ﰡ
مَكِّيَّةٌ (١)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (٢) ﴾.﴿الر﴾ قِيلَ: مَعْنَاهُ: أَنَا اللَّهُ أَرَى (٢) ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ﴾ أَيْ: هَذِهِ آيَاتُ الْكِتَابِ، ﴿وَقُرْآنٍ﴾ أَيْ: وَآيَاتُ قُرْآنٍ ﴿مُبِينٍ﴾ أَيْ: بَيَّنَ (٣) الْحَلَالَ مِنَ الْحَرَامِ وَالْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ ذَكَرَ الْكِتَابَ ثُمَّ قَالَ ﴿وَقُرْآنٍ مُبِينٍ﴾ وَكِلَاهُمَا وَاحِدٌ؟
قُلْنَا: قَدْ قِيلَ كُلُّ وَاحِدٍ يُفِيدُ فَائِدَةً أُخْرَى، فَإِنَّ الْكِتَابَ: مَا يُكْتَبُ، وَالْقُرْآنُ: مَا يُجْمَعُ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ: التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، وَبِالْقُرْآنِ هَذَا الْكِتَابُ.
﴿رُبَمَا﴾ قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَنَافِعٌ وَعَاصِمٌ بِتَخْفِيفِ الْبَاءِ وَالْبَاقُونَ بِتَشْدِيدِهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ، وَرُبَّ لِلتَّقْلِيلِ وَكَمْ لِلتَّكْثِيرِ، وَرُبَّ تَدْخُلُ عَلَى الِاسْمِ، وَرُبَمَا عَلَى الْفِعْلِ، يُقَالُ: رُبَّ رَجُلٍ جَاءَنِي، وَرُبَمَا جَاءَنِي رَجُلٌ، وَأَدْخَلَ مَا هَاهُنَا لِلْفِعْلِ بَعْدَهَا. ﴿يَوَدُّ﴾ يَتَمَنَّى ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ﴾.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْحَالِ الَّتِي يَتَمَنَّى الْكَافِرُ فِيهَا الْإِسْلَامَ.
قَالَ الضَّحَّاكُ: حَالَةُ الْمُعَايَنَةِ (٤).
(٢) انظر فيما سبق: ١ / ٥٨-٥٩.
(٣) في "ب" يبين.
(٤) وفيه نظر، إذ لا يقين للكافر حينئذ بحال المسلمين. انظر: المحرر الوجيز: ٨ / ٢٧٩.
وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ (١) حِينَ يُخْرِجُ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ النَّارِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا اجْتَمَعَ أَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ، وَمَعَهُمْ مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، قَالَ الْكَفَّارُ لِمَنْ فِي النَّارِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ: أَلَسْتُمْ مُسْلِمِينَ؟ قَالُوا بَلَى، قَالُوا: فَمَا أَغْنَى عَنْكُمْ إِسْلَامُكُمْ وَأَنْتُمْ مَعَنَا فِي النَّارِ؟ قَالُوا: كَانَتْ لَنَا ذُنُوبٌ فَأُخِذْنَا بِهَا، فَيَغْضَبُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ [بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ] (٢) فَيَأْمُرُ بِكُلِّ مَنْ كَانَ مَنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ فِي النَّارِ فَيُخْرَجُونَ مِنْهَا، فَحِينَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (٣).
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ "رُبَمَا" وَهِيَ لِلتَّقْلِيلِ وَهَذَا التمني يكثر من الْكُفَّارُ؟
قُلْنَا: قَدْ تُذْكَرُ "رُبَمَا" لِلتَّكْثِيرِ، أَوْ أَرَادَ: أَنَّ شُغْلَهُمْ بِالْعَذَابِ لَا يُفَرِّغُهُمْ لِلنَّدَامَةِ إِنَّمَا يَخْطُرُ ذَلِكَ بِبَالِهِمْ أَحْيَانًا.
﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣) ﴾.
﴿ذَرْهُمْ﴾ يَا مُحَمَّدُ، يَعْنِي: الَّذِينَ كَفَرُوا ﴿يَأْكُلُوا﴾ فِي الدُّنْيَا ﴿وَيَتَمَتَّعُوا﴾ مِنْ لَذَّاتِهِمْ (٤) ﴿وَيُلْهِهِمُ﴾ يَشْغَلُهُمْ ﴿الْأَمَلُ﴾ عَنِ الْأَخْذِ بِحَظِّهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ ﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ إِذَا وَرَدُوا الْقِيَامَةَ وَذَاقُوا وَبَالَ مَا صَنَعُوا، وَهَذَا تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: "ذَرْهُمْ" تَهْدِيدٌ، وَقَوْلُهُ: "فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ" تَهْدِيدٌ آخَرُ، فَمَتَى (٥) يَهْنَأُ الْعَيْشُ بَيْنَ تَهْدِيدَيْنِ؟
وَالْآيَةُ نَسَخَتْهَا آيَةُ الْقِتَالِ (٦).
(٢) ساقط من "ب".
(٣) أخرجه ابن جرير الطبري في التفسير: ١٤ / ٢ (طبع الحلبي) وابن أبي عاصم في "السنة" ١ / ٤٠٥-٤٠٦، والحاكم في "المستدرك: ٢ / ٤٤٢، وقال: صحيح ولم يخرجاه. قال الهيثمي في "المجمع" (٧ / ٤٥) "رواه الطبراني، وفيه خالد بن نافع الأشعري، قال أبو داود: متروك. قال الذهبي: هذا تجاوز في الحد، فقد حدث عنه أحمد بن حنبل وغيره - وبقية رجاله ثقات". وعزاه في "كنز العمال" (١٤ / ٥٤١) أيضا لابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في "البعث والنشور" وانظر: تفسير ابن كثير: ٢ / ٥٤٧. وصححه الألباني في "ظلال الجنة في تخريج السنة" ١ / ٤٠٦.
(٤) في "ب" في لذاتها.
(٥) في "أ" فكيف.
(٦) ذكر هذا كثير من المفسرين، انظر: الناسخ والمنسوخ لأبي القاسم هبة الله بن سلامة ص (٥٨) المحرر الوجيز: ٨ / ٢٨١، زاد المسير: ٤ / ٣٨٢. هذا، وقد ألمحنا في موضع سابق من هذا التفسير إلى أن بعض العلماء توسعوا كثيرا في الحكم على كثير من آيات الصبر والمسالمة والإعراض عن المشركين وتهديدهم بالعذاب بالنسخ، وجعلوا آية القتال أو آية السيف ناسخة لأكثر من مائة آية في القرآن الكريم. وفي هذا غلو في القول بالنسخ، وخروج به عن مفهمومه الصحيح. انظر: علوم القرآن، لأستاذنا الدكتور عدنان محمد زرزور ص (٢١٠-٢١٢) واقرأ الفصل بكامله عن "الناسخ والمنسوخ".
﴿وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ﴾ أَيْ: مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ ﴿إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ﴾ أَيْ: أَجَلٌ مَضْرُوبٌ لَا يُتَقَدَّمُ عَلَيْهِ، وَلَا يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ حَتَّى يُبَلَّغُوهُ، وَلَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُمْ.
﴿مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا﴾ "مِنْ" صِلَةٌ، ﴿وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ﴾ أَيِ: الْمَوْتُ لَا يَتَقَدَّمُ وَلَا يَتَأَخَّرُ، وَقِيلَ: الْعَذَابُ الْمَضْرُوبُ.
﴿وَقَالُوا﴾ يَعْنِي: مُشْرِكِي مَكَّةَ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ﴾ أَيِ: الْقُرْآنُ، وَأَرَادُوا بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾ وَذَكَرُوا تَنْزِيلَ الذِّكْرِ عَلَى سَبِيلِ (١) الِاسْتِهْزَاءِ.
﴿لَوْ مَا﴾ هَلَّا ﴿تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ﴾ شَاهِدِينَ لَكَ بِالصِّدْقِ عَلَى مَا تَقُولُ ﴿إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ أَنَّكَ نَبِيٌّ (٢).
﴿مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ﴾ قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ غَيْرُ أَبِي بَكْرٍ بِنُونَيْنِ "الْمَلَائِكَةَ" نَصْبٌ، وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ بِالتَّاءِ وَضَمَّهَا وَفَتْحِ الزَّايِ "الْمَلَائِكَةُ" رَفْعٌ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ وَفَتْحِهَا (٣) وَفَتْحِ الزَّايِ "الْمَلَائِكَةُ" رَفْعٌ. ﴿إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ أَيْ: بِالْعَذَابِ وَلَوْ نَزَلَتْ يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ لَعَجَّلُوا بِالْعَذَابِ، ﴿وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ﴾ أَيْ: مُؤَخَّرِينَ، وَقَدْ كَانَ الْكُفَّارُ يَطْلُبُونَ إِنْزَالَ الْمَلَائِكَةِ عِيَانًا فَأَجَابَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذَا. وَمَعْنَاهُ: إِنَّهُمْ لَوْ نَزَلُوا أَعْيَانًا لَزَالَ عَنِ الْكُفَّارِ الْإِمْهَالُ وَعُذِّبُوا فِي الْحَالِ.
﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ﴾ يَعْنِي الْقُرْآنَ ﴿وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ أَيْ: نَحْفَظُ الْقُرْآنَ مِنَ الشَّيَاطِينِ أَنْ
(٢) ساقط من "ب".
(٣) في "ب" وضمها.
وَقِيلَ الْهَاءُ فِي "لَهُ" رَاجِعَةٌ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ: إِنَّا لِمُحَمَّدٍ لَحَافِظُونَ مِمَّنْ أَرَادَهُ بِسُوءٍ كَمَا قَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ (الْمَائِدَةِ-٦٧).
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (١١) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ﴾ أَيْ: رُسُلًا ﴿فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ﴾ أَيْ: فِي [الْأُمَمِ وَالْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ] (١).
وَالشِّيعَةُ: هُمُ الْقَوْمُ الْمُجْتَمِعُونَ (٢) الْمُتَّفِقَةُ كَلِمَتُهُمْ.
﴿وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ كَمَا فَعَلُوا بِكَ، ذَكَرَهُ (٣) تَسْلِيَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
﴿كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ﴾ أَيْ: كَمَا سَلَكْنَا الْكُفْرَ وَالتَّكْذِيبَ وَالِاسْتِهْزَاءَ بِالرُّسُلِ (٤) فِي قُلُوبِ شِيَعِ الْأَوَّلِينَ، كَذَلِكَ [نَسْلُكُهُ: نُدْخِلُهُ] (٥) ﴿فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ﴾ يَعْنِي: مُشْرِكِي مَكَّةَ قَوْمَكَ. وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ (٦).
﴿لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ يَعْنِي: لَا يُؤْمِنُونَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالْقُرْآنِ ﴿وَقَدْ خَلَتْ﴾ مَضَتْ ﴿سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ﴾ أَيْ: وَقَائِعُ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِهْلَاكِ فِيمَنْ كَذَّبَ الرُّسُلَ مِنَ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ، يُخَوِّفُ أَهْلَ مَكَّةَ.
﴿وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ﴾ يَعْنِي: عَلَى الَّذِينَ يَقُولُونَ لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ ﴿بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ﴾ أَيْ: فَظَلَّتِ الْمَلَائِكَةُ يَعْرُجُونَ فِيهَا، وَهُمْ يَرَوْنَهَا عِيَانًا، هَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ.
(٢) في "أ" المجتمعة.
(٣) ساقط من "ب".
(٤) ساقط من "ب".
(٥) ساقط من "ب".
(٦) القدرية هم الذين ينكرون القدر، فيقولون: لا قدر والأمر أُنُف، ويزعمون أن كل عبد خالق لفعله، فالأمور يستأنف العلم بها، وتستأنف - بالتالي - إرادتها، وكأنهم بهذا ينفون الإرادة الأزلية والعلم الأزلي ليخرجوا فعل الإنسان عن نطاق قدرة الخلاق العليم. انظر: الوصية الكبرى لشيخ الإسلام ابن تيمية، بتحقيقنا، ص (٥٧) تعليق (٥).
﴿لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥) ﴾.
﴿لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ﴾ سُدَّتْ ﴿أَبْصَارُنَا﴾ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ (١).
وَقَالَ الْحَسَنُ: سُحِرَتْ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: أُخِذَتْ (٢).
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: عَمِيَتْ (٣).
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ " سُكِرَتْ " بِالتَّخْفِيفِ، أَيْ: حُبِسَتْ وَمُنِعَتِ النَّظَرَ كَمَا يُسْكَرُ النَّهْرُ لِحَبْسِ الْمَاءِ. ﴿بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ﴾ أَيْ: عُمِلَ فِينَا السِّحْرُ فَسَحَرَنَا مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ ﴿وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا﴾ وَالْبُرُوجُ: هِيَ النُّجُومُ الْكِبَارُ، مَأْخُوذَةٌ مِنَ الظُّهُورِ، يُقَالُ: تَبَرَّجَتِ الْمَرْأَةُ أَيْ: ظَهَرَتْ.
وَأَرَادَ بِهَا: الْمَنَازِلَ الَّتِي تَنْزِلُهَا الشَّمْسُ، وَالْقَمَرُ، وَالْكَوَاكِبُ السَّيَّارَةُ، وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ بُرْجًا: الْحَمَلُ، وَالثَّوْرُ، وَالْجَوْزَاءُ، وَالسَّرَطَانُ، وَالْأَسَدُ، وَالسُّنْبُلَةُ، وَالْمِيزَانُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْقَوْسُ، وَالْجَدْيُ، وَالدَّلْوُ، وَالْحُوتُ (٤).
وَقَالَ عَطِيَّةُ: هِيَ قُصُورٌ فِي السَّمَاءِ عَلَيْهَا الْحَرَسُ (٥).
(٢) وهما قولان متقاربان، وأخرجهما الطبري عن ابن عباس وقتادة أيضا.
(٣) أخرجه الطبري: ١٤ / ١٣. وقد رجح الطبري قول من قال إن معنى ذلك: "أخذت أبصارنا وسحرت، فلا تبصر الشيء على ما هو به، وذهب حد إبصارها، وانطفأ نوره، كما يقال للشيء الحار إذا ذهبت فورته وسكن حد حره: قد سَكَر يَسْكر.
(٤) وهو قول ابن عباس وأبي عبيدة وآخرين. انظر: زاد المسير: ٤ / ٣٨٧، الدر المنثور: ٤ / ٦٩.
(٥) كان في المطبوع "ابن عطية" وكذلك في البحر المحيط، وليس هذا الكلام لابن عطية، وإنما هو "عطية" كما في زاد المسير، وهو مروي أيضا عن ابن عباس. وقال ابن قتيبة: يقال هي اثنا عشر برجا، وأصل البرج: القصر والحسن. انظر: زاد المسير: ٤ / ٣٨٧، مشكل القرآن لابن قتيبة: (١ / ٢٣٨) من القرطين لابن مطرف، الدر المنثور: ٤ / ٦٩.
﴿وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (١٨) ﴾.
﴿وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ﴾ مَرْجُومٍ. وَقِيلَ: مَلْعُونٍ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَتِ الشَّيَاطِينُ لَا يحجبون عن السموات وَكَانُوا يَدْخَلُونَهَا، وَيَأْتُونَ بِأَخْبَارِهَا فَيُلْقُونَ عَلَى الْكَهَنَةِ، فَلَمَّا وُلِدَ عِيسَى عليه السلام ١٩٦/أمُنِعُوا مِنْ ثَلَاثِ سَمَوَاتٍ، فَلَمَّا وُلِدَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منعوا من السموات أَجْمَعَ، فَمَا مِنْهُمْ مَنْ أَحَدٍ يُرِيدُ اسْتِرَاقَ السَّمْعِ إِلَّا رُمِيَ بِشِهَابٍ، فَلَمَّا مُنِعُوا مِنْ تِلْكَ الْمَقَاعِدِ ذَكَرُوا ذَلِكَ لِإِبْلِيسَ، فَقَالَ (١) لَقَدْ حَدَثَ فِي الْأَرْضِ حَدَثٌ، قَالَ: فَبَعَثَهُمْ فَوَجَدُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتْلُو الْقُرْآنَ، فَقَالُوا: هَذَا وَاللَّهِ مَا حَدَثَ (٢).
﴿إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ﴾ لَكِنَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ ﴿فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ﴾ وَالشِّهَابُ: الشُّعْلَةُ مِنَ النَّارِ.
وَذَلِكَ أَنَّ الشَّيَاطِينَ يَرْكَبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَيَسْتَرِقُونَ السَّمْعَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَيُرْمَوْنَ بِالْكَوَاكِبِ فَلَا تُخْطِئُ أَبَدًا، فَمِنْهُمْ مَنْ تَقْتُلُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ تُحْرِقُ وَجْهَهُ أَوْ جَنْبَهُ أَوْ يَدَهُ أَوْ حَيْثُ يَشَاءُ اللَّهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَخْبِلُهُ فَيَصِيرُ غُولًا يُضِلُّ النَّاسَ فِي الْبَوَادِي (٣).
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا قَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا
(٢) نقله عنه أبو حيان في البحر المحيط: ٥ / ٤٤٩ وابن الجوزي في زاد المسير ٤ / ٣٨٩، كلاهما دون قوله: فما منهم من أحد... إلخ وانظر: تفسير القرطبي: ١٠ / ١٢، الدر المنثور: ٨ / ٣٠٣.
(٣) اختلف في الشهاب، هل يقتل أم لا؟ فقال ابن عباس: الشهاب يجرح ويحرق ويخبل ولا يقتل. وقال الحسن وطائفة: يقتل. فعلى هذا القول في قتلهم بالشهب قبل إلقاء السمع إلى الجن قولان: أحدهما - أنهم يقتلون قبل إلقائهم ما استرقوه من السمع إلى غيرهم؛ فعلى هذا لا تصل أخبار السماء إلى غير الأنبياء، ولذلك انقطعت الكهانة. والثاني: أنهم يقتلون بعد إلقائهم ما استرقوه إلى غيرهم من الجن، ولذلك ما يعودون إلى استراقه، ولو لم يصل لانقطع الاستراق وانقطع الإحراق. ذكره الماوردي. قال القرطبي: والقول الأول أصح. انظر: تفسير القرطبي: (١٠ / ١١).
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، حَدَّثَنَا ابْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَنْزِلُ فِي الْعَنَانِ، وَهُوَ السَّحَابُ، فَتَذْكُرُ الْأَمْرَ الَّذِي قُضِيَ فِي السَّمَاءِ فَتَسْتَرِقُ الشَّيَاطِينُ السَّمْعَ فَتَسْمَعُهُ فَتُوحِيهِ إِلَى الْكُهَّانِ، فَيَكْذِبُونَ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ" (٣).
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ ظَاهِرًا قَبْلَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَذْكُرْهُ شَاعِرٌ مِنَ الْعَرَبِ قَبْلَ زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا ظَهَرَ فِي بَدْءِ أَمْرِهِ وَكَانَ ذَلِكَ أَسَاسًا لِنُبُوَّتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ (٤).
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ بْنِ شُرَيْقٍ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ فَزِعَ لِلرَّمْيِ بِالنُّجُومِ هَذَا الْحَيُّ مِنْ ثقيف وإنهم جاؤوا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ أَحَدُ بَنِي عِلَاجٍ، وَكَانَ أَهْدَى (٥) الْعَرَبِ، فَقَالُوا لَهُ: أَلَمْ تَرَ مَا حَدَثَ فِي السَّمَاءِ مِنَ الْقَذْفِ بِالنُّجُومِ؟ قَالَ: بَلَى، فَانْظُرُوا فَإِنْ كَانَتْ مَعَالِمُ النُّجُومِ الَّتِي يُهْتَدَى بِهَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَتُعْرَفُ بِهَا الْأَنْوَاءُ مِنَ الصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ لِمَا يُصْلِحُ النَّاسَ مِنْ مَعَايِشِهِمْ هِيَ الَّتِي يُرْمَى بِهَا فَهِيَ -وَاللَّهِ -طَيُّ الدُّنْيَا وَهَلَاكُ الْخَلْقِ الَّذِي فِيهَا، وَإِنْ كَانَتْ
(٢) أخرجه البخاري في التفسير، باب: "حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق، وهو العلي الكبير" ٨ / ٥٣٧، وفي باب "إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين" ٨ / ٣٨٠.
(٣) أخرجه البخاري في بدء الخلق، باب ذكر الملائكة: ٦ / ٣٠٤، وفي مواضع أخرى.
(٤) قال ابن عطية في "المحرر الوجيز" (٨ / ٢٩٢) "وفي الأحاديث ما يدل على أن الرجم كان في الجاهلية، ولكنه اشتد في وقت الإسلام، وحفظ السماء حفظا تاما". وقال الزجاج: لم يكن إلا بعد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بدليل أن الشعراء لم يشبهوا به في السرعة إلا بعد الإسلام. وذكر الزهري عن أبي رجاء العطاردي: كنا لا نرى الرجم بالنجوم قبل الإسلام". وانظر تفصيلا أوسع في القرطبي: ١٠ / ١٢، ١٩ / ١٢-١٣، ١٥ / ٦٦-٦٧.
(٥) في "ب" أدهى.
قَالَ مَعْمَرٌ قُلْتُ لِلزُّهْرِيِّ: أَكَانَ يُرْمَى بِالنُّجُومِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: أَفَرَأَيْتَ قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ﴾ [جن-٦] الْآيَةَ؟ قَالَ: غُلِّظَتْ وَشُدِّدَ أَمْرُهَا حِينَ بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (٢).
وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: إِنَّ الرَّجْمَ كَانَ قَبْلَ مَبْعَثِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ [مِثْلُهُ] (٣) فِي شِدَّةِ الْحِرَاسَةِ بَعْدَ مَبْعَثِهِ (٤).
وَقِيلَ: إِنَّ النَّجْمَ يَنْقَضُّ فَيَرْمِي الشَّيَاطِينَ ثُمَّ يَعُودُ إِلَى مَكَانِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
﴿وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (٢٠) ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا﴾ بَسَطْنَاهَا عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، يُقَالُ: إِنَّهَا مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ فِي مِثْلِهَا دُحِيَتْ مِنْ تَحْتِ الْكَعْبَةِ (٥) ﴿وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ﴾ جِبَالًا ثَوَابِتَ، وَقَدْ كَانَتِ الْأَرْضُ تَمِيدُ إِلَى أَنْ أَرْسَاهَا اللَّهُ بِالْجِبَالِ ﴿وَأَنْبَتْنَا فِيهَا﴾ أَيْ: فِي الْأَرْضِ ﴿مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ﴾ مُقَدَّرٍ مَعْلُومٍ.
وَقِيلَ: يَعْنِي فِي الْجِبَالِ، وَهِيَ جَوَاهِرُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ وَغَيْرِهَا، حَتَّى الزَّرْنِيخِ وَالْكُحْلِ كُلُّ ذَلِكَ يُوزَنُ وَزْنًا.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هِيَ الْأَشْيَاءُ الَّتِي تُوزَنُ وَزْنًا (٦).
﴿وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ﴾ جَمْعُ مَعِيشَةٍ، قِيلَ: أَرَادَ بِهَا الْمَطَاعِمَ وَالْمَشَارِبَ وَالْمَلَابِسَ [وَهِيَ مَا] (٧) يَعِيشُ بِهِ الْآدَمِيُّ (٨) فِي الدُّنْيَا ﴿وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ﴾ أَيْ: جَعَلْنَا فِيهَا مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ مِنَ الدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ، أَيْ: جَعَلْنَاهَا لَكُمْ وَكَفَيْنَاكُمْ رِزْقَهَا، وَ"مَنْ" فِي الْآيَةِ بِمَعْنَى "مَا" كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ﴾ (النُّورِ-٤٥).
(٢) رواه عبد الرزاق عن معمر. انظر: "تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة ص (٤٢٩) تحقيق السيد صقر.
(٣) استدركناها من "تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة واضطربت العبارة في المطبوع اضطرابا كثيرا، وفيها زيادات، ليست في "تأويل المشكل" ولا في النسخ الخطية.
(٤) انظر: "تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة ص (٤٣٠).
(٥) انظر: البحر المحيط: ٥ / ٤٥٠. وذكر المصنف ذلك بصيغة التمريض، ولا دليل ثابت عن المعصوم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك.
(٦) والمعنى الأول أعم وأحسن. انظر: المحرر الوجيز: ٨ / ٢٩٣.
(٧) في "أ" وقيل.
(٨) في "ب" المرء.
وَقِيلَ: "مَنْ" فِي مَحَلِّ الْخَفْضِ عَطْفًا عَلَى الْكَافِ وَالْمِيمِ فِي "لَكُمْ".
﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (٢٢) ﴾.
﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ﴾ [أَيْ: وَمَا مِنْ شَيْءٍ] (١) ﴿إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ﴾ أَيْ مَفَاتِيحُ خَزَائِنِهِ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ الْمَطَرَ.
﴿وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ لِكُلِّ أَرْضٍ حَدٌّ مُقَدَّرٌ، وَيُقَالُ: لَا تَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ قَطْرَةٌ إِلَّا وَمَعَهَا مَلَكٌ يَسُوقُهَا حَيْثُ يُرِيدُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَيَشَاءُ.
وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: فِي الْعَرْشِ مِثَالُ جَمِيعِ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَهُوَ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ" (٢).
﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ﴾ أَيْ: حَوَامِلَ، لِأَنَّهَا تَحْمِلُ الْمَاءَ إِلَى السَّحَابِ، وَهُوَ جَمْعُ لَاقِحَةٍ، يُقَالُ: نَاقَةٌ لَاقِحَةٌ إِذَا حَمَلَتِ الْوَلَدَ.
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: يُرْسِلُ اللَّهُ الرِّيحَ فَتَحْمِلُ الْمَاءَ فَيَمُرُّ بِهِ السَّحَابُ، فَيَدِرُّ كَمَا تَدِرُّ اللِّقْحَةُ ثُمَّ تُمْطِرُ (٣).
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَرَادَ بِاللَّوَاقِحِ الْمَلَاقِحَ وَاحِدَتُهَا مُلَقِّحَةٌ، لِأَنَّهَا تُلَقِّحُ الْأَشْجَارَ.
قَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: يَبْعَثُ اللَّهُ الرِّيحَ الْمُبَشِّرَةَ فَتَقُمُّ الْأَرْضَ قَمًّا، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ الْمُثِيرَةَ فَتُثِيرُ السَّحَابَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ الْمُؤَلِّفَةَ السَّحَابَ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ فَتَجْعَلُهُ رُكَامًا، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّوَاقِحَ فَتُلَقِّحُ الشَّجَرَ (٤).
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ: لَا تُقْطَرُ قَطْرَةٌ مِنَ السَّحَابِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ تَعْمَلَ الرِّيَاحُ الْأَرْبَعُ فِيهِ، فَالصَّبَا تَهَيُّجُهُ، وَالشَّمَالُ تَجْمَعُهُ، وَالْجَنُوبُ تَذْرُهُ، وَالدَّبُورُ تُفَرِّقُهُ.
وَفِي الْخَبَرِ أَنَّ: اللِّقْحَ رِيَاحُ الْجَنُوبِ.
(٢) نقله القرطبي في التفسير: ١٠ / ١٥.
(٣) أخرجه ابن جرير: ١٤ / ٢٠، والبيهقي في السنن: ٣ / ٣٦٤، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والخرائطي في "مكارم الأخلاق" انظر: الدر المنثور: ٥ / ٧٢. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (٧ / ٤٥) "رواه الطبراني، وفيه يحيى الحماني وهو ضعيف".
(٤) أخرجه ابن جرير الطبري: ١٤ / ٢١، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ في العظمة. انظر: الدر المنثور: ٥ / ٧٣.
وَأَمَّا الرِّيحُ الْعَقِيمُ: فَإِنَّهَا تَأْتِي بِالْعَذَابِ وَلَا تُلَقِّحُ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَطِيبُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ الْخَلَّالُ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ، أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا مَنْ لَا أُتَّهَمُ بِحَدِيثِهِ، حَدَّثَنَا الْعَلَاءُ بْنُ رَاشِدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا هَبَّتْ رِيحٌ قَطُّ إِلَّا جَثَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رَحْمَةً وَلَا تَجْعَلْهَا عَذَابًا، اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رِيَاحًا وَلَا تَجْعَلْهَا رِيحًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا﴾ (الْقَمَرِ-١٩) ﴿إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ﴾ (الذَّارِيَاتِ-٤١) وَقَالَ: ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ﴾ (الْحِجْرِ-٢٢) وَقَالَ: ﴿أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ﴾ (٢) (الرُّومِ-٤١).
قَوْلُهُ: ﴿فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ﴾ أَيْ: جَعَلَنَا الْمَطَرَ لَكُمْ سَقْيًا، يُقَالُ: أَسْقَى فُلَانٌ فُلَانًا: إِذَا جَعَلَ لَهُ سَقْيًا، وَسَقَاهُ: إِذَا أَعْطَاهُ مَا يَشْرَبُ. وَتَقُولُ الْعَرَبُ: سَقَيْتُ الرَّجُلَ مَاءً وَلَبَنًا إِذَا كان لسقيه (٣) ١٩٦/ب فَإِذَا جَعَلُوا لَهُ مَاءً لِشُرْبِ أَرْضِهِ وَدَوَابِّهِ تَقُولُ: أَسْقَيْتُهُ.
﴿وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ﴾ يَعْنِي الْمَطَرَ فِي خَزَائِنِنَا لَا فِي خَزَائِنِكُمْ. وَقَالَ سُفْيَانُ: بِمَانِعِينَ.
﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (٢٣) ﴾.
﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ﴾ بِأَنْ نُمِيتَ جَمِيعَ الْخَلَائِقِ، فَلَا يَبْقَى حَيٌّ سِوَانَا.
وَالْوَارِثُ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قِيلَ: الْبَاقِي بَعْدَ فَنَاءِ الْخَلْقِ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِنَّ مَصِيرَ الْخَلْقِ إِلَيْهِ (٤).
(٢) أخرجه الشافعي في المسند: ١ / ٧٥، وفيه العلاء بن راشد وهو مجهول، ورواه الطبراني، ومسدد، وأبو يعلى، والبيهقي في "الدعوات الكبير". قال الهيثمي: وفيه حسين بن قيس الملقب بحنش، وهو متروك. وقال البوصيري: رواه مسدد وأبو يعلى بسند ضعيف لضعف حسين بن قيس. انظر: مجمع الزوائد: ١٠ / ١٣٦، المطالب العالية: ٣ / ٢٣٨، مشكاة المصابيح: ١ / ٤٨١.
(٣) في "ب" لشفته.
(٤) قال البيهقي في "الأسماء والصفات" (١ / ٤١) "الوارث: ومعناه الباقي بعد ذهاب غيره. وربنا جل ثناؤه بهذه الصفة؛ لأنه يبقى بعد ذهاب الملاك الذين أمتعهم في هذه الدنيا بما آتاهم، لأن وجودهم ووجود الأملاك كان به، ووجوده ليس بغيره. وهذا الاسم مما يؤثر عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خير الأسامي". وانظر: "المنهاج في شعب الإيمان" للحليمي: ١ / ١٨٩.
﴿وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرَادَ بِالْمُسْتَقْدِمِينَ الْأَمْوَاتَ وَبِالْمُسْتَأْخِرِينَ الْأَحْيَاءَ.
قَالَ الشَّعْبِيُّ: الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الْمُسْتَقْدِمُونَ (١) مَنْ خَلَقَ اللَّهُ، وَالْمُسْتَأْخِرُونَ (٢) مَنْ لَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: الْمُسْتَقْدِمُونَ الْقُرُونُ الْأُولَى وَالْمُسْتَأْخِرُونَ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمُسْتَقْدِمُونَ فِي الطَّاعَةِ وَالْخَيْرِ، وَالْمُسْتَأْخِرُونَ الْمُبْطِئُونَ عَنْهَا (٣).
وَقِيلَ: الْمُسْتَقْدِمُونَ فِي الصُّفُوفِ فِي الصَّلَاةِ وَالْمُسْتَأْخِرُونَ فِيهَا. وَذَلِكَ أَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يَخْرُجْنَ إِلَى صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ فَيَقِفْنَ خَلْفَ الرِّجَالِ، فَرُبَّمَا كَانَ مِنَ الرِّجَالِ مَنْ فِي قَلْبِهِ رِيبَةٌ فَيَتَأَخَّرُ إِلَى آخِرِ صُفُوفِ الرِّجَالِ، وَمِنَ النِّسَاءِ مَنْ كَانَتْ فِي قَلْبِهَا رِيبَةٌ فَتَتَقَدَّمُ إِلَى أَوَّلِ صُفُوفِ النِّسَاءِ لِتَقْرَبَ مِنَ الرِّجَالِ. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (٤).
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا وَشَرُّهَا آخِرُهَا، وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا" (٥).
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: أَرَادَ الْمُصَلِّينَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَالْمُؤَخِّرِينَ إِلَى آخِرِهِ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: أَرَادَ بِالْمُسْتَقْدِمِينَ وَالْمُسْتَأْخِرِينَ فِي صَفِّ الْقِتَالِ.
وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: أَرَادَ مَنْ يُسَلِّمُ وَمَنْ لَا يُسَلِّمُ (٦).
(٢) في "ب" المستقدمين، المستأخرين. في سائر المواضع في تفسير الآية.
(٣) انظر في هذه الأقوال ونسبتها لأصحابها: تفسير الطبري: ١٤/ ٢٣-٢٦، البحر المحيط: ٥ / ٤٥١، زاد المسير: ٤ / ٣٩٦-٣٩٧، الدر المنثور: ٥ / ٧٣-٧٦.
(٤) أورد السيوطي جملة آثار في ذلك منها ما أخرجه الطيالسي، وسعيد بن منصور، وأحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، وابن مردويه، والبيهقي في السنن من طريق أبي الجوزاء عن ابن عباس، قال: كانت امرأة تصلي خلف رسول الله.. فكان بعض القوم يتقدم حتى يكون في الصف الأول لئلا يراها، ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر، فإذا ركع نظر من تحت إبطيه، فأنزل الله "ولقد علمنا المستقدمين منكم والمستأخرين". قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله عن هذا الأثر: "حديث غريب جدا... " وقال أيضا: "وهذا الحديث فيه نكارة شديدة... والظاهر أنه من كلام أبي الجوزاء فقط، ليس فيه لابن عباس ذكر، وقد قال الترمذي: هذا أشبه أن يكون أًصح" وقال ابن عطية: ما تقدم وما تأخر من الآية يضعف هذه التأويلات لأنها تذهب إيصال المعنى. انظر: تفسير ابن كثير: ٢ / ٥٥٠-٥٥١، الدر المنثور: ٥ / ٧٣، المحرر الوجيز: ٨ / ٣٠٣، الكافي الشاف لابن حجر ص٩٣.
(٥) أخرجه مسلم في الصلاة، باب تسوية الصفوف وإقامتها، برقم (٤٤٠٠) ١ / ٣٢٦، والمصنف في شرح السنة: ٣ / ٣٧١.
(٦) قال الطبري: (١٤ / ٢٦) "وأولى الأقوال عندي في ذلك بالصحة، قول من قال: معنى ذلك: ولقد علمنا الأموات منكم يا بني آدم فتقدم موته، ولقد علمنا المستأخرين الذين استأخر موتهم، ممن هو حي، ومن هو حادث منكم ممن لم يحدث بعد، لدلالة ما قبله من الكلام وما بعده على أن ذلك كذلك. وجائز أن تكون الآية نزلت في شأن المستقدمين في الصف لشأن النساء والمستأخرين فيه لذلك، ثم يكون الله عز وجل عم بالمعنى المراد منه جميع الخلق، فقال جل ثناؤه لهم: قد علمنا ما مضى من الخلق وأحصيناهم، وما كانوا يعملون، ومن هو حي منكم، ومن هو حادث بعدكم أيها الناس، وأعمال جميعكم خيرها وشرها، وأحصينا جميع ذلك، ونحن نحشر جميعهم، فنجازي كلا بأعماله، إن خيرا فخيرا، وإن شرا فشرا، فيكون ذلك تهديدا ووعيدا للمستأخرين في الصفوف لشأن النساء، ولكل من تعدى حد الله، وعمل بغير ما أذن له به، ووعدا لمن تقدم في الصفوف لسبب النساء، وسارع إلى محبة الله ورضوانه في أفعاله كلها".
﴿وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾ عَلَى مَا عَلِمَ مِنْهُمْ.
وَقِيلَ: يُمِيتُ الْكُلَّ، ثُمَّ يَحْشُرُهُمُ، الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ.
أَخْبَرَنَا أَبُو صَالِحٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْمُؤَذِّنُ، أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الصَّيْرَفِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ مَاتَ عَلَى شَيْءٍ بَعَثَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ" (١).
قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ﴾ يَعْنِي: آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، سُمِّيَ إِنْسَانًا لِظُهُورِهِ وَإِدْرَاكِ الْبَصَرِ إِيَّاهُ. وَقِيلَ: مِنَ النِّسْيَانِ لِأَنَّهُ عَهِدَ إِلَيْهِ فَنَسِيَ. ﴿مِنْ صَلْصَالٍ﴾ وَهُوَ الطِّينُ الْيَابِسُ الَّذِي إِذَا نَقَرْتَهُ سَمِعْتَ لَهُ صَلْصَلَةً، أَيْ: صَوْتًا.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الطِّينُ الْحُرُّ، الَّذِي نَضَبَ عَنْهُ الْمَاءُ تَشَقَّقَ، فَإِذَا حُرِّكَ تَقَعْقَعَ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الطِّينُ الْمُنْتِنُ. وَاخْتَارَهُ الْكِسَائِيُّ، وَقَالَ: هُوَ مِنْ صَلَّ اللَّحْمُ وَأَصَلَّ، إِذَا أَنْتَنَ (٢) ﴿مِنْ حَمَإٍ﴾ وَالْحَمَأُ: الطِّينُ الْأَسْوَدُ ﴿مَسْنُونٍ﴾ أَيْ: مُتَغَيِّرٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: هُوَ الْمُنْتِنُ الْمُتَغَيِّرُ.
(٢) انظر: المحرر الوجيز: ٨ / ٣٠٣-٣٠٥، البحر المحيط: ٥ / ٤٥٣.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ التُّرَابُ الْمُبْتَلُّ الْمُنْتِنُ، جُعِلَ صَلْصَالًا كَالْفَخَّارِ (١).
وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَمَّرَ طِينَةَ آدَمَ وَتَرَكَهُ حَتَّى صَارَ مُتَغَيِّرًا أَسْوَدَ، ثُمَّ خَلَقَ مِنْهُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ (٢).
﴿وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (٢٧) ﴾.
﴿وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ أَبُو الْجِنِّ كَمَا أَنَّ آدَمَ أَبُو الْبَشَرِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ إِبْلِيسُ خُلِقَ قَبْلَ آدَمَ.
وَيُقَالُ: الْجَانُّ: أَبُو الْجِنِّ، وَإِبْلِيسُ أَبُو الشَّيَاطِينِ.
وَفِي الْجِنِّ مُسْلِمُونَ وَكَافِرُونَ، وَيَحْيَوْنَ وَيَمُوتُونَ، وَأَمَّا الشَّيَاطِينُ؛ فَلَيْسَ مِنْهُمْ مُسْلِمُونَ، وَيَمُوتُونَ إِذَا مَاتَ إِبْلِيسُ.
وَذَكَرَ وَهْبٌ: إِنَّ مِنَ الْجِنِّ مَنْ يُولَدُ لَهُمْ وَيَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ [بِمَنْزِلَةِ الْآدَمِيِّينَ] (٣) وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ هُمْ بِمَنْزِلَةِ الرِّيحِ لَا يَأْكُلُونَ وَلَا يَشْرَبُونَ وَلَا يَتَوَالَدُونَ.
﴿مِنْ نَارِ السَّمُومِ﴾ وَالسَّمُومُ رِيحٌ حَارَّةٌ تَدْخُلُ مَسَامَّ الْإِنْسَانِ فَتَقْتُلُهُ. وَيُقَالُ: السَّمُومُ بِالنَّهَارِ وَالْحَرُورُ بِاللَّيْلِ.
وَعَنِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ: السَّمُومُ نَارٌ لَا دُخَانَ لَهَا، وَالصَّوَاعِقُ تَكُونُ مِنْهَا وَهِيَ نَارٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَبَيْنَ الْحِجَابِ، فَإِذَا أَحْدَثَ اللَّهُ أَمْرًا خَرَقَتِ الْحِجَابَ فَهَوَتْ إِلَى مَا أُمِرَتْ، فَالْهَدَّةُ الَّتِي تَسْمَعُونَ فِي خَرْقِ ذَلِكَ الْحِجَابِ.
وَقِيلَ: نَارُ السَّمُومِ لَهَبُ النَّارِ.
وَقِيلَ: مِنْ نَارِ السَّمُومِ أَيْ: مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ.
وَعَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ إِبْلِيسُ مِنْ حَيٍّ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُقَالُ لَهُمُ الْجِنُّ خُلِقُوا مِنْ نَارِ السَّمُومِ (٤) وَخُلِقَتِ الْجِنُّ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي الْقُرْآنِ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، فَأَمَّا الْمَلَائِكَةُ فَإِنَّهُمْ خُلِقُوا
(٢) أخرج نحوا من هذا مطولا: ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفا عليه، وما انفرد به ابن عساكر فهو ضعيف غالبا. انظر: الدر المنثور: ٥ / ٧٧.
(٣) ساقط من "أ".
(٤) انظر: فيما سبق، تفسير سورة البقرة: ١ / ٨٠-٨١.
﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا﴾ أَيْ: سَأَخْلُقُ بَشَرًا ﴿مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ﴾.
﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ﴾ عَدَّلْتُ صُورَتَهُ، وَأَتْمَمْتُ خَلْقَهُ، ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾ فَصَارَ بَشَرًا حَيًّا، وَالرُّوحُ جِسْمٌ لَطِيفٌ يَحْيَا بِهِ الْإِنْسَانُ، وَأَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ تَشْرِيفًا ﴿فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ سُجُودَ تَحِيَّةٍ لَا سُجُودَ عِبَادَةٍ.
﴿فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ﴾ الَّذِينَ أُمِرُوا بِالسُّجُودِ ﴿كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ﴾.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قَالَ ﴿كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ﴾ وَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِقَوْلِهِ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ؟
قُلْنَا: زَعَمَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ أَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ تَأْكِيدًا.
وَذَكَرَ الْمُبَرِّدُ: أَنَّ قَوْلَهُ ﴿فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ﴾ كَانَ مِنَ الْمُحْتَمَلِ أَنَّهُ سَجَدَ بَعْضُهُمْ فَذَكَرَ "كُلُّهُمْ" لِيَزُولَ هَذَا الْإِشْكَالُ، ثُمَّ كَانَ [يَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ سَجَدُوا] (٢) فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ فَزَالَ ذَلِكَ الْإِشْكَالُ بِقَوْلِهِ "أَجْمَعُونَ" (٣)
وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ لِجَمَاعَةٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ: اسْجُدُوا لِآدَمَ فَلَمْ يَفْعَلُوا فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَارًا فَأَحْرَقَتْهُمْ، ثُمَّ قَالَ لِجَمَاعَةٍ أُخْرَى: اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا (٤).
(٢) في "ب" من المحتمل أن يسجدوا.
(٣) جاء هذا الجواب أوضح في "مسائل الرازي وأجوبتها من غرائب آي التنزيل" ص (١٦٧-١٦٨) قال: "قال سيبويه والخليل: هو توكيد بعد توكيد، فيفيد زيادة تمكين المعنى وتقريره في الذهن، فلا يكون تحصيل الحاصل، بل تكون نسبة "أجمعون" كنسبة "كلهم" إلى أصل الجملة. وقال المبرد: قوله تعالى: "أجمعون" يدل على اجتماعهم في زمان السجود، و"كلهم" يدل على وجود السجود من الكل، فكأنه قال: فسجد الملائكة كلهم معا في زمان واحد. واختار ابن الأنباري هذا القول. واختار الزجاج وأكثر الأئمة قول سيبويه، وقالوا: لو كان الأمر كما زعم المبرد لكان "أجمعون" حالا، لوجود حد الحال فيه، وليس بحال؛ لأنه مرفوع، ولأنه معرفة كسائر ألفاظ التوكيد".
(٤) أخرجه الطبري في التفسير: ١٤ / ٣١. وقال ابن كثير: (٢ / ٥٥١) وفي ثبوت هذا عنه نظر، والظاهر أنه إسرائيلي ووصفه بأنه أثر غريب عجيب.
﴿قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ﴾ أَرَادَ: أَنَا [أَفْضَلُ] (١) مِنْهُ لِأَنَّهُ طِينِيٌّ، وَأَنَا نَارِيٌّ، وَالنَّارُ تَأْكُلُ الطِّينَ.
﴿قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا﴾ أَيْ: مِنَ الْجَنَّةِ ﴿فَإِنَّكَ رَجِيمٌ﴾ طَرِيدٌ.
﴿وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ﴾ قِيلَ: إن أهل السموات يَلْعَنُونَ إِبْلِيسَ كَمَا يَلْعَنُهُ أَهْلُ الْأَرْضِ، فَهُوَ مَلْعُونٌ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.
﴿قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ أَرَادَ الْخَبِيثُ أَنْ لَا يَمُوتَ.
﴿قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ﴾ أَيِ: الْوَقْتِ الَّذِي يَمُوتُ فِيهِ الْخَلَائِقُ، وَهُوَ النَّفْخَةُ الْأُولَى.
وَيُقَالُ: إِنَّ مُدَّةَ مَوْتِ إِبْلِيسَ أَرْبَعُونَ سَنَةً وَهِيَ مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ.
وَيُقَالُ: لَمْ تَكُنْ إِجَابَةُ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ فِي الْإِمْهَالِ إِكْرَامًا لَهُ، بَلْ كَانَتْ زِيَادَةً فِي بَلَائِهِ وَشَقَائِهِ.
﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي﴾ أَضْلَلْتَنِي. وَقِيلَ: خَيَّبْتَنِي مِنْ رَحْمَتِكَ ﴿لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ حُبَّ الدُّنْيَا وَمَعَاصِيَكَ ﴿وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ﴾ أَيْ: لَأُضِلَّنَّهُمْ، ﴿أَجْمَعِينَ﴾
﴿إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ أَخْلَصُوا لَكَ الطَّاعَةَ وَالتَّوْحِيدَ، وَمَنْ فَتَحَ اللَّامَ، أَيْ: مَنْ أَخْلَصْتَهُ بِتَوْحِيدِكَ وَاصْطَفَيْتَهُ.
﴿قَالَ﴾ اللَّهُ تَعَالَى ﴿هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ﴾ قَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَاهُ صِرَاطٌ إِلَيَّ مُسْتَقِيمٌ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْحَقُّ يَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَيْهِ طَرِيقُهُ، وَلَا يَعْوَجُّ عَلَيْهِ شَيْءٌ.
وَقَالَ الْأَخْفَشُ: يَعْنِي: عَلَيَّ الدَّلَالَةُ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.
قَالَ الْكِسَائِيُّ: هَذَا عَلَى التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِمَنْ يُخَاصِمُهُ: طَرِيقُكَ عَلَيَّ، أَيْ: لَا تُفْلِتُ مِنِّي، كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ (الْفَجْرِ-١٤).
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ عَلَى اسْتِقَامَتِهِ بِالْبَيَانِ وَالْبُرْهَانِ وَالتَّوْفِيقِ وَالْهِدَايَةِ.
وَقَرَأَ ابْنُ سِيرِينَ، وَقَتَادَةُ، وَيَعْقُوبُ: عَلِيٌّ، مِنَ الْعُلُوِّ أَيْ: رَفِيعٌ، وَعَبَّرَ بَعْضُهُمْ عَنْهُ: رَفِيعٌ أَنْ يُنَالَ، مُسْتَقِيمٌ أَنْ يُمَالَ.
﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾ ١٩٧/أأَيْ: قُوَّةٌ.
قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: يَعْنِي عَلَى قُلُوبِهِمْ.
وَسُئِلَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: مَعْنَاهُ لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ تُلْقِيهِمْ فِي ذَنْبٍ يَضِيقُ عَنْهُ عَفْوِي، وَهَؤُلَاءِ ثَنِيَّةُ اللَّهِ الَّذِينَ هَدَاهُمُ وَاجْتَبَاهُمْ. ﴿إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾
﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ يَعْنِي مَوْعِدَ إِبْلِيسَ وَمَنْ تَبِعَهُ.
﴿لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ﴾ أَطْبَاقٍ.
قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: تَدْرُونَ كَيْفَ أَبْوَابُ النَّارِ؟ هَكَذَا، وَوَضَعَ [شُعْبَةُ] إِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى (١) أَيْ: سَبْعَةُ أَبْوَابٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ وَإِنَّ اللَّهَ وَضَعَ الْجِنَانَ عَلَى الْعَرْضِ وَوَضَعَ الْنِيرَانَ بَعْضَهَا فَوْقَ بَعْضٍ.
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: النَّارُ سَبْعُ دَرَكَاتٍ: أَوَّلُهَا جَهَنَّمُ، ثُمَّ لَظَى، ثُمَّ الْحُطَمَةُ، ثُمَّ السَّعِيرُ، ثُمَّ سَقَرُ، ثُمَّ الْجَحِيمُ، ثُمَّ الْهَاوِيَةُ.
﴿لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ﴾ أَيْ: لِكُلِّ دَرَكَةٍ قَوْمٌ يَسْكُنُونَهَا.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: فِي الدَّرَكَةِ الْأُولَى أهل التوحيد الذين أُدْخِلُوا النَّارَ، يُعَذَّبُونَ بِقَدْرِ ذُنُوبِهِمْ ثُمَّ
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لِجَهَنَّمَ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ بَابٌ مِنْهَا لِمَنْ سَلَّ السَّيْفَ عَلَى أُمَّتِي أَوْ قَالَ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ" (١).
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (٤٦) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (٤٧) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (٤٨) نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) ﴾
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ﴾ أَيْ: فِي بَسَاتِينَ وَأَنْهَارٍ.
﴿ادْخُلُوهَا﴾ أَيْ: يُقَالُ لَهُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ ﴿بِسَلَامٍ﴾ أَيْ: بِسَلَامَةٍ ﴿آمِنِينَ﴾ مِنَ الْمَوْتِ وَالْخُرُوجِ وَالْآفَاتِ.
﴿وَنَزَعْنَا﴾ أَخْرَجْنَا ﴿مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ﴾ هُوَ الشَّحْنَاءُ وَالْعَدَاوَةُ وَالْحِقْدُ وَالْحَسَدُ، ﴿إِخْوَانًا﴾ نُصِبَ عَلَى الْحَالِ ﴿عَلَى سُرُرٍ﴾ جَمْعُ سَرِيرٍ ﴿مُتَقَابِلِينَ﴾ يُقَابِلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، لَا يَنْظُرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَى قَفَا صَاحِبِه.
وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ فِي الْجَنَّةِ إِذَا وَدَّ أَنْ يَلْقَى أَخَاهُ الْمُؤْمِنَ سَارَ سَرِيرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ فَيَلْتَقِيَانِ وَيَتَحَدَّثَانِ.
﴿لَا يَمَسُّهُمْ﴾ لَا يُصِيبُهُمْ ﴿فِيهَا نَصَبٌ﴾ أَيْ: تَعَبٌ ﴿وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ﴾ هَذِهِ أَنَصُّ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ عَلَى الْخُلُودِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي لِمَنْ تَابَ مِنْهُمْ.
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يَوْمًا عَلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَهُمْ يَضْحَكُونَ، فَقَالَ: "أَتَضْحَكُونَ وَبَيْنَ أَيْدِيكُمُ النَّارُ" فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَقَالَ: "يَقُولُ لَكَ رَبُّكَ يَا مُحَمَّدُ لِمَ تُقَنِّطْ عِبَادِي مِنْ رَحْمَتِي" (٢) ؟
(٢) أخرجه الطبري عن رجل من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ١٤ / ٣٩، وعزاه السيوطي لابن مردويه، الدر المنثور: ٥ / ٨٦، وذكره الواحدي في "أسباب النزول" ص (٣٢٠)، والقرطبي في التفسير: ١٠ / ٣٤، وأبو حيان في البحر: ٥ / ٤٥٧. وروى نحوه دون ذكر نزول جبريل، الطبراني عن عبد الله بن الزبير، وفيه موسى بن عبيدة وهو ضعيف. انظر: مجمع الزوائد: ٧ / ٤٦.
﴿وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ﴾ قَالَ قَتَادَةُ: بَلَغَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَوْ يَعْلَمُ الْعَبْدُ قَدْرَ عَفْوِ اللَّهِ لَمَا تَوَرَّعَ عَنْ حَرَامٍ، وَلَوْ يَعْلَمُ قَدْرَ عَذَابِهِ لَبَخَعَ نَفْسَهُ" (١).
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسَفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الرَّحْمَةَ يَوْمَ خَلَقَهَا مِائَةَ رَحْمَةٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، وَأَرْسَلَ فِي خَلْقِهِ كُلِّهِمْ رَحْمَةً وَاحِدَةً، فَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرحمة لم ييئس مِنَ الْجَنَّةِ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعَذَابِ لَمْ يَأْمَنْ مِنَ النَّارِ" (٢).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ﴾ أَيْ: عَنْ أَضْيَافِهِ. وَالضَّيْفُ: اسْمٌ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ وَالْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ أَرْسَلَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى لِيُبَشِّرُوا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْوَلَدِ، وَيُهْلِكُوا قَوْمَ لُوطٍ.
﴿إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ﴾ إِبْرَاهِيمُ: ﴿إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ﴾ خَائِفُونَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَأْكُلُوا طَعَامَهُ.
﴿قَالُوا لَا تَوْجَلْ﴾ لَا تَخَفْ ﴿إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ﴾ أَيْ: غُلَامٍ فِي صِغَرِهِ، عَلِيمٌ فِي كِبَرِهِ، يَعْنِي: إِسْحَاقَ، فَتَعَجَّبَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ كِبَرِهِ وَكِبَرِ امْرَأَتِهِ.
﴿قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي﴾ أَيْ: بِالْوَلَدِ ﴿عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ﴾ أَيْ: عَلَى حَالِ الْكِبَرِ، قَالَهُ عَلَى طَرِيقِ التَّعَجُّبِ ﴿فَبِمَ تُبَشِّرُونَ﴾ فَبِأَيِّ شَيْءٍ تُبَشِّرُونَ؟ قَرَأَ نَافِعٌ بِكَسْرِ النُّونِ وَتَخْفِيفِهَا أَيْ: تُبَشِّرُونِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِتَشْدِيدِ النون أي: تبشرونني، أُدْغِمَتْ نُونُ الْجَمْعِ فِي نُونِ الْإِضَافَةِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ النُّونِ وَتَخْفِيفِهَا.
(٢) أخرجه البخاري في الرقاق، باب الرجاء مع الخوف: ١١ / ٣٠١، والمصنف في شرح السنة: ١٤ / ٣٧٨.
﴿قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ﴾ أَيْ بِالصِّدْقِ ﴿فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ﴾
﴿قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ﴾ قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ: بِكَسْرِ النُّونِ، وَالْآخَرُونَ بِفَتْحِهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ: قَنِطَ يَقْنَطُ، وَقَنَطَ يَقْنِطُ (١) أَيْ: مَنْ يَيْئَسُ ﴿مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ﴾ أَيِ: الْخَاسِرُونَ، وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ كَبِيرَةٌ كَالْأَمْنِ مِنْ مَكْرِهِ (٢).
﴿قَالَ﴾ إِبْرَاهِيمُ لَهُمْ ﴿فَمَا خَطْبُكُمْ﴾ مَا شَأْنُكُمْ ﴿أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ﴾ ؟
﴿قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ﴾ مُشْرِكِينَ.
﴿إِلَّا آلَ لُوطٍ﴾ أَتْبَاعَهُ وَأَهْلَ دِينِهِ، ﴿إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ خَفَّفَ الْجِيمَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ، وَشَدَّدَهُ الْبَاقُونَ.
﴿إِلَّا امْرَأَتَهُ﴾ أَيِ: امْرَأَةَ لُوطٍ، ﴿قَدَّرْنَا﴾ قَضَيْنَا ﴿إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ﴾ الْبَاقِينَ فِي الْعَذَابِ،
(٢) روى ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن الكبائر؟ فقال: "الشرك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله". أخرج عبد الرزاق في "المصنف" (١٠ / ٤٦٠) عن ابن مسعود قال: "أكبر الكبائر الشرك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من روح الله" وعزاه الهيثمي للطبراني وقال: "إسناده صحيح" مجمع الزوائد: (١ / ١٠٤). وقال الطحاوي: "الأمن والإياس ينقلان عن ملة الإسلام، وسبيل الحق بينهما لأهل الإسلام، فيجب أن يكون العبد خائفا راجيا، فإن الخوف المحمود الصادق: ما حال بين صاحبه وبين محارم الله، فإذا تجاوز ذلك خيف منه اليأس والقنوط. والرجاء المحمود: رجاء رجل عمل بطاعة الله على نور من الله، فهو راج لثوابه، أو رجل أذنب ذنبا، ثم تاب منه إلى الله، فهو راج لمغفرته. أما إذا كان الرجل متماديا في التفريط والخطايا، يرجو رحمة الله بلا عمل، فهذا هو الغرور والتمني والرجاء الكاذب. وقد مدح الله تعالى أهل الخوف والرجاء بقوله: "أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة، ويرجو رحمة ربه" (الزمر-٩) وقال: "تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا" (السجدة-١٦) فالرجاء يستلزم الخوف، ولولا ذلك لكان أمنا، والخوف يستلزم الرجاء، ولولا ذلك لكان قنوطا ويأسا. وكل أحد إذا خفته، هربت منه، إلا الله انظر: شرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز الحنفي ص (٣٥٧-٣٥٨).
قَرَأَ أَبُو بكر "قدرنا" هاهنا وَفِي سُورَةِ النَّمْلِ بِتَخْفِيفِ الدَّالِ. وَالْبَاقُونَ بِتَشْدِيدِهَا.
﴿فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (٦٤) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦) ﴾
﴿قَالَ﴾ لُوطٌ لَهُمْ ﴿إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ﴾ أَيْ: أَنَا لَا أَعْرِفُكُمْ.
﴿قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ﴾ أَيْ: يَشُكُّونَ فِي أَنَّهُ نَازِلٌ بِهِمْ، وَهُوَ الْعَذَابُ، لِأَنَّهُ كَانَ يُوعِدُهُمْ بِالْعَذَابِ وَلَا يُصَدِّقُونَهُ.
﴿وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ﴾ بِالْيَقِينِ. وَقِيلَ: بِالْعَذَابِ ﴿وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾
﴿فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ﴾ أَيْ: سِرْ خَلْفَهُمْ ﴿وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ﴾ حَتَّى لَا يَرْتَاعُوا مِنَ الْعَذَابِ إِذَا نَزَلَ بِقَوْمِهِمْ.
وَقِيلَ: جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَامَةً لِمَنْ يَنْجُو مِنْ آلِ لُوطٍ.
﴿وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الشَّامَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي زُغَرَ (١) وَقِيلَ: الْأُرْدُنُ.
﴿وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ﴾ أَيْ: فَرَغْنَا إِلَى آلِ لُوطٍ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ، أَيْ: أَحْكَمْنَا الْأَمْرَ الَّذِي أُمِرْنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ، وَأَخْبَرْنَاهُ: ﴿أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ﴾ يَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ: وَقُلْنَا لَهُ إِنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ، يَعْنِي: أَصْلَهُمْ، ﴿مَقْطُوعٌ﴾ مُسْتَأْصَلٌ، ﴿مُصْبِحِينَ﴾ إِذَا دَخَلُوا فِي الصُّبْحِ.
ككتابة الزغري غَشَّا | ها من الذهب الدُّلامص |
سقى الله رب الناس سحًا وديمة | جنوب السراة من مآبٍ إلى زُعَر |
﴿وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ﴾ يَعْنِي سَدُومَ ﴿يَسْتَبْشِرُونَ﴾ بِأَضْيَافِ لُوطٍ، أَيْ: يُبَشِّرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، طَمَعًا فِي رُكُوبِ الْفَاحِشَةِ مِنْهُمْ.
﴿قَالَ﴾ لُوطٌ لِقَوْمِهِ ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي﴾ وَحَقٌّ عَلَى الرَّجُلِ إِكْرَامُ ضَيْفِهِ ﴿فَلَا تَفْضَحُونِ﴾ فِيهِمْ.
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ﴾ وَلَا تُخْجِلُونِ.
﴿قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ أَيْ: أَلَمْ نَنْهَكَ عَنْ أَنْ تُضِيفَ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ.
وَقِيلَ: أَلَمْ نَنْهَكَ أَنْ تُدْخِلَ الْغُرَبَاءَ الْمَدِينَةَ، فَإِنَّا نَرْكَبُ مِنْهُمُ الْفَاحِشَةَ.
﴿قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي﴾ أُزَوِّجُهُنَّ إِيَّاكُمْ إِنْ أَسْلَمْتُمْ (١) فَأْتُوا الْحَلَالَ وَدَعَوُا الْحَرَامَ ﴿إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ﴾ مَا آمُرُكُمْ بِهِ.
وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْبَنَاتِ نِسَاءَ قَوْمِهِ لِأَنَّ النَّبِيَّ كَالْوَالِدِ لِأُمَّتِهِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿لَعَمْرُكَ﴾ يَا مُحَمَّدُ أَيْ وَحَيَاتِكَ ﴿إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ﴾ حَيْرَتِهِمْ وَضَلَالَتِهِمْ، ﴿يَعْمَهُونَ﴾ يَتَرَدَّدُونَ.
قَالَ قَتَادَةُ: يَلْعَبُونَ.
رُوِيَ عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: مَا خَلَقَ اللَّهُ نَفْسًا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِحَيَاةِ أَحَدٍ إِلَّا بِحَيَاتِهِ (٢).
(٢) أخرجه الطبري في التفسير: ١٤ / ٤٤، والحارث بن أبي أسامة في مسنده، وأبو يعلى، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وأبو نعيم، والبيهقي في "الدلائل". وسكت عليه البوصيري. انظر: الدر المنثور: ٥ / ٨٩، المطالب العالية لابن حجر: ٣ / ٣٤٧.
﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ﴾ ١٩٧/ب أَيْ: حِينَ أَضَاءَتِ الشَّمْسُ، فَكَانَ ابْتِدَاءُ الْعَذَابِ حِينَ أَصْبَحُوا، وَتَمَامُهُ حِينَ أَشْرَقُوا.
" فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ ".
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِلنَّاظِرِينَ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لِلْمُتَفَرِّسِينَ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: لِلْمُعْتَبِرِينَ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لِلْمُتَفَكِّرِينَ (١).
﴿وَإِنَّهَا﴾ يَعْنِي: قُرَى قَوْمِ لُوطٍ ﴿لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ﴾ أَيْ: بِطَرِيقٍ وَاضِحٍ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بِطْرِيقٍ معلم (٢) ليس يخفى وَلَا زَائِلٍ.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (٣).
﴿وَإِنْ كَانَ﴾ وَقَدْ كَانَ ﴿أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ﴾ الْغَيْضَةِ ﴿لَظَالِمِينَ﴾ لَكَافِرِينَ، وَاللَّامُ لِلتَّأْكِيدِ، وَهُمْ قَوْمُ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَانُوا أَصْحَابَ غِيَاضٍ وَشَجَرٍ مُلْتَفٍّ، وَكَانَ عَامَّةُ شَجَرِهِمُ الدَّوْمُ، وَهُوَ الْمُقْلُ (٤).
(٢) في "ب" معلوم.
(٣) "يقول تعالى ذكره: إن في صنيعنا بقوم لوط ما صنعنا بهم، لعلامة ودلالة بيِّنة لمن آمن بالله، على انتقامه من أهل الكفر به، وإنقاذه من عذابه، إذا نزل بقوم، أهل الإيمان به منهم". انظر: تفسير الطبري: ١٤ / ٤٧.
(٤) في "المعجم الوسيط" (١ / ٣٠٥) "الدَّوْم" شجر عظام، من الفصيلة النخيلية، يكثر في صعيد مصر، وفي بلاد العرب، وثمرته في غلظ التفاحة ذات قشر صلب أحمر، وله نواة ضخمة ذات لبّ إسفنجي". وفيه أيضا: (٢ / ٨٨١) "المُقْل" حَمْلُ الدَّوْم، وهو يشبه النخل.
﴿فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ﴾ بِالْعَذَابِ، وَذَلِكَ (١) أَنَّ اللَّهَ سَلَّطَ عَلَيْهِمُ الْحَرَّ سَبْعَةَ أَيَّامٍ فَبَعَثَ الله سحابة فالتجؤوا إِلَيْهَا يَلْتَمِسُونَ الرَّوْحَ، فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْهَا نَارًا فَأَحْرَقَتْهُمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ﴾ (الشُّعَرَاءِ-١٨٩).
﴿وَإِنَّهُمَا﴾ يَعْنِي مَدِينَتَي قَوْمِ لُوطٍ وَأَصْحَابِ الْأَيْكَةِ ﴿لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ﴾ بِطَرِيقٍ وَاضِحٍ مُسْتَبِينٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ﴾ وَهِيَ مَدِينَةُ ثَمُودَ قَوْمِ صَالِحٍ، وَهِيَ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ، ﴿الْمُرْسَلِينَ﴾ أَرَادَ صَالِحًا وَحْدَهُ. (٢).
﴿وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا﴾ يَعْنِي: النَّاقَةَ وَوَلَدَهَا وَالْبِئْرَ، فَالْآيَاتُ فِي النَّاقَةِ؛ خُرُوجُهَا مِنَ الصَّخْرَةِ، وَكِبَرُهَا، وَقُرْبُ وِلَادِهَا، وَغَزَارَةُ لَبَنِهَا ﴿فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ﴾
﴿وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ﴾ مِنَ الْخَرَابِ وَوُقُوعِ الْجَبَلِ عَلَيْهِمْ.
﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ﴾ يَعْنِي: صَيْحَةَ الْعَذَابِ، ﴿مُصْبِحِينَ﴾ أَيْ: دَاخِلِينَ فِي وَقْتِ الصُّبْحِ.
﴿فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ مِنَ الشِّرْكِ وَالْأَعْمَالِ الْخَبِيثَةِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي تَوْبَةَ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَارِثِ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكِسَائِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَحْمُودٍ، أَنْبَأَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلَّالُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنَا سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمَّا مَرَّ بِالْحِجْرِ قَالَ: "لَا تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ".
(٢) وإنما ذكر بلفظ الجمع لأن من كذب بنبي واحد أو كفر، فقد كفر بسائر الأنبياء فإن الإيمان واجب بكل نبي بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض، فمن رد نبوته لحسد أو عصبية أو هوى... يتبين أن إيمانه بمن آمن به من الأنبياء، وتصديقه له، ليس إيمانا شرعيا. وانظر تفصيلا أوسع لهذا في "مجلة البحوث الإسلامية" العدد (١٦) بعنوان "إن الدين عند الله الإسلام" كتبه: عثمان جمعة ضميرية.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ: "ثُمَّ قَنَّعَ رَأْسَهُ وَأَسْرَعَ السَّيْرَ حَتَّى اجْتَازَ الْوَادِيَ" (٢).
﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (٨٦) وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧) ﴾
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَواتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ﴾ يَعْنِي: الْقِيَامَةَ ﴿لَآتِيَةٌ﴾ يُجَازِي الْمُحْسِنَ بِإِحْسَانِهِ وَالْمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ ﴿فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ﴾ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَاعْفُ عَفْوًا حَسَنًا. نَسَخَتْهَا آيَةُ الْقِتَالِ (٣).
﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ﴾ [بِخَلْقِهِ] (٤).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي﴾ قَالَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ: هِيَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ. وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ وَعَطَاءٍ وَالْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُمُّ الْقُرْآنِ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ" (٥).
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ فِي السَّبْعِ الْمَثَانِي: هِيَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ: هُوَ سَائِرُ الْقُرْآنِ (٦).
وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْفَاتِحَةَ لِمَ سُمِّيَتْ مَثَانِيَ؟
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: لِأَنَّهَا تُثَنَّى فِي الصَّلَاةِ، فَتُقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ (٧).
(٢) المصنف لعبد الرزاق: ١ / ٤١٥، والبيهقي في السنن: ٢ / ٤٥١.
(٣) انظر فيما سبق، تفسير الآية (٣) من السورة: ص ٧٨ تعليق (٦).
(٤) ساقط من "أ".
(٥) أخرجه البخاري في تفسير سورة الحجر، باب "ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم": ٨ / ٣٨١ وانظر: فتح الباري: الموضع نفسه.
(٦) أخرجه الطبري في التفسير: ١٤ / ٥٥، وزاد السيوطي نسبته لابن الضريس، وابن المنذر، وابن مردويه. انظر: الدر المنثور: ٥ / ٩٤، زاد المسير: ٤ / ٤١٣.
(٧) انظر: الطبري: ١٤ / ٥٤-٥٥، الدر المنثور: ٥ / ٩٥-٩٦، زاد المسير: ٤ / ٤١٣-٤١٤، ففيها تفصيل هذه الأقوال ونسبتها لأصحابها. وراجع فيما سبق: ١ / ٤٩.
وَقَالَ الْحُسَيْنُ (٢) بْنُ الْفَضْلِ: سُمِّيَتْ مَثَانِيَ لِأَنَّهَا نَزَلَتْ مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً بِمَكَّةَ، وَمَرَّةً بِالْمَدِينَةِ، كُلَّ مَرَّةٍ مَعَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ مَلِكٍ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: سُمِّيَتْ مَثَانِيَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَثْنَاهَا وَادَّخَرَهَا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ فَمَا أَعْطَاهَا غَيْرَهُمْ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ الْبَلْخِيُّ: [سُمِّيَتْ مَثَانِيَ] (٣) لِأَنَّهَا تُثْنِي أَهْلَ الشَّرِّ عَنِ الْفِسْقِ، مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: ثَنَيْتُ عَنَانِيَ.
وَقِيلَ: لِأَنَّ أَوَّلَهَا ثَنَاءٌ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ السَّبْعَ الْمَثَانِيَ هِيَ السَّبْعُ الطِّوَالُ، أَوَّلُهَا سُورَةُ الْبَقَرَةِ، وَآخِرُهَا الْأَنْفَالُ مَعَ التَّوْبَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سُورَةَ يُونُسَ بَدَلَ الْأَنْفَالِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشُّرَيْحِيُّ، [أَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَخْلَدِيُّ] (٤) أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ حَمْدُونَ بْنِ خَالِدٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَا أَنْبَأَنَا هِلَالُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ شَدَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ الرَّحْبِيِّ عَنْ ثَوْبَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْطَانِي السَّبْعَ الطِّوَالَ مَكَانَ التَّوْرَاةِ، وَأَعْطَانِي الْمِئِينَ مَكَانَ الْإِنْجِيلِ وَأَعْطَانِي مَكَانَ الزَّبُورِ الْمَثَانِيَ، وَفَضَّلَنِي رَبِّي بِالْمُفَصَّلِ" (٥).
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أُوتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّبْعَ الطِّوَالَ، وَأُعْطِيَ مُوسَى سِتًّا فَلَمَّا أَلْقَى الْأَلْوَاحَ رُفِعَ ثِنْتَانِ وَبَقِيَ أَرْبَعٌ (٦).
(٢) في "ب" الحسن.
(٣) ساقط من "ب".
(٤) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(٥) تقدم تخريجه فيما سبق: ١ / ٤١، تعليق (٣).
(٦) انظر فيما سبق تعليقا على الروايات عن إلقاء موسى للألواح ٣ / ٢٨٨ تعليق (١).
وَقَالَ طَاوُسٌ: الْقُرْآنُ كُلُّهُ مَثَانِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ﴾ (الزُّمَرِ-٢٣). وَسُمِّيَ الْقُرْآنُ مَثَانِيَ لِأَنَّ الْأَنْبَاءَ وَالْقَصَصَ ثُنِّيَتْ فِيهِ.
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: الْمُرَادُ بِالسَّبْعِ: سَبْعَةُ أَسْبَاعِ الْقُرْآنِ، فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ عَلَى هَذَا: وَهِيَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ وَقِيلَ: الْوَاوُ مُقْحَمَةٌ، مَجَازُهُ: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (١).
﴿لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨) ﴾
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ﴾ يَا مُحَمَّدُ ﴿إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا﴾ أَصْنَافًا ﴿مِنْهُمْ﴾ أَيْ: مِنَ الْكُفَّارِ مُتَمَنِّيًا لَهَا. نَهَى اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرَّغْبَةِ فِي الدُّنْيَا وَمُزَاحَمَةِ أَهْلِهَا [عَلَيْهَا] (٢). ﴿وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ﴾ أَيْ: لَا تَغْتَمَّ عَلَى مَا فَاتَكَ مِنْ مُشَارَكَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَنَزِيِّ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ نَصْرٍ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهُ بْنُ الْمُبَارَكِ، أَخْبَرَنَا جَهْمُ بْنُ أَوْسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي مَرْيَمَ -وَمَرَّ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رُسْتُمَ فِي مَوْكِبِهِ، فَقَالَ لِابْنِ أَبِي مَرْيَمَ: إِنِّي لَأَشْتَهِي مُجَالَسَتَكَ وَحَدِيثَكَ، فَلَمَّا مَضَى قَالَ ابْنُ مَرْيَمَ -سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَغْبِطَنَّ فَاجِرًا بِنِعْمَتِهِ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا هُوَ لَاقٍ بَعْدَ مَوْتِهِ، إِنَّ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ قَاتِلًا لَا يَمُوتُ" فَبَلَغَ ذَلِكَ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ وَهْبٌ أَبَا دَاوُدَ الْأَعْوَرَ، قَالَ: يَا أَبَا فُلَانٍ مَا قَاتِلًا لَا يَمُوتُ؟ قَالَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ: النَّارُ" (٣).
أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْمُظَفَّرِيُّ السَّرَخْسِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الْفَقِيهُ، حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَبْسِيُّ، أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "انْظُرُوا
(٢) ساقط من "ب".
(٣) رواه البخاري في "التاريخ" والطبراني في "الأوسط" والبيهقي، قال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله ثقات. ورواه المصنف في شرح السنة: ١٤ / ٢٩٤-٢٩٥. وضعفه الألباني في تعليقه على المشكاة. انظر: فيض القدير للمناوي: ٦ / ٤١٣، مجمع الزوائد: ١٠ / ٣٥٥، مشكاة المصابيح: ٣ / ١٤٤٥.
وَقِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا لِمَا مَنَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ نَهَاهُ عَنِ الرَّغْبَةِ فِي الدُّنْيَا.
رُوِيَ أَنَّ سُفْيَانَ بن عُيَيْنة ١٩٨/أ -رَحِمَهُ اللَّهُ -تَأَوَّلَ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ" (٢) أَيْ: لَمْ يَسْتَغْنِ بِالْقُرْآنِ. فَتَأَوَّلَ هَذِهِ الْآيَةَ (٣).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ﴾ لَيِّنْ جَنَاحَكَ ﴿لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ وَارْفُقْ بِهِمْ، وَالْجَنَاحَانِ لِابْنِ آدَمَ جَانِبَاهُ.
﴿وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) ﴾
(٢) أخرجه البخاري في التوحيد، باب قول الله تعالى: "وأسروا قولكم أو أجهروا به" ٣ / ٥٠١ وفي مواضع أخرى.
(٣) أخرج البخاري في فضائل القرآن، باب "من لم يتغن بالقرآن" (٩ / ٦٨) عن أبي هريرة مرفوعا: ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي أن يتغنى بالقرآن" قال سفيان: تفسيره يستغني به". قال في فتح الباري (٩ / ٦٩) ويمكن أن يستأنس بما أخرجه أبو داود، وابن الضريس، وصححه أبو عوانة عن ابن أبي مليكة عن عبيد الله بن نهيك قال: "لقيني سعد بن أبي وقاص وأنا في السوق فقال: تُجَّار كَسَبَة، سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ليس منا من لم يتغن بالقرآن" وقد ارتضى أبو عبيد تفسير يتغنى بيستغني - وقال: إنه جائز في كلام العرب، وأنشد الأعشى:
وكنت امرأ زمنا بالعراق | خفيف المناخ طويل التغني |
كلانا غني عن أخيه حياته | ونحن إذا متنا أشدُّ تغانيا |
﴿كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ﴾ قَالَ الْفَرَّاءُ: مَجَازُهُ: أُنْذِرُكُمْ عَذَابًا كَعَذَابِ الْمُقْتَسِمِينَ. حُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -أَنَّهُ قَالَ: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى.
﴿الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ﴾ جزَّؤوه فَجَعَلُوهُ أَعْضَاءً فَآمَنُوا بِبَعْضِهِ وَكَفَرُوا بِبَعْضِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَسَّمُوا كِتَابَهُمْ فَفَرَّقُوهُ وَبَدَّلُوهُ (١).
وَقِيلَ: الِاقْتِسَامُ هُوَ أَنَّهُمْ فَرَّقُوا الْقَوْلَ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: سَاحِرٌ كَاهِنٌ شَاعِرٌ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَانُوا سِتَّةَ عَشَرَ رَجُلًا بَعَثَهُمُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ أَيَّامَ الْمَوْسِمِ، فَاقْتَسَمُوا عِقَابَ (١) مَكَّةَ وَطُرُقَهَا، وَقَعَدُوا عَلَى أَنْقَابِهَا يَقُولُونَ لِمَنْ جَاءَ مِنَ الْحُجَّاجِ: لَا تَغْتَرُّوا بِهَذَا الرَّجُلِ الْخَارِجِ الَّذِي يَدَّعِي النُّبُوَّةَ مِنَّا. وَتَقُولُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ: إِنَّهُ مَجْنُونٌ، وَطَائِفَةٌ: إِنَّهُ كَاهِنٌ، وَطَائِفَةٌ: إِنَّهُ شَاعِرٌ، وَالْوَلِيدُ قَاعِدٌ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ نَصَّبُوهُ حَكَمًا فَإِذَا سُئِلَ عَنْهُ قَالَ: صَدَقَ (٢) أُولَئِكَ [يَعْنِي] (٣) الْمُقْتَسِمِينَ (٤).
وَقَوْلُهُ: ﴿عِضِينَ﴾ قِيلَ: هُوَ جَمْعُ عُضْوٍ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: عَضَيْتُ الشَّيْءَ تَعْضِيَةً، إِذَا فَرَّقْتُهُ. وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْقُرْآنَ أَعْضَاءً، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: سِحْرٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كِهَانَةٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ.
وَقِيلَ: هُوَ جَمْعُ عِضَةٍ: يُقَالُ: عِضَةٌ وَعِضِينُ مِثْلُ بِرَةٍ وَبِرِينَ وَعِزَةٍ وَعِزِينَ، وَأَصْلُهَا: عِضْهَةٌ ذَهَبَتْ هَاؤُهَا الْأَصْلِيَّةُ، كَمَا نَقَصُوا مِنَ الشَّفَةِ وَأَصْلُهَا شَفَهَةٌ، بِدَلِيلِ: أَنَّكَ تَقُولُ فِي التَّصْغِيرِ شُفَيْهَةً، وَالْمُرَادُ بِالْعِضَةِ الْكَذِبُ وَالْبُهْتَانُ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْعِضِينَ الْعِضَهُ، وَهُوَ السِّحْرُ، يُرِيدُ: أَنَّهُمْ سَمَّوُا الْقُرْآنَ سِحْرًا (٥).
﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣) ﴾
﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
﴿عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ فِي الدُّنْيَا، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ عِدَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: عَنْ قَوْلِهِ "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" (٦).
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ﴾ (الرَّحْمَنِ-٣٩).
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يَسْأَلُهُمْ هَلْ عَمِلْتُمْ، لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِهِمْ مِنْهُمْ، وَلَكِنْ يَقُولُ: لِمَ عَمِلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ وَاعْتَمَدَهُ قُطْرُبُ فَقَالَ: السُّؤَالُ ضَرْبَانِ، سُؤَالُ اسْتِعْلَامٍ، وَسُؤَالُ تَوْبِيخٍ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ﴾ (الرَّحْمَنِ-٣٩)
(٢) في "ب" سل.
(٣) ساقط من "ب".
(٤) انظر هذه الأقوال وتخريجها في الطبري: ١٤ / ٦١-٦٤، الدر المنثور: ٥ / ٩٨، زاد المسير: ٤ / ٤١٧-٤١٨، فتح الباري: ٨ / ٣٨٢.
(٥) انظر: زاد المسير: ٤ / ٤١٨-٤١٩، الطبري: ٤ / ٦٤-٦٦.
(٦) انظر: تفسير الطبري: ١٤ / ٦٧.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَتَيْنِ: إِنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَوْمٌ طَوِيلٌ فِيهِ مَوَاقِفُ يُسْأَلُونَ فِي بَعْضِ الْمَوَاقِفِ، وَلَا يُسْأَلُونَ فِي بَعْضِهَا. نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ﴾ (الْمُرْسَلَاتِ-٣٥)، وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ﴾ (١) (الزُّمَرِ-٣١).
﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) ﴾
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَظْهِرْهُ. وَيُرْوَى عَنْهُ: أَمْضِهِ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَعْلِمْ.
وَقَالَ الْأَخْفَشُ: افْرُقْ، أَيِ: افْرُقْ بِالْقُرْآنِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ.
وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: اقْضِ بِمَا تُؤْمَرُ، وَأَصْلُ الصَّدْعِ: الْفَصْلُ، وَالْفَرْقُ: أُمِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِإِظْهَارِ الدَّعْوَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدَةَ قَالَ: كَانَ مُسْتَخْفِيًا حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَخَرَجَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ (٢).
﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾ نَسَخَتْهَا آيَةُ الْقِتَالِ (٣).
﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ﴾ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَاصْدَعْ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَلَا تَخَفْ أَحَدًا غَيْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّ اللَّهَ كَافِيكَ مَنْ عَادَاكَ كَمَا كَفَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ، وَهُمْ خَمْسَةُ نَفَرٍ مِنْ رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ: الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ -وَكَانَ رَأْسَهُمْ -وَالْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ زَمْعَةَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ دَعَا عَلَيْهِ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ أَعْمِ بَصَرَهُ وَاثْكِلْهُ بِوَلَدِهِ، وَالْأُسُودُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ بْنِ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ قَيْسِ بْنِ الطُّلَاطِلَةِ، فَأَتَى جِبْرِيلُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُسْتَهْزِئُونَ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ، فَقَامَ جِبْرِيلُ وَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جَنْبِهِ، فَمَرَّ بِهِ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: يَا مُحَمَّدُ كَيْفَ تَجِدُ هَذَا؟ فَقَالَ: بِئْسَ عَبْدُ اللَّهِ، فَقَالَ: قَدْ كُفِيتَهُ، وَأَوْمَأَ إِلَى سَاقِ الْوَلِيدِ، فَمَرَّ بِرَجُلٍ مِنْ خُزَاعَةَ نَبَّالٍ يَرِيشُ نَبْلًا لَهُ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ يَمَانٍ، وَهُوَ يَجُرُّ إِزَارَهُ، فَتَعَلَّقَتْ شَظْيَةٌ مِنْ نَبْلٍ بِإِزَارِهِ فَمَنَعَهُ الْكِبَرُ أَنْ "يُطَاطِئَ رَأَسَهُ" (٤) فَيَنْزِعَهَا، وَجَعَلَتْ تَضْرِبُ سَاقَهُ، فَخَدَشَتْهُ، فَمَرِضَ مِنْهَا فَمَاتَ.
(٢) انظر: زاد المسير: ٤ / ٤٢٠.
(٣) انظر فيما سبق التعليق (٦) في تفسير سورة الحجر، الآية (٣) ص (٣٦٨).
(٤) في "ب" يطامن.
وَمَرَّ بِهِ الْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: كَيْفَ تَجِدُ هَذَا؟ قَالَ عَبْدُ سُوءٍ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى عَيْنَيْهِ، وَقَالَ: قَدْ كُفِيتَهُ، فَعَمِيَ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَمَاهُ جِبْرِيلُ بِوَرَقَةٍ خَضْرَاءَ فَذَهَبَ بَصَرُهُ وَوَجِعَتْ عَيْنَاهُ، فَجَعَلَ يَضْرِبُ بِرَأْسِهِ الْجِدَارَ حَتَّى هَلَكَ.
وَفِي رِوَايَةِ الْكَلْبِيِّ: أَتَاهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ قَاعِدٌ فِي أَصْلِ شَجَرَةٍ وَمَعَهُ غُلَامٌ لَهُ فَجَعَلَ يَنْطَحُ رَأْسَهُ بِالشَّجَرَةِ وَيَضْرِبُ وَجْهَهُ بِالشَّوْكِ، فَاسْتَغَاثَ بِغُلَامِهِ، فَقَالَ غُلَامُهُ: لَا أَرَى أَحَدًا يَصْنَعُ بِكَ شَيْئًا غَيْرَ نَفْسِكَ، حَتَّى مَاتَ، وَهُوَ يَقُولُ قَتَلَنِي رَبُّ مُحَمَّدٍ.
وَمَرَّ بِهِ الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: كَيْفَ تَجِدُ هَذَا يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: بِئْسَ عَبْدُ اللَّهِ عَلَى أَنَّهُ ابْنُ خَالِي. فَقَالَ: قَدْ كُفِيتَهُ، وَأَشَارَ إِلَى بَطْنِهِ فَاسْتَسْقَى [بَطْنَهُ] (١) فَمَاتَ حِينًا.
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْكَلْبِيِّ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ أَهْلِهِ فَأَصَابَهُ السَّمُومُ فَاسْوَدَّ حَتَّى عَادَ حَبَشِيًّا، فَأَتَى أَهْلَهُ فَلَمْ يَعْرِفُوهُ، وَأَغْلَقُوا دُونَهُ الْبَابَ حَتَّى مَاتَ، وَهُوَ يَقُولُ: قَتَلَنِي رَبُّ مُحَمَّدٍ.
وَمَرَّ بِهِ الْحَارِثُ بْنُ قَيْسٍ فَقَالَ جِبْرِيلُ: كَيْفَ تَجِدُ هَذَا يَا مُحَمَّدُ؛ فَقَالَ: عَبْدُ سُوءٍ فَأَوْمَأَ إِلَى رَأْسِهِ وَقَالَ: قَدْ كُفِيتَهُ فَامْتَخَطَ قَيْحًا فَقَتَلَهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ أَكَلَ حُوتًا مَالِحًا فَأَصَابَهُ الْعَطَشُ فَلَمْ يَزَلْ يَشْرَبُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَاءِ حَتَّى انْقَدَّ بَطْنُهُ فَمَاتَ (٢) فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ﴾ بِكَ وَبِالْقُرْآنِ.
﴿الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾
﴿الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦) ﴾
وَقِيلَ: [اسْتِهْزَاؤُهُمْ] (٣) وَاقْتِسَامُهُمْ: هُوَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا أَنْزَلَ فِي الْقُرْآنِ سُورَةَ الْبَقَرَةِ،
(٢) انظر: تفسير الطبري: ١٤ / ٦٩-٧٢، زاد المسير: ٤ / ٤٢١-٤٢٣، الدر المنثور: ٥ / ١٠٠-١٠٢، المحرر الوجيز: ٣٥٩-٣٦١، البحر المحيط: ٥ / ٤٦٩-٤٧٠، سيرة ابن هشام: ١ / ٤٠٨-٤٠٩.
(٣) ساقط من "ب".
﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩) ﴾
﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَصَلِّ بِأَمْرِ رَبِّكَ ﴿وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ﴾ ١٩٨/ب مِنَ الْمُصَلِّينَ (٣) الْمُتَوَاضِعِينَ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: "فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ": قُلْ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ "وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ" الْمُصَلِّينَ.
وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا حَزَبَهُ أَمَرٌّ فَزِعَ إِلَى الصَّلَاةِ (٤).
﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ أَيِ الْمَوْتُ الْمُوقَنُ بِهِ، وَهَذَا مَعْنَى مَا ذُكِرَ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ: "وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا".
أَخْبَرَنَا الْمُطَهَّرُ بْنُ عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الصَّالِحِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظِ، حَدَّثَنَا أُمَيَّةُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّوَّافُ الْبَصْرِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْأَزْدِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي وَالْهَيْثَمُ بْنُ خَارِجَةَ قَالَا حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيِّ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَمَا أُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ أَجْمَعَ الْمَالَ وَأَكُونَ مِنَ التَّاجِرِينَ، وَلَكِنْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٥).
(٢) انظر: البحر المحيط: ٥ / ٤٦٨.
(٣) ساقط من "ب".
(٤) أخرجه أبو داود في الصلاة، باب: وقت قيام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الليل: ٢ / ٩٤ عن حذيفة، بلفظ: "كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا حزبه أمر صلَّى" قال المنذري: وذكر بعضهم أنه روي مرسلا. وأخرجه الإمام أحمد في المسند: ٥ / ٣٨٨، والبيهقي في الدلائل في قصة الخندق مطولا، انظر: الكافي الشاف ص (٧) وأخرجه الخطيب في تاريخ بغداد: ٦ / ٢٧٤. وأخرجه المصنف في شرح السنة: ٤ / ١٥٥، وضعفه الألباني في تعليقه على المشكاة: ١ / ٤١٦ نعم ولكن الألباني حسّنه أخيرا في صحيح سنن أبي داود برقم ١١٧١.
(٥) أخرجه أبو نعيم في الحلية: ٢ / ١٣١ مرسلا، ورواه السهمي موصولا في تاريخ جرجان ص (٣٤٢) عن ابن مسعود. وعزاه السيوطي في الدر المنثور: (٥ / ١٠٥) لسعيد بن منصور، وابن المنذر، والحاكم في "التاريخ" وابن مردويه، والديلمي في "الفردوس" وابن عدي في الكامل: ٥ / ١٨٩٧. وأخرجه المصنف في شرح السنة: ١٤ / ٢٣٧، وفيه شرحبيل بن مسلم، ضعفه ابن معين. انظر: الجرح والتعديل: ٤ / ٣٤٠.
(٢) أخرجه أبو نعيم في الحلية: ١ / ١٠٨ بإسناد حسن، وانظر: المغني عن حمل الأسفار للعراقي ٤ / ٢٨٧.