأنه إذا كان غير موجود، فلا يثبت له هواء بوجه. انتهى ملخصا.
وقال ابن الأثير: العماء في اللغة: السحاب الرقيق، وقيل الكثيف، وقيل هو الضباب. وفي الحديث حذف، أي أين كان عرش ربنا؟ دل عليه قوله تعالى: وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ.
وحكى بعضهم أنه العمى المقصور. قال: وهو كل أمر لا يدركه الفطن.
وقال أبو عبيد: إنما تأولنا هذا الحديث على كلام العرب المعقول عنهم، وإلا فلا ندري كيف كان ذلك العماء!.
قال الأزهريّ: فنحن نؤمن به ولا نكيّف صفته.
وقوله تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أي أخلصه، متعلق ب (خلق) أي:
خلقهن لحكمة بالغة، وهي أن يجعلهن مساكن لعباده، وينعم عليهم بفنون النعم، فيعبدوه وحده، ويتسابقوا في العمل الذي يرضيه. ولما كان الابتلاء والاختبار لمن تخفى عليه عاقبة الأمور، قيل: إنه هنا تمثيل واستعارة، فشبه معاملته تعالى عباده في خلق المنافع لهم، وتكليفهم شكره، وإثابتهم إن شكروا، وعقوبتهم إن كفروا-
(١) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٤/ ١١.
(٢) أخرجه الترمذي في: التفسير، ١١- سورة هود، حدثنا أحمد بن منيع.
75
بمعاملة المختبر مع المختبر، ليعلم حاله ويجازيه، فاستعير له الابتلاء على سبيل التمثيل، (ليبلوكم) موضع (يعاملكم) ويصح أن يكون مجازا مرسلا، لتلازم العلم والاختبار. أي: خلق ذلك ليعلم، أي: ليظهر تعلق علمه الأزليّ بذلك.
قال القاشانيّ: جعل غاية خلق الأشياء ظهور أعمال الناس. أي: خلقناهم لنعلم العلم التفصيليّ التابع للوجود الذي يترتب عليه الجزاء، أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، فإن علم الله قسمان: قسم يتقدم وجود الشيء في اللوح، وقسم يتأخر وجوده في مظاهر الخلق. والبلاء الذي هو الاختبار هو هذا القسم- انتهى-.
ونحو هذه الآية قوله تعالى: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا [ص: ٢٧]، وقوله: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ، فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون: ١١٥- ١١٦]، وقوله سبحانه: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: ٥٦].
وقوله تعالى: وَلَئِنْ قُلْتَ أي لأهل مكة إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ أي محيون مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا أي القول بالبعث، أو القرآن المتضمن لذكره إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أي مثله في الخديعة والبطلان.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٨]
وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨)
وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ أي جماعة من الأوقات محصورة.
والعذاب هو عقاب الآخرة، أو عذاب الدنيا ببدر، أو هلاك المستهزئين الذين ماتوا قبل بدر لَيَقُولُنَّ أي استهزاء ما يَحْبِسُهُ أي عنا. أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ أي دار ونزل بهم ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي العذاب الذي كانوا به يستعجلون.
لطيفة:
(الأمة) تستعمل في الكتاب والسنة في معان متعددة. فيراد بها الأمد، كما هنا وقوله في يوسف: وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ [يوسف: ٤٥]، والإمام المقتدى به، كقوله:
إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ [النحل: ١٢٠]، والملة والدين كآية: إِنَّا وَجَدْنا
آباءَنا عَلى أُمَّةٍ
[الزخرف: ٢٢- ٢٣]، والجماعة كآية: وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ [القصص: ٢٣]، وقوله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل: ٣٦]- أفاده ابن كثير-.
ثم أخبر سبحانه عن الإنسان، وما فيه من الصفات الذميمة، إلا من رحم الله من عباده المؤمنين، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٩]
وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (٩)
وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً أي نعمة ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ أي قنوط عن عودها، قطوع رجاءه من فضله تعالى، من غير صبر ولا تسليم لقضائه، كَفُورٌ عظيم الكفران لما سلف له من التقلب في نعمة الله، كأنه لم ير خيرا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ١٠]
وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠)
وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي أي المصائب التي ساءتني إِنَّهُ لَفَرِحٌ أي أشر بطر فَخُورٌ أي على الناس بما أذاقه الله من نعمائه، قد شغله الفرح والفخر عن الشكر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ١١]
إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١١)
إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا أي على الضرّاء، إيمانا بالله، واستسلاما لقضائه وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي في الرخاء والشدة، شكرا لآلائه، سابقها ولاحقها أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ أي لذنوبهم بتلك الشدة وَأَجْرٌ كَبِيرٌ أي الصبر والأعمال الصالحة.
تنبيه:
قال القاشاني قدس سره: ينبغي للإنسان أن يكون في الفقر والغنى، والشدة والرخاء، والمرض والصحة، واثقا بالله، متوكلا عليه، لا يحتجب عنه بوجود نعمة، إلا بسعيه وتصرفه في الكسب، ولا بقوته وقدرته في الطلب ولا بسائر الأسباب
والوسائط، لئلا يحصل اليأس عند فقدان تلك الأسباب، والكفران والبطر والأشر عند وجودها، فيبعد بها عن الله تعالى، وينساه فينساه الله. بل يرى الإعطاء والمنع منه دون غيره. فإن أتاه رحمة من صحة أو نعمة، شكره أولا برؤية ذلك منه. وشهود المنعم في صورة النعمة، وذلك بالقلب، ثم بالجوارح باستعمالها في مراضيه وطاعته، والقيام بحقوقه تعالى فيها، ثم باللسان بالحمد والثناء متيقنا بأنه القادر على سلبها، محافظا عليها بشكرها، مستزيدا إياها، اعتمادا على قوله تعالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم: ٧].
قال أمير المؤمنين عليه السلام: إذا وصلت إليكم أطراف النعم، فلا تنفّروا أقصاها بقلة الشكر.
ثمّ إن نزعها منه، فليصبر ولا يتأسف عليها، عالما بأنه هو الذي نزع دون غيره، لمصلحة تعود إليه، فإن الرب تعالى كالوالد المشفق في تربيته إياه، بل أرأف وأرحم، فإن الوالد محجوب عما يعلمه تعالى، إذ لا يرى إلا عاجل مصالحه وظاهرها، وهو العالم بالغيب والشهادة، فيعلم ما فيه صلاحه عاجلا وآجلا، راضيا بفعله، راجيا إعادة أحسن ما نزع منها إليه، إذ القانط من رحمته بعيد منه، لا يستوسع رحمته لضيق وعائه، محجوب عن ربوبيته، لا يرى عموم فيض رحمته ودوامه. ثم إذا أعادها لم يفرح بوجودها، كما لم يحزن بفقدانها، ولا يفخر بها على الناس، فإن ذلك من الجهل، وظهور النفس، وإلا لعلم أن ذلك ليس منه وله، وبأي سبب يسوغ له فخر بما ليس له ومنه؟ بل لله ومن الله.
وقوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا استثناء من (الإنسان) أي هذا النوع يؤوس كفور، فرح فخور، في الحالين، إلا الذين صبروا مع الله واقفين معه، في حالة الضراء والنعماء والشدة والرخاء، كما قال عمر رضي الله عنه: الفقر والغنى مطيتان، لا أبالي أيهما أمتطي. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ١٢]
فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢)
فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أي بتلاوته عليهم، وتبليغه إليهم، أَنْ يَقُولُوا أي مخافة أن يقولوا، تعاميا عن تلك البراهين التي لا تكاد تخفى صحتها على أحد ممن له أدنى بصيرة، وتماديا في العناد على وجه الاقتراح
78
لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ أي هلّا أنزل عليه ما اقترحنا من الكنز والملائكة، زعما أن الرسول متبوع، لا بد له من الإنفاق على أتباعه، ولا يتأتى مع عدم سلطنته إلا بإلقاء الكنز عليه، أو مجيء ملك معه يصدق برسالته، فقال تعالى:
إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ أي ليس عليك إلا الإنذار بما أوحي إليك، غير مبال بما صدر منهم من الاقتراح وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ أي فيحفظ ما يقولون ويجازيهم عليه، فكل أمرك إليه، وبلغ وحيه بقلب منشرح، غير مبال بهم.
لطائف:
الأولى- قال القاشانيّ: لما لم يقبلوا كلامه ﷺ بالإرادة، وأنكروا قوله بالاقتراحات الفاسدة، وقوله بالعناد والاستهزاء، ضاق صدره، ولم ينبسط للكلام، إذ الإرادة تجذب الكلام، وقبول المستمع يزيد نشاط المتكلم، ويوجب بسطه فيه، وإذا لم يجد المتكلم محلّا قابلا لم يتسهل له، وبقي كربا عنده، فشجعه الله تعالى بذلك، وهيّج قوته ونشاطه بقوله: إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ، فلا يخلو إنذارك من إحدى الفائدتين: إما رفع الحجاب بأن ينجع فيمن وفقه الله تعالى لذلك، وإما إلزام الحجة لمن لم يوفق لذلك، ثم كل الهداية إليه.
الثانية- لا يخفى أن (لعل) للترجي، وهو، وإن اقتضى التوقع، إلا أنه لا يلزم من توقع الشيء وقوعه، ولا ترجح وقوعه، لوجود ما يمنع منه. وتوقع ما لا يقع منه، المقصود تحريضه على تركه، وتهييج داعيته.
وقيل: (لعل) هنا للتبعيد لا للترجي، فإنها تستعمل كذلك، كما تقول العرب: لعلك تفعل كذا، لمن لا يقدر عليه. فالمعنى: لا تترك.
وقيل: إنها للاستفهام الإنكاريّ كما في
الحديث «١» : لعلنا أعجلناك.
وقيل: هي لتوقع الكفار. فكما تكون لتوقع المتكلم، وهو الأصل، لأن معاني الإنشاءات قائمة به- تكون لتوقع المخاطب أو غيره، ممن له ملابسة بمعناه كما هنا. فالمعنى: إنك بلغت الجهد في تبليغهم أنهم يتوقعون منك ترك التبليغ لبعضه- كذا في العناية-.
(١) أخرجه البخاري في: الوضوء، ٣٤- باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين، حديث ١٤٤- عن أبي سعيد الخدري.
79
الثالثة- إنما عدل عن (ضيّق) الصفة المشبهة إلى (ضائق) اسم الفاعل، ليدل على أنه ضيق عارض، غير ثابت، لأن رسول الله ﷺ كان أفسح الناس صدرا. وكذا كل صفة مشبهة إذا قصد بها الحدوث تحوّل إلى فاعل، فيقولون في سيد سائد وفي جواد جائد، وفي سمين سامن. قال:
بمنزلة أمّا اللئيم فسامن بها، وكرام الناس باد شحوبها
وظاهر كلام أبي حيّان أنه مقيس. وقيل إنه لمشابهة (تارك). ومنه يعلم أن المشاكلة قد تكون حقيقة- كذا في العناية-.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ١٣]
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٣)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ أي ما يوحى إليك. وفي (أم) وجهان منقطعة مقدرة ب (بل والهمزة الإنكارية) أي: بل أيقولون. ومتصلة والتقدير: أيكتفون بما أوحينا إليك، وهو ما في الإعجاز، أم يقولون ليس من عند الله.
قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا أي للاستعانة مَنِ اسْتَطَعْتُمْ أي من الإنس والجن. وقوله: مِنْ دُونِ اللَّهِ متعلق ب ادْعُوا، أي متجاوزين الله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي في أني افتريته، فأنتم عرب فصحاء مثلي، لا سيّما وقد زاولتم أساليب النظم والنثر والخطب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ١٤]
فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤)
فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ أي بما لا يعلمه غيره من نظم معجز للخلق، وإخبار بغيوب لا سبيل لهم إليها وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي واعلموا عند ذلك أن لا إله إلا الله، وأن توحيده واجب، والإشراك به ظلم عظيم، فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
80
أي مبايعون بالإسلام، منقادون لتوحيد الله، وتصديق رسوله، بعد هذه الحجة القاطعة؟
لطائف:
الأولى- قيل: تحدّوا أولا بعشر سور، فلما عجزوا تحدّوا بسورة، وذهب المبرد إلى أن الأمر بالعكس، ووجهه بأن ما وقع أولا هو التحدي بسورة مثله في البلاغة والاشتمال على ما اشتمل عليه من الإخبار عن المغيبات والأحكام وأخواتها، وهي الأنواع التسعة المنظومة في قول بعضهم:
ألا إنما القرآن تسعة أحرف سأنبيكها في بيت شعر بلا ملل
حلال، حرام، محكم متشابه بشير نذير، قصّة، عظة، مثل
فلما عجزوا عن ذلك، أمرهم بالإتيان بعشر سور مثله في النظم، وإن لم تشتمل على ما اشتمل عليه، ويشهد له توصيفها ب (مفتريات).
وقيل: إن التحدي بسورة وقع بعد إقامة البرهان على التوحيد، وإبطال الشرك، فتعين أن يكون لإثبات النبوة بإظهار معجزة، وهي السورة الفذة. والتحدي بعشر وقع بعد تعنتهم واستهزائهم، واقتراحهم آيات غير القرآن، لزعمهم أنه مفترى. فمقامه يناسبه التكثير، لأنه أمر مفترى عندهم، فلا يعسر الإتيان بكثير مثله- كذا في العناية-.
الثانية- ضمير (لكم) للنبيّ ﷺ وجمع للتعظيم، كما في قول من قال:
وإن شئت حرمت النساء سواكم
أو له وللمؤمنين، لأنهم أتباعه في الأمر بالتحدي، وفيه تنبيه لطيف على أن حقهم ألا ينفكوا عنه، عليه الصلاة والسلام، ويناصبوا معه لمعارضة المعارضين، كما كانوا يفعلونه في الجهاد. وإرشاد إلى أن ذلك مما يفيد الرسوخ في الإيمان، والطمأنينة في الإيقان، ولذلك رتب عليه قوله عز وجل: فَاعْلَمُوا... إلخ. وجوز أن يكون الخطاب في الكل للمشركين من جهته عليه السلام، داخلا تحت الأمر بالتحدي، والضمير في (لم يستجيبوا) ل (من استطعتم) أي: فإن لم يستجب لكم سائر من تجأرون إليهم في مهماتكم إلى المعاونة، فاعلموا أن ذلك خارج عن دائرة قدرة البشر، وأنه منزل من خالق القوى والقدر- كذا في أبي السعود-.
ثم بين تعالى وعيد من آثر الحياة الدنيا على الآخرة- وهم الكفار- بقوله:
81
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ١٥]
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (١٥)
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ أي نوصل إليهم جزاء أعمالهم فيها من الصحة والرزق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ١٦]
أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٦)
أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها أي وحبط في الآخرة ما صنعوه، أن لم يكن لهم ثواب عليه. وجوز تعلق الظرف ب (صنعوا) والضمير للدنيا، كما عاد عليه في قوله: نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها [هود: ١٥]، وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي كان عملهم في نفسه باطلا، لأنه لم يعمل لغرض صحيح.
ونظير هذه الآية قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً، وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً. ، كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً [الإسراء: ١٨- ٢٠]، وقوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ، وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى: ٢٠].
لطيفة:
في إعراب باطِلٌ وجهان:
الأول- كونه خبرا مقدما، و (ما كانوا) مبتدأ مؤخرا: و (ما) مصدرية أو موصولة، والكلام من عطف الجمل.
والثاني- كونه عطفا على الأخبار قبله أي: أولئك باطل ما كانوا يعملون.
وما كانُوا يَعْمَلُونَ فاعل ب (باطل) ورجح هذا بقراءة زيد بن عليّ رضي الله عنهما: (وبطل) ماضيا معطوفا على (حبط).
ثم أشار تعالى إلى صفة المؤمنين، في مقابلة أولئك، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ١٧]
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١٧)
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ أي برهان نيّر، عظيم الشأن، يدل على حقيّة ما ثبت عليه من الإسلام، وهو القرآن وَيَتْلُوهُ أي يتبعه شاهِدٌ مِنْهُ أي من القرآن نفسه، يشهد له بكونه من عند الله تعالى، وهو إعجازه. وفسرت (البينة) أيضا بالإسلام سماه بينة لغاية ظهوره، إذ هو دين الفطرة، قبل تدنيسها برجس الوثنية و (الشاهد) بالقرآن فالضمير للرب تعالى. وَمِنْ قَبْلِهِ أي القرآن كِتابُ مُوسى وهو التوراة. أي: ويتلو تلك البينة من قبله كتاب موسى، مقررا لذلك أيضا. وقوله تعالى: إِماماً أي مقتدى به في الدين وَرَحْمَةً أي نعمة عظيمة على المنزل إليهم، تهديهم وتعلمهم الشرائع. أُولئِكَ أي من كان على بينة يُؤْمِنُونَ بِهِ أي بالقرآن فلهم الجنة، وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ يعني أهل مكة، ومن ضامّهم من المتحزبين على رسول الله صلوات الله عليه فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ أي شك من القرآن أو من الموعد إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ.
أي به. إما لقصور أنظارهم واختلال أفكارهم. وإما لعنادهم واستكبارهم.
لطائف:
الأولى- (من) في قوله تعالى: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ مبتدأ حذف خبره، لإغناء الحال عن ذكره. وهذا سر حذف معادل الهمزة كثيرا. وتقديره: أفمن كان على بينة من ربه كأولئك الذين ذكرت أعمالهم، وبين مصيرهم ومآلهم- كذا قال أبو السعود-.
وفي (شرح الكشاف) أن التقدير: أمن كان يريد الحياة الدنيا، على أنها موصول، فمن كان على بينة من ربه، والخبر محذوف، لدلالة الفاء. أي: يعقبونهم أو يقربونهم. والاستفهام للإنكار فيفيد أنه لا تقارب بينهم، فضلا عن التماثل، فلذلك صار أبلغ من نحو قوله تعالى: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً، لا يَسْتَوُونَ [السجدة: ١٨].
الثانية: قرئ (كتاب موسى) بالنصب عطفا على الضمير في (يتلوه) أي يتلو
القرآن شاهد ممن كان على بينة من ربه. يعني من آمن من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام، وشهادتهم على أنه حق لا مفترى، لما يجدونه مكتوبا عندهم، و (يتلو) من التلاوة، فتكون الآية كقوله تعالى: وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ [الأحقاف:
١٠]- والله أعلم-.
الثالثة- (الأحزاب) جمع حزب. والحزب جماعة الناس. ويطلق (الأحزاب) على من تألبوا على حرب رسول الله ﷺ وكذا كل نبيّ قبله، وهو إطلاق شرعيّ، وعليه حمل الأكثر الآية، لكون السورة مكية. إلا أن اللفظ يتناوله، وكل من شاكلهم من سائر الطوائف.
وفي صحيح مسلم عن سعيد بن جبير عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: والذي نفسي بيده! لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهوديّ أو نصرانيّ، ثم لا يؤمن بي، إلا دخل النار
. قال سعيد: كنت لا أسمع بحديث من النبيّ ﷺ على وجهه، إلا وجدت مصداقه في القرآن، فبلغني هذا الحديث، فجعلت أقول: أين مصداقه في كتاب الله؟ حتى وجدت هذه الآية وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ قال: الملل كلها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ١٨]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً كقوله للملائكة (بنات لله)، وللأصنام شفعاء عند الله أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ أي يساقون إليه سوق العبيد المفترين على ملوكهم، وَيَقُولُ الْأَشْهادُ من الملائكة والنبيين والجوارح: هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ تهويل عظيم مما يحيق بهم حينئذ لظلمهم بالكذب على الله. قيل: ولا يبعد أن تكون الآية للدلالة على أن القرآن ليس بمفترى، فإن من يعلم حال من يفتري على الله كيف يرتكبه، كما مر في يونس في قوله تعالى: وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ [طه: ٦٩].
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ١٩]
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (١٩)
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي عن دينه القويم، كلّ من يقدرون على صده
وَيَبْغُونَها عِوَجاً أي يطلبونها معوجّة بالكفر، أو يصفونها لهم بالاعوجاج وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٢٠]
أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (٢٠)
أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ أي يعجزونه تعالى أن يعاقبهم في الدنيا، وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ أي يمنعونهم من عقابه، يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ لتصامتهم عن الحق، وبغضهم له. وَما كانُوا يُبْصِرُونَ لتعاميهم عن آيات الله، وإعراضهم غاية الإعراض، كما قال الله: وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ [الملك: ١٠]، وقال تعالى:
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ.. [النحل: ٨٨] الآية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٢١]
أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢١)
أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
أي سعادتها وراحتها، أو بتسليمها لعبادة الأوثان وتركها ما خلقت له من عبادته تعالى، وهذا الخسران في النفس أعظم خسارة كما قيل:
إذا كان رأس المال عمرك فاحترس عليه من الإنفاق في غير واجب
وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ
أي غاب عنهم الآلهة وشفاعتها، ولم تجدهم شيئا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٢٢]
لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٢٢)
لا جَرَمَ أي حقّا، أو لا محالة أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٢٣]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٣)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أي خشعوا له وحده، أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٢٤]
مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٤)
مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ أي الكفار والمؤمنين كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ مثل للكافر وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ مثل للمؤمنين هَلْ يَسْتَوِيانِ أي الفريقان مَثَلًا أي حالا وصفة. أَفَلا تَذَكَّرُونَ أي بضرب الأمثال وتدبرها.
ثم قص تعالى على نبيه ﷺ من أنباء الرسل ما يثبت فيه فؤاده، ليتسلى بما يشاهده من معاناة الرسل قبله من أممهم، ومقاساتهم الشدائد من جهتهم، وليعلم قومه أن رسالته كرسالة من تقدمه، وأن سنة الله فيهم معروفة. كما قال تعالى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً، وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [فاطر: ٢٤]، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٢٥]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ وكانت امتلأت الأرض من شركهم وشرورهم إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أي بأني. وقرئ بالكسر. أي: فقال إني لكم نذير مبين، أبيّن لكم موجبات العذاب، ووجه الخلاص منه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٢٦]
أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦)
أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ (الباء) مقدرة هنا للتعدية. و (لا) ناهية أي أرسلناه متلبسا بالنهي عن عبادة غير الله. إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ أي إن عبدتم غيره عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ أي مؤلم في الدنيا والآخرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٢٧]
فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (٢٧)
فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ أي السادة والكبراء. ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا أي لست بملك، ولكنك بشر، فكيف أوحى إليك من دوننا.
قال القاشانيّ: أي فقال الأشراف المليئون بأمور الدنيا، القادرون عليها، الذين حجبوا بعقلهم ومعقولهم عن الحق: ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا لكونهم ظاهريين، واقفين على حد العقل المشوب بالوهم، المتحير بالهوى، الذي هو عقل المعاش، ولا يرون لأحد طورا وراء ما بلغوا إليه من العقل، غير مطلعين على مراتب الاستعدادات والكمالات، طورا بعد طور، ورتبة فوق رتبة إلى ما لا يعلمه إلا الله، فلم يشعروا بمقام النبوة ومعناها.
وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا أي فقراؤنا الأدنون منا إذ المرتبة الرفعة عندهم بالمال والجاه، ليس إلا. كما قال تعالى يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ.
وقوله تعالى: بادِيَ الرَّأْيِ أي بديهة الرأي، لأنهم ضعاف العقول، عاجزون عن كسب المعاش، ونحن أصحاب فكر ونظر. قالوا ذلك لاحتجابهم بعقلهم القاصر عن إدراك الحقيقة، والفضيلة المعنوية، لقصر تصرفه على كسب المعاش، والوقوف على حده. وأما أتباع نوح عليه السّلام، فإنهم أصحاب همم بعيدة، وعقول حائمة حول القدس، غير ملتفتة إلى ما يلتفت غيرهم إليه، فلذلك استنزلوا عقولهم واستحقروها.
تنبيه:
(بادي) قرأه أبو عمرو بالهمزة، والباقون بالياء.
فأما الأول فمعناه أول الرأي. بمعنى أنه صدر من غير روية وتأمل، أول وهلة.
وأما الثاني فيحتمل أن أصله ما تقدم، فقلبت الياء عن الهمزة تخفيفا، ويحتمل أنها أصلية من بدا يبدو، كعلا يعلوا. والمعنى: ظاهر الرأي دون باطنه، ولو
87
تؤمّل لعرف باطنه، وهو في المعنى كالأول. وعلى كليهما، هو منصوب على الظرفية. والعامل فيه إما (نراك) أو (اتبعك).
قال الناصر: زعم هؤلاء أن يحجّوا نوحا بمن اتبعه من وجهين:
أحدهما- أن المتبعين آراءه، ليسوا قدوة ولا أسوة.
والثاني- أنهم مع ذلك لم يتروّوا في اتّباعه، ولا أمعنوا الفكرة في صحة ما جاء به، وإنما بادروا إلى ذلك من غير فكرة ولا روية، وغرض هؤلاء ألا تقوم عليهم حجة بأن منهم من صدقه وآمن به- انتهى-.
أي وكلا الوجهين يبرهنان على جهلهم وقصر عقلهم: أما الأول فلا خفاء في أنه ليس بعار على الحق رذالة من اتبعه، بل أتباعه هم الأشراف، ولو كانوا فقراء، والذين يأبونه هم الأدنون، ولو كانوا أغنياء. وفي الغالب، ما يتبع الحق، إلا ضعفة الخلق، كما يغلب على الكبراء مخالفته، كما قال تعالى: وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف: ٢٣]، ولما سأل «١» هرقل، ملك الروم، أبا سفيان عن نعوت النبيّ ﷺ قال لهم فيما قال: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فقال: بل ضعفاؤهم! فقال هرقل: هم أتباع الرسل.
وأما الثاني: فإن البدار لاعتناق الحق من أسمى الفضائل، لأن الحق إذا وضح فلا يبقى للرأي ولا للفكر مجال، ولا بد من اتّباعه حالتئذ لكل ذي فطنة، ولا يتردد إلا غبيّ أو عييّ ولا أجلى مما يدعو إليه الرسل عليهم السلام.
وقوله تعالى: وَما نَرى لَكُمْ خطاب لنوح وأتباعه عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ أي تقدّم يؤهلكم للنبوة واستحقاق المتابعة، لأن الفضل محصور عندهم بالغنى والمال.
قال الزمخشري: كان الأشرف عندهم من له جاه ومال، كما ترى أكثر المتّسمين بالإسلام يعتقدون ذلك، ويبنون عليه إكرامهم وإهانتهم. ولقد زلّ عنهم أن التقدم في الدنيا لا يقرّب أحدا من الله، وإنما يبعده ولا يرفعه، بل يضعه، فضلا عن أن يجعله سببا في الاختيار للنبوّة، والتأهيل لها. على أن الأنبياء عليهم السلام بعثوا مرغّبين في طلب الآخرة. مصغّرين لشأن الدنيا، وشأن من أخلد إليها، فما أبعد حالهم عليهم السلام من الاتّصاف بما يبعد من الله، والتشرف بما هو ضعة عند الله!
(١) أخرجه البخاري في: بدء الوحي، ٦- حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع، حديث رقم ٧.
88
وقوله تعالى: بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ أي فيما تدعونه من الإصلاح وترتب السعادة والنجاة عليه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٢٨]
قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (٢٨)
قالَ أي نوح يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ أي أخبروني إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ أي برهان مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً أي هداية خاصة كشفيّة مِنْ عِنْدِهِ أي فوق طور العقل من العلوم اللدنية، ومقام النبوة فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أي لاحتجابكم بالظاهر عن الباطن، وبالخليقة عن الحقيقة أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ يعني أنكرهكم على قبولها، ونقسركم على الاهتداء بها، وأنتم تكرهونها، ولا تختارونها، ولا إِكْراهَ فِي الدِّينِ [البقرة: ٢٥٦]، فالاستفهام للإنكار، أي لا نقدر على ذلك، والذي في وسعنا دعوتكم إلى الله، لا أن نضطركم إليها، فإن شئتم تلقيها فزكّوا نفوسكم، واتركوا إنكاركم، وفي طيّ جوابه عليه السلام حثّ على تدبرها، وردّ عن الإعراض عنها، بأسلوب فائق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٢٩]
وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٩)
وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على تبليغ التوحيد مالًا، إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ قال القاشانيّ: أي الغرض عندكم من كل أمر، محصور في حصول المعاش، وأنا لا أطلب ذلك منكم، فتنبهوا لغرضي، وأنتم عقلاء بزعمكم.
ثم لما بيّن أن لا وجه لكراهة دعوته، إذ لا تنقصهم من دنياهم شيئا، فلم يبق إلا خسّة أتباعه، ولا ترتفع إلا بطردهم، قال وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا أي لأنهم أهل القربة والمنزلة عند الله، وطردهم قد يكون مانعا لهم من الإيمان أو لأمثالهم.
ولا يفعل ذلك إلا عدوّ لله مناوئ لأوليائه. ولو كان طردهم سبب إيمانكم ولم يرتدوا، أخاف من طردهم شكايتهم، وهذا معنى قوله: إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ أي فيخاصمون طاردهم عنده. أو المعنى: إنهم يلاقونه ويفوزون بقربه، فكيف أطردهم؟
ثم أشار إلى أن خسّتهم ليست مانعة من الإيمان، إذ لا تلحقهم، بقوله:
وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ أي فتخافون لحوق خستهم، لمشاركتكم إياهم في الإيمان من جهلكم إذا الخسيس لا تترك مشاركته في كل شيء. أو تجهلون ما يصلح به المرء للقاء الله، ولا تعرفون الله ولا لقاءه، لذهاب عقولكم في الدنيا، أو تسفهون وتؤذون المؤمنين، وتدعونهم أراذل. أو تجهلون أنهم خير منكم، كما قال تعالى:
وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ [الأنعام: ٥٣] ؟
ثم أشار إلى أن طردهم يستوجب عقابه تعالى بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٣٠]
وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣٠)
وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أي: فإن أفادكم طردهم تعززكم، فإني أستوجب قهره بطردهم، ومن يدفعه عني؟ وفيه إعلام بأن الطرد ظلم موجب لحلول السخط قطعا، وإنما لم يصرح به إشعارا بأنه غنيّ عن البيان، لا سيما وقد تقدم ما يلوح به من كرامتهم بإيمانهم بالله واليوم الآخر. أَفَلا تَذَكَّرُونَ تتعظون فتنزجروا عما تقولون؟.
تنبيه:
قال بعضهم: ثمرة ذلك وجوب تعظيم المؤمن، وتحريم الاستخفاف به، وإن كان فقيرا عادما للجاه، متعلقا بالحرف الوضيعة، لأنه تعالى حكى كلام نوح وتجهيله للرؤساء، لما طلبوا طرد من عدوّه من الأراذل، وهي نظير قوله تعالى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ [الأنعام: ٥٢].
ثم أشار إلى أنه عليه السلام بشر مثلهم، أوثر بالوحي والرسالة فلا يدعي ما ليس له، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٣١]
وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٣١)
وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ أي رزقه وأمواله وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي
مَلَكٌ
أي أنا أدعي الفضل بالنبوة، لا بالغنى وكثرة المال، ولا بالاطلاع على الغيب، ولا بالملكية، حتى تنكروا فضلي بفقدان ذلك وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ أي تحتقرهم، وهم الفقراء المؤمنون لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً أي في الدنيا والآخرة، لهوانهم عليه، كما تقولون إذ الخير عندي ما عند الله، لا المال اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ أي من الخير، مني ومنكم، وهو أعرف بقدرهم وخطرهم، وما يعلم أحد قدر خيرهم لعظمه-.
قاله القاشانيّ: وحمل غيره هذا على تفويض ما في أنفسهم من الإيمان إلى علم الله إرشادا إلى أن اللائق لكل أحد ألا يبتّ القول إلا فيما يعلمه يقينا، ويبني أموره على الشواهد الظاهرة، ولا يجازف فيما ليس فيه على بينة ظاهرة. إِنِّي إِذاً أي إذا قلت ذلك لَمِنَ الظَّالِمِينَ أي لبخس حقهم، وحطّ قدرهم فإن الإيمان الظاهر منهم، رفع شأنهم، فإذا ضموا إلى ذلك. الإيمان القلبيّ، كما هو الظاهر منهم، فلهم جزاء الحسنى، فمن قطع لهم بعدم نيل الخير، بعد ما آمنوا، كان ظالما. وفيه تعريض بأنهم ظالمون في ازدرائهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٣٢]
قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢)
قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا أي أطلته، أو أتيته بأنواعه، فَأْتِنا بِما تَعِدُنا أي من العذاب إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٣٣]
قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٣)
قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ يعني أنه ليس موكولا إليّ، وإنما يتولّاه الله الذي كفرتم به وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ أي بالهرب أو بدفعه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٣٤]
وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٣٤)
وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ أي أيّ
شيء يجديه إبلاغي ونصحي، بدعوتكم إلى التوحيد والتحذير من العذاب، وإن كان الله يريد إغواءكم ليدمّركم هُوَ رَبُّكُمْ أي مالك أمركم وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي بعد الموت فيجازيكم بأعمالكم. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٣٥]
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (٣٥)
أَمْ يَقُولُونَ أي قوم نوح افْتَراهُ أي النصح، فهو من تتمة نبأ نوح، أو ضمير الجمع لكفار مكة، يعنون افتراء محمد صلوات الله عليه لنبأ نوح، جيء به معترضا في تضاعيفه، تحقيقا له، وتأكيدا لوقوعه، وتشويقا للسامعين إلى استماعه إذ بقي منها الأهم وهو نتيجته قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي أي إثم كسب ذنبي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٣٦]
وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦)
وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أي بعد مبالغته في بذل الوسع في النصح مع عدم نفعه إياهم أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ أي لا تحزن بِما كانُوا يَفْعَلُونَ أي من التكذيب والإيذاء فقد انتهى أمرهم، حان وقت الانتقام منهم.
وقيل: المعنى لا تبتئس، أي لإهلاكهم شفقة عليهم، لأنهم إنما يهلكون بما كانوا يفعلون من معاندتهم معك، فليسوا محلا لشفقتك ولا لرحمتنا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٣٧]
وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧)
وَاصْنَعِ الْفُلْكَ أي للتخلص من عذابهم بِأَعْيُنِنا أي بحفظنا وكلاءتنا، كأن معه من الله عزّ وجلّ حفاظا وحراسا، يكلئونه بأعينهم من التعدي من الكفرة، ومن الزيغ في الصنعة وَوَحْيِنا أي إليك، كيف تصنعها وتعليمنا وإلهامنا. قيل:
لم يكن قبله سفينة. وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا أي ولا تدعني، في استدفاع العذاب عنهم، بشفاعتك إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ أي محكوم عليهم بالطوفان، وقد وجب ذلك، فلا سبيل إلى كفّه. كقوله تعالى: يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ
رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ
[هود: ٧٦].
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٣٨]
وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (٣٨)
وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ حكاية حال ماضية لاستحضار صورتها العجيبة. وقيل:
تقديره وأخذ يصنع الفلك، وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ أي هزءوا به، بمعالجة السفينة قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا أي في صنع الفلك فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ أي لجهلكم كَما تَسْخَرُونَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٣٩]
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٩)
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ أي في الدنيا فيجعله محلا للسخرية وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ أي في الآخرة، يدوم معه الخزي.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٤٠]
حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (٤٠)
حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا أي بإهلاك قومه. وحَتَّى غاية لقوله (ويصنع) وما بينهما حال من الضمير فيه، و (سخروا منه) جواب (كلّما). وَفارَ التَّنُّورُ أي وجه الأرض أو كل مفجر ماء، أو محفل ماء الوادي، أو عين ماء معروفة، أو الكانون الذي يخبز فيه، أو تنوير الفجر- أقوال حكاها اللغويون والمفسرون- زاد بعضهم احتمال أن يكون هذا كناية عن اشتداد الأمر، كما يقال: (حمي الوطيس) والوطيس التنور، وهو من فصيح الكلام وبليغه، وعندي أنه أظهر الأوجه المذكورة وأرقها وأبدعها وأبلغها، وإن حاول الرازي رده، كأنه قيل: واشتد الأمر، وقوي انهمار الماء ونبوعه.
وهذا الإيجاز في مجازه الرهيب، قد بينته آيات أخر، وهي: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ. وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [القمر: ١١- ١٢]
الآيات، ومما يؤيده شمولة لشدة الأمر من السماء والأرض، فيطابق هذه الآيات. وأما غيره فمقصور على ناحية الأرض فقط. وجلي أن الأمر كان أعم- والله أعلم-.
قُلْنَا احْمِلْ فِيها أي في السفينة مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ أي صنفين من البهائم والطيور وما يدب على وجه الأرض اثْنَيْنِ أي ذكرا وأنثى.
قال أبو البقاء: يقرأ (كلّ) بالإضافة وفيه وجهان:
أحدهما- أن مفعول (احمل) (اثنين) و (من) حال.
والثاني- أن (من) زائدة، والمفعول (كلّ) و (اثنين) توكيد. ويقرأ من كل (بالتنوين)، ف (زوجين) مفعول (احمل) و (اثنين) توكيد له، و (من) متعلقة ب (احمل) أو حال. انتهى.
وَأَهْلَكَ أي من يتصل بك في دينك وسيرتك من أقاربك، إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ أي وجب عليه الْقَوْلُ أي بالإغراق بسبب ظلمه، وَمَنْ آمَنَ أي احمله معك فيها. قال أبو السعود: وإفراد الأهل منهم للاستثناء المذكور، وإيثار صيغة الإفراد في (آمن) محافظة على لفظ (من) للإيذان بقلتهم، كما أعرب عنه قوله، عزّ قائلا: وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٤١]
وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١)
وَقالَ أي نوح عليه السلام لمن معه من المؤمنين ارْكَبُوا فِيها أي السفينة بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها قال الزمخشري: يجوز أن يكون كلاما واحدا، وكلامين، فالكلام الواحد أن يتصل (بسم الله) ب (اركبوا) حالا من الواو، بمعنى:
ركبوا فيها مسمين الله، أو قائلين بسم الله وقت إجرائها، ووقت إرسائها، إما لأن المجري والمرسى للوقت، وإما لأنهما مصدران، كالإجراء والإرسال، حذف منهما الوقت المضاف، كقولهم: (خفوق النجم) و (مقدم الحاج) ويجوز أن يراد مكانا الإجراء والإرساء وانتصابهما، بما في (بسم الله) من معنى الفعل، أو بما فيه من إرادة القول.
والكلامان: أن يكون بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها جملة من مبتدأ وخبر مقتضبة أي: بسم الله إجراؤها وإرساؤها يروى أنه كان إذا أراد أن تجري قال: بسم الله، فجرت، وإذا أراد أن ترسوا قال: بسم الله، فرست. وجوز أن يقحم الاسم، كقوله: ثم اسم السلام عليكما. ويراد: بالله إجراؤها وإرساؤها، أي بقدرته وأمره،
ومعنى قولنا: (جملة مقتضبة) أن نوحا عليه السلام أمرهم بالركوب، ثم أخبرهم بأن مجراها ومرساها بذكر اسم الله أو بأمره وقدرته. ويحتمل أن يكون غير مقتضبة، بأن تكون في موضع الحال من ضمير (الفلك) كأنه قيل: اركبوا فيها مجراة ومرساة بسم الله، بمعنى التقدير، كقوله: فَادْخُلُوها خالِدِينَ [الزمر: ٧٣]. انتهى-.
تنبيهات:
الأول- قرأ الإخوان- حمزة والكسائي وحفص- (مجراها) بفتح الميم، والباقون بضمها. واتفق السبعة على ضم ميم (مرساها). وقد قرأ ابن مسعود والثقفي (مرساها) بفتح الميم أيضا. وقرئ بضم الميم وكسر الراء والسين وياء بعدهما، بلفظ اسم الفاعل. مجروري المحل، صفتين لله.
الثاني- ما وقع بعد الراء من الألفات المنقلبة عن الياء، التي للتأنيث، أو للإلحاق، أماله حمزة والكسائي وأبو عمرو، ووافقهم حفص في إمالة (مجراها) هنا، ولم يمل غيره.
الثالث- أخذ بعضهم من الوجه الأول في (بسم الله مجراها ومرساها) أعني تقدير قائلين، استحباب التسمية. وذكره تعالى عند ابتداء الجري والإرساء. وهو مؤيد بقول تعالى في سورة المؤمنون: فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ [المؤمنون: ٢٨- ٢٩]، وقوله تعالى: وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ، لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا [الزخرف: ١٢- ١٣] الآية، وجاءت السنة بالحث على ذلك، والندب إليه أيضا.
وقوله تعالى: إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ جملة مستأنفة، بيان للموجب للإنجاء، أي لولا مغفرته ورحمته لغرقتم وهلكتم مثل قومكم، أو تعليل ل (اركبوا) لما فيه من الإشارة إلى النجاة فكأنه قيل: اركبوا لينجيكم الله.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٤٢]
وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (٤٢)
وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ متصل بمحذوف، دل عليه (اركبوا)، أي فركبوا مسمين
وهي تجري، وهم فيها. فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وذلك أنه لما تفتحت أبواب السماء بالماء، وتفجرت ينابيع الأرض تعاظمت المياه، وعلت أكناف الأرض، وارتفعت فوق الجبال الشامخة بخمسة عشر ذراعا، وكان ما يرتفع من الماء عند اضطرابه من أمواجه كالجبال.
وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ أي في متنحى عن أبيه يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا أي ادخل في ديننا، واصحبنا في السفينة وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ أي في الدين والانعزال، والهالكين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٤٣]
قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (٤٣)
قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ أي فلا أغرق قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ أي لا مانع اليوم من بلائه، وهو الطوفان، إلا الراحم وهو الله تعالى. أو لا عاصم إلّا مكان من رحم، وهم المؤمنون، يعني السفينة، أو لا عاصم، بمعنى لا ذا عصمة إلا من رحمه الله. أو (إلا) منقطعة، أي لكن من رحمه فهو المعصوم.
قال الناصر: الاحتمالات الممكنة أربعة: لا عاصم إلا راحم، ولا معصوم إلا مرحوم، ولا عاصم إلا مرحوم، ولا معصوم إلا راحم. فالأولان استثناء من الجنس، والآخران من غير الجنس. أي: فيكون منقطعا. أي لكن المرحوم يعصم، على الأول ولكن الراحم يعصم من أراد، على الثاني.
وزاد الزمخشري خامسا وهو: لا عاصم إلا مرحوم، على أنه من الجنس، بتأويل حذف المضاف، تقديره: لا مكان عاصم إلا مكان مرحوم. والمراد بالنفي التعريض بعدم عصمة الجبل، وبالمثبت التعريض بعصمة السفينة. والكل جائز وبعضها أقرب من بعض- انتهى.
وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ أي صار حائلا بين نوح وابنه، أو بين ابنه والجبل، لارتفاعه فوقه فَكانَ أي ابنه مع كونه فوق الجبل مِنَ الْمُغْرَقِينَ أي الهالكين بالغرق.
وفيه دلالة على هلاك سائر الكفرة على أبلغ وجه، فكان ذلك أمرا مقرر الوقوع، غير مفتقر إلى البيان. وفي إيراد (كان) دون (صار) مبالغة في كونه منهم- أفاده أبو السعود- وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٤٤]
وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٤)
وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ إعلام بأنه لما غرق أهل الأرض، ولم يبق ممن كفر بالله ديّار، أمر تعالى الأرض أن تبلغ ماءها الذي نبع منها، واجتمع عليها، وأمر السماء أن تقلع عن المطر، فنضب الماء، وقضي أمر الله بإنجاء من نجا، وإهلاك من هلك.
ولما أخذت المياه تتناقص وتتراجع إلى الأرض شيئا فشيئا، وظهرت رؤوس الجبال، استقرت السفينة على الجودي، وهو جبل بالجزيرة قرب الموصل.
و (بعدا) مصدر منصوب بمقدر، أي وبعدوا بعدا. يقال: بعد بعدا إذا أرادوا البعد البعيد من حيث الهلاك والموت ونحو ذلك، ولذلك اختص بدعاء السوء ك (جدعا) و (تعسا) و (اللام) متعلقة بمحذوف، أو للبيان، أو متعلقة ب (قيل) أي لأجلهم هذا القول.
والتعرض لوصف الظلم للإشعار بعلّيته للهلاك، ولتذكر ما سبق من قوله: وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ.
تنبيه:
هذه الآية، بلغت من أسرار الإعجاز غايتها، وحوت من بدائع الفرائد نهايتها.
وقد اهتم علماء البيان لإيضاح نخب من لطائفها. ومن أوسعهم مجالا في معارفها، الإمام السكاكي، فقد أطال وأطاب في كتابه (المفتاح) وتلطف في التبيان بألطف من نسيم الصباح، ونحن نورده بتمامه، لنعطر الألباب بعرف مبتدئه ومسك ختامه.
قال عليه الرحمة في بحث (البلاغة والفصاحة) وتعريفه الأولى بأنها بلوغ المتكلم في تأدية المعاني حدا له اختصاص بتوفية خواص التراكيب حقها، وإيراد أنواع التشبيه والمجاز والكناية على وجهها، ثم تقسيمه الفصاحة إلى ما يرجع إلى المعنى، وهو خلوص الكلام عن التعقيد. وإلى اللفظ وهو كونه عربيا أصليا، جاريا على قوانين اللغة، أدور على ألسنة الفصحاء، أكثر في الاستعمال، ما صورته:
97
وإذ قد وقفت على البلاغة، وعثرت على الفصاحة المعنوية واللفظية، فأنا أذكر على سبيل الأنموذج، آية أكشف لك فيها عن وجوه البلاغة والفصاحتين، ما عسى يسترها عنك. ثم إن ساعدك الذوق، أدركت منها ما قد أدرك من تحدّوا بها وهي قوله، علت كلمته: وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ... إلى الظَّالِمِينَ.
والنظر في هذه الآية من أربع جهات من جهة علم البيان، ومن جهة علم المعاني وهما مرجعا البلاغة، ومن جهة الفصاحة المعنوية، ومن جهة الفصاحة اللفظية.
أما النظر فيها من جهة علم البيان، وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بها فنقول: إنه عز سلطانه، لما أراد أن يبين معنى: أردنا أن نردّ ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد، وأن نقطع طوفان السماء، فانقطع، وأن نغيض الماء النازل من الماء فغاض، وأن نقضي أمر نوح، وهو إنجاز ما كنا وعدنا من إغراق قومه فقضي، وأن نسوي السفينة على الجودي فاستوت. وأبقينا الظّلمة غرقى بنى الكلام على تشبيه المراد بالأمور الذي لا يتأتى منه، لكمال هيبته، العصيان، وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكوّن المقصود، تصويرا لاقتداره العظيم، وأن السموات والأرض وهذه الأجرام العظام تابعة لإرادته، وإيجادا وإعداما، ولمشيئته فيها تغييرا وتبديلا، كأنها عقلاء مميزون، قد عرفوه حق معرفته، وأحاطوا علما بوجوب الانقياد لأمره، والإذعان لحكمه، وتحتم بذل المجهود عليهم في تحصيل مواده، وتصورا مزيد اقتداره، فعظمت مهابته في نفوسهم، وضربت سرادقها في أفنية ضمائرهم، فكما يلوح لهم إشارته كان المشار إليه مقدما. وكما يرد عليهم أمره كان المأمور به متمما. لا تلقّي لإشارته بغير الإمضاء والانقياد، ولا لأمره بغير الإذعان والامتثال. ثم بنى على تشبيهه هذا نظم الكلام، فقال جلّ وعلا: وَقِيلَ على سبيل المجاز- أي المرسل- عن الإرادة الواقع بسببها قول القائل وجعل قرينة المجاز الخطاب للجماد وهو: يا أرض ويا سماء! ثم قال كما ترى: يا أرض ويا سماء، مخاطبا لهما على سبيل الاستعارة للشبه المذكور. ثم استعار لغؤور الماء في الأرض البلع، الذي هو إعمال الجاذبة فبي المطعوم، للشبه بينهما، وهو الذهاب إلى مقرّ خفي، ثم استعار الماء للغذاء، استعارة بالكناية، تشبيها له بالغذاء، لتقوى الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار، تقوّي الآكل بالطعام، وجعل قرينة الاستعارة لفظة (ابلعي) لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء، ثم أمر
98
على سبيل الاستعارة للشبه المقدم ذكره، وخاطب في الأمر ترشيحا لاستعارة النداء.
ثم قال: ماءَكِ بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز، تشبيها لاتصال الماء بالأرض، باتصال الملك بالمالك، واختار ضمير الخطاب لأجل الترشيح. ثم اختار لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان. ثم أمر على سبيل الاستعارة، وخاطب في الأمر قائلا: أَقْلِعِي لمثل ما تقدم في ابْلَعِي. ثم قال: وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لم يصرح بمن غاض الماء، ولا بمن قضي الأمر، وسوّى السفينة. وقال: بُعْداً كما لم يصرح بقائل: يا أرض ويا سماء في صدر الآية، سلوكا في كل واحد من ذلك سبيل الكناية، أن تلك الأمور العظام لا تتأتى إلا من ذي قدرة لا يكتنه. قهّار لا يغالب. فلا مجال لذهاب الوهم إلى أن يكون غيره- جلت عظمته- قائل يا أرض ويا سماء، ولا غائض مثل ما غاض، ولا قاضي مثل ذلك الأمر الهائل، وأن تكون تسوية السفينة وإقرارها، بتسوية غيره وإقراره. ثم ختم الكلام بالتعريض، تنبيها لسالكي مسلكهم في تكذيب الرسل، ظلما لأنفسهم لا غير، ختم إظهار، لمكان السخط، ولجهة استحقاقهم إياه، وأن قيامة الطوفان، وتلك الصورة الهائلة، ما كانت إلا لظلمهم.
وأما النظر فيها من حيث علم المعاني، وهو النظر في فائدة كل كلمة منها، وجهة كل تقديم وتأخير فيما بين جملها، فذلك أنه اختير (يا) دون سائر أخواتها، لكونها أكثر في الاستعمال، وأنها دالة على بعد المنادي الذي يستدعيه مقام إظهار العظمة، وإبداء شأن العزة والجبروت، وهو تبعيد المنادي المؤذن بالتهاون به، ولم يقل: يا أرض! بالكسر لإمداد التهاون، ولم يقل: يا أيتها الأرض! لقصد الاختصار مع الاحتراز عما في (أيتها) من تكلف التنبيه غير المناسب بالمقام. واختير لفظ (الأرض) دون سائر أسمائها، لكونه أخف وأدور. واختير لفظ السماء لمثل ما تقدم في الأرض، مع قصد المطابقة. واختير لفظ ابْلَعِي على (ابتلعي) لكون أخصر، ولمجيء خط التجانس بينه وبين أَقْلِعِي أوفر. وقيل: ماءَكِ من بالإفراد دون الجمع، لما كان في الجمع من صورة الاستكثار المتأبي عنها مقام إظهار الكبرياء والجبروت، وهو الوجه في إفراد (الأرض) و (السماء). وإنما لم يقل: ابْلَعِي بدون المفعول، أن لا يستلزم تركه ما ليس بمراد من تعميم الابتلاع للجبال والتلال والبحار وساكنات الماء بأسرهن، نظرا إلى مقام ورود الأمر، الذي هو مقام عظمة وكبرياء. ثم إذا بين المراد اختصر الكلام مع أَقْلِعِي احترازا عن الحشو المستغني عنه، وهو- أي الاختصار. الوجه في أن لم يقل: قيل يا أرض ابلعي ماءك فبلعت، ويا
99
سماء أقلعي فأقلعت. واختير (غيض) على (غيّض) المشدد لكونه أخصر، وقيل (الماء)، دون أن يقال: ماء طوفان السماء وكذا الأمر دون أن يقال: أمر نوح، وهو إنجاز ما كان الله وعد نوحا من إهلاك قومه، لقصد الاختصار والاستغناء بحرف التعريف عن ذلك. ولم يقل: سويت على الجودي: بمعنى أقرّت على نحو: (قيل) و (غيض) و (قضي) في البناء للمفعول اعتبارا لبناء الفعل للفاعل مع السفينة في قوله وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ مع قصد الاختصار في اللفظ. ثم قيل: بُعْداً لِلْقَوْمِ دون أن يقال: ليبعد القوم، طلبا للتأكيد مع الاختصار، وهو نزول بُعْداً وحده، منزلة ليبعدوا بعدا، مع فائدة أخرى: وهي استعمال اللام مع (بعدا) الدال على معنى أن البعد حق لهم، ثم أطلق الظلم ليتناول كل نوع، حتى يدخل فيه ظلمهم أنفسهم، لزيادة التنبيه على فظاعة سوء اختيارهم في تكذيب الرسل. هذا من حيث النظر إلى تركيب الكلم.
وأما من حيث النظر إلى ترتيب الجمل: فذاك أنه قد قدم النداء على الأمر فقيل: يا أَرْضُ ابْلَعِي، وَيا سَماءُ أَقْلِعِي دون أن يقال: ابلعي يا أرض، وأقلعي يا سماء، جريا على مقتضى اللازم فيمن كان مأمورا حقيقة. من تقديم التنبيه، ليمكّن الأمر الوارد عقيبه في نفس المنادى، قصدا بذلك لمعنى الترشيح. ثم قدم أمر الأرض على أمر السماء، وابتدئ به لابتداء الطوفان منها، وبنزولها لذلك في القصة منزلة الأصل، والأصل بالتقديم أولى، ثم أتبعها قوله: وَغِيضَ الْماءُ لاتصاله بقصة الماء، وأخذه بحجزتها. ألا ترى أصل الكلام (قيل يا أرض ابلعي ماءك، فبلعت ماءها، ويا سماء أقلعي عن إرسال الماء، فأقلعت عن إرساله، وغيض الماء النازل من السماء، فغاض) ثم أتبعه ما هو مقصود من القصة وهو قوله: وَقُضِيَ الْأَمْرُ أي أنجز الموعود من إهلاك الكفرة، وإنجاء نوح ومن معه في السفينة، ثم أتبعه حديث السفينة، وهو قوله وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ثم ختمت القصة بما ختمت. هذا كله نظر في الآية من جانبي البلاغة.
وأما النظر فيها من جانب الفصاحة المعنوية، فهي كما ترى نظم للمعاني لطيف، وتأدية لها ملخصة مبينة، لا تعقيد يعثر الفكر في طلب المراد، ولا التواء يشيك الطريق إلى المرتاد، بل إذا جربت نفسك عند استماعها، وجدت ألفاظها تسابق معانيها، ومعانيها تسابق ألفاظها فما من لفظة في تركيب الآية ونظمها تسبق إلى أذنك، إلا ومعناها أسبق إلى قلبك.
وأما النظر فيها من جانب الفصاحة اللفظية: فألفاظها على ما نرى عربية،
100
مستعملة جارية على قوانين اللغة، سليمة من التنافر، بعيدة عن البشاعة، عذبة على العذبات، سلسة على الأسلات، كلّ منها كالماء في السلاسة، وكالعسل في الحلاوة وكالنسيم في الرقة. ولله در شأن التنزيل! لا يتأمل العالم آية من آياته، إلا أدرك لطائف لا تسع الحصر ولا تظن الآية مقصورة على ما ذكرت، فلعل ما تركت أكثر مما ذكرت، لأن المقصود لم يكن إلا مجرد الإرشاد لكيفية اجتناء ثمرات علمي المعاني والبيان، وأن لا علم في باب التفسير (بعد علم الأصول) أقرأ منهما على المرء لمراد الله تعالى من كلامه، ولا أعون على تعاطي تأويل مشتبهاته، ولا أنفع في درك لطائف نكته وأسراره، ولا أكشف للقناع عن وجه إعجازه، وهو الذي يوفي كلام رب العزة من البلاغة حقه، ويصون له في مظان التأويل ماءه ورونقه ولكم من آية من آيات القرآن تراها قد ضيمت حقها، واستلبت ماءها ورونقها، إن وقعت إلى من ليسوا من أهل هذا العلم، فأخذوا بها في مآخذ مردودة، وحملوها على محامل غير مقصودة، وهم لا يدرون، ولا يدرون أنهم لا يدرون، فتلك الآي من مآخذهم في عويل، ومن محاملهم على ويل طويل، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا- انتهى كلام السكاكي-.
وقد تصدى أبو حيان أيضا في تفسيره المسمى ب (النهر) للطائفها، وساق أحدا وعشرين نوعا من البديع. وألف السيد محمد بن إسماعيل الأمير رسالة فيها سماها (النهر المورود في تفسير آية هود) أورد تلك الأنواع البديعية أيضا، وهي:
المناسبة، والمطابقة، والمجاز، والاستعارة، والإشارة، والتمثيل، والإرداف، والتعليل، وصحة التقسيم، والاحتراس، والإيضاح، والمساواة، وحسن النسق، والإيجاز، والتسهيم، والتهذيب، وحسن البيان، والتمكين، والتجنيس، والمقابلة، والذم، والوصف.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٤٥]
وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥)
وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي إعلام بأن نوحا حملته شفقة الأبوّة، وتعطف الرحم والقرابة، على طلب نجاته، لشدة تعلقه به، واهتمامه بأمره. وقد راعى
مع ذلك أدب الحضرة، وحسن السؤال فقال: وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ ولم يقل: لا تخلف وعدك بإنجاء أهلي، وإنما قال ذلك ففهمه من الأهل ذوي القرابة الصورية، والرحم النسبية، وغفل، لفرط التأسف على ابنه، عن استثنائه تعالى بقوله: إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ولم يتحقق أن ابنه هو الذي سبق عليه القول، فاستعطف ربه بالاسترحام، وعرض بقوله: وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ إلى أن العالم العادل والحكيم لا يخلف وعده.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٤٦]
قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٤٦)
قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ أي الموعود إنجاؤهم، بل من المستثنين لكفرهم، أو ليس منهم أصلا، لأن مدار الأهلية هو القرابة الدينية، ولا علاقة بين المؤمن والكافر.
قال القاشاني: أي أن أهلك في الحقيقة هو الذي بينك وبينه القرابة الدينية، واللحمة المعنوية، والاتصال الحقيقي لا الصوري. كما
قال أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه: ألا وإن وليّ محمد، من أطاع الله، وإن بعدت لحمته. ألا وإن عدوّ محمد، من عصى الله، وإن قربت لحمته.
إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ بيّن انتفاء كونه من أهله بأنه غير صالح، تنبيها على أن أهله هم الصلحاء، أهل دينه وشريعته، وإنه لتماديه في الفساد والغي، كأن نفسه عمل غير صالح، وتلويحا بأن سبب النجاة ليس إلا الصلاح، لا قرابته منك بحسب الصورة فمن لا صلاح له، لا نجاة له. وهذا سر إيثار غَيْرُ صالِحٍ على (عمل فاسد).
وقد قرأ يعقوب والكسائي (عمل) بلفظ الماضي، والباقون بلفظ المصدر، بجعله نفس العمل، مبالغة، كما بيّنا.
فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أي لا تلتمس مني ملتمسا أو التماسا لا تعلم أصواب هو أم غير صواب؟ حتى تقف على كنهه. قالوا: والنهي إنما هو عن سؤال ما لا حاجة له إليه أصلا، إما لأنه لا يهم، أو لأنه قامت القرائن على حاله، كما هنا، لا عن السؤال للاسترشاد.
إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ أي أنهاك أن تكون منهم بسؤالك إياي ما لم تعلم. وقد تنبه، عليه السلام، عند ذلك التأديب الإلهي، والعتاب الرباني، وتعوّذ بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٤٧]
قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٤٧)
قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ، وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي أي ما فرط مني وَتَرْحَمْنِي أي بالوقوف على ما تحب وترضى أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ أي الذين خسروا أنفسهم، بالاحتجاب عن علمك وحكمتك.
تنبيه:
ظاهر التنزيل أن ابنه المذكور لصلبه،
ويروى عن الحسن ومجاهد ومحمد بن جعفر الباقر أنه كان ابن امرأته، ربيبه.
وأيده بعضهم
بقراءة عليّ: (ونادى نوح ابنها)
- والله أعلم-.
ثم أنبأ تعالى عما قيل لنوح، بعد أن أرست السفينة على الجودي، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٤٨]
قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٨)
قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ أي انزل من السفينة بِسَلامٍ مِنَّا أي سلامة وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ أي في السفينة على دينك وطريقتك إلى آخر الزمان وَأُمَمٌ أي ومنهم أمم سَنُمَتِّعُهُمْ أي في الحياة الدنيا لاحتجابهم بها ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ أي في الدنيا، أو في الآخرة، أو فيهما.
لطيفة:
ذهب العلماء، في الطوفان، مذاهب شتى. فالأكثرون على أنه عمّ الأرض بأسرها، ومن ذاهب إليه أنه لم يعم إلا الأرض المأهولة وقتئذ بالبشر، ومن جانح إلى أنه لم يعمها: كلها ولم يهلك البشر كلهم. ولك فريق حجج يدعم بها مذهبه:
103
قال تقي الدين المقريزي في (الخطط) : إن جميع أهل الشرائع، أتباع الأنبياء، من المسلمين واليهود والنصارى قد أجمعوا على أن نوحا هو الأب الثاني للبشر، وأن العقب من آدم عليه السلام انحصر فيه، ومنه ذرأ الله جميع أولاد آدم، فليس أحد من بني آدم إلا وهو من أولاد نوح، وخالفت القبط والمجوس وأهل الهند والصين ذلك، فأنكروا الطوفان. وزعم بعضهم أن الطوفان إنما حدث في إقليم بابل وما وراءه من البلاد الغربية فقط، وأن أولاء (كيومرث) الذي هو عندهم (الإنسان الأول) كانوا بالبلاد الشرقية من بابل، فلم يصل الطوفان إليهم، ولا إلى الهند والصين، والحقّ ما عليه أهل الشرائع، وأن نوحا عليه السلام، لما أنجاه الله ومن معه بالسفينة، نزل بهم، وهم ثمانون رجلا سوى أولاده، فماتوا بعد ذلك، ولم يعقبوا، وصار العقب من نوح في أولاده الثلاثة، ويؤيد هذا قول الله تعالى عن نوح: وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ [الصافات: ٧٣]، ونحوه في الكامل لابن الأثير.
وقال ابن خلدون: اتفقوا على أن الطوفان الذي كان في زمن نوح وبدعوته، ذهب بعمران الأرض أجمع، بما كان من خراب المعمور، وهلك الذين ركبوا معه في السفينة، ولم يعقبوا فصار أهل الأرض كلهم من نسله، وعاد أبا ثانيا للخليقة- انتهى.
قال بعضهم (في تقرير عموم الطوفان، مبرهنا عليه) إن مياه الطوفان قد تركت آثارا عجيبة في طبقات الأرض الظاهرة، فيشاهد في أماكن رواسب بحرية ممتزجة بالأصداف، حتى في قمم الجبال، ويرى في السهول والمفاوز بقايا حيوانية ونباتية مختلطة بمواد بحرية، بعضها ظاهر على سطحها، وبعضها مدفون على مقربة منه.
واكتشف في الكهوف عظام حيوانية متخالفة الطباع، بعيدة الائتلاف، معها بقايا آلات صناعية، وآثار بشرية، مما يثبت أن طوفانا قادها إلى ذاك المكان، وجمعها قسرا فأبادها، فتغلغلت بين طبقات الطين فتحجرت، وظلت شهادة على ما كان، بأمر الخالق تعالى- انتهى-.
وقد سئل مفتي مصر الإمام الشيخ محمد عبده عن تحقيق عموم الطوفان، وعموم رسالة نوح، فأجاب بما صورته:
أما القرآن الكريم فلم يرد فيه نص قاطع على عموم الطوفان، ولا عموم رسالة نوح عليه السلام، وما ورد من الأحاديث، على فرض صحة سنده، فهو آحاد لا يوجب اليقين. والمطلوب في تقرير مثل هذه الحقائق هو اليقين لا الظن، إذا عدّ اعتقادها
104
من عقائد الدين وأما المؤرخ، ومريد الاطلاع، فله أن يحصل من الظن ما ترجحه عنده ثقته بالراوي أو المؤرخ، أو صاحب الرأي. وما يذكره المؤرخون والمفسرون في هذه المسألة لا يخرج عن حد الثقة بالرواية، أو عدم الثقة بها، ولا يتخذ دليلا قطعيا على معتقد ديني. أما مسألة عموم الطوفان في نفسها، فهي موضوع نزاع بين أهل الأديان، وأهل النظر في طبقات الأرض. وموضوع خلاف بين مؤرخي الأمم: فأهل الكتاب، وعلماء الأمة الإسلامية على أن الطوفان كان عامّا لكل الأرض، ووافقهم على ذلك كثير من أهل النظر، واحتجوا على رأيهم بوجود بعض الأصداف والأسماك المتحجرة في أعالي الجبال، لأن هذه الأشياء مما لا يتكوّن إلا في البحر، فظهورها في رؤوس الجبال دليل على أن الماء صعد إليها مرة من المرات، ولن يكون ذلك حتى يكون قد عمّ الأرض. ويزعم غالب أهل النظر من المتأخرين أن الطوفان لم يكن عامّا، ولهم على ذلك شواهد يطول شرحها. غير أنه لا يجوز لشخص مسلم أن ينكر قضية أن الطوفان كان عامّا، لمجرد حكايات عن أهل الصين، أو لمجرد احتمال التأويل في آيات الكتاب العزيز. بل على كل من يعتقد بالدين، ألا ينفي شيئا مما يدل عليه ظاهر الآيات والأحاديث التي صح سندها، وينصرف عنها إلى التأويل، إلا بدليل عقلي يقطع بأن الظاهر غير مراد، والوصول إلى ذلك في مثل هذه المسألة يحتاج إلى بحث طويل وعناء شديد، وعلم غزير في طبقات الأرض، وما تحتوي عليه، وذلك يتوقف على علوم شتى، نقلية وعقلية. ومن هدى برأيه بدون علم يقيني، فهو مجازف، ولا يسمع له قول، ولا يسمح له ببث جهالاته، والله سبحانه وتعالى أعلم.
واستظهر بعضهم أن الطوفان كان عاما، إذ لم يكن العمران قائما إلا بقوم نوح، فكان عامّا لهم، وإن كان من جهة خاصا بهم، إذ ليس ثمّ غيرهم، قال:
هبط آدم إلى الأرض، وهو ليس بأمة إذا مضت عليها قرون ولدت أمما، بل هو واحد تمضي عليه السنون، بل القرون، ونموّ عشيرته لا يكاد يكون إلا كما يتقلص الظل قليلا قليلا من آدم إلى نوح ثمانية آباء، فإن كان ثمانية آباء يعطون من الذرية أضعافا وآلافا، حتى يطئوا وجه الأرض بالأقدام، وينشروا العمران في تلك الأيام، فتلك قضية من أعظم ما يذكره التاريخ أعجوبة للعالمين؟ أما تلك الجبال التي وجدت فوقها عظام الأسماك، فإن كانت مما وصل إليه الطوفان، من المكان الخاص الذي سبق به البيان، فلا برهان. وإن كانت في غير ذلك المكان، فإن لم يكن وضعها إنسان، كما وجدها إنسان، كان نقل الجوارح والكواسر لتلك العظام، إلى
105
تلك الجبال مما يسوغه الإمكان. بهذا وبغيره مما لا يغيب عن الأفهام، تعلم أن الطوفان خاصّ عامّ: خاصّ بمكان، عامّ سائر المكان- والله أعلم-.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٤٩]
تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (٤٩)
تِلْكَ إشارة إلى قصة نوح عليه السلام مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا أي الإيحاء إليك، والإخبار بها. وفي ذكرهم تنبيه على أنه لم يتعلمها إذ لم يخالط غيرهم، وأنهم مع كثرتهم لم يسمعوها، فكيف بواحد منهم؟! فَاصْبِرْ أي على تبليغ الرسالة، وأذى قومك، كما صبر نوح وتوقع في العاقبة لك، ولمن كذبك، نحو ما قيض لنوح ولقومه- كذا في الكشاف- إِنَّ الْعاقِبَةَ أي في الدنيا بالنصر والظفر، وفي الآخرة بالنعيم الأبدي، لِلْمُتَّقِينَ أي عن الشرك والمعاصي.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٥٠]
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (٥٠)
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً عطف على قوله (نوحا). أي: وأرسلنا إلى عاد.
و (أخاهم) بمعنى (واحدا) منهم كما يقولون: (يا أخا العرب) ! قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ أي وحده، ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ أي باتخاذ الأوثان شركاء وجعلها شفعاء.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٥١]
يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (٥١)
يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي إنما خاطب كل رسول به قومه، إزاحة للتهمة، وتمحيضا للنصيحة، فإنها لا تنجع ما دامت مشوبة بالمطامع. أَفَلا تَعْقِلُونَ أي تتفكرون، إذ تردّون نصيحة من لا يسألكم أجرا، ولا
شيء أنفى للتهمة من ذلك، أو تتدبرون الصواب من الخطأ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٥٢]
وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (٥٢)
وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ أي من الوقوف مع الهوى بالشرك ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ أي من عبادة غيره، بالتوجه إلى التوحيد يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً أي كثير الدر، أي الأمطار. منصوب على الحال من (السماء) ولم يؤنث، مع أنه من مؤنث، إما لأن المراد بالسماء السحاب أو المطر، فذكر على المعنى أو (مفعال) للمبالغة، يستوي فيه المذكر والمؤنث كصبور، أو الهاء حذفت من (مفعال) على طريق النسب- أفاده السمين- وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ أي مضمومة إليها أو معها. أي شدة إلى شدتكم بالقوة البدنية، أو بالمال أو البنين. وإنما استمالهم إلى الإيمان، ورغّبهم فيه، بكثرة المطر، وزيادة القوة، لأن القوم كانوا أصحاب زروع وبساتين، حراصا على التقوى بما ذكر، لثراء مالهم وترهيب أعدائهم وقد كانوا مثلا في القوة كما قالوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت: ١٥]، وَلا تَتَوَلَّوْا أي تعرضوا عما أدعوكم إليه مُجْرِمِينَ أي مصرّين على إجرامكم وآثامكم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٥٣]
قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣)
قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ أي بحجة تدل على صحة دعواك، وذلك لقصور فهمهم، وعمى بصيتهم عن إدراك البرهان، لمكان الغشاوات الطبيعية، وإذا لم يدركوه أنكروه بالضرورة وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا أي عبادتها عَنْ قَوْلِكَ حال من ضمير (تاركي) أي تركا صادرا عن قولك. أو (عن) للتعليل، كهي في قوله: إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ [التوبة: ١١٤]، أي لأجلها، فتتعلق (بتاركي) والأول أبلغ، لدلالته على كونه علة فاعلية، ولا يفيده (الباء واللام). وهذا كقولهم في الأعراف: أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا [الأعراف: ٧٠].
وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ أي مصدقين. إقناط له من الإجابة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : الآيات ٥٤ الى ٥٥]
إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (٥٥)
إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ أي مسّك بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ أي بجنون، لسبّك إياه، وصدك عنها، وعداوتك لها، مكافأة لك منها على سوء فعلك، بسوء الجزاء، ومن ثم تتكلم بما تتكلم.
قال الزمخشري: دلت أجوبتهم المتقدمة على أنهم كانوا جفاة، غلاظ الأكباد لا يبالون بالبهت، ولا يلتفتون إلى النصح، ولا تلين شكيمتهم للرشد، وهذا الأخير دالّ على جهل مفرط وبله متناه، حيث اعتقدوا في حجارة أنها تنتصر وتنتقم.
قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ أي عليّ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ قال الزمخشري: من أعظم الآيات أن يواجه، بهذا الكلام، رجل واحد أمة عطاشا إلى إراقة دمه يرمونه عن قوس واحد، وذلك لثقته بربه، وأنه يعصمه منهم، فلا تنشب فيه مخالبهم، ونحو ذلك قال نوح عليه السلام لقومه: ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ [يونس: ٧١]، أكد براءته من آلهتهم وشركهم ووثقها بما جرت به عادة الناس من توثيقهم الأمور بشهادة الله، وشهادة العباد، فيقول الرجل: الله شهيد على أني لا أفعل كذا، ويقول لقومه: كونوا شهداء على أني لا أفعله، ولما جاهر بالبراءة مما يعبدون، أمرهم بالاحتشاد والتعاون في إيصال الكيد إليه، عليه السلام، دون إمهال بقوله: فَكِيدُونِي جَمِيعاً أي أنتم وآلهتكم ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ يعني إن صح ما لوحتم به، من كون آلهتكم لها تأثير في ضرّ، فكونوا معها فيه، وباشروه أعجل ما تفعلون دون إمهال.
قال أبو السعود: فالفاء لتفريع الأمر على زعمهم في قدرة آلهتهم على ما قالوا، وعلى البراءة كليهما، وهذا من أعظم المعجزات، فإنّه ﷺ كان رجلا مفردا بين الجم الغفير، والجمع الكثير، من عتاة عاد، الغلاظ الشداد. وقد خاطبهم بما خاطبهم، وحقّرهم وآلهتهم، وهيجهم على مباشرة مبادئ المضادة والمضارة، وحثهم على التصدي لأسباب المعازّة والمعارّة، فلم يقدروا على مباشرة شيء مما كلفوه وظهر عجزهم عن ذلك ظهورا بينا كيف لا، وقد التجأ إلى ركن منيع رفيع، حيث قال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٥٦]
إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦)
إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ أي فلا تصلون إليّ بسوء، لتوكلي على الله ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها أي مالك لها، قادر عليها، يصرفها كيف شاء.
قال القاشاني: بيّن وجوب التوكل على الله، وكونه حصنا حصينا، أولا بأن ربوبيته شاملة لكل أحد، ومن يربّ يدبر أمر المربوب ويحفظه، فلا حاجة له إلى كلاءة غيره وحفظه. ثم بأن كل ذي نفس تحت قهره وسلطانه، أسير في يد تصرفه ومملكته وقدرته عاجز عن الفعل والقوة والتأثير في غيره، لا حراك به بنفسه كالميت فلا حاجة إلى الاحتراز منه- انتهى-.
والناصية: منبت الشعر من مقدم الرأس، وتطلق على الشعر النابت فيها أيضا، تسمية للحالّ باسم المحل: يقال: نصوت الرجل: أخذت بناصيته.
وفي العناية: وقولهم: ناصيته بيده، أي منقاد له. والأخذ بالناصية عبارة عن القدرة والتسلط، مجازا أو كناية.
وقوله تعالى: إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ تعليل لما يدل عليه التوكل، من عدم قدرتهم على إضراره. أي هو على طريق الحق والعدل في ملكه، فلا يسلطكم عليّ، إذ لا يضيع عنده معتصم به، ولا يفوته ظلم.
قال في (العناية) : هو تمثيل واستعارة، لأنه مطلع على أمور العباد، مجاز لهم بالثواب والعقاب، كاف لمن اعتصم، كمن وقف على الجادّة فحفظها، ودفع ضرر السابلة بها.
وهو كقوله: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ [الفجر: ١٤]، والاقتصار على إضافة الرب إلى نفسه، إما بطريق الاكتفاء لظهور المراد، وإما للإشارة إلى أن اللطف والإعانة مخصوصة به، دونهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٥٧]
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٥٧)
فَإِنْ تَوَلَّوْا أي تتولوا، بحذف إحدى التاءين فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ
إِلَيْكُمْ
أي فقامت الحجة عليكم وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ استئناف بالوعيد لهم. أي: فيهلكهم، ويجيء بقوم آخرين يخلفونكم في دياركم وأموالكم وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً أي بتوليكم لاستحالته عليه، بل تضرون أنفسكم. أو بذهابكم وهلاككم لا ينقص من ملكه شيء إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ أي رقيب عليه، مهيمن، فلا تخفى عليه أعمالكم، فيجازيكم بحسبها. أو حافظ حاكم مستول على كل شيء، فلا يمكن أن يضره شيء.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٥٨]
وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٨)
وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا أي عذابنا، أو أمرنا بالعذاب، وهو الريح العقيم نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ وقد بيّن في غير آية، منها قوله:
وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ، سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ [الحاقة: ٦- ٧].
فإن قلت: ما معنى تكرير التنجية؟ فالجواب: لا تكرير فيه، لأن الأول إخبار بأن نجاتهم برحمة الله وفضله، والثاني بيان ما نجوا منه، وأنه أمر شديد عظيم لا سهل، فهو للامتنان عليهم، وتحريض لهم على الإيمان. أو الأول إنجاء من عذاب الدنيا، والثاني من عذاب الآخرة، تعريضا بأن المهلكين كما عذبوا في الدنيا بالسموم، فهم معذبون في الآخرة بالعذاب الغليظ. ويرجح الأول بملاءمته لمقتضى المقام.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٥٩]
وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩)
وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ تأنيث اسم الإشارة، باعتبار القبيلة. وصيغة البعيد لتحقيرهم، أو لتنزيلهم منزلة البعيد، لعدمهم. وإذا كانت الإشارة لمصارعهم، فهي للبعيد المحسوس. وتعدى الجحود بالباء حملا له على الكفر، لأنه المراد. أو بتضمينه معناه، كما أن (كفر) جرى مجرى (جحد). فتعدى بنفسه في قوله: كَفَرُوا رَبَّهُمْ [هود: ٦٠]. وقيل: (كفر) ك (شكر) يتعدّى بنفسه وبالحرف. وظاهر كلام القاموس: أن (جحد) كذلك.
والمعنى: كفروا بالله، وأنكروا آياته التي في الأنفس والآفاق الدالة على وحدانيته. وجمع (الرسل)، مع أنه لم يرسل إليهم غير هود عليه الصلاة والسلام، تفظيعا لحالهم، وإظهارا لكمال كفرهم وعنادهم، ببيان أن عصيانهم له، عليه الصلاة والسلام، عصيان لجميع الرسل السابقين واللاحقين، لاتفاق كلمتهم على التوحيد لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة: ١٣٦]- كذا في (العناية) وأبي السعود.
وَاتَّبَعُوا أي أطاعوا في الشرك أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ لا يستدل بدليل، ولا يقبله من غيره. يريد رؤساءهم وكبراءهم، ودعاتهم إلى تكذيب الرسل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٦٠]
وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (٦٠)
وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أي جعلت تابعة لهم في الدارين، أي لازمة.
قال أبو السعود: والتعبير عن ذلك بالتبعية للمبالغة، فكأنها لا تفارقهم، وإن ذهبوا كل مذهب، بل تدور معهم، حيثما داروا. ولوقوعه في صحبة اتباعهم رؤساءهم. يعني: أنهم لما اتّبعوهم أتبعوا ذلك جزاء وفاقا.
أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ إذ عبدوا غيره- وتقدم تعدية (كفر) - أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ دعا عليهم بالهلاك أو باللعنة، وفيه من الإشعار بالسخط عليهم، والمقت، ما لا يخفى فظاعته. وتكرير حرف التنبيه، وإعادة (عاد) للمبالغة في تهويل حالهم، والحث على الاعتبار بنبئهم. و (قوم هود) عطف بيان ل (عاد) فائدته النسبة بذكره عليه السلام، الذي إنما استحقوا الهلاك بسببه، كأنه قيل: عاد قوم هود الذي كذبوه. وتناسب الآي بذلك أيضا فإن قبلها وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ [هود: ٥٩]. وقبل ذلك (حفيظ) و (غليظ)، وغير ذلك مما هو على وزن (فعيل) المناسب ل (فعول) في القوافي- والله أعلم-.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٦١]
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (٦١)
وَإِلى ثَمُودَ عطف على ما سبق بيانه من قوله: وَإِلى عادٍ أي وأرسلنا إلى
ثمود، وهي قبيلة من العرب أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ أي كوّنكم منها وحده، فإنه خلق آدم، ومواد النطف التي خلق نسله منها، من التراب وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها أي عمّركم فيها، أو جعلكم عمّارها، أي جعلكم قادرين على عمارتها، كقوله تعالى في الأعراف: وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً [الأعراف: ٧٤]، فَاسْتَغْفِرُوهُ أي من الشرك، ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ بالتوحيد إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ أي قريب الرحمة لمن استغفره، مجيب دعاءه بالقبول.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٦٢]
قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٦٢)
قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أي كانت تلوح فيك مخايل الخير، وأمارات الرشد، فكنا نرجوك لننتفع بك، وتكون مشاورا في الأمور، ومسترشدا في التدابير، فلما نطقت بهذا القول انقطع رجاؤنا عنك، وعلمنا أن لا خير فيك. كذا في (الكشاف).
أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أي من الأوثان وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ أي من التوحيد مُرِيبٍ أي موقع في الريبة، وهي قلق النفس، وانتفاء الطمأنينة:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٦٣]
قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (٦٣)
قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ أي أخبروني إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ أي حجة ظاهرة، وبرهان وبصيرة مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً أي هداية ونبوة، فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ أي ينجيني من عذابه إِنْ عَصَيْتُهُ أي بالمجاراة معكم في أهوائكم، فَما تَزِيدُونَنِي أي باستتباعكم إياي غَيْرَ تَخْسِيرٍ أي غير أن تجعلوني خاسرا تعريضي لسخط الله. أو فما تزيدونني، بما تقولون إلا تبصرة بكم بأن أنسبكم إلى الخسران.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٦٤]
وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (٦٤)
وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ الإضافة للتشريف، والإعلام بمباينتها لما يجانسها من حيث الخلقة والخلق لَكُمْ آيَةً أي معجزة دالة على صدق نبوّتي فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ من فرط غضب الله عليكم، لاجترائكم على آياته المنسوبة إليه.
ثم أخبر بأنهم لم يسمعوا قوله، ولم يطيعوا، بعد رؤية هذه الآية، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٦٥]
فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (٦٥)
فَعَقَرُوها أي قتلوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ أي مردود.
قال في (الإكليل) : استدل به في إمهال الخصم ونحوه ثلاثة وفيه دليل على أن ل (الثلاثة) نظرا في الشرع، ولهذا شرعت في (الخيار) ونحوه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٦٦]
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦)
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا أي عذابنا وهو الصيحة، كما سيبيّن نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ أي بسبب رحمة عظيمة مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ وهو هلاكهم بالصيحة إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ أي القادر على كل شيء، والغالب عليه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٦٧]
وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٦٧)
وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ أي من جهة السماء، فرجفوا لها رجفة الهلاك
فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ أي هامدين موتى لا يتحركون. ولا يخفى ما فيه من الدلالة على شدة الأخذ وسرعته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٦٨]
كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (٦٨)
كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا أي كأنهم لم يقيموا فِيها أي في مساكنهم أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أي فأهلكهم. أَلا بُعْداً لِثَمُودَ أي هلاكا ولعنة، لبعدهم عن صراطه.
وقد قدمنا الكلام على تفصيل نبئهم في الأعراف: بما يغني عن إعادته هنا، فليراجع.
ثم أشار تعالى إلى نبأ لوط وهلاك قومه، وهو النبأ الرابع من أنباء هذه السورة بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٦٩]
وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩)
وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا أي الملائكة الذين أرسلناهم لإهلاك قوم لوط إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى أي بولد وولده. ثم بين أنهم قدّموا على التبشير ما يفيد سرورا، ليكون التبشير سرورا فوق سرور، بقوله تعالى: قالُوا سَلاماً أي سلمنا عليك سلاما.
قالَ سَلامٌ أي عليكم سلام، أو سلام عليكم. رفعه، إجابة بأحسن من تحيتهم، لأن الرفع أدل على الثبوت من النصب.
ثم أشار إلى إحسان ضيافتهم بقوله: فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ أي مشويّ، أو سمين يقطر ودكه، لقوله: بِعِجْلٍ سَمِينٍ [الذاريات: ٢٦].
في (ما) ثلاثة أوجه: أظهرها أنها نافية، وفاعل (لبث) إما ضمير (إبراهيم)، وأَنْ جاءَ مقدر بحرف جر متعلق به، أي: ما أبطأ في، أو بأن أو عن (أن جاء)، وإما (أن جاء) أي فما أبطأ، ولا تأخر مجيئه بعجل. وثاني الأوجه أنها مصدرية، وثالثها أنها بمعنى (الذي). وهي فيهما مبتدأ، و (أن جاء). خبره على حذف مضاف.
أي: فلبثته، أو الذي لبثه قدر مجيئه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٧٠]
فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠)
فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ أي لا يمدون إليه أيديهم نَكِرَهُمْ أي أنكرهم، وَأَوْجَسَ أي أحس مِنْهُمْ خِيفَةً لظنه أنهم بشر أرادوا به مكروها.
والضيف إذا همّ بفتك لا يأكل من الطعام، في عادتهم. قالُوا أي له لما علموا منه الخوف بإخباره لهم، كما في آية: قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ. قالُوا لا تَوْجَلْ [الحجر: ٥٢- ٥٣] كما قيل هنا لا تَخَفْ أي إنا لا نأكل لأنا ملائكة، ولم ننزل بالعذاب عليكم إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ أي لإهلاكهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٧١]
وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (٧١)
وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ أي سرورا بزوال الخيفة، أو بهلاك أهل الخبائث، فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ أي يولد له. والاسمان يحتمل وقوعهما في البشارة، أو أنها حكيا بعد أن ولدا وسمّيا بذلك. وتوجيه البشارة إليها هنا، مع ورود البشارة إلى إبراهيم في آية أخرى، كآية فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ [الصافات:
١٠١]، وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ [الذاريات: ٢٨]، إيذان بمشاركتها لإبراهيم في ذلك حين ورودها، وإشارة إلى أن ذكر أحدهما فيه اكتفاء عن الآخر، والمقام أمس بذكره وأبلغ. أو للتوصل إلى سوق نبئها في ذلك، وخرق العادة فيه، كما لوّح به تعجبها في قوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٧٢]
قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢)
قالَتْ يا وَيْلَتى أي يا عجبي. وأصله للدعاء بالويل ونحوه، في جزع التفجع لشدة مكروه يدهم النفس، ثم استعمل في التعجب. وألفه بدل من ياء المتكلم ولذلك أمالها أبو عمرو وعاصم في رواية، وبها قرأ الحسن (يا ويلتي) وقيل: هي ألف الندبة، ويوقف عليها بهاء السكت.
أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ أي امرأة مسنّة- والأفصح ترك الهاء معها- وسمع من بعض
العرب (عجوزة) - حكاه يونس- وَهذا بَعْلِي أي زوجي إبراهيم شَيْخاً إِنَّ هذا أي التولّد من هرمين لَشَيْءٌ عَجِيبٌ أي غريب، لم تجر به العادة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٧٣]
قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (٧٣)
قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ أي أتستبعدين من شأنه وقدرته خلق الولد من الهرمين؟
قال الزمخشريّ: وإنما أنكرت عليها الملائكة تعجبها، لأنها كانت في بيت الآيات، ومهبط المعجزات، والأمور الخارقة للعادات، فكان عليها أن تتوقر، ولا يزدهيها ما يزدهي سائر النساء الناشئات في غير بيت النبوّة، وأن تسبّح الله وتمجده، مكان التعجب وإلى ذلك أشارت الملائكة، صلوات الله عليهم، في قولهم: رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ أرادوا أن هذه وأمثالها مما يكرمكم به رب العزة، ويخصكم بالإنعام به يا أهل بيت النبوة، فليست بمكان عجب. والكلام مستأنف، علل به إنكار التعجب، كأنه قيل: (إياك والتعجب) فإن أمثال هذه الرحمة والبركة متكاثرة من الله عليكم- انتهى-.
فالجملة خبرية، وجوّز كونها دعائية. و (أهل البيت) نصب على النداء أو التخصيص، لأن أهل البيت مدح لهم، إذ المراد أهل بيت خليل الرحمن.
إِنَّهُ حَمِيدٌ أي مستحق للمحامد، لما وهبه من جلائل النعم مَجِيدٌ أي كريم واسع الإحسان، فلا يبعد أن يعطي الولد بعد الكبر. وهو تذييل بديع لبيان أن مقتضى حالها أن تحمد مستوجب الحمد المحسن إليها بما أحسن، وتمجده إذ شرفها بما شرّف.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٧٤]
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤)
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ أي خيفة إرادة المكروه منهم بعرفانهم وَجاءَتْهُ الْبُشْرى أي بدل الروع يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ أي في هلاكهم، استعطافا لدفعه.
روي أنه قال: أتهلك البارّ مع الأثيم، أتهلكها وفيهم خمسون بارّا؟ حاشا لك!
فقيل له: إن وجد فيهم خمسون بارّا فنصفح عن الجميع لأجلهم!
فقال: أو أربعون؟
فقيل: أو أربعون! وهكذا إلى أن قال: أو عشرة، فقيل له. لا نهلكها من أجل العشرة، إلا أنه ليس فيها عشرة أبرار، بل جميعهم منهمك في الفاحشة. فقال: إنه فيها لوطا! فقيل: نحن أعلم بمن فيها لننجينّه.
ويُجادِلُنا جواب (لمّا) جيء به مضارعا على حكاية الحال. أو أن (لمّا) ك (لو) تقلب المضارع ماضيا، كما أن (إن) تقلب الماضي مستقبلا أو الجواب محذوف، والمذكور دليله أو متعلق به.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٧٥]
إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (٧٥)
إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أي غير عجول على الانتقام من المسيء أَوَّاهٌ كثير التأسف مُنِيبٌ أي راجع إلى الله في كل ما يحبه ويرضاه. والمقصود بتعداد صفاته الجملية المذكورة، بيان الحامل على المجادلة، وهو رقة القلب وفرط الترحم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٧٦]
يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (٧٦)
يا إِبْراهِيمُ أي قيل له: يا إبراهيم: أَعْرِضْ عَنْ هذا أي الجدال إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ أي حكمه بهلاكهم إِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ أي بجدال ولا بدعاء، ولا بغيرهما.
فوائد:
قال بعض المفسرين: لهذه الآيات ثمرات: وهي أن حصول الولد المخصص بالفضل نعمة، وهلاك العاصي نعمة، لأن البشرى قد فسّرت بولادة إسحاق، كما في آخر الآية، وهي: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ إلخ وفسّرت بهلاك قوم لوط.
ومنها: استحباب نزول المبشّر على المبشّر، لأن الملائكة أرسلهم الله بذلك.
ومنها: أنه يستحب للمبشّر تلقي ذلك بالطاعة، شكرا لله تعالى على ما بشر به.
وحكى الأصمّ أنهم جاءوه في أرض يعمل فيها، فلما فرغ غرز مسحاته، وصلى ركعتين.
ومنها: أن السلام مشروع، وأنه ينبغي أن يكون الردّ أفضل، لقول إبراهيم:
سَلامٌ بالرفع، كما تقدم سره- انتهى- ومنها: مشروعية الضيافة، والمبادرة إليها، واستحباب مبادرة الضيف بالأكل منها.
ومنها: استحباب خدمة الضيف، ولو للمرأة، لقول مجاهد: وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ- أي في خدمة أضياف إبراهيم. قال في (الوجيز) : وكنّ لا يحتجبن، كعادة العرب ونازلة البوادي، أو كانت عجوزا، وخدمة الضيفان من مكارم الأخلاق.
ومنها: جواز مراجعة المرأة الأجانب في القول، وأن صوتها ليس بعورة. كذا في (الإكليل).
ومنها: أن امرأة الرجل من أهل بيته، فيكون أزواجه عليه الصلاة والسلام من أهل بيته. ويأتي ذلك أيضا في آية: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ [هود: ٨١] و [الحجر: ٦٥].
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٧٧]
وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧)
وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً أي بعد منصرفها من عند إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وكان مقيما في (بلوط ممرا) التي ب (حبرون) المدينة المعروفة اليوم ب (الخليل) سِيءَ بِهِمْ أي ساءه مجيئهم، لأنهم أتوه على صورة مرد، حسان الوجوه، فخاف أن يقصدهم قومه، لظنه أنهم بشر وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً يقال: ضاق بالأمر ذرعه وذراعه، وضاق به ذرعا، أي ضعفت طاقته، لم يجد من المكروه فيه مخلصا.
قال الجوهري: أصل الذرع بسط اليد، فكأنك تريد: مددت يدك إليه فلم تنله. وقيل: وجه التمثيل أن القصير الذراع لا ينال ما يناله الطويل الذراع، ولا يطيق طاقته فضرب مثلا للذي سقطت قوته، دون بلوغ الأمر والاقتدار عليه.
وقال الأزهريّ: الذرع يوضع موضع الطاقة، والأصل فيه، أن البعير يذرع بيديه في سيره ذرعا، على قدر سعة خطوه، فإذا حمل عليه أكثر من طوقه، طاق به ذرعا عن
ذلك وضعف، ومدّ عنقه، فجل ضيق الذرع عبارة عن ضيق الوسع والطاقة.
و (ذرعا) تمييز، لأنه خرج مفسّرا محوّلا، الأصل: ضاق ذرعي به، وشاهد الذراع قوله:
وإن بات وحشا ليلة لم يضق بها ذراعا ولم يصبح لها وهو خاشع
وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ أي شديد. وكيف لا يشتد عليه، وقد ألمّ المحذور، كما قال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٧٨]
وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨)
وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ أي يسرعون كأنما يدفعون دفعا. وقرئ مبنيا للفاعل. وَمِنْ قَبْلُ أي قبل مجيئهم كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أي الفواحش ويكثرونها، فمرنوا عليها، وقلّ عندهم استقباحها، فلذلك جاءوا مسرعين مجاهرين، لا يكفّهم حياء فالجملة معترضة لتأكيد ما قبلها. وقيل: إنها بيان لوجه ضيق صدره أي: لما عرف لوط عادتهم في عمل الفواحش قبل ذلك قالَ أي لوط يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ أراد أن يقي أضيافه ببناته، وذلك غاية الكرم، أي فتزوجوهن. أو كان ذلك مبالغة في تواضعه لهم، وإظهار لشدة امتعاضه، مما أوردوا عليه، طمعا في أن يستحيوا منه، ويرقّوا له إذا سمعوا ذلك فيتركوا ضيوفه- هذا ملخص ما في (الكشاف) ومن تابعه- وظاهر أنه، عليه السلام كان واثقا بأن قومه لا يؤثرونهن بوجه ما، مهما أطرى وأطنب، وشوّق ورغّب، فكان إظهاره وقاية ضيفانه، وفداءهم بهن، مع وثوقه المذكور وجزمه- مبالغة في الاعتناء بحمايتهم، وقياما بالواجب في مثل هذا الخطب الفادح الفاضح، الذي يدوم عاره وشناره، من الدفاع عنهم بأقصى ما يمكن لكيلا ينسب إلى قصور. وليعلم أن لا غاية وراء هذا لمن لا ركن له من عشيرة أو قبيلة، فذلك غاية الغايات في حيطتهم ووقايتهم.
وفي قوله: هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ من التشويق، على مرأى من ضيفانه ومسمع، ما فيه من زيادة الكرم والإكرام، ورعاية الذمام. وبالجملة فهو ترغيب بمحال الوقوع باطنا، وإعذار لنزلائه ظاهرا- والله أعلم- وفي هذا إرشاد إلى التطهر بالطرق المسنونة، وهي النكاح. وإشارة إلى تناهي وقاحة أولئك بما استأهلوا به أخذهم الآتي.
فَاتَّقُوا اللَّهَ أي أن تعصوه بما هو أشد من الزنى خبثا.
وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أي ولا تهينوني وتفضحوني في شأنهم، فإنه إذا خزي ضيف الرجل أو جاره، فقد خزي الرجل، وذلك من عراقة الكرم، وأصالة المروءة و (تخزون) مجزوم بحذف النون، والياء محذوفة اكتفاء بالكسرة، وقرئ بإثباتها على الأصل.
أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ أي فيرعوي عن القبيح، ويهتدي إلى الصواب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٧٩]
قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (٧٩)
قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ أي حاجة، إذ لا نريدهن. وفي تصدير كلامهم باللام المؤذنة بأن ما بعدها جواب القسم، أي: والله لقد علمت- إشارة إلى ما ذكرناه من أنه كان واثقا وجازما بعدم رغبتهم فيهن. وأيد ذلك قولهم:
وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ استشهادا بعلمه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٨٠]
قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (٨٠)
قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أي بدفعكم قوة، بالبدن أو الولد أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ أي عشيرة كثيرة، لأنه كان غريبا عن قومه، شبهها بركن الجبل في الشدة والمنعة.
أي: لفعلت بكم ما فعلت، وصنعت ما صنعت.
تنبيه:
قال الإمام ابن حزم رحمه الله في (الملل) :
ظن بعض الفرق أن ما جاء
في الحديث الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم: «رحم الله لوطا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد» «١»
إنكار على لوط عليه السلام. ولا تخالف بين القولين، بل كلاهما حق، لأن لوطا عليه السلام إنما أراد منعة عاجلة يمنع بها قومه
(١)
أخرجه البخاري في: الأنبياء، ١٥- باب: وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ... إلخ. عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: «يغفر الله للوط، إن كان ليأوي إلى ركن شديد».
[.....]
مما هم عليه من الفواحش، من قرابة أو عشيرة أو أتباع مؤمنين. وما جهل قط لوط عليه السلام أنه يأوي من ربه تعالى إلى أمنع قوة، وأشد ركن. ولا جناح على لوط عليه السلام في طلب قوة من الناس، فقد قال تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ [البقرة: ٢٥١] فهذا الذي طلب لوط عليه السلام. وقد طلب رسول الله ﷺ من الأنصار والمهاجرين منعه حتى يبلّغ كلام ربه تعالى، فكيف ينكر على لوط أمرا هو فعله عليه السلام. تالله! ما أنكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما أخبر أن لوطا كان يأوي إلى ركن شديد، يعني من نصر الله له بالملائكة. ولم يكن لوط علم بذلك. ومن اعتقد أن لوطا كان يعتقد أنه ليس له من الله ركن شديد، فقد كفر، إذ نسب إلى نبيّ من الأنبياء هذا الكفر. وهذا أيضا ظن سخيف إذ من الممتنع أن يظن برب أراه المعجزات، وهو دائبا يدعو إليه، هذا الظن. انتهى-.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٨١]
قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (٨١)
قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ أي إلى إضرارك بإضرارنا فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ أي بطائفة من آخره. أي ببقية سواد منه عند السحر، وهو وقت استغراقهم في النوم، فلا يمكنهم التعرض له ولا لأهله. وقرئ فَأَسْرِ بالقطع والوصل.
وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أي لا ينظر إلى ورائه، لئلا يلحقه أثر ما نزل عليهم إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ أي من العذاب، فإنها لما سمعت وجبة العذاب التفتت فهلكت.
قال في (الإكليل) : فيه أن المرأة والأولاد من الأهل.
إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ أي موعدهم بالهلاك الصبح، والجملة كالتعليل للأمر بالإسراء، أو جواب لاستعجال لوط واستبطائه العذاب، أو ذكرت ليتعجل في السير، فإن قرب الصبح داع إلى الإسراع في الإسراء، للتباعد عن موقع العذاب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٨٢]
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢)
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا أي عذابنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها أي فقلبت تلك المدن ونبتها بسكانها جميعا. وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ أي طين متحجر، كقوله:
حِجارَةً مِنْ طِينٍ [الذاريات: ٣٣]، مَنْضُودٍ أي يرسل بعضه في إثر بعض متتابعا.
قال المهايميّ: اتصل بعضه ببعض، ليرجموا رجم الزناة، بما يناسب قسوتهم ورينهم الذي اتصل بقلوبهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٨٣]
مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (٨٣)
مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ معلّمة عنده وَما هِيَ أي تلك الحجارة مِنَ الظَّالِمِينَ أي بالشرك وغيره بِبَعِيدٍ فإنهم بسبب ظلمهم مستحقون لها، وملابسون بها.
وفيه وعيد شديد لأهل الظلم كافة. وقيل: الضمير للقرى، أي هي قريبة من ظالمي مكة، يمرون بها في أسفارهم إلى الشام، وقد صار موضع تلك المدن بحر ماء أجاج لم يزل إلى يومنا هذا، ويعرف ب (البحر الميت) لأن مياهه لا تغذي شيئا من جنس الحيوان، وب (بحر الزفت) أيضا، لأنه ينبعث من عمق مقرّه إلى سطحه، فيطفو فوقه، وب (بحيرة لوط) والأرض التي تليها قاحلة لا تنبت شيئا.
قال أبو السعود: وتذكير (بعيد) على تأويل (الحجارة) بالحجر، أو إجرائه على موصوف مذكر، أي بشيء بعيد، أو لأنه على أنه المصدر ك (الزفير) و (الصهيل).
والمصادر يستوي في الوصف بها، المذكر والمؤنث.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٨٤]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤)
وَإِلى مَدْيَنَ أي وأرسلنا إلى مدين، عطف على ما قبله و (مدين) بلد بين
الحجاز والشام، على مقربة من (معان) ويطلق على أهلها، وهم قوم من العرب كانوا يعمرونها.
أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ أي لتبخسوا الناس أشياءهم بالباطل إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ أي نعمة وثروة في رزقكم ومعيشتكم، وعافية وتمتع في وجودكم. يعني: فلا تتعرضوا لزوال ذلك عنكم بما تأتونه مما تنهون عنه، كما قال سبحانه: وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ أي مهلك، أو لا يشذ منه أحد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٨٥]
وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥)
وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ أي العدل.
قال الزمخشري فإن قلت: النهي عن النقصان أمر بالإيفاء، فما فائدة قوله:
أَوْفُوا؟.
قلت: نهوا أولا عن عين القبيح الذي كانوا عليه من نقص المكيال والميزان، لأن في التصريح بالقبيح بغيا على المنهيّ، وتعييرا له. ثم ورد الأمر بالإيفاء، الذي هو حسن في العقول، مصرحا بلفظه لزيادة ترغيب فيه، وبعث عليه. وجيء به مقيدا (بالقسط) أي ليكن الإيفاء على وجه العدل والتسوية، من غير زيادة ولا نقصان أمرا بما هو الواجب. لأن ما جاوز العدل فضل، وأمر مندوب إليه. وفيه توقيف على أن الموفي، عليه أن ينوي بالوفاء القسط، لأن الإيفاء وجه حسنه أنه قسط وعدل. فهذه ثلاث فوائد. انتهى-.
وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ أي لا تنقصوهم حقوقهم بطريق من الطرق، كالكيل والوزن وغيرهما، فهو تعميم بعد تخصيص، لأنه أعم من أن يكون في المقدار وغيره. والبخس: الهضم والنقص. ويقال للمكس: البخس. قال زهير:
أفي كلّ أسواق العراق إتاوة وفي كلّ ما باع امرؤ بخس درهم
ألا تستحي منا ملوك وتتّقي محارمنا لا تتّقي الدم بالدم
وروي (مكس درهم). يريد زهير: أخذ الخراج، وما هو اليوم في الأسواق من رسوم وظلم. وكان قوم شعيب يأخذون، من كل شيء يباع، شيئا. كما تفعل السماسرة، أو كانوا يمكسون الناس، أو كانوا ينقصون من أثمان ما يشترون من
الأشياء، فنهوا عن ذلك- كذا في (الكشاف)
و (شرحه) قال القاشانيّ: لما رأى شعيب، عليه السلام، ضلالتهم بالشرك، واحتجابهم عن الحق بالجبت، وتهالكهم على كسب الحطام بأنواع الرذائل، وتماديهم في الحرص على جمع المال بأسوأ الخصال- نهاهم عن ذلك، وقال: إني أراكم بخير في استعدادكم من إمكان حصول كمال وقبول هداية، وإني أخاف عليم إحاطة خطيئاتكم، لاحتجابكم عن الحق، ووقوفكم مع الغير، وصرف أفكاركم بالكلية إلى طلب المعاش، وإعراضكم عن المعاد، وقصور هممكم على إحراز الفاسدات الفانيات، عن تحصيل الباقيات الصالحات، فلازموا التوحيد والعدالة، واعتزلوا عن الشرك، والظلم، الذي هو جماع الرذائل وأم الغوائل.
وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ أي لا تعملوا فيها الفساد. يعمّ أيضا تنقيص الحقوق وغيره، كالسرقة، والدعاء إليه، والصدّ عن الإيمان ونحوها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٨٦]
بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦)
بَقِيَّتُ اللَّهِ أي ثوابه الباقي على وفاء الكيل والوزن، أو ما أبقاه عليكم بعد التنزه عن الحرام، أو ما تفضل عليكم من الربح بعد وفائهما خَيْرٌ لَكُمْ أي في دينكم ودنياكم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فإن المؤمن يبارك له، إذا تنزه عن الحرام. أو مصدقين بما أقول.
وقال القاشانيّ: أي إن كنتم مصدقين ببقاء شيء، فما يبقى لكم عند الله من الكمالات والسعادات الأخروية، خير لكم من تلك المكاسب الفانية التي تشقون بها، وتشقّون على أنفسكم في كسبها وتحصيلها، ثم تتركونها بالموت، ولا يبقى منها معكم شيء إلا وبال التبعات والعذاب اللازم، لما في نفوسكم من رواسخ الهيئات.
وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ أي رقيب لأحفظكم عن القبائح وأكفكم عنها بسيطرة. وإنما أنا مبلغ نذير.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٨٧]
قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧)
قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أي من الأصنام، أجابوا به
أمرهم بالتوحيد، على الاستهزاء والتهكم بصلواته، والإشعار بأن مثله لا يدعو إليه داع عقليّ، وإنما دعاك إليه خطرات ووساوس من جنس ما تواظب عليه. وكان شعيب كثير الصلاة، فلذلك جمعوا وخصوا الصلاة بالذكر. وقرئ: (أصلاتك) بالإفراد- قاله القاضي- أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا من نقص ونحوه إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ
أي الموصوف بالحلم والرشد في قومك يعنون أن ما تأمر به لا يطابق حالك، وما شهرت به.
كما قال قوم صالح عليه السلام: قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا [هود: ٦٢]، أو قالوا ذلك تهكما به، والمراد أنه على الضد من ذلك. قيل: وهذا أرجح، لأنه أنسب بتهكمهم قبله والأدق هو الأول لمماثلته لما خوطب به صالح، وتعقيبه بمثل ما عقّب به، وهو قوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٨٨]
قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (٨٨)
قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي أي أخبروني إن كنت على برهان يقيني مما أتاني ربي من العمل والنبوة وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً أي مالا حلالا مكتسبا بلا بخس وتطفيف، أو حكمة ونبوّة، وكمالا وتكميلا، بالاستقامة على التوحيد. هل يصح لي أن أخون الوحي، وأترك النهي عن الشرك والظلم، والإصلاح بالتزكية والتحلية. وهو اعتذار عما أنكروه عليه من تغيير المألوف والنهي عن دين الآباء. وحذف جواب (أرأيتم) لما دل عليه في مثله، كما مرّ في نبأ نوح وصالح عليهما السلام، وعلى خصوصيته هنا من قوله: وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ أي وما أريد أن آتي ما أنهاكم عنه، لأستبدّ به دونكم، فلو كان صوابا لآثرته، ولم أعرض عنه، فضلا عن أن أنهى عنه- أفاده القاضي-.
وفي (التاج) : يقال: خالفه إلى الشيء: عصاه إليه، أو قصده بعد ما نهاه عنه، وهو من ذلك.
قال القاشانيّ: أي ما أقصد إلى جرّ المنافع الدنيوية الفانية، بارتكاب الظلم الذي أنهاكم عنه.
إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ أي إصلاح نفوسكم بالتزكية، والتهيئة لقبول الحكمة، مادمت مستطيعا متمكنا منه. وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ أي وما كوني موفقا للإصلاح إلا بمعونة الله وتأييده. عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ أي أعتمد وَإِلَيْهِ أُنِيبُ أي أرجع في السراء والضراء.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٨٩]
وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩)
وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أي لا يكسبنكم عدواتي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ من الغرق والريح والصيحة وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ فإن منازلهم قريبة منكم، وقد علمتم ما نزل بهم من قلب الأرض وإمطار الحجارة. وذلك لأن مخالفة الرسل تقتضي أحد هذه الأمور.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٩٠]
وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (٩٠)
وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ أي من عبادة الأصنام ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ أي بالتوحيد، أو بالرجوع عن البخس والتطفيف إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ أي للمستغفرين التائبين وَدُودٌ أي مبالغ في المحبة لهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٩١]
قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (٩١)
قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ أي ما نفهم كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ كالتوحيد، وحرمة البخس. يعنون أنهم لا يقبلونه، أو قالوا ذلك استهانة به، كما يقول الرجل لمن لا يعبأ بحديثه: ما أدري ما تقول! أو جعلوا كلامه هذيانا وتخليطا لا ينفعهم كثير منه و (الكثير) مراد به الكل، أو قالوه فرارا من المكابرة.
قال أبو السعود: الفقه معرفة غرض المتكلم من كلامه. أي: ما نفهم مرادك، وإنما قالوه بعد ما سمعوا منه دلائل الحق البين على أحسن وجه وأبلغه، وضاقت عليهم الحيل، فلم يجدوا إلى محاورته سبيلا، سوى الصدود عن منهاج الحق، والسلوك إلى سبيل الشقاء، كما هو ديدن المفحم المحجوج، يقابل البينات بالسب والإبراق والإرعاد. فجعلوا كلامه المشتمل على فنون الحكم والمواعظ، وأنواع العلوم والمعارف، من قبيل ما لا يفهم معناه، ولا يدرك فحواه، وأدمجوا في ضمن ذلك أن في تضاعيفه ما يستوجب أقصى ما يكون من المؤاخذة والعقاب. ولعل ذلك ما فيه من التحذير من عواقب الأمم السالفة، ولذلك قالوا:
وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً أي لا قوة لك، فتمتنع منا إن أردنا بك سوءا وَلَوْلا رَهْطُكَ أي قومك وأنهم على ملتنا لَرَجَمْناكَ أي قتلناك برمي الأحجار، أو شر قتلة وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ أي لا تعز علينا ولا تكرم، حتى نكرمك ونمنعك من الرجم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٩٢]
قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٩٢)
قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ أي من أمره ووحيه ودينه وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا أي نسيتموه وجعلتموه كالشيء المنبوذ وراء الظهر، لا يعبأ به.
و (الظهري) منسوب إلى الظهر، والكسر من تغييرات النسب، كما قالوا: (إمسي) بالكسر في النسبة إلى (أمس) و (دهريّ)، بالضم، في النسبة إلى (الدهر) إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ أي عالم، لا يخفى عليه، فيجازيكم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٩٣]
وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (٩٣)
وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ أي غاية تمكنكم واستطاعتكم، أو على جهتكم وحالكم التي أنتم عليها، من كفركم وعداوتكم إِنِّي عامِلٌ أي على مكانتي التي كنت عليها من الثبات على الإسلام والمصابرة.
سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ أي منتظر لهلاككم. وفي زيادة (معكم) إظهار منه عليه السلام لكمال الوثوق بأمره.
قال الزمخشري: فإن قلت: أي فرق بين إدخال الفاء ونزعها في سَوْفَ تَعْلَمُونَ؟ قلت: إدخال الفاء وصل ظاهر بحرف موضوع للوصل، ونزعها وصل خفي تقديري بالاستئناف الذي هو جواب لسؤال مقدر، كأنهم قالوا: فما يكون إذا عملنا نحن على مكانتنا، وعلمت أنت؟ فقال: سوف تعلمون! فوصل تارة بالفاء، وتارة بالاستئناف، للتفنن في البلاغة، كم هو عادة بلغاء العرب، وأقوى الوصلين وأبلغهما الاستئناف. للإشعار بأنه مما يسأل عنه، ويعتني به، ولذا كان أبلغ في التهويل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٩٤]
وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٩٤)
وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا إنما ذكره بالواو، كما في قصة عاد، إذ لم يسبقه ذكر وعد يجري مجرى السبب له بخلاف قصتي صالح ولوط، فإنه ذكر بعد الوعد، وذلك قوله: وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ [هود: ٦٥]، وقوله: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ [هود: ٨١]، فلذلك جاء بفاء السببية. أفاده القاضي.
وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ أي بالعذاب فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ أي ميتين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٩٥]
كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (٩٥)
كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا أي يقيموا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ شبههم بهم، لأن عذابهم كان أيضا بالصيحة، وكانوا قريبا منهم في المنزل، نظراءهم في الكفر، وقطع الطريق، وكانوا أعرابا مثلهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٩٦]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٩٦)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أي التسع وَسُلْطانٍ مُبِينٍ وهو العصا. وكانت
أبهر معجزاته، فلذا خصت، أو هو الآيات، والعطف للإشارة إلى الجمع بين كونها آيات وسلطانا واضحا على رسالته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٩٧]
إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧)
إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ أي بالكفر بموسى، أو طريقة فرعون الجائرة.
قال الزمخشري: هذا تجهيل لمتبعيه، حيث شايعوه على أمره، وهو ضلال مبين لا يخفى على من فيه أدنى مسكة من العقل. وذلك أنه ادعى الإلهية، وهو بشر مثلهم، وجاهر بالعسف والظلم والشر الذي لا يأتي إلا من شيطان مارد، فاتبعوه وسلموا له دعواه، وتتابعوا على طاعته.
وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ أي بمرشد، أو ذي رشد، وإنما هو غي وضلال.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٩٨]
يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨)
يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي يتقدمهم إلى النار، كما كان يقدمهم في الدنيا إلى الضلال فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ أي يوردهم. وإيثار لفظ الماضي للدلالة على تحققه والقطع به. وشبه فرعون بالفارط الذي يتقدم الواردة إلى الماء، وأتباعه بالواردة، والنار بالماء الذي يردونه.
ثم قيل: وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ أي بئس الذي يردونه النار، لأن الورد- وهو النصيب من الماء- إنما يراد لتسكين الظمأ، وتبريد الكبد، والنار على الضد من ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ٩٩]
وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (٩٩)
وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ أي الدنيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أي يلعنون في الدنيا والآخرة، فهي تابعة لهم، أين كانوا. ف (يوم) معطوف على محل (في) هذه، لابتداء كلام.
بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ أي بئس العطاء المعطى وهي اللعنة في الدارين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ١٠٠]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠)
ذلِكَ إشارة إلى ما قص من أنباء الأمم مِنْ أَنْباءِ الْقُرى أي المهلكة نَقُصُّهُ عَلَيْكَ أي بالوحي مِنْها قائِمٌ أي باق ينظر إليها، قد باد أهلها وَحَصِيدٌ أي ومنها عافى الأثر كالزرع المحصود.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ١٠١]
وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (١٠١)
وَما ظَلَمْناهُمْ بإهلاكنا إياهم وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ أي بتعريضها لما أوجبه من الشرك وعبادة الأوثان والظلم فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ أي إهلاك وتخسير.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ١٠٢]
وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢)
وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ فيه إشعار بظلمهم وإعلام بسنته تعالى في أخذ الظالمين، التي لا تتبدل، وإنذار كل ظالم ظلم نفسه أي غيره، من سوء العاقبة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ١٠٣]
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣)
إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما قصّ في هذه السورة، أو في أخذ الظالمين لَآيَةً أي لعبرة لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ فيعتبر بها عن موجباته ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ أي يشهده الأولون والآخرون، وأهل السماء والأرض.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ١٠٤]
وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤)
وَما نُؤَخِّرُهُ أي ذلك اليوم إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ أي لمدة محدودة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ١٠٥]
يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥)
يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ أي بإذن الله تعالى، كقوله تعالى: لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً [النبأ: ٣٨]، فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ١٠٦]
فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦)
فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ الزفير إخراج النفس مع صوت ممدود، والشهيق: ردّه. كني بهما عن الغم والكرب، لأنه يعلو معه النفس غالبا. أو شبّه صراخهم بأصوات الحمير.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : الآيات ١٠٧ الى ١٠٨]
خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٠٧) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨)
خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ، إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ.
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ أي غير مقطوع، ولكنه ممتد إلى غير نهاية.
وفي التوقيت ب (السموات والأرض) وجهان:
أحدهما: أن يكون عبارة عن التأبيد ونفي الانقطاع، كقول العرب: (ما أقام ثبير)، و (ما لاح كوكب) و (ما طما البحر) ونحوها: لا تعليق قرارهم في الدارين بدوام هذه السموات والأرض، فإن النصوص دالة على تأبيد قرارهم، وانقطاع دوامهما.
وثانيهما: أن يراد سموات الآخرة وأرضها، إذ لا بد لأهلها من مظلّ ومقلّ قال تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ [إبراهيم: ٤٨]، وقوله: وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ [الزمر: ٧٤].
فإن قلت: ما معنى الاستثناء بالمشيئة، وقد ثبت خلود أهل الدارين فيهما من غير استثناء؟.
فالجواب: ما قدمناه في قوله تعالى: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ [الأعراف: ١٨٨]، يعني أن الاستثناء بالمشيئة قد استعمل في أسلوب القرآن، للدلالة على الثبوت والاستمرار.
والنكتة في الاستثناء بيان أن هذه الأمور الثابتة الدائمة إنما كانت كذلك بمشيئة الله تعالى بطبيعتها في نفسها، ولو شاء تعالى أن يغيرها لفعل.
وقد أشار لهذا ابن كثير بقوله: يعني أن دوامهم ليس أمرا واجبا بذاته، بل موكول إلى مشيئته تعالى.
وابن عطية بقوله: هذا على طريق الاستثناء الذي ندب الشارع إلى استعماله في كل كلام كقوله: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ [الفتح: ٢٧]، فليس يحتاج أن يوصف بمتصل ولا منقطع.
وللمفسرين هنا وجوه كثيرة، وما ذكرناه أحقها وأبدعها.
ولما قص تعالى قصص عبدة الأوثان وذكر ما أحله بهم من نقمة، وما أعدّ لهم من عذابه قال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ١٠٩]
فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (١٠٩)
فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ أي في شك من عبادتهم، في أنها ضلال مؤدّ إلى مثل ما حلّ بمن قبلهم. وفيه تسلية له صلوات الله عليه، وعدة بالانتقام، ووعيد لهم. ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ أي فهم سواء في الإشراك، وقد بلغك ما نزل بآبائهم، فسيحلّ بهم مثله. وهو استئناف معلل للنهي عن المرية وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ أي من العذاب، كما وفي لآبائهم غَيْرَ مَنْقُوصٍ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ١١٠]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠)
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة فَاخْتُلِفَ فِيهِ أي آمن به قوم، وكفر به آخرون، كما اختلف هؤلاء في القرآن وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ يعني ما أشير إليه في قوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال: ٣٣]، لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي باستئصالهم. وَإِنَّهُمْ أي هؤلاء، وهم كفار مكة لَفِي شَكٍّ مِنْهُ أي القرآن مُرِيبٍ أي موقع للناس في الريبة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ١١١]
وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١١)
وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أي فلا يخفى عليه شيء منه، وسيجزيهم عليه. والتنوين في (كلّا) عوض عن المضاف، أي وإن كل المختلفين فيه.
تنبيه:
في هذه الآية قراءات: قرئ (إنه) و (لما) مخففتين ومشددتين، وبتخفيف (إن) وتشديد (لما)، وبعكسها، وهذه الأربع قراءات كلها متواترة.
فأما الأولى: ففيها إعمال (إن) المخففة، وهي لغة ثابتة عن العرب، واللام في (لما) لأمر الابتداء، داخلة في خبر (إن) و (ما) إما موصولة بمعنى (اللذين) واقعة على من يعقل، واللام في (ليوفينهم) جواب قسم مضمر. أي: وإن كلّا الذين، والله! ليوفينهم. وإما نكرة موصوفة، والجملة القسمية وجوابها صفة (ما). أي: وإن كلّا لخلق، أو لفريق والله! ليوفينهم. وقيل: اللام الأولى موطئة للقسم، ولما اجتمع اللامان، واتفقا في اللفظ، فصل بينهما ب (ما) فهي زائدة لإصلاح اللفظ. وقيل:
اللام المذكورة هي الفارقة بين المخاففة والنافية. وقيل: إنها جواب القسم كررت تأكيدا.
وأما الثانية: وهي تشديدهما، ف (إن) على حالها. وما بعدها منصوب على أنه اسمها، و (لمّا) بمعنى (إلّا) أو جازمة بمعنى (لم) ومجزومها محذوف. أي: لما
يمهلوا، أو لما يوفوا أعمالهم إلى الآن، وسيوفونها.
وأما الثالثة: وهي تخفيف (إن) وتشديد (لم) ف (إن) مخففة عاملة كما تقدم، و (لما) بمعنى (إلّا) أو جازمة أيضا أو (إن) نافية بمنزلة (ما) و (ما) بمعنى (إلا) و (كلّا) منصوب بمضمر، أي: وما أرى كلا إلا.
وأما الرابعة: وهي تشديد (إن) وتخفيف (لما) فواضحة ف (إن) هي المشددة عملت عملها.
والكلام في (اللام) و (ما) مثل ما تقدم أولا من الوجوه الأربعة في (اللام) والثلاثة في (ما).
وثمّة قراءات أخر فلتراجع في (السمين) وغيره.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ١١٢]
فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢)
فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ أي في القرآن، و (الكاف) للتشبيه، أو بمعنى (على) وَمَنْ تابَ مَعَكَ أي من الشرك، وهم المؤمنون. وَلا تَطْغَوْا أي تجاوزوا حدود الله إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي فيجازيكم به. قال ابن كثير: يأمر تعالى رسوله والمؤمنين بالثبات والدوام على الاستقامة، وذلك من أكبر العون على النصر، وينهى عن الطغيان وهو البغي، فإنه مصرعة، ولو كان على مشرك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ١١٣]
وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (١١٣)
وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أي أنفسهم بالشرك والمعاصي أي: لا تسكنوا إليهم. ولا تطمئنوا إليهم. لما يفضي الركون من الرضا بشركهم وتقويتهم، وتوهين جانب الحق. فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ أي أنصار يمنعون عذابه عنكم بركونكم إليهم ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ أي لا تمنعون مما يراد بكم. والقصد تبعيد المؤمنين عن موادّة المشركين المحادّين لله ولرسوله، والثقة بهم، وهم أعظم عقبة
134
في الصدّ عن سبيل الله، لأن ذلك ينافي الإيمان.
قيل: الآية أبلغ ما يتصور في النهي عن الظلم، والتهديد عليه، لأن هذا الوعيد الشديد إذا كان فيمن يركن إلى أهله، فكيف بمن ينغمس في حمأته؟.
تنبيه:
قال بعض المفسرين اليمانين: الآية صريحة بأن الركون إلى الظّلمة محرّم وكبيرة، لأنه تعالى توعد بالنار. ولكن ما هو الركون الذي أراده تعالى؟ قلنا: في ذلك وجوه؟
فروي عن ابن عباس والأصمّ أن المعنى: لا تميلوا إلى الظلمة في شيء من دينكم.
وقيل: ترضوا بأعمالهم. عن أبي العالية-.
وقيل: تلحقوا بالمشركين- عن قتادة-.
وقيل: تداهنوا الظلمة عن السدّي وابن زيد-.
وقيل: الدخول معهم في ظلمهم، وإظهار الرضا بفعلهم، وإظهار موالاتهم. فأما إذا دخل عليهم لدفع شرهم، فيجوز، لأنه تعالى أمر بالرفق في مخالطة الكفار، والظلمة أولى.
قال الزمخشري: النهي يتناول الانحطاط في هواهم، والانقطاع إليهم، ومصاحبتهم ومجالستهم وزيارتهم ومداهنتهم، والرضا بأعمالهم، والتشبه بهم، والتزيّي بزيهم، ومد العين إلى زهرتهم وذكرهم بما فيه تعظيم لهم. وتأمل قوله:
وَلا تَرْكَنُوا فإن الركون هو الميل اليسير. وقوله: إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أي إلى الذين وجد منهم الظلم، ولم يقل: إلى الظالمين.
وحكي أن الموفق صلى خلف الإمام، فقرأ بهذه الآية، فغشي عليه، فلما أفاق قيل له، فقال: هذا فيمن ركن إلى من ظلم، فكيف بالظالم؟ انتهى.
قال اليماني: قد وسع العلماء في ذلك وشدّدوا، والحالات تختلف، والأعمال بالنيات، والتفصيل أولى، فإن كانت المخالطة لدفع منكر، أو استعانة عليه، أو رجاء تركهم الظلم، أو استكفاء شرورهم فلا حرج في ذلك، وربما وجب، وإن كان لإيناسهم وإقرارهم فلا. انتهى-.
وأقول: كل هذا مبني على عموم الآية، وأما إن كانت في مشركي مكة،
135
اعتمادا على سباق الآية وسياقها، فالمراد منها ما ذكرناه أولا- والله أعلم-.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ١١٤]
وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤)
وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ أي غدوة وعشية وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ أي وساعات منه، وهي ساعاته القريبة من آخر النهار. من (أزلفه) إذا قربه، وازدلف إليه. وصلاة الغدوة: الفجر وصلاة العشية: الظهر والعصر، لأن ما بعد الزوال عشي، وصلاة الزلف المغرب والعشاء- كذا في الكشاف-.
والآية كقوله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ [الإسراء: ٧٨]. في جمعهما للصلوات الخمس جمعا بالغا غاية اللطف في بلاغة الإيجاز وانتصاب (طرفي النهار) على الظرف لإضافته إليه. و (زلفا) قرأها العامة بضم ففتح، جمع زلفة، كظلمة وظلم. وقرئ بضمهما، إما على أنه جمع زلفة أيضا، ولكن ضمت عينه اتباعا لفائه أو على أنه اسم مفرد كعنق. أو جمع زليف بمعنى زلفة كرغيف ورغف.
وقرئ بإسكان اللام، إما بالتخفيف، فيكون فيها ما تقدم، أو على أن السكون على أصله، فهو كبسرة وبسر، من غير إتباع.
وقرئ (زلفى) كحبلى، بمعنى قريبة، أو على إبدال الألف من التنوين، إجزاء للوصل مجرى الوقف. ونصبه إما على الظرفية، بعطفه على (طرفي النهار) لأن المراد به الساعات، أو على عطفه على (الصلاة) فهو مفعول به.
والزلفة عند ثعلب، أول ساعات الليل.
وقال الأخفش: مطلق ساعات الليل، وأصل معناه القرب. يقال ازدلف أي اقترب و (من الليل) صفة زلفا- كذا في العناية-.
إِنَّ الْحَسَناتِ أي التي من جملتها، بل عمدتها، ما أمرت به من الصلوات يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ أي التي قلما يخلو منها البشر، أي يكفرنها. ذلِكَ أي إقامة الصلوات في الأوقات المذكورة، ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ أي ذكرى له تعالى، وإحضار
136
للقلب معه، وتصفية من كدورات اللهو والنسيان لعظمته.
وقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رجلا جاء إلى النبيّ ﷺ فقال: يا رسول الله! إنّي عالجت امرأة في أقصى المدينة، وإني أصبت منها ما دون أن أمسها، وأنا هذا. فاقض فيّ ما شئت! فقال له عمر رضي الله عنه: لقد سترك الله تعالى لو سترت على نفسك. قال فلم يردّ النبيّ ﷺ شيئا. فقام الرجل، فانطلق فأتبعه النبيّ ﷺ رجلا فدعاه، وتلا عليه هذه الآية وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ إلخ.
فقال رجل من القوم: يا رسول الله! هذا له خاصة؟ قال: بل للناس كافة- أخرجه البخاري «١» وغيره.
وفي رواية عن أبي أمامة «٢» قال له صلى الله عليه وسلم: أتممت الوضوء وصليت معنا؟ قال:
نعم قال: فإنك من خطيئتك كما ولدتك أمك، فلا تعد. وقرأ الآية.
وفي رواية فنزلت الآية، والمراد بالنزول شمولها، بنزولها المتقدم، لما وقع، لأنها كانت سببا في النزول- كما بيناه غير مرة-.
وفي الصحيح «٣» عن أبي هريرة عن النبيّ ﷺ قال: أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات. هل يبقى من دونه شيء؟ قالوا: لا. قال:
فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بها الخطايا. ورواه البخاري أيضا عن جابر، وروي نحوه عن عثمان وسلمان.
وللإمام أحمد «٤» عن معاذ، أن رسول الله ﷺ قال: أتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن.
وله عن أبي ذرّ «٥» مرفوعا (إذا علمت سيئة فأتبعها حسنة تمحها) قلت:
(١) أخرجه البخاريّ في: التفسير، ١١- سورة هود، ٦- باب وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ، حديث رقم ٣٤٢.
أما النص الذي ساقه المؤلف، فهو ما أخرجه مسلم في صحيحه في: التوبة، ٧- باب قوله تعالى:
إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ، حديث رقم ٤٢.
(٢) أخرجه مسلم في: التوبة، حديث رقم ٤٥.
(٣) أخرجه البخاريّ في: مواقيت الصلاة، ٦- باب الصلوات الخمس كفارة، حديث ٣٤٤.
(٤) أخرجه الإمام أحمد في المسند ٥/ ٢٢٨.
(٥) أخرجه الإمام أحمد في المسند ٥/ ١٥٣.
137
يا رسول الله أمن الحسنات لا إله إلا الله؟ قال (هي أفضل الحسنات)
أي:
فالحسنات مثل الصلاة والذكر والصدقة والاستغفار، ونحو ذلك من أعمال البرّ.
لطيفة:
أشار القاشاني عليه الرحمة إلى سر الصلوات الخمس في أوقاتها بما يجدر الوقوف عليه، فقال:
لما كانت الحواس الخمس شواغل تشغل القلب بما يرد عليه في الهيئات الجسمانية، وتجذبه عن الحضرة الرحمانية، وتحجبه عن النور والحضور، بالإعراض عن جانب القدس، والتوجه إلى معدن الرجس، وتبدله الوحشة بالأنس، والكدورة بالصفاء- فرضت خمس صلوات، يتفرغ فيها العبد للحضور، ويسد أبواب الحواس، لئلا يرد على القلب شاغل يشغله، ويفتح باب القلب إلى الله تعالى بالتوجه والنية، لوصول مدد النور، ويجمع همه عن التفرق ويستأنس بربه عن التوحش، مع اتحاد الوجهة، وحصول الجمعية، فتكون تلك الصلوات خمسة أبواب مفتوحة للقلب، على جناب الرب، يدخل عليه بها النور بإزاء تلك الخمسة المفتوحة إلى جانب الغرور، ودارا للعين الغرور، التي تدخل بها الظلمة ليذهب النور الوارد أثار ظلماتها، ويكسح غبار كدوراتها. وهذا معنى قوله: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ:
وقد ورد في الحديث «١»
(إن الصلاة إلى الصلاة كفارة ما بينهما ما اجتنبت الكبائر)
وأمر بإقامتها طرفي النهار، لينسحب حكمها ببقاء الجمعية، واستيلاء الهيئة النورية، في أوله إلى سائر الأوقات، فعسى أن يكون من الذين هم على صلاتهم دائمون، لدوام ذلك الحضور وبقاء ذلك النور، ويكسح ويزيل في آخرة ما حصل في سائر الأوقات من التفرقة والكدورة. ولما كانت القوى الطبيعية المدبرة لأمر الغذاء، سلطانها في الليل، وهي تجذب النفس إلى تدبير البدن بالنوم عن عالمها الروحاني، وتحجزها عن شأنها الخاص بها، الذي هو مطالعة عالم القدس بشغلها باستعمال آلات الغذاء، لعمارة الجسد، فتسلبها اللطافة، وتكدرها بالغشاوة- احتيج إلى تلطيفها وتصفيتها باليقظة، وتنويرها بالصلاة، فقال: وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ انتهى. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ١١٥]
وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١١٥)
وَاصْبِرْ أي على مشاق ما أمرت به من التبليغ، أو على ما يقولون، أو على
(١) أخرجه مسلم في: الطهارة، حديث رقم ١٦. عن أبي هريرة.
الصلاة كقوله: وَاصْطَبِرْ عَلَيْها [طه: ١٣٢]، ولا مانع من شموله للكل.
فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ أي في أعمالهم فيوفيهم أجورهم من غير بخس. قال أبو السعود: وإنما عبر عن ذلك بنفي الإضاعة، لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك بتصويره بصورة ما يمتنع صدوره عنه سبحانه، وإبراز الإثابة في معرض الأمور الواجبة مع الإيماء إلى أن الصبر على ما ذكر من باب الإحسان. انتهى.
وأشار الشهاب في (العناية) هنا إلى لطيفة من البلاغة القرآنية، وهو أن الأوامر بأفعال الخير أفردت للنبيّ ﷺ وإن كانت عامة في المعنى، وفي المنهيات جمعت للأمة.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ١١٦]
فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦)
فَلَوْلا كانَ أي فهلا وجد مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ أي بعمل الشرور والمنكرات، فإن لو كان منهم ناهون لم يؤخذ الباقون إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ استثناء منقطع. أي لكنّ قليلا ممن أنجينا من القرون نهوا عن الفساد، وسائرهم تاركون للنهي.
لطيفة:
(البقية) إما بمعنى الباقية، والتأنيث لمعنى الخصلة أو القطعة. أو بقية من الرأي والعقل. أو بمعنى الفضيلة، والتاء للنقل إلى الاسمية كالذبيحة. وأطلق على الفضل (بقية) استعارة من البقية التي يصطفيها المرء لنفسه. ويدخرها مما ينفقه، فإنه يفعل ذلك بأنفسها. ولذا قيل: (في الزوايا خبايا، وفي الرجال بقايا) و (فلان من بقية القوم) أي من خيارهم وجوّز كون (البقية) مصدرا بمعنى (البقوى)، كالتقية بمعنى التقوى، أي فهلا كان منهم ذوو إبقاء على أنفسهم، صيانة لها من سخطه تعالى وعقابه.
وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ أي ما صاروا منعّمين فيه من الشهوات، حتى
فجأهم العذاب، واتباعه كناية عن الاهتمام به، وترك غيره، كما هو دأب التابع للشيء.
والَّذِينَ ظَلَمُوا أعم من المباشرين بأنفسهم للفساد، ومن تاركي النهي عنه، وقصره الزمخشري على الثاني، لأنهم المقصود بالنعي قبله، حيث قال: أراد ب (الذين ظلموا) تاركي النهي عن المنكرات، أي لم يهتموا بما هو ركن عظيم من أركان الدين وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعقدوا هممهم بالشهوات، واتبعوا ما عرفوا فيه التنعم والتترف، من حب الرئاسة والثروة، وطلب أسباب العيش الهنيء ورفضوا ما وراء ذلك، ونبذوه وراء ظهورهم.
وَكانُوا مُجْرِمِينَ أي باتباعهم المذكور، أو كافرين، قال القاضي: كأنه أراد أن يبين ما كان السبب لاستئصال الأمم السالفة، وهو فشو الظلم فيهم، واتباعهم للهوى، وترك النهي عن المنكرات مع الكفر، وقد أشير لذلك بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ١١٧]
وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (١١٧)
وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ أي بأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر. و (بظلم) الباء فيه إما للملابسة، وهو حال من الفاعل، أي استحال في الحكمة أن يهلك القرى ظالما لها، وتنكيره للتفخيم، والإيذان بأن إهلاك المصلحين ظلم عظيم. أو للسببية، والظلم: الشرك، أي لا يهلك القرى بسبب إشراك أهلها وهم مصلحون يتعاطون الحق فيما بينهم ولا يضمون إلى شركهم فسادا آخر، وذلك لفرط رحمته ومسامحته في حقوقه تعالى. ولذا قيل: (يبقى الملك مع الشرك، ولا يبقى مع الظلم) وهذا، وإن كان صحيحا، إلا أن مقام دعوة الرسل إلى التوحيد، ومحو الشرك أوّلا، ثم إلى الاستقامة في المعاملات ثانيا- يقضي بحمل (الظلم) هنا على ما هو أعم من الشرك، وأصناف المعاصي. وحمل الإصلاح على إصلاحه، والإقلاع عنه بكون بعضهم متصدين للنهي عنه، وبعضهم متجهين إلى الاتعاظ، غير مصرّين على ما هم عليه من الشرك ونحوه- كذا أشار له أبو السعود.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ١١٨]
وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨)
وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً أي مجتمعة على الحق والإيمان
والصلاح ولكنه لم يشأ ذلك وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ أي في الحق، منهم المؤمن به ومنهم الكافر به.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ١١٩]
إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١١٩)
إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ أي لكنّ ناسا رحمهم بهدايتهم إلى التوحيد، وتوفيقهم للكمال، فاتفقوا في المذهب والمقصد، ووافقوا في السيرة والطريقة، قبلتهم الحق، ودينهم التوحيد والمحبة.
وقوله تعالى: وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ في المشار إليه أقوال. أظهرها أنه للاختلاف الدال عليه (مختلفين). فالضمير حينئذ للناس، أي لثمرة الاختلاف، من كون فريق في الجنة، وفريق في السعير، خلقهم. واللام لام العاقبة والصيرورة، لأن حكمة خلقهم ليس هذا، لقوله تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:
٥٦]، ولأنه لو خلقهم له، لم يعذبهم عليه. أو الإشارة له وللرحمة المفهومة من (رحم) لتأويلها ب (أن والفعل) أو كونها بمعنى الخير. وتكون الإشارة لاثنين، كما في قوله: عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ [البقرة: ٦٨]. والمراد لاختلاف الجميع ورحمة بعضهم خلقهم. وهذا معزوّ إلى ابن عباس رضي الله عنهما. وإن كان الضمير ل (من) فالإشارة للرحمة بالتأويل السابق- كذا في العناية-.
وأشار القاشاني إلى بقاء اللام على معناها، وهو التعليل بوجه آخر، حيث قال:
وللاختلاف خلقهم ليستعد كل منهم لشأن وعمل، ويختار بطبعه أمرا وصنعة، ويستتب بهم نظام العالم، ويستقيم أمر المعاش، فهم محامل لأمر الله، حمل عليهم حمول الأسباب والأرزاق، وما يتعيش به الناس، ورتب بهم قوام الحياة الدنيا، كما أن الفئة المرحومة مظاهر لكماله، أظهر الله بهم صفاته وأفعاله، وجعلهم مستودع حكمه ومعارفه وأسراره.
وقوله تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أي أحكمت وأبرمت وثبتت وهي هذه:
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ والمراد من الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ عصاتهما، والتعريف للعهد، والقرينة عقلية لما علم من الشرع أن العذاب مخصوص بهم، وأن الوعيد ليس إلا لهم، ولا حاجة إلى تقدير مضاف كما قيل. ب أَجْمَعِينَ حينئذ
ظاهر، وإن لم يحمل على العهد، وأبقى على إطلاقه ففائدة التأكيد بيان أن ملء جهنم من الصنفين، لا من أحدهما فقط، ويكون الداخلوها منهما مسكوتا عنه موكولا إلى علمه تعالى، فاندفع ما أورد على ظاهرها من اقتضائه دخول جميع الفريقين جهنم. وبطلانه معلوم بالضرورة. أما على الأول فظاهر وأما على الثاني فالمراد بلفظ (أجمعين) تعميم الأصناف، وذلك لا يقتضي دخول جميع الأفراد، كما إذا قلت: ملأت الجراب من جميع أصناف، الطعام، فإنه لا يقتضي ذلك إلا أن يكون فيه شيء من كل صنف من الأصناف، لا أن يكون فيه جميع أفراد الطعام.
كقولك: امتلأ المجلس من جميع أصناف الناس، لا يقتضي أن يكون في المجلس جميع أفراد الناس، بل يكون من كل فرد صنف، وهو ظاهر. وعلى هذا تظهر فائدة لفظ (أجمعين) إذ فيه ردّ على اليهود وغيرهم، ممن زعم أنه لا يدخل النار- كذا في العناية-.
ولما ذكر تعالى فيما تقدم من أنباء الأمم الماضية، والقرون الخالية، ما جرى لهم مع أنبيائهم- أشار هنا إلى سر ذلك وحكمته، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ١٢٠]
وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠)
وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ أي نقوي به قلبك لتصبر على أذى قومك، وتتأسى بالرسل من قبلك، وتعلم أن العاقبة لك، كما كانت لهم.
و (كلّا) مفعول (لنقصّ) و (من أنباء) بيان له. و (ما ثبت) بدل من (كلّا) أو خبر محذوف.
وَجاءَكَ فِي هذِهِ أي السورة، أو الأنباء المقتصّة الْحَقُّ أي القصص الحق الثابت وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ أي عبرة لهم يحترزون بها عما أهلك الأمم، وتذكير لما يجب أن يتدينوا به، ويجعلوه طريقهم وسيرتهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ١٢١]
وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (١٢١)
وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ أي بهذا الحق، ولا يتعظون ولا يتذكرون اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ أي حالكم من اتباع الأهواء إِنَّا عامِلُونَ أي على حالنا من اتباع ما جاءنا والاتعاظ والتذكر به.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ١٢٢]
وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢)
وَانْتَظِرُوا أي العواقب إِنَّا مُنْتَظِرُونَ أي ما وعدنا به من الفتح،. وقد أنجز الله وعده. ونصر عبده، فله الحمد وحده.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة هود (١١) : آية ١٢٣]
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٢٣)
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي فلا تخفى عليه خافية مما يجري فيهما، فلا تخفى عليه أعمالكم وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ أي أمر العباد في الآخرة، فيجازيهم بأعمالهم. وفيه تسلية للنبي ﷺ وتهديد للكفار بالانتقام منهم فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ فإنه كافيك وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ بالياء التحتية في قراء الجمهور، مناسبة لقوله لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ وفي قراءة بالتاء الفوقية على تغليب المخاطب، أي أنت وهم. أي فيجازي كلّا بما يستحقه- والله أعلم-.
143

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة يوسف
سميت به، لأن معظم قصته مذكورة، ومعظم ما فيها قصته.
قال الشهاب: لما ختمت السورة التي قبلها بقوله: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ذكرت هذه بعدها، لأنها من أنبائهم. وقد ذكر أولا ما لقى الأنبياء عليهم السلام من قومهم، وذكر في هذه ما لقى يوسف من إخوته، ليعلم ما قاسوه من أذى الأجانب والأقارب، فبينهما أتم المناسبة. والمقصود تسلية النبيّ ﷺ بما لاقاه من أذى القريب والبعيد. انتهى-.
و (يوسف) اسم عبراني، تعريبه يزيد، أو زيادة. وذلك لما روى أن أمه (راحيل) كانت قعدت عن الحمل مدة، ولحقها الحزن تلقاء ضراتها الوالدات، ولما وهبها تعالى، بعد سنين، ولدا سمته (يوسف) وقالت: يزيدني به ربي ولدا آخر.
وهذه السورة مكية اتفاقا، وآيها مائة وإحدى عشرة بلا خلاف.
وقد روى البيهقي في (الدلائل) أن طائفة من اليهود، حين سمعوا رسول الله ﷺ يتلو هذه السورة، أسلموا لموافقتها ما عندهم
144
Icon