مدنية. وقد وقع فيها ﴿ يا أيها الناس اعبدوا ربكم ﴾ |البقرة : ٢١|. قال مجاهد١ :﴿ يا أيها الناس ﴾، حيث وقع من القرآن مكي، و ﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ مدني. وهذا الذي قاله مجاهد صحيح في ﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ وأما ﴿ يا أيها الناس ﴾ فقد يجيء في المدني. وفيها مواضع من الأحكام و النسخ.
ﰡ
اختلف في هذه النفقة ماهي ؟ فقال يزيد بن القعقاع وابن عباس : هي الزكاة١. وقال ابن مسعود : هي نفقة الرجل على أهله٢. وقال الضحاك : هي كل نفقة٣. وهذا هو الصحيح٤. ثم إن الله تبارك وتعالى بين في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم درجات الإنفاق في التكليف وأحكامه في الثواب. وقول من قال : إن هذه الآية وكل آية تضمنت النفقة في القرآن منسوخة بالزكاة٥ غير صحيح لأن ذلك ليس بنسخ وإنما هو تخصيص٦.
٢ عزاه له الطبري ﴿١/٢٤٣، ٢٤٤﴾ وابن كثير ﴿١/٤٣﴾..
٣ عزاه له الطبري ﴿١/٢٤٣﴾ وابن كثير ﴿١/٤٣﴾ ويراجع زاد المسير ﴿١/٢٦﴾..
٤ وهو اختيار الطبري ﴿١/٢٤٤﴾ ووافقه ابن كثير ﴿١/٤٣﴾..
٥ في أ "الصلاة" وهو تصحيف..
٦ ورجح هذا ابن الجوزي﴿١/٢٦﴾..
وأما مالك وأصحابه فيقولون : إنه لا تقبل للزنديق توبة ويقتل٦. قال مالك رحمه الله تعالى : النفاق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الزندقة فينا اليوم، فيقتل الزنديق إذا شهد عليه بها دون استتابة لأنه لا يظهر ما يستثاب منه، وإنما كف رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين ليسن الحكم لأمته أن الحاكم لا يحكم بعلمه إذ لم يشهد على المنافقين٧.
قال إسماعيل القاضي : لم يشهد على عبد الله بن أبي إلا زيد بن أرقم وحده ولا على الجلاس بن سويد إلا عمير بن سعد ربيبه، ولو شهد على أحد منهم رجلان بكفره ونفاقه لقتل٨.
قال بعض المفسرين : وليس في قول عبد الله بن أبي ﴿ لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ﴾ |المنافقون : ٨ | صريح كفر وإنما يفهم من قوته الكفر٩. وهذا أقوى من الاعتذار عنه بانفراد زيد بالشهادة عليه وفي هذا وهم من وجهين :
أحدهما : أن١٠ دلالة المفهوم من اللفظ كدلالة صريح اللفظ فيما يوجبه من الحكم.
والثاني : أن الله تعالى قد شهد على قائل ذلك بالفكر، فلو شهد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم |به على عبد الله بن أبي|١١ شاهدان لقتله.
واحتج ابن الماجشون لمذهب مالك بقوله تعالى :﴿ لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض ﴾ إلى قوله |تعالى|١٢ ﴿ ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا٦١ ﴾ |الأحزاب : ٦٠، ٦١|.
قال |قتادة|١٣ : معناه إذا هم أعلنوا النفاق١٤. وفي هذه الآية رد على غلاة المرجئة. قال بعض المفسرين : وهم الكرامية١٥، في قولهم : إن مظهر الشهادتين بلسانه يدخل الجنة وإن لم يعتقد ذلك بقلبه تعلقا منهم بقوله صلى الله عليه وسلم في بعض طرق حديث مالك بن الدخشم١٦ : " لا يشهد أحد أن لا إله إلا الله فيدخل النار |وأني رسول الله| " ١٧ وبغير ذلك من ظواهر الأخبار، لأنه تعالى قد نفى الإيمان عن المنافقين بقوله تعالى :﴿ وما هم بمؤمنين ﴾ |البقرة : ٨ |.
٢ يراجع أحكام القرآن للجصاص ﴿١/٣١، ٣٢﴾..
٣ يراجع جامع البيان ﴿١/١٥٢-١٥٨- ط دار ابن حزم﴾..
٤ يراجع لمناقشة هذا المحرر الوجيز ﴿١/١٢٧-١٧٢﴾ ط مصر والجامع لأحكام القرآن للقربي ﴿١/١٩٨- ٢٠٠﴾..
٥ يراجع الأم للشافعي ﴿٦/١٥٦-١٥٨﴾..
٦ رواه مالك في الموطأ ﴿١/٢٤٢/٤٧٤﴾ عن ابن شهاب، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن عبيد الله بن عدي بن الخيار أنه قال: الحديث وفيه قصة.
قال ابن عبد البر: "هكذا رواه سائر رواة الموطأ، عن مالك، إلا روح بن عبادة فانه رواه عن مالك متصلا مسندا" كما في التمهيد ﴿١٠/١٥٠﴾.
وقد تابع مالكا ابن جريح على هذا الحديث مرسلا. وأخرجه عبد الرزاق في المصنف ﴿١٨٦٨٨﴾ ومن طريقه أحمد ﴿٥/٤٣٣﴾ وعبد بن حميد في المنتخب ﴿٤٩٠﴾ وابن حبان ﴿الإحسان: ٥٩٧١﴾ عن معمر، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد، عن عبيد الله بن عدي، عن أبيه مرفوعا.
قال أبو حاتم الرازي: "هذا خطأ إنما هو عن عبيد الله بن عدي عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل.
قلت لأبي الخطأ ممن هو؟ قال: من عبد الرزاق" كذا في العلل لابن أبي حاتم ﴿١/ رقم ٩٠٧﴾..
٧ يراجع الموطأ ﴿٢/٢٨٠/٢١٥١﴾ والمحرر الوجيز لابن عطية ﴿١/١٦٩﴾ والتمهيد لابن عبد البر ﴿١٠/١٥٤﴾..
٨ نقله عنه ابن عطية في المحرر الوجيز ﴿١/١٦٩﴾..
٩ قاله ابن عطية في المصدر السابق ﴿١/١٦٩﴾..
١٠ في ب "إنه"..
١١ سقطت من ب..
١٢ سقطت من ب..
١٣ سقطت من ب..
١٤ نقله ابن عطية في المحرر الوجيز ﴿٢/١٦٩﴾..
١٥ نسبه إلى محمد بن كرام من سجستان توفي سنة ﴿٢٠٠ه﴾ صاحب مذهب وبدعة معروف له عدة أقوال وآراء خالف فيها سلف الأمة. يراجع مقالات الإسلاميين للأشعري ﴿ص١٤١﴾ والملل والنحل للشهرستاني ﴿١/١٠٨-١١٣﴾ ويراجع المحرر الوجيز لابن عطية ﴿١/١٧٠، ١٧١﴾..
١٦ كما في روايتين عند أحمد في المسند ﴿٣/١٧٤﴾ و ﴿٥/٤٤٩﴾..
١٧ زيادة من ب..
في هذه الآية مجاز كثير فإنه جعل الأرض فراشا، والسماء بناء، والفراش والبناء في اللغة يطلقان١على غير ذلك، وإنما يطلق على الأرض فراشا وعلى السماء بناء على التشبيه لهما بالفراش الحسي والبناء الحقيقي. وقد أنكر المجاز في القرآن قوم٢، وهذا وأمثاله يرد قولهم. فلو حلف إنسان أن لا يبيت على فراش ولا يرقد تحت بناء، فبات على الأرض وبات لا يحجبه عن السماء شيء لم يحنث، لأن إطلاق اللفظ ينصرف إلى الحقيقة.
وقوله تعالى :﴿ فأخرج به من الثمرات رزقا لكم ﴾ |البقرة : ٢٢|. اختلف في الرزق ما هو ؟ فذهب الأكثر إلى أنه ما يصح الانتفاع به. وذهبت المعتزلة إلى أنه ما يصح تملكه، وليس الحرام عندهم برزق، وإن عاش الإنسان منه طول دهره. واحتج بعض الناس بهذه الآية على إبطال قولهم لأن الله تعالى أوقع اسم الرزق فيها على ما يخرج من الثمرات قبل التملك لها، أي أخرج منها ما يصلح أن يكون رزقا لكم، وكذلك احتج على إبطال ذلك بعضهم أيضا بقوله تعالى بعد هذا ﴿ كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل ﴾ |البقرة : ٢٤|٣.
قال بعضهم : ودل قوله :﴿ الذي جعل لكم الأرض فراشا ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا ﴾ |البقرة : ٢٤| على الأمر باستكمال حجج العقول وإبطال التقليد.
٢ أنكره جماعة منهم الظاهرية وابن القاص من الشافعية وابن خويز منداد من المالكية وغيرهم. يراجع الأحكام في أصول الأحكام لابن حزم ﴿٤/٢٨-٣٧﴾ والإتقان للسيوطي ﴿٢/٤٧﴾..
٣ يراجع كلام القرطبي في هذا الموضع في الجامع لأحكام القرآن ﴿١/١٧٧، ١٧٨﴾ وابن عطية في المحرر الوجيز ﴿١/٩٢- ط مصر﴾..
هذا هو التحدي الذي لا معنى للمعجزة إلا به، ولا خلاف أنه صلى الله عليه وسلم تحدى العرب بالقرآن لأنه أمر متواتر. وقد قال الله تعالى :﴿ فاتوا بعشر سور مثله مفتريات ﴾ |هود : ١٣|. وقد اختلف في القدر الذي يقع به الإعجاز من القرآن فذهب بعض المعتزلة إلى أنه يتعلق١بجميع القرآن، وهذا قول ترده الآيتان المذكورتان. وقال القاضي٢ : يتعلق الإعجاز بسورة وألزم ذلك في سورة الكوثر و الإخلاص تشبثا بظاهر قوله تعالى ﴿ بسورة من مثله ﴾ وقال في موضع آخر من كتبه، وارتضاه أبو إسحاق. وإنما يتعلق بسورة يعد قدرها في الكلام بحيث يتبين فيه تفاضل رتب قوى البلاغة، وهو لا يتبين إلا فيما طال بعض الطول، ولست أقطع في الكوثر وما قاربها بنفي ولا إثبات في إعجازها. وصحح بعض المتأخرين هذا القول. واختلف في الضمير في قوله :﴿ من مثله ﴾ على من يعود ؟ فقيل : يعود على القرآن، وهو المعبر عنه بما في قوله :﴿ مما نزلنا ﴾. واختلف الذين ذهبوا إلى هذا في معنى المماثلة فقيل : معناه مثله في قدمه أو في غيوبه وصدقه، وهذان القولان راجعان إلى مذهب من يرى أن تحدي النبي صلى الله عليه و سلم إنما وقع بالكلام القديم الذي هو صفة للذات وأن العرب كلفت من ذلك بما لا يطاق٣. وقيل : معناه مثله في وصفه ونظمه وفصاحته. وهذا القول راجع إلى مذهب من يرى التحدي إنما وقع باللفظ. والذين ذهبوا إلى هذا اختلفوا في المعجز منه ما هو ؟ لأن ألفاظه احتوت على وصف محكم ونظم وفصاحة، فمنهم من علق الإعجاز بالمعاني الثلاثة، ومنهم من علقه بالوصف، ومنهم من علقه بالنظم، ومنهم من علقه بالفصاحة. ويحتمل أن تتأول الآية على كل واحد من هذه الأقوال. وتعلق الإعجاز بالمعاني الثلاثة هو الذي عليه اختاره المتأخرون من أهل السنة٤. قال بعضهم : وهو الذي عليه الجمهور و الحذاق وهو الصحيح في نفسه ولم يكن من قدرة العرب أن تحيط بمثل ذلك فتأتي به خلافا لمن قال : إن العرب في قدرتها أن تأتي بمثله، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم صرفوا عن ذلك وعجزوا عنه٥، وهو قول باطل يرده الاعتبار بما جبل الناس من الذهول والجهل والنسيان، فكيف كان يصح منهم أن يأتوا بمثله مما ذكر حتى لا يقع منهم فيه خطأ في تلك الوجوه. وقيل الضمير في قوله ﴿ من مثله ﴾ عائد على ﴿ عبدنا ﴾ وهو محمد صلى الله عليه وسلم٦. ثم اختلفوا فقالت طائفة : أي أمي صادق مثله.
وقالت طائفة : من ساحر أو كاهن أو شاعر مثله على زعمكم أيها المشركون.
وقيل : المراد بمثله الكتب القديمة : التوراة والإنجيل والزبور.
٢ هو أبو بكر بن الطيب الباقلاني المتوفى ﴿٤٠٣هـ﴾ قاله في كتابه إعجاز القرآن ﴿المفرد: ص٢٥٤﴾..
٣ يراجع المحرر الوجيز ﴿١/٣٨ و ١٤٤﴾..
٤ يراجع الشفاء لعياض ﴿١/٥١١-٥١٨- ط مؤسسة علوم القرآن﴾ وتفسير ابن كثير ﴿١/٦١﴾ وإعجاز القرآن للباقلاني ﴿١/٦٣-٧٠- هامش الإتقان﴾..
٥ هذا الرأي اختاره النظام من المعتزلة وتبعه على ذلك طائفة من أهل العلم منهم ابن حزم.
يراجع الملل والنحل ﴿١/٥٦، ٥٧﴾ والفصل في الملل و الأهواء والنحل لابن حزم ﴿٣/٢٥{٣١﴾..
٦ بنحوه في المحرر الوجيز لابن عطية ﴿١/١٤٣، ١٤٤﴾ والمؤلف ينقل عنه ولا يسميه في الغالب.
ويراجع جامع البيان ﴿١/٢١٦، ٢١٧- ط ابن حزم﴾ ومعالم التنزيل ﴿١/٧٢﴾ وتفسير ابن كثير ﴿١/٦١﴾..
في هذا دليل صحيح أن النار مخلوقة بعد، ورد على من قال إنها لم تخلق حتى الآن، وهو قول بعض المعتزلة، وسقط فيه منذر بن سعيد١.
وكذلك قوله تعالى في الجنة في موضع آخر :﴿ أعدت للمتقين ﴾ |آل عمران : ١٣٣| دليل على أن الجنة مخلوقة الآن خلافا لمن قال فيها مثل قوله في النار٢. ودليل خطاب هذه الآية ﴿ أعدت للكافرين ﴾ أن العصاة لم تعد لهم النار، لكنه دليل لم يقل به أحد. واختلف في تأويله فقال بعضهم : هذه النار التي وقودها الناس والحجارة، هي نار الكافرين خاصة ونار العصاة غيرها. وقال الجمهور : بل الإشارة إلى جميع النار لا إلى نار مخصوصة، وإنما خص الكافرون بالذكر ليحصل المخاطبون في الوعيد إن فعلهم كفر، فكأنه قال : أعدت لمن فعل فعلكم وذلك ليس يقتضي ذلك أنه لا يدخلها غيرهم.
٢ إشارة إلى رأي منذر بن سعيد في ذلك وساق ابن القيم كلامه من تفسيره في حادي الأرواح ﴿ص٧٥-٧٩﴾ وذكر ابن كثير في البداية أن لمنذر تأليفا في ذلك ﴿١١/٣٤٧﴾..
قال أبو الحسن علي بن محمد١ : هو دليل على أنه هو أول مبلغ إليهم. وقال العلماء : إذا قال : أي عبد بشرني بولادة فلانة فهو حر أن الأول من المبشرين هو المعتق دون الثاني، لأن البشارة حصلت بخبره دون غيره. وهو ما يحصل به الاستبشار ويتبين على بشرة الوجه ولو قال : أي عبد أخبرني بولادتها اعتق الثاني مثل الأول، ولذلك يقال : ظهرت تباشير الأمر لأوائله. ولا تطلق البشارة في الشر إلا مجازا. وقيل : هو عام فيما يسر ويغم٢، لأن أصله فيما يظهر أولا في بشرة الوجه من سرور أو غم، إلا أنه أكثر فيما يسر، فصار الإطلاق أخص به منه بالشر. وذكر غيره في البشارة أنها لا تقال في الشر إلا مقيدة٣، كقوله :﴿ فبشرهم بعذاب أليم ﴾ |آل عمران : ٢١|.
وقوله تعالى :﴿ الذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾ فيه دليل أن الإيمان غير العمل خلافا لمن يقول : إن الإيمان بمجرده يقتضي أعمال الطاعات٤.
٢ في ن "فيما سر وغم"..
٣ يراجع في هذا مقاييس اللغة لابن فارس ﴿بشر {١/١٥١﴾ وكلام الراغب الأصبهاني في المفردات ﴿ص٦١-٦٣﴾ وزاد المسير ﴿١/٥٢﴾..
٤ كما هو مذهب المرجئة يراجع: مقالات الإسلاميين ﴿ص١٣٢﴾ ويراجع كلام ابن عطية في المحرر الوجيز ﴿١/١٩٨﴾..
اختلف هل هو حكاية قول الكفار أو هو خبر من الله تعالى ؟ وعلى هذا القول ففيه الحجة البالغة لأهل السنة في أن الهدى والضلال من الله تعالى خلافا للمعتزلة في قولهم : إن الله لا يخلق الضلال ولا يريده ولم يختلف أن قوله :﴿ وما يضل به إلا الفاسقين ﴾ من قول الله تعالى١.
اختلف في تعيين العهد المذكور فقيل : هو ما أخذ على بني آدم حين أخرجهم من ظهر أبيهم كالذر، وقيل : هو ما أخذه الله تعالى على الناس بوساطة١ الرسل من التوحيد و العبادة. وقيل : ما أخذه الله تعالى على أهل الكتاب من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم. وقيل : هو ما نصبه الله تعالى من الأدلة على توحيده، فهي كالعهد. وقيل : هي فيمن آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم ثم كفر به٢.
و النظر في هذه الآية أن لا يخص العهد فيها بشيء دون شيء، وتحمل على إطلاقه في كل عهد إلا ما خصصه الشرع بإجازة نقضه، كالحنث في اليمين بالله، لان الأيمان و النذور من العهود. واختلف في العهد هل يكون يمينا أم لا ؟
٢٧ – وقوله تعالى :﴿ ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ﴾ |البقرة : ٢٧|.
اختلف فيه، فقيل : أراد صلة الرحم، وقيل : أراد الدين و العبادة وإقامة الشرائع. و النظر أن تحمل الآية على كل ما جاء في الشرع الأمر بصلته، كصلة الرحم، وإتمام عبادة يدخل فيها الإنسان ونحو ذلك٣. وقد اختلف فيمن دخل في عبادة تطوع كصوم، وصلاة ونحو ذلك هل له أن يقطع ذلك أم لا٤ ؟
٢٧ – وقوله تعالى :﴿ ويفسدون في الأرض ﴾ |البقرة : ٢٧|.
وجوه الفساد لا تنحصر، وقد فسرت الشريعة ما هو فساد مما ليس بفساد. ويؤخذ من هذه الآية أن من نقض عهدا، أو قطع ما أمر الله أن يوصل أو أفسد في الأرض أنه يطلق عليه اسم الفسق. وأصله الخروج من الشيء، يقال : فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها، وفسقت الفأرة إذا خرجت من جحرها، كذا هو في اللغة٥، وهو في الشرع الخروج من الطاعة إما إلى كفر وإما إلى عصيان.
٢ يراجع حول هذه الأقوال: جامع البيان ﴿١/٢٣٨، ٢٣٩﴾ والمحرر الوجيز ﴿١/٢٠٩﴾ وزاد المسير ﴿١/٥٦﴾ وتفسير ابن كثير ﴿١/٦٧- ط دار الفكر- بيروت﴾..
٣ قال ابن كثير في تفسيره ﴿١/٦٧﴾: "وقيل المراد أعم من ذلك فكل ما أمر به الله بوصله وفعله فقطعوه وتركوه" ورجحه قبله ابن عطية في المحرر الوجيز ﴿١/٢١٠﴾..
٤ يراجع لهذا جامع البيان ﴿١/٢٤٢، ٢٤٣﴾ وزاد المسير ﴿١/٥٧﴾ وتفسير ابن كثير ﴿١/٦٧﴾..
٥ يراجع مفردات الأصبهاني ﴿ص٥٧٢﴾ ولسان العرب ﴿فسق﴾ ﴿٥/٣٤١٣ – ط دار المعارف مصر﴾..
قوله :﴿ لكم ﴾ قيل : معناه لتعتبروا، ويدل عليه ما قدم من ذكر العبر. وقيل : معنى قوله ﴿ لكم ﴾ إباحة الأشياء وتمليكها، حتى قال بعضهم : هذا يدل على إباحة الأشياء في الأصل إلا ما ورد فيه دليل الخطر.
وقال ابن عطية في " تفسيره " : " هذا قول من يقول : إن الأشياء قبل ورود النهي على الإباحة " ثم ساق الأقوال الثلاثة في ذلك هل هي على الإباحة أو الحظر أو الوقف١ ؟
وهذا وهم، لأن الذين اختلفوا ﴿ الخلاف الذي ذكره إنما اختلفوا ﴾ ٢ فيما لم يرد فيه سمع ما حكمه في العقل قبل أن يرد السمع، والحجة بالآية على قول الإباحة وهم، لأن الآية نفسها هي الشرع. فإن دلت على الإباحة، فالشرع أعطى الإباحة لا العقل، وهي مسألة ثانية هل الأشياء المسكوت عنها في الشرع – وهي التي لم يرد فيها حكم ولا دليل – محمولة على الإباحة بهذا الدليل العام، أم هي موقوفة على دليل يخصها ؟
فحكى القاضي أبو محمد عبد الوهاب، عن محمد بن عبد الحكم، وبعض متأخري أصحابه : أن الشرع قد قرر أن الأشياء في الأصل على الإباحة، إلا ما استثناه الدليل. وقد قال بهذا المذهب رجال من أهل العلم. وأكثر العلماء على خلافه، وأنه لا يعلم حكم شيء إلا بدليل يخصه أو يخص نوعه٣.
وفائدة هذا الاختلاف أنه إذا وقع الاختلاف في حكم في الشرع هل هو على الحظر أو على الإباحة ؟ حكم فيه هؤلاء بأنه على الإباحة، لأن الشرع قد ورد بذلك فيه فصار كالعقل عند القائلين بالإباحة. وهؤلاء ليسوا يقولون إن الأشياء في العقل على الإباحة، ولكن زعموا إن السمع أحل جميعها ثم استثنى السمع سائر ما حرم، فمتى لم ينص على تحريم كان الأصل تحليله بالشرع، لا بحكم العقل. واحتجوا بقوله تعالى :﴿ قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده ﴾ |الأعراف : ٣٢| وبقوله :﴿ قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما ﴾ الآية |الأنعام : ١٤٥| وبحديث سلمان " الحلال ما أحل الله والحرام ما حرم الله، وما سكت عنه فهو مما عفي عنه " ٤. ومثل ما ذكره عبد الوهاب في هذه المسألة إذا تعارض عند المجتهد دليلان في حظر وإباحة، ولم يكن ترجيح. وكذلك موجب ومبيح، وكذلك محرم وموجب، منهم من يميل إلى الإباحة كما قدمنا، ومنهم من يميل إلى الموجب، ومنهم من يميل إلى الحظر. وقد روي مثل ذلك عن مالك في مسألة المدر وأنه لا يجوز بيعه، ومنهم من يتوقف حتى يأتي دليل آخر، وكذلك يتصور في كل تعارض من الوجوه المذكورة الثلاثة الأقوال.
٢٩ – قوله تعالى :﴿ ثم استوى إلى السماء ﴾ الآية |البقرة : ٢٩|.
هذه ﴿ ثم ﴾ إن حملت على بابها من الترتيب اقتضت أن الأرض وما فيها خلق قبل السماء. وقد قال بذلك قوم. وقوله تعالى في سورة النازعات بعد ذكر خلق السماء ﴿ والأرض بعد ذلك دحاها٣٠ ﴾ |النازعات : ٣٠| يقتضي ظاهرها أن السماء خلقت قبل الأرض، وقد قال به قوم٥. وكذلك ما في الأرض على ما في سورة فصلت٦. و الصواب أن يجمع بين الآيات، فيقال : إن الأرض خلقت قبل السماء على ما في سورة البقرة، ثم خلقت السماء، ثم دحيت الأرض بعد خلق السماء على ما في سورة النازعات٧، وفصلت٨. ويحتمل أن تكون ﴿ ثم ﴾ في هذه الآية لترتيب الأخبار لا لترتيب الأمر في نفسه. وإذا كان هذا لم يعطيا أن السماء خلقت بعد الأرض، وإذا لم تقتض ذلك أمكن أن تحمل الآية الأخرى على ظاهرها فيصح القول الآخر. والأمر يحتمل ولا قاطع فيه من الشرع. وقد جاءت بذلك أخبار آحاد. وإذا لم يكن في الترتيب خبر متواتر و الآيات محتملة فلا قاطع في المسألة. ويحتمل أن تكون الأرض و السماء قد خلقهما الله تعالى خلقا واحدا دون تقدم ثم دحيت الأرض بعد السماء، ودحيت قبل السماء. ويترتب ما في الآيتين على هذا ويخرج خروجا حسنا و الله تعالى أعلم، وهو قدير على ما يشاء إذ كل ذلك جائز في العقل.
٢٩ – وفي هذه الآية قوله تعالى :﴿ ثم استوى إلى السماء ﴾ |البقرة : ٢٩|.
والاستواء يوهم تكييفا وتشبيها. فمن الناس من استمر على هذا التشبيه واعتقده تشبثا بالظاهر وهم الكرامية وجماعة من أهل الحديث٩ وغيرهم. ومنهم وهم الجمهور من نفى التشبيه والتكييف. واختلفوا في هذه الآية وما جانسها فمنهم من رأى تأويلها وصرفها إلى معنى لا يوهم تشبيها. ومنهم من لم ير لتأويلها وجها وقال : تمر كما جاءت من غير اعتقاد تشبيه ولا تكييف. والذين ذهبوا إلى تأويلها اختلفوا في التأويل اختلافا بحسب ما يحتمله اللفظ في كلام العرب وإطلاقهم فقيل : معنى استوى في هذه الآية استولى١٠ وأنشدوا :
قد استوى بشر على العراق١١ ***...........................
وقيل : علا أمره وقدرته وسلطانه وهو اختيار الطبري١٢. وقال ابن كيسان : معناه قصد إلى السماء أي بخلقه واختراعه١٣. وقيل : معناه كمل صنعه فيها كما تقول : قد استوى الأمر. وقيل : معناه أقبل. وحكى الطبري١٤ عن بعضهم هو الدخان.
ولتحقيق القول الصحيح من هذه الأقوال موضع غير هذا وهو في كتب الكلام وليس كل ما قاله المفسرون صحيحا، لأن كثيرا منهم إنما ينظرون إلى المعنى ولا يلتفتون إلى الألفاظ. وتصحيح اللفظ على المعنى أولى ما اعتبر. وقد رأيت بعضهم أحصى في قوله تعالى :﴿ الرحمان على العرش استوى ٥ ﴾ |طه : ٥| أكثر من عشرة أقوال. وإذا حققت لم يصح منها إلا اليسير١٥.
٢ زيادة من ن..
٣ يراجع في هذا الأمر الأحكام في أصول الأحكام لابن حزم ﴿١/٥٢-٦٠﴾ وأحكام الفصول للباجي ص ٦٨١_٦٨٦ و المستصفى من علم الأصول للغزالي ﴿٢/٤٠٦-٤٣٣﴾..
٤ أخرجه بنحوه الترمذي ﴿١٧٢٦﴾ وابن ماجه ﴿٣٣٦٧﴾ والعقيلي في الضعفاء ﴿٢/١٧٤﴾ والطبراني في المعجم الكبير ﴿٢/ رقم ٦١٤٢﴾ وابن عدي في الكامل ﴿٣/١٢٦٧﴾ والحاكم في المستدرك ﴿٤/١١٥﴾ والبيهقي في السنن ﴿١٠/١٢﴾ والمزي في تهذيب الكمال ﴿١٢/٣٣٥﴾ جميعهم من طريق سيف بن هارون، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان الفارسي قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن السمن والجبن والفراء؟ الحديث بنحوه عندهم إلا ابن عدي فإنه ذكر مثل لفظ المؤلف رحمه الله.
وإسناد الحديث ضعيف. قال الترمذي: "هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه. وروى سفيان وغيره عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان، عن سلمان قوله، وكأن الحديث الموقوف أصح. وسألت البخاري عن هذا الحديث فقال: ما أراه محفوظا".
وقال أبو حاتم الرازي: "هذا خطأ رواه الثقات عن التيمي، عن أبي عثمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل ليس فيه سلمان وهو الصحيح" كذا في العلل لابن أبي حاتم ﴿٢/ رقم ١٥٠٣﴾.
وعلة هذا الإسناد سيف بن هارون فإنه ضعيف كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر ومن قبله غير واحد من النقاد. فيراجع تهذيب الكمال للمزي ﴿١٢/ رقم ٢٦٧٩﴾ والميزان للذهبي ﴿٢/٢٥٨، ٢٥٩﴾ والتقريب ﴿ص١٤٢﴾، لكن صحح العلماء حديث أبي ثعلبة بمعناه رواه الدارقطني وغيره فيراجع كلام الحافظ ابن حجر في الفتح ﴿١٣/٢٦٦﴾..
٥ منهم الإمام الطبري كما في جامع البيان ﴿١/٢٥٢-٢٥٧﴾ ويراجع معالم التنزيل ﴿١/٧٨﴾ وزاد المسير ﴿١/٥٨﴾ وتفسير ابن كثير ﴿١/٦٨، ٦٩﴾..
٦ في ن "المؤمن"..
٧ ثبت عن ابن عباس أنه قال نحو ذلك فيما رواه البخاري في صحيحه ﴿٨/٥٥٥ – فتح﴾ والطبري في تفسيره ﴿١/٢٥٦﴾ ثم قال أبو جعفر ابن جرير: "فمعنى الكلام إذا: هو الذي أنعم عليكم، فخلق لكم الأرض جميعا وسخره لكم تفضلا منه بذلك عليكم، ليكون لكم بلاغا في دنياكم، ومتاعا إلى موافاة آجالكم، ودليلا لكم على وحدانية ربكم. ثم علا إلى السماوات السبع وهي دخان، فسواهن وحبكهن، وأجرى في بعضهن شمسه وقمره ونجومه. وقدر في كل واحدة منهن ما قدر من خلقه" وهو الذي صرح به الطبري قال عنه ابن كثير في تفسيره ﴿١/٦٩/: "وهذا ما لا أعلم فيه نزاعا بين العلماء...".
٨ وفي ن "المؤمن"..
٩ لا أعلم أن طائفة من أهل الحديث استمرت على التشبيه وليته سمى لنا منهم أحدا، بل المعروف عنهم الأخذ بظاهر هذه الآية ونحوها دون تأويل أو تعطيل أو تشبيه أو تكييف..
١٠ وهو تفسير الجهمية ثم المعتزلة، وقلدهم في ذلك متكلمو الأشاعرة وغيرهم بدعوى التنزيه وهو سقوط في تعطيل الصفات والتأويل المذموم..
١١ وعجزه: من غير سيف ودم مهراق. والبيت للأخطل الكبير كما في تاج العروس {١٠/١٨٩﴾ وهو أيضا في اللسان ﴿سوا﴾ ﴿٣/٢١٦٣﴾..
١٢ وهذه زلة قلم من المؤلف رحمه الله تعالى وما كان للإمام الطبري وهو الأثري المنافح عن عقيدة أهل الحديث أن يتأول هذا التأويل الخاطئ كيف يكون ذلك وهو يقول ﴿١/٢٥٢﴾: "وأولى المعاني بقول الله جل ثناؤه: ﴿ثم استوى إلى السماء فسواهن﴾: علا عليهن وارتفع فدبرهن بقدرته وخلقهن سبع سماوات" وسبب هذا الخطأ سوء النقل أو عدم رجوع المؤلف إلى الأصل وكأني به نقل كلام الطبري عن ابن عطية في تفسيره ﴿١/٢١٤﴾ وهو الذي فسر كلام ابن جرير بغير مقصده ثم جاء ابن الفرس فنقل الكل باعتباره تفسيرا للطبري للآية والله أعلم..
١٣ حكاه ابن عطية عنه في المحرر الوجيز ﴿١/٢١٤﴾..
١٤ جامع البيان ﴿١/٢٥١﴾..
١٥ كان الأولى بالمؤلف رحمه الله وهو مالكي انتهاج نهج الإمام مالك في تفسير الآية تفسيرا يتماشى مع نهج الصحابة والسلف الصالح ولا يحيد إلى نهج المتكلمين فقد صح عن الإمام قوله: "الاستواء منه غير مجهول، والكيف منه غير معقول، والسؤال عنه بدعة.." قال القاضي عبد الوهاب في شرح عقيدة ابن زيد ﴿ص٢٧﴾: "واعلم أن الوصف له تعالى بالاستواء إتباع للنص، وتسليم للشرع، وتصديق لما وصف نفسه تعالى به، ولا يجوز أن يثبت له كيفية لأن الشرع لم يرد بذلك، ولا أخبر النبي-عليه السلام- فيه بشيء، ولا سألته الصحابة عنه.."..
وهنا مسألة اختلف الناس فيها، هل الصالحون من الناس و الأنبياء أفضل من الملائكة ؟ أم الملائكة أفضل من كل خلق٤ ؟ والذي تدل عليه هذه الآية أن الملائكة أفضل، ألا ترى إخبار الله تعالى إياهم بما أراد أن يخلق وإدلالهم في القول وإخبارهم عن أنفسهم بالتسبيح والتقديس، وما رد تعالى عليهم شيئا من ذلك، ويدل أيضا قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ﴿ قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك ﴾ |الأنعام : ٥٠|.
٢ * في ن "يجعل"..
٣ المصدر السابق ﴿١/١٧٢﴾..
٤ يراجع كلام القرطبي في الجامع لأحكام القرآن ﴿١/٢٩٢-٢٩٤﴾.
.
احتج قوم بهذه الآية على أن اللغة كلها توقيف من الله تعالى، وردوا بذلك على من قال : إنها كلها اصطلاح من أصحاب اللغة وعلى من قال أولها توقيف أي قدر ما يقع به التفاهم، ثم ما بعد ذلك اصطلاح وهذه الأقوال الثلاثة كلها جائزة عقلا، وليس على واحد منها دليل قاطع في الشرع. والآية التي احتجوا بها محتملة، فلا حجة فيها. والذين ذهبوا إلى أنها توقيف من الله تعالى، واحتجوا بالآية منهم من قال : إن تعليم آدم إياها المذكور في الآية إنما هو إلهام علم ضرورة وقال قوم : بل تعليم بقول، فإما بواسطة ملك أو بتكلم قبل هبوطه الأرض فلا يشارك موسى صلى الله عليه وسلم في خاصته، ووجه احتمالات هذه الآية التي ترفع الحجة بها أن الأسماء قد قال قوم إنه أراد بها التسميات، وهو قول المحتجين بها. وقال قوم : أراد الأشخاص أنه عرضها عليه. وقال أكثر العلماء : علمه تعالى منافع كل شيء، ولما يصلح١.
واختلف أهل القول الأول أي الأسماء علمه ؟ فقال قوم علمه جميع الأسماء بكل لغة وغلط في هذا قوم حتى قال ابن جني٢ عن أبي علي الفارسي : علم الله آدم كل شيء حتى أنه كان يحسن من النحو مثل ما أحسن سيبويه.
واختلفوا هل عرض عليه الأشخاص عند التعليم أم لا ؟ وقال قوم : لم يعلمه جميع الأسماء وإنما علمه أسماء مخصوصة. واختلفوا في تعيينها. فقال قوم : أسماء النجوم. وقال قوم : أسماء الملائكة. وقال قوم : أسماء ذريته فقط، وقال الطبري٣ : علمه أسماء ذريته والملائكة. واختار هذا ورجحه لقوله ﴿ ثم عرضهم على الملائكة ﴾ |البقرة : ٣١|٤ وحكى النقاش٥، عن ابن عباس : أن الله تعالى كلمه كلمة واحدة عرف منها جميع الأسماء.
وقال قوم : علمه أسماء الأجناس.
وقال ابن قتيبة : علمه أسماء ما خلق في الأرض. وقال قوم : علمه الأسماء بلغة واحدة.
وقوله :﴿ ثم عرضهم على الملائكة ﴾ |البقرة : ٣١| يقوي قول من يقول إنما أراد بالأسماء الأشخاص، ويأتي على هذا أنها التي عرض على الملائكة. ومن الناس من قال : إن لفظ الأسماء يدل على أشخاص، فلذلك ساغ أن يقول الأسماء، ثم عرضهم، وقد قرئ " ثم عرضها " ٦ وقرئ " ثم عرضهن " ٧ وهذا يوافق القول بأنها التسميات ويأتي عليه القول بأن الذي عرض على الملائكة الأسماء دون الأشخاص.
وقوله تعالى :﴿ أنبئوني بأسماء هؤلاء ﴾ |البقرة : ٣١| يؤكد أن الذي عرض على الملائكة الأشخاص، وقد استدل قوم بهذا على جواز تكليف ما لا يطاق، قالوا لأنه تعالى علم أنهم لا يعلمون، ثم أمرهم أن ينبؤوه٨ بها. وقال آخرون : لا دليل فيه لأنه ليس على جهة التكليف، وإنما هو على جهة التقرير و التوقيف. وهذا القول غير بين، والذي يظهر لي فيه أنه أمر تعجيز لأنه تعالى أراد أن يريهم عجزهم عن معرفة الغيب. وقد استدل قوم أيضا بهذه الآية على أن الاسم هو المسمى. ذهب إلى ذلك المهدوي٩، ومكي١٠ وغيرهما. وليس فيها دليل لما قدمته من الاحتمالات التي في الآية.
وفي هذه الآية عندي رد على المنجمين و الكهان، ومن يدعي معرفة شيء من الغيب، لأن الملائكة إذا لم تعلم إلا ما علمها الله تعالى فالآدميون أحرى١١، وبهذا يبطل قول الإسلاميين من المنجمين الذين يقولون لا خالق إلا الله عز وجل، وإنما النجوم دلالات على الغيوب وعادات أجراها الله تعالى كما أجرى الغيوم و السحب الثقيلة دلالة على الأمطار، وإن كانت ربما خابت وبهذه ونحوه رد ابن الطيب أقوالهم. وكذا عندي من هذا قرعة الرمل و الكتف ونحو ذلك. وإن كان قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في " صحيح مسلم " ١٢ " كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك " فاختلف هل هذا على جهة التصويب له ؟ أو على جهة الرد والتخطئة لمن انتحله١٣ ؟.
٢ كما في المحرر الوجيز '١/ ٢٢٣).
٣ جامع البيان (١/٢٨٤، ٢٨٥).
٤ قال ابن كثير في تفسيره ﴿١/٧٤﴾: "والصحيح أنه أسما الأشياء كلها ذواتها وصفاتها وأفعالها كما قال ابن عباس- ثم ساق حديث الشفاعة الطويل قال – ووجه إيراده هاهنا والمقصود منه قوله –عليه الصلاة والسلام-: "فيأتون آدم فيقولون: أنت أبو الناس خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء" فدل هذا على أنه علمه أسماء جميع المخلوقات ولهذا قال: ﴿ثم عرضهم على الملائكة﴾ يعني المسميات.." ويراجع الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ﴿١/٢٨١، ٢٨٢﴾..
٥ حكاه عنه ابن عطية في المحرر الوجيز ﴿١/٢٢٣﴾..
٦ هي قراءة ابن مسعود كما في تفسير الطبري ﴿١/٢٨٥﴾ والمحرر الوجيز لابن عطية ﴿١/٢٢٣﴾..
٧ هي قراءة أبي بن كعب كما هو عند الطبري ﴿١/٢٨٥﴾ والمحرر الوجيز ﴿١/٢٢٣﴾..
٨ في ن "أن ينبؤوا به"..
٩ نقله ابن عطية في المحرر الوجيز ﴿١/٢٢٤﴾..
١٠ في تفسيره ﴿ج ا /ق ٢٥/أ﴾ ونفله ابن عطية ﴿١/٢٢٤﴾.
.
في هذه ما يدل على أن مجرد الأمر لا يحمل على الإباحة لأنه تعالى وصف إبليس بأنه أبى من السجود الذي أمر به، ولم ير له عذرا باحتمال الإباحة، ولو لم يكن نفس الأمر يقتضي الامتثال لكان له عذر. وفيه أيضا دليل على أنه لا يحمل على الندب بل يحمل على الوجوب لأن الله تعالى قد كفره بمخالفة الأمر، وإذا بطل قول الإباحة وقول الندب، بطل قول الوقف. وإبليس لم يختلف أنه كان مؤمنا حتى عصى الأمر واستكبر، إلا أنه اختلف هل كان من الملائكة أم لا ؟ فذهب الجمهور إلى أنه كان من الملائكة و أن الاستثناء متصل، قالوا كان خازنا وملكا على سماء الدنيا واسمه عزازيل١ قاله ابن عباس٢.
وقال ابن زيد٣، والحسن٤ : هو أبو الجن كما أن آدم أبو البشر، ولم يك قط ملكا، وروي أيضا نحوه عن ابن عباس٥، قال٦ : واسمه الحارث.
وقال شهر بن حوشب٧ : كان من الجن الذين كانوا في الأرض وقاتلهم الملائكة فسبوه صغيرا وتعبد مع الملائكة، وخوطب معها. فالاستثناء على هذا منقطع. قال بعض من ذهب إلى هذا القول : كيف يكون من الملائكة وقد عصى أمر ربه والله تعالى يقول في صفة الملائكة :﴿ لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ﴾ |التحريم : ٦| ورجح الطبري٨ القول الأول وقال : ليس في خلقه من نار ولا في تركيب الشهوة فيه والنسل حين غضب عليه ما يرد أنه كان من الملائكة. وقوله عز وجل :﴿ كان من الجن ففسق عن أمر ربه ﴾ |الكهف : ٥٠|. يتخرج على أنه عمل عملهم، فكان منهم في هذا، أو على أن الملائكة تسمى جنا لاستتارها، قال تعالى :﴿ وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ﴾ |الصافات : ١٥٨| فإن قلتم : إنه قد كان مؤمنا فما معنى قوله تعالى :﴿ وكان من الكافرين ﴾ |البقرة : ٣٤| ؟ فالجواب أنه اختلف فيه فقيل : معناه من العاصين، وفي هذا نظر، وقيل : معناه وصار من الكافرين. قال ابن فورك : هذا خطأ ترده الأصول٩. وقيل : معناه أنه كان في علم الله أنه سيكفر، وقيل : قد كان تقدم من الجن كفر فشبهه الله تعالى بهم، وجعله منهم لما فعله من الكفر فعلهم. واختلف هل كفر إبليس جهلا أو عنادا على قولين بين أهل السنة، ولا خلاف أنه كان عالما بالله تعالى قبل كفره، وقد أنكر كفر العناد قوم من أهل السنة وأجازه قوم وصححوه.
٢ ذكره ابن عطية في المحرر الوجيز ﴿١/١٧٨﴾ والمؤلف نقل كلامه برمته إلى نهاية الكلام على حقيقة إبليس كما ستأتي الإشارة إلى ذلك.
وهذا القول رواه الطبري عنه أيضا في تفسيره ﴿١/٢٩٥﴾ ويراجع معالم التنزيل ﴿١/٨١، ٨٢﴾ وتفسير ابن كثير ﴿١/٧٨، ٧٩﴾..
٣ يراجع جامع البيان ﴿١/٢٩٧، ٢٩٨ – ط ابن حزم﴾..
٤ يراجع جامع البيان ﴿١/٢٩٧، ٢٩٨ – ط ابن حزم﴾..
٥ المصدر السابق ﴿١/٢٩٩﴾..
٦ في أ "قالوا"..
٧ بنحوه في المصدر السابق ﴿١/٢٩٧﴾..
٨ يراجع جامع البيان ﴿١/٢٩٧﴾ _ ط دار ابن حزم}..
٩ يراجع كلام ابن عطية في المحرر الوجيز ﴿١/٢٣٢-٢٣٤﴾ والجامع لأحكام القرآن للقرطبي ﴿١/٢٩٤_٢٩٦﴾..
٣٥ – قوله تعالى :﴿ ولا تقربا هذه الشجرة ﴾ |البقرة : ٣٥|.
نهي وليس فيه دليل على أن مجرده يحمل على التحريم أو الكراهة، لأنه قد اقترنت به قرينة تدل على أن المراد به التحريم لقوله تعالى :﴿ فتكونا من الظالمين ﴾ |البقرة : ٣٥| وقد ذكر القاضي أبو محمد في " تفسيره " ١ أن في الآية ما يدل على أنه على التحريم، وهو وهم، ولا خلاف أن إبليس متولي غواية٢ آدم. واختلف في الكيفية، فقيل : دخل الجنة بعد إخراجه منها وأغواهما مشافهة. وقيل : لم يدخل الجنة إلا آدم بعد أن أخرج منها، وإنما أغوى آدم سلطانه ووسواسه الذي أعطاه الله إياه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم " ٣ وفي هذه الآية ما يبطل قول من أنكر الجن و الشياطين. وفيه أيضا الرد على من أنكر أن الجنة مخلوقة الآن، وزعم أنها ستخلق بعد. وقد ذكر بعضهم الخلاف في الجنة التي أسكنها آدم وزوجته هل هي جنة الخلود، أو جنة أعدت لهما ؟ قال : وذهب من لم يجعلها جنة الخلد إلى أن من دخل جنة الخلد لا يخرج منها، وهذا لا يمتنع إلا أن السمع ورد أن من دخلها مثابا لا يخرج منها، وأما من دخلها ابتداء كآدم فغير مستحيل خروجه منها. ورأيت ابن حزم قد ذكر وزعم أن منذر بن سعيد ذهب إليه٤.
وقد استدل قوم بقصة آدم في أكله من الشجرة بعد النهي على جواز وقوع المعاصي من الأنبياء عليهم الصلاة و السلام واحتجوا بقوله تعالى :﴿ وعصى آدم ربه فغوى ﴾ |طه : ١٢١| وهي مسألة قد اختلف فيها اختلافا كثيرا لأشياء وردت عن قوم من الأنبياء عليهم الصلاة و السلام توهم ذلك، وقد اعتذر قوم عنها، فمما اعتذر به في قصة آدم عليه السلام أن قيل : إنما أكلا من غير الشجرة التي أشير إليها، فلم يتأولا النهي واقعا على جميع جنسها. وقال آخرون : تأولا النهي على الندب٥. وقال ابن المسيب : إنما أكل آدم من بعد أن سقته حواء الخمر، فكان في غير عقله٦. وأما الذين جوزوا المعاصي، فقالوا : إنما أكلها عامدا بخلاف النهي، وما وجد إلى التأويل سبيل فهو الوجه. ووجه التأويل في قوله تعالى :﴿ وعصى آدم ربه فغوى ﴾ |طه : ١٢١| أي فعل فعلا صورته صورة المعصية لأنه في مقابلة النهي، فهو من حيث أنه خلاف الأمر معصية وغواية فإن كان عن عمد وذكر فهو الحقيقة، وإن كان عن تأويل أو عن نسيان أو ذهول ففي إطلاقه تجوز وذهول، وهو الذي يمكن أن يقع من الأنبياء عليهم السلام ويؤاخذون به إذا وقع منهم.
٣٥- وقوله تعالى :﴿ ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ﴾ |البقرة : ٣٥|.
نهي عن القرب، وجعله كناية عن الأكل٧ لأن المعنى في الآية ولا تقرباها بأكل. وقال بعضهم : إن الله تعالى لما أراد النهي عن أكل الشجرة نهي عنه بلفظ يقتضي الأكل وما يدعو إليه وهو القرب. وهذا أصل جيد في سد الذرائع٨.
٢ في ن "إغواء"..
٣ أخرجه البخاري في الاعتكاف ﴿٢٠٣٥﴾ ومسلم في السلام ﴿٢١٧٥﴾ كلاهما من حديث صفية بنت حيي..
٤ قال أبو محمد بن حزم في الفصل ﴿٤/١٤٢، ١٤٣﴾: "وكان القاضي منذر بن سعيد يذهب إلى أن الجنة والنار مخلوقتان إلا أنه كان يقول: إنها ليست التي كان فيها آدم –عليه السلام- وامرأته واحتج في ذلك بأشياء.." ثم ساق حججه وبين خطأه فيما ذهب إليه..
٥ يراجع المحرر الوجيز ﴿١/٢٤٢﴾ والجامع لأحكام القرآن ﴿١/٣١١، ٣١٢﴾..
٦ رواه ابن جرير الطبري عنه في تفسير ﴿١/٣١٢﴾ ولكن سنده ضعيف..
٧ في ن "فنهى وجعل المعصية بالأكل"..
٨ قاله ابن عطية في المحرر الوجيز ﴿١/٢٣٧﴾..
النعمة هنا، من المفسرين من عينها بنعمة مخصوصة، والصواب حملها على العموم، وفي هذه الآية دليل على أن لله على الكفار نعمة خلافا لمن قال لا نعمة لله تعالى عليهم، وإنما النعمة على المؤمنين، ولأجل هذا حكى مكي١ أن الخطاب في قوله :﴿ يا بني إسرائيل ﴾ إنما هو للمؤمنين منهم بمحمد صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس وجمهور العلماء : بل الخطاب لجميع بني إسرائيل في مدة النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنهم وكافرهم. والضمير في ﴿ عليكم ﴾ يراد به على آبائكم٢. وفي هذه الآية ما يدل على وجوب شكر نعمة الله، لأن أمره تعالى بذكر النعمة أمر بالشكر، وقد قال تعالى :﴿ فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون ١٥٢ ﴾ |البقرة : ١٥٦| ولا خلاف في وجوب ذلك. وإنما اختلف هل يجب عقلا أم شرعا ؟ والصواب أنها إنما تجب شرعا بما دلت عليه هذه الآية ونحوها.
٤٠- وقوله تعالى :﴿ وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم ﴾ |البقرة : ٤٠|.
اختلف في تعيين هذا العهد، والصواب أن يقال قوله تعالى :﴿ وأوفوا بعهدي ﴾ عام في جميع أوامره ونواهيه. وقوله :﴿ أوف بعهدكم ﴾ هو أن يدخلهم الجنة. وهذه عدة من الله تعالى بالثواب، أوجبها تعالى لعبده تفضلا منه، لأن عمل العبد بالطاعة يوجب له الثواب خلافا لمن اعتقد ذلك من المعتزلة.
٤٠- وقوله تعالى :﴿ وإياي فارهبون ﴾ |البقرة : ٤٠|.
أمر تعالى عبيده أن يكونوا أبدا على خوف من عقابه فيعملوا ولا يتكلوا. وقد اختلف أهل المقامات ما الذي ينبغي أن يعتمد عليه الولي ويغلبه في نفسه الخوف أو الرجاء ؟ وسيأتي لهذا موضع يذكر فيه إن شاء الله تعالى.
٢ يراجع: جامع البيان ﴿١/٣٢٧، ٣٢٨﴾ والمحرر الوجيز ﴿١/٢٥١﴾ ومعالم التنزيل ﴿١/٨٦، ٧٨﴾ وزاد المسير ﴿١/٧٢، ٧٣﴾ والجامع لأحكام القرآن ﴿١/٣٣٠، ٣٣١﴾ وتفسير ابن كثير ﴿١/٨٣، ٨٤﴾..
دليل خطاب هؤلاء لأنه لم يقل به أحد، وفي ذلك دليل على ضعف القول به خلافا لمن رآه في هذا الموضع دليلا معتمدا عليه١، ويمكن أن يكون لتخصيص النهي، بأن يكونوا أول كافر به فائدة، لأن النهي عن ذلك يدل٢ وإن كان الكفر كله قبيحا على أن أول السابق فيه أشد قبحا وأعظم للإثم لقوله تعالى :﴿ وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم ﴾ |العنكبوت : ١٣| وقوله :﴿ ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ﴾ |النحل : ٢٥| وقوله ﴿ من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ﴾ |المائدة : ٣٢|.
وقال عليه الصلاة والسلام : " إن على بني آدم القاتل من الإثم في كل قتيل ظلما كفلا من الإثم، لأنه أول من سن القتل " ٣ وقال : " من سن سنة حسنة... " الحديث٤.
فان قيل : فكيف نهاهم تعالى أن يكونوا أول كافر به، وقد كفر قبلهم كفار قريش ؟ فالجواب عن ذلك أن معناه من أهل الكتاب.
٤١- وقوله تعالى :﴿ ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ﴾ |البقرة : ٤١|.
اختلف في تأويله فقيل : إن الأحبار كانوا يعلمون دينهم بالأجرة فنهوا عن ذلك. وقال بعضهم : كان للأحبار مأكلة يأكلونها على العلم كالرواتب. وقيل : إن الأحبار أخذوا رشى على تغيير صفة٥ محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة٦.
وقيل : المعنى ولا تشتروا بأوامري ونواهي وآياتي الدنيا والعيش الذي هو نزر. وقد اختلف في جواز بيع المصحف٧، والجمهور على جوازه. ويحتمل أن يتعلق بالآية من يحرم بيعه لعمومها، ولا حجة له فيها لما فيها من الاحتمالات المتقدمة٨، ولما مر عليه السلف من بيعه، وهم أعلم بالتأويل. وكذلك اختلف في تعليم القرآن بالأجرة، فأجيز، وكره، ومنع والجمهور على جوازه. ويحتمل أن يتعلق بظاهر الآية من لا يجيزه بالأجرة. ولا حجة له فيه، لما جاء من العمل في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث الرقية بالحمد لله، وهو حديث صحيح٩. وأما تعليم كتب الشريعة بالأجرة فمكروه مشهور ذلك عن مالك، وقد أجازه قوم.
والقول فيه على ما تقدم إن شاء الله١٠.
٢ في أ "يرد"..
٣ بنحوه مرفوعا من حديث ابن مسعود أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء ﴿٣٣٣٥﴾ ومسلم في القسامة ﴿١٦٧٧﴾..
٤ أخرجه من حديث جرير بن عبد الله مطولا وفيه قصة مسلم في صحيحه رقم ﴿١٠١٧﴾..
٥ كذا في ب وفي أ "قصة"..
٦ يراجع المحرر الوجيز لابن عطية ﴿١/٢٥٤﴾..
٧ كذا في أ وفي ب "الصحف"..
٨ في أ "المتقدمات"..
٩ يراجع صحيح البخاري في الطب ﴿٥٧٣٦ و٥٧٤٩﴾ ومسلم في الإسلام ﴿٢٢٠١﴾..
١٠ يراجع حول هذه المسألة كلام الحافظ ابن حجر في الفتح ﴿٤/٤٥٣ -٤٥٨﴾..
الصلاة في عرف الشرع تقع على أفعال مخصوصة، وقد اختلف في أصلها من اللغة، فقيل : الصلاة في اللغة الدعاء، ولذلك سميت الصلاة على الميت، صلاة، وليس إلا دعاء١، ومنه قول الشاعر :
.......................... *** وصلى على دنها وارتسم٢
وقيل : الصلاة من الصلوين، وهما عرقان في الردف ينحنيان في الركوع والسجود. قال الشاعر٣ :
تركت الرمح يعمل في صلاة ***.........................
وقيل : هي مأخوذة من صليت العود في النار إذ أعطفته وقومته ومنه قول الشاعر٤ :
فلا تعجل بأمرك واستدمه *** فما صلى عصاه كمستديم
وقيل : هي مأخوذة من الصلة وهي الوصلة، وزنها على هذه علفة٥ مقلوبة من فعلة التي هي وصلة وهذا أضعف الأقوال٦.
وقد اختلف الأصوليون هل غير الشرع هذا الاسم عن موضوعه في اللغة أم لا٧ ؟ فذهب كثير منهم إلى أنه باق على موضوعه من اللغة قيده الشرع بقيود وشروط وهو القاضي أبو الطيب. وذهب غيره إلى أنه في الشريعة منقول عن موضوعه في اللغة إلى هذا المعنى الشرعي المركب من السجود والركوع والقيام إلى غير ذلك مما هو مجموع الصلاة. وكيف ما كان قد فهم المراد |به في الشرع وأنها فعل على وجه مخصوص إلا أنه اختلف هل هو مجمل لا يفهم المراد|٨ من لفظه ويفتقر في البيان إلى غيره ؟ فلا يصح الاستدلال به على صفة ما أوجبه الشرع ؟ أم هو عام يصح الاستدلال به على ذلك، ويجب حمله على عمومه في كل ما يتناوله الاسم من أنواع الدعاء إلا ما خصه الشرع ؟ على قولين معلومين. وإذا قلنا : إنه مجمل خرج من ذلك جواز تأخير البيان٩ لوقت الحاجة خلافا لمن منعه. وقال أبو الحسن علي بن محمد : يجوز أن يرجع ذلك إلى صلاة متقدمة١٠. وهذا الذي قاله احتمال صحيح لأن الآية مدنية. وقد أجمع العلماء على أن الصلاة فرضت بمكة ليلة الإسراء. واختلف١١ في تاريخ الإسراء فقيل : بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بسنة ونصف، وقيل : قبل الهجرة بسنة، وقيل : بعدما أوحي إليه بخمس سنين١٢. واختلفوا في صفة الفرض. فقيل : فرضت ركعتين١٣ ركعتين، فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر. ومن رواة هذا من يقول : زيد في صلاة الحضر بالمدينة١٤. وقيل : فرضت أربعا أربعا فأقرت صلاة الحضر ونقصت صلاة السفر. ١٥ وقيل : فرضت أربعا في الحضر وركعتين في السفر، وجاءت بذلك كله أحاديث صحاح١٦. وجاء جبريل –عليه السلام- لغد من ليلة الإسراء فصلى بالنبي صلى الله عليه وسلم الخمس صلوات المفروضة١٧. واختلف هل كان قبل فرض هذه الصلوات الخمس أخرى أم لا ؟ فقال جماعة١٨ من العلماء لم يكن صلى النبي صلاة مفروضة قبل الإسراء إلا ما كان أمر به من قيام الليل من غير تحديد. وحكى مكي١٩ عن إبراهيم بن إسحاق أنه قال : أول أمر الصلاة أنها فرضت بمكة ركعتين في أول النهار وركعتين في آخره، ثم كان الإسراء ليلة سبعة عشر من ربيع الآخر٢٠ قبل الهجرة بسنة، ففرضت الخمس وأم جبريل –عليه السلام- وكانت أول صلاة الظهر، وتوجه إلى بيت المقدس٢١.
٤٣- وقوله تعالى :﴿ واركعوا مع الراكعين ﴾ |البقرة : ٤٣|.
إن قيل لم خص الركوع من جميع الصلاة بعد أن أمر بالصلاة ففيه جوابان : أحدهما : أن الركوع بمعنى الصلاة، أي صلوا مع المصلين، والثاني : قال قوم خصه بالذكر لأن صلاة بني إسرائيل لم يكن فيها ركوع.
وفيه عند جواب ثالث : أن يكون أراد بالركوع هنا التواضع لله تعالى
والتذلل له، والانقياد، فيكون ركوعا لغويا لا شرعيا. ومنه قول الشاعر :
ولا تهين الفقير٢٢ علك أن *** تركع يوما والدهر قد رفعه
ويحتمل أن يقال خصص الركوع تشريفا له كقوله تعالى :﴿ فيهما فاكهة ونخل ورمان ٦٨ ﴾ |الرحمان : ٦٨|.
٤٣- وقوله تعالى :﴿ وآتوا الزكاة ﴾ |البقرة : ٤٣|.
الزكاة في الشرع تقع على نوع من المال مخصوص. وله في اللغة معنى آخر غير إليه واختلف فيه ما هو ؟ فقيل : الزكاة في اللغة النمو، تقول : زكا الشيء إذا نمى. وتقول العرب إذا كثرت المؤتفكات : زكا الزرع. فسمي القدر الذي أوجبه الشرع للمساكين في المال زكاة٢٣، وإن كان في الحقيقة نقصا لأنه يرجى فيه النمو بالبركة والأجر، الذي يثيب الله تعالى به المزكي. وقيل : الزكاة مأخوذة من التزكية التي هي التطهير، ومنه تزكية الشاهد، ألا ترى أن النبي٢٤ صلى الله عليه وسلم سمى في " الموطإ " ٢٥ ما يخرج من الزكاة أوساخ الناس. والكلام في سائر ما في هذا اللفظ من الأحكام كالكلام في الصلاة، ثم قال : وأما الزكاة فمجملة لا غير، وليس كما ذكر بل الخلاف فيهما سواء. وهذا الأمر في هذه الآية ونحوها، بالصلاة والزكاة أمر وجوب. وقد تسوغ الحجة لمن يرى وجوب صلاة الجنازة٢٦، ووجوب زكاة الفطر ويرى أن وجوبهما بالقرآن لا بالسنة خاصة.
٢ هو الأعشى، وصدر البيت: وقابلها الريح في دنها. كما في الديوان ص١٩٦} وفي اللسان "صلا" ﴿٤/٢٤٩٠﴾..
٣ عجزه: كأن سنانه خرطوم نسر. ينظر هامش المحرر الوجيز ﴿١/١٠١- ط المغرب﴾..
٤ هو قيس ابن زهير: كما في الموضع السابق من اللسان (٤ / ٢٤٩٢).
٥ * في ن "عفلة".
٦ يراجع جامع البيان ﴿١/١٣٦﴾ والمحرر الوجيز ﴿١/١٤٦، ١٤٧﴾ وزاد المسير ﴿١/٢٥﴾ والمفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني ﴿ص ٤٢٠ -٤٢٢﴾.
٧ يراجع كلام القرطبي في الجامع لأحكام القرآن ﴿١/١٦٩، ١٧٠﴾..
٨ سقطت من أ..
٩ في ن "إلى"..
١٠ هو الكيا الهراسي في أحكام القرآن ﴿١/٩﴾ وتمام كلامه: "ويجوز أن يكون مجملا موقوفا على بيان متأخر عند من يجوز ذلك"..
١١ في ن "واختلفوا"..
١٢ يراجع تحقيق الحافظ ابن حجر في فتح الباري ﴿٧/٢٠٣﴾..
١٣ هذا اللفظ ورد من قول عائشة في الصلاة من صحيح البخاري ﴿١٠٩٠﴾ وعند مسلم في صلاة المسافرين ﴿٦٨٥﴾ وقول عائشة مما لا مجال للرأي فيه، فهو في حكم المرفوع للنبي صلى الله عليه وسلم..
١٤ ورد معناه في بعض طرق البخاري عن عائشة ﴿٣٩٣٥﴾..
١٥ ثبت هذا من حديث ابن عباس وفي آخره "وفي الخوف ركعة" كما عند مسلم في صلاة المسافرين ﴿٦٨٧﴾..
١٦ للعلماء طرق في الجمع بين هذه الأحاديث استوفاها ابن عبد البر في التمهيد ﴿١٦/٢٩٣ -٣١٨﴾ وابن حجر في الفتح ﴿١/٤٦٤﴾ والشوكاني في نيل الأوطار ﴿٣/١٩٩ -٢٠٤﴾..
١٧ يراجع كتاب الصلاة من صحيح البخاري ﴿٣٤٩﴾..
١٨ في ب "جمع"..
١٩ في تفسيره ﴿ج ا/ ق٦٤/ أ﴾..
٢٠ في ب "الأول"..
٢١ يراجع كلام الحافظ ابن حجر في الفتح ﴿١/٤٦٥﴾..
٢٢ في ب و ن "لا تعاد الضعيف" وهو كذلك في "المحرر الوجيز" وفيه "الفقير" ﴿١/٢٥٧﴾ والجامع لأحكام القرآن للقرطبي ﴿١/٣٤٤﴾ والبيت في لسان العرب "هون" غير منسوب ﴿٦/٤٧٢٤﴾..
٢٣ يراجع في هذا أحكام القرآن للهراسي ﴿١/٩﴾ والمحرر الوجيز ﴿١/٢٥٦﴾ ومفردات الأصبهاني ﴿ص ٣١٢، ٣١٣﴾ والجامع لأحكام القرآن ﴿١/٣٤٥﴾..
٢٤ في أ "أن أسلم سمى في الموطأ"..
٢٥ في كتاب الصدقة ﴿٢/٦٠٠/٢٨٥٦﴾..
٢٦ في أ "الجنائز"..
هذا تقريع١ وتوبيخ، ومعنى قوله تعالى :﴿ وتنسون أنفسكم ﴾ تتركون كما قال تعالى :﴿ نسوا الله فنسيهم ﴾ |التوبة : ٦٧| واختلف في معناها. فقال ابن جريج : كانت الأحبار يحضون الناس على طاعة الله ويواقعون٢ المعاصي٣. وقال غيره : كانوا يحضون على الصدقة ولا يتصدقون. وقيل : كانوا إذا استرشدهم أحد من العرب في اتباع٤ محمد صلى الله عليه وسلم دلوه على ذلك ولا يفعلونه هم. وقال ابن عباس : كانوا يأمرون أتباعهم باتباع التوراة، ويخالفونها في جحدهم منها صفة النبي٥ صلى الله عليه وسلم٦. وفي هذه الآية حجة لمن يرى من المعتزلة أن من كان على معصية، فليس له أن يحتسب في رفع المعاصي والحق أن له أن يحتسب والمستند في ذلك الإجماع، والآية إنما وردت على التمام والكمال وما هو الأكمل والأفضل والمندوب إليه.
٢ في أ "يفعلون"..
٣ يراجع تفسير الطبري ﴿١/٣٣٩، ٣٤٠﴾ والمحرر الوجيز ﴿١/٢٥٧، ٢٥٨﴾..
٤ في أ إضافة "سيدنا"..
٥ في ب "محمد"..
٦ بنحوه عند الطبري في تفسيره ﴿١/٣٣٩، ٣٤٠﴾ وبمثله في المحرر الوجيز ﴿١/٢٥٨﴾. والعجاب البن حجر ﴿ص٨٨، ٨٩﴾..
في هذه الآية دليل على أن العموم قد يرد والمراد به الخصوص لقوله تعالى :﴿ وأني فضلتكم على العالمين ﴾ لقوله لأمة محمد صلى الله عليه وسلم :﴿ كنتم خير أمة أخرجت للناس ﴾ |آل عمران : ٧| ولذلك قال المفسرون :﴿ وأني فضلتكم على العالمين ﴾ عالمي زمانهم١. ويحتمل أن يجعل فضيلة بني إسرائيل مخصوصة في كثرة الأنبياء ونحو ذلك فيكون تفضيلهم على العالمين بإطلاق ولا يختص بعالمي زمانهم.
سبب هذه الآية أن بني إسرائيل، قالوا : نحن أبناء الله وأبناء أنبيائه وسيشفع لنا آباؤنا، فأعلمهم الله تعالى عن يوم القيامة أنه لا يقبل فيه الشفاعات١ ﴿ لا تجزي نفس عن نفس شيئا ﴾ وهذه الآية مما يحتج به المعتزلة في إبطال الشفاعة وبقوله تعالى بعدها :﴿ ولا يقبل منها شفاعة ﴾ وبقوله تعالى :﴿ فما لنا من شافعين ١٠٠ ﴾ ونحو ذلك، ولا حجة في الآية لأنها محتملة أن تكون في الكافرين خاصة، وحقق هذا الاحتمال وصححه حتى لا يجوز غيره متواتر الأحاديث في مسلم٢ والبخاري٣ وغيرهما بالشفاعة في المؤمنين.
٢ من حديث أبي هريرة في الإيمان ﴿١٨٢﴾ ومن حديث أبي سعيد الخدري ﴿١٨٣﴾..
٣ من حديث أبي هريرة في الصلاة ﴿٨٠٦﴾ ومن حديث أبي سعيد الخدري في التوحيد ﴿٧٤٣٩﴾..
يدل على أنه لا يجوز تغيير الأقوال المنصوص عليها. ويؤخذ من هذا أنه لا تجوز قراءة القرآن بالفارسية وغيرها من الألسن خلافا لأبي حنفية، وكذلك نقل حديث الرسول –عليه السلام- بالمعنى يمكن أن يتعلق في المنع منه بهذه الآية١. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " رحم الله امرءا سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها " ٢.
٢ قريبا من هذا اللفظ أخرجه ابن حبان وصححه من حديث ابن مسعود مرفوعا كما في الإحسان رقم ﴿٢٨﴾ والحديث عند غيره بلفظ "نضر الله امرءا..." رواه أحمد ﴿١/٤٣٧﴾ والترمذي ﴿٢٦٥٧﴾ وابن ماجه ﴿٢٣٢﴾ وصححه الألباني وغيره كما في صحيح الجامع ﴿٦٦٤٠﴾..
اختلف في هذه الآية هل هي منسوخة أم لا ؟ فذهب بعضهم إلى أنها منسوخة.
وروي عن ابن عباس-رضي الله تعالى عنهما- أنها نزلت في أول الإسلام وقرر١ الله بها أن من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ومن بقي على يهوديته ونصرانيته وصابيته، وهو يؤمن بالله واليوم الآخر |من جميعهم|٢ فله أجره ثم نسخ ما قرر من ذلك بقوله تعالى :﴿ ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ﴾ الآية |آل عمران : ٨٥| وردت الشرائع كلها إلى شريعة محمد صلى الله عليه وسلم٣.
وذهب بعضهم إلى أنها غير منسوخة واختلفوا في تأويلها، فقال سفيان الثوري٤ : الذين آمنوا في هذه الآية المنافقون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم كأنه قال الذين آمنوا في ظاهر أمرهم وقرنهم باليهود والنصارى والصابئين. ثم بين حكم من آمن بالله واليوم الآخر من جميعهم، فمعنى قوله تعالى من آمن في المؤمنين المذكورين من حقق وأخلص. وفي سائر الفرق المذكورة من دخل في الإيمان وقالت فرقة : الذين آمنوا هم المؤمنون حقا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله :﴿ من آمن بالله ﴾ |البقرة : ٢٦| يكون فيهم بمعنى من ثبت ودام٥ وفي سائر الفرق من دخل فيه. قال السدي : هم أهل الحنيفية ممن لم يلحق٦ بمحمد صلى الله عليه وسلم |كزيد بن عمرو بن نفيل، وقس بن ساعدة وورقة بن نوفل ﴿ والذين هادوا ﴾ |٧ إلا من كفر بعيسى-عليه السلام- والنصارى كذلك ممن لم يلحق محمدا صلى الله عليه وسلم والصابئين كذلك. وقيل : إنها نزلت في أصحاب سلمان الفارسي، وذلك أن سلمان صحب عبادا من النصارى فقال له أحدهم : إن زمان نبي قد أظل فإن لحقته فآمن به، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر له خبرهم وسأله عنهم فنزلت الآية٨. فمحصول هذا القول أن من آمن بالله، وعمل صالحا، وكان قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم لهم أجرهم عند ربهم. وفي هذه الآية عندي احتمالان آخران :
أحدهما : أن يريد بقوله ﴿ الذين آمنوا ﴾ من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم من العرب وبقوله :﴿ والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن ﴾ من هؤلاء الطوائف سوى العرب يريد بمحمد صلى الله عليه وسلم فكأنه قال : إن الذين آمنوا ومن آمن من اليهود والنصارى والصابين فلهم أجرهم عند ربهم فتكون الآية كلها في المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم.
والاحتمال الثاني : أن يريد بقوله :﴿ والذين هادوا ﴾ الآية من لم تبلغه الدعوة من هؤلاء الطوائف، لأنه قد اختلف فيهم، فقيل : إن أحكام٩ شريعة محمد صلى الله عليه وسلم غير لازمة لهم ولا يكفرون بمخالفتها، وذهب قوم من الخوارج إلى أنها لازمة لهم، وأنهم كفار١٠ بمخالفتها. وهذا مردود بقوله تعالى :﴿ لا يكلف الله نفس إلا وسعها ﴾ |البقرة : ٢٧٦| وذهب الجمهور إلى أنها لازمة لمن لم تبلغه ولكنه يعذر بجهله ومغيبه عن المعرفة. ويمكن أن تتأول الآية على هذا، ووزان هذه المسألة من مسائل الأصول مسألة من لم يبلغه النسخ، ومن مسائل الفروع مسألة الوكيل يعزل ولا يعلم العزل، وقد حكي عن الشيخ أبي الحسن الأشعري أنه يجوز أن يعاد من لم تبلغه الدعوة والمجانين ويدخلون الجنة، ويجوز ألا يعادوا ولم يرد قطع في ذلك.
٢ سقطت من أ..
٣ رواه الطبري عنه في تفسيره ﴿١/٤٢٦﴾ ويراجع كلام ابن كثير في تفسيره ﴿١/١٠٤، ١٠٥﴾ وابن حجر في العجاب في بيان الأسباب ﴿ص٩٢، ٩٣﴾..
٤ يراجع المحرر الوجيز ﴿١/٢٩٨﴾ والجامع لأحكام القرآن ﴿١/٤٣٢﴾..
٥ في ب "داوم"..
٦ سقط من ب..
٧ يراجع المحرر الوجيز ﴿١/٢٩٩﴾ ومعالم التنزيل ﴿١/١٠٣﴾..
٨ رواه الطبري في تفسيره ﴿١/٤٢٣ -٤٢٦﴾ والو احدي في أسباب النزول ﴿ص١٤، ١٥﴾ وفي الأسانيد ضعف وانقطاع فراجع كلام ابن حجر في العجاب ﴿ص٩٠، ٩١﴾ وظاهر صنيعه تقوية الطرق بعضها ببعض والله أعلم..
٩ "أحكام"ليست في أ..
١٠ في أ "كافرون"..
هذه الآية مقدمة في التلاوة مؤخرة في المعنى١، من الآية التي بعدها وهي قوله :﴿ وإذ قتلتم نفسا ﴾ الآية |البقرة : ٧٢| مؤخرة في التلاوة ومقدمة في المعنى على الآية قبلها٢. وإنما يقدر هذا لأن البقرة إنما أمر بذبحها بسبب القتيل وقع أولا، ثم الأمر بذبح البقرة بعد ذلك٣. ويجوز أن يكون قوله تعالى :﴿ وإذ قتلتم نفسا فادارءتم فيها ﴾ مقدما في النزول، وجاءت التلاوة به على ما هو مِؤخر ويجوز أن ترتب نزولها على حسب تلاوتها٤ فكأن الله تعالى أمرهم بذبح البقرة حتى ذبحوها، ثم وقع أمر الفتيل فأمروا أن يضربوه ببعضها، ويجوز أن يكون ترتيب نزولها على حسب تلاوتها، وإن كان أمر القتيل مقدما في المعنى لأن الواو لا توجب ترتيبا٥، كقول القائل اذكر إذا أعطيت زيدا ألف درهم وأبني داري. والبناء مقدم على العطية. ونظيره في قصة نوح بعد ذكر الطوفان وانقضائه في قوله تعالى :﴿ قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين ﴾ إلى قوله :﴿ إلا قليلا ﴾ |هود : ٤٠| فذكر إهلاك من هلك منهم، ثم عطف عليه٦ بقوله :﴿ وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها ﴾ |هود : ٤١| فالمعنى يجب مراعاة ترتيبه لا اللفظ، وقد اختلف في قوله تعالى :﴿ أن تذبحوا ﴾ هذه هل هي مجمل يفتقر إلى بيان، أو عام فإن قلنا : إنه مجمل ففيه دليل على جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة وإذا قلنا : إنه عموم وهو الذي ذهب إليه بعض حذاق الأصوليين كان ما بعده بيانا على مذهب كثير من الأصوليين، وعلى مذهب القاضي يكون نسخا. وقد اعترض على من قال هذا، فقيل له : نسخ قبل مجيء وقته، فأجابوا بأنه قد جاء وقته وقصروا في الأداء، قيل : فهلا أنكر عليهم في أول المراجعة، فأجابوا : إن التغليظ ضرب من التكبر، ودل عليه قوله :﴿ وما كادوا يفعلون ﴾ ٧. وعلى القول بأنه لفظ عام لم يكن للمراجعة فيه وجه، لأن الامتثال كان يصح بأي بقرة كانت، إلا على قول الواقفية في لفظ٨ العموم، فإن حكمه عندهم حكم المجمل في الاحتياج إلى البيان، ويدل على أنه لم يكن لهم التوقيف فيه.
وقوله تعالى :﴿ أن تذبحوا بقرة ﴾ |البقرة : ٦٧| في هذا دليل على أن السنة في البقر الذبح. روى إسماعيل بن أبي أويس عن مالك أنه قال فيمن نحر البقر بئس ما صنع لأن الله تعالى أمر بالذبح٩. قال الباجي١٠ : ووجه ذلك أنه أمر بالذبح ولابد أن يكون على الوجوب أو على الندب، وأقل أحواله الندب. وهذا إنما يصح التعلق به على قول من قال : إن شريعة من قبلنا شرع لنا إلا أن يتبين النسخ في القضية بعينها.
وعلى كل حال فقد قال مالك : إن نحرت تؤكل. وهذا الذي قاله الباجي من أن الأمر بالذبح على الوجوب، أو الندب واستدل بذلك على أن أقل درجاته الندب، غير صحيح، لأن هذا إنما هو في نفس الأمر بالذبح، وأما كون النحر جائزا فإنما يؤخذ من نفس تخصيص الذبح هل يدل على نفي ما عداه من النحر أم لا ؟ فمن قال بدليل هذا الخطاب احتمل أن لا يجيز النحر ويقدم دليل الخطاب على خبر الواحد الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أنه نحر عن أزواجه البقر " ١١ واحتمل أن يجيزه ويقدم خبر الواحد١٢، على دليل الخطاب ومن لم يقل بدليل الخطاب أثبت النحر بالحديث زيادة على الذبح. هذا هو مذهب الجمهور جواز الذبح والنحر في البقر. وقد ذهب قوم ومنهم محمد بن حيي المكي١٣، والحسن بن صالح الكوفي، إلى أن حكمها أن تنحر ولا تذبح. وهذا قول ترده الآية ولا متعلق له إلا أن يكون يرى فعل النبي صلى الله عليه وسلم في النحر ناسخا للآية، وهذا قول ترده الأصول لأنه خبر آحاد، ووقع الإجماع على أن القرآن لا ينسخ |بخبر|١٤ الآحاد.
وذهب بعضهم إلى أن السنة فيها الذبح وإن نحرت لم تؤكل. ولا حجة لهم إلا التعلق بدليل خطاب الآية وتقديمه على الخبر وهو قول شاذ. وقد اختلف في نحر ما السنة فيه الذبح، وذبح ما السنة فيه النحر، فأجازه أحمد وإسحاق، وعبد العزيز بن سلمة، دون كراهة. وكرهه أبو حنيفة، والشافعي وبعض أصحاب مالك. ومنعه مالك في المشهور عنه١٥. واعتل أصحابه لذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم بين وجه الذكاة فنحر الإبل وذبح الشاء والطير١٦، ولا يجوز تحويل ذلك عن موضعه مع القدرة عليه إلا لحجة واضحة. وقال ابن بكير١٧ : يؤكل البقر إذا ذبح ولا تؤكل الشاة إذا نحرت. وقال ابن المنذر : لا أعلم أحدا حرم أكل ما نحر مما يذبح ولا ما ذبح مما ينحر، وإنما كره ذلك مالك ولم يحرمه. وحجة الجمهور أنه لما جاز في البقر الذبح والنحر جاز ذلك في كل ما يجوز تذكيته، وقد بوب البخاري لذلك بابا وساق قول عطاء بجوازه وأنه احتج بهذه الآية في ذبح ما ينحر١٨.
وصفة الذبح المتفق عليها هي أن يقطع١٩ أربعة أشياء : الودجين والحلقوم والمريء واختلف إن قصر عن ذلك هل يكون ذلك ذبحا أم لا ؟ فمنهم من رأى أن الذبح يتم بفري الأدواج والحلقوم ولم يعتبر فري الحلقوم خاصة. وأما الشافعي فاعتبر فريه والمريء ولم يعتبر الودجين قال : لأنا نجدهما يسيلان من البهيمة والإنسان ويعيشان. وقال بعض الكوفيين : إن قطع ثلاثة من هذه الأربعة جاز. ومن صفة الذبح أيضا المتفق عليها أن يبتدئ بالذبح من الحلق فإن ابتدأ من القفا، ومر حتى قطع الرأس فمنهم من رأى أن ذلك قتلا، ولم يره ذبحا، فقال : لا يؤكل، وبه قال مالك، وأجاز أكلها الشافعي وغيره. وكرهه ابن المسيب٢٠. ومن صفة الذبح المتفق عليها أيضا إذا بدأ بالحلق أن يقف عند النخاع ولا يقطعه فإن قطعه ففيه خلاف : منهم من كره أكل تلك الذبيحة، وهو قول عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله بن عمر، وهو النخع الذي نهى عنه ابن عمر. ومنهم من أجاز أكلها، وبه قال الجمهور. وكذلك إذا استمر الذابح في الذبح حتى قطع الرأس، فالجمهور على جواز الأكل وكرهه آخرون. وقال بعضهم : والجواز هو الصواب. وقال علي بن أبي طالب : هي ذكاة وجبة٢١. واختلف هل من صفة الذبح اعتبار الغلصمة٢٢ وأن تبقى إلى الرأس أم لا ؟ فأنكر قوم اعتبار ذلك، واحتجوا بأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه في ذلك شيء ولو كان ذلك يعتبر لما أغفلوه، ودليل |خطاب|٢٣ هذه الآية أن الحيوان المتأنس، لا يؤكل إلا بذكاة في موضع الذكاة، فإن ند، فهل يؤكل بما يؤكل به الصيد ؟ اختلف فيه، وكذلك إن وقع في موضع لا يتوصل به الى ذكاته، فهل يؤكل بطعن فيما عدا المذبح أم لا ؟ ففيه خلاف٢٤، ولم أستقص ما في هذا من الخلاف لأنه ليس بمحله٢٥. ٢٦
٦٧- وقوله تعالى :﴿ أتتخذنا هزوا ﴾ |البقرة : ٦٧|.
هذا القول لنبي صحت معجزته ولا يصدر من مؤمن به، ولو قال ذلك اليوم أحد عن بعض أقوال النبي صلى الله عليه وسلم لوجب تكفيره. وذهب قوم إلى أن ذلك منهم على جهة غلظ الطبع والجفاء والمعصية على نحو ما قال القائل للنبي –عليه السلام- في قسمة غنائم حنين : إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله تعالى٢٧، وكما قال الآخر٢٨ : اعدل يا محمد٢٩.
٢ في ن "المتقدمة"..
٣ في أ "بعده"..
٤ في ب "التلاوة"..
٥ في أ "الترتيب"..
٦ يراجع هذا الكلام عند الكيا الهراسي في أحكام القرآن ﴿١/١٠﴾ والجامع لأحكام القرآن للقرطبي ﴿١/٤٤٥﴾..
٧ من كلام الكيا الهراسي في أحكام القرآن ﴿١/١٠، ١١﴾ ومنه صححت بعض الكلمات..
٨ في ب "بعض"..
٩ ذكره ابن حجر فيراجع فتح الباري ﴿١/٦٤١﴾..
١٠ المنتقى ﴿٣/١٠٨﴾..
١١ أخرجه بنحوه من حديث جابر بن عبد الله مسلم في الحج ﴿١٣١٩﴾..
١٢ في ن "الخبر"..
١٣ في أ "محمد بن جبر العكي" وكذا في ن..
١٤ سقطت من أ..
١٥ يراجع في هذا بداية المجتهد لابن رشد ﴿١/٣٢٥﴾ والمنتقى للباجي ﴿٣/١٠٨﴾، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ﴿١/٤٤٥﴾ وفتح الباري لابن حجر ﴿٩/٦٤٠﴾..
١٦ في ب "الشاء"..
١٧ نقله ابن رشد في البداية ﴿١/٣٢٥﴾..
١٨ باب النحر والذبح. وقال ابن جريح عن عطاء: لا ذبح ولا نحر إلا في المذبح والمنحر ﴿٩/٦٤٠ –فتح﴾..
١٩ في أ "هي بقطع"..
٢٠ يراجع في هذا المدونة لسحنون ﴿٢/٦٦﴾ والأم للشافعي ﴿٢/٢٠٠، ٢٠٤﴾ والمحلى لابن حزم ﴿٧/٤٤٠﴾..
٢١ كذا في ب و ن وفي أ "وجيبة" ومعنى وجبة سريعة..
٢٢ في ب "الغاصمة"..
٢٣ سقطت من أ..
٢٤ في ب "مهواة"..
٢٥ يراجع في هذا بداية المجتهد ﴿١/٣٢٥-٣٢٨﴾..
٢٦ في ن "بكتب فقه"..
٢٧ يراجع صحيح البخاري في فرض الخمس ﴿٣١٥٠﴾ ومسلم في الزكاة ﴿١٠٦٢﴾ كلاهما من حديث ابن مسعود..
٢٨ أخرجه مسلم عن جابر بن عبد الله في الزكاة ﴿١٠٦٣﴾ وفيه قصة وأصله في البخاري مختصرا ﴿٣١٣٨﴾..
٢٩ يراجع المحرر الوجيز لابن عطية ﴿١/٣١١﴾..
وقوله في هذه الآية :﴿ فافعلوا ما تؤمرون ﴾ |البقرة : ٦٨|. قال المهدوي : هذا دليل على أن الأمر على الفور، وهو مذهب أكثر الفقهاء ويدل على صحة ذلك أنه استقصرهم حين لم يبادروا إلى فعل ما أمرهم به فقال :﴿ فذبحوها وما كادوا يفعلون ﴾ |البقرة : ٧١|.
وقولهم :﴿ الآن جئت بالحق ﴾ |البقرة : ٧١| معناه عند جعلهم عصاة بينت لنا غاية البيان، وجئت بالحق الذي طلبناه لأنه كان قبل ذلك يجيء بغير حق، ومعناه عند ابن زيد٢ الذي حمل محاورتهم على الكفر : الآن صدقت وأذعنوا في هذه الحال حين بين لهم أنها سائمة.
قوله تعالى :﴿ وما كادوا يفعلون ﴾ |البقرة : ٧١| ولذلك قال بعض المفسرين : شددوا فشدد الله عليهم، ودين الله يسر والتعمق في سؤال الأنبياء مذموم.
٢ في ب "أبي"..
سبب هذا القتل على ما روي أن رجلا من بني إسرائيل عمر، كان له مال، فاستبطأ ابن أخيه موته- وقيل : أخوه وقيل : بنو١ عمه، وقيل ورثته غير معينين- فقتله ليرثه وألقاه في سبط آخر غير سبطه ليأخذ ديته ويلطخهم بدمه. وقيل : كانت إسرائيل في قريتين متجاورتين فألقاه إلى باب أحد المدينتين وهي التي لم يقتل فيها، ثم جعل يطلبه وهو سبطه حتى وجده قتيلا، فتعلق بالسبط أو بسكان المدينة التي وجد القتيل فيها، فأنكروا قتله فوقع بينهم لجاج حتى دخلوا في السلاح. فقال أهل الأمر والنهي منهم أنقتتل ورسول الله معنا ؟ فذهبوا الى موسى-عليه السلام- وسألوه البيان فأوحى الله إليه أن يذبحوا بقرة فيضربوه ببعضها فيحيى ويخبر بقاتله٢. وكأن السبب في تخصيص البقرة بالذبح ما أراد الله تعالى من صنعه الجميل بصاحبها.
وقد اختلف في كيفية ذلك، فقيل : إن رجلا من بني إسرائيل ولد له ابن، وكان له عجلة فأرسلها في غيضة٣ وقال : اللهم إني استودعتك هذه العجلة لهذا الصبي، ومات الرجل فصنع الله تعالى فيها مع الصبي ما صنع. وقيل : كان ذلك بسبب رجل كان يبر أمه. وقيل : إن رجلا كان بارا بأبيه، فنام أبوه يوما وتحت رأسه مفاتيح مسكنهما فمر به بائع جوهر فساومه بستين ألفا. فقال ابن النائم : اصبر حتى ينتبه أبي وأنا آخذه بسبعين ألفا، فقال صاحب الجوهر : نبه أباك وأنا أعطيكه بخمسين ألفا، فداما كذلك حتى بلغ ابن النائم مائة ألف وبلغ صاحب الجوهر ثلاثين ألفا. فقال له ابن النائم : والله لا أشتريه منك بشيء، برا بأبيه فعوضه الله تعالى منه ذلك. وقيل : وجدت عند عجوز كانت تعول يتامى كانت البقرة لهم، وكانت قيمة البقرة على ما ذكر عكرمة ثلاثين دنانير. واختلف فيما اشتروها به، فقيل : بوزنها مرة، وقيل : مرتين، وقيل : عشر مرار، وقيل : بملىء جلدها دنانير٤. وحكى مكي٥ أن هذه البقرة نزلت من السماء وقيل : كانت وحشية.
٢ يراجع المحرر الوجيز لابن عطية ﴿١/٣١٠، ٣١١﴾ وتفسير الطبري ﴿١/٤٤٤- ٤٤٨﴾ ومعالم التنزيل ﴿١/١٠٥، ١٠٦﴾ وتفسير ابن كثير ﴿١/١٠٦، ١١١- ط دار الفكر بيروت﴾..
٣ هي الأجمة كما في المجمل لابن فارس ﴿ص٥٣٩﴾..
٤ يراجع المحرر الوجيز (١ / ٣١٧، ٣١٨) ثم تفسير الطبري (١/ ٤٤٦) ومعالم التنزيل (١ / ١٠٦) وزاد المسير (١ / ٩٦، ٩٧) وتفسير ابن كثير (١ / ١١٠).
٥ تفسيره (ج١ / ق ٣٦/ ب)..
فقيل : إنهم ضربوه، وقيل : ضربوا قبره، لأن ابن عباس حكى أن أمر القتيل وقع قبل جواز البحر، وأنهم داموا في طلب البقرة أربعين سنة. واختلف فيما ضرب به منها ؟ فقيل باللحمة التي بين الكتفين، وقيل بالفخذ، وقيل باللسان، وقيل بالذنب، وقيل بعظم منها١. وروي أن هذا القتيل لما حيي وأخبر بقاتله عاد ميتا كما كان، وقد استدل مالك رحمه الله تعالى بهذه الآية على إعمال قول المقتول : دمي عند فلان، ولم يختلف قوله إنه لوث في العمد يوجب القسامة والقود. واختلف قوله في قبول دعواه في قتل الخطأ، وتابعه في دعوى العمد جميع أصحابه والليث بن سعد، وخالفه جمهور أهل العلم، واستدلوا لمذهبهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم : " لو يعطى الناس بدعواهم " ٢ الخبر، وبالقياس على دعوى المال وبقول النبي صلى الله عليه وسلم : " البينة على المدعي٣ واليمين على من أنكر " ٤ وهذا كله مردود لأن المدعي هاهنا لم يعط بدعواه وهو ولي المقتول وإنما أعطي بما انضاف٥ إلى دعواه من قول المقتول، والأصل في جميع الأحكام أن يبدأ باليمين من يغلب على الظن صدقه، كان مدعيا أو مدعى عليه. فلما غلب صدق أولياء المقتول في دعواهم بسبب يدل على ذلك مثل تدمية المقتول، أو مثل السبب الذي حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم في القسامة من العداوة بين المسلمين واليهود ونحو ذلك٦، وجب أنه يقبل قوله وهذا السبب هو الذي يعبر عنه أصحاب مالك باللوث، فالمدعي هو من قوي سببه، والمدعى عليه هو من ضعف سببه، فليس بين أمر التدمية وبين حديث المدعي والمدعى عليه اختلاف.
وقول من قال : إن الحكم بالقسامة خلاف الأصول غير صحيح. ودليل صحة عمل التدمية وكونها جارية على هذا الأصل ما جاء في الآية المذكورة من إخبار القتيل وقوله : قتلني فلان. وقد قال جماعة منهم الفقيه أبو عمر بن عبد البر وغيره : إن الاحتجاج بهذه الآية غفلة شديدة وشعوذة لأن إحياء ذلك القتيل كان آية لنبي لا سبيل إليها اليوم، ولم يقسم على قتيل بني إسرائيل، وإنما علم صدق قوله بالآية٧. وهذا غير صحيح بل الدليل منها قائم وذلك أن الآية إنما كانت في الإحياء. وأما قوله بعد أن حيي قتلني فلان فليس فيه آية، وقد كان الله تعالى قادرا على أن يحيي غيره من الأموات، فيقول ذلك فتكون فيه آيتان آية في إحيائه، وآية في إخباره بالغيب، فلما خصه الله تعالى بالإحياء بين سائر الأموات، دل ذلك على أن الشرع كان عندهم : أن من قتل فأدرك حيا فأخبر بقاتله صدق قوله٨، فلما فات بالموت ولم تدرك حياته أحياه الله تعالى لنبيه ليستدرك ذلك. وأما القسامة فإنها وإن كانت لم ترد في قصة القتيل المذكور في الآية فإنها وردت في الحديث المشهور فرأى مالك-رضي الله عنه- أن يجمع بين الحديث والآية فيصدق بمقتضى الآية، وتكون القسامة بمقتضى الحديث لأن التدمية لوث، لا فرق بينه وبين اللوث الذي وقعت القسامة فيه٩ في الحديث. فان قيل : القسامة حكم زائد على ما جاء في الآية والزيادة نسخ قلنا : هذا الأصل مختلف فيه، والمختار في هذه ألا يكون نسخا لأنه لم يغير حكم المزيد عليه مثل زيادة التغريب على الجلد في البكر الزاني. وفي " المبسوطة " عن يحيى من أصحاب مالك أنه قال : لا أقول بالتدمية ولا أراها نحو قول الجمهور، وكذلك يجيء عن أبي بكر اللؤلؤي أنه رجع عن القول بالتدمية فكان لا يفتي بها. وهذا الاستدلال بهذه الآية إنما يصح على القول بأن شريعة من قبلنا لازمة لنا١٠، وقد روي أن القسامة كانت في الجاهلية١١، فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام، ليتناهى الناس عن القتل، وقد قال عبيدة السلماني : من حينئذ لم يرث قاتل. يريد من وقت موسى-عليه السلام- بسبب ذلك القتل المذكور في الآية.
وقال مكي١٢ : إن قصة أحيحة بن الجلاح في عمه هي التي كانت سببا لأن لا يرث قاتل، ثم ثبت ذلك في الإسلام، كما ثبت كثير من نوازل الجاهلية.
٢ أخرجه عن ابن عباس البخاري في الرهن ﴿٢٥١٤﴾ ومسلم في الأقضية ﴿١٧١١﴾..
٣ في ن "على من ادعى"..
٤ انظر ما قبله وما ذكره المؤلف ورد في بعض الروايات عند البيهقي في السنن ﴿١٠/٢٥٢﴾ عن ابن عباس. قال الحافظ عن هذا اللفظ في الفتح ﴿٥/٢٨٣﴾: "إسنادها حسن"..
٥ في ب "أضيف"..
٦ أخرجه مالك في الموطأ في القسامة ﴿٢٥٧٣، ٢٥٧٤﴾ والبخاري في الجزية والموادعة ﴿٣١٧٣﴾ ومسلم في القسامة ﴿١٦٦٩﴾..
٧ قاله في كتابه الاستذكار ﴿٢٥/٣٢٦﴾ ويراجع بقية كلامه هناك والملاحظ أن ظاهر كلام القرطبي السير مع الجمهور ومخالفة مالك شأنه في ذلك شأن ابن عبد البر فيراجع الجامع لأحكام القرآن ﴿١/٤٥٧﴾..
٨ يراجع أحكام القرآن ﴿١/٤٥٧﴾..
٩ في ب "معه"..
١٠ لتفصيل هذه المسألة يراجع "الموطأ" ﴿٢/٤٥١ -٤٥٩﴾ والاستذكار ﴿٢٥/٢٩٧ -٣٤٠﴾ وتفسير القرطبي ﴿١/٤٥٧ -٤٦٢﴾ والتحرير والتنوير ﴿١/٥٦١، ٥٦٢﴾..
١١ كما في صحيح البخاري في مناقب الأنصار ﴿٣٨٤٥﴾..
١٢ يراجع المحرر الوجيز لابن عطية ﴿١/٣٢٢﴾..
فيه دليل أن العالم بالحق المعاند فيه أبعد من الرشد، لأنه علم الوعد والوعيد، ولم ينهه ذلك عن عناده١.
روي أن سبب هذه الآية : أن النبي –عليه السلام- قال لليهود : " من أهل النار ؟ " فقالوا : نحن، ثم تخلفونا أنتم، فقال : " كذبتم لقد علمتم أنا لا نخلفكم " فنزلت الآية١.
وقيل : سببها أن اليهود قالت : إن الله أقسم أن يدخلهم النار أربعين يوما عدد عبادتهم العجل. وقيل : إن اليهود قالت : إن طول جهنم أربعون سنة وأنهم يقطعون في كل يوم سنة حتى يكملوها، وتذهب جهنم. وقيل : إنهم قالوا إن مدة الدنيا سبعة آلاف سنة وأن الله تعالى يعذبهم بكل ألف سنة يوما٢.
وقال أبو الحسن علي بن محمد٣ : في هذه الآية رد على أبي حنيفة في استدلاله بقوله-عليه السلام- : " دعي الصلاة في أيام أقرائك " ٤ في أن مدة الحيض تسمى أيام الحيض وأقلها ثلاثة أيام، وأكثرها عشرة، لأن ما دون الثلاثة يسمى يوما ويومين وما زاد على العشرة يقال فيه إحدى عشر يوما، فيقال لهم : وقد قال الله تعالى في الصوم :﴿ أياما معدودات ﴾ |البقرة : ١٨٤| يعني جميع الشهر. ﴿ وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ﴾ |البقرة : ٨٠| يعني أربعين يوما وإذا أضيفت الأيام إلى عارض لم يرد بها تحديد العدد، بل يقال : أيام مشيك وسفرك وإقامتك وإن كانت ثلاثين وعشرين، وما شئت من العدد، ولعله أراد ما كان معتادا لها والعادة ست أو سبع.
٢ تراجع هذه الروايات عند الطبري ﴿١/٥٠٢ -٥٠٤﴾ وأسباب النزول للواحدي ﴿ص١٦﴾. وحقق في أسانيدها الحافظ ابن حجر في العجاب في بيان الأسباب ﴿ص١٠٣ -١٠٧﴾..
٣ هو الكيا الهراسي في أحكام القرآن ﴿١/١١، ١٦﴾..
٤ يراجع سنن أبي داود كتاب الطهارة، ﴿١/٢٨٤-٢٨٧﴾..
فيه دليل على أن اليمين المعلقة على شرطين لا تختص بأحدهما. ومثله١ قوله تعالى :﴿ قالوا ربنا الله ثم استقاموا ﴾ |فصلت : ٣٠|.
اختلف العلماء في هذه الآية هل هي منسوخة أو محكمة ؟ فذهب قتادة إلى أنها منسوخة بآية السيف١. وهذا يتجه على القول بأنا مخاطبون بشرع من قبلنا. وقال أبو محمد بن عطية٢ : هذا على أن هذه الأمة خوطبت بهذا اللفظ في صدر الإسلام، وأما الخبر عن بني إسرائيل، وما أمروا فلا نسخ فيه. وهذا كلام مختل٣ عند من تأمله. وذهب غيره إلى أنها محكمة واختلفوا في التأويل، فقال سفيان الثوري : مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر وقال أبو العالية : المعنى قولوا لهم الطيب من القول٤، وحاوروهم بأحسن ما يحبون أن يحاوروا به. وهذا حض على مكارم الأخلاق. وقال ابن جريح : المعنى أعلموهم بما في كتابكم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس : المعنى قولوا لهم لا إله إلا الله ومروهم بها٥. وقال أبو الحسن٦ : يجوز أن يكون في الدعاء إلى الله ويجوز أن يكون مخصوصا بالمسلمين أي يعني بقوله :﴿ للناس ﴾ في٧ المسلمين فلا يتجه النسخ فيه على هذا الوجه وقد تقدم القول على قوله :﴿ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ﴾ |البقرة : ٨٣| وذكر أبو بكر ابن العربي٨ قولا آخر أن الآية على عمومها ويكون إحسان القول للكافر والمجاهر بالمعاصي مع الخوف فيدفع الإنسان عن نفسه بالقول الحسن، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " اتقوا النار ولو بشق ثمرة، فإن لم تجد فبكلمة طيبة " ٩. وعلى ما قدمنا جاء قوله تعالى :﴿ قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ﴾ |طه : ٤٤|.
٢ المحرر الوجيز ﴿١/٣٣٧﴾..
٣ في ب "محتمل"..
٤ في ب "اللين"..
٥ جملة هذه الأقوال رواها الطبري في تفسيره ﴿١/٥١٦﴾..
٦ هو الكيا الهراسي في أحكام القرآن ﴿١/١٦، ١٣﴾..
٧ في ن و ب "من"..
٨ أحكام القرآن ﴿١/؟﴾..
٩ أخرجه عن عدي بن حاتم البخاري في الزكاة ﴿١٤١٧﴾ ومسلم في الزكاة ﴿١٠١٦﴾..
الإخبار بقوله تعالى :﴿ واتبعوا ﴾ عن اليهود الذين في زمن سليمان-عليه السلام- وقيل : في عهد النبي-عليه السلام- وقيل : عن الجميع.
وقوله :﴿ ما تتلوا ﴾ قيل أراد١ ما تلت فأوقع المستقبل موقع الماضي وقيل : أراد ما كانت تتلو. ٢
وقوله :﴿ ملك سليمان ﴾ أراد على٣ عهده، وقيل : على ملك سليمان أي في صفته وإخباره وقيل : على شرعه ونبوءته وحاله٤. واختلف في المتلو ما كان، فقيل : إن الشياطين كانوا يلقون إلى الكهان الكلمة من الحق معها المائة من الباطل، حتى صار ذلك علمهم، فجمعه سليمان ودفنه تحت كرسيه، فلما مات قالت الشياطين : إن ذلك كان علم سليمان، وقيل : هو السحر وتعليمه وكان قد جمع سليمان ما تلوه من ذلك كما تقدم. وقيل : هو علم سليمان كان قد دفنه، فلما مات أخرجته الجن، وكتبت بين كل سطرين سطرا من سحر ثم نسبت ذلك إلى سليمان. وقيل : إن آصف بن برخيا كاتب سليمان تواطأ مع الشياطين أن يكتبوا سحرا وينسبوه الى سليمان بعد موته. وقيل : إن الجن اختلقته بعد موته ونسبته إليه. فأكثر هذه الأقوال على أن المتلو هو السحر تلته الشياطين ونسبته إلى سليمان حتى برأه الله تعالى منه على لسان نبيه -عليه السلام- ٥. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكر سليمان في الأنبياء قال بعض اليهود انظروا إلى محمد يذكر سليمان في الأنبياء وما كان إلا ساحرا٦.
وقوله تعالى :﴿ وما كفر سليمان ﴾ |البقرة : ١٠٢|
تبرئة من الله تعالى لسليمان من السحر، ولم يتقدم في الآيات أن أحدا نسبه إلى الكفر.
وقوله تعالى :﴿ ولكن الشياطين كفروا ﴾ |البقرة : ١٠٢|.
يحتمل أنهم كفروا إما بتعليمهم٧ السحر، وإما بعملهم به، وإما بتكفيرهم سليمان، وكل ذلك كان.
وقوله تعالى :﴿ وما أنزل على الملكين ﴾ الآية اختلف في هذه، على ما هي معطوفة ؟ فقيل : على ما في قوله تعالى :﴿ واتبعوا ما تتلوا الشياطين ﴾ |البقرة : ١٠٢| وقيل على قوله :﴿ وما كفر سليمان ﴾ |البقرة : ١٠٢| فهي نافية أي ﴿ وما أنزل على الملكين ﴾ |البقرة : ١٠٢| أيضا وذلك أن اليهود قالت : إن الله أنزل جبريل وميكائيل بالسحر فنفى الله ذاك. وقيل على قوله :﴿ السحر ﴾ وهذا على القول بأن الله أنزل السحر على الملكين فتنة للناس ليكفر من اتبعه ويؤمن من تركه، وعلى قول مجاهد وغيره أن الله أنزل على الملكين الشيء الذي يفرق به بين المرء وزوجه دون السحر. أو على القول إنه تعالى أنزل السحر عليهما ليعلم على جهة التحذير منه و النهي عنه والتعليم على هذا القول إنما هو تعريف يسير بمبادئه، وكذلك تأتي هذه الأقوال على القول بأنها معطوفة على قوله :﴿ ما تتلوا ﴾ وقد اختلف٨ في قراءة الملكين فقرىء القراءة المشهورة " الملكين " ٩ وقرىء " الملكين " ١٠ بكسر اللام. واختلف على هذه القراءة في تفسيرها، فقيل هما داود وسليمان وعلى هذا القول " فما " نافية. وقيل هما علجان كانا ببابل ملكين ( فما ) على هذا القول غير نافية. وهاروت وماروت على قول من جعل الملكين بفتح اللام " جبريل وميكائيل " بدل من الشياطين في قوله :﴿ ولكن الشياطين كفروا ﴾ وقال هما شيطانان. وجاء الجمع على أن الاثنين١١ جمع أو على تقدير أتباع لهذين الشياطين الذين هما الرأس. ومن جعل الملكين هاروت وماروت فهما بدل الملكين. وأما على قراءة " الملكين " بكسر اللام فمن جعل الملكين داود وسليمان جعل أيضا هاروت وماروت بدلا من الملكين. وقيل : هما بدل من الناس وتحصيل١٢ هذا أن من قرأ " ملكين " بفتح اللام ففيها خلاف قيل : يعني جبريل وميكائيل وقيل : يعني هاروت وماروت، وقيل : يعني علجين غيرهما. وروي على رواية من قال القراءة " ملكين " بفتح اللام أن الملائكة مقتت حكام بني إسرائيل وزعمت أنها لو كانت بمثابتهم من البعد عن الله لأطاعت حق الطاعة. فقال الله تعالى لهم اختاروا ملكين يحكمان بين الناس، فاختاروا هاروت وماروت، فكانا يحكمان بين الناس، فاختصمت إليهما امرأة ففتنا بها، فراوداها فأبت حتى يشربا الخمر ويقتلا، ففعلا، وسألتهما عن الاسم الذي يصعدان به إلى السماء فعلماها إياه، فتكلمت به |فعرجت|١٣ فمسخت كوكبا فهي الزهرة. وكان ابن عمر يلعنها، وهذا كله لا أصل له، وبعيد عن ابن عمر-رضي الله عنه-.
ورووا أن الزهرة نزلت إليهما في صفة١٤ امرأة فجرى |لهما|١٥ ما ذكر، وقيل : إنهما بقيا في الأرض في سرب معلقين يصفقان بأجنحتهما. وروي أنهما يعلمان السحر في موضعهما ذلك وأخذ عليهما ألا يعلما أحدا ﴿ حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر ﴾ ١٦ الآية |البقرة : ١٠٢|. وإنما ذكرت هذا التفسير ليتبين به معنى الآية وحتى يصح التفقه فيها١٧. والذي ذهب إليه أهل السنة، وجمهور العلماء أن السحر له حقيقة ثابتة كحقيقة غيره من الأشياء خلافا لمن نفاه وأنكر حقيقته، ونسب ما يتفق منه الى خيالات باطلة لا حقائق لها، واستدل بقوله :﴿ يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ﴾ |طه : ٦٦| وحجة الجمهور أن الله تعالى ذكره في كتابه وذكر أنه مما يتعلم وأشار أنه مما يكفر به، وأنه يفرق بين المرء وزوجه. وهذا كله لا يمكن ولا حقيقة له، وكذلك جاء في " مسلم " ١٨ و " البخاري " ١٩ وغيرهما : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سحره يهودي حتى وصل المرض إلى يديه وحتى أنه كان يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله، وأنه سحر بأشياء دفنت وأخرجت. وفي بعض الأحاديث أنها لم تخرج٢٠، وكان الذي سحره -عليه السلام- لبيد بن الأعصم في مشط ومشاقة تحت راعوفة٢١ في بئر ذروان، وقد قال تعالى :﴿ ومن شر النفاثات في العقد ٤ ﴾ |الفلق : ٤| ونزلت بسبب قصة لبيد بن الأعصم. وسحر ابن عمر فتوعكت يده، وسحرت جارية عائشة-رضي الله عنها- وهذا كله يبطل ما قالوه. وغير مستنكر في العقل أن يكون الله تعالى خرق العادة٢٢ عند النطق بكلام أو تركيب أجسام، أو المزج بين قوي على ترتيب ما لا يعرفه إلا الساحر يكون عند السحر، ويجوز أن يمرض من يسحر أو يموت ويتغير عن طبعه وعادته، وقد أنكر ذلك كله أن يقع من أنكر السحر ونسبه الى التخيل والشعوذة ولا حجة لهم في قوله تعالى :﴿ يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ﴾ |طه : ٦٦| فان التخييل حقيقة ما قد وقعت وظهرت بفعل الساحر. وإذا ثبت السحر٢٣، فقد اختلف مثبتوه في الذي يمكن أن يقع عنه. فذهب قوم إلى أنه يمكن أن يقع عنه مقدور الله تعالى وأنه لا فرق بين المعجزة و السحر إلا بالتحدي فلو تحدى بالسحر لم يصح له شيء، وصاحب المعجزة إذا تحدى صحت معجزته وإليه ذهب أبو المعالي. وذهب قوم إلى أنه لا يجوز انتهاء السحر إلى إحياء الموتى وقلب العصا حية٢٤، وفلق البحر وإبراء الأكمه والأبرص وأمثال ذلك. ويظهر في هذا القول أن الذي يمكن أن يقع عنه ما كان من مقدورات البشر، مثل أن يرى الساحر في الهواء أو يحلق في جو السماء ويسترق ويتولج في الخوخات والكوات إذ الحركات في الجهات من قبيل مقدورات البشر. وذهب قوم الى أنه لا يبلغ الأمر فيه إلى غريبة تزيد على التفرقة بن المرء وزوجه، وذكر أن الله سبحانه إنما ذكر ذلك تعظيما لما يكون عنه وتهويلا له في حقنا، فلو كان يقع عنه ماهو أعظم منه لذكره إذ لا يضرب المثل عن المبالغة إلا بأعلى الأحوال المذكورة. وهذا الخلاف لا معنى له. والصحيح أنه إذا جاز أن يقع عن السحر بعض الأفعال جاز الجميع، ولا فرق بين فعل وفعل فإن الله تعالى هو الذي يخرق العادة عند فعل الساحر الشيء الذي يفعله فلا فرق في ذلك بين ماهو مقدور للعبد، وغير مقدور له، فإن ما هو مقدور للعبد فهو واقع بقدرة الله تعالى فالكل واقع بقدرة الله تعالى٢٥. وإذا كان كذلك فلا فرق بين فعل وفعل لكن إن ورد السمع بقصوره عن فعل ما وجب اتباعه ولم يوجد سمع قاطع في ذلك. وذكر التفرقة بين المرء وزوجه، ليس بنص على قصر السحر على التفرقة وفيه نظر، هل هو ظاهر أم لا ؟ والمقصود هنا القطع ويحتمل أن يقال : إنما لم يذكر الله تعالى من أفعال السحر إلا التفرقة٢٦ بين الزوجين لأنه من الأشياء المحرمة شرعا. ومما له نكاية في النفوس أكثر من قلب العصا حية، ونحو ذلك فذكره تعالى تقبيحا لعملهم٢٧، وتنفيرا لنفوس المسلمين عنهم لا أنه غاية ما ينتهي إليه فعلهم، وإذا كانت الآية محتملة لهذا لم تكن فيها حجة ظاهرة.
١٠٢- قوله تعالى :﴿ فلا تكفر ﴾ |البقرة : ١٠٢|.
قيل معناه بتعلم السحر، وقيل : بعمله٢٨، وقال بعضهم ليس بكفر، وبحسب هذا الاختلاف٢٩ اختلف في حكم الساحر، والتكفير ليس بعقلي، وإنما يستند فيه إلى الشرع٣٠. ولم يرد في ذلك إلا ما جاء في الآية المذكورة من قوله تعالى :﴿ ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ﴾ |البقرة : ١٠٢| وقوله :﴿ يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه ﴾ |البقرة : ١٠٢| وقد ذهب مالك رحمه الله إلى أنه كفر بظاهر الآية، وهو مما يستتر به فهو كالزنديق يقتل ولا يستتاب، وعن الشافعي رواية أنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل، ولعله إنما هو كفر لأنه من أعمال الكفار، وقيل : ليس بكفر، وإنما سبيله سبيل القتل، فإن قال : لم أقتل بسحري، لم يكفر، ولم يقتل، وإن قال : قتلت به عمدا، قتل. وإن قال : لم أتعمد القتل، كانت الدية، وإن قال : مرض منه ولم يمت، أقسم أولياء المقتول لمات من ذلك العمل، وفيه الدية، وهذا مروي عن الشافعي.
وقال أبو حنيفة : ليس السحر بشيء إلا أن يكون فيه كفر فيقتل للكفر. وقال المازري : إنما قلنا إنه يقتل على الجملة لأنه من عمل السحر وعلمه فقد كفر و الكافر يقتل. قال تعالى :﴿ وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر ﴾ |البقرة : ١٠٢| فإذا ثبت كونه كفرا وجب القتل به قال بعض أصحابنا وقد قال الله تعالى :﴿ ولبئس ما شروا به أنفسهم ﴾
|البقرة : ١٠٢| يعني باعوها٣١، وبيعه لنفسه يتضمن قتله، وقد جاء في " الموطأ " ٣٢ : أن حفصة قتلت جارية لها سحرتها. ومن ذهب إلى أنه ليس بكفر يتأول الآية ويخرجوها عن ظاهرها فيحتمل أن يكون قوله :﴿ ولكن الشياطين كفروا ﴾ باستحلالهم فعل ذلك أو يكون الكفر لغويا لا شرعيا أو كفرا بالله.
١٠٢- وقوله :﴿ فلا تكفر ﴾ |البقرة : ١٠٢|.
أي بأن تستحل ذلك، ولا تكفر أي كفرا لغويا أو بالله. والأظهر في الاحتمالات ما تقدم. وهذا كله فيمن سحر بنفسه، وأما من عمل له غيره السحر بأجر أو بغير أجر، فلا يقتل٣٣، لأنه ليس بساحر. واختلف في الساحر من أهل الذمة هل يقتل أم لا ؟ فقيل : يقتل وإن أسلم، وقيل : يقتل إلا أن يسلم، وقيل : يعاقب إلا أن يقتل ويضمن ما جنى. ويقتل إن جاء منه مما لم يعاهد عليه. وهذا قول مالك رحمه الله وهو قول سديد جاري على مذهبه في أن السحر كفر، وبه قال أبو حنيفة والشافعي ومن الحجة لهذا القول أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل اليهودي الذي سحره. وثلاثة الأقوال في المذهب. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يعضد ظاهر الآية في أن السحر كفر في قوله-عليه السلام- : " اجتنبوا السبع الموبقات " قلنا : يا رسول الله وما هن ؟ قال : " الشرك بالله والسحر " وكذا وكذا، فقرنه كما ترى بالشرك، وهذا حديث صحيح خرجه البخاري٣٤ و النسائي٠
٢ في ب في الموضعين "في"..
٣ في ن "في"..
٤ يراجع المحرر الوجيز ﴿١/٣٦٦، ٣٦٧﴾ وتفسير الطبري ﴿١/٥٨٣ -٥٨٦﴾ والجامع لأحكام القرآن ﴿٢/٤١ -٤٣﴾ وتفسير ابن كثير ﴿١/١٣٥-١٣٩﴾..
٥ يراجع المحرر الوجيز لابن عطية ﴿١/٣٦٧، ٣٦٨﴾ ويراجع تحقيق أسانيد هذه الأقوال في العجاب في بيان الأسباب للحافظ ابن حجر ﴿ص١٣٣ -١٤١﴾..
٦ رواه الطبري في تفسيره ﴿١/٥٩١﴾ وسنده ضعيف فيراجع العجاب ﴿ص١٣٥﴾..
٧ في ب "بتبليغهم" وفي ن "بتقليبهم"..
٨ في ب "اختلفوا"..
٩ كما هي قراءة الجمهور كما في المحرر الوجيز ﴿١/٣٦٩﴾..
١٠ نسب ابن عطية هذه القراءة الى ابن عباس، والحسن، والضحاك، وابن أبزى، وأبي الأسود لكن تلك القراءة استضعفها الإمام الطبري فيراجع المحرر الوجيز ﴿١/٣٦٩﴾ وتفسير الطبري ﴿٢/٤٢٥، ٤٢٦، ٤٣٥ – ط شاكر﴾..
١١ في أ "الآيتين"..
١٢ في أ، ب "وتمهيد"..
١٣ سقطت من أ..
١٤ في ب "لهما على صورة"..
١٥ سقطت من أ..
١٦ يراجع كلام الحافظ ابن كثير وتحقيقه في بطلان هذه القصة في التفسير ﴿١/١٣٩ -١٤٤﴾..
١٧ قارن بما جاء في المحرر الوجيز لابن عطية ﴿١/٣٦٩، ٣٧٠﴾..
١٨ في السلام ﴿٢١٨٩﴾..
١٩ في بدء الخلق ﴿٣٢٦٨﴾..
٢٠ الظاهر من الروايات الصحيحة عند البخاري ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم أخرج السحر وحقق في هذا الحافظ ابن حجر في فتح الباري ﴿١٠/٢٣٤، ٢٣٥﴾..
٢١ هي حجر يوضع على رأس البئر لا يستطاع قلعه يقوم عليه المستقي وقد يكون في أسدل البئر. يراجع لابن حجر ﴿١٠/٢٣٤﴾..
٢٢ في ن "يخرق العادات"..
٢٣ يراجع حول حقيقة السحر وحكمه أحكام القرآن للجصاص ﴿١/٦١ -٧٦﴾ وتفسير القرطبي ﴿٢/٤٣ -٤٨﴾ وتفسير ابن كثير ﴿١/١٤٥ -١٤٩﴾ وفتح الباري ﴿١٠/٢٢١ -٢٣٦﴾..
٢٤ في ب "ثعبانا" وكذا في ن..
٢٥ ما ذهب إليه المؤلف فيه نظر قال القرطبي في تفسيره ﴿٢/٤٧﴾: "قال علماؤنا السحر يوجد من الساحر وغيره، وقد يكون جماعة يعرفونه ويمكنهم الإتيان به في وقت واحد. والمعجزة لا يمكن الله أحدا أن يأتي بمثلها وبمعارضتها.." وبنحوه قال الجصاص في أحكام القرآن ﴿١/٦٠﴾..
٢٦ في ن "التفريق"..
٢٧ في ن "فعلهم"..
٢٨ في أ "بعلمه"..
٢٩ في أ "الخلاف"..
٣٠ يراجع الكلام في ذلك في أحكام القرآن للجصاص ﴿١/٥٠ -٧٢﴾ وأحكام القرآن لابن العربي ﴿١/٣١، ٣٢﴾..
٣١ المعلم بفوائد مسلم ﴿٣/١٦١ –بتحقيق شيخنا العلامة النيفر. ط بيت المحطمة﴾..
٣٢ في كتاب العقول، ﴿٢/٤٤٤/٢٥٥٣ –بشار﴾ وفي سنده انقطاع..
٣٣ في ب "فلا يكفر"..
٣٤ من حديث أبي هريرة في الوصايا ﴿٢٧٦٦﴾ ومسلم في الإيمان ﴿٨٩﴾ فكان العزو إليه أولى من النسائي..
اختلف في معنى هذا فقيل : نهى الله تعالى المؤمنين أن يخاطبوا النبي صلى الله عليه وسلم بهذه اللفظة لما فيها من الجفاء، فقد حض الله تعالى على تعزيره وتوقيره وخفض الصوت عنده، ولا مدخل لليهود في الآية على هذا. بل هي نهي عن كل مخاطبة للنبي صلى اله عليه وسلم فيها استواء معه، وقيل نهى الله المؤمنين عن التكلم بهذه اللفظة أصلا لأن اليهود كانت تقولها للنبي –عليه السلام- وتقصد بها الذم، فكان المسلمون يحملونها على معناها في اللغة١، وهي فعل من المراعاة، وكانت اليهود تصرفها إلى معنى الرعونة ويظهرون أنهم يريدون المراعاة ويبطنون أنهم يريدون الرعونة التي هي الجهل. قال بعضهم " راعنا " لغة كانت الأنصار تقولها٢ فقالت رفاعة بن زيد بن التابوت للنبي –عليه السلام- ليا بلسانه وطعنا كما كان يقول : اسمع غير مسمع فنهى الله المؤمنين أن يقولوا هذه اللفظة، وأنكر أبو محمد بن عطية٣ أن تكون هذه اللفظة وقفا على الأنصار وقال : بل هي لغة لجميع العرب. ولعل قائل ذلك لم يرد ما ذهب إليه أبو محمد، وإنما أراد أن الأنصار كانت تردد هذه اللفظة أكثر من غيرها فسماها لغة لها. وحكى المهدوي عن قوم : أن هذه الآية على هذا التأويل ناسخة لفعل قد كان مباحا، قال أبو محمد٤ : وليس في هذه الآية شرط النسخ لأن الأول لم يكن شرعا متقررا ثم نقض ذلك عن قرب، فقال في قراءة من قرأ " راعنا " بالتنوين أن اليهود كانت تقوله، فنهى الله المؤمنين عن القول المباح سدا للذريعة لئلا يتطرق اليهود منه إلى المحظور. وقوله : " فنهى الله المؤمنين عن القول المباح " هو النسخ بعينه فلا معنى لإنكار ما ذكره المهدوي. وفي قراءة ابن مسعود٥ : " راعونا "، وهي مخاطبة الجماعة من المراعاة، وكان اليهود يقولونها للنبي -عليه السلام- يظهرون أنهم يريدون إكباره، وهم يريدون في الباطن راعونا فاعولا من الرعونة والقول فيها كالقول في راعنا. وقد استدل الفقهاء في هذه الآية على القول بسد الذرائع في الأحكام خلافا للشافعي وأبي حنيفة في ترك الاعتبار بذلك، فمن ذلك ما كان من الشرع ظاهره الصحة، ويتوصل به إلى استباحة الربا مثل أن يبيع الرجل سلعة بمائة إلى أجل، ثم يبتاعها بخمسين نقدا ؛ وذلك حرام. وأجاز ذلك الشافعي، وأبو حنيفة. ومنعه مالك ومن تابعه لأنه يؤدي إلى إعطاء خمسين مثلا في مائة، فرأوا أن ما جر إلى الحرام حرام، وتعلقوا بظاهر الآية المذكورة في منع المؤمنين من قول راعنا للنبي-عليه السلام-٦.
٢ يراجع المحرر الوجيز ﴿١/٣٧٤، ٣٧٥﴾ وتفسير الطبري ﴿١/٦١٩-٦٢١﴾ والمفردات في غريب القرآن للراغب الأصبهاني ﴿ص٢٨٨﴾ والتحرير والتنوير ﴿٢/٦٥١﴾..
٣ في أ و ن "لقد كانت الأنصار تقوله" والمثبت من ب والسياق يتماشى معه ومع في "المحرر الوجيز"..
٤ يراجع المحرر الوجيز ﴿١/٣٧٤، ٣٧٥﴾ وفي النقل تقديم وتأخير واختلاف بسيط..
٥ يراجع تفسير الطبري ﴿١/٦٢١﴾ والمحرر الوجيز ﴿١/٣٧٥﴾ قال ابن عطية: "وهي شاذة"..
٦ يراجع أحكام القرآن للجصاص ﴿١/٧٢﴾ والجامع لأحكام القرآن للقرطبي ﴿٢/٦٠، ٦١﴾ والتحرير والتنوير ﴿٢/٦٥٢﴾..
النسخ لغوي وشرعي كالكلام في الصلاة الشرعية كما تقدم وهو في اللغة١ على ثلاثة معان، يقع على النقل كنسخ الكتاب وعن الرفع دون خلف، كقولهم نسخت الريح آثار الماشي، وعلى الرفع مع الخلف كقولهم نسخت الشمس الظل.
واختلف في هذين الوجهين من النسخ : هل هما في معنييهما حقيقة أو مجازا ؟، أو أحدهما حقيقة والآخر مجاز ؟. وهو في الشرع : رفع الحكم الثابت بشرع متقدم، بشرع متأخر عنه، على وجه |لولاه|٢ لكان ثابتا مع تراخيه عنه٣. وإنما أخذ هذا النسخ الشرعي من أحد المعنيين الواقعين تحت الرفع. فأما النسخ بمعنى النقل، فليس بداخل تحت الشرعي. وذهب شيخنا أبو بكر ابن العربي٤، إلى أن نسخ الشيء إزالته لغة وشرعا، وذكر منه نسخ الظل الشمس ونسخ الأثر الريح، وهذا بين. والإزالة والرفع في ذلك بمعنى واحد. قال : وكذلك نسخ الكتاب هو إزالته أيضا لأنه كان منفردا بما فيه، فلما كتب زال انفراده فإنه أثبت بما كان فيه. وقول من يقول : إنه النقل فاسد، وقد وهم فيه القاضي، وإمام الحرمين ومن وراءهم. وما أصابه إلا الشيخ أبو الحسن. وهذا الذي قاله غير صحيح، فإنه إن كان أزال انفراده، فإنه أثبت. ولو ورد في الشرع مثل ذلك، لكانت الآية المكررة على قوله نسخا، وهذا لم يقله أحد، وخلاف الجمهور لا يأتي بخير، وقد ثبت بهذه الآية صحة النسخ في الشريعة، وحده : ما ذكرته، وتحيرت في فهمه عقول أقوام، حتى أنكرته اليهود جملة، ورأوا أنه يلزم عليه تغير علم الله، وأنه يبدو له ما يبدو، وهم في منعه على فرقتين : فرقة تنكره عقلا، وأخرى تنكره شرعا خاصة. وأجازه الروافض، وارتكبوا البداء. ونقلوا عن علي-رضي الله عنه- أنه كان لا يخبر بالغيب مخافة أن يبدو له فيغيره ؛ وربما احتجوا بقوله تعالى :﴿ يمحوا الله ما يشاء ويثبت ﴾ |الرعد : ٣٩|
وأجازه الفقهاء٥، إلا أنهم لم يحصلوا على معنى الرفع لكلام الله تعالى وأنكروه فألحقوا النسخ بالتخصيص، ورأوا أنه الخطاب الكاشف عن مدة العبادة. وأشكل على المعتزلة فيه أيضا ما أشكل على الفقهاء من معنى الرفع، ورأوا أن القديم لا يرفع، ولم يلحقوه بالتخصيص كما قال الفقهاء، فقالوا : إنه الخطاب الدال على أن مثل الحكم الثابت بالنص المتقدم زائل على وجه لولاه لكان ثابتا، ووفق الله أهل الحق إلى فهم معنى الرفع الذي هو حقيقة النسخ، ومن أخل به فقد أخل بحقيقة النسخ. ورأوا أن الرفع لكلام الله تعالى قطع تعلقه بالمكلف عن المكلف، والكلام لا يتغير في نفسه. ورأوا أنه لا يلزم في ذلك بداء، لأنه سبحانه يعلم وقت النسخ، ويعلم أن خطابه المنسوخ يقتضي الدوام إن لم يطرأ ناسخ، ويعلم أنه إذا طرأ النسخ٦ قطع اقتضاء الدوام الذي اقتضاه الخطاب الأول ورفعه بذلك الاقتضاء وهو المرفوع، وهذا هو النسخ، والرفع حقيقة. وقد قرئت هذه الآية في السبع الدائرة بين الأيدي٧ " أو ننسها " ٨ من النسيان، وقرئت " أو ننسأها " عند أبي عمرو ابن كثير٩. يقال نسأ الإبل وأنسأها إذا أخرها عن الورد، فيكون معنى النسخ في الآية على بابه، ويكون معنى النسيان فيها على قراءة به على وجهين : إما على وجه الترك، وإما بمعنى ضج الترك، ويكون معنى قراءة من قرأ بالهمز " ننسأها " التأخير. فإذا قلنا : إن معنى قوله تعالى :
﴿ أو ننسها ﴾ من النسيان الذي هو ضد الذكر، يكون معناه : أو نقرر نسيانك لها حتى ترتفع جملة. وإن قلنا إن معنى النسيان في الآية احتمل أربعة معان :
أحدهما : أن يريد نتركها أو نترك١٠ غير منزل عليك.
والثاني : أو نتركها غير منسوخة.
والثالث : أو نترك تلاوتها وإن رفعنا حكمها.
والرابع : أو نترك حكمها وإن رفعنا تلاوتها.
فالمراد بقوله ﴿ ما ننسخ من آية ﴾ على هذين المعنيين الأخيرين التلاوة والحكم، وعلى المعنيين الأولين يحتمل أن يريد جميع وجوه النسخ أو بعضها. ويكون على المعنى الثاني الضميران في قوله :﴿ منها أو مثلها ﴾ عائدين على المنسوخة خاصة. وإذا قرئ " أو ننساها " بمعنى التأخير، فجميع ما ذكر في معنى الترك من المعاني جارية في هذه القراءة. وفي الآية قراءات أخر لا تخلو معانيها عن الشيء مما ذكرنا. وقد قال أبو إسحاق الزجاج١١ في قراءة من قرأ : " ننسها " بضم النون الأولية١٢ : وتسكين الثانية وكسر السين من النسيان : لا يتوجه فيها معنى الترك لأنه لا يقال أنسى بمعنى ترك. وقال الفارسي١٣ وغيره : ذلك جائز بمعنى نجعلك تتركها، وكذلك ضعف أبو إسحاق أن الآية على النسيان الذي هو ضد الذكر، وقال : إن هذا لم يكن للنبي-عليه السلام- ولا نسي قرآنا. وقال الفارسي١٤ وغيره : ذلك جائز وقد وقع ولا فرق بين أن ترفع الآية بنسخ أو بتنسية. واحتج الزجاج١٥ بقوله تعالى :﴿ ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ﴾ |الإسراء : ٨٦| أي لم نفعل.
وقال الفارسي : معناه لم نذهب بالجميع. وقال هذا القول غير الزجاج. ورد الطبري عليه١٦. والصحيح على مذهب الأصوليين أنه لا يجوز عليه النسيان فيما طريقه التبليغ. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه صلى فأسقط آية، فقال : " أفي القوم أبي ؟ " فقال : نعم يا رسول الله. قال : " فلم لم تذكرني ؟ " قال : حسبت أنها رفعت، فقال النبي –عليه السلام- : " لم يرفع ولكني نسيتها " ١٧. وقد اعتذر أبو محمد عن هذا ومثله بأنه جائز عليه صلى الله عليه وسلم بعد التبليغ، وحفظ الصحابة لما بلغ. والحديث وإن كان فيه أنه قال : " نسيتها " ففيه أنه قال لأبي ابتداء " لم تذكرني ؟ " فدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم عرف ما أسقط وتذكره دون تذكير أحد. وذكر بوحي أوحى الله تعالى١٨ إليه بذلك. وسأل أبيا ليختبر حفظه. فهذا نسيان لم يقدر عليه. وفي هذا كله نظر يؤخذ من علم الأصول، وإنما نأتي هاهنا بنبذ. وقد احتج بهذه الآية ﴿ ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها ﴾ من قال : إن من شرط النسخ إثبات بدل المنسوخ، ومنهم من شرطه عقلا، ومنهم من شرطه شرعا خاصة ؛ والجواب عن حجتهم١٩ بالآية من أوجه.
أحدها : أن هذه الآية لا تمنع الجواز وإن منعت الوقوع عند من يقول بصيغة العموم، ومن لا يرى للعموم صيغة فلا يلزمه أصلا، ومن قال بها فلا يلزمه من هذا ألا يجوز في جميع المواضع إلا ببدل، بل يتطرق التخصيص إليه بدليل النهي عن ادخار لحوم الأضاحي ثم إباحتها، ونسخ تقدمة الصدقة عند مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه نسخ دون بدل٢٠. ثم ظاهر الآية أنه تعالى ينسخ الآية بآية أخرى مثلها. وهل لا يتضمن إلا رفع المنسوخ أو يتضمنه مع ذلك غيره ؟ كل ذلك محتمل. وقد احتج بالآية أيضا من يجيز النسخ بالأخف ولا يجيزه بالأثقل وفي المسألة ثلاثة أقوال :
أحدها : هذا.
والثاني : يجوز بالأثقل ولا يجوز بالأخف.
والجمهور على الجواز بهما معا.
ووجه حجة أهل هذا القول الأول : أنهم قالوا في الآية : هذا الخير الذي ذكره الله تعالى، هو خير عام، والخير ماهو خير لنا، وإلا فالقرآن كله خير، والخير لنا ما هو أخف علينا. والجواب عن هذا أن الخير ما هو أجزل ثوابا وأصلح لنا في المآل وإن كان أثقل في الحال. فإن قيل : ألا يمتنع ذلك عقلا بل شرعا، لأنه لم يوجد في الشرع نسخ الأخف بالأثقل ؟ فالجواب : قد جاء في الشرع أولا الأمر بترك القتال، ثم أمر بالقتال، ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان إلى غير ذلك مما يكثر. وقد اختلف في نسخ التلاوة دون الحكم أو الحكم دون التلاوة٢١، فمنهم من منعه عقلا، ومنهم من أجازه ومنعه شرعا، والصحيح جوازه عقلا وشرعا، فهما٢٢ حكمان، فيجوز نسخهما جميعا، ونسخ أحدهما دون الآخر والآية على عمومها لا تخص حكما دون حكم. وقوله تعالى :﴿ وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ﴾ |البقرة : ١٨٤|، مما نسخ حكمه وبقيت تلاوته، وكذلك تقدمة الصدقة أمام المناجاة، والوصية للوالدين، والأقربين، ومنهم من نسخ التلاوة دون الحكم ما تظاهرت٢٣ به الأخبار من نسخ آية الرجم مع بقاء الحكم، وحديث عائشة٢٤ من نسخ العشر رضعات٢٥.
٢ سقطت من أ..
٣ يراجع في هذا المستصفى للغزالي ﴿٢/٣٥-١١٨﴾. وإحكام الفصول للباجي ﴿ص٣٨٩-٤٣١﴾ وإرشاد الفحول للشوكاني ﴿ص١٨٣-١٨٦﴾..
٤ لم أره في المقدمة الناسخ والمنسوخ له وفي المطبوع سقط في الأول..
٥ في ب و ن "العلماء"..
٦ في ب "الناسخ"..
٧ في ب "البدء" ولعل الصواب الأيدي والله أعلم..
٨ يراجع: السبعة في القراءات لابن مجاهد ﴿ص١٦٨﴾..
٩ يراجع: المصدر السابق ﴿ص١٦٨﴾..
١٠ في ب و ن "بتركها أو بترك"..
١١ يراجع المحرر الوجيز لابن عطية ﴿١/٣٨٤﴾..
١٢ في ن "الأولى"..
١٣ يراجع المحرر الوجيز لابن عطية ﴿١/٣٨٤﴾..
١٤ يراجع المحرر الوجيز لابن عطية ﴿١/٣٨٤﴾..
١٥ يراجع المحرر الوجيز لابن عطية ﴿١/٣٨٤﴾..
١٦ يراجع جامع البيان ﴿١/٦٢٨، ٦٢٩﴾..
١٧ أخرجه من عبد الرحمان بن أبي أبزى عن أبيه، الإمام أحمد في المسند ﴿٣/٤٠٧﴾..
١٨ في ب "أوحي إليه" وكذا في ن..
١٩ في ب "احتجاجهم" والمثبت من أ و ن..
٢٠ إشارة إلى قوله تعالى في سورة المجادلة﴿١١﴾: ﴿يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم﴾..
٢١ في ب "دونها"..
٢٢ في ن "لأنهما"..
٢٣ في أ "تظافرت"..
٢٤ أخرجه مسلم في الرضاع ﴿١٤٥٦﴾..
٢٥ قارن بما جاء في المحرر الوجيز ﴿١/٣٧٦ -٣٨٦﴾ والجامع لأحكام القرآن ﴿٢/٢١-٢٩﴾..
١٠٩- قوله تعالى :﴿ فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ﴾ |البقرة : ١٠٩|.
اختلف في معنى قوله تعالى :﴿ حتى يأتي الله بأمره ﴾ فقيل الأمر فرض القتال، وقيل : قتل قريظة وإجلاء النضير، وقيل : آجال بني آدم. ولا خلاف أنه إذا كانت الغاية معلومة مثل قوله :﴿ ثم أتموا الصيام إلى ﴾ |البقرة : ١٨٧| أنه يكون نسخا، فإن كانت مجهولة، كقوله تعالى :﴿ حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا ﴾ |النساء : ١٥| فاختلف فيه هل هو نسخ أم لا ؟، وعلى هذا الخلاف يترتب الخلاف في نسخ هذه الآية. وقد اختلف فيها فذهب قوم إلى أنها غير منسوخة، لأن الأمر بالعفو والصفح مؤقت لقوله تعالى :﴿ حتى يأتي الله بأمره ﴾ |البقرة : ١٠٩| فلا يتصور النسخ، وهذا على أحد القولين في أن الأمر المنتظر فرض القتال، وقتل بني قريظة وإجلاء بني النضير. وذهب آخرون إلى أنها منسوخة، وهذا القول يترتب على تفسير الأمر بأنه آجال بني آدم ولذلك قال أبو عبيدة٣ إن هذه الآية منسوخة بالقتال، لأن كل آية فيها ترك القتال فهي مكية منسوخة.
وحكمه بأن هذه الآية مكية ضعيف ؛ لأن معاندة اليهود إنما كانت بالمدينة. والذين ذهبوا إلى نسخها اختلفوا في الناسخ، فقال ابن عباس : هو قوله تعالى :﴿ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ﴾ إلى قوله ﴿ صاغرون ﴾ |التوبة : ٢٩|.
وقيل : نسخها قوله تعالى :﴿ فاقتلوا المشركين ﴾ ( التوبة : ٥ ).
٢ في ب "لا يجوز وقوعه"..
٣ مجاز القرآن ﴿١/٥٠﴾ بنحوه والمحرر الوجيز لابن عطية ﴿١/٣٩١﴾..
لم أره بلفظه في تفسيره ولعله اختصار لكلام الطبري ﴿١/٦٤٧﴾ والمؤلف نقله عن ابن عطية في المحرر الوجيز ﴿١/٣٩٣﴾..
اختلف في المشار إليهم١ في الآية فقيل : النصارى الذين كانوا يؤذون المصلين ببيت المقدس٢، ويطرحون فيه الأقذار، وقيل : الروم الذين أعانوا بخت نصر على تخريب بيت المقدس، وقيل : كفار قريش حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الحرام٣. وهذه الآية وإن كانت خرجت على ذكر مسجد مخصوص، فإنها تعم جميع المساجد على مشهور القول في هذا. قال بعضهم : وكذلك من خرب مدينة الإسلام لأنها مساجد، وإن لم تكن موقوفة إذ الأرض كلها مسجد٤. ومما يتعلق بهذا، مسألة وقعت قديما في المؤذن يؤذن في الأسحار، ويبتهل بالدعاء ويردده إلى أن يصبح فشكاه الجيران وأرادوا قطعه، فاختلف الشيوخ فيها، ويمكن أن يحتج لترك المنع من ذلك بقوله تعالى في هذه الآية :﴿ ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ﴾ الآية. وقوله تعالى :﴿ أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين ﴾ |البقرة : ١١٤|. يدل على أن للمسلمين إخراجهم منها إذا دخلوها ولولا ذلك ما كانوا خائفين بدخولها، ويدل عليه أيضا قوله تعالى :﴿ ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله ﴾، |التوبة : ١٧| وعمارتها تكون ببنيانها وإصلاحها أو حضورها ولزومها.
٢ في أ "من يصلي لبيت المقدس"..
٣ يراجع في هذا تفسير الطبري ﴿١/٦٥٤، ٦٥٥﴾..
٤ المحرر الوجيز ﴿١/٣٩٦﴾..
اختلف في صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تحول القبلة : فقال ابن جريح : أول ما صلى إلى الكعبة١ : ثم صرف إلى بيت المقدس، فصلت الأنصار قبل قدومه-عليه السلام- المدينة بثلاث حجج |إلى بيت المقدس|٢ وصلى إليه بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرا ثم وجهه الله عز وجل إلى الكعبة٣، وقال مجاهد عن ابن عباس٤ : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس وهو بمكة والكعبة بين يديه، وبعدما هاجر إلى المدينة ستة عشر شهرا، ثم صرف إلى الكعبة. وقال ابن إسحاق نحوه : كانت قبلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة إلى الشام ويجعل الكعبة بينه وبين الشام٥. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس٦ : أول ما نسخ من القرآن القبلة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة، وكان أكثر أهلها اليهود، أمره الله عز وجل أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهرا، ثم انصرف إلى الكعبة ؛. ففي هذا الخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل إلى بيت المقدس إلا بالمدينة خلاف خبر مجاهد وخلاف ما قال ابن جريج. قال ابن عبد البر : وهو أصح القولين. وتحصيل هذا أنهم أجمعوا على أن أول ما نسخ من القرآن القبلة وأجمعوا أن ذلك كان في المدينة. واختلفوا في صلاته بمكة قبل الهجرة حين فرضت الصلاة عليه، فقيل : كانت صلاته إلى بيت المقدس من حين فرضت عليه الصلاة إلى قدومه المدينة، ثم بالمدينة ستة عشر أو سبعة عشر شهرا، وقيل : كانت صلاته من حين فرضت عليه إلى الكعبة طول مقامه بمكة، ثم لما قدم المدينة صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا، وقيل : سبعة عشر، وقيل ثمانية عشر، ثم صرفه الله تعالى إلى الكعبة واختلفوا هل كانت صلاته صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس بأمر من الله تعالى في القرآن ؟ أو بسنة منه صلى الله عليه وسلم ؟ فجاء عن ابن عباس أنه قال : أول ناسخ من القرآن القبلة٧. فاقتضى هذا أن القبلة المنسوخة كانت مستقبلة بالقرآن. والمشهور أن استقبال بيت المقدس لم يكن بالقرآن. وقال الربيع : خير صلى الله عليه وسلم في النواحي فاختار بيت المقدس تأليفا٨ لأهل الكتاب، وقال بعضهم : صلى صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس ليختبر من آمن من العرب لأنهم كانوا يألفون الكعبة وينافرون بيت المقدس وغيره٩. وذكر الباجي١٠ عن الحسن البصري وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس اختيارا من غير فرض عليه ليتألف أهل الكتاب١١، ثم صرف إلى مكة. قال : وهذا الذي قاله ظاهره أن الأمر كان مفوضا إليه قد خير فيه. والأظهر على هذا القول أن يكون تبع في ذلك شريعة من قبله من الأنبياء –عليهم السلام-، ممن كانت قبلته إلى بيت المقدس.
واختلف في أي صلاة حولت القبلة. ففي " الموطأ " ١٢ بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال لهم : " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة " الحديث.
وروى البراء بن عازب أنها صلاة العصر١٣. وقال أبو بشر الدولابي : زار النبي صلى الله عليه وسلم أم بشر في بني سلمة، وصلى الظهر في مسجد القبلتين ركعتين إلى الشام، ثم أمر أن يستقبل الكعبة فاستدار ودارت الصفوف خلفه، فصلى البقية إلى مكة١٤. وذكر أبو الفرج : أن عباد بن نهيك كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الصلاة. وقيل : إنما نزلت الآية بنسخ القبلة في غير صلاة |وهو واه|١٥. واختلف أيضا في أي يوم ؟ وفي أي شهر ؟ وفي أي سنة ؟ فقيل : في يوم الاثنين وفي النصف من رجب على رأس سبعة عشر شهرا من مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة. وقيل : على رأس ستة عشر شهرا، وقيل يوم الثلاثاء في النصف من شعبان على رأس ثمانية عشر شهرا من مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة. وقيل : حولت القبلة في جمادى الآخرة. وقيل : لم يصل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة إلى بيت المقدس أكثر من ثلاثة عشر شهرا، وقال أنس : صرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيت المقدس بعد تسعة أشهر أو عشرة. وقال الحسن : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس سنتين١٦.
وقد اختلف في هذه الآية على ثلاثة مذاهب، فذهب بعضهم إلى أنها منسوخة وممن ذهب إلى ذلك ابن زيد. وذهب بعضهم إلى أنها ناسخة لا منسوخة وممن ذهب إلى ذلك مجاهد١٧، والضحاك١٨. وذهب بعضهم إلى أنها لا ناسخة ولا منسوخة. واتفقوا على أن ناسخها قوله تعالى :﴿ فول وجهك شطر المسجد الحرام ﴾ واختلفوا في تأويل الآية المنسوخة، فذهب قتادة١٩ وابن زيد٢٠ إلى أنها نزلت في إباحة الصلاة إلى أي جهة كانت وإلى هذا ذهب ابن بكير في " أحكامه " قالوا : وهذا نسخ قبل الفعل لأنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الحضر حيثما توجه. وقال بعضهم أنها نزلت في الصلاة إلى بيت المقدس فلما نزلت، صلى النبي صلى الله عليه وسلم إليه سبعة عشر شهرا عند مقدمه المدينة رجاء أن يستألف بذلك اليهود، وكان يحب الاستقبال إلى الكعبة، ويقلب بصره إلى السماء يطمع أن يؤمر بالتوجه إلى الكعبة، فأنزل الله تعالى :﴿ قد نرى تقلب وجهك في السماء ﴾ الآية |البقرة : ١٤٤| فنسخ |ذلك|٢١ استقباله إلى بيت المقدس، ونزل :﴿ وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ﴾ |البقرة : ١٤٣|٢٢ ويضعف هذا القول٢٣ أنه قصر لعموم الآية على معنى خاص، ويأتي أن صلاته صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس بأمر من الله تعالى، وأن هذا إنما هو من نسخ القرآن بالقرآن. والمشهور أنه من السنة المنسوخة بالقرآن. والذين ذهبوا إلى أنها ناسخة قالوا : معنى الآية أينما تولوا من مشرق ومغرب فثم وجه الله أي في القبلة التي أمر بها، وذلك في استقبال الكعبة. فجعلوا الآية ناسخة لاستقبال بيت المقدس، فهي على هذا التأويل بمعنى الآية الأخرى :﴿ فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ﴾ الآية |البقرة : ١٤٤|. وتكون الصلاة إلى بيت المقدس سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم نسخها القرآن.
والذين ذهبوا إلى أنها لا ناسخة ولا منسوخة اختلفوا في تأويلها فذهب ابن عمر إلى أنها نزلت في النافلة السفرية٢٤ على الراحلة حيثما توجهت به. فتخصص هذه الآية بهذه الصلاة٢٥. وبالحديث الذي جاء فيها من عموم الآية الأخرى. وعلى هذا التأويل الآية عامة في الفرض، والنفل، والحضر، والسفر على الراحلة، وعلى غير الراحلة، ولكنه عموم خرج على سبب فهل هذا يقصر على سببه ؟ أو يحمل على عمومه ؟ فيه خلاف بين الأصوليين٢٦. ولا خلاف أن هذه الآية قد يخصص منها المقيم ومصلي الفرض في السفر إذا كان صحيحا بالإجماع، وبقوله تعالى :﴿ فول وجهك شطر المسجد الحرام ﴾ |البقرة : ١٤٤|.
واختلف في المريض والمسافر إذا لم يستطع السجود والجلوس على الأرض، هل يجوز له صلاة الفرض على الراحلة أم لا ؟ ففي مذهب مالك فيها اختلاف. واختلف أيضا في مصلي النفل على الراحلة في سفر لا يقصر فيه، هل يجوز له ذلك أم لا ؟ ففي المذهب أنه لا يجوز وأجازه أبو حنيفة والشافعي٢٧. واختلف أيضا في المتصرف على الراحلة للمعيشة٢٨ في الحضر هل يجوز له ذلك أم لا ؟ ففي المذهب لا يجوز خلافا للأصطخري والقفال من أصحاب الشافعي في إجازة ذلك. وفي التنفل في السفينة حيثما توجهت روايتان عن مالك، وفي تنفل٢٩ الماشي في السفر حيثما توجه قولان عند٣٠ الشافعي، فمن حجة من أجاز شيئا من هذا المختلف فيه عموم قوله تعالى :﴿ فأينما تولوا فثم وجه الله ﴾ ومن حجة من منعه عموم الآية الأخرى :﴿ وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ﴾ ومالك رحمه الله تعالى جمع بين الآيتين وحمل قوله تعالى :﴿ وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ﴾ على عمومه، وقصر قوله تعالى :﴿ فأينما تولوا فثم وجه الله ﴾ على ما نزل فيه. كما ذكر عن ابن عمر٣١ : أنه نزل في النافلة على الراحلة في السفر حيثما توجهت به، وخصص بذلك عموم الآية المذكورة. وما جاء عنه من اختلاف في السفينة وفي المريض المسافر يصلي الفرض على الراحلة، فالمشهور عنه في ذلك كله أنه لا يجوز تعلقا بقوله تعالى :﴿ فول وجهك شطر المسجد الحرام ﴾ الآية.
وقد اختلف في صلاة الوتر على الراحلة، والصحيح جوازه لأن ابن عمر روى أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك٣٢، فهو مما يخصص عموم الآية الواحدة ويحفظ عموم الأخرى.
واختلف هل يستحب للمصلي على الراحلة أن يستقبل براحلته القبلة أو لا ؟ ففي مذهب مالك ليس عليه ذلك. والحجة في ذلك ظاهر الآية المذكورة. وفي " البخاري " ٣٣ عن ابن عمر أنه قال : " كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في السفر على راحلته حيثما توجهت به، يومئ إيماء، صلاة الليل إلا الفرائض، ويوتر على الراحلة " قال المهلب : هذا الحديث تفسير قوله تعالى :﴿ وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ﴾ وأن المراد به الصلاة المفروضة وأن القبلة فرض فيها٣٤، وتبين أن القبلة في النوافل سنة لصلاته لها –عليه الصلاة والسلام- في أسفاره على راحلته حيث توجهت به، وذهب عبد الله بن عامر بن ربيعة إلى أنها نزلت فيمن اجتهد٣٥ في القبلة فأخطأ، وجاء في ذلك حديث رواه عبد الله بن ربيعة قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر في ليلة مظلمة، فتحرى قوم القبلة وعلموا علامات، فلما أصبحوا رأوا أنهم قد أخطأوا. فعرفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فنزلت الآية :﴿ فأينما تولوا فثم وجه الله ﴾ ٣٦ |البقرة : ١١٥|.
وذكر بعضهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن مع القوم في هذا السفر، وهو خطأ. وهذا أيضا من العموم الخارج على سبب خاص، فلا خلاف أن السبب داخل في حكمها، لكنه عارض ذلك عموم قوله تعالى :﴿ وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ﴾ |البقرة : ١٤٤| فإن غلب عموم قوله تعالى :﴿ فأينما تولوا فثم وجه الله ﴾ الآية، لم يكن على المخطئ بعد الاجتهاد إعادة، وإن٣٧ غلب عموم قوله تعالى :﴿ فول وجهك شطر المسجد الحرام ﴾ الآية وجب عليه الإعادة أبدا، وهو قول المغيرة، ومحمد بن سحنون، والأول قول سائر أصحاب مالك ذكره عبد الوهاب٣٨. وقال بعض أصحابه إنه يعيد في الوقت، والأظهر تخصيص الآية الواحدة بالآية الأخرى، وفيه خلاف بين الأصوليين هل يحمل على التخصيص أو على التعارض ووجه النسخ ؟ وكذلك اختلفوا في الجاهل والناسي كالخلاف في المجتهد يخطئ. وذهب قتادة إلى أن هذه الآية نزلت في النجاشي، وذلك أنه لما مات، دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة عليه، فقال قوم : كيف نصلي على من لم يصل إلى القبلة قط، فنزلت الآية٣٩. وانظر على هذا المؤمن إذا صلى لغير القبلة ما حكمه ؟. وذهب ابن جبير إلى أنها نزلت في الدعاء لما نزلت :
﴿ ادعوني أستجب لكم ﴾ |غافر : ٦٠| قال المسلمون إلى أين ندعو ؟ فنزلت ﴿ فأينما تولوا فثم وجه الله ﴾ ٤٠. وذهب النخعي إلى أن معنى الآية أين ما تولوا في تصرفاتكم ومساعيكم، فثم وجه الله. أي موضع رضاه وثوابه، وجهة رحمته التي يتوصل إليها بالطاعة. وقد نسب إلى النخعي مثل قول عبد الله بن عمر٤١
٢ سقطت من أ وهي في ب و ن..
٣ قول ابن جريج ذكره ابن عبد البر عن سنيد بسنده في التمهيد ﴿١٧/٥٢﴾ والاستذكار ﴿٧/٢١١﴾ وسنده منقطع. وعزاه الحافظ في الفتح للطبراني ﴿١/٥٠٢﴾..
٤ أخرجه البخاري عن ابن عباس في الإيمان ﴿٤٠﴾ والطبري في تفسيره ﴿٢٢٧- ط شاكر﴾..
٥ رواه الطبري بسند صحيح عنه في تفسيره ﴿١/٦٥٩﴾..
٦ يراجع التمهيد ﴿١٧/٥٢-٥٤﴾ والاستذكار ﴿٧/٢٠٣-٢١١﴾ والدرر في اختصار المغازي والسير ﴿ص١٠١﴾..
٧ مضى قريبا تخريجه..
٨ في ن "ليتألف بها أهل"..
٩ يراجع ما قيل في هذا تفسير الطبري ﴿١/٦٥٩، ٦٦٠﴾ والتمهيد ﴿١٧/٤٥-٥٤﴾، والاستذكار ﴿٧/١٨٦-٢١٦﴾ والعجاب لابن حجر ص ﴿١٧٧{١٨٢﴾..
١٠ المنتقى ﴿١/٣٤٠﴾..
١١ في ن "الكتابين"..
١٢ في الصلاة ﴿١/٢٧١/٥٢٤ –بشار﴾ وأخرجه البخاري في أخبار الآحاد ﴿٧٢٥٢﴾ ومسلم في المساجد ﴿٥٢٦﴾..
١٣ كما في حديثه عند البخاري في الصلاة ﴿٣٩٩﴾..
١٤ ذكرها الحافظ ابن حجر غير معزوة لأحد في الفتح ﴿١/٥٠٦﴾ ويراجع كلامه في هذه المسألة وجمعه بين الروايات هناك وفي ﴿١/٥٠٦، ٥٠٧﴾..
١٥ سقطت من ب..
١٦ حقق الحافظ ابن حجر في هذه الأقوال في الفتح ﴿١/٩٦، ٩٧﴾ ووجدت الحافظ ابن رجب أشبع هذه المسألة كلاما وتحقيقا في كتابه الفذ فتح الباري ﴿١/١٦٤-١٧٢﴾..
١٧ المحرر الوجيز ﴿١/٣٩٨﴾..
١٨ نفس المصدر ﴿١/٣٩٨﴾..
١٩ يراجع المحرر الوجيز ﴿١/٣٩٨﴾..
٢٠ يراجع المصدر السابق ﴿١/٣٩٨﴾..
٢١ سقطت من أ..
٢٢ أخرجه البخاري في مواطن منها في الإيمان ﴿٤٠﴾ وفي الصلاة ﴿٣٩٩﴾ ومسلم في المساجد ﴿٥٦٧﴾ والعجاب في بيان الأسلوب للحافظ ابن حجر ﴿ص ٢٠٣-٢٠٧﴾..
٢٣ في أ "وهذا القول يضعف لأنه..".
٢٤ في ن "في السفر".
٢٥ أخرجه مسلم في صلاة المسافرين ﴿٠٠٧﴾ والنسائي في الصلاة ﴿١/٢٤٤- المجتبى﴾
والترمذي في التفسير ﴿٢٩٥٨﴾ وأحمد في المسند ﴿٢/٢٠، ٢١﴾ والدارقطني في السنن ﴿١/٢٧٨﴾ والحاكم المستدرك ﴿٢/٢٦٦﴾. ويراجع العجاب لابن حجر ﴿ص ١٧٩، ١٨٠﴾..
٢٦ في ن "بين أهل الأصول"..
٢٧ يراجع في هذا: الأم للشافعي ﴿١/٨٤﴾ وما بعدها والمدونة لسحنون ﴿١/٨٠﴾ وما بعدها وأحكام القرآن للجصاص ﴿١/١١١-١١٤﴾ وتفسير القرطبي ﴿٢/٨٠، ٨١﴾..
٢٨ في ن "لمعيشته"..
٢٩ في أ "توجه"..
٣٠ في ن "عن"..
٣١ يراجع الموطأ قصر الصلاة ﴿١/ص٢١٤/٤٠٨ و٤١٣﴾..
٣٢ كما في صحيح البخاري في الوتر ﴿٩٩٩﴾ ومسلم في صلاة المسافرين ﴿٧٠٠﴾..
٣٣ في كتاب الوتر ﴿١٠٠٠﴾..
٣٤ يراجع الفتح لابن حجر ﴿٢/٤٨٨ و٤٨٩﴾..
٣٥ في ن "تحرى"..
٣٦ أخرجه الترمذي في صلاة ﴿٣٤٥﴾ وفي التفسير ﴿٢٩٥٧﴾ وابن ماجه في إقامة الصلاة ﴿١٠٢٠﴾ والطبري في تفسيره ﴿١/٦٦١﴾ وغيرهم من طريق أشعث السمان، عن عاصم بن عبيد الله، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه فذكره.
قال الترمذي: "ليس إسناده بذاك، لا نعرفه إلا من حديث أشعث، وأشعث يضعف في الحديث" قلت: وضعفه غير واحد من الحفاظ منهم الحافظان ابن كثير في تفسيره ﴿١/١٥٩﴾ وابن حجر في العجاب ﴿ص١٧٨، ١٧٩﴾..
٣٧ في أ "لأنه"..
٣٨ في الإشراف على نكت الخلاف ﴿١/٢٢١، ٢٢٢/رقم ٢٠٥﴾..
٣٩ رواه الطبري عنه في تفسيره ﴿١/٦٦١، ٦٦٢﴾ وقال ابن كثير في التفسير ﴿١/١٦٠﴾ "وهذا غريب"..
٤٠ رواه الطبري في تفسيره ﴿١/٦٦٣﴾ وابن المنذر كما في الدر المنثور للسيوطي ﴿١/١٠٩﴾ ويراجع العجاب لابن حجر ﴿ص ١٨٦﴾..
٤١ في ب "عامر"..
﴿ إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمان عبدا ٩٣ ﴾ |مريم : ٩٣| وكذلك قوله تعالى :﴿ وبالوالدين إحسانا ﴾ |البقرة : ٨٣| و﴿ فلا تقل لهما أف ﴾ |الإسراء : ٢٣| يدل على عتق الأبوين١ لأنه ليس من الإحسان إليهما رقهما وكذلك قوله :﴿ لا أملك إلا نفسي وأخي ﴾ يدل على عتق الأخوة، لأنه إذا كان لا يملك نفسه فلا يملك أخاه. وبعضهم لا يصحح هذا الاستدلال ويحتج بالحديث الواقع في " مسلم " ٢ : " لا يجزي ولد والده، إلا أن يجده مملوكا فيشتريه ويعتقه " ويرى أنه يعطى على صحة الشراء واستئناف العتق، ولأجل هذا وقع الاختلاف في عتق الأقارب إذا ملكوا فأنكره جماعة من أهل الظاهر وتعلقوا بالحديث المذكور، وأثبته الأكثرون إلا أنهم اختلفوا في تعيين الأقل بالمذكورين على ثلاثة أقوال : أحدهما : أن العتق يختص بعمودي النسب ما علا أو سفل والإخوة. وهو مشهور المذهب خاصة.
والثاني : أنه يختص بعمودي النسب خاصة دون الإخوة ذكره ابن خويز منداد.
والثالث : أنه يعتق٣ ذوي الأرحام المحرمة، ذكره ابن القصار. وهو قول أبي حنيفة، والثاني قول الشافعي. وحجة القول الأول ظاهر الآيتين المذكورتين. وحجته في الإخوة قوله تعالى :﴿ لا أملك إلا نفسي وأخي ﴾ |المائدة : ٢٥| فلما استحال ملك نفسه استحال ملك أخيه. وتعلقهم بهذه الآية ضعيف ولأجل ضعف التعلق بقوله تعالى :﴿ لا أملك إلا نفسي وأخي ﴾ نفى تعلق الإخوة. من نفاه وأثبت عتق البنوة لقوة الظاهر الوارد به في القرآن والأبوة بقوله تعالى :﴿ وبالوالدين إحسانا ﴾ |البقرة : ٨٣| وقوله تعالى :﴿ ولا تقل لهما أف ﴾ |الإسراء : ٢٣| وليس من الإحسان لهما استرقاقهما. وحجة ما حكاه ابن القصار ما خرجه الترمذي٤. والنسائي٥، وأبو داود٦، عن سمرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من ملك ذا رحم محرم فهو حر " وهذا يرفع الاحتمال في الحديث الذي ذكر فيه الشراء، ويبين أن معناه يعتق بالشراء. فأضاف العتق إليه لما كان عن أمر يكتسبه أو يفعله وهو الشراء. وقد اختلف هل يفتقر عتق الأقارب المذكورين إلى حكم حاكم أم لا ؟ فقيل لا يفتقر لظاهر الحديث " من ملك ذا رحم فهو حر " وعليه يتأول الآي من قال هذا، وقيل يفتقر لأجل ما فيه من الخلاف ليرتفع الخلاف٧.
٢ في العتق ﴿١٥١٠﴾ ويراجع تفصيل الكلام على فقه الحديث وأقوال العلماء في ذاك المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم للقرطبي أبي العباس﴿٤/٣٤٤-٣٤٦﴾ وشرح مسلم للنووي﴿١٥٦/١٠-١٥٣﴾..
٣ في أ "عتق"..
٤ في الأحكام ﴿١٣٦٥﴾..
٥ في العتق ﴿الكبرى: ٤٨٩٨-٤٩٩٠﴾..
٦ في العتق ﴿٣٩٤٩﴾ من طرق عن حماد بن سلمة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة.
وأخرجه غيرهم لكن الحديث معلول. أشار البخاري إلى تضعيفه في العلل الكبير للترمذي ﴿٣٧٥﴾ وقال علي بن المديني: "حديث كما في نصب الراية للزيلعي ﴿٣/٢٧٥﴾ والتلخيص الحبير لابن حجر ﴿٤/٢١٢﴾..
٧ يراجع في هذا كلام أبي العباس القرطبي في "المفهم" ﴿٤/٣٤٤-٣٤٦﴾ وكلام النووي في شرحه لمسلم ﴿١٠/١٥٢، ١٥٣﴾..
اختلف في هذه الكلمات ما هي ؟ ؛ فقال ابن عباس وقتادة : هي عشر خصال خمس منها في الرأس : المضمضة والسواك، وقص الشارب، والاستنشاق، وفرق الرأس. وقيل : بدل فرق الرأس إعفاء اللحية. وخمس في الجسد تقليم الأظافر، وحلق العانة، ونتف الإبط، والاستنجاء بالماء والاختتان. قال ابن عباس أيضا، هي ثلاثون : عشرة منها في براءة ﴿ التائبون العابدون ﴾ الآية |التوبة : ١١٢| وعشرة في الأحزاب :﴿ إن المسلمين والمسلمات ﴾ الآية |الأحزاب : ٣٥| وعشرة في سأل سائل١. وقال الحسن بن أبي الحسن : هي الخلال الست التي امتحن بها إبراهيم : الكوكب، والقمر، والشمس، والنار، والهجرة، والاختتان. وقيل : بدل الهجرة الذبح. وقالت طائفة : هي مناسك الحج. وقال مجاهد وغيره : الكلمات : هي أن الله عز وجل قال لإبراهيم : إني مبتليك بأمر فما هو ؟ قال إبراهيم : تجعلني للناس إماما. قال الله : نعم. قال إبراهيم : وتجعل البيت مثابة. قال الله : نعم. قال إبراهيم : وتجعل هذا البلد آمنا. قال الله : نعم، قال إبراهيم : وترزق أهله من الثمرات. قال الله : نعم. فعلى هذا القول. فالله تعالى هو الذي أتم، وعلى سائر الأقوال المتقدمة إبراهيم هو الذي أتم. وقد روي أن الله عز وجل أوحى إليه أن تطهر فتمضمض، ثم أن تطهر فاستنشق، ثم أن تطهر فاستنجى، ثم أن تطهر فحلق عانته، ثم أن تطهر فنتف إبطه، ثم أن تطهر فقلم أظفاره، ثم أن تطهر فأقبل على جسده ينظر ما يفعل٢ ؟ فاختتن بعد عشرين ومائة سنة. وفي " البخاري " ٣ : أنه اختتنن وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم. |بتشديد الدال موضع. وقيل : هو الآية|٤ وإنما سميت هذه الأشياء كلمات لأنها جاءت بها أوامر٥.
فعلى هذا التأويل وهو أقوى ما جاء في الآية. دلت الآية٦ أن التنظيف ونفي الأقذار والأوساخ عن الأبدان والثياب مأمور به. وقال أبو واصل : أتيت أبا أيوب الأنصاري فصافحته فرأى في أظفاري طولا، فقال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن أخبار السماء، فقال : " يجيء أحدكم يسأل عن أخبار السماء وأظفاره كأظفار الطير حتى يجتمع فيها الوسخ والتفث " ٧. وقالت عائشة-رضي الله عنها- : خمس لم يكن رسول الله صلى الله يدعهن في سفر ولا حضر : المرآة والكحل والمشط، والمدرى، والسواك٨.
١٢٤_ قوله تعالى :﴿ إني جاعلك للناس إماما ﴾ |البقرة : ١٢٤|.
الإمام من يؤتم به في أمر الدين كالنبي، والخليفة، والعالم.
١٢٤- وقوله :﴿ ومن ذريتي ﴾ |البقرة : ١٢٤|.
قيل : هو على جهة الاستفهام، وقيل : على جهة السؤال، ويؤخذ منه إباحة السعي في منافع الذرية والقرابة وسؤال من بيده ذلك.
١٢٤- قوله تعالى :﴿ لا ينال عهدي الظالمين ﴾ |البقرة : ١٢٤|.
يدل على أن الإمامة قد وقعت له في أن يكون من ذريته أئمة ولكن الظالم منهم لا إمامة له. واختلف في العهد ما هو ؟ فقال مجاهد : هو الإمامة. وقال السدي : النبوءة. وقال قتادة : الأمان من عذاب الله. وقال ابن عباس : لا عهد لظالم أن تطيعه. وقيل : العهد الدين.
وقوله تعالى :﴿ الظالمين ﴾. قيل : هو ظلم الكفر. وقيل : ظلم المعاصي، فإذا أولنا العهد بالإمامة والنبوءة والدين، فالظلم عام للمعاصي والكفر. وإن قلنا : أنه ظلم الكفر، فالمعنى بين لا كلام فيه. وإن قلنا : إنه ظلم المعصية فيؤخذ منه على القول بأنه العهد النبوءة- أن المعجزة لا تظهر على يد فاسق ظالم وإن كان ذلك في العقل جائزا لكن السمع بهذه الآية وغيرها منع من ذلك. ويؤخذ منه-على القول بأنه الإمامة- أن الفاسق لا يصلح٩ أن يقدم إماما١٠. فإن ظهر من الإمام فسق بعد صحة إمامته فهل يجب خلعه أم لا ؟ اختلف فيه وإلى القول بخلعه ذهب جماعة من السلف، وبهذا التأويل خرج ابن الزبير والحسين على يزيد بن معاوية، وخرج خيار أهل العراق وعلماؤهم على الحجاج، وأخرج أهل المدينة بني أمية عنهم، فكانت وقعة الحرة. وبهذه الآية وما كان في معناها تعلقت طائفة من المعتزلة وجماعة الخوارج. وأما جماعة أهل السنة وأئمتهم، فرأوا أن الصبر على طاعة الإمام وإن كان جائزا أولى لما في الخروج عليه من الفساد. وإذا أولنا العهد بأحد سائر الوجوه الأخرى المذكورة، فقال أبو محمد عبد الحق : فالظلم في الآية ظلم الكفر لأن العاصي المؤمن ينال الدين والأمان من عذاب الله وتلزم طاعته إذا كان ذا أمر١١. وفي هذا كله نظر لأن العاصي المؤمن وإن نال الدين فالاقتداء به وقبول قوله لا يجب. وهو معنى الدين الذي فسر به العهد، فيصح أن لا يناله العاصي، وكذلك الأمان من عذاب الله، فإن العاصي لا يأمن العذاب لأنه تحت الوعيد لكن العفو الجائز عن الله تعالى إذا حصل صح له الأمان، فإن جعلنا الأخبار عن هذه الحالة فالظلم الكفر، وإن جعلناه عن الحالة قبل العفو صح أن يكون ظلم المعصية. وكذلك لزوم الطاعة، فإن الإمام الفاسق إنما يجب امتثال أمره إذا أمر بطاعة. وإن أمر بمعصية لم يجب امتثال أمره على أنه قد اختلف في خلعه، وإن أمر بطاعة يحتمل أن يكون الظلم هنا ظلم المعصية، ويحتمل أن يكون ظلم الكفر. ويؤخذ من هذه الآية بالجملة أن الظالمين لا يجوز أن يكونوا محل من تقبل منهم أوامر الله١٢.
٢ في ن "يصنع"..
٣ في ن أحاديث الأنبياء ﴿٣٣٥٦﴾..
٤ سقطت من أ..
٥ قارن بما جاء في المحرر الوجيز ﴿١/٤١٠، ٤١١﴾ ويراجع لهذه الأقٌوال المذكورة تفسير الطبري ﴿١/٦٨٧-٢٩٢﴾ ومعالم التنزيل -١/١٤٥} وتفسير القرطبي ﴿٢/٩٦{٩٩﴾ وتفسير ابن كثير ﴿١/١٦٥-١٦٨﴾..
٦ يراجع أحكام القرآن للهراسي ﴿١/١٤﴾..
٧ أخرجه الإمام أحمد في المسند ﴿٥/٤١٧﴾ وأبو داود الطيالسي في المسند أيضا ﴿٥٩٦﴾ والبيهقي من طريق الطيالسي في السنن ﴿١/١٧٥، ١٨٦﴾.
وقال البيهقي: "هذا مرسل أبو أيوب الأزدي غير أبي أيوب الأنصاري" ووافقه الحافظان البوصيري إتحاف الخيرة ﴿١/رقم ٧٠٢﴾ وابن حجر في المطالب العالية﴿١/رقم٦٩﴾..
٨ أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط ﴿٧/٤٣١٦-مجمع البحرين﴾ وابن عدي في الكامل ﴿١/٣١٠و٣٤٨﴾ وفي إسناده أبو أمية وهو إسماعيل بن يعلى "وهو متروك" كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد ﴿٥/١٧٤﴾ كما ضعفه ابن عدي في الموضع الثاني..
٩ يراجع المحرر الوجيز ﴿١/٤١٢، ٤١٣﴾ وأحكام القرآن للهراسي ﴿١/١٤، ١٥﴾ وجامع البيان ﴿١/٢٩٤-٦٩٨﴾ وزاد الميسر ﴿١/١٤٠، ١٤١﴾ وتفسير ابن كثير ﴿١/١٦٨، ١٦٩﴾ والجامع لأحكام القرآن للقرطبي ﴿٢/١٠٧-١١٠﴾ والتحرير والتنوير﴿١/٦٩٩-٧٠٧﴾..
١٠ في أ "يصح"..
١١ المحرر الوجيز ﴿١/٤١٢، ٤١٣﴾..
١٢ قال ابن خويز منداد: "وكل من كان ظالما لم يكن نبيا ولا خليفة ولا حاكما ولا مفتيا، ولا إمام صلاة، ولا يقبل عنه ما يرويه عن صاحب الشريعة ولا تقبل شهادته في الأحكام، غير أنه لا يعزل بفسقه حتى يعزله أهل الحل والعقد" كذا في الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ﴿٢/١٠٩﴾..
مثابة مفعلة من ثاب يثوب إذا رجع. وقيل من الثواب وقرأ الأعمش " مثابات " على الجمع. وقال ورقة بن نوفل في١ الكعبة :
مثابا لإفناء القبائل كلها | تخب إليها اليعملات الطلامح |
جعله الله تعالى أمنا لأنه يؤمن فيه، وكنى بالبيت عن الحرم فيحتج به في كون الحرم مأمنا ويحتمل أن يقال إنما هذا في البيت خاصة، وأما أمن الحرم فيؤخذ من موضع آخر، والأول أظهر، لقوله تعالى :﴿ ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام ﴾ ( البقرة : ١٩١ ) وقوله تعالى :﴿ فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ﴾ |التوبة : ٢٨| إلا أن معناه مأمن عن النهب والغارات، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أحلت لي ساعة من نهار، ثم هي حرام إلى يوم القيامة لا يقطع شجرها، ولا ينفر صيدها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد " ٣ وروى أبو شريح الكعبي : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله تعالى حرم مكة، ولم يحرمها الناس، فلا يسفكن فيها دم، وان الله تعالى أحلها لي ساعة، لم يحلها الناس " وقد اختلف هل يقام فيها حد ؟ أو يهاج فيها جان ؟ لأن عموم هذه الآية في الأمن، فقد عارضها خصوص، وقوله صلى الله عليه وسلم : " لا يعيذ غاصبا ولا فارا بدم، ولا فارا بخربة " ٤.
وقوله تعالى :﴿ أمنا ﴾ لفظ عام في أمان الناس والطير والبهائم، وقد خصص الشرع من ذلك أشياء، فلا خلاف بين العلماء أن الداجن كله من الإبل والبقر، والغنم، والدجاج، ونحو ذلك يجوز للمحرم وغير المحرم٥ ذبحه بمكة، ولذلك قال البخاري٦-رضي الله عنه- : ولم ير ابن عباس بالذبح بأسا. وخصص الشرع أيضا أشياء بما جاء في الحديث الصحيح وهو " خمس فواسق " ٧ وفي بعض الأحاديث " ست " وفي بعضها " أربع " ٨ واتفق الناس على القول بهذا التخصيص إلا أنهم اختلفوا في هذه الأشياء المخصصة هل تعلل إباحة قتلها في الحرم أم لا ؟ فمنهم من نفى التعليل واقتصر على الخمس، ولم يتعدها إلى غيرها، وهم أهل الظاهر٩، ومنهم من رأى التعليل، إلا أنهم اختلفوا في العلة، فعلله مالك بالضرر، وعلله الشافعي بأن لحومها لا تؤكل وبحسب ذلك طرد كل واحد علته. واختلفوا في صغار ما يحل قتله، هل يقتل ككباره أم لا ؟ ففيه في المذهب قولان، فعلى القول بأنه لا يقتل يدخل تحت عموم الآية في الأمن، وعلى القول بأنه يقتل يخصص عموم الآية بعموم الحديث. وقال أبو الحسن الطبري١٠ : يحتمل أن يكون جعلها مأمنا بما جعل فيها من العلامة العظيمة على توحيد الله، وهو اختصاصه لها بما يوجب تعظيمها وذلك ما شوهد فيها من أمر الصيد، وذلك أنه يجمع فيها الكلب والظبي، فلا يهيج الكلب الظبي ولا ينفره إذا خرجا من الحرم عدا الكلب عليه وعاد إلى النفر والهرب.
١٢٥- قوله تعالى :﴿ واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ﴾ |البقرة : ١٢٥|.
يقرأ : " واتخذوا " على الأمر و " اتخذوا " ١١ على الخبر. وقال أنس بن مالك وغيره في معنى ذلك ما روي عن عمر-رضي الله عنه- أنه قال : وافقت ربي في ثلاث : في الحجاب، وفي ﴿ عسى ربه إن طلقكن ﴾. وقلت : يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ؟ فنزلت :
﴿ واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ﴾ ١٢ فهذا أمر لأمة محمد -عليه السلام-، وقد قيل فيه غير هذا، واختلف في المقام، فقيل : هو الحجر الذي ارتفع عليه إبراهيم – عليه السلام- حين بنى١٣ البيت وارتفع البناء، وضعف عن رفع الحجارة التي كان إسماعيل يناوله إياها. وقال الربيع بن أنس هو حجر ناولته إياه امرأته فاغتسل عليه فغرقت رجلاه فيه. وقال قوم من العلماء : المقام المسجد الحرام. وقال ابن عباس أيضا : هو مواقف الحج كلها. وقال غيره : مقامه الحرم كله، و ﴿ مصلى ﴾ موضع صلاته وعلى هذا يأتي قول من قال : هو الحجر أو المسجد الحرام. ومن قال بغير ذلك قال : معناه هو مدعى، على الأصل في الصلاة، وقيل يصلى إليه١٤.
١٢٥- قوله تعالى :﴿ أن طهرا بيتي للطائفين ﴾ |البقرة : ١٢٥|.
طهرا، قيل : معناه ابنياه على نية طهارة أي أسساه على تقوى وقيل : طهراه من عبادة الأوثان، وقيل : طهراه من الفرث والدم، وقيل : طهراه من الشرك١٥.
١٢٥- وقوله :﴿ للطائفين ﴾ |البقرة : ١٢٥|.
قال عطاء : الطائفون أهل الطواف، وقال ابن جبير : هم الغرباء الطارئون على مكة و ﴿ والعاكفين ﴾ أهل البلد المقيمون. وقال عطاء : هم المجاورون بمكة. وقال ابن عباس : المصلون. وقال غيره : المعتكفون١٦.
و ﴿ والركع السجود ﴾ |البقرة : ١٢٥| المصلون، وكل مقيم عند البيت يريد وجه الله، فلا يخلو عن هذه الأحوال الثلاثة. وقال أبو الحسن : تدل هذه الآية من وجه على أن الطواف للغرباء أفضل والصلاة للمقيم بها من العاكفين أفضل، وتدل على اشتراط الطهارة في الطواف، وعلى جواز الصلاة في نفس الكعبة ردا على مالك في منعه الفريضة فيما دون النفل، فأمره بتطهير نفس البيت يدل على أن الصلاة التي شرطت الطهارة فيها هي نفس البيت١٧. وسيأتي الكلام على هذا إن شاء الله.
٢ أخرجه عن أبي هريرة البخاري في العلم ﴿١١٢﴾ ومسلم في الحج ﴿١٣٥٥﴾..
٣ أخرجه البخاري في العلم ﴿١٠٤﴾ ومسلم في الحج ﴿١٣٥٤﴾..
٤ هذا طرف من الحديث السابق عن أبي شريح والخربة السرقة أو البلية انظر الفتح ﴿١/١٩٨﴾..
٥ في ب "وغيره"..
٦ في جزاء الصيد ﴿ص٣٦٠/ط دار السلام﴾..
٧ أخرجه من حديث عائشة البخاري في جزاء الصيد ﴿١٨٢٩﴾ ومسلم في الحج ﴿١١٩٨﴾..
٨ هي رواية لمسلم تحت رقم ﴿١١٩٨﴾. والملاحظ أن لفظة "ست" في بعض جاءت عند أبي عوانة في المستخرج ﴿ص٤١٩- القسم المفقود﴾..
٩ يراجع المحلى لابن حزم ﴿٧/٢٣٧-٢٤٦- ط المنيرية﴾..
١٠ هو الكيا الهراسي في أحكام القرآن ﴿١/١٧﴾ ويراجع المحرر الوجيز ﴿١/٤١٣، ٤١٤﴾ وتفسير القرطبي ﴿٢/١١٠، ١١١﴾..
١١ يراجع من قرأ بذلك في كتاب اليبعة القراءات لابن مجاهد ﴿ص ١٧٠﴾..
١٢ أخرجه البخاري في الصلاة ﴿٤٠٢﴾..
١٣ في ب "بناء"..
١٤ يراجع المحرر الوجيز ﴿١/٤١٥﴾ وتفسير الطبري ﴿١/٧٠٣-٧٠٦﴾ أحكام القرآن للجصاص ﴿١/٩١، ٩٢﴾ والجامع لأحكام القرآن ﴿٢/١١١{١١٣﴾..
١٥ المحرر الوجيز ﴿١/٤١٦﴾ وتفسير الطبري ﴿١/٧٠٦-٧٠٨﴾ وأحكام القرآن للجصاص ﴿١/٩٣، ٩٤﴾ وتفسير القرطبي﴿٢/١١٤﴾..
١٦ تراجع هذه الأقوال في المحرر الوجيز ﴿١/٤١٦﴾ وتفسير الطبري ﴿١/٧٠٦-٧٠٨﴾ وأحكام القرآن للجصاص ﴿١/٩٣، ٩٤﴾ وتفسير القرطبي ﴿٢/١١٤﴾..
١٧ أحكام القرآن للكيا الهراسي ﴿١/١٧﴾..
قال أبو الحسن : معناه من القحط والغارة، لا على ما ظنه بعض الجهال من سفك الدماء في حق من لزمه القتل فإن ذلك بعيد كونه مقصودا لإبراهيم –عليه السلام-١. واختلف في تحريم مكة متى كان ؟ فقالت فرقة : حرمها الله يوم خلق السماوات والأرض. وقالت فرقة : حرمها إبراهيم، والقول الأول على ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته ثاني يوم الفتح٢. والثاني على ما قاله صلى الله عليه وسلم أيضا فإنه قال في " الصحيح " ٣ : " اللهم إن إبراهيم حرم مكة، وأنا حرمت المدينة ما بين لابتيها حرام " ويجمع بين الحديثين بأن يقال في الثاني أن إبراهيم جدد تحريم مكة وأظهره بعد دثوره٤. وكذلك اختلف فيمن بناه ؟ فقيل : آدم، ثم دثر فرفع قواعده إبراهيم. وقيل : إبراهيم ابتدأ بناءه، وقيل غير ذلك. وقد نص الله تعالى على أن إسماعيل رفعه مع إبراهيم. وذكر عن علي –رضي الله عنه- أن إبراهيم رفعه وإسماعيل طفل صغير، ولا ينبغي أن يصحّ هذا عن عليّ، لان الآية ترده.
٢ أخرج هذا المعنى من حديث ابن عباس مرفوعا البخاري في جزاء الصيد ﴿١٨٣٤﴾ ومسلم في الحج﴿١٣٥٣﴾..
٣ هذا اللفظ ففي صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله مرفوعا في الحج ﴿١٣٦٢﴾..
٤ يراجع المحرر الوجيز ﴿١/٤١٧، ٤١٨﴾ وتفسير القرطبي ﴿٢/١١٨﴾..
اختلف في معنى طلب إبراهيم وإسماعيل التوبة وهم معصومون فقيل : طلب الدوام والتثبيت وقيل أراد من بعدهما من ذريتهما، وقيل : أراد أن يسنا ويعلما أن تلك المواضع مكان التخلي من الذنوب، وطلب التوبة١. وقال الطبري٢ : ليس أحد من خلق الله إلا وبينه وبين الله معان يحب أن تكون أحسن مما هي. وأجمعت٣ الأمة على عصمة الأنبياء في معنى التبليغ ومن الكبائر ومن الصغائر التي فيها رذيلة. واختلف في غير ذلك من الصغائر. والذي أقول به أنهم معصومون من الجميع. وقول النبي صلى الله عليه وسلم : " إني أتوب إلى الله تعالى في اليوم وأستغفره سبعين مرة " ٤ إنما هو رجوعه من حالة إلى أرفع منها، لمزيد علمه واطلاعه على أمر الله، فهو يتوب من المنزلة الأولى إلى الأخرى، والتوبة هنا لغوية شرعية٥.
٢ جامع البيان ﴿١/٧٢٩﴾..
٣ في ب "اجتمعت"..
٤ أخرجه عن أبي هريرة مرفوعا البخاري في الدعوات ﴿٦٣٠٧﴾..
٥ يراجع المحرر الوجيز {١/٤٢٣/..
قال أبو الحسن١ : يدل على لزوم اتباع شرائع إبراهيم ما لم يثبت نسخ. وهو الذي قاله غيره، ويقوي حجة من ذهب إلى هذا قوله تعالى :﴿ ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا ﴾ |النحل : ١٢٣| وهذه المسألة قد اختلف فيها كثيرا. هل كان النبي صلى الله عليه وسلم بعد بعثه متعبدا بشريعة من قبله أم لا ؟ والذين ذهبوا إلى أنه كان متعبدا اختلفوا في الشريعة التي كان متعبدا بها فقال قوم : شريعة إبراهيم واحتجوا بما تقدم.
وقال قوم : شريعة نوح واحتجوا بقوله تعالى :﴿ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا ﴾ |الشورى : ١٣| وقال قوم : شريعة موسى –عليه السلام- واحتجوا بقوله تعالى :﴿ إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور ﴾ الآية |المائدة : ٤٤|. وقال قوم : شريعة عيسى لأنها آخر الشرائع. والمختار أنه لم يتعبد صلى الله عليه وسلم بشريعة، للإجماع أن هذه الشريعة ناسخة، والآيات التي ذكروها متعارضة، فسقط الاحتجاج بها. وأيضا فإن ما فيها من المعاني يحتمل أن يجتمع على معنى واحد، وهو ما اتفق عليه الأنبياء من التوحيد ولذلك قال النبي –عليه السلام- : أمهاتهم شتى ودينهم واحد " ٢ يعني الأنبياء –عليهم السلام-. وكذلك قوله تعالى :﴿ فبهداهم اقتده ﴾ |الأنعام : ٩٠| أراد به ذلك المعنى. وبهذا يبطل الاحتجاج٣ بهذه الآية على أنه كان متعبدا بشريعة من قبله، وكذلك اختلفوا هل كان قبل مبعثه متعبدا بشريعة من قبله ؟ فمن قال : كان متعبدا |بشريعة|٤ اختلفوا كالاختلاف المتقدم، وكل ذلك في العقل جائز، فالواقع منه معلوم قطعا، بترجيح الظن لا يتعلق به عملي لا معنى له٥.
٢ أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء ﴿٣٤٤٣﴾..
٣ في ن "احتجاج من احتج".
٤ سقطت من أ..
٥ يراجع تفسير الطبري ﴿١/٧٣٤﴾ وأحكام القرآن للجصاص ﴿١/١٠٠﴾ وتفسير القرطبي ﴿٢/١٤٤﴾..
أثبت الله تعالى هنا للعبد كسبا، وقد اختلف في فعل العبد، فالمعتزلة تجعله له، ولا تجعل لله فيه فعلا، ورأوا أن الثواب والعقاب على ذلك ترتب، وخالفوا الإجماع، و |خالفت|١ الجبرية فنفت أفعال العبد، ولم تر له فعلا، وجعلت الفعل كله لله، ورأته مجبورا على ذلك فلزمهم إشكال الثواب والعقاب والتسوية بين حركة الاختيار وحركة الرعدة، وتوسط أهل السنة فنسبوا الفعل لله تعالى وجعلوا للعبد أيضا فعلا ما سموه كسبا، اتباعا لما جاء من نسبة الاكتساب٢ إلى العبد في القرآن والحديث، ووافقوا الإجماع، وفرقوا بين الحركتين المذكورتين، وانفصلوا عن إشكال الثواب والعقاب، وعلى هذا المذهب اعتراضات يصح الانفصال عنها بوجوه ليس هذا موضع ذكرها. وبهذا المذهب يتفق ما ورد في القرآن والحديث في الآيات والأحاديث المتعارضة لأنه قد جاء في الحديث والقرآن ما ظاهره مذهب المعتزلة كقوله تعالى :﴿ وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى ﴾ |فصلت : ١٧| وقوله صلى الله عليه وسلم : " فأبواه يهودانه أو ينصرانه " وغير٣ ذلك مما٤ يكثر. وما ظاهره الجبر كقوله تعالى :﴿ ولو شاء الله لجمعهم على الهدى ﴾ ( الأنعام : ٣٥ ) وقوله :﴿ ختم الله على قلوبهم ﴾ |البقرة : ٧| وقوله صلى الله عليه وسلم : " السعيد سعيد في بطن أمه |والشقي شقي في بطن أمه|٥ " ٦. وما ظاهره مذهب أهل السنة كقوله تعالى :﴿ ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا ﴾ |الإسراء : ٨٤| وقوله :﴿ ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه ﴾ |يوسف : ٢٤| وقوله :﴿ وما تشاؤون إلا أن يشاء الله ﴾ |الإنسان : ٣٠| ووجوه الأمة مجتمعة على قولهم لا حول ولا قوة إلا بالله. فوفق الله تعالى أهل السنة للأخذ بهذا المذهب الجامع لمعاني الآي والحديث، وذهبت بغيرهم الأهواء فأخذ كل فريق بمذهب على ما قدمنا فلزمهم |من|٧ المناقضات ما لا يمكنهم الانفصال عنه. وبعضهم ينتهي في هذه المسألة إلى تكفير مخالفه ومذاهب الحذاق أنها ليست من المسائل التي يكفر بها٨.
٢ في أ "الكسب"..
٣ أخرجه عن أبي هريرة البخاري في الجنائز ﴿١٣٥٨﴾ ومسلم في القدر ﴿٢٦٥٨﴾..
٤ بين الإمام ابن القيم حقيقة الكسب ووجوه الاعتراض عليه، وأنه في الحقيقة جبر وأفاض في مسألة أفعال وحقق فيها بما لا تجده عند غيره في كتابه الممتع شفاء العليل فيراجع منه ﴿ص ١٢٠-١٣٨- ط دار الفكر بيروت﴾..
٥ زيادة من ن..
٦ جاءت رواية مرفوعة من حديث ابن مسعود عند ابن ماجة في المقدمة بسند ضعيف ﴿١/رقم ٤٦﴾ وموقوفة في صحيح مسلم من قول ابن مسعود في القدر ﴿٢٦٤٥﴾..
٧ سقطت من أ..
٨ في ب "مسائل التكفير"..
قال بعضهم : إن هذه الآية منسوخة بآية القتال، وهذا خبر فلا يدخله النسخ، وكذلك خبر الله١ عن النبي –عليه السلام- بقوله :
﴿ فقل لي عملي ولكم عملكم ﴾ |يونس : ٤١|، وقوله :﴿ فعلى إجرامي وأنا بريء مما تجرمون ﴾ |هود : ٣٥| خبر عن قوم نوح وهذا كله إخبار عن حقائق الأشياء فلا يرد، لكنه يبقى في الآية الإشارة إلى المتاركة والمسالمة لمفهوم الخطاب، وقد نسخت المتاركة بالقتال فجاء النسخ في مفهوم الآية وفحواها٢.
٢ في ب "مجراها"..
هذه الآية لم تتضمن النهي عن الصلاة إلى بيت المقدس فتكون ناسخة. وإنما تضمنت الأمر باستقبال الكعبة. والمفسرون بأجمعهم مطلقون عليها أنها ناسخة لقبلة بيت المقدس١، فيحتمل أن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم قد فهموا عند نزول هذه الآية باستقبال الكعبة من النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن استقبال بيت المقدس، إما بنص منه، أو بقرائن أحوال. فتبين بذلك معنى الأمر، وأن مضمنه النهي عن القبلة الأخرى، ويكون هذا من النسخ مثل قولهم : إن آية المواريث نسخت الوصية للوالدين والأقربين، وإن شهر رمضان نسخ صوم يوم عاشوراء ونحو ذلك. ويحتمل أن يكونوا رأوا هذا ناسخا حملا للأمر بالشيء على أنه نهي عن ضده، إذا كانت القبلتان لا يصح أن يجمع بينهما في صلاة واحدة. فهما كالمتضادين فعلى هذا ترتب النسخ. وإن جعلنا قوله تعالى :﴿ وما أنت بتابع قبلتهم ﴾ خبرا بمعنى النهي، فيكون معناه ولا تتبع قبلتهم أي لا تصل إليها يعني بيت المقدس إذا كانت قبلة لليهود، فيكون هذا نسخا بينا. وفي هذا كله نظر. ولا خلاف أن الكعبة قبلة من كل أفق وهو٢ نص الآية.
٢ في ن "وهذا"..
قال أبو الحسن١ : يفيد أن لكل قوم من المسلمين من أهل سائر الآفاق وجهة إلى جهات الكعبة، وراءها وقدامها، وعن يمينها وشمالها، كأنه أفاد أنه ليس جهة من جهاتها أولى بأن تكون قبلة من غيرها. وفيها أقوال غير هذا. وروي أن عبد الله بن عمر قال : إنما وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته حيال ميزاب الكعبة. وهذا قول لا يصح٢، إلا على تأويل. وقد قال ابن عباس وغيره : بل وجه إلى البيت كله٣. ويحتمل قول ابن عمر على أن من كان يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت من أهل البلاد والأصقاع إنما كانوا من ناحية ميزاب الكعبة، وهي قبلة المدينة والشام وإلى هناك قبلة أهل الأندلس.
وقد اختلف في الصلاة داخل الكعبة فأجازها الشافعي جملة ومنعها ابن جرير جملة، ومنعها مالك في الفرض والسنة وأجازها في النفل.
واختلف المانعون للصلاة فيها هل تجزىء من صلى الفرض فيها صلاته أم لا ؟ فقيل : تجزىء، وقيل : يعيد في الوقت، وقيل : يعيد أبدا، والثلاثة الأقوال في المذهب. ومن حجة من لم يجز شيئا من الصلاة فيها أن المصلى غير مستقبل جميعها، والله تعالى إنما أمر باستقبالها فظاهره الحمل على الجميع، ومن حجة من أجاز أن من استقبل جزءا منها فقد استقبلها. والفرق بين الفرض والسنة وبين النافلة استحسان. وأيضا فإنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى فيها النافلة، وهو في " الموطأ " ٤ و " البخاري " ٥ و " مسلم " ٦ وإن كان قد ورد أيضا أنه لم يصل فيها. فإذا صح فيها النفل صح الفرض وأجزأ على قول من رآه ولو نقض البيت وعائذا بالله من ذلك لجازت الصلاة إلى جهته خلافا للشافعي لقوله تعالى :﴿ فولوا وجوهكم شطره ﴾ |البقرة : ١٤٤| والاعتبار البقعة دون البيت.
واختلف أيضا في الصلاة فوق الكعبة، فقال أشهب : هو بمنزلة البطن ولا إعادة على من صلى الفرض هناك. وروي عن مالك أنه يعيد من فعل ذلك. ومنعه ابن حبيب في النفل والفرض. وهو عنده بخلاف البطن. قال اللخمي : إنما ورد الخطاب في الصلاة إلى الكعبة ومن صلى عليها لم يصل إليها.
واختلف فيمن غاب عن الكعبة ولزمه الاجتهاد فيها، هل يلزمه الاجتهاد في إصابة الجهة ؟ أو إصابة العين ؟ على قولين. وقول القاضي أبي محمد وأكثر أصحاب مالك أنه يلزمه الاجتهاد في إصابة الجهة، والدليل على ذلك قول الله تعالى :﴿ فول وجهك شطر المسجد الحرام ﴾ الآية، والشطر النحو والجهة. وهذه المسألة في الاجتهاد لا يمكن أن تتصور بمكة، لأنه يمكن التوصل إلى اليقين فيها. وكذلك في المدينة، لأن قبلة النبي صلى الله عليه وسلم فيها مقطوع بها فلا يصح مخالفتها لأنه صلى الله عليه وسلم نصبها٧. وهذا كالنص منه عليها. وقد روى ابن القاسم عن مالك أن جبريل –عليه السلام- هو الذي أقام٨ للنبي صلى الله عليه وسلم قبلة مسجده. قال أبو الحسن٩ : قوله تعالى :﴿ فولوا وجوهكم شطره ﴾ خطاب لمن كان معاينا للكعبة ولمن كان غائبا عنها. والمراد ممن كان حاضرها١٠ إصابة عينها، ومن غاب عنها فلا يمكنه١١ إصابة عينها. فلا يكلف ما لا يطيق، وإنما سبيله الاجتهاد فهو دليل على استعمال الأدلة، وهو سبيل القياس في الحوادث أيضا ويدل على الأشبه من الحوادث حقيقة مطلوبة بالاجتهاد، ولذلك صح التكليف بطلب١٢ القبلة بالاجتهاد لأن لها حقيقة ولو لم يكن هناك قبلة حقيقة لم يصح تكليفنا بطلبها.
١٤٨- قوله تعالى :﴿ فاستبقوا الخيرات ﴾ |البقرة : ١٤٨|.
يؤخذ منه أن تعجيل الطاعات أفضل من تأخيرها١٣. ويحتج به من يرى الأمر على الفور، ولا حجة فيه لأنه بعد أمر، وفيه النزاع وفيه الحجة على من يرى الوقف في بعض الأمر، هل هو على الفور أو التراخي ؟ ولاسيما على من يرى التوقف في المبادرة إلى الامتثال |هل هو ممتثل أم لا ؟ |١٤ ومثل هذه الآية :﴿ وسارعوا إلى مغفرة من ربكم ﴾ |آل عمران : ١٣٣| وقوله :﴿ يسارعون في الخيرات ﴾ |آل عمران : ١١٤|١٥.
٢ يراجع المحرر الوجيز ﴿١/٤٤٤﴾ وتفسير القرطبي ﴿٢/١٥٩﴾..
٣ يراجع المحرر الوجيز ﴿١/٤٤٤﴾ وتفسير القرطبي ﴿٢/١٥٩﴾..
٤ في الحج ﴿١/٥٣٣/١١٨٦- بشار﴾..
٥ في الصلاة ﴿٥٠٥﴾..
٦ في الحج ﴿١٣٢٩﴾..
٧ يراجع أحكام القرآن للجصاص ﴿١/١١١-١١٤﴾..
٨ في ب "نصب"..
٩ هو الكيا الهراسي في أحكام القرآن ﴿١/٢١﴾..
١٠ في ب "بمن كان حاضرا بها"..
١١ في أ "يمكنه"..
١٢ في أ "تكليف طلب"..
١٣ يراجع أحكام القرآن للكيا الهراسي ﴿١/٢٢﴾..
١٤ سقطت من أ..
١٥ يراجع الإحكام لابن حزم ﴿٣/٤٥-٥٢﴾. وإحكام الفصول للباجي ﴿ص٢١٢-٢١٥﴾ والمستصفى للغزالي ﴿٣/١٧٥﴾..
قال قوم هذا الاستثناء متصل والمعنى : لا حجة لأحد عليكم إلا الحجة الداحضة للذين ظلموا، وسماها الله تعالى حجة وحكم بفسادها حيث كانت ممن ظلم. وقال قوم : هو استثناء منقطع، والمعنى لكن الذين ظلموا. وإن قلنا إنه استثناء منقطع فهو استثناء من غير الجنس. وقد رده قوم منهم ابن خويز منداد، وتكلفوا لكل ما جاء من ذلك١ وجها، وقالوا : إن سمي استثناء فهو مجاز. وأثبته آخرون وقالوا : إنه ليس من شرط الاستثناء أن يكون من الجنس واحتجوا بهذه الآية وبآي أخر غيرها، كقوله تعالى :﴿ فسجد الملائكة كلهم أجمعون ٣٠ إلا إبليس ﴾ |الحجر : ٣٠| وبقوله تعالى :﴿ وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا ﴾ ( النساء : ٩٢ ) وبغير ذلك من الآيات٢ ٣.
٢ في ب "الآي"..
٣ يراجع أحكام القرآن للكيا الهراسي ﴿١/٢٢﴾ والمحرر الوجيز ﴿١/٤٥٢﴾ والجامع لأحكام القرآن للقرطبي ﴿٢/١٦٨-١٧٠﴾..
فيه دليل على إحياء الله تعالى الشهداء بعد موتهم لا حياة القيامة فإنه قال :﴿ ولكن لا تشعرون ﴾ وإذا كان الله يحييهم بعد الموت ليرزقهم فيجوز أن يحيي الكفار ليعذبهم، وفيه دليل على عذاب القبر وصحته خلافا لمن نفاه١ من المعتزلة. وقد جاء في الحديث الصحيح٢ : " إنما نسمة المؤمن طائر يعلق من شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه " فقد استوى المؤمن الشهيد وغير الشهيد في الحياة بعد الموت، والفرق بينهما إنما هو الرزق، وذلك أن الله تعالى فضلهم بدوام حالهم في الدنيا فرزقهم. وعن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك : " أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تعلق من ثمار الجنة " ٣ وروي " أنهم في قبة خضراء " ٤ وروي " أنهم في قناديل من ذهب " ٥ إلى غير ذلك ويحتمل أن يكون اختلاف هذه الأحاديث بحسب اختلاف الشهداء، ولكل شهيد في أوقات مختلفة. وجمهور العلماء على أنهم في الجنة٦. والدليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لأم حارثة في حديث السير " إنه في الفردوس " ٧. وقال مجاهد : هم خارج الجنة ويعلقون من شجرها٨. وفي هذا كله دليل على بقاء الأرواح بعد الموت، ورد لقول الزنادقة الذين يرون أنها تفنى بفناء الأجساد.
٢ رواه مالك الموطأ ﴿١/٣٢٨/٦٤٣ – رواية يحيى الأندلسي﴾ وأحمد في المسند ﴿٣/٤٥٥ و٤٥٦﴾ وعبد بن حميد في المنتخب من المسند ﴿٣٧٦﴾ والنسائي ﴿٤/١٠٨ –المجتبى﴾ وابن ماجة ﴿٤٦٧١﴾ وابن حبان ﴿٤٦٥٧ –الإحسان﴾ والطبراني في المعجم الكبير ﴿١٩/ رقم ١٢٠ و١٢١، ١٢٣، ١٢٤﴾ والجوهري في مسند الموطأ ﴿٢١٣﴾ وأبو نعيم في الحلية ﴿٩/١٥٦﴾ وابن عبد البر في التمهيد ﴿١١/٥٦﴾ جميعهم من طرق عن عبد الرحمان بن كعب بن مالك عن أبيه. وصححه ابن حبان ويراجع التمهيد ﴿١١/٥٦ -٥٨﴾..
٣ هي رواية لأحمد في المسند ﴿٦/٣٨٦﴾ والترمذي في فضل الجهاد ﴿١٦٤١﴾ والطبراني ﴿١٩/ رقم١٢٥﴾ من طريق سفيان بن عيينة، عن بن دينار، عن الزهري عن ابن كعب، عن أبيه رفعه بلفظ "أن أرواح الشهداء.." وظاهر إسناده الصحة لكن تفرد ابن عيينة بإضافة لفظة "الشهداء" يجعلني أتوقف عن الجزم بقبولها والله أعلم لاسيما وأنه قد وافق مالكا وغيره من الحفاظ من أصحاب الزهري –في رواية الحميدي عنه في المسند ﴿٨٧٣﴾ – على إسقاطها. ويشهد لهذا الحديث ما في حديث عبد الله بن مسعود مرفوعا في صحيح مسلم ﴿١٨٨٧﴾..
٤ تراجع هذه الألفاظ في المحرر الوجيز ﴿١/٤٥٦﴾ والتمهيد ﴿١١/٦٠ -٦٥﴾..
٥ تراجع هذه الألفاظ في المحرر الوجيز ﴿١/٤٥٦﴾ والتمهيد ﴿١١/٦٠ -٦٥﴾..
٦ يراجع المحرر الوجيز ﴿١/٤٥٦﴾ وجامع البيان ﴿٣/٢١٤، ٢١٥ ط شاكر﴾ وتفسير القرطبي ﴿٢/١٧٣﴾ وتفسير ابن كثير ﴿١/١٩٨﴾..
٧ يراجع صحيح البخاري كتاب الجهاد والسير ﴿٢٨٠٩﴾..
٨ يراجع المحرر الوجيز ﴿١/٤٥٦﴾ وجامع البيان ﴿٣/٢١٥ –شاكر﴾..
ذهب بعضهم إلى أن معنى هذه الآية النهي عن الطواف بين الصفا والمروة وأنها منسوخة بقوله تعالى :﴿ ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ﴾ |البقرة : ١٣٠| وهذا قول من لا تحقيق عنده. وقال اللخمي : ورد القرآن١ بإباحة السعي بين الصفا والمروة لقوله تعالى :﴿ فلا جناح عليه أن يطوف بهما ﴾ |البقرة : ١٥٨| وتضمنت الآية الندب لقوله تعالى :﴿ من شعائر ﴾ |البقرة : ١٥٨| وجاءت السنة بإيجابه قالت عائشة –رضي الله عنها- : سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بين الصفا والمروة وليس لأحد أن يدع ذلك. وثبت الأمر به. قال ابن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من لم يكن معه هدي فليطف بالبيت وبين الصفا والمروة، وليقصر وليحلل، ثم ليهل بالحج " والحديثان في " البخاري " ٢ و " مسلم " ٣ وفي كلام اللخمي نظر لأنه جعل السعي مباحا مندوبا بآية واحدة. وقال قوم من الشيوخ المتأخرين : قوله فيهما أنهما من شعائر الله دليل على الوجوب لأنه خبر في معنى الأمر ولا دليل على سقوط السعي بقوله ﴿ فلا جناح عليه أن يطوف بهما ﴾ لأنه تعالى لم يرد بالآية الطواف لمن شاء لأن ذلك بعد الأمر لا يستقيم وإنما المراد رفع ما وقع في نفوس قوم من العرب أن الطواف بينهما حرج. واختلف في سبب ذلك الحرج، فروي أن الجن كانت تعزف وتطوف بينهما في الجاهلية، فكانت طائفة من الأمة لا تطوف بينهما في الجاهلية لذلك، فلما جاء الإسلام تحرجوا عن الطواف. وروي عن الشعبي : أن العرب كانت تطوف هنالك وكانت تعتقد ذلك السعي إجلالا لإساف ونائلة : وكان الساعي يتمسح بإساف، فإذا بلغ المروة تمسح بنائلة وكذلك حتى تتم أشواطه، فلما جاء الإسلام كرهوا السعي هناك إذ كان بسبب٤ الصنمين٥. وروي عن عائشة : أن ذلك في الأنصار وذلك أنهم كانوا يهلون لمناة التي كانت بالمشلل حذو قديد، ويعظمونها فكانوا لا يطوفون بين إساف ونائلة إجلالا لتلك، فلما جاء الإسلام تحرجوا فنزلت الآية٦. وما روي عن ابن عباس، وأنس بن مالك، وشهر بن حوشب، من أنهم يرون ألا يطوفوا بهما وكذلك في مصحف ابن مسعود وأبي بن كعب :'ألا يطوف " ٧ وقيل : " لا يطوف " فهي قراءة خالفت مصاحف الإسلام، وقد أنكرتها عائشة في قولها لعروة حين قال لها : أرأيت قوله تعالى :﴿ لا جناح عليه أن يطوف بهما ﴾ فما٨ ترين على أحد شيئا ألا يطوف بهما ؟ فقالت : كلا لو كان كما قلت لقال : فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما٩. مع أن هذه القراءة تحتمل أن تكون " لا " فيها زائدة كقوله تعالى :﴿ ما منعك ألا تسجد ﴾ |الأعراف : ١٢| وكقول الشاعر :
وما ألوم البيض ألا تسخرا ***.............................
والذي يأتي على ظاهر هذه القراءة، وتأويل عروة أن السعي تطوع وأنه دون الندب. ولأجل هذه التأويلات وقع الاختلاف في السعي بين الصفا والمروة١٠. فذهب مالك وأصحابه إلى أنه واجب في الحج والعمرة وعلى من تركه حتى يرجع إلى بلده العودة حتى يأتي به. وبه قال الشافعي، وذهب الثوري وإسحاق إلى أنه ندب، وأن على من تركه الدم وإن عاد فحسن. وذكر مثله عن أبي حنيفة، وذكر عنه١١ أنه إن ترك أكثر من ثلاثة أشواط فعليه دم، وإن ترك ثلاثة فأقل فعليه بكل شوط إطعام مسكين. وذهب طاوس إلى أن على تاركه عمرة. وذكر ابن القصار عن إسماعيل القاضي أنه ذكر عن مالك فيمن ترك السعي بين الصفا والمروة حتى١٢ تباعد وتطاول١٣ الأمر وأصاب النساء أنه يهدي ويجزيه قال : وأحسبه ذهب في ذلك إلى ما وصفنا للاختلاف ولقول بعضهم إنه ليس بواجب. وقال بعضهم إنه تطوع. وهذا هو قول الثوري، وإسحاق، وذهب عطاء في إحدى الروايتين عنه إلى أنه ليس على تاركه شيء، لا دم ولا غيره، واحتج بما في مصحف ابن مسعود. وظاهر هذا أنه تطوع لا ندب. ويدل على وجوب السعي، ويؤيد تأويل الآية عليه قوله –عليه السلام- : " اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي " ١٤.
١٥٨- قوله تعالى :﴿ ومن تطوع خيرا ﴾ |البقرة : ١٥٨|.
معناه على قول من لا يوجب السعي فمن تطوع بالسعي بينهما واختلف من أوجبه. في معناه من أوجه، فقال بعضهم : زاد برا بعد الواجب فجعلوه عاما في الأعمال. وقال بعضهم : معناه من تطوع بحج أو عمرة بعد حجة الفريضة. وقد اختلف في السعي لمن هو راكب فكرهته عائشة وعروة بن الزبير، وأحمد، وإسحاق، ومنعه أبو ثور وقال : يجزيه. وقال أصحاب الرأي : إن كان بمكة أعاد ولا دم وإن رجع إلى الكوفة فعليه الدم، ورخصت فيه طائفة، وروي عن أنس بن مالك أنه طاف على حمار، وعن عطاء ومجاهد مثله. وقال الشافعي يجزي ذلك من فعله. ومن حجة من رخص فيه أو رآه مجزيا عموما قوله تعالى :﴿ فلا جناح عليه أن يطوف بهما ﴾ ولم يخص راكبا من غيره. واختلف في السعي بغير طهارة والجمهور على أنه يجزي لعموم١٥ الآية. وكان الحسن البصري لا يرى الوضوء له. وقال : إن ذكر قبل أن يحل فليعد الطواف وإن ذكر بعدما حل فلا شيء عليه١٦.
١٥٨- وقوله تعالى :﴿ إن الصفا والمروة من شعائر الله ﴾ الآية |البقرة : ١٥٨|.
ليس فيها ما يستدل به على أن البداءة١٧، من الصفا دون المروة ولا عكسه، سوى التقديم اللفظي، ولم يعتبره أكثر الفقهاء في مسألة الوصية ولم يروا للتقديم اللفظي حكما ولكنهم قد راعوه في هذه الآية فرأوا البداية بالصفا. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال حين خرج من المسجد، وهو يريد الطواف : " نبدأ بما بدأ الله به " فبدأ بالصفا١٨. فهذا يدل على اعتباره التقديم اللفظي ما لم يعارضه معنى آخر يقتضي التقديم. وهذا كله على المشهور من أن الواو لا تقتضي ترتيبا. وقد ذهب قوم إلى أنها مرتبة، ولأجل هذا اختلفوا في وجوب الترتيب في الوضوء. فإن بدأ بالمروة قبل الصفا زاد شوطا ثامنا ليتم به سبعا أولها الوقوف بالصفا. وقال عطاء في أحد قوليه : إن ذلك يجزي الجاهل. وحكم هذا السعي أن يكون مرة واحدة بإثر طواف القدوم كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم، والطواف المذكور في الآية هو السعي. والسعي المذكور هو الاشتداد في المشي والهرولة. ولا خلاف في السعي في المسيل وهو الوادي بين الصفا والمروة إلا أن من السلف من كان يسعى في المسافة كلها بين الصفا والمروة منهم الزبير بن العوام، وابنه عبد الله، وكان عروة لا يصنع ذلك كان يسعى في بطن المسيل ثم يمشي، وفي حديث " الموطأ " ١٩ : ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة، فلما تصوبت أٌقدامه في بطن الوادي سعى حتى خرج منه. وقال سعيد بن جبير : رأيت ابن عمر يمشي بين الصفا والمروة ؛ فقلت له : فقال : إن أمشي فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي و إن أسعى فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى &&& وقال : إن مشيت منذ٢٠ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى&&&. والعمل عند جمهور العلماء على ما في الحديث المتقدم، والحديث مفسر، فالجمع بين الحديث والآية أولى. واختلف في أصل السعي، فقيل : إن هاجر لما تركها إبراهيم –عليه السلام- هناك مع ابنه إسماعيل –عليه السلام-، وهو رضيع نفد درها، فعطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى أو قال يتلبط فانطلقت كراهية أن تنظر إليه. وقيل لتنظر هل بالموضع ماء فوجدت الصفا أقرب جبل بها فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي هل ترى أحدا، فلم تر أحدا فهبطت من الصفا حتى بلغت المروة رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي. ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت فلم تر أحدا ؛ فعلت كذلك سبع مرات٢١. وقيل : إنه من فعل النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر الترمذي عن ابن عباس أن ذلك ليرى المشركون قوته٢٢.
٢ يراجع: الحج ﴿١٦٤٣﴾ والمغازي ﴿٤٣٥٣ و٤٣٥٤﴾..
٣ يراجع: في كتاب الحج ﴿١٢٧٧﴾ والحج﴿١٢٢٧﴾..
٤ في ب "سببه" وفي ن "سبب"..
٥ يراجع المحرر الوجيز ﴿١/٤٦١، ٤٢٦﴾ وتفسير الطبري ﴿٢/٦١-٦٥﴾ والعجاب لابن حجر﴿ص ٢٢٢-٢٢٨﴾..
٦ يراجع صحيح البخاري في العمرة ﴿١٧٨٩﴾ ومسلم، الحج ﴿١٢٧٧﴾..
٧ يراجع المحرر الوجيز ﴿١/٤٦٢﴾..
٨ في ب "فلا"..
٩ سبق تخريج حديثها قريبا..
١٠ يراجع في أحكام القرآن للجصاص ﴿١/١١٨-١٢٢﴾ والمحرر الوجيز ﴿١/٤٦٢، ٤٦٣﴾ وأحكام القرآن لابن العربي ﴿١/٤٦-٤٨﴾ وتفسير القرطبي ﴿٢/١٧٧-١٨٤﴾ وفتح الباري ﴿٣/٤٩٨-٥٠٠﴾..
١١ في أ "وروي عن أبي حنيفة"..
١٢ في ب "متى"..
١٣ في ب "وطال"..
١٤ أخرجه الشافعي ﴿١٠٥٢﴾ ولأحمد في المسند ﴿٦/٤٢١﴾ والدارقطني في السنن ﴿٣/٢٥٥، ٢٥٦﴾ والبغوي في شرح السنة ﴿١٩٢١﴾ جميعهم من طرق عن عبد الله بن مؤمل العائذي، عن عمر بن عبد الرحمان بن محيصن، عن بن أبي رباح، عن صفية بنت شيبة بنحوه مطولا.
وسنده ضعيف من أجل عبد الله بن مؤمل ضعيف الحديث كما في "التقريب" لابن حجر ﴿ص١٩١﴾ وقواه ابن حجر بطريق أخرى مختصرة في صحيح ابن خزيمة –﴿٢٧٦٤﴾ – فراجع فتح الباري ﴿٣/٤٩٨﴾ وصححه الألباني "إرواء الغليل" ﴿١٠٧٦﴾..
١٥ في ب "أجزائه بعموم"..
١٦ يراجع أحكام للجصاص ﴿١/١٢٢ – ط دار إحياء التراث العربي بيروت﴾..
١٧ في ن "البداية"..
١٨ أخرجه مالك في الحج ﴿١/٤٩٩/١٠٨٩﴾ ومن طريقه النسائي ﴿٥/٢٩٣ –المجتبى﴾
وأحمد في المسند ﴿٣/٣٨٨﴾ والبيهقي في السنن الكبرى ﴿٥/٩٣﴾ من طرق عن جابر بن عبد الله مرفوعا به..
١٩ في الحج، من حديث جابر بن عبد الله ﴿١/٥٠٢/١٠٩٧﴾..
٢٠ في أ "فقد" والمثبت من ب و ن..
٢١ القصة من حديث ابن عباس موقوفة عليه ولها حكم الرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم يراجع صحيح البخاري أحاديث الأنبياء ﴿٣٣٦٤، ٣٣٦٥﴾..
٢٢ رواه في كتاب الحج ﴿٨٦٣﴾ وقال في آخره: "حديث حسن صحيح"..
قال بعض الناس نسخها قوله تعالى :﴿ إلا الذين تابوا ﴾ وهذا فاسد لأنه وعيد، ولا نسخ في الوعيد. ولأنه خاص متصل بعام فهو بيان لا نسخ، وكان سبب هذه الآية أن قوما من اليهود سئلوا١ عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وما وقع من ذكره في كتبهم فكتموا ذلك، فنزلت الآية عامة٢. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يخصص٣ عمومها قال –عليه السلام- : " من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار " ٤ وهذه الآية هي التي أراد عثمان –رضي الله عنه- في قوله : لأحدثنكم حديثا لولا آية في كتاب الله ما حدثتكموه. ومن رواه : لولا أنه في كتاب الله٥، فمعنى آخر. وكذلك قول أبي هريرة في حديث : لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم حديثا٦. وقد يخص من هذه الآية من كتم علما خوف ضرر كما قال أبو هريرة حين قال : حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين أما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو أبثه قطع هذا البلعوم٧. وقال أبو الحسن : هذه الآية مع أمثالها في القرآن تدل على وجوب إظهار العلم وتبيينه للناس وعم ذلك المنصوص عليه والمستنبط لشمول لفظ " الهدى " للجميع. وفيه دليل على وجوب قبول قول الواحد لأنه لا يجب عليه البيان إلا وقد وجب قبول قوله. وقال :﴿ إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا ﴾ |البقرة : ١٦٠| فحكم بوقوع البيان بخبرهم. فإن قيل : يجوز أن يكون كل واحد منهم منهيا عن الكتمان ومأمورا بالبيان ليكثر المخبرون فيتواتر |بهم| الخبر قلنا٨ : هذا غلط لأنهم لم ينهوا عن الكتمان إلا وهم ممن يجوز عليهم التواطؤ٩ عليه، ومتى جاز منهم التواطؤ١٠ على الكتمان، لم يبلغوا حد التواتر على النقل، فلا يكون خبرهم موجبا للعلم. ودلت الآية أيضا على لزوم إظهار العلم، وترك كتمانه ومنع أخذ الأجرة عليه إذ لا تستحق الأجرة على ما يجب فعله، كما لا تستحق الأجرة على الإسلام. وقال تعالى :﴿ إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا ﴾ |البقرة : ١٧٤| وذلك يمنع أخذ الأجرة على الإظهار وترك الكتمان لأن قوله :﴿ ويشترون به ثمنا قليلا ﴾ مانع من أخذ البدل عليه من سائر الوجوه إذ كان الثمن في اللغة هو البدل١١.
٢ يراجع في هذا تفسير الطبري ﴿٢/٧٠-٧٦﴾ والمحرر الوجيز ﴿١/٤٦٤﴾ والعجاب لابن حجر ﴿ص ٢٢٨-٢٣٠﴾..
٣ في أ و ب "يحفظ"..
٤ هذا الحديث روي من طرق بعضها حسن والبعض الآخر صحيح وألفاظه متقاربة وأقرب لهذا ما جاء عن أبي هريرة أخرجه أبو داود في العلم﴿٣٦٥٨﴾ والترمذي في العلم ﴿٢٦٤٩﴾ وحسنه وابن ماجة في المقدمة ﴿٢٦٦﴾ ويراجع "صحيح الترغيب" للألباني ﴿١/٥٢﴾..
٥ يراجع صحيح البخاري، الوضوء، ﴿١٦٠﴾ ومسلم الطهارة ﴿٢٢٧﴾..
٦ رواه البخاري، كتاب العلم﴿١١٨﴾..
٧ رواه البخاري في كتاب العلم ﴿١٢٠﴾ وفيه زيادة "مني"..
٨ في ب "قلت"..
٩ في ن في الموضعين "التواطي"..
١٠ في ن في الموضعين "التواطي"..
١١ قارن بأحكام القرآن للجصاص ﴿١/١٢٤، ١٢٥﴾ وكان الأحرى العزو إليه..
يدل على أن التوبة من الكتمان إنما تكون بالإظهار والبيان. وأنه لا يكفي في صحة التوبة مجرد الندم على الكتمان فيما سلف، دون البيان فيما يستقبل.
٢ يراجع أحكام القرآن للكيا الهراسي ﴿١/٢٥، ٢٦﴾ وفي بعض العبارات اختلاف بسيط مع المطبوع. ويراجع أيضا تفسير القرطبي﴿٢/١٨٥، ١٨٦﴾ وأحكام القرآن للجصاص ﴿١/١٢٥﴾..
فيه بيان توحيده في أفعاله، وأمر لنا بالاستدلال بها ردا على من نفى حجج العقول، وهو طريق أهل السنة قديما، ومن الاستدلال على وجود الصانع بحدوث الأجسام والجواهر والأعراض١.
وقوله :﴿ والفلك التي تجري في البحر ﴾ الآية |البقرة : ١٢٤| فيه دليل على إباحة ركوب البحر تاجرا أو غازيا وطالبا صنوف المآرب. وقال في موضع آخر :﴿ هو الذي يسيركم في البر والبحر ﴾ |يونس : ٢٢| وقال في موضع آخر :﴿ ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله ﴾ |الإسراء : ٦٦| فقد انتظم مما ذكر التجارة وغيرها٢. كقوله تعالى :﴿ فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض ﴾ |الجمعة : ١٠| ﴿ ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ﴾ |البقرة : ١٩٨| وقد منع عمر –رضي الله عنه- من ركوبه فلم يركبه أحد طول حياته، وكذلك منعه أيضا عمر بن عبد العزيز. وقد أسقط الشافعي في أحد قوليه فرض الحج على من طريقه إليه على البحر. وروي عن مالك مثله. والذي عليه الجمهور خلاف هذا وظاهر الآيات المذكورة يعضد ما ذهبوا إليه٣، وكذلك قوله –عليه الصلاة والسلام- في حديث أم حرام بنت ملحان : " عجبت من قوم من أمتي يركبون البحر كالملوك على الأسرة " الحديث٤.
وقوله تعالى ﴿ وما أنزل الله من السماء من ماء ﴾ |البقرة : ١٦٤| يدل على أن الماء كله إنما هو في٥ السماء. وقوله تعالى :﴿ ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ﴾ |الزمر : ٢١| وقال :﴿ وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض ﴾ |المؤمنون : ١٨| وهذا كله يرد على من يعتقد أن ماء السحاب إنما هو من البحر ولا حجة في قوله –عليه السلام- : " إذا نشأت بحرية، ثم تشاءمت فتلك عين غديقة " ٦ لأن قوله -عليه السلام- : " بحرية " يحتمل أن يريد من ناحية البحر، وكذلك قول أبي ذؤيب يصف السحاب :
شربن بماء البحر ثم ترفعت | متى٧ لجج خضر لهن نئيج |
٢ المصدر السابق ﴿١/٣١، ٣٢﴾ وأحكام القرآن للجصاص ﴿١/١٣١﴾..
٣ يراجع أحكام القرآن للجصاص ﴿١/١٣١﴾ وكلام الحافظ ابن حجر في فتح الباري ﴿٢/٧٧ و٧٧﴾..
٤ أخرجه عن أنس البخاري في الجهاد ﴿٢٨٧٧، ٢٨٧٨﴾ ومسلم في الإمارة ﴿١٩١٢﴾..
٥ في ب "من"..
٦ هذا من الأحاديث الأربعة التي لم توجد موصولة في "الموطأ" الصلاة ﴿١/٢٦٧/٥١٧﴾ قال ابن عبد البر في التمهيد ﴿٢٤/٣٧٧﴾: "هذا الحديث لا أعرفه بوجه من الوجوه في غير الموطأ إلا ما ذكره الشافعي..." ثم ذكره عنه وضعف سنده فيراجع كلامه..
٧ في أ "لها". ومتى عند الهذليين بمعنى "من" و "وسط" كذا قال ابن جني، وبه يتضح المعنى في البيت.
٨ في ب "ممن"..
في هذه الآية لفظ عام، وقد جاءت أخبار آحاد تقتضي تخصيصه، وفي هذا التخصيص خلاف بين الأصوليين، والمختار جواز تخصيص عموم القرآن بخبر واحد، وقد سمى بعضهم هذا التخصيص لهذه الآية نسخا. وكذلك قوله تعالى :﴿ فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه ﴾ |البقرة : ١٧٣|، نسخا ؛ وهذا غير صحيح، وقد تقدم الكلام على مثله.
ولم يختلف أن ميتة كل حيوان بري له نفس سائلة داخل تحت هذا العموم في قوله ﴿ حرم عليكم الميتة ﴾. واختلف فيما مات من حيوان البحر دون سبب فطفا عليه أو لفظه البحر ميتا. فالمذهب أنه يؤكل. وقال أبو حنيفة : لا يؤكل. وروي عن الثوري أنه لا يؤكل من ذلك إلا السمكة، وماعدا ذلك فلابد أن يذكى.
وذكر ابن عبد البر عن أبي حنيفة أنه لا يؤكل كل شيء من حيوان البحر إلا السمك ولا يؤكل الطافي منه١. ولا شك أن عموم الآية في تحريم الميتة شامل لميتة البحر وغيره إلا أنه قد جاءت الآية الأخرى، وهي قوله تعالى :﴿ أحل لكم صيد البحر وطعامه ﴾ |المائدة : ٩٦| وجاءت الأحاديث بحلية٢ ميتة حيوان البحر.
وقد روى عبد الرحمان بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أحلت لنا ميتتان ودمان : السمك والجراد وأما الدمان : الكبد والطحال " ٣.
وقد روى عمر بن زياد في قصة جيش الخبط عن جابر : أن البحر ألقى إليهم حوتا فأكلوا منه نصف شهر فلما رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه، فقال : " أعندكم منه شيء تطعمونني ؟ " ٤. وقال ابن عبد البر في حديث جابر : إنه حديث مجمع على صحته٥.
فمن الناس من لم ير التخصيص جملة، واعتمد على عموم تحريم الميتة، |ومنهم من اعتمد على التخصيص بالخبر|٦، ومنهم من اعتمد على التخصيص بالآية الأخرى وإليه يشير مذهب ابن عمر في " الموطأ " ٧.
قال أبو الحسن٨ : وبالجملة الخبر عام أيضا. يريد في الطافي وغيره والكتاب عام فإذا وقع البيان في الطافي لم يصح الاستدلال بعموم الخبر على عموم الكتاب. قال : وقوله تعالى :﴿ أحل لكم صيد البحر وطعامه ﴾ |المائدة : ٩٦| الآية عام أيضا لا يصلح٩ لتخصيص عموم تحريم الميتة. يريد أبو الحسن أنهما عمومان تعارضا فتخصيص أحدهما بالآخر لا يتضح وجهه. قال : ومما استدل١٠ به المخصصون من الأخبار قوله –عليه السلام- في حديث صفوان بن سليم الزرقي، عن سعيد بن سلمة، عن المغيرة بن أبي بردة، عن أبي هريرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في البحر : " هو الطهور ماؤه، الحل ميتته " ١١ قال : وسعيد بن سلمة مجهول غير معروف بالتثبت١٢. وقد خالفه في سنده يحيى بن سعيد الأنصاري فرواه عن المغيرة بن عبد الله بن أبي بردة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم. ومثل هذا الخلاف في السند يوجب اضطراب الحديث، وغير جائز تخصيص آية محكمة به. وأما الترمذي فذكر حديث ابن سلمة المذكور وقال فيه : " حسن صحيح " ١٣.
وروى الرازي في " أحكام القرآن " بإسناد متصل عن جابر بن عبد الله : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما ألقى البحر أو جزر عنه فكلوه، وما مات فيه وطفا فلا تأكلوه " ١٤.
وروى بإسناد آخر، عن أبي الزبير، عن جابر، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا صدتموه١٥ وهو حي فكلوه وما ألقى البحر حيا فمات فكلوه، وما ألقى البحر طافيا فلا تأكلوه " ١٦.
وجاء بإسناد آخر، عن جابر " ما وجدتموه وهو حي فكلوه وما ألقى البحر طافيا فلا تأكلوه " ١٧.
وبالجملة هذه الأخبار لا تعرف صحتها على ما يجب، ولكن الإشكال في عموم كتاب الله تعالى، ويقابله أن عموم كتاب الله اتفق الأئمة على تطرق التخصيص إليه في غير الطافي من ميتات السمك. فلم يبق وجه العموم معمولا به، وصار الحديث المتفق على صحته واستعماله في غير الطافي معمولا به في الطافي. وروى أصحابنا عن سعيد بن بشير عن أبي عياش عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كل مما طفا على البحر " ١٨ وأبان بن أبي عياش ليس هو ممن يثبت١٩ ذلك بروايته. وقال شعبة٢٠ : لأن أزني سبعين زنية أحب إلي من أن أروي عن أبان بن عياش شيئا.
واختلف الذين ذهبوا٢١ إلى أكل ما مات من دواب البحر بغير سبب في حيوان البحر إذا كانت له حياة في البر كالضفادع٢٢، والسلحفاة، ففي المذهب ثلاثة أقوال : أحدها أنه يؤكل بغير ذكاة فهو ميتة، وأنه مخصوص من عموم الآية وهو المشهور، وقيل : لا يؤكل إلا بذكاة وما مات منه بغير ذكاة فهو ميتة، داخل تحت عموم الآية، وقيل : ما كان مأواه في الماء إنه يؤكل بغير ذكاة، وإن كان يرعى في البر، وما كان مأواه البر فإنه لا يؤكل إلا بذكاة وإن كان يعيش في الماء. واختلف في كل حيوان بري ليست له نفس سائلة هل يؤكل بغير ذكاة أم لا ؟ وذلك مثل الخنفساء، والزنبور، والذر، والحلم، والذباب، والسوس، والدود، والبعوض، والحلزون. ففي المذهب قولان :
أحدهما : المنع وهو قول ابن حبيب إلا بالذكاة لعموم قوله تعالى :﴿ حرمت عليكم الميتة ﴾ الآية |المائدة : ٣| والمراد ما مات حتف أنفه.
والثاني : الجواز وهو مذهب عبد الوهاب٢٣، لأن التحريم ورد فيما كانوا يذبحون ويأكلون من الأنعام دون هذه الأشياء، ويؤيد ذلك قوله –عليه السلام- : " إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه فإن في أحد جناحيه شفاء وفي الآخر داء " أخرجه البخاري٢٤. وفي حديث آخر أنه " يبدأ بالذي فيه الداء ". ولو كان مما يحتاج إلى ذكاة لم يأمر بذلك.
وكذلك اختلف فيما مات من الجراد بغير سبب. فذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أنه يؤكل. وإليه ذهب محمد بن عبد الحكم، ومطرف، وابن نافع.
وذهب مالك وأكثر أصحابه إلى أنه لا يؤكل وحجتهم عموم الآية في التحريم. وحجة الجواز ما جاء من قوله- عليه السلام- : " أحلت لنا ميتتان " الحديث٢٥. وخصصوا به عموم الآية.
قال اللخمي٢٦ : ولا وجه للاحتجاج بأنه نثرة حوت لوجهين :
أحدهما : لا يعرف إلا من قول كعب الأحبار يخبر عما في كتبهم، ولا خلاف أنه لا يجب العمل بمثل هذا ولا تعبدنا بمثله.
والثاني : أنه الآن من صيد البر ففيه يخلق، وفيه يسكن. فلم لاعتبار الأصل، فيه وجه لو صح ذلك. وقد حكم عمر بن الخطاب على المحرم فيه بالجزاء وجعله من صيد البر٢٧.
وهذا الذي قاله اللخمي وجه صحيح وقد خرج الترمذي في " الصحيح " عن النبي صلى الله عليه وسلم : " كلوه فإنما هو من صيد البحر " ٢٨.
وقد اختلف الذاهبون إلى جواز أكل ميتته من غير ذكاة في ذلك، فقيل :
العلة أنها من صيد البحر، وقيل : العلة أنها لا لحم له ولا دم سائل٢٩.
فمن علل بالعلة الأولى أوجب الذكاة فيها. ومن علل بالعلة الثانية لم يوجب الذكاة فيه.
وأما الذين ذهبوا٣٠ إلى أنه لا تؤكل ميتتها فعلتهم عموم الآية، وعلى هذا الخلاف يترتب٣١ الخلاف في الجراد يقتله المحرم هل يهدي أم لا ؟، أيجوز أكل ما صاده٣٢ المجوسي منه أم لا ؟، وهل يحتاج إلى التسمية عند ذكاته ؟، وهل إن وقع في قدر فاحترق هل تكون ذكاته أم لا ؟، وقد جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث نحو ما تقدم في الجراد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أكثر جنود الله لا آكله ولا أحرمه " ٣٣. وقال عطاء عن جابر٣٤ : غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات فأصبنا جرادا فأكلناه. وقال عبد الله بن أبي أوفى : غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نأكل الجراد، ولا نأكل غيره٣٥. وكانت عائشة –رضي الله عنها- تأكل الجراد، وتقول : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكله٣٦. قال أبو الحسن٣٧ : وهذه الأخبار مستعملة بإجماع في تخصيص بعض ما يتناوله عموم الكتاب من السمك والجراد ؛ وذلك يدل على بطلان مذهب مالك في الجراد، ومذهب أبي حنيفة في الطافي، لأن إسالة الدم إذا لم تعتبر فأي معنى٣٨ لاشتراط الذكاة في النوعين ؟ وأي أثر لفعل الآدمي في اصطياده ؟.
والذين ذهبوا٣٩ إلى أن الجراد لا يؤكل إلا ما مات منه بسبب، اختلفوا في أشياء تفعل به رآها بعضهم ذكاة وبعضهم لم يرها. فقال سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح وابن وهب : أخذه ذكاة. والمشهور من المذهب أن الأخذ لا يكون ذكاة. واختلفوا في وضعه في الغرائر. فذهب ابن وهب إلى أنه ذكاة، وذهب ابن القاسم إلى أنه ليس بذكاة. واختلفوا في قطع الأرجل والأجنحة، فذهب ابن القاسم إلى أن ذلك ذكاة وذهب أشهب إلى أنه غير ذكاة، لأن الجراد٤٠ قد يعيش مع ذلك وينسل. واختلفوا في طرحه في الماء البارد، فذهب ابن القاسم إلى أنه ذكاة، وذهب سحنون إلى أنه لا يكون ذكاة٤١. ولم يختلف من رأى الذكاة فيه أن كل فعل يموت منه معجلا، أنه ذكاة، كقطع الرؤوس، أو نقر الجراد بالشوك، أو طرحه في الماء الحار والنار وما أشبه ذلك. فإذا فعل به هذا لم يكن داخلا في عموم الآية باتفاق وغير ذلك من الأفعال. فمن لم يره ذكاة رأى عموم الآية منسحبا عليه فحرمه، ومن رآه ذكاة لم ير عموم الآية منسحبا عليه فأحله لأنه مذكى٤٢، ٤٣.
وقوله تعالى :﴿ إنما حرم عليكم الميتة والدم ﴾ |البقرة : ١٧٣| عين الميتة لا يتصف بالتحريم وإنما يحرم فعل ما يتعلق بالعين ويبقى النظر في ذلك الفعل ما هو ؟ هل هو مسها ؟ أو يحرم أكلها أو النظر إليها ؟ أو منعها ؟ أو الانتفاع بها ؟ فمن الناس من ذهب إلى أنه مجمل لتردده بين هذه الأشياء، ومنهم من يقول : هو على العموم فيها إلا ما خصه٤٤ الدليل ومنهم من قال : عرف الاستعمال لهذا اللفظ قد قام مقام النص لأنه من قيل له : حرم عليك الطعام والشراب، فبالعرف يعرف أنه أراد الأكل دون النظر والمس، ومن قال : حرمت عليك هذا الثوب عرف أنه أراد اللبس، وهذا صريح مقطوع به عندهم فلا يصح أن يكون مجملا، والقول بالعموم باطل لأن العموم إنما هو من حكم اللفظ. والعموم المدعى في هذا إنما هو في المقتضى أعني اللفظ المضمر المقدر، وإذا كان لم يلفظ به فكيف يكون عاما ؟ ؛ ولأجل هذه الاحتمالات المتقدمة في اللفظ، مع ما ورد في ذلك من الأحاديث، اختلف الفقهاء في أشياء من الميتة :
من ذلك جلدها٤٥ وردت فيه أحاديث مختلفة منها حديث ميمونة في الشاة الميتة التي مر بها النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " أفلا انتفعتم بجلدها ؟ " فقالوا : يا رسول الله، إنها ميتة، فقال : " إنما حرم أكلها " ٤٦ فأباح الانتفاع جملة ولم يذكر الدباغ. وقال في حديث عبد الله بن عكيم : أتانا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بشهرين فقال : " لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب " ٤٧ فمنع الانتفاع |بجلد الميتة|٤٨ ولم يذكر دباغا. وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أيما إهاب دبغ فقد٤٩ طهر " ٥٠ فقد ذكر في هذا الحديث الدباغ، وقد ورد في بعض روايات حديث ميمونة ذكر الدباغ٥١. فمن الناس من اعتمد على حديث ميمونة الذي سقط منه ذكر الدباغ وخصص به عموم الآية أو بين فيه مجملها، ورآه ناسخا لسائر الأحاديث فأجاز الانتفاع بجلد الميتة قبل الدباغ٥٢ وبعده، وهو قول ابن شهاب. وذكر عن الليث نحوه في إجازة بيعه، وقد ذكر عن ابن شهاب أنه روى الحديث مقيدا ب
٢ في ن "بتحليل"..
٣ أخرجه ابن ماجة في الصيد ﴿٣٢١٨﴾ وأحمد ﴿٢/٩٧﴾ وعبد بن حميد ﴿المنتخب: ٨٢٠﴾ وابن حبان في المجروحين ﴿٣/٥٨﴾ وابن عدي في الكامل ﴿١/٣٨٨﴾ والدارقطني في السنن ﴿٤/٢٧١﴾ والبيهقي في السنن﴿١/٢٥٤﴾ و ﴿٩/٢٥٧﴾ والبغوي في شرح السنة ﴿٢٨٠٣﴾ من طرق عن عبد الرحمان بن زيد بن أسلم به.
وعبد الرحمان هذا ضعيف كما في "التقريب" لابن حجر﴿ص ٢٠٢﴾ وقد أنكر عليه النقاد هذا الحديث منهم أحمد كما في العلل ﴿٢/رقم ١٧٩٥﴾ ورجح طائفة منهم ثبوته موقوفا عن ابن عمر وجعلوه في حكم المرفوع منهم البيهقي ﴿١/٢٥٤﴾ وابن حجر في الفتح ﴿٩/٦٢١﴾ والألباني في الصحيحة ﴿٣/رقم ١١١٨﴾..
٤ أخرجه عن جابر بن عبد الله البخاري في الشركة ﴿٢٤٨٣﴾ ومسلم في الصيد والذبائح ﴿١٩٣٥﴾..
٥ يراجع التمهيد ﴿١٦/٢٢٦، ٢٢٧﴾..
٦ سقطت من أ..
٧ في الصيد ﴿١/٦٣٨، ٢٣٩/١٤٢٧﴾..
٨ يراجع أحكام القرآن للكيا الهراسي ﴿١/٣٢، ٣٣﴾ وأحكام القرآن للجصاص﴿١/١٣٢﴾..
٩ في ن و ب و أ "يصح" والمثبت موافق لما في كتاب الهراسي..
١٠ أخرجه مالك في الموطأ، الصلاة ﴿١/٥٥، ٥٦/٤٥﴾ ومن طريقه أبو داود ﴿٨٣﴾ والترمذي ﴿٦٩﴾ والنسائي ﴿١/٥٠ و١٧٦ –المجتبى﴾ وفي الكبرى ﴿٥٨﴾ وأحمد ﴿٢/٢٣٧، ٣٦١، ٣٩٣﴾ والشافعي في الأم ﴿١/٣﴾ وابن ماجه ﴿٣٨٥ و٣٢٤٦﴾ وابن خزيمة في صحيحه ﴿١١١﴾ وابن الجارود في المنتقى ﴿٤٣﴾ وابن المنذر في الأوسط ﴿١/٢٤٧﴾ والبيهقي في السنن ﴿١/٣، ٣٤﴾ وغيرهم من نفس طريق مالك. وصححه غير واجد من الحفاظ منهم البخاري كما في العلل الكبير للترمذي ﴿٢٣﴾ وابن المنذر وابن خزيمة وابن حبان والحاكم فراجع نصب الراية ﴿١/٩٦ -٩٩﴾ وإرواء الغليل للألباني ﴿١/٤٢، ٤٣﴾..
١١ في ب "احتج"..
١٢ لكن وثقه النسائي وهو من المتشددين ومن عرفه حجة على من لم يعرفه فيراجع تهذيب الكمال للمزي ﴿١٠/رقم ٢٢٨٩﴾ والميزان ﴿٢/١٤١﴾ والتقريب لابن حجر ﴿ص١٢٢﴾. وأما ما ذكره المؤلف من مخالفة يحيى بن سعيد الأنصاري، فقد أخرج حديثه أبو اختلاف واضطراب استوفاه الدارقطني في "العلل" ﴿م١٦١٤﴾ ورجح رواية مالك ويراجع التلخيص الحبير ﴿١/١٠﴾..
١٣ الجامع، الطهارة ﴿١/١٠١﴾..
١٤ ﴿١/١٣٣﴾ –وعنه الكيا الهراسي ﴿١/٣٤﴾ والمؤلف ينقل عنه – من طريق أبي داود –وهذا إسماعيل بن أمية، عن أبي الزبير، عن جابر فذكره.
وأخرجه من هذه الطريق ابن ماجة في الصيد ﴿١٤/٢٦٨﴾ والبيهقي في السنن﴿٩/٢٥٥﴾. وفي هذا السند علتان: أولهما: عنعنة أبي الزبير وهو مدلس.
ثانيهما: مخالفة إسماعيل في روايته هذه المرفوعة لكل من سفيان الثوري، وأيوب السختياني، وحماد بن سلمة الذين رووه عن أبي الزبير موقوفا من قوله.
من أجل ذلك قال إمام النقد الدارقطني في السنن الكبرى للبيهقي ﴿٩/٢٥٥، ٢٥٦﴾..
١٥ في ب "اصطدتموه"..
١٦ في أحكام القرآن ﴿١/١٣٤﴾ من طريق حفص بن غياث، عن ابن أبي ذيب، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله.
ومن هذه الطريق أخرجه الترمذي ف العلل الكبير ﴿٤٣٩﴾ والخطيب في تاريخ بغداد ﴿١٠/١٤٨﴾.
قال الترمذي: سألت محمدا عن هذا الحديث؟ فقال: ليس هذا بمحفوظ، ويروى عن جابر خلاف هذا، ولا أعرف لابن أبي ذئب، عن أبي الزبير شيئا.
ويراجع سنن البيهقي ﴿٩/٢٥٦﴾..
١٧ في أحكام القرآن ﴿١/١٣٤﴾ من طريق سهل بن عثمان. قال حدثنا حفص، عن يحيى بن أبي أنيسة، عن أبي الزبير، عن جابر عبد الله.
ويحيى بن أبي أنيسة ضعيف كما قال الحافظ ابن حجر في التقريب ﴿ص ٣٧٣﴾ ويراجع تهذيب الكمال للمزي ﴿٣١/رقم ٦٧٨٩﴾ والميزان للذهبي ﴿٤/٣٦٤، ٣٦٥﴾ ويحسن مراجعة كلام الحافظ الزيلعي حول هذا الحديث بمختلف ألفاظه وطرقه في نصب الراية ﴿٤/٢٠٢ -٢٠٤﴾ والله أعلم.
.
١٨ ذكره الكيا الهراسي في أحكام القرآن ﴿١/٣٦﴾ وقد رواه الجصاص في أحكامه ﴿١/١٣٥﴾ ونقل عن شيخه عبد الباقي بن قانع قوله: انه حديث منكر..
١٩ في ب "ثبت"..
٢٠ يراجع في هذا ميزان الاعتدال للذهبي ﴿١/١٠ -١٥﴾ وتهذيب الكمال للمزي ﴿٢/رقم ١٤٢﴾..
٢١ في ب "الذاهبون"..
٢٢ في ن "الضفدع"..
٢٣ الإشراف على نكت مسائل الخلاف ﴿٢/٩٢٠/ رقم ١٨٤٣﴾..
٢٤ في كتاب بدء الخلق ﴿٣٣٢٠﴾ ويراجع كلام الحافظ حول معاني هذا الحديث وطرقه في "فتح الباري" ﴿١٠/٢٥٠ -٢٥٢﴾..
٢٥ سبق تخريجه، وفي ن زيادة "السمك والجراد"..
٢٦ تصحفت في أ إلى "النخعي"..
٢٧ يراجع المحرر الوجيز لابن عطية ﴿١/٤٨٣، ٣٨٣﴾ وتفسير القرطبي ﴿٢/٢١٦ -٢٢٠﴾..
٢٨ في الحج ﴿٨٥٠﴾ كما أخرجه ابن ماجة بنفس اللفظ كما أخرجه بنحوه أبو داود في المناسك ﴿١٨٥٤﴾ وأحمد في المسند ﴿٢/٣٠٦ و٣٧٤ و٤٠٧﴾ والبيهقي في السنن ﴿٥/٢٠٧﴾ جميعهم من طرق عن أبي المهزم عن أبي هريرة فذكره وفيه قصة.
قال الترمذي: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث أبي المهزم عن أبي هريرة.
وأبو المهزم اسمه يزيد بن سفيان. وقد تكلم فيه شعبة" والحديث ضعفه أبو داود وغيره. ويراجع إرواء الغليل للألباني ﴿١٠٣١﴾.
.
٢٩ في ب "لا نفس لها سائلة"..
٣٠ في ب أ "الذاهبون"..
٣١ في ن و ب "يتركب"..
٣٢ في ب "وهل يؤكل ما صاده"..
٣٣ أخرجه أبو داود في الأطعمة ﴿٣٨١٣﴾ ﴿٣٨١٤﴾ وابن ماجة في الصيد ﴿٣٢١٩﴾ والبيهقي ﴿٩/٢٥٧﴾ جميعهم من حديث سلمان. وهو ضعيف يراجع "الضعيفة" للألباني ﴿١٥٣٣﴾.>.
٣٤ قال الهيثمي في مجمع الزوائد ﴿٤/٤٢﴾: "رواه أحمد وفيه الصيد والذبائح ﴿١٩٥٢﴾..
٣٥ البخاري في الذبائح والصيد ﴿٥٤٩٥﴾ ومسلم في الصيد والذبائح ﴿١٩٥٢﴾..
٣٦ رواه الجصاص في أحكام القرآن ﴿١/١٣٦﴾ وفي سنده موسى بن زكريا التستري. تكلم فيه الدارقطني وحكى الحاكم عن الدارقطني أنه متروك كذا في الميزان ﴿٣/٢٠٥﴾..
٣٧ في أحكام القرآن ﴿١/٣٧﴾..
٣٨ في أ "فلا معنى"..
٣٩ في ب "والذاهبون"..
٤٠ في ب "لأنه"..
٤١ يراجع المحرر الوجيز لابن عطية ﴿١/٤٨٤، ٤٨٥﴾..
٤٢ في ب "ذكي" وكذا في ن..
٤٣ ويراجع في هذا أحكام القرآن للجصاص ﴿١/١٣٥ -١٣٧﴾..
٤٤ في ن "خصصه"..
٤٥ في أ "جلد الميتة" وكذا في ن..
٤٦ أخرجه البخاري في مواطن منها في الزكاة ﴿١٤٩٢﴾ ومسلم في الحيض ﴿٣٦٣﴾..
٤٧ أخرجه أبو داود ﴿٤١٦٧﴾ والترمذي ﴿١٧٢٩﴾ والنسائي ﴿٧/١٧٥ –المجتبى﴾ وابن ماجة ﴿٣٦١٣﴾ ولأحمد ﴿٤/٣١٠﴾ والطيالسي ﴿١٢٩٣﴾ وعبد الرزاق في الصنف ﴿٢٠٢﴾ وعبد بن حميد ﴿٤٨٨﴾ والطحاوي في شرح معاني الآثار ﴿١/٤٦٨﴾ وابن حبان ﴿الإحسان: ١٢٧٧، ١٢٧٨﴾ والبيهقي ﴿١/١٤، ١٥، ٢٥﴾.
وصححه غير واحد من الحفاظ وضعفه بعضهم بالاضطراب في سنده فيراجع نصب الراية ﴿١/١٢٠ -١٢٢﴾ والتلخيص الحبير ﴿١/٤٦ -٤٨﴾ وصححه الألباني في إرواء الغليل ﴿٣٨﴾ وابن حجر في الفتح ﴿٩/٦٥٩﴾..
٤٨ سقطت من أ..
٤٩ في ب "فهو طاهر"..
٥٠ أخرجه مسلم في الحيض ﴿٣٦٦﴾ بلفظ "إذا دبغ الإهاب فقد طهر" وهذا اللفظ عند أبي عوانة في المستخرج على مسلم ﴿١/٢١٢﴾ وأبو داود ﴿٤١٢٣﴾ والترمذي ﴿١٧٢٨﴾ والنسائي ﴿٧/١٧٣ –المجتبى{ وابن ماجه {٣٦٠٩﴾ وأحمد في المسند ﴿١/٢١٩، ٢٧٠، ٢٧٩، ٢٨٠، ٣٤٣﴾ وابن الجارود في المنتقى ﴿٦١ –غوث﴾ وابن حبان في صحيحه ﴿١٢٨٧ و١٦٨٨﴾ والبيهقي في السنن ﴿١/١٦﴾ وغيرهم..
٥١ يراجع البخاري كتاب الصيد والذبائح ﴿٥٥٣٢﴾ ومسلم في الحيض ﴿٣٢٥﴾..
٥٢ في ب "الدبغ"..
معنى قوله تعالى ﴿ كتب ﴾ فرض، وقيل : إخبار عما كتب في اللوح المحفوظ، وسبق به القضاء. ومعنى فرض القصاص وجوب تنفيذه على الحاكم إذا طلبه ولي المقتول، ووجوب انقياد القاتل إلى ذلك، ووجوب انقياد الولي إليه. وألا يتعدى قاتله إلى غيره كما كانت العرب تتعدى وتقتل بقتيلها غيره من القبيلة. وليس معنى الفرض فيه أنه لازم١ لا يجوز سواه ؛ لأن العفو جائز باتفاق بدليل قوله تعالى :﴿ فمن عفي له من أخيه شيء ﴾ |البقرة : ١٧٨|فهذه الآية معرفة أن القصاص هو الغاية عند المشاحة، وأصل هذه اللفظة في اللغة من قص الأثر ومنه قوله تعالى :﴿ قصيه ﴾ ٢ |القصص : ١١| وقول الشاعر :
كأن لها في الأرض نسيا تقصه | على أمها وإن تحدثك تبلت٣ |
واختلف الذاهبون إلى هذا في الناسخ. فقال ابن عباس وغيره : الناسخ له قوله تعالى في المائدة :﴿ أن النفس بالنفس ﴾ وهذا لا يصح إلا على القول بأن شريعة من قبلنا شريعة لازمة لنا. وقال بعضهم : الناسخ له قوله تعالى :﴿ ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا ﴾ الآية |الإسراء : ٣٣| ومنهم من قال إن الآية محكمة لا تقتضي ذلك وأنها مجملة فسرتها آية المائدة وإن قوله هنا :﴿ الحر بالحر ﴾ |البقرة : ١٧٨| يعم الرجال والنساء. وروي عن ابن عباس فيما ذكره أبو عبيد٩. وعن مجاهد غيره، وإلى نحو ذلك ذهب مالك رحمه الله، فقال : أحسن ما سمعنا في هذه الآية أن يراد١٠ بها الجنس من الأحرار الذكور والإناث، والجنس من العبيد الذكور والإناث، ثم أعيد ذكر الأنثى بالأنثى تأكيدا وتهمما لإذهاب أمر الجاهلية ؛ وينبني١١ على مذهب من يرى أن الخاص إذا عارضه عام موافق له في الحكم لم يكن تخصيصا، وجعل ذكره على سبيل تأكيد ذلك الخاص، وهو قول يحسن هاهنا، إذ الإجماع منعقد على أن المرأة تقتل بالرجل والرجل بالمرأة١٢، ومنهم من قال : إن الآية محكمة نزلت مبينة١٣ حكم المذكورين لتدل على الفرق بينهم وبين أن يقتل حر عبدا أو عبد حرا أو ذكر أنثى أو أنثى ذكرا، فإنه إذا قتل رجل امرأة فإن أراد أولياؤها القصاص قتلوا صاحبهم، ووفوا أولياءه نصف الدية، وإن أرادوا استحياءه استحيوه١٤، وأخذوا منه دية المرأة، وإن قتلت المرأة رجلا فإن أراد أولياؤه القتل قتلوا المرأة وأخذوا نصف الدية، وإن أرادوا استحياءها استحيوها وأخذوا دية صاحبهم. وإذا قتل الحر العبد فإن أراد سيد العبد قتل وأعطى دية الحر إلا قيمة العبد، وإن شاء استحيى وأخذ قيمة العبد وروي هذا عن علي بن أبي طالب –رضي الله عنه-١٥، وعن الحسن بن أبي الحسن البصري١٦، وقد أنكر ذلك عنهما أيضا. وذكر عبد الوهاب١٧ عن عطاء نحو هذا أيضا من قتل الرجل بالمرأة وذكر غيره عن عثمان البتي نحوه، وذكر أبو الحسن١٨ نحوه عنه أنه إذا قتلت المرأة رجلا قتلت وأخذ من مالها نصف الدية، وإن قتلها الرجل فعليه القود ولا يرد عليه شيء. وهذه أقوال ضعيفة تردها العمومات ولا تخصص، وليس في شيء منها ضم الدية إلى القصاص، وقد قال –عليه السلام- : " من قتل له قتيل فهو بخير النظرين أن يقتص أو يأخذ الدية " ١٩ ولم يذكر التخيير في ضم الدية إلى القصاص وقال أبو الحسن٢٠، وقوله تعالى :﴿ كتب عليكم القصاص في القتلى ﴾ |البقرة : ١٧٨| ظن ظانون أن أول الكلام تام في نفسه وأن الخصوص بعده في قوله :﴿ الحر بالحر والعبد بالعبد ﴾ لا يمنع التعلق بعموم أوله. وهذا غلط فإن الثاني ليس مستقلا دون تقدير البناء على الأول، إذ قول القائل الحر بالحر والعبد بالعبد لا يفيد حكم القصاص إلا على وجه البناء على الأو |٢١ وتقديره كتب عليكم القصاص وهو الحر بالحر قصاصا، والعبد بالعبد قصاصا، فوجب بناء الكلام عليه، والذي قاله ممكن، إلا أن الأظهر ما قلناه. ومقتضى القصاص يعطي تساوي الحالات من حرية وإسلام، وإسلام وذكورة٢٢ ونحو ذلك، إلا أنه ورد في الشرع عمومات لم تخصص حالا من حال كقوله تعالى :﴿ وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ﴾ |المائدة : ٤٥| وقوله :﴿ ومن قتل مظلوما ﴾ الآية |الإسراء : ٣٣| وقوله –عليه السلام- : " من قتل له قتيل فهو بخير النظرين " الحديث٢٣، ونحو ذلك، ولذلك وجب قتل الرجل بالمرأة، والمرأة بالرجل، وألا يعتبر تساوي الحال في الذكورة والأنوثة. وأجمع المسلمون عليه أخذا بالعموم، وإنما وقع الخلاف في الدية مع القتل، وهو قول مرغوب عنه، ولا دليل في هذه الآية على الصحيح من القول فيها على أنه لا تقتل الأنثى بالذكر، ولا الذكر بالأنثى، لما ورد أنها مذهبة٢٤ لما كانت عليه العرب في الجاهلية من التعدي في القصاص حتى كانوا إذا قتل حر من القبيلة العزيزة حرا من القبيلة المعزوزة لم يسلموه للقصاص، وبذلوا موضعه عبدا أو امرأة، وإن قتل عبد من المعزوزة عبدا من القبيلة العزيزة حرة بحرة لم يرضوا بالقصاص منها وطلبوا موضع العبد حرا، وموضع المرأة رجلا فأمر الله عباده المؤمنين ألا يمتثلوا ذلك وأن يقتلوا الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى، لأن الأنثى لا يقتل بها الرجل إن قتلها، ولأن العبد لا يقتل بالحر إن قتله. ولا جائز أن يكون معنى الآية غير هذا. وتأويل مالك في الآية أيضا جيد قوي فعلى هذا يقتل الحر بالحرة والحرة بالحر والعبد بالأمة، والأمة بالعبد، وكذلك الزوجة بالزوج، إلا أن الليث بن سعد قال : إذا جنى الرجل على امرأته عقلها، ولم يقتص منه، فكأنه رأى النكاح ضربا من الرق فأورث ذلك شبهة في القصاص. وأما تساوي الحال في الحرية والعبودية٢٥ وذلك إذا قتل الحر العبد فاختلف هل يعتبر أم لا ؟ ففي المذهب أنه يعتبر فلا يقتل الحر بالعبد ولا بالأمة ولا الحرة بالعبد ولا بالأمة. وقال٢٦ قائلون من علماء السلف –وهو داود والثوري- : يقتل بالعبد له كان أو لغيره. وقال أبو حنيفة : يقتل بعبد غيره ولا يقتل بعبد نفسه. والحجة للمذهب قوله تعالى :﴿ الحر بالحر والعبد بالعبد ﴾ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا يقتل حر بعبد " ٢٧ والعلة في ذلك نقصان المرتبة، وحجة من رأى القتل التعلق بالعمومات الواردة في القصاص، ورووا عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من قتل عبده قتلناه، ومن جدع عبده جدعناه " ٢٨ والاحتجاج بهذا العموم قوله تعالى :﴿ وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ﴾ |المائدة : ٤٥| ونحو ذلك ضعيف، لأن العام إذا عارضه خاص على وفق حكمه وحمله على البيان والتخصيص أظهر من حمله على التأكيد، وقد اختلف فيه الأصوليون. وأما حديث سمرة فضعيف، وقد عارضه حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : " أن رجلا قتل عبده متعمدا فجلده النبي صلى الله عليه وسلم ونفاه سنة، ومحا سهمه من المسلمين. ولم يقد منه " ٢٩. وروي عن أبي بكر وعمر –رضي الله عنهما- نحو ذلك. ويحتمل خبر سمرة أنه كان قد أعتقه، ثم قتله أو جدعه فسماه عبدا استصحابا للاسم السابق. ولهم أن يقولوا أخباركم حكاية الحال فيحمل على أنه كان كافرا أو أباح له دم نفسه. وأما العبد إذا قتل الحر فلا خلاف أنه يقتل به إن اختاره الولي، لأن دم الأعلى يكافئ دم الناقص ويزيد عليه، فإذا قتل الناقص بالأعلى لم تؤخذ عنه زيادة على ما كان يلزمه.
وقال بعضهم : إن الحر إذا كان يقتل بالحر لاستوائهما في مرتبة الحرية، فالعبد أولى به لمزية الحرية. وكذلك الكافر إذا قتل المسلم الحكم فيه، هذا سواء بسواء. وأما تساوي الحال في الكفر والإسلام وذلك إذا قتل المسلم كافرا، فاختلف فيه هل يعتبر أم لا ؟ ففي المذهب أنه يعتبر. فلا يقتل المسلم ولا المسلمة بالكافر ولا بالكافرة. وقال أبو حنيفة : يقتل المسلم بالذمي تمسكا بالعمومات. قال أبو الحسن٣٠ : وترك الشافعي العمومات في قتل المسلم بالكافر لأنها منقسمة٣١. فمنها قوله تعالى :﴿ كتب عليكم القصاص في القتلى ﴾ ومساق ذلك يدل على الاختصاص بالمسلم إذا قتل المسلم فإنه قال :﴿ فمن عفي له من أخيه شيء ﴾ ولا يكون الكافر أخا للمسلم، وقال ﴿ ذلك تخفيف من ربكم ورحمة ﴾ ﴿ ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا ﴾ ولا حجة فيه فإنا نجعل لوليه٣٢ سلطانا وهو طلب الدية ومنها قوله تعالى :﴿ وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ﴾ وهو إخبار عن شريعة من قبلنا ولا يلزمنا ذلك إلا ببيان من شرعنا جديد، غير أن العموم ليس٣٣ يسقط ببعض ما ذكرنا بالكلية إلا أنه يضعف.
وقال بعض المتأخرين : لا يجب أن يحمل قوله تعالى :﴿ وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ﴾ الآية |المائدة : ٤٥| على عمومها في قتل الحر بالعبد والحر بالأمة، والمسلم بالكافر، والمسلمة بالكافرة، لأن الآية إنما أريد بها الأحرار والمسلمون، والدليل على ذلك أن الله تعالى لم يخاطبنا بها في شرعنا وإنما أخبر تعالى أنه كتبها في التوراة على موسى بن عمران، وهم أهل ملة واحدة، ولم يكن لهم ذمة ولا عبيد، لأن الاستعباد إنما أبيح للنبي صلى الله عليه وسلم وخص به هو وأمته من بين سائر الأمم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي، أحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، ونصرت بالرعب مسيرة شهر، وأعطيت جوامع الكلم، وبعثت إلى الناس كافة " ٣٤ لقول الله عز وجل :﴿ يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ﴾ |الأعراف : ١٥٨|.
وقوله أيضا في الآية :﴿ فمن تصدق به فهو كفارة له ﴾ |المائدة : ٤٥|
يدل على ما قلناه من أن الآية إنما أريد بها المسلمون الأحرار لأن العبد لا يتصدق بدمه، لأن الحق في ذلك لسيده، والكافر لا تكفر عنه صدقته.
ولو صححنا هذه المعلومات وفرضنا هذه الآية أن النفس بالنفس في شرعنا لوجب أن يخصص العموم المقتضي : قتل الحر بالعبد، والحر بالأمة ؛ بقوله عز وجل :﴿ كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد ﴾ الآية |البقرة : ١٧٨| ويخصص من ذلك قتل المسلم بالكافر لقوله صلى الله عليه وسلم : " لا يقتل مسلم بكافر " ٣٥ وقد تقدم في غير ما موضع ما في هذا التخصيص من الخلاف، ومما احتج به عبد الوهاب٣٦، وكأنه رآ
٢ في ب "قصصا"..
٣ البيت منسوب للشنفرى كما في لسان العرب ﴿بلت﴾ ﴿١/٣٣٨﴾..
٤ في هذا يراجع تفسير الطبري ﴿٢/١٤٠، ١٤١﴾ والمفردات في غريب القرآن للأصبهاني ﴿ص٦١٠﴾..
٥ في المحرر الوجيز زيادة "والمنعة"..
٦ المحرر الوجيز ﴿١/٤٩٥﴾ وعنه ابن حجر في العجاب ﴿ص٢٤٠﴾..
٧ ذكر ذلك الطبري عن طائفة من التابعين ﴿١/١٣٧، ١٣٨﴾ ويراجع المحرر الوجيز ﴿١/٤٩٥، ٤٩٦﴾..
٨ رواه الطبري في تفسيره ﴿٢/١٣٩﴾ ويراجع العجاب لابن حجر ﴿ص٢٤١﴾..
٩ كذا في أ وفي ب والمحرر الوجيز ﴿١/٤٩٦﴾ "أبو عبيدة" وهذا الأثر ذكره أبو عبيد في الناسخ والمنسوخ ﴿ص١٣٩﴾ ويراجع المحرر الوجيز ﴿١/٤٩٦﴾..
١٠ في أ "أن يراد"..
١١ في ن "ينبغي". والضمير في "ينبني" يعود على قول مالك..
١٢ في ب "على أن الرجل يقتل بالمرأة وعكسه"..
١٣ في أ "مثبتة"..
١٤ في ب "الاستحياء استحيوا وأخذوا نصف الدية"..
١٥ رواه عنهما الطبري في تفسيره ﴿١/١٣٨﴾ وذكره ابن عطية في المحرر ﴿١/٤٩٦﴾..
١٦ رواه عنهما الطبري في تفسيره ﴿١/١٣٨﴾ وذكره ابن عطية في المحرر ﴿١/٤٩٦﴾..
١٧ الإشراف على مسائل الخلاف ﴿٢/٨١٢/ رقم ١٥٤٥﴾..
١٨ هو الكيا الهراسي في أحكام القرآن ﴿١/٤٥﴾..
١٩ أخرجه عن أبي هريرة البخاري في العلم ﴿١١٢﴾ ومسلم في الحج ﴿١٣٥٥﴾..
٢٠ أحكام القرآن للكيا الهراسي ﴿١/٤٢﴾..
٢١ سقطت من أ وهي في أحكام القرآن وعنده زيادة 'فان الثاني ليس الأول"..
٢٢ في ب "ذكورية"..
٢٣ سبق تخريجه قريبا..
٢٤ في ب "وعكسه"..
٢٥ في ب "الرق"..
٢٦ في ب "بهما"..
٢٧ أخرجه الدارقطني في السنن ﴿٣/١٣٣/ والبيهقي في السنن الكبرى {٨/٣٥﴾ كلاهما عن عثمان البري، عن جويبر عن الضحاك، عن عباس فذكره مرفوعا..
٢٨ أخرجه أبو داود في الديات ﴿٤٥١٤﴾ و ﴿٤٥١٦﴾ و ﴿٤٥١٦﴾ و ﴿٤٥١٧﴾ والترمذي ﴿١٤١٤﴾ والنسائي في القسامة ﴿٨/٢٠، ٢١، ٢٦﴾ وابن ماجة في الديات ﴿٢٦٦٣﴾ والدارمي في المسند ﴿٢٣٨٨﴾ وأحمد في المسند ﴿٥/١٠، ١١، ١٢، ١٨، ١٩﴾ والطبراني في المعجم الكبير ﴿٧/رقم ٦٨٠٨﴾ و ﴿٦٨٠٩﴾ و ﴿٦٨١٠﴾ و ﴿٦٨١١﴾ و ﴿٦٨١٢﴾ و ﴿٦٨١٣﴾ و ﴿٦٨١٤﴾ وابن عدي في الكامل ﴿٢/٨٢٩﴾ و ﴿٢٥٧٢﴾ والحاكم في المستدرك ﴿٤/٣٦٧﴾ والبيهقي ﴿٨/٣٥﴾ والبغوي في شرح السنة ﴿١٠/رقم ٢٥٣٣﴾ جميعهم من طرق عن الحسن، عن سمرة بن جندب فذكره.
وإسناده ضعيف لتدليس الحسن البصري فانه لم يسمع كل أحاديث سمرة. وظاهر كلام البيهقي في السنن إلى تضعيفه ﴿٨/٣٥﴾..
٢٩ أخرجه ابن ماجة في الديات ﴿٢٦٦٤﴾ والبيهقي في السنن ﴿٨/٣٦﴾ من طريق إسماعيل بن عياش، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فذكره.
وهذا سنده ضعيف جدا إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة متروك كما في التقريب ﴿ص٢٩﴾ وإسماعيل بن عياش ضعيف روايته عن غير أهل بلده وهذا منها.
وأخرجه ابن ماجة أيضا ﴿٢٦٦٤﴾ وأبو يعلى ﴿٥٣١﴾ والدارقطني في السنن ﴿٣/١٤٤﴾ والبيهقي ﴿٨/٣٦﴾ من طريق إسماعيل بن عياش، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين، عن علي مثله.
وهذا سند منقطع لأن إبراهيم بن عبد الله بن حنين لم يسمع من علي.
والحديث ضعفه عبد الحق الاشبيلي في الأحكام الوسطى ﴿٤/٧١﴾..
٣٠ في أحكام القرآن ﴿١/٤٥، ٤٦﴾..
٣١ في الأصلين أ ب و ن "منكسرة" والتصحيح من أحكام للكيا الهراسي..
٣٢ في أحكام القرآن "فانا نجعل له سلطانا وهو طلب الدية"..
٣٣ في ب "لا" والمثبت موافق لما في المطبوع من أحكام القرآن..
٣٤ أخرجه البخاري عن جابر بن عبد الله في التيمم ﴿٥٣٣﴾ ومسلم في المساجد ﴿٥٢١﴾..
٣٥ أخرجه البخاري عن علي في كتاب العلم ﴿١١١﴾..
٣٦ أخرجه أبو داود ﴿٢٧٥١، ٤٥٣١﴾ وابن ماجة ﴿٢٦٥٩، ٢٦٨٥﴾ وأحمد ﴿٢/١٩١، ١٩٢، ٢١١﴾ وابن الجارود في المنتقى ﴿٧٧١، ١٠٧٣﴾ والبيهقي ﴿٨/٢٩﴾ والبغوي ﴿١٠/١٧٢، ١٧٣﴾ من طرق عن عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده.
وهذا سند حسن ومنهم من يصححه وحسنه الحافظ في الفتح ﴿١٢/٢٦١﴾ وصححه الألباني في إرواء الغليل ﴿٧/رقم ٢٢٠٨﴾..
معناه : أن القصاص إذا أقيم ازدجر الناس عن القتل ونحوه. قال العرب : القتل أوقى للقتل وروي : أنفى وأبقى. وهذا تنبيه على الحكمة في شرع القصاص وإبانة الغرض منه. وخص أولي١ الألباب مع وجود المعنى في غيرهم لأنهم المنتفعون به، كما قال :﴿ إنما أنت منذر من يخشاها ﴾ |النازعات : ٤٥| مع قوله :﴿ نذير لكم بين يدي عذاب شديد ﴾ |سبأ : ٤٦| وقال :﴿ هدى للمتقين ﴾ |البقرة : ٢| مع قوله في موضع آخر :﴿ هدى للناس ﴾ |البقرة : ١٨٥| وقال في قصة مريم :﴿ إني أعوذ بالرحمان منك إن كنت تقيا ﴾ |مريم : ١٨|.
وقد اختلف٢ في القصاص هل يكون كفارة للقاتل أم لا ؟ فمن أهل العلم من ذهب إلى ذلك لقوله تعالى –عليه الصلاة السلام- : " الحدود كفارة لأهلها " ٣ ومنهم من ذهب إلى أن ذلك لا يكون كفارة لأن المقتول المظلوم لا منفعة له في القصاص، وإنما هي منفعة للأحياء ليتناهى الناس عن القتل، وهو٤ معنى قوله تعالى :﴿ ولكم في القصاص حياة ﴾ ٥.
٢ في أ "اختلفوا"..
٣ معناه ورد في حديث عبادة بن الصامت في المبايعة أخرجه البخاري في مواطن منها في الإيمان ﴿١٨﴾ ومسلم في الحدود ﴿١٧٠٩﴾..
٤ في "وهي"..
٥ يراجع أحكام القرآن للكيا الهراسي ﴿١/٥٦﴾ والمحرر الوجيز ﴿١/٥٠٠، ٥٠١﴾..
اختلف الناس في هذه الآية اختلافا كثيرا، فذهب قوم إلى أنها منسوخة كلها، وذهب قوم إلى أنها محكمة كلها. وذهب قوم إلى أن بعضها منسوخ وبعضها محكم. والذين ذهبوا إلى أنها كلها منسوخة اختلفوا في معناها. فذهب قوم إلى أنها فيمن يرث خاصة من الوالدين والأقربين، وذهب قوم إلى أنها فيمن يرث ومن لا يرث.
واختلف الذاهبون إلى أنها فيمن يرث خاصة في الناسخ لها ما هو ؟ فذهب قوم إلى أن الإجماع على أن الوصية لمن يرث لا تجوز هو الناسخ لها، وهو معترض بأن١ الإجماع إنما ينعقد بعد موت النبي –عليه السلام-، فالنسخ به لا يصح، وإنما حكي جوازه عن عيسى بن أبان، وهو قول ضعيف. لكنا٢ نقول قد ينعقد على قول الجمهور عن نظر واجتهاد، فهذا القسم لا يصح النسخ به بوجه.
وقد ينعقد عن استناد٣ إلى خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا إذا صح مستنده إلى الخبر جاز النسخ به، والناسخ على هذا هو الخبر الذي وقع الإجماع على معناه، والإجماع في هذه المسألة على أن الوصية لمن يرث لا تجوز، وقد يصح أن يقال لم يخل عن الاستناد إلى الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم لكنه درس ويعني٤ الإجماع المقطوع به٥.
وقد جاء في الحديث الصحيح ما يدل عليه وهو قوله –عليه الصلاة و السلام- : " ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت٦، فهو لأولي عصبة ذكر " ٧ وذهب قوم إلى أن الناسخ لها السنة، وهو قوله –عليه الصلاة والسلام- : " لا وصية لوارث " وهو قول بعض أهل العلم. وحكى أبو الفرج عن مالك أنه قال : نسخت الوصية للوالدين ما تواتر من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا وصية لوارث " ٨ ونسخت الوصية للأقربين آية المواريث. وهذا القول معترض من أوجه :
أحدهما : أنه ليس له في الصحة أصل لأنه منقطع.
والثاني : أنه خبر آحاد ولا يجوز نسخ القرآن به على قول الجمهور، وأجاب من أجاز ذلك أنه لا يمتنع من طريق النظر في الأصول، فإن بقاء الحكم مظنون فيجوز أن ينسخ بمثله، وضعف هذا القول مبين في كتب الأصول. وقد قيل إن الإجماع منعقد على تلقي هذا الخبر بالقبول ومثل ذلك يجوز أن٩ ينسخ به الكتاب١٠.
والثالث : أنه وإن تواتر ففي نسخ القرآن به نظر، لأن السنة إنما هي مبينة لا ناسخة، وقد روي هذا القول عن الشافعي، وقد تبين في الأصول ضعف هذا القول، فإن الصحيح جواز نسخ القرآن بالسنة المتواترة١١.
وذهب قوم إلى أن الناسخ لها قوله تعالى في سورة النساء :﴿ وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين ﴾ الآية |النساء : ٨| وهذا قول ضعيف لأنه لا تعارض بين الآيتين.
وذهب قوم إلى أن الناسخ لها آية المواريث، وهو قول مالك في " الموطأ " ١٢ وهذا معترض بأنه ليس بين الآيتين تعارض، ولا ثم أصل في معرفة المتقدمة منهما من المتأخرة، قالوا : فما المانع من أن يجتمع الوصية والميراث١٣، وإنما نسخ الشيء بما ينافيه، والله تعالى إنما جعل الميراث بعد الوصية فلا يمتنع أن يأخذ حضه من الوصية ثم يعطى الميراث بعدها، وقد قال الشافعي في كتاب " الرسالة " ١٤ : يحتمل أن تكون المواريث ناسخة للوصية، ويحتمل أن تكون ثابتة معها –ثم قال –لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا وصية لوارث " استدللنا به وإن كان حديثا منقطعا على أن المواريث ناسخة للوصية للوالدين و الأقربين١٥.
ووجه هذا القول أن الله تعالى جعل الوصية واجبة ليأخذ كل ذي حق حقه من مال الميت بعد موته، وكان إثبات الحق للوارث١٦ من ماله لمكان القرابة، ولما كان الموصي قد يميل لبعضهم دون بعض١٧، وعلم الله تعالى منه ذلك أعطى كل ذي حق حقه بآية المواريث، ولذلك قال النبي –عليه السلام- في الحديث : " إن الله لم يكل قسم مواريثكم إلى ملك مقرب " ١٨ الحديث إلى أن قال : " لا وصية لوارث " فكان الميراث قائما مقام الوصية، فلم يجز الجمع بينهما١٩.
وأما الذاهبون إلى أن الآية عامة فيمن يرث ومن لا يرث فقالوا : إن الآية منسوخة في حق الوارثين جملة، وأما في حق من ليس بوارث، فإنما نسخ منها الوجوب وبقيت الوصية في حقهم ندبا. وذكر المهدوي عن ابن عباس وغيره : أنها منسوخة بآية المواريث، فلا وصية واجبة لقريب ولا بعيد٢٠. يريدون٢١ والله أعلم، أن الوصية للوارث تسقط جملة، ويسقط وجوبها في حق غير الورثة، وذلك بآية المواريث لأنها بينت من له حق في المال وليس له غيره، ومن لا حق له واجب، فبقيت الوصية في حقه على الندب. وقال الربيع بن خثيم، وغيره : لا وصية، وقال عروة بن ثابت للربيع بن خثيم : أوصي لي بمصحفك فنظر الربيع إلى ولده وقرأ :﴿ وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ﴾ ونحو هذا صنع ابن عمر –رضي الله عنه-٢٢. وقد اختلف في الوصية للوارث إذا أجازها سائر الورثة هل يجوز ذلك أم لا ؟ ففي المذهب أنها تجوز لهم لأن نسخ الوصية إنما كان بسبب غيرهم من الورثة فإذا سلموا صحت.
وقالت جماعة من أهل العلم : لا تجوز وإن أجازوها لعموم الحديث : " لا وصية لوارث " لا على سبيل الهبة المفتقرة إلى الحيازة. وهكذا إذا أجاز الورثة ما زاد على الثلث.
وأما الذين ذهبوا٢٣ إلى أن بعضها منسوخ وبعضها محكم فقالوا نسخ من الآية٢٤ فرض الوصية للوالدين الوارثين وبقي فرض الوصية للأقربين الذين لا يرثون محكما غير منسوخ.
ويعترض هذا القول فإن آية الوصية عامة فيمن يرث ومن لا يرث والذي عارضها خاص فيمن يرث فكيف يكون هذا نسخا فيمن يرث ؟ والجواب عن هذا ما حكاه بعض المفسرين عن ابن عباس، والحسن وقتادة٢٥ بأن الآية عامة ولم يقرر الحكم بها برهة، ونسخ منها من يرث بآية الفرائض.
وأما الذين ذهبوا إلى أنها محكمة كلها فاختلفوا في معناها، فقالت طائفة هي آية عامة فيمن يرث ومن لا يرث من الوالدين والأقربين، والمراد بها، من لا يرث منهم كالوالدين الكافرين والعبدين دون من يرث بدليل آية المواريث. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا وصية لوارث " فالأدلة على أن الوصية للوارث لا تجوز مخصصة لا ناسخة. وقال طائفة الآية خاصة فيمن لا يرث دون من يرث من الوالدين والأقربين، فالآية على هذا لا تحتاج إلى تخصيص.
وقد اختلف الذاهبون٢٦ إلى أنها محكمة، هل الوصية واجبة للأقربين أو مندوب إليها٢٧ ؟ فقال قوم : إنها مندوب إليها بدليل قوله تعالى :﴿ متاع بالمعروف حقا على المتقين ٢٤١ ﴾ |البقرة : ٢٤١| لأن الواجب لا يقال |فيه|٢٨ إنه معروف، ويستوي فيه المتقي وغيره. وذهب قوم إلى أنها واجبة بدليل قوله تعالى :﴿ كتب عليكم ﴾ وقال بعضهم وقوله تعالى :﴿ حقا على المتقين ﴾ يؤكد الوجوب. وبدليل قوله –عليه الصلاة والسلام_ :٢٩ " ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين، إلا ووصيته مكتوبة عنده " ٣٠ وحمل الذين ذهبوا إلى أن الندب هذا الحديث على طريق الندب واحتجوا بما جاء في بعض طرقه من أنه قال –عليه الصلاة والسلام- : " ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي به " ٣١ قالوا وتعليق الوصية بإرادته نص على سقوط الوجوب، وهذا هو قول الجمهور٣٢.
والوصية في الوجوب أو الندب سواء في حال الصحة أو في حال المرض، وظاهر الآية يقتضي أنها إنما تكون في حال المرض وقد قال به قوم مشيا على ظاهر الآية، وقد اتفقوا على أن الوصية للأقربين الذين لا يورثون أفضل منها للأجانب فلا يجوز أن يوصى للأجانب٣٣ ويتركوا.
وقال الناس حين مات أبو العالية : عجبا له أعتق امرأة من رياح وأوصى بماله لبني هاشم. وقال الشعبي : لم يكن ذلك له ولا كرامة.
واختلفوا إذا أوصى للأجنبين دونهم، فعلى مذهب مالك الذي لا يرى الوصية واجبة هي ماضية حيث جعلها الميت.
وقال طاوس ينقض فعله وترد الوصية إلى قرابته. وقاله جابر بن زيد. وقال الحسن، وجابر بن زيد أيضا وعبد الملك بن يعلى : يبقى ثلث الوصية حيث جعلها ويرد ثلثاها إلى قرابته٣٤. وقيل : يصرف إلى قرابته ثلث الثلث، وهذه الأقوال على القول الأول بأن الآية في الأقربين محكمة، وأنها على الوجوب والوصية قد اتفقوا على أنها لا تجوز بأكثر من الثلث لمن معه ورثة. واختلفوا فيمن لا وارث له سوى بيت المال. فأجاز له أبو حنيفة الوصية بجميع ماله. وقال مالك لا يجوز أكثر من ثلثه٣٥ لقوله صلى الله عليه وسلم لسعد " الثلث والثلث كثير " ٣٦ وهذا الحديث مخصص لعموم الآية في الوصية للأقربين، ومن العلماء من استحب ألا يبلغ بالوصية الثلث لقوله –عليه الصلاة والسلام- : " والثلث كثير " وروي عن ابن عباس أنه قال : لو غض الناس من الثلث إلى الربع٣٧. وأوصى عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- بربع ماله وأبو بكر بخمس ماله. وقال : رضيت في وصيتي بما رضي الله تعالى به لنفسه من الغنيمة. وتلا :﴿ واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه ﴾ الآية |الأنفال : ٤١|٣٨. وقد استحب جماعة من العلماء الثلث في الوصية لقول٣٩ رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله أعطاكم ثلث أموالكم عند وفاتكم، زيادة في أعمالكم ". واختلف في قدر المال الذي إذا كان عند الإنسان استحبت له فيه الوصية أو وجبت عليه فيه لاختلافهم في مقدار الخير في قوله تعالى :﴿ إن ترك خيرا ﴾ |البقرة : ١٨٠| فقال الزهري وغيره : تجب فيما قل وكثر. وقال النخعي : تجب في خمسمائة درهم فصاعدا. وقال علي –رضي الله عنه- وقتادة : في ألف درهم فصاعدا. وروي عن علي أيضا تجب في خمسمائة ألف فما دونها نفقة. وعن عائشة –رضي الله عنها- في امرأة لها ثلاثة آلاف درهم وأربعة من الولد لا وصية تجب٤٠ لمالها٤١. واستدل محمد بن الحسن على أن مطلق الأقربين لا يتناول الوالدين بهذه الآية. وهذا استدلال لا خفاء في ضعفه٤٢ والجمهور على خلافه٤٣.
٢ في ب "لأنا"..
٣ في ب "استناده"..
٤ في ب "يقع"..
٥ يراجع في هذا الأحكام في أصول الأحكام لابن حزم ﴿٤/٨٣ -٩٢ و١٢٠﴾ وأحكام الفصول للباجي ﴿ص٤٢٨، ٤٢٩﴾والمستصفى للغزالي ﴿٢/٩٩ -١٠٨ –ط المحققة﴾ وإرشاد الفحول للشوكاني ﴿ص١٩٠ -١٩٣﴾..
٦ في ب "بقيت"..
٧ أخرجه البخاري عن ابن عباس في الفرائض ﴿٦٧٣٢﴾ ومسلم في الفرائض ﴿١٦١٥﴾ وعندهما "لأولى رجل ذكر" قال ابن حجر في الفتح ﴿١٢/١٢﴾: ""ووقع في كتب الفقهاء كصاحب النهاية وتلميذه الغزالي "فالأولى عصبة ذكر" فال ابن الجوزي والمنذري: هذه اللفظة ليست محفوظة.."..
٨ سبق تخريجه ص١٦٤..
٩ في ب "نسخ الكتاب" به" والمثبت موافق لما في أحكام القرآن للهراسي..
١٠ يراجع أحكام القرآن للهراسي ﴿١/٥٧، ٥٨﴾..
١١ قال أبو بكر الجصاص في حديث ابن عباس وغيره مرفوعا "لا يجوز لوارث وصية..": "هو عندنا في حيز التواتر لاستفاضته وشهرته في الأمة تلقي الفقهاء إياه بالقبول واستعمالهم له وجائز عندنا نسخ القرآن بمثله إذ كان في حيز ما يوجب العلم والعمل من الآيات" كذا في أحكام القرآن ﴿١/٢٠٥﴾..
١٢ كتاب الوصية ﴿٢/٣١٤/ رقم ٢٢٢٤﴾..
١٣ في هامش مثل المثبت وفي أصلها "يعطي"..
١٤ يراجع الرسالة ﴿ص٦٠ -٦١ – رقم ٢٦ و٢٧ ط دار الوفاء المنصورة﴾..
١٥ نقل هذا الكيا الهراسي في أحكام القرآن ﴿١/٥٨﴾ وقبله الجصاص في أحكام القرآن أيضا ﴿١/٢٠٥﴾..
١٦ في ب "سمواريث"..
١٧ في ب "لبعض على بعض"..
١٨ يراجع الدر المنثور للسيوطي ﴿٣/٢٥٠﴾..
١٩ يراجع أحكام القرآن للكيا الهراسي ﴿١/٥٨﴾ وأحكام القرآن للجصاص ﴿١/٢٠٥، ٢٠٦﴾..
٢٠ يراجع الروايات عن ابن عباس وغيره في ذلك في تفسير الطبري ﴿٢/١٥٦ -١٥٨﴾..
٢١ في ب "يريد"..
٢٢ يراجع لهذه الأقوال المحرر الوجيز ﴿١/٥٠٣﴾ وتفسير الطبري ﴿٢/١٥٨﴾..
٢٣ في ب "الذاهبون"..
٢٤ في ب "منها"..
٢٥ تراجع الروايات عنهم عند الطبري في تفسيره ﴿٢/١٥٥، ١٥٦﴾..
٢٦ في ب "الذاهبون"..
٢٧ يراجع في أحكام القرآن للهراسي ﴿١/٥٧﴾ والمحرر الوجيز ﴿١/٥٠٤﴾ وأحكام القرآن لابن العربي ﴿١/٧٢، ٧٣﴾ وتفسير القرطبي ﴿٢/٢٥٩، ٢٦٠﴾..
٢٨ سقطت من أ..
٢٩ أخرجه من حديث ابن عمر البخاري في الوصايا ﴿٢٧٣٨﴾ ومسلم في الوصية ﴿١٦٢٧﴾..
٣٠ في أ "عنده مكتوبة"..
٣١ يراجع هذا اللفظ وغيره في الباري لابن حجر ﴿٥/٣٥٧﴾..
٣٢ يراجع فتح الباري لابن حجر ﴿٥/٣٥٤ -٣٦٣﴾..
٣٣ في ن "يوصي للأجنبين"..
٣٤ يراجع المحرر الوجيز لابن عطية ﴿١/٥٠٣، ٥٠٤﴾ وتفسير القرطبي ﴿٢/٢٦١﴾..
٣٥ في ب "ثلث"..
٣٦ أخرج حديثه البخاري في الوصايا ﴿٢٧٤٢﴾ ومسلم في الوصية ﴿١٦٢٨﴾..
٣٧ أخرجه البخاري في الوصايا ﴿٢٧٤٣﴾ ومسلم في الوصية ﴿١٦٢٩﴾..
٣٨ يراجع تفسير القرطبي ﴿٢/٢٦٠﴾ وكلام الحافظ ابن حجر في الفتح ﴿٥/٣٦٣ -٣٧١﴾..
٣٩ أخرجه بهذا اللفظ البيهقي في السنن ﴿٢/٢٦٩﴾ وابن ماجه في الوصايا ﴿٢٧٠٩﴾ بنحوه وكذا البزار في مسنده كما في نصب الراية ﴿٤/٤٠٠﴾ من طريق طلحة بن عمرو، عن عطاء عن أبي هريرة. فذكره.
وطلحة بن عمرو متروك فالسند ضعيف جدا. وله طرق ضعيفة حسن بها الحديث بعضهم فيراجع نصب الراية ﴿٤/٤٠٠﴾ والتلخيص الحبير لابن حجر ﴿٣/٩١﴾ وإرواء الغليل للألباني ﴿٦/ رقم ١٦٤١﴾..
٤٠ في ن "في مالها"..
٤١ تراجع هذه الأقوال في أحكام القرآن للجصاص ﴿١/٢٠٢﴾ وزاد المسير لابن الجوزي ﴿١/١٨٢﴾..
٤٢ في أ "وهو استدلال ضعيف لا خفاء به"..
٤٣ أحكام القرآن للهراسي ﴿١/٦٠﴾..
ومن أحكام هذه الآية أن من أوصي إليه بشيء خاص لم يكن وصيا في غيره خلافا لأبي حنيفة، فإنه١ يكون |عنده|٢ كالوكيل المفوض إليه ينظر في ذلك وغيره، والحجة عليه قوله تعالى :﴿ فمن بدله بعدما سمعه ﴾ الآية |البقرة : ١٨١| وهذا من أعظم التبديل. ومنها إذا أوصى الميت بشيء فوصيته صحيحة، خلافا لأبي حنيفة والشافعي لقوله تعالى :﴿ فمن بدله بعدما سمعه ﴾ الآية٣. وقد اختلفوا في الوصية للقاتل عمدا أو خطأ، ففي المذهب أنها تصح. وذكر الشافعي أنها لا تصح، واحتج أصحاب المذهب بقوله تعالى ﴿ فمن بدله بعدما سمعه ﴾ الآية. ٤
٢ سقطت من أ..
٣ يراجع أحكام القرآن للجصاص ﴿١/٢٠٩ -٢١١﴾ وأحكام الكيا ﴿١/٦٠﴾ والمحرر الوجيز ﴿١/٥٠٥﴾ وأحكام القرآن لابن العربي ﴿١/٧٣﴾ وتفسير القرطبي ﴿٢/٢٦٨، ٢٦٩﴾..
٤ في ب "أن يجنف الوصي" وكتبت في أ "يحيف"..
اختلف في معنى الخوف هنا فقيل : هو على بابه، فإنه بمعنى خشي، وأن المعنى من خشي أن يجنف الموصي، ويقطع ميراث الورثة متعمدا وهو المراد بقوله ﴿ إثما ﴾ أو غير متعمد وهو الجنف دون الإثم فوعظه في ذلك، وزجره عنه وأصلح في ذلك ما بينه وبين ورثته، وما بين الورثة في ذاتهم فلا إثم عليه، وهذا قول مجاهد١. وقال ابن عباس، وقتادة، والربيع : المعنى ﴿ من خاف ﴾ أي علم، ومن أتى علمه عليه بعد موت الموصي خاف أو جنف، وتعمد إذاية بعض ورثته فأصلح ما وقع بين الورثة من الاضطراب والشقاق، فلا إثم عليه أي : لا يلحقه إثم البدل المذكور. قيل : وإن كان في فعله تبديل ما. وقد أفادت هذه الآية أن على الوصي والحاكم والوارث، وكل من وقف على جور في الوصية من جهة الخطأ والعمد ردها إلى العدل، فدل ذلك على قوله ﴿ بعدما سمعه ﴾ خاص في الوصية٢ العادلة دون الجائرة. وفيه الدلالة٣ على جواز اجتهاد الرأي، والعمل على غالب الظن، وفيه الرخصة في الدخول بينهم على وجه الصلاح، مع ما فيه من زيادة أو نقصان من الحق بعدما يكون بتراضيهم.
ويؤخذ من الآية أيضا أنه إذا أوصى٤ بأكثر من الثلث أن الوصية لا تبطل كلها، وإنما يبطل منها ما زاد على الثلث لقوله تعالى :﴿ فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه ﴾ |البقرة : ١٨٢| لأنه تعالى لم يبطل الوصية جملة بالجور فيها، وجعل فيها الوجه الأصلح خلافا لمن يقول إنها تبطل٥ جملة٦.
٢ في "الموصي"..
٣ كذا في ب وهامش أ وفي أصل أ "دليل"..
٤ في ب "وصى"..
٥ في أ "يبطل" جميعها"..
٦ يراجع المحرر الوجيز ﴿١/٥٠٦، ٥٠٧﴾ وجامع البيان ﴿٢/١٦٤ -١٦٩﴾ وأحكام القرآن للجصاص ﴿١/٢١٢﴾ وأحكام القرآن للهراسي ﴿١/٦٠، ٦١﴾ وتفسير القرطبي ﴿٢/٢٦٩ -٢٧٢﴾..
اختلف في قوله :﴿ كتب عليكم الصيام ﴾ هل هو من المجمل أو من العام ؟ فذهب بعضهم إلى أنه مجمل لكن السنة١ بينته.
وذهب بعضهم إلى أنه عام لأن الصوم الإمساك، لكن الشرع قد خصصه بإمساك مخصوص، عن أشياء مخصوصة في أوقات مخصوصة على وجه مخصوص.
ورجح كل فريق مذهبه. وقوله تعالى :﴿ كما كتب على الذين من قبلكم ﴾ متردد بين معان، فيحتمل أن يراد به صفة الصيام في الامتناع من الأكل بعد النوم، ويحتمل أن يريد العدد أي صيام شهر، ويحتمل أن يريد العدد والوقت، أي شهر رمضان، ويحتمل جميع ذلك، ويحتمل أن يريد به تعيين الصيام خاصة، ولم يترجح فيه أحد الاحتمالات فهو لفظ مجمل.
وقد تجاذبت٢ أهل التفسير هذه الاحتمالات٣ :
فذهب كل فريق منهم إلى ما هو الأظهر منها عنده، ولذلك اختلفوا في معنى التشبيه في الآية، هل هو منسوخ أو محكم، فذهب بعضهم إلى أنه منسوخ، وذهب بعضهم إلى أنه٤ محكم. والذين ذهبوا إلى أنه منسوخ قالوا : إنه كتب على من كان قبلنا أنه من نام بعد المغرب، وقيل : من صلى العتمة لم يأكل، ولم يقرب النساء بقية ليلته، ويومه٥ حتى يمسي، ثم كتب علينا ذلك في هذه الآية.
واختلف في الذين من قبلنا من هم ؟ فقيل : هم أهل الكتاب، وقيل : الناس كلهم، وقيل : النصارى، كتب عليهم شهر رمضان على أن لا يأكلون ولا ينكحوا النساء بعد النوم حتى ثقل عليهم في الشتاء فلما رأوا ذلك اجتمعوا٦ وقالوا : نريد عشرين يوما نكفر بها ما صنعنا، فجعلوا صيامهم خمسين يوما، فلم يزل المسلمون على ذلك حتى نسخه الله تعالى بقوله :( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ) |البقرة : ١٧٨| بسبب عمر –رضي الله عنه_ أو قيس بن صرمة. ٧، ٨، ٩
والذين ذهبوا إلى |أنه محكم اختلفوا في تأويله فذهب بعضهم إلى أن المراد بالتشبيه أنه كتب علينا شهر رمضان كما كتب على|١٠ من قبلنا، قالوا : إلا أن الذين من قبلنا غيروه وزادوا فيه.
واختلفوا في سبب تغييره، فقال الشعبي : فرض على النصارى رمضان كما كتب علينا، فبدلوه ؛ لأنهم احتاطوا له بزيادة يوم في أوله ويوم في آخره قرنا بعد قرن حتى بلغوا به خمسين يوما، فصعب عليهم في الحر فنقلوه إلى الفصل الشتوي١١ وفي ذلك حديث عن دغفل بن حنظلة١٢، والحسن البصري والسدي. وقيل : بل مرض ملك من ملوكهم فنذر إن بريء أن يزيد فيه عشرة أيام ففعل، ثم نذر آخر مثله سبعة، ثم آخر مثله ثلاثة وقال : اجعلوه حين لا حر ولا قر١٣١٤.
قال مجاهد : كتب شهر رمضان على كل أمة. وذهب بعضهم إلى أن التشبيه واقع على الصيام لا على الصفة ولا على العدة وإن اختلف الصيامان بالزيادة والنقصان. روي معناه عن معاذ بن جبل وعطاء وغيرهما.
وذهب بعضهم إلى أن معناه كما كتب على الذين من قبلكم أشياء غير رمضان. وذهب قوم إلى أن هذه الآية ناسخة، واختلف فيما نسخته، فذهب جابر بن سمرة وغيره إلى أنها ناسخة لصيام يوم عاشوراء، وهذا من نسخ السنة بالقرآن لأن النبي صلى الله عليه وسلم صامه وأمر بصيامه. وذهب عطاء وغيره إلى أنها ناسخة لما كان كتب عليهم قبل أن يفرض رمضان وهو صيام ثلاثة أيام من كل شهر١٥. وذهب معاذ وغيره إلى أنها ناسخة يوم عاشوراء، أو ثلاثة أيام من كل شهر، وكانت قد كتبت عليهم قبل أن يفرض رمضان. وروي عن معاذ قال : أحيل الصوم ثلاثة أحوال، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أولا، فجعل يصوم في١٦ كل شهر أياما، وصام عاشوراء، ثم إن الله فرض الصوم بقوله :( كتب عليكم الصيام ) فكان يصام من العتمة إلى العتمة ثم نسخ ذلك١٧. وهذا أيضا عندي من نسخ السنة بالقرآن، لأن هذه الثلاثة أيام لم ينزل بصيامها قرآن، وإنما صيمت بالسنة، إلا أني رأيت بعض المفسرين ينسب لعطاء قولا مخالفا لما تقدم عنه، وهو معنى التشبيه كتب عليكم صيام ثلاثة أيام من كل شهر قال في بعض الطرق : يوم عاشوراء كما كتب على الذين من قبلكم ثلاثة أيام من كل شهر، ويوم عاشوراء. ثم نسخ هذا بهذه الآية بشهر رمضان١٨ فظاهره أن الثابت بهذه الآية صوم ثلاثة أيام من كل شهر ويوم عاشوراء ثم نسخ برمضان. فهذا إذا من نسخ القرآن بالقرآن والآية على هذا منسوخة كلها، وبعض من ذهب إلى أن معنى التشبيه منسوخ فيطلق القول بأن الآية كلها منسوخة، وأكثرهم١٩ لا يطلق هذا. وذا مبني على اختلافهم في العبادة إذا نسخ شرط من شروطها هل يقال : إنه نسخ لبعض العبادة لا لأصلها ؟ أم يقال إنه نسخ لأصلها ؟ فمن رآها نسخا لأصلها أطلق القول بأن الآية كلها منسوخة ومن لم ير ذلك لم يطلق القول بذلك.
٢ في ب "تجاذب"..
٣ يراجع: أحكام لقرآن للجصاص (١/٢١٤، ٤١٥) وللهراسي (١/٦١، ٦٢) وجامع البيان (٢/١٦٩، ١٧٠) والمحرر الوجيز (١/٥٠٧ -٥٠٩) وأحكام القرآن لابن العربي (١/٧٤، ٧٥) وتفسير القرطبي (٢/٢٧٢ -٢٧٤)..
٤ في ب "وذهب آخرون"..
٥ في ب "الذاهبون"..
٦ في أ "يومه وليلته"..
٧ في ب "احتجوا"..
٨ في ب "الذين "هبوا"..
٩ رواه الطبري عن السدي يراجع تفسيره (٢/١٧١)..
١٠ سقطت من أ..
١١ في ب "إلى الشتاء"..
١٢ رواه البخاري في التاريخ الكبير وضعف إسناده (٣/٢٣٢، ٢٣٣)..
١٣ يراجع في هذا المحرر الوجيز (١/٥٠٨) وأحكام القرآن للجصاص (١/٢١٤، ٢١٥)..
١٤ يراجع أحكام القرآن لابن العربي (١/٧٤، ٧٥) وتفسير القرطبي (٢/٢٧٤، ٢٧٥)..
١٥ رواه الطبري عنه كما في جامع البيان (٢/١٧٣)..
١٦ في ب "من"..
١٧ رواه أبو داود في الصلاة (٥٠٧) والطبري في تفسيره (٢/١٧٣ و١٧٥) والبيهقي في السنن (٤/٢٧٤) وفي سنده ضعف وانقطاع يراجع العجاب في بيان الأسباب لابن حجر (ص٢٤٥، ٢٤٦)..
١٨ يراجع المحرر الوجيز (١/٥٠٨)..
١٩ في ب "وبعضهم"..
قيل : ثلاثة أيام، وقيل : رمضان، وقيل : الأيام البيض، وقد روى معاذ أن ذلك كان واجبا ثم نسخ.
١٨٤- قوله تعالى :( فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ) |البقرة : ١٨٤|.
اختلف في المريض والمسافر هل هما مخاطبان بصيام أم لا ؟
فذهب الأكثر من أهل المذهب إلى أنهما مأموران بصيام رمضان مخيران بين صومه وبين صوم غيره. وذهب بعض أهل المذهب إلى أن المسافر مخاطب بالصوم دون المريض. وقال الكرخي وأصحابه١ : المريض والمسافر غير مخاطبين بالصوم. وهذا الاختلاف مبني على الاختلاف في إضمار " فأفطر " في هذه الآية وذلك أن الأكثر ذهب إلى أن هذا من لحن الخطاب وهو٢ ضمير لا يتم الكلام إلا به، لأن سياق الكلام يدل عليه، كقوله :( اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه )
|الأعراف : ١٦٠| أي فضرب فانبجست٣.
وذهب بعضهم وأكثرهم أهل الظاهر أنه لا يضمر في الكلام، وأنه تعالى لم يأمر إلا بأيام أخر، فمن ذهب إلى القول الأول رأى أنهما مخاطبان. ومن ذهب إلى القول الثاني ذهب إلى خلاف ذلك. وقد اختلفوا على هذا في صيام المسافرفي رمضان. فذهب أهل الظاهر إلى أن الصوم لا ينعقد فيه وأن من صام فيه قضى أخذا بظاهر الآية٤، وهو ترك الإضمار لما جاء عنه –عليه السلام- أنه قال : " ليس من البر أن تصوموا في السفر " ٥ وذهب الكرخي إلى أن الواجب أيام أخر لمن لو صام رمضان صح، وكان معجلا للواجب كمن قدم الزكاة قبل٦ الحول، وجمهور العلماء على خلاف هذين المذهبين، ويلزم من ذهب في المسافر المذهبين المتقدمين أن يجعل المريض مثله لأن الله تعالى قد قرن بينهما، لكنه قد نقل لاتفاق على أن المريض إن تحامل على نفسه فصام أنه يجزيه صومه إذ هو منعقد بلا خلاف. وذكر عبد الوهاب في بعض كتبه : أن بعض الناس خرق الإجماع، فقال : إن المريض أيضا لا ينعقد صومه. وأما الكرخي فمذهبه في المريض كمذهبه في المسافر. وإذا قلنا إنهما مخاطبان، فهل يقال إن صوم رمضان واجب عليهما أم لا ؟ هذا فيه نظر، وهو مظنة الخلاف، فإن حد٧ الواجب هذا الذي إذا تركه المخاطب عصى، والمريض والمسافر إذا تركا الصيام لم ينسحب عليهما اسم العصيان باتفاق فيحتمل أن يقال : إن الصوم واجب عليهما في رمضان لكن رخص لهما الشرع في تأخيره٨ كالصحيح المقيم إذا تركه سهوا أو عمدا٩. ويحتمل أن يقال إن الصوم لهما في رمضان على سبيل التخيير لقوله تعالى :( فعدة من أيام أخر ) فكان الواجب أحدهما لا بعينه، وقد اختلفوا هل الصوم أفضل أم الفطر أم هما سواء١٠. فقيل الصوم أفضل لقوله تعالى :( وأن تصوموا خير لكم ) فعم، ولما ورد من صومه صلى الله عليه وسلم من أحاديث تدل على ذلك، وهذا أحد قولي مالك والشافعي.
وقيل : الفطر أفضل للحديث المتقدم وهو : " ليس من البر أن تصوموا في السفر " ١١ ولقوله صلى الله عليه وسلم : " هي رخصة من الله تعالى فمن شاء الأخذ بها فحسن، ومن شاء أن يصوم قلا جناح " ١٢ فمن جعل الفطر حسنا والصوم لا جناح فيه، ففيه الإشارة إلى أن تفضيل الفطر على الصوم، وهذا قول ابن عباس وابن عمر، وإليه ذهب عبد المالك ابن الماجشون، وقيل : بل هما سواء١٣ في الفضل لقوله صلى الله عليه وسلم للذي سأله عن الصيام |في السفر|١٤ : " إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر " ١٥ وقد ذكر هذا عن مالك. وقيل أفضلهما أيسرهما وهو قول عمر بن عبد العزيز ومجاهد. وهذا الاختلاف عندي إنما هو عند من رأى المسافر مخاطبا ويلزم أن يكون المريض مثل المسافر فيختلف في أي شيء أفضل له١٦.
١٨٤- وقوله تعالى :( من أيام أخر ) |البقرة : ١٨٤|.
يدل على جواز القضاء متتابعا ومتفرقا لأنه تعالى ذكر أياما منكرة فإذا فرق فقد أدى ما اقتضاه الأمر خلافا لمن رأى وجوب القضاء متتابعا. وذكر ذلك عن مالك، وكذلك يدل على جواز التأخير من غير أن يتحدد بوقت، وهو كالأمر المطلق خلافا لداود حيث يقول : إن قضاء رمضان يجب على الفور، وأنه إذا لم يصم اليوم الثاني من شوال أثم وإن مات عصى١٧.
واختلف فيمن أفطر في رمضان لعذر، فلم يقضه حتى جاءه رمضان آخر وهو صحيح، فعند مالك أنه يصوم الحاضر، ويقضي الغائب ويطعم، وروي عن ابن عمر أنه يصوم الحاضر ولا يقضي الغائب ويطعم عن كل يوم منه مدا، وهذا القول مخالف للقياس، ولظاهر قوله تعالى :( فعدة من أيام أخر ) لأن اللفظ يتناول الأوقات كلها١٨. وقد اختلفوا في المريض الذي أباح الله تعالى له الفطر من هو ؟ فقيل : إن المريض له أن بكل حال إذا كان مريضا بأي مرض كان لظاهر قوله تعالى :( فمن كان منكم مريضا ) وروي عن طريف بن تمام١٩ العطاردي أنه دخل على محمد ابن سيرين، وهو يأكل في رمضان، فلم يسأله، فلما فرغ قال : إني وجعتني أصبعي هذه٢٠. وقيل : لا يفطر بالمرض إلا من دعته ضرورة المرض نفسه إلى الفطر، ومتى احتمل الضرورة معه لم يفطر، وهذا مذهب الشافعي.
وقيل هو الذي لا يقدر على الصيام أو يقدر على٢١ جهد ومشقة، وهو٢٢ مذهب مالك وأصحابه. وقيل : وإن قدر بغير جهد ولا مشقة، ولكنه يخاف أن يزيده الصيام في مرضه، فالفطر له جائز، وهذا مذهب أبي حنيفة وهي من رواية أصبغ عن ابن القاسم. ويظهر مثلها من قول مالك في الحامل يكون صحيحة، إلا أنها إن صامت تخاف٢٣ أن تطرح ولدها. وأنكر بعضهم هذا القول، وقال إن ذلك لا يجوز، لأن الصوم عليه واجب لقدرته عليه، وما يخشى من زيادة مرضه أمر لا يتيقنه٢٤ المرض فلا يترك فرضه لشك٢٥، وهذا الاعتراض ساقط لمن تأمله. وقال الحسن : إذا لم يقدر من المرض على الصلاة قائما أفطر٢٦.
والسفر الذي أباح الله تعالى فيه الفطر اتفقوا على أنه سفر الطاعة كالجهاد والحج، ويلحق بهذين٢٧ سفر صلة الرحم، وسفر المعاش الضروري. واختلفوا في سفر المباحات كالتجارة والمحرمات على قولين :
أحدهما الجواز، والآخر المنع. والقول بالجواز في سفر المباحات أرجح، والقول بالمنع في سفر المحرمات أرجح، وحجة المجيزين للفطر بهذه الآية. وقوله تعالى :( فمن كان منكم مريضا أو على سفر ) فعم الأسفار ومن لم يجز الفطر لم يحمل الآية على عمومها وخصصها بالقياس.
وكذلك اختلفوا في مسافة السفر٢٨ الذي أباح الله تعالى فيه الفطر، فذهب مالك رحمه الله إلى أنه يفطر فيما تقصر فيه الصلاة، واختلفوا في قدر ذلك. فعن مالك فيه خمس روايات إحداها : يوم وليلة والثانية : مائة وأربعون ميلا، والثالثة : يومان، والرابعة : خمسة وأربعون ميلا، والخامسة : أربعون ميلا، وفي المذهب قولتان سوى ما تقدم إحداهما ستة وثلاثون ميلا والأخرى ثلاثون ميلا٢٩. واختلف الناس في غير المذهب في حد ما تقصر فيه الصلاة اختلافا كثيرا من مسافة ثلاثة أميال وهذا مذهب أهل الظاهر إلى مسافة ثلاثة أيام، وهو مذهب أبي حنيفة٣٠. واختلفوا في المرأة تطهر من حيضتها٣١ في بعض النهار والمسافر يقدم والمريض يصح، فقال أبو حنيفة و الأوزاعي وغيرهما : يلزمهم كلهم الإمساك بقية النهار وإن قدم المسافر عصرا، فلا يطأ زوجته لعظم حرمة الشهر، وقال مالك والشافعي، وأبو ثور : يأكلون بقية نهارهم وللمسافر المفطر يقدم أن يطأ زوجته يريد الطاهرة من الحيض في ذلك اليوم. قال ابن القصار : والحجة لمالك ومن تابعه قوله تعالى :( فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ) وهؤلاء قد أفطروا فحكم الإفطار لهم باق، والفطر رخصة للمسافر، ومن تمام الرخصة أنه لا يجب عليه أكثر من يوم، فلو أمرناه بإمساك بقية يومه٣٢، ثم يصوم يوما آخر مكانه، لكنا قد منعناه من الرخصة وأوجبنا عليه بدل اليوم أكثر من يوم والله تعالى قال :( فعدة من أيام أخر ) وكذلك الحائض، وحجة الأولين قوله تعالى :( فعدة من أيام أخر ) فعم٣٣. واختلفوا فيمن أفطر الشهر كله لمرض أو سفر كما ذكرنا فقضى شهرا ناقصا مكان كامل يجزيه أم لا ؟ وحجة من لم يره مجزيا قوله تعالى :( فعدة من أيام أخر ) لأن ظاهر الآية أن على المفطر أياما بعدد٣٤ الأيام التي أفطرها، ولم يفرق بين أن تكون |تلك|٣٥ الأيام شهرا أو لا تكون. وكذلك اختلفوا إن صام الناس شهرا ناقصا للرؤية، ومرض فيه رجل فأفطره فقال قوم منهم الحسن بن صالح : إنه يقضي شهرا بالشهرين مع مراعاة٣٦ عدد الأيام والأظهر أنه يقضي تسعة وعشرين يوما لقوله تعالى :( فعدة من أيام أخر ) ولم يقل شهرا من أيام أخر٣٧.
وقوله تعالى :( وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ) إلى قوله :( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) ظاهر٣٨ الآية إنما هو في المطيق للصوم دون تكلف و |لا|٣٩ مشقة. وهي منسوخة في حقه بإجماع. ويحتمل أن يراد بها المطيق عاما، وإن كان عن تكلف، ومشقة كأصحاب الأعذار، ثم رفع منها حكم المطيق دون تكلف ولا مشقة، ويحتمل أن يراد بها المطيقون للصوم بالتكليف والمشقة. وأما غير المطيق جملة فيبعد دخوله تحتها، وإن كان بعضهم قد رأى ذلك حتى تؤول الآية على إضمار " كانوا "، كأنه تعالى قال : " وعلى الذين كانوا يطيقونه " ولأجل هذه الاحتمالات اختلف الناس في الآية فذهب قوم إلى أنها منسوخة، وآخرون إلى أنها محكمة. والذين ذهبوا٤٠ إلى أنها منسوخة اختلفوا في ناسخها من القرآن.
فذهب الأكثرون إلى أن ناسخها قوله تعالى :( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) وهذا قول مالك، وهو أصح الأقوال في هذه الآية٤١.
وذهب بعضهم إلى أن ناسخها قوله تعالى :( وأن تصوموا خير لكم ) وهذا القول عندي ضعيف، وإليه ذهب ابن أبي ليلى. وقالوا لما نزلت هذه الآية من شاء منهم أن يصوم صام ومن شاء أن يفطر أفطر وافتدى حتى نسخت. وقال ابن عباس : إنما نزلت هذه الآية رخصة للشيوخ والعجز خاصة إذا أفطروا وهم يطيقون الصوم، ثم نسخت بقول تعالى :( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) الآية٤٢، والذاهبون إلى أنها محكمة اختلفوا في تأويلها، فذهب بعضهم إلى أن المراد بها المشايخ والعجائز، والمراضع والحوامل، فيكون المعنى، وعلى الذين يطيقونه بتكلف ومشقة. وروي هذا عن ابن عباس في رواية وعلى هذا يأتي ما روي عنه٤٣، وعن عائشة أنهما قرآ " وعلى الذين يطوقونه " بمعنى يكلفونه وعن عائشة أيضا وطاوس وعمرو ابن دينار أنهم قرؤوا ( يطوقونه ) أي يتكلفونه وروي عن ابن عباس " يطيقونه " وقرأت فرقة " يطيقونه " ٤٤ وذهب بعضهم إلى أن الآية وردت عامة في هؤلاء، والصحيح والمقيم فيخصص من ذلك٤٥ الصحيح المقيم بقوله :( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) وبعضهم يعبر عن هذا بالنسخ وهذا مما اختلف |فيه أرباب الأصول|٤٦ وإنما يصح أن يقال فيه نسخ إذا تقرر في الشرع أن المراد بلفظ العموم، وعلى هذا قال الشافعي في الآية ظاهرها أن الذين يطيقونه إذا لم يصوموا أطعموا، ونسخ في حق غير الحامل و المرضع وبقي حقهما ظاهرها. ومن أجل مراعاة عموم هذا اللفظ قال علي –رضي الله عنه- في المريض والمسافر أنه يفطر، ويطعم لكل يوم مسكينا صاعا٤٧. قال : وذلك قوله تعالى :( وعلى الذين يطيقونه فدية ) ٤٨ وفي قوله هذا نظر لأن قوله تعالى :( فمن كان منكم مريضا أو على سفر ) يمنع دلالة قوله بعد ذلك :( وعلى الذين يطيقونه ) على المسافر والمريض لأن ما عطف على الشيء غيره لا محالة٤٩. وذهب
٢ في ب "هي"..
٣ في ن الموضعين (فانفجرت"..
٤ يراجع المحلى لابن حزم (٢/٦٤٣/ رقم ٧٦٢ – ط المنيرية) وحكاه عن داود الهراسي في أحكامه (١/٦٨)..
٥ أخرجه من حديث جابر بن عبد الله البخاري في الصوم (١٩٤٦) ومسلم في الصيام (١١١٥)..
٦ في ب "على"..
٧ لعلها "حق"..
٨ في ن "كمثل الصحيح"..
٩ يراجع المحرر الوجيز (١/٥٠٩، ٥١٠) وتفسير القرطبي (٢/٢٧٦، ٦٧٧)..
١٠ في ب "سيان"..
١١ سبق تخريجه قريبا..
١٢ أخرجه مسلم من حديث حمزة بن عمرو السلمي في الصيام (١١٢١)..
١٣ في ب "سيان"..
١٤ سقطت من أ..
١٥ أخرجه مسلم من حديث عائشة (١١٢١)..
١٦ يراجع لهذه الأقوال المحرر الوجيز (١/٥١٠) وأحكام القرآن للهراسي (١/٦٨، ٦٩) وأحكام القرآن للجصاص (١/٢١٠، ٢١٦)..
١٧ نقله الكيا الهراسي في أحكام القرآن (١/٦٧)..
١٨ يراجع أحكام القرآن للهراسي (١/٧٠) والمحرر الوجيز (١/٥١١) وتفسير القرطبي (٢/٢٨١ -٢٨٤)..
١٩ كذا في أ و ب والظاهر أنه تصحيف فهو طريف بن شهاب على الراجح وهو رجل ضعيف في الحديث فيراجع تهذيب الكمال (١٣/ رقم ٢٩٦١) والميزان للذهبي (٢/٣٣٦)..
٢٠ رواه الطبري في تفسيره (٢/١٩٩) وسنده ضعيف لما سبق..
٢١ في ب"مع"..
٢٢ في ب "وهذا"..
٢٣ في ب "إلا أنها تخاف إن صامت"..
٢٤ في ن "لا يستيقنه"..
٢٥ في أ "بشك"..
٢٦ يراجع أحكام القرآن للجصاص (١/٢٢٣ -٢٢٨) وتفسير القرطبي (٢/٢٧٦، ٢٧٧)..
٢٧ في ب "بهما"..
٢٨ في ب "القصر"..
٢٩ يراجع المحرر الوجيز (١/٥١٠، ٥١١) والجامع لأحكام القرآن لقرطبي (٢/٢٧٧)..
٣٠ يراجع المحلى لابن حزم (٦/٢٤٣/ رقم ٧٦٢)..
٣١ في ب "حيضها"..
٣٢ في ب "اليوم"..
٣٣ يراجع أحكام القرآن للجصاص (١/٢٦٨، ٢٦٩) وتفسير القرطبي (٢/٢٧٧ -٢٨٠)..
٣٤ في ن "عدد"..
٣٥ سقطت من أ..
٣٦ في ن "من غير مراعاة"..
٣٧ من كلام الكيا الهراسي في أحكام القرآن (١/٦٩، ٧٠)..
٣٨ في ب "الآية ظاهرها"..
٣٩ سقطت من أ..
٤٠ في ب "الذاهبون"..
٤١ انظر: القائلين بذلك في تفسير الطبري (٢/١٧٥ -١٧٨) والمحرر الوجيز (١/٥١٢)..
٤٢ يراجع تفسير الطبري (٢/١٧٩، ١٨٠) والمحرر الوجيز (١/٥١٢، ٥١٣)..
٤٣ في أ "عن ابن عباس"..
٤٤ يراجع تفسير الطبري (٢/١٨٠، ١٨١) والمحرر الوجيز (١/٥١٣)..
٤٥ في ب "منها"..
٤٦ سقطت من أ..
٤٧ في ب "صاعا لمسكين"..
٤٨ رواه الطبري في تفسيره (٢/١٨٣، ١٨٤)..
٤٩ يراجع أحكام القرآن للهراسي (١/٦٣) وللجصاص (١/٢١٩ -٢٢١)..
ذهب بعض الناس١ إلى أنه لا يقال رمضان، ولا جاء رمضان، ولا خرج رمضان، وإنما يقال شهر رمضان في ذلك كله كما قال الله تعالى، ورووا في ذلك حديثا، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تقولوا رمضان، وقولوا شهر رمضان، فإن رمضان اسم من أسماء الله عز وجل " ٢.
وذكر أبو الطيب الطبري أنه يقال : صمت رمضان لأن المعنى معروف فإذا وصف بالمجيء، لم يقل جاء رمضان حتى يقال جاء شهر رمضان للإشكال الذي فيه، والصواب أن ذلك كله جائز، وقد روي من غير ما طريق صحيح، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا جاء رمضان فتحت أبواب السماء، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين " وليس في قوله : " شهر رمضان " ٣ تحريج في أن يقال رمضان٤.
وقد قرئ " شهر رمضان " بالنصب على الإغراء أو على الصرف أو على البدل من قوله :( أياما معدودات ) ورفعه إما على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي ذلكم الصيام شهر رمضان أو بدل من الصيام، أو مبتدأ خبره ( الذي أنزل ) أو ( فمن شهد منكم ) وجعله مبتدأ إنما هو على قول من جعل الصيام ثلاثة أيام من كل شهر ويوم عاشوراء، ومن قال غير ذلك مما قدمته جعل الصيام هنالك رمضان٥.
١٨٥- قوله تعالى :( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) |البقرة : ١٨٥|.
اختلف في تأويله، فذهب بعضهم إلى أن الشهر منصوب على الظرف، وأن المفعول محذوف والتقدير، فمن شهد منكم المصر في الشهر٦ فليصم. وذهب بعضهم إلى أن المعنى من حضر دخول الشهر، وكان مقيما في أوله فليكمل صيامه، سافر بعد ذلك أو لا، وإنما يفطر في السفر من دخل عليه وهو في سفره، وإلى هذا القول ذهب علي وابن عباس، وعبيدة السلماني، وسويد بن غفلة، وأبو مجلز٧. وهو قول مردود بسفر النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان وإفطاره فيه وهو بالكديد. قال ابن المنذر : وإنما أمر الله تعالى من شهد الشهر كله أن يصوم، ولا يقال لمن شهد بعض الشهر إنه شهد الشهر كله، والنبي صلى الله عليه وسلم أنزل عليه الكتاب وأوجب عليه بيان ما أنزل عليه، قد سافر في رمضان وأفطر في سفره٨.
وذهب الجمهور إلى أن المعنى من شهد أول الشهر أو آخره فليصم، ما دام مقيما. وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن المعنى من شهد الشهر بشروط التكليف غير مجنون، ولا مغمى عليه فليصم، ومن دخل عليه رمضان وهو مجنون وتمادى به طول الشهر، فلا قضاء عليه لأنه لم يشهد الشهر بصفة يجب بها الصيام، ومن جن أول الشهر أو آخره فإنه يقضي أيام جنونه٩. والشافعي ممن خالف في هذا، فروي عنه |أنه قال|١٠ : إن أفاق بعد انقضاء الشهر فلا قضاء عليه، وإن أفاق في بعضه لم يقض ما فات وصام ما بقي منه١١. وقد روي عنه أيضا مثل قول أبي حنيفة. ومالك رحمه الله قد خالفهما جميعا فذهب إلى أنه يلزمه القضاء أفاق قبل انقضاء الشهر أو بعده، واعتمد على عموم قوله تعالى :( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) الآية. قال أبو أصحابه : وهذا شهد الشهر مريضا فيلزمه١٢ عدة من أيام أخر١٣. قال أبو الحسن : يحتمل أن يكون قوله : " شهد الشهر " مغمى عليه وكذلك يدل على أن من أفاق من الجنون بعد مضي شهر فلا قضاء عليه عندنا خلافا لمالك فإنه قال فيمن بلغ وهو مجنون فمكث سنين ثم أفاق فإنه يقضي صيام تلك السنين. ومالك يحمل قوله ( فمن شهد منكم الشهر ) على شهوده بالإقامة وترك السفر دون ما ذكره غيره من شهوده بالتكليف، وأبو حنيفة يقول لا يمكن أن يراد بالآية شهود جميع الشهر، فتقدير الكلام عنده، فمن شهد منكم بعض الشهر فليصم ما لم يشهد منه، وهذا بعيد جدا. ولمالك أن يقول قوله ( شهد ) بمعنى أدرك كما يقال شهد زمان النبي صلى الله عليه وسلم أي أدركه. والمجنون قد أدرك ذلك الزمان فلزمه الصوم لزوما في الذمة١٤. ويتعلق بهذه الآية مسائل منها إذا التبست الشهور على أسير أو تاجر في بلاد العدو أو غيره، فاجتهد فصام، فلا يخلو من ثلاثة أحوال :
-أحدها : أن يوافق رمضان.
-والثانية : أن يوافق ما قبل رمضان.
-والثالثة : أن يوافق ما بعده.
فإن وافق رمضان فإنه يجزيه عند الجمهور. وذهب الحسن بن صالح إلى أنه لا يجزيه. وحجة الأجزاء قوله تعالى :( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) وهذا قد شهده وصامه. وأما إن وافق ما قبله مثل أن يوافق شعبان فلا يجزيه عند مالك وأكثر أصحابه وعلى أحد قولي الشافعي. وذهب عبد الملك إلى أنه يجزيه وهو أحد قولي الشافعي. وقال بعض أصحاب الشافعي ليس له إلا قول واحد مثل قولنا أنه لا يجزيه، وحجة عدم الأجزاء قوله تعالى :( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) وهذا لم يشهد الشهر، فلم يلزمه أن يصومه. وأما إن وافق ما بعده فيجزيه قولا واحدا١٥.
ومنها الصوم هل يجوز أن ينوب فيه أحد عن أحد، فذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي إلى أنه لا يصوم أحد عن أحد١٦. وذهب أهل الظاهر وبعض أصحاب الشافعي –وقد حكي عن الشافعي- أنه يصوم عنه وليه١٧.
وحجة من ذهب إلى أنه لا يصوم أحد عن أحد قول تعالى :( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) ( فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ) وجب على المكلف أن يصومه أو يقضيه بنفسه، فانتفى بذلك أن يصوم غيره عنه.
ومنها من سافر بعد طلوع الفجر فهل يجوز له الفطر أم لا ؟ فذهب جمهور العلماء١٨ إلى أنه لا يفطر. وقال أحمد، وإسحاق، والمزني : يجوز له الفطر. وحجة من ذهب إلى أنه لا يفطر، قوله تعالى :( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) وهذا شاهده، فعليه صومه وإذا نوى الصوم في الحضر وسافر قبل طلوع الفجر جاز له أن يفطر.
وقال أبو حنيفة والشافعي لا يجوز له أن يفطر والحجة للقول الأول :( أو على سفر فعدة من أيام أخر ). ومنها أنه إذا رأى أحد الهلال لزمه الصوم في نفسه. وذهب بعض التابعين إلى أنه لا يلزمه الصوم إلا بحكم الإمام. وحجة القول الأول :( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ).
١٨٥- قوله تعالى :( ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ) |البقرة : ١٨٥|١٩.
وهذه اللام يجوز أن تكون متعلقة بما قبلها، ويجوز أن تكون اللام لام الأمر، ويكون المعنى أو في مرضه، فليكمل عدة الأيام التي أفطر فيها. وأجمع أصحاب أبي حنيفة على أنه إذا صام أهل بلدة ثلاثين يوما لرؤية وأهل بلدة تسعة وعشرين يوما لرؤية٢٠ أن على الذين صاموا تسعة وعشرين يوما قضاء يوم٢١. وقال أصحاب الشافعي : إذا كانت المطالع من البلدان يجوز أن تختلف. وحجة أصحاب أبي حنيفة قوله تعالى :( ولتكملوا العدة ) وقد ثبتت برؤية أهل البلدان العدة ثلاثون يوما فيجب أن تكمل ومخالفهم |يحتج|٢٢ بقوله –عليه السلام- : صوموا بالرؤية وأفطروا بالرؤية " ٢٣ والقولان لمالك في المذهب ويرويان عنه٢٤.
١٨٥- وقوله تعالى :( ولتكبروا الله على ما هداكم ) |البقرة : ١٨٥|. حض على التكبير في يوم العيد في الطريق والجلوس، وهو سنة فيهما. وذهب أبو حنيفة إلى كراهة ذلك يوم الفطر، والآية حجة عليه. وقد اختلف الناس في حد التكبير الذي أمر الله به ما هو، فذهب ابن عباس إلى أنه يكبر من رؤية الهلال إلى انقضاء الخطبة، ويمسك وقت خروج الإمام ويكبر بتكبيره٢٥. وقال قوم يكبر من رؤية الهلال إلى خروج الإمام إلى الصلاة وهو قول الشافعي. وقال مالك هو من حين يخرج الرجل من منزله إلى أن يخرج الإمام٢٦. قال سفيان هو التكبير يوم الفطر.
واختلفوا أيضا في كيفية اللفظ اختلافا كثيرا إذ لم يخص الله تعالى ذلك بلفظ معين ولا بقدر مؤقت٢٧، فمنهم من قال التكبير لفظان إن شاء : الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر ولله الحمد. وإن شاء قال : الله أكبر، الله أكبر ثلاثا. فأيهما قال جاز والأول أحسن. وهذا مذكور عن أصحاب مالك. والذي يروى عن مالك والشافعي : الله أكبر ثلاثا. ومنهم من قال : لا يجزيه إلا التكبير الأول وهو أبو حنيفة. ومنهم من يقول : الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا. وروي عن ابن عباس –رضي الله عنه_ : الله أكبر، الله أكبر كبيرا، الله أكبر كبيرا ولله الحمد، وروي عنه٢٨ أيضا : الله أكبر، الله أكبر كبيرا، الله أكبر كبيرا، الله أكبر وأجل، الله أكبر ولله الحمد. وروي عن ابن عمر : الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر٢٩، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. ومن العلماء من يكبر ويهلل ويسبح أثناء التكبير. وذهب ابن عبد الحكم إلى أنه ليس فيه شيء مؤقت، والآية حجة على من ذكر أثناء التكبير تهليلا وتسبيحا، وحجة لمن يرى إلا التكبير٣٠.
٢ رواه ابن عدي في الكامل (٧/٢٥١٧) ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى (٤/٢٠١) عن علي بن سعيد، ثنا محمد بن أبي معشر، حدثني أبي، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة. فذكره مرفوعا.
وأبو معشر هذا هو نجيح السندي ضعفه غير واحد فيراجع الميزان للذهبي (٤/٢٤٦) قال ابن أبي حاتم في العلل (١/ رقم ٧٣٤): "قال أبي هذا خطأ إنما هو قول أبي هريرة" وقال البيهقي: "وقد قيل: عن أبي معشر عن محمد بن كعب من قوله وهو أشبه" ثم رواه من طريقه (٤/٢٠٢).
وذكره ابن الجوزي في الموضوعات (٢/١٠٢) وضعفه سندا ومتنا.
وقال ابن كثير في تفسيره (١/٢١٧): "وقد أنكره عليه الحافظ ابن عدي وهو جدير بالإنكار فإنه –يعني نجيحا- وقد وهم في رفع الحديث.." وضعفه الحافظ في فتح الباري (٤/١١٣)..
٣ يراجع البخاري في الصوم (١٨٩٨) ومسلم في الصيام (١٠٧٩).
٤ يراجع في هذا كلام القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (٢/٢٩١، ٢٩٢)..
٥ يراجع المحرر الوجيز (١/٥١٥) وتفسير الطبري (٢/١٩١)..
٦ في ن و أ "الصوم" والمثبت موافق لما في المحرر الوجيز (١/٥١٦)..
٧ يراجع المحرر الوجيز (١/٥١٦، ٥١٧) وتفسير الطبري (٢/١٩٣ -١٩٦) والاستذكار (١٠/٧٣ -٧٤)..
٨ يراجع كلام الحافظ ابن حجر في فتح الباري (٤/١٨٠)..
٩ يراجع المحرر الوجيز لابن عطية (١/٥١٧) والاستذكار لابن عبد البر(١٠/٧٢)..
١٠ سقطت من أ..
١١ يراجع أحكام القرآن للهراسي (١/٦٤، ٦٥)..
١٢ في ن "فلزمه"..
١٣ يراجع المدونة (١/٠٨) والإشراف للقاضي عبد الوهاب (١/٤٤٠، ٤٤١ – ط ابن حزم)..
١٤ أحكام القرآن للهراسي (١/٦٤، ٦٥)..
١٥ يراجع الإشراف لعبد الوهاب (١/٤٤٦، ٤٤٧)..
١٦ المصدر السابق (١/٤٤٦) وبتوسع الاستذكار (١٠/١٦٦ -١٧٣)..
١٧ يراجع المحلى (٢/٧ -٩)..
١٨ في ب "الفقهاء"..
١٩ يراجع في الموطأ، كتاب الصيام (١/٣٩٨، ٣٩٩) والإشراف لعبد الوهاب (١/٤٤٤، ٤٤٥) ولا استذكار (١٠/٧٦ -٩٠)..
٢٠ في أ "برؤية"..
٢١ يراجع أحكام القرآن للجصاص (١/٢٧٣، ٢٧٤)..
٢٢ سقطت من أ..
٢٣ يراجع أحكام القرآن للهراسي (١/٧٠، ٧١)..
٢٤ يراجع تفسير القرطبي (٢/٢٩٥، ٢٩٦)..
٢٥ يراجع المحرر الوجيز (١/٥١٨) وتفسير الطبري (٢/٢٠٧، ٢٠٩)..
٢٦ يراجع المدونة (١/١٧٦، ١٧٧)..
٢٧ في ب "لفظا معينا ولا قدرا معينا مؤقتا"..
٢٨ في ب "عن ابن عباس"..
٢٩ في ب "ثلاثا"..
٣٠ يراجع في هذا المحرر الوجيز (١/٥١٨) وأحكام القرآن للجصاص (١/٢٧٨ -٢٨١).
وأحكام القرآن لابن العربي (١/٨٥ -٨٩) وتفسير القرطبي (٢/٣٠٦، ٣٠٧) وفتح الباري لابن حجر (٢/٤٥٦ -٤٦١)..
اتفقوا على أن هذه الآية ناسخة، واختلفوا في المنسوخ هل كان ثابتا بالسنة أو بالقرآن ؟ فذهب بعضهم إلى أنهم كانوا في أول الإسلام إذا نام أحدهم ليلة الصيام لم يحل له الأكل ولا الجماع بعد ذلك، فنسخ ذلك هذه الآية. وذهب أبو العالية، وعطاء إلى أنها ناسخة لقوله تعالى :( كما كتب على الذين من قبلكم ) ١. وقوله تعالى :( أحل ) يقتضي أنه كان محرما قبل ذلك.
١٨٧-وقوله :( ليلة الصيام ) |البقرة : ١٨٧|.
الليلة هنا اسم جنس، ولذلك أفردها٢ ومثل هذا في كلام العرب كثير. و ( الرفث ) في الليلة كناية عن الجماع وأصله في غيرها الفحش من القول. وقال أبو إسحاق : الرفث كل ما يأتيه الرجل مع المرأة من قبلة ولمس وجماع٣. قال بعضهم : أو كلام في هذه المعاني٤. و " اللباس " أصله في |اللغة|٥ الثياب، ثم شبه التباس الرجل بالمرأة وامتزاجهما بذلك كما قال النابغة :
إذا ما الضجيع ثنى جيدها *** تداعت فكانت عليه لباسا٦
وقيل : لباس سكن أي يسكن بعضهم إلى بعض٧.
١٨٧- وقوله :{ باشروهن ) |البقرة : ١٨٧|.
المباشرة عبارة عن إمساس البشرة فيقع تحتها الجماع، والقبلة، والجس باليد. وقال بعضهم إن وقوعه على الجماع مجاز٨، وليس بصحيح لما قدمته، بل هو واقع عليه بالحقيقة، فأباح الله تعالى بهذه الآية جميع أنواع المباشرة إلى تبين الفجر، ثم وقع المنع بعد ذلك في الجماع. وهل يجب الاعتزال عن القبلة أم لا ؟ ثلاثة أقوال، يفرق في الثالث بين الشيخ والشاب. واتفقوا على أنها لا يقع بها فطر كما يقع بالجماع ما لم يقترن بها إنزال. وإذا فسرت المباشرة بالجماع لم يمتنع من القبلة إلا مع خوف الإنزال. والمراد بالأمر الإباحة لا الإيجاب ولا الندب كقوله تعالى :( وإذا حللتم فاصطادوا ).
١٨٧- وكذلك قوله :( وابتغوا ما كتب الله لكم ) |البقرة : ١٨٧|.
وقد اختلف في معناه، فقيل ابتغوا الولد، وقيل : ابتغوا ليلة القدر، وقيل : ابتغوا الرخصة والتوسعة، وقيل : ابتغوا الثواب. وقرئ " واتبعوا " ٩.
١٨٧- وقوله تعالى :( حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ) ١٠ |البقرة : ١٨٧|.
اختلف العلماء في هذا التبين ما حده ؟ فذهب الجمهور إلى أنها الفجر المعترض في الأفق يمنة ويسرة، وهو مقتضى حديث ابن مسعود١١، وسمرة بن جندب١٢.
وذهب أبو بكر وعثمان بن عفان، وحذيفة بن اليمان، وابن عباس، وطلق بن علي، وعطاء بن أبي رباح، والأعمش وغيرهم، إلى أنه تبين الفجر في الطرق وعلى رؤوس الجبال١٣.
وذكر عن حذيفة أنه قال : تسحرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو النهار إلا أن الشمس لم تطلع١٤.
وروي عن علي بن أبي طالب، أنه صلى الصبح بالناس ثم قال : الآن تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر١٥.
وروى عن أبي بكر، أنه نظر إلى الفجر قد تبين، ثم تسحر في الثالثة، ثم قام فصلى ركعتين، ثم أقام بلال الصلاة.
وروي عن الأعمش أنه قال : لولا الشهرة لصليت الغداة ثم تسحرت.
قال مسروق : لم يكونوا يعدون الفجر الذي يملأ البيوت والطرق١٦.
و القول الأول هو الذي شهدت١٧ له الآثار الصحاح وما جرى عليه كلام العرب في " حتى " إذا كانت غائية وما بعدها ليس من جنس ما قبلها نحو قوله تعالى :( سلام هي حتى مطلع الفجر ٥ ) |القدر : ٥| وروي عن عدي بن حاتم أنه قال : لما نزلت :( وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ) عمدت إلى عقالين أسود وأبيض، فجعلتهما تحت وسادتي، فجعلت أنظر إليهما فلا يتبين لي. فغدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك، فقال : " إن وسادك لعريض " ١٨ وروي أنه قال : " إنك لعريض القفا إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار " ١٩ وقيل نزلت ( وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ) ولم ينزل ( من الفجر )، فكان رجال إذا أراد أحدهم الصوم ربط في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود، ولا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رؤيتهما. فأنزل الله تعالى :( من الفجر ) فعلموا إنما يعني الليل والنهار٢٠.
ولا يجوز أن يستدل بهذا على جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة فإنه لا يجوز أصلا٢١. ويحتمل أن تكون العبارة بالخيط الأبيض مجازا سابقا في لغة قريش دون غيرها، فأشكل على قوم آخرين حتى تبين لهم بقوله ( من الفجر ). ويحتمل أن يكون قد قال :( من الفجر ) أولا، ولكنه احتمل أن يريد لأجل الفجر، واحتمل أن يكون المستبان في نفسه الفجر٢٢. وذكر بعضهم حديث عدي وقال النبي –عليه السلام- : " إنما سواد الليل وبياض النهار " وحجة القول الثاني في التبين. وقد ذكر الطحاوي حديث حذيفة المتقدم وقال : فدل حديث حذيفة : أن وقت الصيام طلوع الشمس، وأن ما قبل طلوع الشمس في حكم الليل. وهذا محتمل عندنا أن يكون بعدما أنزل الله تعالى :( وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ) وقبل أن ينزل ( من الفجر ) ثم أنزل الله تعالى بعد ذلك ( من الفجر ) وذهب ذلك على حذيفة وعلمه غيره. فعمل حذيفة بما علم وذلك أنه روي عنه أنه لما طلع الفجر تسحر، ثم صلى وعلم غيره الناسخ فصار إليه. ومن علم شيئا أولى ممن لم يعلم.
ودل ما ذكرنا على أن الدخول في الصيام من طلوع الفجر، وعلى أن الخروج منه بدخول الليل إذا كان قوله تعالى :( ثم أتموا الصيام إلى الليل ) غاية لم يدخلها في الصيام.
وقد اختلفوا إذا شك في الفجر الصادق هل يجوز الأكل أم لا ؟ فذهب مالك رحمه الله إلى أنه لا يجوز فإن أكل فعليه القضاء. وقال ابن حبيب : هو استحباب. وقال جماعة من أهل العلم –وهو مذهب ابن عباس- أنه يأكل ما شك في الفجر حتى يتبين على ظاهر قوله تعالى :( حتى يتبين لكم ) واحتج ابن حبيب لمذهبه المتقدم، وقال : هو القياس لقوله تعالى :( حتى يتبين ) الآية. وقال ابن الماجشون : تبينه هو العلم به وليس الشك علما به، ولكن الاحتياط ألا يأكل في الشك. وقال اللخمي : هي ثلاثة أقوال في المذهب : الكراهة، والمنع والجواز. وهو مذهب ابن حبيب٢٣.
وأما إذا شك في الغروب لا يأكل باتفاق لقوله تعالى :( ثم أتموا الصيام إلى الليل ) وهذا أمر يقتضي الوجوب و ( إلى ) غائية. والليل الذي يتم به الصيام مغيب قرص الشمس. وقد اتفقوا على أن آخر٢٤ النهار مغيب الشمس. واختلفوا في أوله فذهب بعضهم إلى أنه الفجر. وإليه ذهب الخليل. وذهب بعضهم إلى أنه من طلوع الشمس. وعلى هذا يترتب الخلاف في الوقت من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، فقال قوم : إنه من النهار وقال قوم : إنه من الليل. وقال قوم : إنه وقت متوسط ليس بليل ولا نهار. فإن أكل وهو شاك في المغيب٢٥، فقد اختلفوا فيما ذا عليه. فالمشهور من المذهب أن عليه القضاء والكفارة٢٦. وحجتهم قوله تعالى :( ثم أتموا الصيام إلى الليل ) ومن أكل شاكا لم يتم الصيام إلى الليل لأنه إنما أراد الله تعالى تيقن الليل لا الشك فيه. وفي " ثمانية أبي زيد " ٢٧ عليه القضاء فقط قياسا على الفجر، وهو ظاهر قول مالك رحمه الله، على ما ذهب إليه |ابن|٢٨ القصار وعبد الوهاب٢٩. وإن كان غيرهما قد تأول قوله على غير ذلك. وقال الحسن وإسحاق : لا قضاء عليه كالناسي٣٠.
والخيط استعارة وتشبيه لرقة البياض، ورقة السواد الخافي٣١ فيه. ومن ذلك قول أبي داود٣٢ :
فلما بصرن به غدوة *** ولاح من الفجر خيط أنارا
وقال بعض المفسرين : الخيط اللون، والمراد في ما قال جميع العلماء بياض النهار، وسواد الليل٣٣.
والخيط الأسود، هو السواد الذي كان في الموضع الذي يظهر فيه الخيط الأبيض.
وقد اختلفوا في سبب نزول هذه الآية، فقال ابن عباس وغيره : إن جماعة من المسلمين اختانوا أنفسهم وأصابوا النساء بعد النوم أو بعد صلاة العشاء على الخلاف منهم عمر بن الخطاب جاء إلى امرأته فأرادها، فقالت له : قد نمت، فظن أنها تعتل فوقع بها، ثم تحقق أنها كانت نامت. وكان الوطء بعد نوم أحدهما ممنوعا، فذهب عمر، فاعتذر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. وجرى نحو هذا لكعب بن مالك الأنصاري فنزلت الآية فيهما بذلك٣٤.
وقال السدي : جرى له هذا في جارية.
وحكى النحاس٣٥، ومكي٣٦ : أن عمر نام ثم وقع بامرأته.
وروى في سببها أن صرمة بن قيس، ويقال صرمة بن مالك، ويقال قيس بن صرمة، ويقال أبو صرمة بقي كذلك دون أكل حتى غشي عليه في نهاره المقبل، وذلك أنه كان أتى أهله ليلا فقال : هل عندكم ما نفطر عليه ؟ فقالوا له : تصبر حتى نصنع لك شيئا تفطر عليه، وكان شيخا كبيرا فأصابه النوم فحرم عليه الطعام. فبقي ليلته يتململ، ثم أصبح. فاشتد عليه الجوع فأنزل الله تعالى الرخصة، وأباح الأكل والشراب٣٧ والجماع، إلى طلوع الفجر المعترض في الأفق يمينا وشمالا٣٨.
واختلف الناس في الوصال، فذهب جماعة من العلماء إلى أنه مباح كيف كان وأن معنى نهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه إنما هو رحمة لأمته وإبقاء عليهم، فمن قدر فلا حرج. وذهب ابن حنبل وابن وهب، وإسحاق إلى أنه جائز من سحر إلى سحر واحتجوا بحديث النبي صلي –عليه السلام- : " لا تواصلوا، وأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر " ٣٩ وذهب مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، والثوري وجماعة غيرهم إلى أنه٤٠ مكروه على كل حال لمن قدر عليه٤١، ولم يجيزوه لأحد، وحجتهم نهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه وقوله صلى الله عليه وسلم : " إذا غربت الشمس فقد أفطر الصائم " ٤٢ ورأت عائشة –رضي الله عنها- أن قوله تعالى :( أتموا الصيام إلى الليل ) يقتضي النهي عن الوصال٤٣. وقال المازري : إن حمل قوله " فقد أفطر الصائم " على أن المراد به قد صار مفطرا فيكون ذلك دلالة على أن زمان الليل يستحيل الصوم فيه شرعا. وقال بعض العلماء : إن الإمساك بعد الغروب لا يجوز، كإمساك يوم الفطر ويوم النحر. وقال بعضهم ذلك جائز وله أجر واحتجوا بحديث الوصال٤٤.
ومقتضى هذه الآية أنه تعالى حرم بالنهار ما أباحه بالليل٤٥ وهو أشياء ثلاثة٤٦ الأكل والشرب والجماع، وما عدا هذه الثلاثة موقوف على الدليل، ولذلك ساغ الخلاف فيه، فمن ذلك من تقيأ عامدا، اختلف فيه هل هو مفطر فيجب عليه القضاء أم لا ؟ فمن يراعي فحوى الآية ومقتضاها لم يوجبه، ومن لم يراع ذلك واستدل بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم : " من استقاء فعليه القضاء " ٤٧ وأوجب عليه القضاء ورآه مفطرا، والقولان لأصحاب مالك، ويرويان عن الشافعي.
ومن ذلك المحتجم اختلف هل هو مفطر أم لا ؟ لأجل فحوى٤٨ الآية وما ورد من قوله –عليه الصلاة والسلام- : " أفطر الحاجم والمحجوم " ٤٩ وقد روي عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم صائما٥٠.
ومن ذلك الغيبة، الجمهور على أنها لا تفطر لما قدمناه. وقال الأوزاعي٥١ تفطر لقوله صلى الله عليه وسلم : " من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ". خرجه البخاري٥٢.
وقد اختلفوا فيمن أصبح جنبا وهو صائم على سبعة أقوال : فذهب فقهاء الأمصار إلى أنه يجزيه صيام٥٣ ذلك اليوم. وقال ابن حبيب : إن نسي جنابته فلم يغتسل لها ذلك اليوم أو أي
٢ في ب "أفردت"..
٣ المحرر الوجيز (١/٥٢١)..
٤ هو ابن عطية في المحرر الوجيز (١/٥٢١)..
٥ زيادة من ب..
٦ البيت منسوب للنابغة الجعدي في تفسير الطبري (٢/٢١٥) واللسان مادة لبس (٥/٣٩٨٦)..
٧ يراجع المحرر الوجيز (١/٥٢١ -٥٢٣) وأحكام القرآن لابن العربي (١/٨٩، ٩٠)
وتفسير الطبري (٢/٢١٣ -٢١٦) والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (٢/٣١٤ -٣١٧)..
٨ لعله يقصد ابن عطية في المحرر الوجيز (١/٥٢٣) وهو متابع للجصاص في أحكم القرآن (١/٢٨٢، ٢٨٣) والطبري في تفسيره (٢/٢٢١)..
٩ يراجع المحرر الوجيز (١/٥٢٤) وتفسير الطبري (٢/٢٢٥)..
١٠ في ب "الآية"..
١١ أخرجه البخاري في الأذان (١٢٦) ومسلم في الصيام (١٠٩٣) بلفظ: "لا يمنعن أحدا منكم أذان بلال –أو قال نداء بلال – من سحوره فانه يؤذن –أو قال ينادي- ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم، وقال: ليس أن يقول هكذا" وصوب يده ورفعها: "حتى يقول هكذا" وفرج بين إصبعيه..
١٢ أخرجه مسلم في الصيام (١٣٣٩) بلفظ: "لا يغرن أحدكم نداء بلال من السحور، ولا هذا البياض حتى يستطير"..
١٣ يراجع لهذه الأقوال تفسير الطبري (٢/٢٢٧، ٢٢٨) والمحرر الوجيز (١/٥٢٦)..
١٤ رواهما الطبري في تفسيره (٢/٢٣٠، ٢٣١) وصحح إسنادهما الحافظ في فتح الباري (٤/١٣٦، ١٣٧)..
١٥ رواهما الطبري في تفسيره (٢/٢٣٠، ٢٣١) وصحح إسنادهما الحافظ في فتح الباري (٤/١٣٦، ١٣٧)..
١٦ تراجع هذه الأقوال في المحرر الوجيز (١/٥٢٦) وفتح الباري (٤/١٣٦، ١٣٧)..
١٧ في ب "نشهد" وكذا في ن..
١٨ أخرجهما البخاري في التفسير (٤٥٠٩) و (٤٥١٠) ومسلم في الصيام (١٠٩٠)..
١٩ أخرجهما البخاري في التفسير (٤٥٠٩) و (٤٥١٠) ومسلم في الصيام (١٠٩٠)..
٢٠ ورد هذا الحديث مرفوعا من حديث سهل بن سعد أخرجه البخاري في الصوم (١٩١٧) ومسلم في الصيام (١٠٩١)..
٢١ ذكره الكيا الهراسي في أحكام القرآن (١/٧٣)..
٢٢ يراجع المصدر السابق (١/٧٣).
في أ "وقال الطحاوي وقد ذكر".."..
٢٣ يراجع المدونة (١/١٩٢، ١٩٣) والإشراف لعبد الوهاب (١/٤٣٠) وتفسير القرطبي (٢/٣٢٢)..
٢٤ في ب "حد" وكذا في ن..
٢٥ يراجع المحرر الوجيز (١/٥٢٦)..
٢٦ يراجع المصدر السابق (١/٥٢٧) وتفسير القرطبي (٢/٣٢٢)..
٢٧ هي مجموعة كتب تعرف بهذا الاسم نسبة لعبد الرحمان بن إبراهيم بن عيسى القرطبي المعروف بابن الفرس (ت ٢٥٨ه) يراجع ترتيب المدارك لعياض وهامشه (١/١٧٤) و (٤/٣)..
٢٨ سقطت من أ..
٢٩ يراجع الإشراف (١/٤٣٠)..
٣٠ يراجع المحرر الوجيز (١/٥٢٧).
في ب "وأيكم واصل"..
٣١ في أ "الجائي"..
٣٢ كذا في ب و أ والظاهر أنه تصحيف فهو أبو داود والبيت من قصيدة له في الأصمعيات (ص١٩٠) وتفسير الطبري (٢/٢٣٢) وعندهما:
فلما أضاءت لنا سدفة *** ولاح من الصبح خيط أنار.
٣٣ قاله ابن عطية في المحرر الوجيز (١/٥٢٥)..
٣٤ روى ذلك الطبري في تفسيره (٢/٢١٨، ٢١٩) ويراجع المحرر الوجيز (١/٥٢١، ٥٢٢) وينظر العجاب لابن حجر (ص٢٥٢ -٢٥٤)..
٣٥ الناسخ والمنسوخ (ص٢٣)..
٣٦ تفسيره (ا/ق/٨٣)..
٣٧ في ب "الشرب"..
٣٨ رواه الطبري عن بعضهم في تفسيره (٢/٢٢١) وذكره ابن عطية (١/٥٢٢) ويراجع تفسير ابن كثير (١/٢٢١)..
٣٩ أخرجه عن أبي سعيد الخدري البخاري في الصوم، (١٩٦٣)..
٤٠ في ن "أن الوصال"..
٤١ في ب "لمن قدر، ومن لم يقدر"..
٤٢ أخرجه من حديث عمر بن الخطاب البخاري في الصوم (١٩٥٤) ومسلم في الصيام (١١٠٠)..
٤٣ يراجع كلام الحافظ ابن حجر في فتح الباري (٤/٣٠٢، ٣٠٣)..
٤٤ يراجع كلام المازري هذا في المعلم بفوائد مسلم (٢/٤٨) وحول أقوال العلماء في المسألة يراجع فتح الباري (٤/٢٠٢ -٢٠٩) ونيل الأوطار (٤/٢١٩، ٢٢٠)..
٤٥ في ب "دليلا"..
٤٦ في ب "ثلاثة أشياء"..
٤٧ أخرجه أبو داود في السنن (٢٣٨٠) والترمذي (٧٢٠) والنسائي في الكبرى (٣١٣٠) وابن ماجه (١٦٧٦) وأحمد في المسند (٢/٤٩٨) والبخاري في التاريخ الكبير (١/٩١، ٩٢) وابن خزيمة في صحيحه (١٩٦٠) و (١٩٦١) والطحاوي في شرح المعاني (٢/٩٧) والدارقطني في السنن (٢/١٨٤) والحاكم في المستدرك (١/٤٢٦، ٤٢٧) والبيهقي في السنن (٤/٢١٩) والبغوي في شرح السنة (١٧٥٥) من طرق عن أبي هريرة بلفظ "من ذرعه قيء وهو صائم فليس عليه قضاء وان استقاء فليقض" وسنده صحيح وصححه غير واحد منهم ابن حبان (٣٥١٨) والحاكم ووافقه الذهبي..
٤٨ في ب و ن "مجرى"..
٤٩ أخرجه عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرفوعا أبو داود (٢٣٦٧، ٢٣٧٠، ٢٣٧١) وابن ماجة (١٦٨٠) والنسائي في الكبرى (٣٢١٥) والدارمي (١٧٣١) وأحمد في المسند (٥/٢٧٦، ٢٧٧، ٢٨٠، ٢٨٢، ٢٨٣) وابن خزيمة في صحيحه (١٩٦٢) (١٩٦٣) وابن الجارود في المنتقى (٣٨٦ –غوث المكدود) وعبد الرزاق في المصنف (٧٥٢٢، ٧٥٢٥) والطيالسي في المسند (٩٨٩) وابن أبي شيبة في المصنف (٣/٥٠ –ط الهند) والطحاوي في شرح المعاني (٢/٩٨، ٩٩) والطبراني في المعجم الكبير (١٤٠٦، ١٤٤٧) والحاكم في المستدرك (١/٤٢٧) وابن حبان (الإحسان: ٣٥٣٢) والبيهقي في السنن (٤/٢٦٥، ٢٦٦) جميعهم من طرق عن ثوبان به. وسنده صحيح صححه غير واحد منهم ابن خزيمة وابن حبان ومن قبله البخاري كما في علل الترمذي الكبير (٢٠٨)..
٥٠ أخرجه البخاري في الصوم (١٩٣٩) وأبو داود (٢٣٧٢، ٢٣٧٣) والترمذي (٧٧٥، ٧٧٦، ٧٧٧) وغيرهم كثير..
٥١ وانتصر لهذا الرأي ابن حزم بقوة وذكر من رآه من علماء السلف في المحلى (٦/١٧٧ -١٨٠) وقواه بعض المتأخرين فراجع فتح الباري لابن حجر (٤/١١٧)..
٥٢ أخرجه البخاري في الصوم، (١٩٠٣) من حديث أبي هريرة..
٥٣ في أ "صوم"..
١٨٨- وقوله تعالى :( وتدلوا بها إلى الحكام ) |البقرة : ١٨٨|.
قال قوم أي تسارعون في الأموال إلى الخصومة إذا علمتم أن الحجة تقوم لكم، إما بأن لا يكون على الجاحد بينة أو يكون مال أمانة كمال اليتيم ونحوه مما يكون القول فيه قوله.
وقال قوم : المعنى لا ترا شوابها على أكل أكثر منها٤.
وفي هذه الآية إن الله حرم أكل الحرام، وإن قضى به قاض على ما ظهر له حق لقوة حجة الظالم باحتياله عليه، وسيأتي الكلام على هذه المسألة في غير هذه السورة. وفي مصحف أبي : " ولا تدلوا بها " ٥.
٢ في أ "الشراب والملاهي والبطالات" والمثبت وافق لما في المحرر الوجيز (١/٥٣٠)..
٣ قاله ابن عطية في المحرر الوجيز (١/٥٣٠)..
٤ ذكره ابن عطية في المحرر الوجيز (١/٥٣٠)..
٥ ذكر ذلك الطبري في تفسيره (٢/٢٤٤) وابن عطية في المحرر الوجيز (١/٥٣٠)..
قال ابن عباس، وقتادة، والربيع، وغيرهم : نزلت على سؤال قوم من المسلمين النبي صلى الله عليه وسلم عن الهلال، وما فائدة محاقه، وكماله ومخالفته لحال الشمس١ ؟.
وقوله :( مواقيت ) يعني لقضاء الديون، وانقضاء العدد والأكرية والصوم والفطر، وما أشبه ذلك من مصالح العباد. ومواقيت الحج أيضا يعرف بها وقته وأشهره٢. وقال |أبو|٣ الحسن : استدل بعض الحنفية بهذه الآية أن شهور السنة كلها مواقيت للحج كما كانت بأسرها مواقيت للناس، فلزمهم أن يكون الحج المطلق على هذا القول يراد به الإحرام فقط، دون سائر أفعال الحج مع أن الإحرام عندهم ليس من الحج، بل هو شرط الحج. فقيل لهم : فقد قال الله تعالى :( الحج أشهر معلومات ) |البقرة : ١٩٧| فأجابوا بأن المراد بذلك أفعال الحج من السعي والطواف وغيره.
قال : والصحيح من التأويل أن المراد بالآية ( قل هي مواقيت للناس والحج ) والحج في أشهر الحج٤.
وهذا الذي قاله معترض أيضا بأنه يقصر الحج أيضا من الآيتين على أفعال الحج من السعي والطواف ونحوهما خاصة وهذا في قوله تعالى :( الحج أشهر معلومات ) |البقرة : ١٩٧| بين من نفس الآية.
وأما من قوله :( قل هي مواقيت للناس ) فغير بين فإن الأهلة إذا أريد بها جميع الشهور، لم يصح إلا أن تكون على عمومها في المعطوف والمعطوف عليه، وإذا كان ذلك لم يصح أن يراد بذلك إلا الإحرام، لأن سائر أعمال الحج لا تقع إلا في أشهر معلومات، وإن لم يقل ذلك لزم أن يكون اللفظ الواحد عاما خاصا في حالة واحدة.
وقوله تعالى :( للناس ) أي لأعمال الناس، وقد دخل تحت ذلك الحج وغيره، ولكنه خصصه بالذكر تشريعا له وتأكيدا لأمره، فهو عندي مثل قوله تعالى :( فيهما فاكهة ونخل ورمان ٦٨ ) |الرحمان : ٦٨| ونحوه.
١٨٩- وقوله تعالى :( الأهلة ) |البقرة : ١٨٩|.
من الجمع القليل الذي أريد به الكثرة مثل قول الشاعر :
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى | وأسيافنا يقطرن من نجدة دما٥ |
١٨٩- قوله تعالى :( وليس البر ) الآية |البقرة : ١٨٩|.
اختلف في تأويل هذه الآية، فقال البراء بن عازب٨ والزهري٩، وقتادة١٠ : سببها أن الأنصار كانوا إذا حجوا واعتمروا يلتزمون إلا أن يحول بينهم وبين السماء حائل، وكانوا يتسنمون ظهور بيوتهم على الجدارات.
وقيل : كانوا يجعلون في ظهور بيوتهم فتوحا يدخلون منها ولا يدخلون من الأبواب. وقيل : كان أحدهم إذا خرج في حاجته ولم يقضها استطار بذلك ولم يدخل من باب داره، ولكن من ظهورها، فجاء رجل منهم فدخل من باب بيته فعير بذلك. فنزلت الآية.
وقال إبراهيم : كان يفعل ذلك قوم من أهل الحجاز١١. وقال السدي : ناس من العرب، وهم الذين يسمون الحمس، قال : فدخل النبي صلى الله عليه وسلم بابا رفعه١٢ رجل منهم، فوقف ذلك الرجل وقال : أنا أحمس فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " وأنا أحمس " فنزلت الآية١٣. وروى الربيع أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل خلفه رجل أنصاري فدخل وخرق عادة قومه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " إني أحمس " أي من قوم لا يدينون بذلك، فقال الرجل وأنا ديني دينك فنزلت الآية١٤.
وهذه الأقوال من جعل الآية سببا. وقال أبو عبيدة١٥ : الآية ضرب مثل أي ليس البر أن تسألوا الجهال ولكن اتقوا واسألوا العلماء. فهذا كما يقال ائت هذا الأمر من بابه. وقال غير أبي عبيدة : المعنى ليس البر أن تشددوا في المسألة عن الأهلة وغيرها فتأتون الأمر على غير ما يجب١٦.
وذهب ابن الأنباري أن الآية مثل في جماع النساء.
٢ ذكره ابن عطية (١/٥٣١)..
٣ سقطت من أ..
٤ يراجع كلام الكيا الهراسي في أحكام القرآن (١/٧٦، ٧٧)..
٥ البيت لحسان بن ثابت يراجع ديوانه "ص٣٥)..
٦ يراجع كلام القرطبي وتحقيقه في الجامع لأحكام القرآن (٢/٣٤٣، ٣٤٤)..
٧ في ن "بفساده"..
٨ رواية البراء أخرجها البخاري في العمدة (١٨٠٣) ومسلم في التفسير (٣٠٢٦)..
٩ رواية الزهري أخرجها الطبري في تفسيره (٢/٢٤٧) قال الحافظ في العجاب (ص ٢٧٢): "مرسل رجاله ثقات"..
١٠ رواية قتادة رواها الطبري (٢/٢٤٧، ٢٤٨)..
١١ قول إبراهيم رواه الطبري (٢/٢٤٧) وانظر العجاب للحافظ (ص٢٧٥)..
١٢ في ن "ومعه"..
١٣ رواية السدي أخرجها الطبري (٢/٢٤٨) وبين الحافظ في العجاب (ص٢٧٢، ٢٧٣) شذوذها وما أنكر عليه فيها..
١٤ رواه الطبري في تفسيره (٢/٢٤٨، ٢٤٩) ويراجع للتفصيل العجاب للحافظ ابن حجر (ص٢٧١-٢٧٨)..
١٥ مجاز القرآن (١/٦٨) وهو في المحرر الوجيز (١/٥٣٢)..
١٦ من سبب النزول إلى هنا منقول من المحرر الوجيز لابن عطية (١/٥٣١، ٥٣٢)..
اختلفوا١ في قوله تعالى :( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا ) هل هو منسوخ أم محكم ؟ فذهبت طائفة إلى أنه منسوخ واختلفوا في الناسخ. فقال الربيع بن أنس، وعبد الرحمان بن زيد : أمر الله المسلمين بقتال من قاتلهم من المشركين والكف عمن كف عنهم، ثم نسخت سورة براءة٢. وقال قتادة٣ : هي منسوخة بقوله تعالى :( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ) |البقرة : ١٩٣| وعنه أيضا أن الناسخ لها ( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) |التوبة : ٥| وعن ابن زيد : أن ناسخها :( وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة ) |التوبة : ٣٦| والذين ذهبوا٤ إلى أنها محكمة، اختلفوا في تأويلها، فذهب ابن عباس، ومجاهد، وعمر بن عبد العزيز٥ إلى أن معناها، لا تقتلوا المرأة والصبي، والشيخ الكبير، والراهب وشبههم، وذلك إذا لم يقاتلوكم، فالتقدير قاتلوا الذين هم بحالة من يقاتلكم، ولا تعتدوا في قتل مثل هؤلاء ممن ليسوا بحالة من يقاتلكم. وهذا التأويل يعضد مذهب مالك وجماعة سواه من أن الشيوخ والرهبان لا يقتلون، إلا أن يكون في إبقائهم ضرر على الإسلام مثل أن يكونوا من ذوي الرأي والمشورة، فإن قتلهم جائز خلاف ما ذهب إليه الشافعي في أحد قوليه من أنهم يقتلون، وإن لم يكن فيهم ضرر، ولم يختلفوا في النساء والصبيان كاختلافهم في أولئك٦.
وكذلك اختلفوا في قتل المريض والأعمى، فذهب الشافعي إلى قتلهم والآية على هذا التأويل تعضد مذهب من يرى ألا يقتلوا ويلحق بالآية على هذا من له عهد، ومن أدى الجزية. وذهب ابن عباس أيضا إلى أنها أمر من الله عز وجل بقتال الكفار٧. وقال أبو الحسن٨ : ويحتمل أن يقال لم يرد الله عز وجل بقوله :( الذين يقاتلونكم ) حقيقة القتال، لأن مدافعة الرجل عن نفسه لم تكن قط محرمة حتى يقال إنه أذن فيه بعد التحريم، وإنما أراد : الذين يرون قتالكم ويعتقدونه دينا وشرعا. وروي عن أبي بكر –رضي الله عنه- أنه أمر بقتل الشمامسة لأنهم يشهدون٩ القتال، ويرون ذلك وهم الذين فحصوا على أوساط رؤوسهم، وأمر ألا يقتل الرهبان لأنهم يرون أن لا يقاتلوا. وقال مجاهد : الآية محكمة، ولا يحل لأحد أن يقاتل أحدا حتى يبدأه بالقتال كذا حكى المهدوي١٠. وفيه نظر. وقيل الآية نزلت في صلح الحديبية حين صده المشركون عن البيت، وصالحهم على أن يرجع في العام المقبل، ويخلو له البيت ثلاثة أيام، فلما رجع إلى عمرة القضاء خاف أصحابه صلى الله عليه وسلم ألا يفي المشركون ويصدوهم عن البيت، ويقاتلوهم في الشهر الحرام وكره أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يقاتلوهم في الحرم وفي الأشهر الحرم. فنزلت الآية١١ فتكون على هذا في أمر مخصوص فلا يدخلها نسخ على ذلك.
١٩٠- وقوله تعالى :( ولا تعتدوا ) |البقرة : ١٩٠|.
عام في النهي عن أنواع١٢ العدوان، إلا أن أهل العلم بالتفسير اختلفوا في تأويله، فقيل : المعنى ولا تعتدوا في قتال١٣ من لم يقاتلكم.
وقيل لا تعتدوا في قتال المرأة والصبي ونحوهما. وقيل : لا تعتدوا بالابتداء بالقتال في الشهر الحرام. وذهب قوم إلى أن المعنى ولا تعتدوا في القتال لغير وجه الله، كالحمية، وكسب الذكر١٤.
ولا خلاف أن القتال كان ممنوعا في أول الإسلام بقوله تعالى :( ادفع بالتي هي أحسن ) |المؤمنون : ٩٦| وبقوله :( فاعف عنهم واصفح ) |المائدة : ١٣| وبقوله ( ولا تجادلوا أهل الكتاب ) |العنكبوت : ٤٦| وبقوله :( وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ) |الفرقان : ٢٣| وبقوله :( لست عليهم بمصيطر ٢٢ ) |الغاشية : ٢٢| وبقوله :( يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ) |الجاثية : ١٤|. ونحو ذلك. قال ابن عباس١٥، ثم نسخ ذلك كله قوله تعالى :( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) |التوبة : ٥| وقوله تعالى :( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ) |التوبة : ٢٩| واختلفوا في أول آية نزلت في ذلك في القتال. فقال الربيع بن أنس وغيره١٦ قوله تعالى :( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ) |البقرة : ١٩٠| وروي عن أبي بكر الصديق أن أول آية نزلت في ذلك قوله تعالى :( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ) |الحج : ٣٩|١٧.
٢ روى قوليهما الطبري في تفسيره (٢/٢٥٠)..
٣ ذكر قوله ابن عطية في المحرر الوجيز (١/٥٣٥)..
٤ في ب "والذاهبون"..
٥ يراجع في هذا المحرر الوجيز (١/٥٣٣) وتفسير الطبري (٢/٢٥٠، ٢٥١).
.
٦ تراجع أقوال الفقهاء في هذا في المدونة (٢/٦، ٧) والإشراف لعبد الوهاب (٢/٩٣٣، ٩٣٤) وأحكام القرآن للجصاص (١/٣٢٠، ٣٢١) وأحكام القرآن للكيا الهراسي (١/٩٧ -٨١) وأحكام القرآن لابن العربي (١/١٠١ -١٠٤) وتفسير القرطبي (٢/٣٤٨- ٣٥٠)..
٧ يراجع الطبري في تفسيره (٢/٢٥١)..
٨ في أحكام القرآن (١/٨٠ و٨٢)..
٩ في ب "يحضرون".
١٠ يراجع المحرر الوجيز (١/٥٣٥) وأحكام القرآن للجصاص (١/٣٢١، ٣٢٢) وتفسير الطبري (٢/٢٥٤)..
١١ روى هذا الواحدي في أسباب النزول (ص ٣٢) وضعف ابن حجر سند هذه الرواية في العجاب (ص ٢٧٨)..
١٢ في ب "فعل"..
١٣ في ب "بقتال"..
١٤ يراجع كلام الكيا الهراسي في أحكام القرآن (١/٨٦) وابن عطية في المحرر الوجيز (١/٥٣٣)..
١٥ يراجع تفسير الطبري (٢/٢٥٠، ٢٥١)..
١٦ يراجع تفسير الطبري (٢/٢٥٠، ٢٥١)..
١٧ رواه العجاب في تفسير (٩/١٦١، ١٦٢ – ط دار الكتب العلمية بيروت) ويراجع العجاب في بيان الأسباب لابن حجر (ص ٢٧٨ -٢٨٠)..
اختلف فيه هل هو منسوخ أو محكم ؟ فذهب الأكثر إلى أنه منسوخ واختلفوا في الناسخ ما هو ؟ فقال الربيع : نسخه :( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ) |الأنفال : ٣٩| وقال قتادة : نسخه قوله تعالى :( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) |التوبة : ٥| قالوا جميعا فيجوز قتالهم في كل موضع.
وذهب مجاهد إلى أن الآية محكمة، وأنه لا يجوز قتال أحد في المسجد الحرام إلا بعد أن يقاتل١. وقرأ حمزة، والكسائي، والأعمش : " ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوكم فيه فإن قتلوكم " ٢.
٢ يراجع لهذه النقول والأقوال المحرر الوجيز (١/٥٣٥) وتفسير الطبري (٢/٢٥٣، ٢٥٤) وتفسير القرطبي (٢/٣٥١ -٣٥٣) وتفسير ابن كثير (١/٢٢٨)..
الانتهاء في هذه الآية الإسلام، لأن الغفران والرحمة إنما يكونان مع ذلك١.
الانتهاء في هذا الموضع يصح أن يكون الدخول في الإسلام، ويصح أن يكون أداء الجزية١.
١٩١- وقوله تعالى :( واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم ) |البقرة : ١٩١|.
صفة لمشركي قريش، وهذه الآية نزلت في صلح الحديبية، وقيل : نزلت في عمرو بن الحضرمي، وواقد، وهي سرية عبد الله بن جحش٢.
١٩٣- وقوله تعالى :( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ) |البقرة : ١٩٣|.
يعني كفرا ( ويكون الدين لله ) |البقرة : ١٩٣| يعني أنهم يقاتلون حتى يسلموا، وبهذا يحتج من لا يرى قبول الجزية من المشركين.
٢ المصدر السابق (١/٥٣٤) ويراجع تفسير القرطبي (٢/٣٥٣، ٣٥٤)..
اختلف في سببها١، فقال ابن عباس، ومجاهد، والسدي، وقتادة ومقسم، والربيع، والضحاك، وغيرهم، نزلت في عمرة القضاء عام الحديبية، وذلك : أن رسول الله صل الله عليه وسلم خرج معتمرا حتى بلغ الحديبية سنة ست، فصده الكفار عن البيت، ووعده الله تعالى أنه سيدخله عليهم، فأدخله سنة سبع، فنزلت الآية في ذلك. أي الشهر الحرام الذي غلبكم الله فيه، وأدخلكم الحرم عليهم فيه ( بالشهر الحرام ) الذي صدوكم فيه، ومعنى " الحرمات قصاص " على هذا التأويل أي حرمة البلد، وحرمة المحرمين، حيث صددتم بحرمة البلد، والشهر والمكان حين دخلتم٢.
وقال الحسن بن أبي الحسن : نزلت الآية لأن الكفار سألوا النبي صلى الله عليه وسلم هل يقاتل في الشهر الحرام فأخبرهم أنه لا يقاتل فيه فهموا بالهجوم عليه فيه، وقتل من معه حين طمعوا أنه لا يدافع فيه فنزلت ( الشهر الحرام ) الآية، أي هو عليكم في الامتناع من القتل والاستباحة بالشهر الحرام عليهم في الوجهين فأية وجهة سلكوا فاسلكوا ؛ والحرمات على هذا جمع حرمة عموما في النفس والمال والعرض، وغير ذلك، فأباح الله تعالى بالآية مدافعتهم، والقول الأول أكثر٣.
١٩٤- وقوله تعالى :( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه ) الآية |البقرة : ١٩٤|.
أبان الله تعالى أنهم إذا عاهدوهم في الشهر الحرام، فعليهم أن يقاتلوهم فيه، وإن لم يجز الابتداء. ويحتمل أن يريد : فمن اعتدى عليكم فيما مضى فهتك حرمتكم في الشهر الحرام، والبلد الحرام فاعتدوا عليه الآن بمثلما اعتدى عليكم في الماضي، فيكون في ذلك باحة القتال مطلقا في كل موضع، وفي كل وقت٤.
ويجوز الابتداء بالقتال جزاءا على ما كان من فعلهم في ذلك الوقت ثم نسخ ذلك بالقتال مطلقا.
وقالت طائفة : هذه الآية أطلقت لمسلمين إذا اعتدى عليكم أحد منهم أو من غيرهم أن يقتصوا منه فنسخ ذلك، ورد إلى السلطان فلا يجوز لأحد أن يقتص من أحد إلا بأمر السلطان، ولا يقطع يد سارق، ولا غير ذلك٥. قال بعضهم : هذا إنما يكون على قول من أجاز نسخ القرآن بالسنة. وهذان القولان لمن قال : إن الآية منسوخة. وذهب جماعة إلى أنها محكمة واختلفوا في تأويلها أيضا، فذهب قوم إلى أنه جائز أن يتعدى عليه في مال أو جرح إن تعدى بمثلما تعدي عليه إذا خفي له ذلك وليس بينه وبين الله في ذلك شيء، وحمل الآية على هذا، واليه ذهب الشافعي وغيره، وهي رواية في مذهب مالك، والأشهر عنه أنه ليس له ذلك، وأن أمور القصاص والأموال على الحكام٦.
وذهب مجاهد إلى أن الآية محكمة، وأن المعنى فمن اعتدى عليكم في الحرم فاعتدوا عليه وهذا أولى ما حملت عليه الآية.
ويحتج بهذه الآية على مراعاة المماثلة في القصاص٧. ومن ذلك مسألة من قتل بغير الحديد هل يقتل بمثلما قتل به ؟ فاحتج من رأى ذلك بهذه الآية خلافا لأبي حنيفة في قوله إلا بالحديد٨، ولقوله –عليه الصلاة السلام- : " لا قود إلا بحديدة " ٩ واختلف الذاهبون إلى القول الأول في القود بالسهم١٠ والنار، هل يجوز أم لا ؟ فالأشهر أنه يقتل بذلك. وقال ابن حبيب : لا يقتل به لأنه مثلة١١.
٢ يراجع في هذا المحرر الوجيز لابن عطية (١/٥٣٦، ٥٣٧) ولهذه الروايات يراجع الطبري في تفسيره (٢/٢٥٩ -٢٦١) والعجاب في بيان الأسباب لابن حجر (ص ٢٨٠ -٢٨٣)..
٣ هذا من كلام ابن عطية في المحرر الوجيز (١/٥٣٨) ويراجع أيضا تفسير القرطبي (٢/٣٥٣، ٣٥٤)..
٤ قاله الهراسي في أحكام القرآن (٨٦، ٨٧)..
٥ نسب النحاس هذا إلى ابن عباس في الناسخ والمنسوخ (ص ٢٨) ثم وجدت الطبري يذكر عن ابن عباس نحوه في تفسيره (٢/٢٦٢) ويراجع العجاب لابن حجر (ص ٢٨٣)..
٦ انظر لمحرر الوجيز (١/٥٣٨)..
٧ أحكام القرآن للهراسي (١/٨٧)..
٨ يراجع أحكام القرآن لابن العربي (١/١١٢، ١١٣)..
٩ رواه ابن ماجه عن النعمان بن بشير وأبي بكرة في الديات (٢٦٦٧، ٢٦٦٨) وسندهما ضعيف ويراجع "إرواء الغليل" للألباني (٢٢٢٩)..
١٠ كذا في ب و ن وفي أ "السم"..
١١ يراجع أحكام القرآن لابن العربي (١/١١٢ -١١٥) وتفسير القرطبي (٢/٣٥٦ -٣٦٠)..
اختلف في معناه١، فقال ابن عباس وغيره : معناه لا تمسكوا عن الإنفاق في سبيل الله فتهلكوا، وقيل : هي نهي عن الإياس من المغفرة عند ارتكاب المعاصي روي ذلك عن البراء بن عازب، وعبيدة السلماني وغيرهما. وقال ابن زيد وغيره : المعنى لا تخرجوا إلى الغزو بغير نفقة فتهلكوا. وقال أبو أيوب الأنصاري : سبب نزول هذه الآية إمساك الأنصار عن الإنفاق في سبيل الله لسنة أصابتهم، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيموا في أموالهم ليصلحوها. فالإلقاء على هذا باليد للتهلكة ترك الجهاد، وقيل : هو الإسراف في الإنفاق حتى لا يجد ما ينفق، وقيل : هو أن يقتحم الحرب من غير نكاية في العدو٢. وقال محمد بن الحسن : لو حمل٣ رجل واحد على ألف من المشركين لم يكن به بأس إذا طمع في غلبهم ونكاية في العدو أو تجرئة٤ للمسلمين أن يفعلوا كفعله وإرهابا للعدو٥.
١٩٥- وقوله تعالى :( وأحسنوا ) |البقرة : ١٩٥|.
قيل : معناه وأنفقوا، وقيل : أدوا الفروض. وقال عكرمة : أحسنوا الظن بالله تعالى٦.
٢ ذكر الجصاص في أحكام القرآن (١/٣٢٧) وقال عقبه: "وليس يمتنع أن يكون جميع هذه المعاني مراده بالآية لاحتمال اللفظ لها اجتماعها من غير تضاد ولا تناف" ويراجع المحرر الوجيز (١/٥٤٠) وأحكام للهراسي (١/٨٨) وتفسير القرطبي (٢/٣٦١ -٣٦٥)..
٣ في ب "لو كر"..
٤ في أ "نجاته"..
٥ نقل هذا الجصاص في أحكامه (١/٣٢٧) والهراسي أيضا (١/٨٨)..
٦ يراجع المحرر لوجيز (١/٥٤٠) وتفسير الطبري (٢/٢٧١، ٢٧٢) وتفسير القرطبي (٢/٣٦٥)..
اختلف الناس في تأويل هذه الآية، فذهب ابن زيد، والشعبي١، وغيرهما إلى أن هذا ناسخ لما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنه أمر أصحابه بعد أن أحرموا بالحج بفسخه، وجعله عمرة، فلم يجيزوا الفسخ وقالوا في تأويل فعل النبي صلى الله عليه وسلم لذلك إنما جعلهم فسخوا الحج لأنهم كانوا لا يرون العمرة في أشهر الحج ويرون أنه فجور عظيم فأمرهم بفسخ الحج، وتحويله إلى العمرة ليعلموا أنها جائزة في أشهر الحج٢. وقيل : هذا الفعل إنما هو خصوص بالنبي صلى الله عليه وسلم ورووا أنه قيل له يا رسول الله، أفسخ الحج لنا خاصة أم للناس عامة ؟ فقال : " بل لنا خاصة " ٣ فلا يصح النسخ بالآية على هذا ويجوز النسخ لقوله تعالى :( وأتموا ). وأما ابن عباس فلم ير ذلك خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولا رأى أن الأمر بالإتمام ناسخا لذلك الفعل ورأى أنه جائز أن يفسخ الحج في العمرةّ، وتابعه على ذلك أحمد بن حنبل وأهل الظاهر، وهو شذوذ من القول٤.
وذهب علي بن أبي طالب إلى أن إتمامهما أن يحرم بهما من دويرة أهله وفعله، وإلى مثل هذا التأويل ذهب الشافعي في أحد قوليه، فاستحب للرجل أن يحرم من دويرة أهله وكان مالك لا يرى٥ هذا التأويل فاستحب له أن يحرم من الميقات فإن أحرم قبله أو من منزله٦ أجزأه٧. وذهب سفيان الثوري إلى أن إتمامهما أن يخرج قاصدا لهما ؛ لا لتجارة ولا٨ لغيرها٩، ويؤيد هذا قوله :( لله ) وقيل : إتمامهما أن تكون النفقة حلالا. وذهب قتادة، والقاسم بن محمد إلى أن إتمامهما أن يحرم بالعمرة، ويقضيها في غير أشهر الحج وأن يتم الحج دون نقص ولا جبر بدم. وهذا التأويل مبني على أن الدم في الحج والعمرة جبر نقص.
وهذا قول مالك وجماعة من العلماء١٠. وأبو حنيفة وأصحابه يرون أن الدم زيادة وكمال، وكلما كثر عندهم لزوم الدم فهو أفضل١١. واحتجوا بأنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم ما أفضل الحج ؟ قال : " العج١٢ والثج " ١٣ ومالك، ومن قال بقوله يراه حج التطوع. وذهبت فرقة إلى أن إتمامهما أن يفرد كل واحد من الحج والعمرة ولا يقرن. وذهبت فرقة إلى أن الإتمام القران١٤. وقد اختلفوا١٥ في الأفضل من الإفراد والتمتع، والقران على أربعة أقوال :
أحدهما : قول مالك وأصحابه أن الإفراد أفضلهما، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه " أفرد الحج " ١٦.
والثاني : أن التمتع بالعمرة إلى الحج أفضل، وروى أهل هذا القول أن النبي صلى الله عليه وسلم تمتع ولم يفرد.
والثالث : أن القران أفضل، وروى أيضا من قال ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن١٧.
والرابع : أنه لا يقال في أحد من هذه الأقوال أنه أفضل من الآخر١٨.
والأصح من جهة الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أفرد١٩، ويعضده تأويل من تأول الإتمام في الآية على أنه الإفراد. وذهب مجاهد إلى أن إتمامهما بلوغ أحدهما بعد الدخول فيهما، وذلك أشبه بالظاهر، ويدل عليه ما بعده، وهو قوله تعالى :( فإن أحصرتم فما ) الآية |البقرة : ١٩٦| فالإحصار إنما يمنع الإتمام بعد الشروع، وقد وجب الإتمام٢٠، وهذا مثل القول الأول في أن الإتمام وهو أن لا يفسخ الحج في العمرة. وذهب ابن عباس، وعلقمة وإبراهيم وغيرهم، إلى أن إتمامهما إنما يقضي مناسكهما كاملة بما كان فيهما من دماء٢١.
وفرائض الحج التي لا يتم إلا بها ثلاثة متفق عليها، وسبعة مختلف فيها. فالمتفق عليها الإحرام، والطواف بالبيت، والأصل فيه قوله تعالى :( وليطوفوا بالبيت العتيق ) |الحج : ٢٩| والوقوف بعرفة لقوله صلى الله عليه وسلم : " الحج عرفة " ٢٢ فمن فاته الوقوف فقد فاته الحج٢٣.
والسبعة المختلف فيها : النية في جميع أفعال الحج. ذهب الجمهور إلى أنها فريضة في الحج. وذهب بعض الناس إلى أنها ليست بفريضة٢٤ ذكر الخلاف فيها ابن حزم رحمه الله٢٥.
والتلبية : وذهب الجمهور إلى أنها ليست من فروض الحج. وذهب بعضهم إلى أنها من فروضه ذكر هذا أيضا ابن حزم٢٦، وأظن هذا القول المخالف للجمهور منسوبا لأبي حنيفة وقد أنكر ذلك عنه٢٧.
وطواف الوداع : الأكثر على أنه غير واجب. وذهب أبو حنيفة إلى أنه واجب والسعي بين الصفا والمروة : وقد تقدم الخلاف فيه٢٨ عند قوله :( إن الصفا والمروة من شعائر الله ) |البقرة : ١٥٨|.
والوقوف بالمشعر الحرام : ذهب الأكثر إلى أنه ليس بفرض٢٩، وذهب عبد الملك ابن الماجشون رحمه الله إلى أنه من فروض الحج، واحتج بقوله تعالى :( فاذكروا الله عند المشعر الحرام ) |البقرة : ١٩٨|.
ورمي جمرة العقبة : ذهب الأكثر إلى أنه ليس بفرض وهو القول المشهور عن مالك٣٠، وذهب عبد الملك رحمه الله إلى أنه من فروض الحج قياسا على طواف الإفاضة.
وقد ذكر الواقدي عن مالك مثل قول عبد الملك.
والمبيت بالمزدلفة : ذهب كافة الفقهاء إلى أنه ليس بفرض، ولا ركن. وذهب بعض التابعين إلى أنه ركن وفرض إليه ذهب علقمة، والشافعي، والنخعي. قالوا : إذا لم يبت بها فقد فاته الحج٣١.
وأعمال العمرة أربعة : اثنان متفق عليهما واثنان مختلف فيهما. فالمتفق عليهما : الإحرام، والطواف، والمختلف فيهما السعي بين الصفا والمروة. وذهب الأكثرون إلى أنه من أعمال العمرة التي لا بد فيها منه. وذهب ابن عباس، وإسحاق بن راهويه إلى أنه ليس من أعمال العمرة التي لا تتم إلا به. وذهب مالك وغيره إلى خلاف ذلك. وزاد بعضهم في أعمال العمرة النية. والاختلاف فيها عندي داخل فتكون على هذا أعمال العمرة خمسة : اثنان متفق عليهما، وثلاثة مختلف فيها٣٢.
واختلف في العمرة أفرض هي أم لا ؟ فالذي ذهب إليه مالك وأكثر أصحابه إلى أنها ليست بفريضة. وذهب ابن الماجشون، وابن الجهم، وابن حبيب، وهو قولي الشافعي إلى أنها فريضة٣٣. وحجة مالك ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من النص في أنها سنة٣٤. وحجة من رآها فريضة قوله تعالى :( وأتموا الحج والعمرة لله ) ومعنى ( أتموا ) عندهم، أقيموا وإذا كان الإتمام واجبا فالابتداء واجب. قال ابن القصار : فيقال لهم هذا غلط لأنه من أراد أن يفعل السنة فواجب أن يفعلها تامة، كمن أراد أن يصلي تطوعا، فيجب أن يكون على طهارة وكذلك إن أراد أن يصوم فيلزمه التبييت. ومثله من أوجب صوما أو صلاة. فقد أوجب ذلك على نفسه، وإن لم يجب في الأصل، فإذا دخل في الصلاة انحتم عليه إتمامها.
وذهب مالك وجمهور أصحابه إلى أن الاعتمار في السنة لا يكون إلا مرة واحدة٣٥. وذهب مطرف إلى جوازه في السنة مرارا وإلى نحوه ذهب ابن المواز والشافعي. وحجة مالك ما جاء في الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم، وقد قال له الأقرع : أعمرتنا هذه لعامنا أم للأبد ؟ فقال : " بل للأبد " ٣٦ وقياسا على الحج. وظاهر قوله تعالى :( وأتموا الحج والعمرة لله ) حجة للقول الثاني عندي لأنها عامة لجميع الأوقات٣٧.
واختلف في الرجل إذا أفسد حجه وعمرته، هل يمضي عليهما أو يقضيهما ؟ أم يخرج بالفساد ؟ : فذهب جمهور الفقهاء إلى أنه يمضي في سائر حجه وعمرته، ثم يقضي بعد ذلك. وذهب داود إلى أنه يخرج منهما بالفساد. ودليل ما ذهب إليه الجمهور :( وأتموا الحج والعمرة لله ) وهذا أمر، والأمر٣٨ يقتضي الوجوب، ولم يفرق بين الصحة والفساد. واختلفوا في القارن إذا خاف فوات الوقوف بعرفة هل له رفض العمرة أم لا ؟ فذهب الأكثر إلى أنه ليس له ذلك. وذهب أبو حنيفة إلى أن ذلك له، وحجة القول الأول قوله تعالى :( وأتموا الحج والعمرة لله ) واختلفوا في المعتمرة إذا حاضت قبل الطواف، وضاق عليها وقت الحج فقال مالك، تردف الحج، ولا ترفض عمرتها، وتصير قارنة٣٩. وقال أبو حنيفة : تكون قد رفضت عمرتها والدليل على أبي حنيفة أنها قد عقدت عمرتها٤٠ فمن زعم أن لها أن ترفضها أو تكون رافضة فعليه الدليل. وقد قال الله عز وجل :( وأتموا الحج والعمرة لله ) وقال الله تعالى :( أوفوا بالعقود ) |المائدة : ١|.
واختلف٤١ في العبد والصبي يحرمان الحج، ثم يحتلم الصبي ويعتق العبد قبل الوقوف، فقال مالك : لا سبيل إلى رفض الإحرام، وحجة مالك رحمه الله إن كان من دخل في الحج أو عمرة ويتماديان عليه ولا يجزيهما عن حجة الإسلام٤٢ وقال الشافعي : يمضيان ولا يجزيهما عن حجة الإسلام٤٣. وعند مالك أنهما إن استأنف الإحرام قبل الوقوف بعرفة أنه يجزيهما عن حجة الإسلام. وهو قول أبي حنيفة لأنه يصح عنده رفض الإحرام، وحجة مالك أن كل من دخل في حجة، أو عمرة مأمور بالتمام تطوعا كان أو فرضا لقوله تعالى :( وأتموا الحج والعمرة لله ) ومن رفض إحرامه لم يتم حجة ولا عمرته.
١٩٦- وقوله تعالى :( فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ) |البقرة : ١٩٦|.
اختلف أهل اللغة في لفظ " أحصر " فذهب أكثرهم إلى أنه يقال أحصر بالمرض، وحصر بالعدو وهي أصح اللغات، وذهب بعضهم إلى أنه بعكس ذلك حصر بالمرض وأحصر بالعدو. وذهب الفراء إلى أنهما بمعنى واحد في المرض والعدو٤٤، وعلى حسب اختلاف أهل اللغة اختلف في الآية٤٥، فذهب بعضهم إلى أن معناها إن حبسكم خوف عدو أو مرض أو وجه من وجوه المنع. وإلى هذا ذهب مجاهد وقتادة وغيرهما. وروي عن ابن عباس. وذهب ابن عباس في رواية أخرى عنه إلى أن المعنى إن أحصر أحدكم بعدو لا بمرض. وذهب مجاهد في رواية أخرى عنه أيضا، وعلقمة، وعروة بن الزبير وغيرهما إلى أن الآية فيمن أحصر بالمرض لا بالعدو. وقال المهدوي : وهو قول٤٦ مالك. وإلى نحو القول الأول ذهب أبو حنيفة، والشافعي في أحد قوليه، فرأيا أن المرض والعدو بمنزلة واحدة استدلالا بقوله تعالى :( فإن أحصرتم ). فالمحصر على هذا بعدو أو مرض يتحلل حيث أحصر، وليس عليه التحلل لعمرة. وأما مالك رحمه الله فرأى أن المحصر بعدو يحل حيث أحصر، وأن المحصر بمرض لا يحل حتى يطوف بالبيت، ويسعى بين الصفا والمروة، وهو عمل العمرة وعليه القضاء إذا فاته الحج، وهو مذهب عبد الله بن عمر٤٧، وقد نسب إلى الشافعي٤٨. ورأى أن المريض داخل تحت قوله تعالى :( وأتموا الحج والعمرة لله ) وتقدير قوله تعالى :( فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ) على هذا القول، فان أحصرتم وفاتكم الحج، وحللتم بعمرة وتقديره على قول أبي حنيفة فإن أحصرتم فحللتم وإنما احتيج إلى هذا التقدير، لأنه ليس بنفس المرض أو حصر العدو، ويلزم الهدي ؛ فليس تأويل أبي حنيفة٤٩ بأسعد من هذا التأويل لأنه لا بد في التأويلين من إضمار. ودليل من ذهب في الآية إلى أنه إحصار المرض قوله تعالى :( ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله ) |البقرة : ١٩٦| قالوا : والمحصور بعدو يحلق رأسه قبل أن يبلغ الهدي محله٥٠.
وقوله تعالى :( فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ) |البقرة : ١٩٦| معناه يحلق بفدية من صيام أو صدقة أو نسك وإذا كان هذا واردا في المرض بلا خلاف كان الظاهر أن أول الآية ورد فيمن ورد فيه وسطها وآخرها لاتساق الكلام بعضه ببعض، ورجوع الإضمار في آخر الآية إلى من خوطب في أولها، فيجب حمل ذلك على ظاهره، حتى يدل الدليل على آخره. وأخذ من ذهب إلى هذا في المح
٢ روي ذلك عن ابن عباس عند البخاري في الحج (١٥٦٤) ومسلم في الحج (١٢٤٠)..
٣ أخرجه أبو داود (١٨٠٨) وابن ماجه (٢٩٨٤) والنسائي (٥/١٧٩ –المجتبى) وأحمد في المسند (٣/٤٦٩) والطبراني في الكبير (١١٣٨) وفي إسناده جهالة وضعفه غير واحد منهم الإمام أحمد..
٤ لا أدري كيف قال هذا المؤلف رحمه الله، وقد عزا ابن حزم في المحلى (٧/١٠٣) هذا المذهب لعائشة، وحفصة، وفاطمة، وعلي، وأسماء، وأبي موسى الأشعري، أبي سعيد الخدري، وأنس، وابن عباس، وابن عمر، والبراء بن عازب، وسراقة بن مالك، ومعقل بن يسار، وطائفة من التابعين. وهذا الرأي هو الأقرب إلى السنة فتنبه..
٥ في ب "لم ير"..
٦ في ب "أهله"..
٧ يراجع هذا الأقوال في تفسير الطبري (٢/٢٧٣، ٢٧٤) والأم للشافعي (٢/١١٩) والمدونة لسحنون (١/٣٧٢) والمحرر الوجيز (١/٥٤٠)..
٨ في ن "ولا لغير ذلك"..
٩ رواه عنه الطبري في تفسيره (٢/٥٤٠ -٥٤١) وفي سنده جهالة..
١٠ يراجع المحرر الوجيز (١/٥٤٠ -٥٤١) وتفسير الطبري (٢/٢٧٤) والمدونة (١/٤١٩، ٤٢٠) والإشراف لعبد الوهاب (١/٤٦٩، ٤٧٠) وتفسير القرطبي (٢/٣٦٥ -٣٦٧)..
١١ المحرر الوجيز (١/٥٤١)..
١٢ المراد بالعج رفع الصوت بالتلبية وبالثج إسالة دماء البدن..
١٣ رواه عن أبي بكر الصديق مرفوعا الترمذي في الجامع (٨١٣ و٢٩٩٨) وابن ماجه (٢٨٩٦) والدارقطني (٢/٢١٧) والبيهقي (٣/ رقم ١٥٠٠).
* في ن "من حجه وعمرته"..
١٤ يراجع المحرر الوجيز (١ / ٥٤١).
١٥ في ب "اختلف".
١٦ رواه مالك عن عائشة الحج الموطأ (١/٤٥١/٩٤٣) ورأيه في (١/ ص٤٥٢)..
١٧ هذا هو الثابت عنه صلى الله عليه وسلم إذ يقول: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي وجعلتها عمرة" رواه البخاري عن جابر مفرقا (١٦٥١) و (١٧٨٥) ومسلم (١٢١٨)..
١٨ قال ابن عبد البر في الاستذكار (١١/١٣٦، ١٣٧): "لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أباحها كلها وأذن فيها ورضيها ولم يخبر بأن واحدا منها أفضل من غيره ولا أمكن منها العمل بها كلها في حجته التي يحج غيرها وبهذا نقول وبالله التوفيق"..
١٩ كلا بل الأثبت عنه صلى الله عليه وسلم قولا وعملا أنه قرن قال ابن عبد البر في الاستذكار (١١/١٤٧، ١٤٨): "ومما يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قارنا من رواية مالك، حديثه عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا" ومعلوم أنه كان معه هدي ساقه صلى الله عليه وسلم ومحال أن يأمر من كان معه هدي بالقران ومعه الهدي ولا يكون قارنا"..
٢٠ من كلام الكيا الهراسي في أحكام القرآن (١/٨٩)..
٢١ يراجع المحرر الوجيز (١/٥٤١)..
٢٢ رواه أبو داود (١٩٤٩) والنسائي (٥/٢٥٦) والترمذي (٢٩٧٥) وابن ماجه (٣٠١٥) وابن الجارود (٤٢٨) وصححه زيادة على الترمذي ابن خزيمة (٤/٢٤٧) وابن حبان (٣٨٩٢) من حديث عبد الرحمان بن يعمر الديلي..
٢٣ يراجع المحرر الوجيز (١/٥٤١)..
٢٤ في ب "بفرض"..
٢٥ يراجع المحلى (٧/١٩٢ -١٩٤)..
٢٦ يراجع المحلى (٧/١٩٦)..
٢٧ لكن أثبت ذلك عنه أبو عمر بن عبد البر في الاستذكار (١١/٩٥) ويراجع بداية المجتهد (١/٢٤٦)..
٢٨ يراجع (ص ١٢٣ -١٢٤)..
٢٩ يراجع بداية المجتهد (١/٥٥٥، ٢٥٦)..
٣٠ يراجع المصدر السابق (١/٢٥٦ -٢٥٨)..
٣١ يراجع بداية المجتهد لابن رشد (١/٢٥٥، ٢٥٦)..
٣٢ يراجع المحرر الوجيز (١/٥٤١)..
٣٣ يراجع أقوال العلماء في المحرر الوجيز (١/٥٤١، ٥٤٢) والاستذكار لابن عبد البر (١١/٢٤١، ٢٤٢) وأحكام القرآن للجصاص (١/٣٢٨، ٣٣٤)..
٣٤ إشارة إلى حديث أبي صالح ماهان الحنفي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الحج واجب والعمرة تطوع" أخرجه الجصاص في أحكام القرآن (١/٣٣٠) وذكره ابن حزم في المحلى (٧/٣٦) وذكره أيضا ابن عبد البر في الاستذكار (١١/٢٤٦، ٢٤٧) وقال :"وهذا منقطع لا حجة فيه" وضعفه ابن حزم. فيراجع نصب الراية للزيلعي (٣/١٥٠، ١٥١) والتلخيص الحبير لابن حجر (٢/٢٢٦، ٢٢٧)..
٣٥ كما في الموطأ (١/٤٦٦/ ٩٩١ –ط بشار)..
٣٦ أخرجه أبو داود (١٧٢١) ومن طريقه الجصاص في أحكام القرآن (١/٣٣٠) وابن حزم في المحلى (٧/٣٧) كما أخرجه ابن ماجه (٢٨٨٦) والنسائي (٥/١١١) والدارمي في مسنده (١٧٨٨) وأحمد في المسند (١/٤٤١، ٤٧٠) والبيهقي (٤/٣٢٦) من طرق، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، عن أبي سنان، عن ابن عباس...
وهذا سند فيه ضعف، لكن له متابعات ثابتة عند بعض من ذكرنا لذلك صححوه بها إضافة إلى شواهده التي يطول الكلام بذكرها..
٣٧ واحتج ابن عبد البر للقول بتكرار العمرة خلافا لمالك فيراجع الاستذكار (١١/٢٤٩ -٢٥١)..
٣٨ في ب "وهو"..
٣٩ يراجع المدونة لسحنون (١/٤٣٠)..
٤٠ في ن "العمرة"..
٤١ انظر الخلاف في ذلك في الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (٢/٣٧٠، ٣٧١)..
٤٢ يراجع الإشراف لعبد الوهاب (١/٤٨٦)..
٤٣ الأم (٢/١١١)..
٤٤ يراجع في هذا أحكام القرآن للجصاص (١/٣٣٤) وللهراسي (١/٩٠) والمحرر الوجيز (١/٥٤٢) والمفردات لللأصبهاني (ص ١٧٣) ولسان العرب مادة "حصر" (٢/٨٩٥ -٨٩٨) وتفسير القرطبي (٢/٣٧١)..
٤٥ في ن "في المراد بالآية"..
٤٦ في هامش أ "وهو مذهب"..
٤٧ يراجع المدونة (١/٣٦٠ -٣٦٣)..
٤٨ الأم (٢/١٣٩)..
٤٩ لقول أبي حنيفة وأدلته يراجع أحكام القرآن للجصاص (١/٣٣٤ -٣٣٩)..
٥٠ يراجع الخلاف بين الفقهاء في الإحصار في تفسير الطبري (٢/٢٨٠ -٢٨٤) والاستذكار لابن عبد البر (١٢/٧١ -٩١) وأحكام القرآن لابن العربي (١/١١٩ -١٢٤)..
في الكلام حذف تقديره، أشهر الحج أشهر معلومات أو وقت الحج أشهر لأن الحج ليس بالأشهر، أو الحج حج أشهر معلومات. وقدر بعضهم الكلام الحج في أشهر، ثم حذف " في " ورفع الظرف على الاتساع كما تقول القتال يوم الجمعة بالرفع. ويلزم مع سقوط " في " جواز نصب الأشهر ولم يقرأ بذلك أحد١.
واختلف في أشهر الحج على ثلاثة أقوال٢، فروي عن مالك روايتان إحداهما : أن أشهر الحج : شوال وذو القعدة وذو الحجة كله، وهو قول ابن مسعود، وابن عمر، وعطاء، والربيع ومجاهد، والزهري٣.
والثانية : أنها شوال٤، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، وهو قول ابن عباس، والشعبي، والسدي، وإبراهيم، وقال الشافعي : هي شوال، وذو القعدة وتسع من ذي الحجة. وفي رواية عنه : وتسعة أيام من ذي الحجة وعشر ليال. وليس عنده يوم النحر على هذا من أشهر الحج، وإن كانت ليلته منها. ودليل القول الأول قوله تعالى :( أشهر ) وهذا من جمع القلة، وأقل الجمع ثلاثة على خلاف في هذا الأصل. ولا خلاف أنه لم يرد هنا شهرين، فلم يبق إلا أن يريد ثلاثة. وحجة القولين الأخيرين أنه إنما أراد اثنين وبعض٥ الثالث، فجمع كما قال امرؤ القيس :
....................... *** ثلاثون شهرا في ثلاثة أحوال٦
وقال قوم : يجوز أن لا يكون ذلك اختلافا في الحقيقة، ويكون مراد من قال : أو ذو الحجة أو بعضه لأن الحج لا محالة إنما هو في بعض هذه الأشهر. ولا خلاف أنه لا يبقى بعد أيام منى شيء من مناسك الحج فأريد بعض الشهر بذكر جميعه كما قال –عليه السلام- : " أيام منى ثلاثة " ٧ وإنما هي يومان، وبعض الثالث، وكما يقول الرجل حججت عام كذا وإنما حج في بعضه٨. وهذا الخلاف إذا اعتبر إنما هو خلاف في العبارة فمن قال الأشهر شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، فلأنه إذا رمى الجمرة يوم النحر، فقد أحل من إحرامه ولم يفسد حجه إن وطئ بعد ذلك. ومن قال : هي ثلاثة، فلأن رمي الجمار في أيام منى بعد العشر وهي من عمل الحج ولأنه لا يجوز له أن يطأ النساء إلا بعد طواف الإفاضة. وإن لم يفسد حجه بالوطء وله أن يؤخر الطواف إلى آخر الشهر، ولا يكون عليه دم وهو من عمل الحج وإذا ثبت هذا فلا بد أن يحرم بالحج في شهوره، ولأن النبي –عليه السلام- كذلك فعل ولأن فائدة التوقيت منع تجاوزها، والتقدم عليها، فإذا أحرم قبلها لزم ولم ينقلب إحرامه للعمرة هذا قول مالك، وقاله أبو حنيفة خلافا للشافعي، وابن حنبل، والأوزاعي، في قولهم إنه يصير محرما بالعمرة ولا يلزم به الحج، وحكي عن داود أن إحرامه يبطل جملة٩. وحجة من قال القول الأول أنه لو انعقد إحرامه بالحج في غير أشهره لم يكن لتخصيصها فائدة. وحجة القول الأول أن ذكر الله تعالى في الحج الأشهر المعلومات، إنما معناه عندهم على التوسعة والرفق بالناس والإعلام بالوقت الذي فيه يبادر بالحج١٠، وبين ذلك –عليه السلام-، فمن صبر على نفسه وأحرم قبل أشهر الحج لزمه وهو بمعنى من أحرم بالحج من بلده قبل الميقات، ويعضد هذا القول قوله تعالى :( ولا تبطلوا أعمالكم ) |محمد : ٣٣| ( وأتموا الحج والعمرة لله ) |البقرة : ١٩٦| قال ابن القصار " ولا يمتنع أن يجعل الله الشهور كلها وقتا للإحرام فيها، ويجعل شهور الحج وقتا للاختيار، وهذا سائغ في الشريعة. واستدل أيضا أهل المذهب على قول مالك وأصحابه بقوله تعالى :( يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج ) |البقرة : ١٨٩| قال : وليس يخلو أن يكون أراد القسمة، وإن نصف الشهور للحج، ونصفها لسائر المعاملات وذلك ليس بقول لأحد أن يكون أراد الاشتراط فذلك ما نقوله.
١٩٧- وقوله تعالى :( فمن فرض فيهن الحج ) |البقرة : ١٩٧|.
معناه ألزمه نفسه١١، واختلف العلماء في تأويله١٢. فقال ابن عباس، وعكرمة وطاوس، وعطاء : الفرض الإهلال وهو التلبية. وقال ابن مسعود وابن الزبير : هو الإحرام : واختلفوا في فرض الحج والعمرة هل يكفي فيهما النية دون النطق أم لا ؟ فذهب مالك إلى أنهما ينعقدان دون نطق أو سوق هدي. وذهب أبو حنيفة إلى أنهما لا ينعقدان إلا بنطق أو سوق هدي مع النية، وظاهر قوله تعالى :( فمن فرض فيهن الحج ) حجة لمالك لأنه إنما معنى ذلك ألزم نفسه بالنية أو غيرها.
١٩٧- وقوله تعالى :( فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ) |البقرة : ١٩٧|.
اختلفوا في الرفث١٣، ما هو ؟ فقال ابن عباس، وابن جبير، والسدي، وقتادة، ومالك، ومجاهد، وغيرهم : هو الجماع. وقال عبد الله بن عمر، وطاوس وغيرهما : الإعراب والتعريب، وهو الإفحاش بأمر الجماع وعند النساء خاصة. وهو قول ابن عباس أيضا. وأنشد وهو محرم :
وهن يمشين١٤ بنا هميسا *** إن تصدق الطير ننك لميسا١٥
فقيل له : ترفث وأنت محرم ؟ فقال : إنما الرفث ما كان عند النساء. وقال قوم : الرفث الإفحاش بذكر النساء، كان ذلك بحضورهن أم لا. وقد قال ابن عمر للحادي : لا تذكر النساء، وهذا يحتمل أن تحضر امرأة. فلذلك نهاه. وقيل : الرفث التعريض ذكره المهدوي. وإنما يقوي هذا القول من جهة ما يلزم من توقير الحج.
وقال أبو عبيدة١٦ : الرفث اللغا١٧ من الكلام، وأنشد :
..................... *** عن اللغا ورفث التكلم١٨
وقرأ ابن مسعود : " فلا رفوث " ١٩ واختلف المفسرون ما هو٢٠. فقال ابن عباس، وعطاء، والحسن وغيرهم : الفسوق في المعاصي كلها لا يختص بشيء دون شيء. وقال ابن عمر، ومن معه : الفسوق في معنى الحج كقتل الصيد وغيره. وقال ابن زيد : الفسوق الذبح للأصنام، ومنه قوله تعالى :( أو فسقا أهل لغير الله به ) |الأنعام : ١٤٥|. وقال الضحاك : الفسوق التنابز بالألقاب ومنه قوله تعالى :( بئس الاسم الفسوق ) |الحجرات : ١١| وقال ابن عمر أيضا ومجاهد، وعطاء، وإبراهيم : الفسوق السباب. ومنه قوله –عليه السلام- : " سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر " ٢١ ٢٢. والقول الأول عندي أصح الأقوال٢٣.
واختلفوا في الجدال٢٤، فقال قتادة وغيره : الجدال هنا السباب. وقال ابن عباس، وعطاء، ومجاهد : الجدال هنا أن تماري مسلما حتى تغضبه٢٥.
وقال مالك وابن زيد : الجدال هنا أن يختلف الناس أيهم صادف موقف إبراهيم –عليه الصلاة والسلام- كما كانوا يفعلون في الجاهلية متى كانت قريش تقف غير سائر العرب، ثم يتجادلون بعد ذلك. وقال محمد بن كعب القرظي : الجدال أن تقول طائفة حجنا أبر من حجكم، وتقول الأخرى مثلكم مثل ذلك. وقالت فرقة : الجدال هنا أن تقول طائفة اليوم وتقول الأخرى غداة٢٦. وقالت طائفة : الجدال كان في الفخر بالآباء قال مجاهد وجماعة معه : الجدال أن تنسأ العرب الشهور فقرر الشرع وقت الحج وبينه وأخبر أنه حتم لا جدال فيه، وهو أصح الأقوال. قال أبو الحسن٢٧ : فدل قوله تعالى :( فلا رفث ) عن النهي عن الرفث على الوجوه المذكورة تفسير الرفث ومن أجل ذلك حرم العلماء ما دون الجماع في الإحرام وأوجبوا في القبلة الدم. ودل قوله ( ولا فسوق ولا جدال في الحج ) على تحريم أشياء لأجل الإحرام، وعلى تأكيد الإحرام في أشياء محرمة من غير الإحرام تعظيما للإحرام. ومثله قوله –عليه السلام- : " إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل " الحديث٢٨ والوطء في الإحرام ممنوع بلا خلاف٢٩. لقوله تعالى :( فلا رفث ) فإذا وطئ عامدا أفسد حجه وعمرته بلا خلاف، وهذا إذا وطئ قبل الوقوف بعرفة، فإن وطئ بعد الوقوف بعرفة وقبل الرمي، ففي فساد حجه روايتان. وحجة الفساد ظاهر الآية. وإن وطئ بعد الرمي وقبل طواف الإفاضة، فعند مالك أنه لا يفسد حجه. وعن الشافعي رواية أنه يفسد. وظاهر الآية مع هذا القول. وحجة مالك أن ذلك يروى عن ابن عباس ولا مخالف.
فأما وطء الناسي فاختلفوا فيه. فذهب مالك إلى أنه يبطل حجه. وقال الشافعي في أحد قوليه لا يبطل والآية حجة لمالك لأن الرفث قد حصل وهو الجماع. وقال تعالى :( فلا رفث ) ولم يفرق بين عمده وخطئه. واختلفوا في الوطء دون الفرج إذا أنزل، وفي المنزل لقبلة أو لمس، فذهب مالك إلى أنه يبطل حجه. وقال أبو حنيفة، والشافعي لا يفسد الحج شيء سوى الجماع في الفرج. والآية حجة عليهما لأنه ذلك رفث، ولأن المقصود من الجماع إنما هو الإنزال وهو أبلغ من الإيلاج فوجب أن يفسد الحج به إذا انفرد كالإيلاج. واختلفوا أيضا في الوطء في الدبر، فذهب مالك إلى أنه يفسد الحج كان لواطا أو امرأة. وقال أبو حنيفة لا يفسده، وبناه على أصله أن الحد لا يجب على اللواط، والآية حجة على أبي حنيفة، لأن ذلك جماع فهو رفث. وفي وطء البهيمة في الفرج خلاف مثل ذلك، والآية حجة لمن يراه مفسدا. وفي الإنزال بالتذكر عند مالك خلاف.
١٩٨- قوله تعالى :( وتزودوا فإن خير الزاد ) الآية |البقرة : ١٩٨|.
قال ابن عمر، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة، وابن زيد : نزلت الآية في طائفة من العرب كانت تجيء إلى الحج بلا زاد ويقول بعضهم : نحن المتوكلون، ويقول بعضهم : كيف نحج بيت الله ولا يطعمنا ؟ فكانوا يبقون عالة على الناس فنهوا عن ذلك وأمروا بالتزود٣٠.
فيؤخذ من هذه الآية وجوب التزود للحج حتى لا يتكل على سؤال الناس. وقال بعض الناس : المعنى تزودوا الرفيق الصالح، وهذا تخصيص ضعيف، والأولى في معنى الآية أن يريد وتزودوا لمعادكم من الأعمال الصالحة٣١.
٢ تراجع هذه الأقوال في المحرر الوجيز (١/٥٥٢، ٥٥٣) وأحكام القرآن للجصاص (١/٣٧٣، ٣٧٤) وتفسير الطبري (٢/٣٤١، ٣٤٢) وأحكام القرآن للهراسي (١/١٠٨، ١١٠) وأحكام القرآن لابن العربي (١/١٣٢، ١٣٣) وتفسير القرطبي (٢/٤٠٥، ٤٠٦)..
٣ يراجع الموطأ ما جاء في التمتع (١/٤٦٢، ٤٦٣)..
٤ يراجع الإشراف لعبد الوهاب (١/٤٦١، ٤٦٢)..
٥ في أ "ونقص"..
٦ ديوان امرىء القيس (ص ١٣٩) وهو عجز بيت: وهل يعمن من كان أحدث عهده. وفيه وفي المحرر الوجيز "ثلاثين"..
٧ أخرجه النسائي في المناسك وفيه قصة (٥/٦٢٤ -٢٦٥) من حديث عبد الرحمان بن يعمر الديلي وأخرجه أحمد في المسند (٤/٣٠٩، ٣١٠)..
٨ قاله أبو الحسن الهراسي في أحكام القرآن (١/١٠٩)..
٩ يراجع قوله في المحلى لابن حزم (٧/٦٥ -٦٨) وما نقله المؤلف عن أحمد خلاف المعروف عنه من قوله بالكراهة يراجع تفسير القرطبي (١/٤٠٦)..
١٠ في ب "مبادئ الحج" وفي ن "بيان الحج"..
١١ هذا قول ابن عطية في المحرر الوجيز (١/٥٥٣) وهو تفسير الطبري في تفسيره (٢/٣٤٦)..
١٢ تراجع أقوالهم في تفسير الطبري (٢/٣٤٦ -٣٤٩) وأحكام القرآن للجصاص (١/٣٨٢، ٣٨٣) والمحرر الوجيز (١/٥٥٣) وأحكام القرآن لابن العربي (١/١٣٣) وتفسير القرطبي (٢/٤٠٦)..
١٣ تراجع أقوال العلماء في هذا تفسير الطبري (٢/٣٤٩ -٣٥٦) وأحكام القرآن للجصاص (١/٣٨٣ -٣٨٥) وأحكام القرآن للهراسي (١/١١٣) وأحكام القرآن لابن العربي (١/١٣٣ -١٣٥) وتفسير القرطبي (٢/٤٠٧، ٤٠٨)..
١٤ كذا في أ و ب وفي ن وعند الجصاص والطبري، وابن عطية وابن منظور: "وهن يمشين" والظاهر أنه الأصح والله أعلم..
١٥ ذكره الجصاص في أحكام القرآن (١/٣٨٣) والطبري (٢/٣٥٠) وابن عطية في المحرر الوجيز (١/٥٥٥) ولسان العرب مادة همس (٦/٤٩٦٦) وقد أورده الطبري (٢/٢٥٢) قي مكان آخر بلفظ:
خرجن يسرين بنا هميسا *** إن تصدق الطير ننك لميسا. و"ننك" بفتح الأولى وكسر الثانية.
١٦ في أ "أبو عبيد" وكذا في ن والمثبت موافق لما في المحرر الوجيز (١/٥٥٥)..
١٧ في ب "اللغو"..
١٨ هو عجز بيت صدره: ورب أسراب حجيج كظم... نسبه أن منظور للعجاج في اللسان مادة "رفث" (٣/١٦٧٦)..
١٩ ذكره ابن عطية في المحرر الوجيز (١/٥٥٥)..
٢٠ تراجع أقوال المفسرين الطبري (٢/٣٥٦ -٣٦٠) وأحكام القرآن للجصاص (١/٣٨٤، ٣٨٥) وأحكام القرآن للجصاص (١/١١٣، ١١٤) ولابن (١/١٣٤، ١٣٥) وزاد المسير لابن الجوزي (١/٢١١) وتفسير القرطبي (٢/٤٠٧، ٤٠٨) وتفسير ابن كثير (١/٢٣٨)..
٢١ أخرجه مرفوعا من حديث عبد الله بن مسعود البخاري في الإيمان (٤٨) ومسلم في الإيمان (١٦٤)..
٢٢ نقل المؤلف تفسير هذه الآية بتصرف قليل عن ابن عطية في المحرر الوجيز (١/٥٥٣ -٥٥٥)..
٢٣ وهو اختيار جل من ذكرنا من المفسرين أولهم الطبري..
٢٤ يراجع في هذا تفسير الطبري (٢/٦٦١ -٣٧٠) وأحكام القرآن للجصاص (١/٣٨٥) والمحرر الوجيز (١/٥٥٦، ٥٥٨) وأحكام القرآن لابن العربي (١/١٣٥) وتفسير القرطبي (٢/٤٠٩، ٤١٠)..
٢٥ في ب "تغيضه"..
٢٦ في أ "غدا"..
٢٧ هو الكيا الهراسي في أحكام القرآن (١/١١٤، ١١٥)..
٢٨ أخرجه من حديث أبي هريرة البخاري في الصوم (١٨٩٤) ومسلم في الصيام (١١٥١)..
٢٩ تراجع أقوال العلماء في هذه المسائل في الموطأ في الحج (١/٥١٣ -٥١٧ –بشار) والإشراف لعبد الوهاب (١/٤٨٧ -٤٨٩) وأحكام القرآن لابن العربي (١/١٣٤) والاستذكار لابنه عبد البر (١٢/٢٨٨، ٢٩٨)..
٣٠ قاله ابن عطية في المحرر الوجيز (١/٥٥٧) وقد أخرج هذا المعنى عن ابن عباس البخاري في الحج (١٥٣٣) ومن طريقه الواحدي في أسباب النزول (ص ٣٧) ويراجع تفسير الطبري (٢/٣٧٠ -٣٧٤) وأحكام القرآن لابن العربي (١/١٣٥) وتفسير القرطبي (٢/٤١٢) والعجاب في بيان لابن حجر (ص٣٠٧ -٣١١) وفتح الباري (٣/٣٨٤)..
٣١ قاله ابن عطية في المحرر الوجيز (١/٥٥٧)..
الجناح أعم من الإثم، وقد اختلفوا في سبب نزول هذه الآية١، فقال ابن عمر، وابن عباس، ومجاهد، وعطاء : إن الآية نزلت لأن العرب تحرجت لما جاء الإسلام أن يحضروا أسواق الجاهلية كعكاظ، وذي المجاز، فأباح الله تعالى ذلك : لا درك في أن تتجروا، وتطلبوا الربح. وقال مجاهد : كان بعض العرب لا يتجرون مذ يحرمون، فنزلت الآية في إباحة ذلك. وقال ابن عمر تأويلا لهذه الآية : فمن اكترى للحج فحجه تام ولا حرج في ابتغاء الكراء٢. وقد اختلف في جواز الإجارة٣ في الحج فمنعها أبو حنيفة وجوزها الشافعي، وكرهها مالك ابتداء فإن وقعت جازت، وتأويل ابن عمر لهذه الآي يعضد قول من أجازه.
١٩٨- قوله تعالى :( فإذا أفضتم من عرفات ) |البقرة : ١٩٨|.
فيه دليل على أنه قد أمرهم بالوقوف بعرفة٤، قبل إفاضتهم منها، غير أنه تعالى لم يذكر وقت الوقوف، ولا وقت الإفاضة، وبينه صلى الله عليه وسلم بفعله، فوقف بها إلى أن غربت الشمس، ثم دفع فجمع بين الليل والنهار.
وأجمعوا على أن سنة الوقوف كذلك. وجماعة العلماء يقولون إن من وقف بعرفة ليلا أو نهارا بعد زوال الشمس من يوم عرفة، فقد أدرك الحج إلا مالك بن أنس رحمه الله تعالى فإنه يقول : إن وقف بعد الغروب، ولم يطف بها من النهار شيئا أجزأ عنه، وإن وقف بها قبل الغروب ودفع قبل الغروب فلا حج له، فالفرض على مذهبه الوقوف بالليل دون النهار٥. وعند سائر العلماء الليل والنهار سواء إذا كان بعد الزوال. واحتجوا بحديث عروة بن مضرس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من أدرك معنا الصلاة وأتى عرفات ليلا أو نهارا، فقد تم حجه، وقضى تفثه " ٦ واحتجوا أيضا بإطلاق بعض أصحاب مالك حديث عروة، على أن " أو " فيه بمعنى الواو، وبينوا حجة مالك بما يوقف عليه من مواضعه إن شاء الله تعالى. ومعنى ( أفضتم ) دفعتم، يقال : أفاض القوم إذا اندفعوا جملة، واختلفوا في سير الإفاضة كيف يكون فذهب جماعة إلى أنه العنق دون الإيضاع، وذهب آخرون إلى أنه الإيضاع دون العنق٧، ورووا٨ عن عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- أنه قال : أيها الناس أوضعوا. ورووا الأولون عن بعضهم أنه قال : شهدت الإفاضتين مع عمر جميعا ما نزيد على العنق لم يوضع في واحدة منهما. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أنه كان سيره العنق " ٩ و الإيضاع في السير أرفع من العنق والآية محتملة لكل القولين.
١٩٨- قوله تعالى :( فاذكروا الله عند المشعر الحرام ) |البقرة : ١٩٨|.
المشعر الحرام جمع كله، وهو ما بين جبلي المزدلفة من حد مفضي مأزمي عرفة إلى بطن محسر قال ذلك ابن عباس –رضي الله عنه-، وابن جبير، والربيع، وابن عمر، ومجاهد١٠، فهي كلها مشعر، إلا بطن محسر كما أن عرفة كلها موقف إلا بطن عرنة١١. بضم الراء وفتحها، روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " عرنة كلها موقف والمزدلفة كلها مشعر، ألا وارتفعوا عن بطن محسر " ١٢.
وذكر الله تعالى عند المشعر الحرام مندوب إليه لقوله تعالى :( واذكروا الله )١٣ وقال الطحاوي١٤ : ذهب قوم إلى أن الوقوف بالمزدلفة فرض لا يجوز الحج إلا بإصابته، واحتجوا في ذلك١٥ بقوله تعالى :( فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام ) فذكر المسجد الحرام كما ذكر عرفات، وذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث عروة بن مضرس، فحكمها واحد لا يجوز الحج إلا بإصابتها. قال ابن المنذر : وهذا قول علقمة، والشعبي، والنخعي، قالوا : من لم يقف بجمع، فقد فاته الحج، ويجعل إحرامه عمرة١٦. قال الطحاوي : والحجة عليهم أن قوله تعالى :( فاذكروا الله عند المشعر الحرام ) ليس فيه دليل أن ذلك على الوجوب لأن الله تعالى إنما ذكر الذكر، ولم يذكر الوقوف، وكل قد أجمع أنه لو وقف بالمزدلفة ولم يذكر الله أن حجه تام، فإذا كان الذكر المذكور في١٧ الكتاب ليس فرضا في الحج فالموطن الذي لم يذكر فيه أحرى ألا يكون فرضا١٨. وهذا القول الذي رده الطحاوي وهو قول ابن الماجشون وقد تقدم ذكره ومذهب مالك وأكثر أصحابه، وغيرهم أن ذلك من سنن الحج، وليس من واجباته ورأوا أن الآية لا تدل على الوجوب.
واختلفوا فيمن مر بها فلم ينزل، فرأى مالك عليه دما، وإن نزل، ثم دفع بعد النزول فلا دم عليه، وإن كان دفعه أول النهار أو وسطه أو آخره. ورأى الشافعي إن خرج منها قبل نصف الليل فعليه دم، وإن كان بعد نصف الليل فلا شيء عليه. وقال أبو حنيفة وأصحابه وغيرهم إن لم يبت بها، ولم يقف بالمشعر الحرام إهراق دما١٩.
٢ ذكر أغلب هذا ابن عطية في المحرر الوجيز (١/٥٥٨) ويراجع أحكام القرآن للجصاص (١/٣٨٦) وللهراسي (١/١١٤)..
٣ يراجع الإشراف لعبد الوهاب (١/٤٥٩)..
٤ يراجع لأقوال الفقهاء أحكام القرآن للجصاص (١/٣٨٦ -٣٩٠) وأحكام القرآن للهراسي (١/١١٥ -١١٨) والإشراف لعبد الوهاب (١/٤٨٢، ٤٨٣) والاستذكار لابن عبد البر (١٣/٦٢ -٤٧) وقال فيه: "والسنة أن يقف كما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم نهارا يتصل له بالليل" وتفسير القرطبي '٢/٤١٤ -٤٢١)..
٥ يراجع الموطأ في كتاب الحج (١/٥٢١ -٥٢٤)..
٦ أخرجه أبو داود (١٩٥٠) والترمذي (٨٩١) والنسائي (٥/٢٦٣) وابن خزيمة (٢٨٢٠) و (٢٨٢١) وقال الترمذي: "حسن صحيح" وصححه غير واحد منهم ابن عبد البر في الاستذكار (١٣/٣٠)..
٧ يراجع كلام عياض في المشارق (١/٩٢) و (٢/٢٩٠)..
٨ في ن "وروي"..
٩ أخرجه عن أسامة بن زيد البخاري في الحج (١٦٦٦) ومسلم في الحج (١٢٨٦)..
١٠ يراجع لهذا تفسير الطبري (٢/٣٨٢ -٣٨٧) وأحكام القرآن للجصاص (١/٣٩٠ -٣٩٣) وأحكام القرآن للهراسي (١/١١٨ -١٢٠) وأحكام القرآن لابن العربي (١/١٣٧، ١٣٨) وتفسير القرطبي (٢/٤٢١ -٤٢٧) وتفسير ابن كثير (١/٢٤٠ -٢٤٣)..
١١ أخرجه مسلم في الحج (١٢١٨) من حديث جابر الطويل وعن علي وأبو داود (١٩٢٢) و (١٩٣٥) والترمذي (٨٨٥) وابن الجارود (٤٧١) وابن ماجه (٣٠١٠)..
١٢ هذا والذي فبله ذكرهما ابن عطية في المحرر الوجيز (١/٥٥٩، ٥٦٠)..
١٣ يراجع شرح معاني الآثار (٢/٢٠٨، ٢٠٩)..
١٤ في ب "لذلك" وكذا في ن..
١٥ في ب "لذلك" والمثبت موافق لما عند الطحاوي..
١٦ ذكر ذلك ابن عبد البر في الاستذكار (١٣/٣٥، ٣٦) وابن حزم في المحلى (٧/١٣١)..
١٧ في أ و ب في "هذه الليلة" والتصحيح من كتاب الطحاوي. وفي ن "في هذا الكتاب"..
١٨ إلى هنا انتهى كلام الطحاوي..
١٩ يراجع الاستذكار (١٣/٣٥ -٤٧) وشرح معاني الآثار للطحاوي (٢/٢٠٧ -٢١١)..
اختلفوا في المخاطبين بهذه الآية١، أجميع الأمة هم أم الحمس ؟ فقال ابن عباس، وعائشة، وعطاء، ومجاهد، وغيرهم المخاطب بها قريش ومن ولدت وهم الحمس، وذلك أنهم كانوا يقولون نحن قطين٢ الله فينبغي لنا أن نعظم الحرم، ولا نعظم شيئا من الحل. فسنوا شق الثياب في الطواف إلى غير ذلك. وكانوا مع معرفتهم وإقرارهم أن عرفة هي موقف إبراهيم لا يخرجون من الحرم ويقفون بجمع ويفيضون منه، ويقف الناس بعرفة، فقيل لهم أن يفيضوا مع الناس. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحمس، ولكنه كان يقف مذ كان بعرفة هداية من الله له٣.
والناس على هذا التأويل من سوى الحمس. وقال الضحاك : المخاطب بها جملة الأمة والمراد بالناس إبراهيم –عليه السلام- كما قال الله تعالى :( الذين قال لهم الناس ) |آل عمران : ١٧٣| وهو يريد واحدا، وهذا الواحد، هو نعيم بن مسعود الأشجعي، وكان بعث به سفيان يخوف المسلمين بجمعهم، ويحتمل بهذا أن يؤمروا بالإفاضة من عرفة، ويحتمل أن تكون إفاضة أخرى وهي التي من المزدلفة، فإذا جعلنا قوله تعالى :( ثم أفيضوا ) أمرا بالإفاضة من عرفة فيحتاج إلى تقدير. وقد اختلف الناس في تقديره فقال بعضهم :( ثم ) ليست في هذه الآية للترتيب، وإنما هي لعطف جملة كلام على جملة كلام هي منقطعة منها. وقال بعضهم :( ثم ) بمعنى الواو٤. وقال الطبري٥ : في الكلام تقديم وتأخير، التقدير، فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ( ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم ) ( وما تفعلوا من خير يعلمه الله ) إلى قوله :( فاذكروا الله عند المشعر الحرام ) واحتيج إلى هذا التقدير لأن الإفاضة من عرفات قبل المجيء إلى المشعر الحرام. وإذا قلنا أن المراد بذلك إفاضة أخرى من المزدلفة، وقد قيل ذلك، وهو الذي عول عليه الطبري فثم على بابها٦.
٢ في ب "نطيع" والمثبت موافق لما في المحرر الوجيز(١/٥٦١). في جمهرة اللغة: قطين فلان أي حشمه..
٣ قاله ابن عطية في المحرر الوجيز (١/٥٦١)..
٤ هذا معنى كلام الكيا الهراسي في أحكام القرآن (١/١١٥، ١١٦) وأصله للجصاص في أحكامه (١/٣٨٧، ٣٨٨) والهراسي ينقل عنه أحيانا بالحرف ولا يسميه..
٥ يراجع جامع البيان (٢/٣٩١)..
٦ يراجع المحرر الوجيز (١/٥٦٢)..
قال ابن عباس١ كانت العرب إذا قضت مناسكها وأقاموا بمنى يقوم الرجل فيقول : اللهم إن أبي كان عظيم الجفنة، عظيم القبة، كثير المال، فأعطني مثلما أعطيت لأبي ؛ فنزلت الآية وأمروا بذكر الله عوضا من٢ ذلك.
ويحتمل أن يريد الأذكار التي في خلال المناسك، فيكون كما تقول للرجل : إذا حججت فطف بالبيت، وإذا صليت فتوضأ، وكقوله تعالى :( إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ) |الطلاق : ١| فأمر العدة مأمور به قبل الطلاق٣.
٢ في ب "عن"..
٣ هذا معنى كلام الجصاص في أحكام القرآن (١/٣٩٣) وعنه الهراسي في أحكامه (١/١١٩، ١٢٠)..
الأيام المعدودات الثلاثة التي بعد يوم النحر، وهي أيام التشريق، وليس يوم النحر من " المعدودات "، و " المعلومات " يوم النحر ويومان بعده، فيوم النحر معلوم غير معدود، واليوم الرابع ليوم النحر معدود غير معلوم، واليومان اللذان بعده معلومان معدودان، هكذا روى نافع عن ابن عمر، وهو قول مالك وغيره٢.
وقال ابن عباس وغيره : " المعدودات " العشر، و " المعلومات " أيام النحر. وقال زيد بن أسلم : " الأيام المعلومات " يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق، و " المعلومات " فقالا مرة مثل قول مالك، وقالا مرة : هي العشر آخرها يوم النحر٣. وقال ابن زيد : " المعلومات " عشر ذي الحجة، وأيام التشريق.
ففي " المعدودات " قولان :
أحدهما : أنها ثلاثة أيام بعد يوم النحر.
والثاني : أنها أيام العشر.
وفي المعلومات أربعة أقوال :
أحدها : أنها يوم النحر ويومان بعده.
والثاني : أنها يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق.
والثالث : أنها أيام العشر وآخرها يوم النحر.
والرابع : أنها عشر ذي الحجة وأيام التشريق٤. وروي عن أبي يوسف أنه ذهب إلى أن المعلومات أيام النحر٥. وقال : إليه أذهب لأنه تعالى قال حين ذكرها :( على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ) |الحج : ٢٨|.
قال أبو الحسن : هذا الاحتجاج لا يصح، لأن في العشر يوم النحر، وفيه الذبح، قال : ولا يشك أحد أن المعدودات لا تتناول أيام العشر لأن الله تعالى يقول :( فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ) |البقرة : ٢٠٣| وليس في العشر حكم يتعلق بيومين دون الثالث٦.
وهذا الذي قاله أبو الحسن من رفع الشك فيما ذكر فيه نظر. كيف يزول الشك، والآية محتملة ؟ إذ يحتمل قوله تعالى :( فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ) أن يكون ذكر حكم الرمي بعد حكم الذكر لأن الرمي في أيام الذكر فالاحتمال ظاهر. وأظهر الأقوال على ألفاظ الآيتين قول مالك رحمه الله، ومن تابعه.
والأمر بذكر الله عز وجل في الأيام المعدودات، عند أكثر الفقهاء، يراد به التكبير عند رمي الجمار، وفي أدبار الصلوات.
وقد اختلفوا في مدة التكبير٧ :
فقال مالك وأصحابه : يبدأ عقيب الظهر من يوم النحر، ويقطع عقيب الصبح يوم رابع النحر، وجملته خمسة عشر صلاة. وهذا قول ابن عمر، وغيره من الصحابة.
وقال يحيى بن سعيد : يكبر من صلاة الظهر يوم النحر إلى الظهر من آخر أيام التشريق، قال بعضهم : وبه قال الشافعي.
وقول مالك هو الظاهر من أقوال الشافعي، وقد قال إنه الظهر من يوم النحر، ويقطع بعد العصر من آخر أيام التشريق. وقال أيضا يبدأ ليلة النحر بعد الغروب، ويقطع في العصر.
فحصل للشافعي أربعة أقوال.
وقال عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب، وابن عباس : يكبر في صلاة الصبح من يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق.
وقال ابن مسعود وأبو حنيفة : يكبر من غداة عرفة إلى صلاة العصر من يوم النحر. وقال سعيد بن جبير : يكبر من الظهر من يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق.
وقال الحسن بن أبي الحسن : يكبر في صلاة الظهر من يوم النحر إلى صلاة الظهر من يوم النفر الأول.
وقال أبو وائل يكبر في صلاة الظهر يوم عرفة إلى صلاة الظهر يوم النحر.
ودليل قول مالك، ومن تابعه قوله تعالى :( فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله ) والفاء للتعقيب، فأول صلاة تلي قضاء النسك صلاة الظهر يوم النحر. وذلك أنهم يرمون الجمرة، ويطوفون طواف الإفاضة.
وفي يوم عرفة لم يقض منها٨ شيئا. والتكبير في أدبار الصلوات لكل أحد، من مسافر وحاضر وامرأة وحر وعبد منفردين أو في جماعة خلافا لأبي حنيفة في قوله : ولا يكبر مسافر ولا امرأة ولا منفرد. ودليل أهل المذهب قوله تعالى :( فإذا قضيتم مناسككم ) وقوله :( واذكروا الله في أيام معدودات ) فعم٩.
ولا يكبر في أعقاب النوافل على الأشهر من قول مالك١٠.
وقال الشافعي : إنه يكبر في أعقابها. وقد روى الواقدي مثل هذا القول عن مالك. والحجة لهذا القول عموم الآيتين. وحجة القول الأول أنها صلاة نفل كسجود القرآن.
٢٠٣- وقوله تعالى :( فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ) |البقرة : ٢٠٣|الآية : يعني بهذا في رمي الجمار سبعون حصاة، سبعة منها بجمرة العقبة يوم النحر، وثلاثة وستون بأيام منى، وهي الأيام المعلومات ثلاثة أيام بعد يوم النحر، كل يوم ثلاثة جمرات كل جمرة بسبع حصيات فيأتي كل يوم إحدى وعشرون حصاة فيأتي في مجموعها ثلاثة وستون، وهذا إن لم يعجل ومن تعجل أسقط منها إحدى وعشرين حصاة بثلاثة جمرات، وهي لليوم الذي يتعجل عن الرمي فيه فيأتي رميه تسعا وأربعين واليوم الذي يتعجل عن الرمي فيه، هو اليوم الآخر من أيام التشريق، وهو الرابع ليوم النحر، لأن التعجيل إنما يأتي في اليوم الثاني من منى، وهو اليوم الثالث ليوم النحر. وقد أباح الله ذلك بهذه الآية، وبهذا قال مالك وابن مواز١١ من أصحابه.
وأما ابن حبيب فقال : إن سنة التعجيل أن يرمي في اليوم الثاني من أيام منى، وهو الثالث ليوم النحر إحدى وعشرين حصاة كيومه ذلك، ثم يرجع من فوره ذلك فيرمي ذلك أيضا إحدى وعشرين حصاة عن اليوم الثالث في أيام منى، وهو اليوم الرابع ليوم النحر، ثم ينفر لوجهه صادرا حتى يأتي مكة. وبهذا قال ابن شهاب، فيكون رمي التعجيل على هذا القول سبعين حصاة كرمي غير التعجيل.
قال ابن عباس، والحسن، وعكرمة، ومجاهد : معنى الآية في قوله تعالى :( فلا إثم عليه ) أن ذلك كان مباحا وعبر عنه بهذا التقسيم اهتماما وتأكيدا إذ كان من العرب من يذم التعجيل وبالعكس، فنزلت الآية رافعة للجناح في ذلك١٢.
وذهب بعضهم إلى أن معنى قوله :( فلا إثم عليه ) أنه إن أثم بما سلف من ذنوبه فقد سقط عنه، ولم يبق عليه منها شيء، وهو قول ابن عمر وابن عباس أيضا وغيرهما من الصحابة١٣.
وقال بمثل ذلك جماعة من التابعين قال : وقال بعض التابعين الإثم عليه في تعجيله، وهو خطأ لأنه لو كان المتعجل وضع عنه الإثم لتعجله لما أعيد ذكر ذلك في المتأخر لأن المتأخر قد بلغ أقصى ما حد له. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يشهد لهذا التأويل قال : " من حج فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كما ولدته أمه " ١٤.
واختلفوا فيمن أبيح له التعجيل، فذهب بعض العلماء إنما أبيح لمن بعد قطره، لا للمكي والقريب، إلا أن يكون له عذر. وذهب بعضهم إلى أن الناس كلهم مباح لهم ذلك. وقد جاء عن مالك في أهل مكة الروايتان، والأول هو الأشهر من قول مالك. والثاني قول عطاء وغيره١٥. وروي عن عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- أنه يباح النفر الأول لجميع الناس إلا آل خزيمة. قال ابن حنبل، وإسحاق : لأنهم آل حرم. وحجة من رأى ذلك لجميع الناس قوله تعالى :( فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ) الآية. فعم ولم يخص مكيا من غيره. وأكثر أهل المذهب كما قلنا أنه يسقط رمي الجمرة الثالثة عمن تعجل. وقال ابن أبي زمنين : يرميها في يوم النفر الأول حين يريد التعجيل١٦. وهذا القول مما يمكن أن تتأول عليه الآية فيكون التعجيل أن يصنع في يومين ما يصنع في الأيام الثلاثة وهذا لعمري تأويل ظاهر.
٢ في الموطأ في الحج (١/٥٤٠، ٥٤١) قال ابن عبد البر: "فذلك إجماع لا خلاف فيه" الاستذكار (١٣/١٧٤)..
٣ قول أبي حنيفة والشافعي ذكرهما الجصاص في أحكام القرآن (١/٣٩٤، ٣٩٥) والهراسي في أحكام القرآن (١/١٢٠، ١٢١)..
٤ يراجع كلام ابن العربي في أحكام القرآن (١/١٤٠، ١٤٣)..
٥ ذكره الجصاص في أحكام القرآن (١/٣٩٤)..
٦ أحكام القرآن للكيا الهراسي (١/١٢١)..
٧ يراجع لهذا الموطأ في الحج (١/٥٤٠) والإشراف لعبد الوهاب (١/٣٤٧، ٣٤٨) والاستذكار لابن عبد البر (١٣/١٧٢- ١٧٣) والمحرر الوجيز لابن عطية (٢/٣ -٧) وتفسير القرطبي (٣/٤)..
٨ في أ "منه"..
٩ قارن بكلام عبد الوهاب في الإشراف (١/٣٤٨/ رقم ٤٤٦)..
١٠ يراجع المصدر السابق (١/٣٤٨/ رقم ٤٤٧)..
١١ يراجع قول ابن المواز في المحرر الوجيز (٢/٩)..
١٢ قاله ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/٧) وفيه "المتعجل"..
١٣ يراجع أقوال العلماء في تفسير الطبري (٢/٤٠٦ -٤١٥) وأحكام القرآن للجصاص (١/٣٩٣ -٣٩٣) وتفسير القرطبي (٣/١ -٣)..
١٤ أخرجه عن أبي هريرة البخاري في الحج (١٥٢١) ومسلم في الحج (١٣٥٠)..
١٥ يراجع المحرر الوجيز (٢/٧)..
١٦ نقله ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/٩) ويراجع تفسير القرطبي (٣/٤ -١٤)..
اختلفوا١ في هذه الآية :
فقال قوم هي في الزكاة المفروضة. وقال قوم ليست في الزكاة المفروضة. فمن قال إنها في الزكاة المفروضة قال إنه نسخ منها الوالدان ومن جرى مجراهما٢ من الأقربين. وقد نسب هذا إلى السدي٣، وهذا على قول من لا يرى إعطاء الوالدين من الزكاة المفروضة، فأما على قول من يجيز ذلك فلا يصح النسخ.
والذين قالوا إنها ليست في الزكاة المفروضة، اختلفوا هل هي منسوخة أو لا ؟ فذهب بعضهم إلى أنها نزلت قبل فرض الزكاة ثم نسختها الزكاة المفروضة وهذا منسوب إلى السدي أيضا.
وذهب بعضهم إلى أن هذا الإنفاق مندوب إليه، وأنه غير الزكاة المفروضة وهو باق لا نسخ فيه قول ابن جريح وغيره٤.
٢ في ب "مجريهما".
٣ قال ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/٤٢): "ووهم المهدوي على السدي في هذا"..
٤ يراجع في المحرر الوجيز (٢/٤٢، ٤٣) وتفسير الطبري (٢/٤٥٥ -٤٥٧)..
اختلف في١ هذه الآية هل هي منسوخة أم لا ؟ فقيل إن الجهاد كان فرضا على الأعيان بهذه الآية وما أشبهها، ثم نسخ بأن صير فرضا على الكفاية لقوله تعالى :( وما كان المؤمنون لينفروا كافة ) |التوبة : ١٢٢|.
وقيل : إن فرضه إنما كان على الكفاية، ولم يزل كذلك، والآية ليست منسوخة.
وذهب بعضهم إلى أنها ناسخة لكل رخصة في الجهاد قالوا : فصار فرضا إلا أنه يحمله بعض الناس على بعض وأن احتيج إلى الجماعة وجب عليهم الخروج، ومثله في قيام بعض المسلمين عن بعض في الصلاة على الجنائز، وعيادة المرضى، ورد السلام، وتشميت العاطس ونحوه.
وذهب بعضهم إلى أن المراد الأعيان، لكن ذلك على طريق الندب لا على طريق الإيجاب. وهذا قول ضعيف، لأن قوله تعالى :( كتب ) إنما معناه فرض، فهذا نص في الإيجاب فأي طريق للندب هنا.
وقال الثوري : إن الجهاد تطوع، وهذا خلاف لظاهر الآية إن حمل على ظاهره، والإجماع على أن الجهاد فرض كفاية، يتأول على أن ذلك إنما هو إذا أقيم بالجهاد٢.
وقوله تعالى :( القتال ) لم يبين فيه من المقاتلون من الأنام، فيحتمل أن يقال هذا من المجمل الذي هو موقوف على بيان المنتظر لامتناع قتال٣ الناس كلهم٤. ويحتمل أن يقال إنه لفظ عام مبين بفعل النبي –عليه الصلاة والسلام-.
٢ يراجع كلام ابن عطية في المحرر الوجيز (١/٤٣)..
٣ في ب و ن "قتل"..
٤ قاله أبو الحسن الكيا الهراسي (١/١٢٣)..
سبب هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية عليها عبيد الله بن جحش الأسدي مقدمه من بدر الأولى، فلقوا عمرو بن الحضرمي ومعه أصحاب له، وذلك في آخر يوم من رجب، وقيل في آخر ليلة من رجب، فقتل عمرو بن الحضرمي، وأسر بعض أصحاب له١ والمسلمون يظنون أنهم في جمادى٢، ولم يقصدوا القتل في الشهر الحرام.
وأما ابن إسحاق٣، فقال : استحل المسلمون هذا في الشهر الحرام خوف فوتهم، فقالت قريش : محمد قد استحل الأشهر الحرام، وعيروه وبذلك توقف النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " ما أمرتهم بقتال في الأشهر الحرم " فنزلت هذه الآية.
وذكر بعض المفسرين أن سبب هذه الآية غير هذا، وذلك أن رجلين من بني كلاب لقيا عمرو بن أمية الضمري وهو لا يعلم أنهما كانا من عند النبي صلى الله عليه وسلم وذلك في أول يوم من رجب فقتلهما، فقالت قريش قتلهما في الشهر الحرام فنزلت الآية، والقول الأول أشهر٤. وذكر الصاحب بن عباد في " رسالته الأسدية " أن عبد الله بن جحش سمي أمير المؤمنين من ذلك الوقت لكونه مؤمرا على جماعة المؤمنين٥.
٢١٧- وقوله تعالى :( الشهر الحرام ) |البقرة : ٢١٧|.
الشهر هنا اسم جنس٦، وإنما أريد٧ به الأشهر الحرم، وهي أربعة. وقد اختلف الناس هل هي من سنة واحدة، أو من سنتين ؟ فالذين جعلوها من سنة واحدة جعلوا أولها المحرم، ثم رجب، وذا القعدة، وذا الحجة، وهذا مذهب الكوفيين، والذين جعلوها في سنتين اختلفوا في ترتيبها. فذهب أهل المدينة إلى أن أولها ذو القعدة، ثم ذو الحجة، ثم المحرم، ثم رجب. وذهب بعضهم إلى أن أولها رجب، ثم ذو القعدة، ثم ذو الحجة، ثم المحرم، وكانت العرب قد جعلت لها الشهور الحرام قواما تعتدل عنده، فكانت لا تسفك فيهن دما، ولا تغير فيهن. وروى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم : لم يكن يغزو فيها إلا أن يغزى٨. فذلك قوله تعالى :( قتال فيه كبير وصد ) |البقرة : ٢١٧|.
مبتدأ مقطوع بما قبله. والخبر " أكبر " ٩. والمسجد معطوف على " سبيل الله " وقال الفراء : " صد " عطف على " كبير " والأول هو الصحيح١٠.
واختلفوا في قوله تعالى :( قل قتال فيه كبير ) هل هو منسوخ أم لا ؟ فذهب ابن عباس، ومجاهد، والزهري، وغيرهم من العلماء إلى أنه منسوخ بقوله تعالى :( وقاتلوا المشركين كافة ) |التوبة : ٣٦| وبقوله :( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) |التوبة : ٥|. قالوا فقتال المشركين في الأشهر الحرم مباح. وذهب عطاء إلى أن الآية محكمة وأنه لا يجوز قتال المشركين في الأشهر الحرم البتة، وذكر عنه أنه كان يحلف على ذلك١١. وفي هذا النسخ نظر لأن قوله تعالى :( وقاتلوا المشركين كافة ) بعد قوله :( قل قتال فيه كثير ) عموم بعد خصوص، وكذلك قالوا في منع القتال في البلد الحرام إنه منسوخ بقوله تعالى :( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) وهو عموم بعد خصوص. وقد اختلف الأصوليون في مثل هذا هل يكون نسخا أو لا١٢ ؟ والأرجح أنه ليس بنسخ. وأما إن فهم من العموم أن المراد به العموم، فهو نسخ بلا خلاف وذلك إذا خرج على سبب فهو نص في موضع السبب١٣.
٢١٧- وقوله تعالى :( يسألونك ) |البقرة : ٢١٧|.
قيل : السائلون المسلمون، وقيل : الكفار، وأحسن ما قيل في ذلك إنما نزلت على سبب كما قدمنا١٤.
٢١٧- قوله تعالى :( ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر ) |البقرة : ٢١٧|.
اختلفوا في المرتد هل يستتاب أم لا ؟ فذهب مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، إلى أنه يستتاب١٥.
وذهب أبو موسى الأشعري، ومعاذ بن جبل وغيرهما إلى أنه لا يستتاب. وروي عن عطاء أنه إن كان مسلما ولد في الإسلام، ثم ارتد لم يستتب، ويقتل، وإن كان أصله مشركا ثم أسلم، ثم ارتد فإنه يستتاب١٦. والدليل على قول من قال يستتاب، قوله تعالى :( قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ) |الأنفال : ٣٨| وإن تاب دون أن يستتاب صحت توبته خلافا لمن قال : لا تقبل توبته.
ويقوم من هذه الآية على قول من قال بدليل الخطاب أنه تقبل، لأن قوله وهو كافر يدل على أنه قد يموت وهو غير كافر، أي وهو مسلم فإذا صح منه الإسلام فلم لا تقبل توبته ؟ ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى :( وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ) الآية |الشورى : ٢٦| وقوله :( قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ) |الأنفال : ٣٨| وظاهر المذهب أن عرض الاستتابة على المرتد واجب.
وقال أبو حنيفة : لا يجب، وهو أحد قولي الشافعي. ومما يحتج به لأهل المذهب في ذلك قوله تعالى :( قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ) |الأنفال : ٣٨| فأمر نبيه –عليه السلام- أن يعرض عليهم الإسلام ؛ والأمر على الوجوب على أكثر أقوال الفقهاء١٧.
واختلف القائلون في الاستتابة، فقال عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- : يستتاب ثلاثة أيام، وبه قال مالك وأحمد، وإسحاق، وأصحاب الرأي، والشافعي في أحد قوليه١٨. وقيل يستتاب شهرا. يروى عن علي أنه استتاب مرتدا شهرا، فأبى فقتله، وقال النخعي والثوري : يستتاب محبوسا أبدا. وقال الحسن –رضي الله عنه- : يستتاب مرة واحدة. وقال الزهري : يدعى إلى الإسلام فإن تاب وإلا قتل. وإلى نحو هذا ذهب١٩ الشافعي في أحد قوليه٢٠. فقال : يستتاب في الحال ولا حجة لمن حد في ذلك حدا في شيء من هذه الآية والظاهر من الآية أن لا حد في ذلك. وعن مالك في تحديده ثلاثة أيام روايتان، إحداهما : أن ذلك واجب، والأخرى : أنه مستحب. ووجه الوجوب الإتباع لما جاء عن عمر، ووجه الاستحباب مراعاة ظواهر الآي في عدم التحديد ومراعاة قول عمر أيضا. وقد قال ابن المنذر : أنه اختلفت الآثار عن عمر في هذا الباب٢١.
واختلفوا في ميراث المرتد إذا مات على ردته. فقال علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- والحسن، والشعبي، والحكم، والليث، وأبو حنيفة، وإسحاق بن راهويه : ميراثه لورثته المسلمين. وقال عمر بن عبد العزيز وقتادة : ميراثه لورثته من الكفار. وروي عن عمر بن عبد العزيز خلافه. وهذا القول شاذ. وقال مالك، وربيعة، وابن أبي ليلى، والشافعي، وأبو ثور : ميراثه لبيت المال لا لورثته المسلمين، ولا لورثته الكفار٢٢.
وقال آخرون : وأما كسبه في حال إسلامه فلورثته المسلمين، وأما كسبه في ردته فلبيت المال.
وحجة القول الشاذ من هذه الأقوال هي أن الله قد سماه كافرا. والكفار يرث بعضهم بعضا. وهذا من جملة الكفار، فيرثهم ويرثونه.
ووجه القول المشهور مراعاة حكم الأصل الذي هو الإسلام. وقد ثبت به لمسلمي الورثة حق لا يبطله٢٣ الارتداد٢٤. واختلف في المرتد إذا رجع للإسلام. وقد كان ضيع من فرائضه شيئا قبل ارتداده وكانت عليه نذور وأيمان وشبه ذلك، فقيل : لا شيء عليه في شيء من ذلك، وإن كان حج حجة الإسلام استأنفها. قال : ولا يؤاخذ بما كان عليه من الارتداد، إلا بما لو فعله وهو كافر أخذ به، وإن زنى بعد أن أسلم وكان أحصن، قيل : لم يرجم، وهو قول مالك ؛ فجعل حكمه في ذلك كله حكم من لم يزل كافرا أخذا بظاهر قوله تعالى :( لئن أشركت ليحبطن عملك ) ٢٥ |الزمر : ٦٥|.
وقال غيره : إن راجع الإسلام كان بمنزلة من لم يرتد له، وعليه فإن كان ضيع فرضا قضاه ولا يقضي حجة الإسلام إن كان قد حج، واحتج بقوله تعالى :( ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم ) الآية |البقرة : ٢١٧| وهذا صواب لأنها آية مقيدة تقضي على المطلقة، ولقول الله سبحانه :( قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ) |الأنفال : ٣٨| فإذا غفر الكفر الذي كفروا بعد الإسلام، سقط حكم ذلك الكفر وبقي على أحكام الإسلام كما كان قبل. وكذلك اختلفوا٢٦ هل ينتقض وضوء المرتد أم لا ؟
٢ أخرجه الطبري في تفسيره (٢/٤٦٤ -٤٦٥). موصولا وعلقه البخاري في صحيحه (١/١٥٣، ١٥٤) وصححه الحافظ بمجموع الطرق في الفتح (١/١٥٥) وتوسع في الكلام على هذا في العجاب في بيان الأسباب (ص ٣٤٧ -٣٥٤)..
٣ سيرة ابن هشام (٢/٢٥٢ -٢٥٤) ومن طريقه الطبري في تفسيره (٢/٤٦٢، ٤٦٣) وصححه الحافظ ابن حجر في الفتح (١/١٥٥)..
٤ نسبه ابن عطية للمهدوي وقال: "وهذا تخليط من المهدوي" كما في المحرر الوجيز (٢/٤٥)..
٥ ذكره ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/٤٦)..
٦ يراجع المحرر الوجيز (٢/٤٦)..
٧ في ب "أراد"..
٨ أخرجه أحمد في المسند (٣/٣٣٤، ٣٤٥) والطبري في تفسيره (٢/٤٦٠، ٤٦١) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (٦/٦٩): "رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح"..
٩ حقق الإمام الطبري في بيان هذه الآية من جهة اللغة في تفسيره (٢/٤٦٨، ٤٦٩)..
١٠ قلد المؤلف رحمه الله ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/٤٧) وخطؤوه في ذلك. يراجع تفسير القرطبي (٣/٤٥)..
١١ يراجع في هذا المحرر الوجيز (٢/٤٨) وتفسير الطبري (٢/٤٦٩) وأحكام القرآن للجصاص (١/٤٠٥، ٤٠٢) وأحكام القرآن لابن العربي (١/١٤٧)..
١٢ يراجع أحكام الفصول للباجي (ص ٢٥٢) والمستصفى للغزالي (٣/٣٢٢، ٣٢٣)..
١٣ هذا معنى كلام الهراسي في أحكام القرآن (١/١٢٣، ١٢٤)..
١٤ راجع في هذا تفسير الطبري (٢/٤٦١) وأحكام القرآن للهراسي (١/١٢٣، ١٢٤)..
١٥ يراجع الموطأ، كتاب الأقضية (٢/٢٨٠) والأم للشافعي (٦/١٤٨) وشرح معاني الآثار للطحاوي (٣/٢١٠)..
١٦ يراجع المحرر الوجيز لابن عطية (٢/٤٠)..
١٧ تراجع هذه الأقوال في الإشراف لعبد الوهاب (٢/٨٤٨) والاستذكار لابن عبد البر (٢٢/١٣٥ -١٤٥)..
١٨ يراجع لهذا الاستذكار (٢٢/١٤٦ -١٤٨) والأم للشافعي (٦/١٤٨)..
١٩ في ن "والى هذا النحو يذهب.."..
٢٠ قاله ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/٥٠)..
٢١ يراجع المحرر الوجيز لابن عطية (٢/٥٠)..
٢٢ قاله ابن عطية في المصدر السابق (٢/٥٠)..
٢٣ في ب "لا يسقطه"..
٢٤ تراجع أقوال الفقهاء وحججهم في الإشراف لعبد الوهاب (٢/٨٤٩) والاستذكار لابن عبد البر (١٥/٤٩٢، ٤٩٣)..
٢٥ يراجع الإشراف لعبد الوهاب (٢/٨٤٨)..
٢٦ في أ "يختلف"..
اختلف الناس في هذه الآية١، هل هي ناسخة أو منسوخة ؟ فذهب قوم إلى أنها ناسخة لما كان مباحا من شرب الخمر، قالوا : لأنه أخبر بأن فيها إثما، والإثم محرم ركوبه.
وقال بعضهم : أخبر تعالى هنا أن فيها إثما، ثم قال في سورة الأعراف :( قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي ) |الأعراف : ٣٣| والآيتان محرمتان للخمر. وقال آخرون : هي منسوخة، لتحريم الخمر في قوله عز وجل :( فاجتنبوه لعلكم تفلحون ) |المائدة : ٩٠| و ( فهل أنتم منتهون ) |المائدة : ٩١| لأن ﴿ قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس ﴾ ( البقرة : ٢١٩ ) لا يدل على تحريم، بل إخباره بأن فيها منافع قرينة تدل على الإباحة، واقتران الإثم بها لا يزيل ذلك٢.
وذكر بعضهم أن آية البقرة أول آية تطرقت لتحريم الخمر ثم بعدها :( لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ) |النساء : ٤٣| ثم قال تعالى :( إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء ) الآية |المائدة : ٩٠| إلى قوله :( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام ) |المائدة : ٩١| فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " حرمت الخمر " ٣. وقال أبو الحسن : يمكن أن يؤخذ تحريم الخمر من هذه الآية لأن قوله تعالى :( وإثمهما أكبر من نفعهما ) |البقرة : ٢١٩| يدل على المفسدة في شربها وأن ما فيها من النفع لا يقارن بالمفسدة٤. ويمكن أن يقال المفسدة في السكر ما تبين منها القليل الذي لا يسكر، ويمكن أن يقال في شرب القليل منها مفسدة عظيمة لإفضائه إلى أكثرها ؛ فتكون الآية على هذا دالة على تحريم القليل والكثير٥. والميسر القمار. قاله ابن عمر وغيره. وقال مالك : الميسر ميسران ميسر الغش وميسر القمار وميسر اللهو، والنرد، والشطرنج والملاهي كلها. وميسر القمار ما يخاطر الناس عليها٦. وقال علي بن أبي طالب : الشطرنج ميسر العجم.
وكل ما قومر به فهو ميسر عند مالك، وابن المسيب، وابن سيرين وغيرهم من العلماء. قال عطاء : لعب الصبيان بالجوز، والكعاب. وقد اتفقوا على أن لعب الشطرنج بالخطر حرام لا يجوز لأنه قمار.
واختلفوا فيه بغير خطر، فمنعه قوم جملة وكرهه آخرون، والكراهة مذهب مالك. وروي عن علي –رضي الله عنه- أنه مر بقوم يلعبون به. فقال : ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون وأجازه آخرون. وروي عن ابن سيرين، والشعبي، وأبي هريرة أنهم لعبوا به. وأصل الميسر أنه كان للعرب قداح عشرة لا ريش لها، سبعة منها لها حظوظ، وفيها فروض على عدة الحظوظ، وثلاثة لا حظوظ لها. فأسفل السبعة الفذ٧ وهو الأول وله نصيب، ثم التوأم وله نصيبان، ثم الرقيب وله ثلاثة، ثم الحلس وله أربعة، ثم النافس وله خمسة، ثم المسبل وله ستة، ثم المعلى وله سبعة. ومنهم من يسمي الثالث الظريف والسادس المصفح. وربما سمي الرجل بسهمه إذا تقامروا، يلقب مع الاسم العلم، وعلى كل واحد من هذه الأسهم فروض بقدر ما له من نصيب. ويقال لتلك العلامة الغرم والغرمة والثلاثة التي لا حظوظ لها يدعونها الأغفال وهو المنيح، والسفيح، والوغد. وإنما جعلوا هذه الثلاثة ليكثر٨ بها العدد، وليؤمن بها حيلة الضارب لها والضارب بها يسمونه الحرضة. وكانوا إذا جاء الشتاء واشتد البرد على فقرائهم تقامروا بها على الإبل، وجعلوا لحومها لهم فتعتدل أحوال الناس، ولذلك يخصبون، فإذا أرادوا ذلك اجتمعوا سبعة على عدد القداح المعلمة فيأخذ كل واحد منهم قدحا منها، وربما كانوا أقل من سبعة فيأخذ الرجل قدحين أو ثلاثة ويكون له حظ القامر منها وعليه غرم الخائب، ويحتمل ذ لك لجوده ويساره، وكانوا يتقامرون بذلك ويذمون من لم يدخل فيها ويسمونه البرم، ويسمون الداخل فيها اليسير٩ والياسر. فإذا تآلفوا ابتاعوا ناقة بثمن مسمى ويضمنوه لصاحبها، إلى أن يضربوا بالقداح عليها فيعلمون على من يجب الثمن، ثم ينحرونها من قبل أن يتقامروا ويقتسمونها على عشرة أسهم. هذا قول أبي عمرو. وعلى قول الأصمعي١٠ ثمانية وعشرين١١ جزءا، ثم يحضرون القداح ويضربون الحرضة بها فمن خرج سهمه في هذه السبعة التي لها أنصباء أخذ من الأجزاء، بحصة ذلك وأعطاها الفقراء، وإن خرج واحد من التي لا حظوظ لها فقد اختلف الناس في هذا الموضع فقال بعضهم : من خرجت باسمه لم يأخذ شيئا ولم يغرم، ولكن تعاد الثانية ولا يكون له نصيب ويكون لغوا. وقال بعضهم : بل يصير ثمن هذه الجزور كلها على أصحاب هؤلاء الثلاثة فيكون مقمورين ويأخذ أصحاب السبعة أنصباءهم على ما خرج لهم، ويصرفون هذا في أشعارهم كثيرا.
وأصل الميسر في اللغة أن يكون عبارة عن التجزئة، وكل ما جزأته فقد يسرته، ويقال للجزار ياسر، وللجزور نفسه إذا جزىء ميسر١٢. وكانت المخاطرة في أول الإسلام مباحة من ذلك مخاطرة أبي بكر –رضي الله عنه- المشركين حين نزلت ( الم ١ غلبت الروم ٢ في أدنى الأرض ) |الروم : ١-٣| وقال له صلى الله عليه وسلم : " زد في المخاطرة وامدد في الأجل " ١٣ ثم نسخ ذلك بتحريم القمار فحرم القمار مطلقا إلا ما رخص فيه من الرهان في السبق لقوله صلى الله عليه وسلم : " لا سبق إلا في خف، أو نصل أو حافر " ١٤ وإنما رخص في ذلك لما فيه من رياضة الخيل والاستعداد لمجاهدة العدو. وظاهر تحريم القمار أيضا يمنع من القرعة لولا ما ورد فيها من الخبر الصحيح الذي يخص به العموم. وقال أبو حنيفة : لا يجوز التراهن بحال لأنه قمار١٥. وزعم قوم إن سباق الخيل والقرعة نسختها آية القمار. ويرد ذلك ما تقدم من ثبوت١٦ العمل بهما. وروي عن عطاء أنه أجاز السبق في كل شيء واحتج بحديث عائشة، في مسابقتها للرسول –عليه السلام- على قدميها١٧، فإن كان أراد بخطر فهو خلاف ما جاءت به الظواهر في تحريم القمار.
٢١٩- قوله تعالى :( يسألونك ماذا ينفقون قل العفو ) الآية |البقرة : ٢١٩|.
اختلف في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة فمن ذهب إلى أنها منسوخة قال : العفو ما فضل على العيال. وكان ذلك واجبا في أول الإسلام وإن أحدهم كان إذا حصد زرعه أخذ قوته وقوت عياله وما يزرع في العام المقبل١٨ وتصدق بالباقي، ثم نسخ ذلك بفرض الزكاة١٩.
والذين ذهبوا إلى أن الآية محكمة اختلفوا على أربعة أقوال في تأويلها٢٠.
فذهب قوم إلى أن العفو الزكاة المفروضة.
وذهب آخرون إلى أن العفو فيها ما سمح به المعطي.
وذهب بعضهم إلى أنه ما فضل عن العيال، والآية على الندب لا على الوجوب مثل قوله :( ويسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير ) الآية |البقرة : ٢١٥| وذهب بعضهم إلى أنه ما فضل على العيال والآية على الوجوب وذهب إلى هذا٢١ جماعة من أهل الزهد والورع، فحرموا ما فوق الكفاف. وإلى هذا ذهب أبو ذر –رضي الله عنه- لأنه رويت عنه آثار كثيرة في بعضها شدة تدل على أنه كان يذهب إلى أن كل مجموع يفضل عن القوت وسداد العيش فهو كثير وكان يقول : الأكثرون هم الأخسرون يوم القيامة ويل لأصحاب اليسر. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه آثار كثيرة. إلا أن جمهور أهل العلم تأولوها في الزكاة على خلاف ما حملها أبو ذر –رضي الله عنه-. وذهب قوم إلى أن : " ما في المال حق سوى الزكاة " وأنه المراد بالآية، وإن لم يروا الاقتصار على الكفاف كما ذهب إليه أبو ذر. وقد اختلف هل يجوز أن يهب الرجل ماله كله أو ينحله إذا لم يبق ما يكفيه. فأجازه مالك ومنعه سحنون وقال : هو مردود. قال اللخمي : وهو أحسن للقرآن والحديث.
٢ يراجع كلام ابن العربي في أحكام القرآن (١/٤٥٠ -٦١)..
٣ رواه أبو داود الطيالسي في مسنده (١٩٥٧) والطبري في تفسيره (٢/٤٧٩، ٤٨٠) وفي سنده محمد بن أبي حميد وهو ضعيف يراجع كلام الحافظ البوصيري في مختصر إتحاف الخيرة (٦/ رقم ٤٤٠٩)..
٤ كذا في أ و ب وفي كتاب الهراسي: "لا يقام"..
٥ يراجع أحكام القرآن للكيا الهراسي (١/١٢٤، ١٢٥)..
٦ يراجع أقوال العلماء في ذلك في تفسير الطبري (٢/٤٧٣، ٤٧٨) وأحكام القرآن للجصاص (٢/١٠ -١٢) وأحكام القرآن للهراسي (١/١٢٥، ١٢٦) وزاد المسير لابن الجوزي (١/٢٤٠، ٢٤١). وتفسير القرطبي (٣/٥٢ -٦١)..
٧ في ب "الفرد" والمثبت موافق لما في المحرر الوجيز (٢/٤٨)..
٨ في أ زيادة "التي لا حظوظ لها" والمثبت موافق لما عند ابن عطية في المحرر الوجيز (١/٤٨)..
٩ في أ "اليسر" والمثبت من ن و ب..
١٠ قاله ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/٥٨): "وأخطأ الأصمعي في قسمة الجزور"..
١١ في ب "وعشرون"..
١٢ يراجع لسان العرب مادة "يسر" ٦/٤٩٥٩) وقارن كلام المؤلف بكلام ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/٥٧ -٥٩) ونقل كلامه أيضا القرطبي في التفسير (٣/٥٨ -٦٠)..
١٣ رواه ابن جرير في تفسيره (٨/٦٥٠٠ -٦٥٠٤ ط دار السلام) ورواه الترمذي في التفسير (٣١٩١ -٣١٩٣) من طرق عن ابن عباس وضعف جلها كما رواه غيره. ويراجع تفسير ابن كثير (٣/٤٢٣، ٤٢٤)..
١٤ الحديث صحيح أخرجه أبو داود (٢٥٧٤) والترمذي (١٧٠٠) والنسائي (٦/٢٢٦، ٢٢٧) وابن حبان (٤٦٩٠) وأحمد (٢/٤٧٤) والبيهقي في السنن (١٠/١٦) عن أبي هريرة..
١٥ يراجع كلام الجصاص في أحكام القرآن (٢/١١، ١٢) وأحكام الهراسي (١/١٢٥، ١٢٦)..
١٦ يراجع ب "ثبات"..
١٧ يراجع سنن أبي داود (٢٥٧٨) ومسند أحمد (٦/٣٩، ١٢٩، ١٨٢)..
١٨ في أ "القابل"..
١٩ ذهب إلى ذلك ابن عباس والسدي كما رواه عنهما الطبري في تفسيره (٢/٤٨٧)..
٢٠ يراجع جامع البيان للطبري (٢/٤٨٢ -٤٨٨) وأحكام القرآن لابن العربي (١/١٥٣، ١٥٤) والمحرر الوجيز (٢/٦٣ -٦٥) وتفسير القرطبي (٣/٦١، ٦٢)..
٢١ في ب "في ذلك"..
اختلفوا في سبب نزول هذه الآية فقال السدي، والضحاك١ : إن العرب كانت عادتهم أن يجتنبوا مال اليتيم ولا يخالطوهم في مأكل ولا مشرب ولا بشيء. فكانت تلك مشقة، فسألوا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت فعلى هذا نزلت الآية رافعة لحكم غير شرعي فليست إذا بناسخة. وقال ابن عباس، وسعيد بن المسيب٢ : سببها أن المسلمين لما نزلت :( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ) |النساء : ١٠| تجنبوا اليتامى وأموالهم وعزلوهم عن أنفسهم فنزلت الآية. وقيل : لما نزلت :( ولا تقربوا مال اليتيم ) الآية |الأنعام : ١٥٢| اعتزل المسلمون عن مخالطة اليتامى فنزلت الآية، وعلى هذا يمكن أن يقال إن الآية ناسخة لما فعله المسلمون من اعتزالهم اليتامى. قال بعض المفسرين : وهذا أحسن من جعلها ناسخة لقوله :( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ) |النساء : ١٠|٣ وقيل : إن السائل عبد الله بن رواحة. وأصل اليتم الانفراد، فيصح أن يقال للمنفرد من أحد أبويه يتيم، وإطلاقه أظهر في اليتم من قبل الأب. وظاهر القرآن في أحكام الأيتام محمول على الفاقد لأبيه وهو صغير. والعرب تسمي المرأة المنفردة عن الزوج يتيمة صغيرة كانت أو كبيرة. قال الشاعر :
إن القبور تنكح الأيامى | النسوة الأرامل اليتامى |
وإن التجارة في أموال اليتامى جائزة إذا كان في ذلك حظ لهم في قوله تعالى :( قل إصلاح لهم خير ) |البقرة : ٢٢٠|. واختلفوا في دفع ماله مضاربة. والآية عندي دليل لقول من أجازه إذا كان فيه إصلاح ماله. ويجوز بيع الوصي عقار اليتيم وشراؤه له على وجه النظر، وهو قول الجمهور حتى قال سفيان : الوصي بمنزلة الأب يبيع إذا رأى الصلاح. وقال ابن أبي ليلى : يبيع ما لا بد منه. وقال يعقوب : ومحمد ذلك إذا لم٧ يكن عليه دين، فليس للموصي أن يبيع العقار، وله بيع ما سوى ذلك من الحيوان والعروض. ودليل الجواز قوله تعالى :( ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير ) فكل ما هو صلاح٨ للموصي فعله. واختلف في الوصي يشتري من مال يتيمه٩، أو يبيع منه، فعندنا : أنه جائز ما لم يحاب ويكره أو لا. وأجاز أبو حنيفة إذا اشتراه بأكثر من ثمن المثل لأنه إصلاح دل عليه ظاهر القرآن. ولم يجز الشافعي شراءه ولا بيعه على ذلك الوجه. واتفقوا على جواز ذلك للأب، واختلفوا في الجد. فأجازه الشافعي، وأبو حنيفة ولم يجزه مالك، وفي الوكيل فأجازه مالك ومنعه أبو حنيفة، ودليلنا قول الله تعالى :( قل إصلاح لهم خير ) فبهذا احتج أصحابنا في المسألة. وكذلك اختلف في تزويج اليتيم فعندنا، وعند أبي حنيفة يجوز تزويجه والتزويج منه. والشافعي لا يرى في التزويج إصلاحا إلا من جهة دفع الحاجة قبل البلوغ. والحجة للجواز ظاهر القرآن١٠.
والشافعي يجوز للجد التزويج مع الوصي، وأبو حنيفة يجوز للقاضي تزويج اليتيم بظاهر القرآن١١. فهذه المذاهب نشأت من هذه الآية١٢ ومن لا يجوز يقول لم يذكر في الآية التصرف في أموال اليتامى بل قال :( إصلاح لهم خير ) من غير أن يذكر فيها الذي يجوز له النظر فلا متعلق في الآية أصلا من جهة العموم أو ليس للمتصرف ذكر يعم أو يخص. ويجوز أن يكون معنى قوله تعالى :( ويسألونك عن اليتامى ) أي يسألك القوام على اليتامى الكافلون لهم وذلك مجمل لا يعلم منه عين الكافل والقيم وما يشترط فيه من الصفات١٣.
٢ رواه أبو داود في السنن (٢٨٧١) والنسائي (٦/٢٥٦، ٢٥٧) وأحمد في المسند (١/٣٢٥، ٣٢٦) والطبري في تفسيره (٢/٤٩٠ -٤٩٣) عن ابن عباس وسعيد بن جبير لا ابن المسيب. وسنده ضعيف قواه ابن حجر بالطرق المرسلة في العجاب في بيان الأسباب (ص٣٥٧ -٣٦١)..
٣ يراجع كلام الإمام الطبري وتحقيقه في هذا في تفسيره (٢/٤٨٧، ٤٨٨)..
٤ قاله الهراسي في أحكام القرآن (١/١٦٢، ١٢٧) وهو أيضا نقل ذلك بتصرف عن الجصاص في أحكام القرآن (٢/١٢، ١٣)..
٥ في ب "إلى ذلك"..
٦ في ب "من يعلمه"..
٧ في ب "إن"..
٨ كذا في ن و ب وفي أ "إصلاح"..
٩ في أ "اليتيم"..
١٠ قاله الكيا الهراسي في أحكام القرآن (١/١٢٧ -١٢٩) وتصرف فيه المؤلف ونصفه الأول مأخوذ من كلام الجصاص في أحكام القرآن (٢/١٣ -١٥)..
١١ أحكام القرآن للهراسي (١/١٢٨)..
١٢ يراجع أيضا كلام ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/٦٧) وأحكام القرآن لابن العربي (١/١٥٤ –١٥٦) وتفسير القرطبي (٣/٦٣ -٦٦)..
١٣ قاله الهراسي في أحكام القرآن (١/١٢٩)..
اختلف الناس في تأويل هذه الآية فقالت طائفة : المشركات من يشرك بالله إلها آخر، فلم تدخل اليهوديات، ولا النصرانيات في لفظها ولا في معناها. وسببها قصة أبي مرثد كناز بن حصين مع عناق التي كانت بمكة١. وقال قتادة، وسعيد بن جبير : لفظ الآية العموم في كل كافر والمراد بها الخصوص من غير الكتابيات، وبينت الخصوص آية المائدة. ولم يتناول العموم قط الكتابيات. وقال ابن عباس، والحسن تناولهن العموم ثم نسخت آية سورة المائدة من ذلك الكتابيات، وهو مذهب مالك رحمه الله ذكره ابن حبيب٢.
وقال ابن عباس في بعض ما روي عنه الآية عامة في الوثنيات، والمجوسيات، والكتابيات، وكل من كانت على غير دين الإسلام باقية على عمومها محكمة ناسخة للآية التي في سورة المائدة، والتي في النساء.
وروي هذا عن عمر، وابن عمر. وروي عن ابن عمر أنه سئل عن نكاح اليهودية والنصرانية ؟ فقال : إن الله حرم المشركات على المسلمين، ولا يعلم شيء من الشرك أعظم من أن يقال عيسى ربنا٣. ويخرج من هذه الأقوال الإجماع على تحريم المشركات من غير أهل الكتاب.
وذهب مالك رحمه الله، وأكثر العلماء إلى أن نكاح حرائر أهل الكتاب جائز، وقد تزوج عثمان-رضي الله عنه- نائلة بنت الفرافصة نصرانية، وطلحة بن عبيد الله |تزوج|٤ بيهودية، وحذيفة تزوج يهودية. و روي عن ابن عمر والحسن الكراهية فيه، وذهب قوم إلى منعه بناء على التأويل الذي ذكرناه عن ابن عباس في هذه الآية. وحجة مالك رحمه الله أن قوله تعالى :( والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب ) |المائدة : ٥| ناسخ أو مخصص للآية إذ الجمع بين دليلين أولى من طرح أحدهما، ويبعد تأويل من قال أراد بقوله تعالى :( والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ) أي أوتوا الكتاب من قبلكم وأسلموا، وكذلك لا حجة لمن منع ذلك في قوله تعالى :( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ) |المجادلة : ٢٢| وقوله :( لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ) |آل عمران : ٢٨| ونحو ذلك، لأن ذلك المنع إنما يرجع إلى المبايعة٥ على أمر الدين. وقد قيل٦ : إن الآية نزلت في مشركي العرب المحاربين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين فنهوا عن نكاحهن دون أهل الذمة والموادعين الذين أمروا بترك قتالهم٧.
وأكثر أهل العلم على كراهة نكاح الحربيات. وروي عن النخعي أنه قال : لا أعلم شيئا من نساء أهل الكتاب حراما.
ومذهب مالك رحمه الله منع نكاح المجوسيات٨، وسائر المشركات سوى الكتابيات. وذهب أبو ثور، والشافعي في أحد قوليه إلى إباحة ذلك في المجوس لأنهم أهل كتاب عندهم. وروي عن حذيفة أنه تزوج مجوسية. وحجة مالك رحمه الله قوله تعالى :( ولا تنكحوا المشركات ) الآية وقوله :( والمحصنات من المؤمنات ) الآية. ومما يعضد ما قدمنا عن عمر أنه روي عنه أنه فرق بين طلحة بن عبيد الله وبين يهودية، وبين حذيفة، وبين نصرانية وقالا نطلق يا أمير المؤمنين ولا تغضب. فقال : لو جاز طلاقكما لجاز نكاحهما، ولكن أفرق بينكما. وهذا لا يستند جيدا٩. وأقوى منه أن عمر أراد التفريق بينهما فقال له حذيفة : أتزعم أنها حرام فأخلي سبيلها يا أمير المؤمنين ؟ فقال : لا أزعم أنها حرام ولكني أخاف أن تعطلوا المؤمنات بينهن. و روي عن ابن عباس نحو هذا. وأكثر العلماء على كراهة نكاح إماء أهل الكتاب، وتعلق أصحاب الشافعي في ذلك بقوله تعالى :( ولا تنكحوا المشركات ) الآية |البقرة : ٢٢١| وأجازه من غير كراهة أبو حنيفة وأصحابه.
وأما وطؤهن بملك اليمين، فأكثر العلماء على جوازه، وكرهه الحسن، وأكثر العلماء على منع وطء المجوسيات بملك اليمين، وأجازه طاوس. ومن منع أو كره فله تعلق بظاهر الآية. قال في سبي أوطاس : إنهن لم يوطأن حتى أسلمن. وذكر عن عطاء، وعمرو بن دينار خلاف ذلك ولا يصح١٠. وظن قوم أن قوله تعالى :( ولأمة مؤمنة خير من مشركة ) يدل على جواز نكاح الأمة مع وجود الطول للحرة. وهذا غلط لأنه ليس في الآية ذكر نكاح الإماء، وإنما ذلك تنفير عن نكاح الحرة المشركة لأن العرب كانوا بطباعهم نافرين عن نكاح الإماء١١، فقال تعالى :( ولأمة مؤمنة خير من مشركة ) أي إذا نفرتم عن الأمة فالمشركة أولى إن تكرهوا نكاحها. وقد أجمعوا على تحريم نكاح نساء مشركي العرب، وعبدة الأوثان ورأوا الآية مانعة منهن. وأجمعوا أيضا أنه لا يحل أن يطأ المشرك المؤمنة لقوله تعالى :( ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ) وكذلك في قراءة من قرأ في الشاذ :( ولا تنكحوا المشركات ) دليل على أن النكاح لابد فيه من ولي، وسيأتي الكلام على ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.
٢ قاله ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/٦٨، ٦٩) ويراجع تفسير الطبري (٢/٤٩٨، ٤٩٩) ويراجع أحكام القرآن للجصاص (٢/١٥ -٢٠) وأحكام القرآن للكيا الهراسي (١/١٢٩ -١٣٤) والمحرر الوجيز لابن عطية (٢/٦٨ -٧٣) وأحكام القرآن لابن العربي (١/١٥٦ -١٥٨) وزاد المسير لابن الجوزي (١/٢٤٥ -٢٤٧) ومعالم التنزيل للبغوي (١/٢٥٥، ٢٥٦) وتفسير القرطبي (٣/٦٦ -٧١) وتفسير ابن كثير (١/٢٥٨، ٢٥٩)..
٣ قال ابن عبد البر في الاستذكار (١٦/٢٧٠): "وهذا قول شذ فيه ابن عمر عن جماعة الصحابة رضوان الله عليهم وخالف قول الله عز وجل: (اليوم أحل لكم الطيبات...)" ولم يلتفت أحد من علماء الأمصار قديما وحديثا إلى قوله ذلك"..
٤ سقطت من أ..
٥ في ب "المبادرة" وفي ن "المباعدة في أمر الدين"..
٦ ذكر هذا الجصاص في أحكام القرآن (٢/١٨) والهراسي في أحكام القرآن (١/١٣٢)..
٧ في ب "قتلهم"..
٨ يراجع تفصيل أقوال الفقهاء في الاستذكار (١٦/٢٦٢ -٢٨٤) والإشراف لعبد الوهاب (٢/٧٠٥، ٧٠٦)..
٩ في أ و ب: خبرا، وفي المحرر الوجيز (٢/٧٠) "جيدا" وقد أشار إلى تضعيفه الإمام الطبري في تفسيره (٢/٥٠٠، ٥٠١) وجزم بذلك الحافظ ابن كثير قائلا: "فهو غريب جدا" كما في تفسيره (١/٢٥٨ – ط دار الفكر بيروت)..
١٠ وجزم بضعف ذلك سندا ومعنى أبو عمر بن عبد البر في التمهيد (٣/١٣٤، ١٣٥) وفي الاستذكار (١٦/٢٦٨)..
١١ في ب "الأمة"..
اختلف في سبب هذه الآية، فقال قتادة١، وغيره : إنما سألوا لأن العرب في المدينة وما والاها كانوا قد استنوا بسنة بني اسرائيل في تجنب مؤاكلة الحائض ومساكنتها فنزلت الآية. وقال مجاهد٢ : كانوا يجتنبون٣ النساء في الحيض، ويأتونهن في أدبارهن فنزلت الآية. وذكر عن السدي أن السائل ثابت بن الدحداح٤. وقوله ( أذى ) ٥ لفظ جامع لأشياء تؤذي لأنه دم وقذر ومنتن، ومن سبيل البول. كذا قال المفسرون. وذكر الصفة على ما ذكره قبل الحكم تنبيه على أن تلك الصفة علة لذلك الحكم. وإذا كان ذلك علة فهم منه تحريم الإتيان في غير المأتى لأن الأذى فيه دائما. ولا يجري في المستحاضة لأن ذلك عارض وليس بطبيعي، ولذلك أجاز أكثر العلماء وطء المستحاضة، ولم يجوزوه في مجرى الحيض، وإن كان قد كره وطأها النخعي، وابن سيرين وغيرهما. ورويت كراهة ذلك عن عائشة أيضا. وقال ابن جبير لا يطأها إلا أن يطول ذلك بها والمحيض يحتمل أن يراد به الدم نفسه، ويحتمل أن يريد به موضع الدم كالمقيل والمبيت، إلا أن قوله تعالى :( هو أذى ) يدل على أنه أراد به الدم، وإن كان يحتمل أن يريد : قل هو موضع أذى، فحذف المضاف.
٢٢٢- قوله :( فاعتزلوا النساء في المحيض ) |البقرة : ٢٢٢|.
اختلفوا٦ في كيفية الاعتزال المأمور به على ثلاثة أقوال :
أحدها : اعتزال جميع بدنها أن يباشر بشيء من بدنه٧ على ظاهر قوله تعالى ؛ لأنه أمر٨ باعتزالهن عموما ولم يخص شيئا دون شيء. وهذا إنما ذهب إليه من اتبع ظاهر القرآن، وجهل ما ورد في ذلك عن النبي صلى الله عليه سلم من الآثار، وقدم ظاهر القرآن على خبر٩ الآحاد١٠. وقد روي عن ابن عباس، وعبيدة السلماني نحو هذا أنه يجب أن يعتزل الرجل فراش زوجته إذا حاضت.
والثاني : إباحة ما فوق الإزار واعتزال ما دونه لقوله –عليه الصلاة والسلام- : " لتشد عليها إزارها، ثم شأنك بأعلاها " ١١ وعلى هذا جمهور فقهاء الأمصار، وهو مذهب مالك، وجمهور أصحابه المتقدمين والمتأخرين من البغدادين وإليه ذهب أبو حنيفة اتباعا لما فسر به النبي صلى الله عليه وسلم الآية من أن يشد الرجل إزار الحائض، ثم شأنه بأعلاها.
والثالث : إباحة كل شيء منها ما عدا الفرج |اتباعا لعائشة –رضي الله عنها- لمن سألها عن ذلك : كل شيء له منها حلال ما عدا الفرج|١٢ وهو الصحيح من مذهب الشافعي وإليه ذهب أصبغ. ورأى أن حديث النبي صلى الله عليه وسلم إنما جاء حماية للذرائع لئلا يجامعها في الفرج. وهو قول مجاهد. ويحتمل أن يتأول المحيض في الآية على أنه موضع المحيض، فيكون حجة لهذا القول. وحجة مالك ومن تابعه ظاهر الآية والحديث الصحيح.
٢٢٢- وقوله تعالى :( ولا تقربوهن حتى يطهرن ) |البقرة : ٢٢٢|.
وقرئ " يطهرن " ١٣ وفي مصحف أبي بن كعب " يتطهرن " وفي مصحف أنس : " ولا تقربوا النساء في محيضهن واعتزلوهن حتى يطهرن " ١٤ وقد اختلف في الطهر الذي يحل الوطء فيه ما هو ؟ فقال قوم هو الاغتسال بالماء فلا يحل وطء الحائض حتى تغتسل، وهو قول مالك والنخعي، والحسن، ومكحول، وسليمان بن يسار، وعكرمة، ومجاهد، وأحمد، وإسحاق وأبو ثور.
والحجة لهذا القول في الآية قوله تعالى :( فإذا تطهرن ) فأضاف الفعل إليهن، ولا يجوز أن يعود إلى انقطاع الدم لأنه فعل لهن في قطعه فعلم أنه أراد التطهير بالماء، ألا ترى أنه تعالى أثنى على من فعل ذلك بقوله :( يحب التوابين ويحب المتطهرين ) |البقرة : ٢٢٢| والثناء لا يقع إلا على فعل يقع من جهتهم. فتقدير الآية : ولا تقربوهن حتى يتطهرن. وهذا كقوله : لا تعط زيدا شيئا حتى يدخل الدار فإذا دخل الدار وقعد١٥ فأعطه، ويقتضي أن لا يستحق العطاء إلا بشرطين وهما الدخول والقعود. وقد يقع التحريم بشيء، ولا يزول١٦ بزواله لعلة أخرى كقوله تعالى في المبتوتة :( فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ) |البقرة : ٢٣٠| وليس بنكاح الزوج تحل له ومعلوم أنه لا توطأ نفساء ولا حائض حتى تطهر فلم تكن ( حتى ) هاهنا مبيحة لما قام الدليل على حظره. كذا ذكره بعض المفسرين١٧ بهذه الحجة. وفيها نظر لأن ذلك الإضمار لا يخرج الآية على١٨ الاحتمال، لأن العرب تستعمل طهر وتطهر في المعنيين جميعا. وإذا كان اللفظ محتملا حمل على المعنى المتفق عليه أنه يقع الطهر به، وكذلك القراءة الأخرى " لا يطهرن " أو " يتطهرن " محتمل أيضا لذلك. وقال بعضهم في الطهر المذكور في الآية، إنه وضوء كوضوء الصلاة ثم تحل للوطىء وحجة هذا القول حمل قوله :( حتى يطهرن ) على أنه الطهر الأصغر لا الطهر الأكبر. وقال قوم هو غسل الفرج، وذلك يحلها لزوجها وإن لم تغتسل من الحيضة، وهو قول الأوزاعي، وروي مثله عن عطاء، وطاوس، وقتادة، وحجة هذا القول قوله :( حتى يطهرن ) قالوا معناه حتى ينقطع دمهن فجعل تعالى تمام غاية منع قربها انقطاع دمها، قالوا : ومعنى قوله تعالى :( فإذا تطهرن ) إباحة ثانية، وابتداء كلام غير الأول، لأن الطهر شيء والتطهير غيره، مثال ذلك لو أن رجلا صائما قال لرجل لا تكلمني حتى أفطر، فإذا صليت المغرب كلمني. فإنما وقع التحريم في المخاطبة في وقت الصوم لأن غاية التحريم كانت إلى الإفطار ثم أباح أن يكلمه بعد وجوب الإفطار وبعد صلاة المغرب١٩ ٢٠، كما أبيح وطء الحائض بعد الطهر. وبعد التطهير تأكيدا٢١، للتحليل غير أن قوله :{ ويحب المتطهرين ) دلالة على أن الذي يأتي زوجته بعد أن تتطهر٢٢ بالماء أحمد عند الله تعالى. وهذا الحمد منبه على أن الطهر يكون بغير غسل، والتطهير لا يكون إلا بغسل، وقد قدمت أنهما جميعا محتملان في اللفظين، وإن كان الطبري قد رجح قراءة من قرأ " حتى يطهرن " بالتشديد قال : لأنه يعني حتى يغتسلن. قال : وقراءة التخفيف تعطي انقطاع الدم وإليه ذهب جماعة عدة٢٣. وقال أبو حنيفة وأصحابه إن انقطع دمها بعد عشرة أيام التي هي أكثر عدة الحيض جاز له أن يطأها قبل الغسل، وإن انقطع دمها بعد عشرة أيام لم يجز حتى تغتسل، أو يمر عليها وقت الصلاة، لأن الصلاة تجب عنده بآخر الوقت، فإذا مضى عليها الوقت وجبت عليها الصلاة، فعلم أن الحيض قد زال لأن الحائض لا تجب عليها الصلاة٢٤. وهذا قول ضعيف، وقال بعض الأصوليين من أصحاب أبي حنيفة : إنما يعمل بالقراءتين جميعا، فتحمل القراءة المشددة من قوله : " يتطهرن " على انقطاع الدم فيما دون الأكثر من أمد الحيض فعند ذلك لا يحل الوطء قبل الغسل، والقراءة المخففة على انقطاع الدم على الأكثر. هذا النظر بعيد جدا٢٥. وذهب قوم إلى أن طهرها انقطاع الدم ولم يذكروا غسلا ولا غيره وقد يحتجون بالآية.
فهذه خمسة أقوال في طهر الحائض الذي يصح وطؤها فيه ولكل بالآية تعلق.
وعن مالك في الكتابية تحت المسلم إذا حاضت هل تجبر على الاغتسال، أم لا ؟ روايتان٢٦ : إحداهما : إجبارها والحجة له عموم قوله تعالى :( فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن ) ولم يخص مسلمة من غيرها.
والرواية الثانية : أنها لا تجبر لأنها غير معتقدة لذلك، فلا يصح منها نية، ولقوله تعالى :( ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر ) |البقرة : ٢٢٨| وقال :( لا إكراه في الدين ) البقرة : ٢٥٦| وهذا من الإكراه.
٢٢٢- وقوله تعالى :( فأتوهن من حيث أمركم الله ) |البقرة : ٢٢٢|.
اختلف في معناه فقيل معناه من حيث أمركم الله تعالى باعتزالهن أو هو الفرج من الركبتين إلى السرة، أو إلى جميع الجسد على ما تقدم من الاختلاف هذا قول واحد وقال ابن عباس، وابن زيد٢٧ : المعنى من قبل الطهر لا من قبل الحيض، وقال محمد بن الحنيفة من قبل الحلال، لا من قبل الزنى، وقيل : من قبل الإباحة لا صائمات ولا محرمات٢٨.
٢٢٢- وقوله تعالى :( ويحب المتطهرين ) |البقرة : ٢٢٢|.
قيل المعنى المتطهرين بالماء، وهو قول عطاء وغيره. وقال مجاهد وغيره : المعنى من الذنوب. وقال مجاهد أيضا المعنى من إتيان النساء في أدبارهن. وهذا ينظر لقوله حكاية عن قوم لوط :( أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون ) ٢٩ |الأعراف : ٧٢|.
واختلف في أقل الحيض على ستة أقوال٣٠ :
أحدهما : أنه لا حد له من الأيام، وإن الدفعة واللمعة حيض، فإن كان قبلها طهر فاصل كان حيضة تعتد بها المطلقة من أقرائها وهو قول مالك رحمه الله.
والثاني : أن أقل الحيض ثلاثة أيام في العدة والاستبراء، وما دونه فيكون حيضا ويمنع الوطء والصوم من غير أن يسقط وجوبه، ويمنع الصلاة ويسقط وجوبها. وهو قول مجاهد، وحكي عن مالك مثله.
والثالث : إن أقل الحيض خمسة، يريد في العدة والاستبراء.
والرابع : مذهب أهل العراق أن٣١ أقل الحيض ثلاثة أيام، وما دون الثلاثة أيام لا يحكم لها بحكم الحيض، فتقضي المرأة صلاة تلك الأيام.
والخامس : مذهب أهل الشافعي أن أقل الحيض يوم وليلة. وروي عن علي –رضي الله عنه- أن أقل الحيض يومان. والحجة لقول مالك رحمه الله في الآية قوله تعالى :( ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ) |البقرة : ٢٢٢| وفيه دليلان :
أحدهما : اقتضاؤه بالجواب عن سؤالهم عن الأخبار بأنه أذى، وذلك يقتضي أن كل أذى حيض، إلا ما قام عليه الدليل.
والآخر : أنه علل الأمر باعتزالهن بشرط كونهن٣٢ حيضا، فيجب أن يكون هنا طريق يعلم كون الدم حيضا قبل تقدم وقته فيصح٣٣ له الاعتزال في حيضهن. ولو كان لا يعلم مضي وقت ما كان الأمر باعتزالهن مشروطا مما لا طريق إلى العلم بحصوله إلا بعد فراغه وتقضيه. وهذا باطل.
واختلف٣٤ أيضا في أكثر الحيض فذهب مالك، وأصحابه إلى أن أكثره خمسة عشر يوما. وذهب أبو حنيفة إلى أن أكثره عشرة أيام. ودليل مالك قوله تعالى :( قل هو أذى ) وذلك يوجب أن كل أذى خرج من الفرج حيض إلا ما قام الدليل على أنه ليس بحيض، ودليل مالك على أنه ما زاد على الخمسة عشر يوما &&&أيام&&& ليس بحيض، قول النبي صلى الله عليه وسلم : " إنكن ناقصات عقل ودين " ثم سئل صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال : " تقعد إحداكن شطر دهرها، ولا تصلي " ٣٥ ويأتي لمالك في أكثر الحيض قول آخر، وهو أن أكثر حيض كل امرأة أيامها المعتادة مع الاستظهار ما بينها وبين خمسة عشر يوما فعلى هذا في المسألة ثلاثة أقوال.
٢ رواه الطبري عنه في تفسيره (٢/٥٠٥)..
٣ في ن "يتجنبون"..
٤ ذكره ابن عطية في تفسيره (٢/٧٤) ويراجع العجاب لابن حجر (ص ٣٦٥، ٣٦٦)..
٥ يراجع في هذا أحكام القرآن للجصاص (٢/٢٠) ومثله للهراسي (٢/١٣٤، ١٣٥) ولابن العربي (١/١٥٨ -١٦٢) والمحرر الوجيز (٢/٧٤، ٧٥) وتفسير القرطبي (٣/٨٠ -٨٦)..
٦ في أ "اختلف" والمثبت في ن و ب..
٧ في ب "جسده"..
٨ في ب "أمرنا"..
٩ في ب و ن "حديث"..
١٠ يراجع خلاف العلماء في هذا الباب في تفسير الطبري (٢/٥٠٦ -٥١٠) وأحكام القرآن للجصاص (٢/٢١، ٢٢) والإشراف لعبد الوهاب (١/١٨٦، ١٨٧) والتمهيد (٣/١٦١ -١٧٨) والاستذكار لابن عبد البر(٣/١٧٨ -١٨٦) وأحكام القرآن للهراسي (١/١٣٥، ١٣٦) والمحرر الوجيز (٢/٧٢) وأحكام لابن العربي (١/١٦٢ -١٦٤) وتفسير القرطبي (٣/٨٦ -٨٨)..
١١ رواه مالك في الموطأ (١/١٠٢/١٤٦) مرسلا ومعناه صحيح ثابت من حديث عائشة عند البخاري في الحيض (٣٠٢) ومسلم في الحيض (٢٩٣)..
١٢ زيادة من ب..
١٣ تراجع هذه القراءات في كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد (ص١٨٢) وفي تفسير الطبري (٢/٥١٠) والمحرر الوجيز (٦/٧٧) ورجح الطبري قراءة التشديد..
١٤ يراجع أقوال العلماء في هذه الآية في تفسير الطبري (٢/٥١٠ -٥١٣) وأحكام القرآن للجصاص (٢/٢١، ٢٢ و٣٦ -٣٩) والإشراف لعبد الوهاب (١/١٩٦، ١٩٧) وأحكام القرآن للهراسي (١/١٣٧ -١٤٠) والتمهيد (٣/١٧٨، ١٧٩) والاستذكار (٣/١٨٨ -١٩٠) والمحرر الوجيز (٢/٧٧ -٧٩) وتحقيق ابن العربي في أحكام القرآن (١/١٦٤ -١٧٠) وتفسير القرطبي (٣/٨٨ -٩٠)..
١٥ في ب "وفعل"..
١٦ في ب "يزال"..
١٧ يراجع قريبا من هذا الكلام عند ابن العربي في أحكام القرآن (١/١٦٦ -١٧٠) وإطالته النفس في ذلك..
١٨ في ن "عن"..
١٩ يراجع كلام ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/٧٩)..
٢٠ في ب "أن يصلي المغرب"..
٢١ في ب "التطهر، وهذا التطهر تأكيد"..
٢٢ في ب "تنظيف" وكذا في ن..
٢٣ يراجع جامع البيان للطبري (٢/٥١٠، ٥١١)..
٢٤ يراجع قول أبي حنيفة في أحكام القرآن للجصاص (١/٣٧، ٣٨)..
٢٥ قاله الهراسي في أحكام القرآن (١/١٣٩)..
٢٦ ذكرهما القرطبي في تفسيره (٣/٩٠)..
٢٧ كذا في النسخ والظاهر أنه تصحيف من النساخ أو تصحف الأمر على المؤلف لأن ذلك جاء على الصواب في الأصل الذي ينقل منه وهو المحرر الوجيز لابن عطية -٢/٧٩) "أبو رزين" وكذا جاء في تفسير الطبري (٢/٥١٥)..
٢٨ قاله ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/٧٩، ٨٠)..
٢٩ يراجع المصدر السابق (٢/٨٠) وتفسير الطبري (٢/٥١٧ -٥١٩)..
٣٠ يراجع هذه الأقوال في أحكام القرآن للجصاص (٢/٣٠، ٣١) والإشراف لعبد الوهاب (١/١٨٦ -١٨٨) والاستذكار لابن عبد البر (٣/٢٣٨ -٢٥٠) وبداية المجتهد لابن رشد الحفيد (١/٣٦، ٣٧)..
٣١ في ب "العراقيين"..
٣٢ في أ "بشرط أن يكن"..
٣٣ في ن "ليصح"..
٣٤ تراجع أقوال الفقهاء في المصادر التي سقاها آنفا..
٣٥ أخرجه البخاري عن أبي سعيد الخدري في الزكاة (١٤٦٢) ومسلم ولم يسق لفظه كاملا في الإيمان (٨٠)..
اختلف في سبب هذه الآية، فقال جابر بن عبد الله، والربيع سببها أن اليهود قالت : إن الرجل إذا أتى المرأة من دبرها جاء الولد أحول، وعابت على العرب ذلك فنزلت الآية، تتضمن قولهم١. وقالت أم سلمة وغيرها٢ : سببها أن قريشا كانوا يأتون النساء في الفرج على هيئات مختلفة، فلما قدموا المدينة وتزوجوا الأنصاريات أرادوا ذلك، فلم ترده نساء المدينة إذ لم تكن عادة رجالهم إلا الإتيان على حالة واحدة وهي الانبطاح، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وانتشر كلام الناس في ذلك فنزلت الآية مبيحة للهيئات كلها إذا كان الوطء في موضع الحرث٣.
وقوله :( حرث ) تشبيه لأنه من زرع الذرية، فلفظ٤ الحرث يعطي أن الإباحة لم تقع في الفرج خاصة إذ هو المزدرع.
٢٢٣- وقوله تعالى :( أنى شئتم ) |البقرة : ٢٢٣|.
اختلف في معناه، فذهب قوم إلى أن معناه كيف شئتم. وقال الضحاك : متى شئتم. وقيل : معناه من أين شئتم. أي من أي الجهات شئتم. وهذا قول قتادة والربيع بن أنس. وقيل : معناه أين شئتم. وهذا أضعف التأويلات٥. وقد اختلف الناس في جواز وطء النساء في أدبارهن. وحجة من ذهب لإجازته ظاهر الآية.
وانفصل عن ذلك القائل بتحريمه، بأن المراد بها ما نزلت عليه من السبب، والعموم إذا خرج على سبب قصر عليه عند بعض أهل الأصول٦.
وعن مالك في هذا الأصل روايتان : إحداهما : ما قدمناه. والثانية : أنه لا يقصر على سببه بل يحمل على عمومه. وعلى هذه الرواية تكون الآية حجة لمن نفى التحريم.
ولكن وردت أحاديث كثيرة بالمنع منه فيكون ذلك تخصيصا لعموم الآية بأخبار الآحاد، وفي ذلك خلاف بين الأصوليين.
وروي عنه صلى الله عليه وسلم : " إتيان النساء في أدبارهن حرام " ٧ وقال : " ملعون من أتى امرأة في دبرها " ٨ وقال : " من أتى امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على قلب محمد " ٩. وقد روي عن مالك إباحة وطء المرأة في دبرها١٠. وذكر عنه أنه كان يحتج بهذه الآية وبقوله تعالى :( أتأتون الذكران من العالمين ١٦٥ وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم ) |الشعراء : ١٦٥، ١٦٦| ويقول إن ذلك أحل من ماء القراح أو كلاما هذا معناه. وروي عنه أنه كان يحتج أيضا لإباحة ذلك بقوله تعالى :( والذين هم لفروجهم حافظون ٥ إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ) |المؤمنون : ٦٥|. ويرى أن عموم ذلك يقتضي إباحة وطئهن فيما هنالك. والجواب عن ذلك أن معنى الآية الأولى :( ما خلق لكم ربكم من أزواجكم ) |الشعراء : ١٦٦|. مما فيه شهوتكم من إتيان الفرج. وأما الآية الأخرى فدالة١١ على الإباحة المطلقة لا على موضع الإباحة كما لم تدل على وقت الإباحة في الحائض وغيرها.
ومما يتعلق به من حرم الوطء هنالك أن قوله تعالى :( قل هو أذى ) |البقرة : ٢٢٢| تعليل لتحريم وطء الحائض بما يقتضي تحريم الوطء في الموضع المتنازع فيه لأنه موضع الأذى. وهذا المعنى، كان يقتضي تحريم وطء المستحاضة لولا الحرج في تحريم وطئها لطول أمد الاستحاضة١٢. وروى عنه علي بن زياد أنه سأله عن إتيان النساء في الدبر، فأباه ؛ وأكذب من نسبه إليه. وهذا هو الذي يليق بمالك رحمه الله. وروي عن عبد الله بن عمر إجازته. وروي عنه أيضا خلافه وتكفير من فعله١٣. ورواية الإباحة أيضا عن ابن أبي مليكة، ومحمد بن المنكدر١٤.
٢٢٣- وقوله تعالى :( وقدموا لأنفسكم ) |البقرة : ٢٢٣|.
قال السدي معناه قدموا الأخذ في تجنب ما نهيتم عنه وامتثال ما أمرتم به، وقال ابن عباس : هي إشارة لذكر الله على الجماع. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لو أن أحدكم إذا أتى امرأته قال : اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فقضي بينهما ولد لم يضره " ١٥ وقيل معناه قدموا لأنفسكم طلب الولد١٦. وقد اختلف في العزل عن الزوجات. فأجازه قوم. وروي ذلك عن ابن عباس. وروي أنه احتج بهذه الآية ( نساؤكم حرث لكم ) الآية وهذه الحجة عندي إنما تصح مع تأويل ( أنى ) على كيف.
وقال بعض من قال هذا إنما حقها الوطء دون الإنزال وكرهه طائفة. ورووا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ذلك الوأد الخفي " ١٧ ويعضد هذا قول من فسر " قدموا لأنفسكم ".
وقال مالك رحمه الله إن أذنت الزوجة الحرة في ذلك، وأذن موالي الزوجة الأمة جاز وإن لم يأذنوا لم يجز وهذا هو الصحيح لأن الوطء لا يتم إلا بالإنزال فيهن في حق المرأة. وقال الشافعي : يجوز العزل في الأمة الزوجة دون إذنها، وإذن مواليها. وأما الحرة فلا يجوز إلا بإذنها١٨.
٢ أخرج حديثها الترمذي في التفسير (٢٩٧٩) وأحمد في المسند (٦/٣٠٥، ٣١٠، ٣١٨، ٣١٩) والطبري في تفسيره (٢/٥٢٥) ويراجع العجاب لابن حجر (ص ٣٧٤، ٣٧٥)..
٣ إلى هنا انتهى كلام ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/٨٠، ٨١)..
٤ كذا في ن و ب وفي أ "لفظة"..
٥ يراجع المحرر الوجيز (٢/٨١) وتفسير الطبري (٢/٥١٩، ٥٢٠)..
٦ ينظر المستصفى للغزالي (٣/٢٦٤ -٢٦٩) وإرشاد الفحول للشوكاني (ص١٣٣، ١٣٤)..
٧ أخرجه النسائي من حديث خزيمة بن ثابت في السنن الكبرى (٨٩٩٥) وصححه الألباني لوروده بألفاظ متقاربة وطرق جيدة. فيراجع السلسلة الصحيحة (٨٧٣) وآداب الزفاف (ص١٠٤)..
٨ أخرجه أبو داود في السنن، النكاح (٢١٦٢) وأحمد في المسند عن أبي هريرة (٢/٤٤٤، ٤٧٩) وصححه الألباني رحمه الله بشاهد آخر من حديث عقبة بن عامر فيراجع آداب الزفاف (ص ١٠٥)..
٩ أخرجه عن أبي هريرة أبو داود في الطب (٣٩٠٤) والنسائي في الكبرى (٩٠١٦) وابن ماجه في التيمم (٦٣٩) والدارمي (١١٣٦) وأحمد (٢/٤٠٨، ٤٧٦) والترمذي (١٣٥) والطحاوي في شرح معاني الآثار (٣/٤٤، ٤٥) وصححه أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي (١/٢٤٤) والألباني في آداب الزفاف (ص١٠٥، ١٠٦) وإرواء الغليل (٧/٦٥ -٧٠)..
١٠ يراجع مذهب مالك في أجوبة محمد بن سحنون (رقم ١٢٨) والمحرر الوجيز (٢/٨٢، ٨٣) وتفسير القرطبي (٣/٩٣، ٩٦)..
١١ في ب "فدلت"..
١٢ قاله الكيا الهراسي في أحكام القرآن يراجع (١/١٤١، ١٤٢) ومعناه عند الجصاص في أحكام القرآن (٢/٣٩ -٤٢)..
١٣ ويعجبني قول الطحاوي في هذه المسألة في شرح معاني الآثار (٣/٤٦): "فلما تواترت هذه الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنهي عن المرأة في دبرها، ثم جاء عن أصحابه وعن تابعيهم ما يوافق ذلك وجب القول به، وترك ما يخالفه"..
١٤ يراجع المحرر الوجيز (٢/٨٣) وتفسير الطبري (٢/٥٢٣)..
١٥ أخرجه البخاري في بدء الخلق (٣٢٨٣) ومسلم في النكاح (١٤٣٤)..
١٦ قاله ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/٨٤) ويراجع تفسير الطبري (٢/٥٢٨، ٥٢٩)..
١٧ أخرجه عن جذامة بنت وهب الأسدية مسلم في صحيحه في النكاح (١٤٤٢)..
١٨ تراجع أقوال الفقهاء في هذا شرح معاني الآثار للطحاوي (٣/٣٠ -٣٥) والموطأ في الطلاق (٢/١١٠ -١١٢) والتمهيد (٣/١٤٦ -١٥٠) والاستذكار كلاهما لابن عبد البر (١٨/١٩٦ -٢١٢)..
العرضة الاعتراض أي لا تعرضوا باليمين. وقيل : عدة ؛
قال عبد الله بن الزبير :
فهذي الأيام للحروب وهذي | للهوى وهذه عرضة للنوائب١. |
٢٢٤- وقوله تعالى :( أن تبروا ) ٤ |البقرة : ٢٢٤|.
يحتمل أن يكون متصلا بما قبله على أنه مفعول من أجله على تقدير ما يقتضيه المعنى، أو مفعول لعرضة إذا كانت بمعنى المنع، ويحتمل أن يكون منقطعا مما قبله على تقدير الابتداء. كأنه قال أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس أحسن وأفضل ونحو ذلك ؛ فحذف الخبر لدلالة الكلام عليه.
ولأجل هذه التقديرات اختلف المتأولون في قوله :( ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس ).
فقيل : المعنى ألا تعرضوا باليمين بينكم وبين فعل البر فتجعلوها حجة مانعة من البر والتقوى، والإصلاح بين الناس يقول : إن يحلف الرجل ولا يبر ولا يصلي ولا يصلح بين الناس، إذا دعي إلى بر أو إلى تقوى أو إصلاح بين الناس. قال : قد حلفت ؛ فيجعل اليمين معترضة بينه وبين ما ندب إليه. فالمعنى كراهة أن تبروا، وإرادة أن لا تبروا ؛ ولأجل ذلك٥ قال جماعة من أهل العلم : اليمين لا تحرم ما أحل الله، ولا تحل ما حرم الله. فإذا حلف حالف أن لا يفعل شيئا من البر فليفعل وليدع يمينه، ودل على هذا قوله تعالى :( ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة ) الآية |النور : ٢٢|. وفي الحديث الصحيح " من حلف على يمين، فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير " ٦.
وقيل : المعنى ولا تكثروا الحلف بالله في كل شيء، وهو من الجرأة على الله تعالى، والابتذال لاسمه في كل حق وباطل، ومن أكثر ذكر شيء فقد جعله عرضة٧.
وقال بعض المتأولين : المعنى ولا تحلفوا بالله كاذبين إذا أردتم البر والتقوى والإصلاح. فلا يحتاج هنا إلى تقدير، ولا يبعد أن يحتمل أن يكون هذا التأويل في الذي يريد الإصلاح بين الناس، فيحلف حانثا ليكمل غرضه. ويقوي٨ أن المراد بها الإكثار من اليمين بالله، ما روي عن عائشة –رضي الله عنها- أنها قالت : نزلت في تكثير اليمين بالله نهيا أن يحلف الرجل به بارا فكيف فاجرا٩.
وقد جاء عن مالك رحمه الله نحو هذا في تفسير الآية قال : إنه الحلف بالله تعالى في كل شيء. وعن عمر أيضا قريب من هذا. قال : لا تجعلوا اليمين مبتذلة في كل حق وباطل.
فيظهر١٠ من هذا القول أن اليمين بالله وإن كان الحالف بها صادقا مكروه. وقال بعض أهل العلم : اليمين بالله من الأيمان المباحة. وما روي من أن عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم كان يقول لبني إسرائيل إن موسى صلى الله عليه وسلم : " كان ينهاكم أن تحلفوا بالله كاذبين وأنا أنهاكم أن تحلفوا بالله صادقين أو كاذبين " ظاهره أن شرعه خلاف شرع موسى –عليه السلام-، وخلاف شرعنا في إباحة الحلف بالله دون كراهة١١. ويحتمل أن يكون إنما كره لهم اليمين بالله صادقين مخافة أن يكثر ذلك منهم فيكون ذريعة إلى حلفهم بالله على ما لم يعلموه١٢، يقينا أو يوافقوا الحنث كثيرا أو يقصروا في الكفارة فيقعوا في الحرج، لا أن ترك اليمين بالله على الصدق أفضل من الحلف بها، لأن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم باليمين باسمه في ثلاثة مواضع، فقال :( ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي أنه لحق ) |يونس : ٥٣| وقال :( قل بلى وربي لتبعثن ) |التغابن : ٧| وقال :( قل بلى وربي لتأتينكم ) |سبأ : ٣|.
وقال الزجاج وغيره : معنى الآية أن يكون الرجل إذا طلب منه فعل خير ونحوه اعتل بالله تعالى، فقال : علي يمين وهو لم يحلف١٣. وهذا هو الاختلاف في تأويل الآية.
وقد اختلف أيضا في سببها، فقال ابن جريج : نزلت في أبي بكر الصديق –رضي الله عنه- إذ حلف أن يقطع إنفاقه على مسطح بن أثاثة حين تكلم مسطح في حديث الإفك١٤. وقيل : نزلت في أبي بكر الصديق –رضي الله عنه- مع ابنه عبد الرحمان في حديث الضيافة حين حلف أبو بكر أن لا يأكل الطعام١٥. وقيل نزلت في عبد الله بن رواحة مع بشير بن سعد حين حلف أن لا يكلمه١٦. واليمين الحلف، وأصله أن العرب كانت إذا تحالفت أو تعاهدت، أخذ الرجل يمين صاحبه بيمينه ثم كثر ذلك حتى سمي الحلف يمينا١٧.
٢ في ب "مانعا"..
٣ يراجع تفسير الطبري (٢/٥٢٩، ٥٣٠) والمحرر الوجيز (٢/٨٣، ٨٤)..
٤ يراجع اختلاف العلماء في ذلك في تفسير الطبري (٢/٢٥٣، ٢٥٤) وتفسير القرطبي (٣/٩٨، ٩٩) وتفسير ابن كثير (١/٢٦٦، ٢٦٧)..
٥ في ب "ولهذا"..
٦ أخرجه عن عدي بن حاتم مسلم في الأيمان (١٦٥١)..
٧ نقله المؤلف عن الكيا الهراسي مع تصرف يراجع أحكام القرآن (١/١٤٣، ١٤٤) وأصله في أحكام القرآن للجصاص (٢/٤٢، ٤٣)..
٨ في ب "يبدو"..
٩ ذكره ابن عطية عنها في المحرر الوجيز (٢/٨٤)..
١٠ في أ "فظهر"..
١١ في ن "كراهية"..
١٢ في ن "يفعلوه"..
١٣ قاله ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/٨٤)..
١٤ رواه الطبري في تفسيره (٢/٤١٤ – ط العلمية) ويراجع العجاب لابن حجر (ص ٣٨٨)..
١٥ ذكره ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/٧٥) وأصل القصة في "الصحيح"..
١٦ ذكره الواحدي في أسباب النزول (ص ٤٩) والبغوي في معالم التنزيل (١/٢٦٢) وابن حجر (ص٣٨٧)..
١٧ قاله ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/٨٥)..
اختلف١ في لغو اليمين الذي يؤاخذكم الله تعالى به ما هو ؟ فقال ابن عباس، وعامر الشعبي وأبو صالح، ومجاهد : لغو اليمين قول الرجل في درج كلامه واستعماله في المحاورة لا والله، وبلى والله، دون قصد اليمين. وذهب إلى هذا إسماعيل القاضي، وهو قول الشافعي. وروي أن قوما تراجعوا الكلام٢ بينهم وهم يرمون بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلف أحدهم لقد أصبت وأخطأت يا فلان فإذا الأمر بخلافه. فقال الرجل : أحنثت يا رسول الله ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أيمان الرماة لغو لا كفارة فيها ولا إثم٣.
وقال أبو هريرة، وابن عباس أيضا، والحسن، ومالك بن أنس وجماعة من العلماء لغو اليمين ما حلف به الرجل على يقينه، وكشف الغيب خلاف ذلك. وهذا اليقين غلبة ظن أطلق الفقهاء عليه لفظ اليقين تجوزا قال مالك : مثل أن يرى الرجل على بعد فيعتقد أنه فلان لا شك فيحلف، ثم يجيء غير المحلوف عليه٤. وسواء في هذا قصد اليمين أو لم يقصدها لا إثم فيها، ولا كفارة، خلافا للشافعي في قوله إذا قصد اليمين، فليس بلغو، وفيه الكفارة ولا إثم فيه. وفي المذهب مثل هذا القول.
وقال سعيد بن المسيب، وأبو سلمة٥ بن عبد الرحمان، وعبد الله، وعروة ابنا الزبير لغو اليمين الحلف في المعاصي كالذي يحلف ليشربن الخمر، أو ليقطعن الرحم فيرى ترك ذلك الفعل ولا كفارة عليه. وقال سعيد بن جبير مثله، إلا أنه قال يكفر. فأشبه قوله في الكفارة قول من لا يراها لغوا. وقال عبد الله بن عباس أيضا، وطاوس : لغو اليمين الحلف في حال الغضب. وروى ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يمين في غضب " ٦ وهذا خلاف قول الجمهور إن اليمين في الغضب لازمة.
وقال مكحول الدمشقي، وجماعة من العلماء : لغو اليمين أن يحرم الرجل على نفسه ما أحل الله فيقول مالي علي حرام إن فعلت كذا وكذا، أو الحلال علي حرام. وقال بهذا القول أيضا مالك إلا في الزوجة فإنه ألزم فيها التحريم إلا أن يخرجها الحالف بقلبه. وقد جعل بعضهم في كل ما يحرمه الإنسان من مال أو غيره كفارة، فليس من لغو اليمين على ذلك.
وقال زيد بن أسلم وابنه : لغو اليمين دعاء الرجل على نفسه أعمى الله بصره، أذهب الله ماله، وهو يهودي، هو مشرك، هو لغية إن فعل كذا. وقد جعل بعضهم في هذا وشبهه الكفارة، فلا يكون لغوا على ذلك.
وقال ابن عباس أيضا والضحاك : لغو اليمين هي المكفرة أي إذا كفرت فحينئذ سقطت وصارت لغوا، ولا يؤاخذكم الله بتكفيرها والرجوع إلى ما هو خير.
وقال النخعي : لغو اليمين ما حنث فيه الرجل ناسيا، والأكثر على إيجاب الكفارة في ذلك، وإن حنث ناسيا فلا يكون على قولهم لغوا.
وقيل٧ : لغو يمين المكره٨.
وإنما يقوى بعض هذه الأقوال، ويضعف بحسب ما ذكر٩ الله في الآية من اللغو والكسب. وذلك أن اللغو ما لم يتعمد، وما حقه أن يسقط١٠، والكسب ما قصده ونواه.
والمؤاخذة يحتمل أن تكون هي الأخذ بالكفارة، ويحتمل أن يريد بها عقوبة الآخرة.
ولغو اليمين لا يكون إلا في اليمين بالله وإن كان قوله :( لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ) عاما في جميع الأيمان بالله وبغيره لكنه لما١١ لم يقع ذكر اللغو إلا مع اليمين بالله تعالى لم يحمل على سواه.
وبعضهم يجعل في اليمين بالطلاق لغوا فلا يرى فيه شيئا وذلك أنهم اختلفوا فيمن حلف بالطلاق من غير إرادة فسبقه اللسان إليه. فأوجب الجمهور عليه الطلاق إذا حنث.
وذهب جماعة إلى أنه لا حنث عليه منهم الشافعي، ويروى عن ابن نافع وحجتهم عموم هذه الآية، فلم يخص اللغو بالحلف. قالوا ثم قال الله :( ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ) وإذا سبق الطلاق إلى اللسان، فليس للقلب فيه كسب، فلا يؤاخذه الله به. وهكذا١٢ تأتي اليمين بالعتق على قياس هذه المسألة.
وقد اختلف في الطلاق بالنية فعن مالك فيه قولان، وأن يلزم أصح لأنه مما١٣ قد اكتسبه بقلبه، والله تعالى قد قال :( ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ).
واختلف أيضا فيمن حلف بالطلاق دون نية أم لا ؟ فعن مالك قولان أصحها أن لا يحنث لأنه تعالى :( لا يؤاخذكم ) إلا بما كسبت القلوب، وهذا مما١٤ لم يكسبه القلب ولم يكن فيه إلا اللفظ، وقد قال النبي صلى الله عليه سلم : " إنما الأعمال بالنيات " ١٥.
وقد اختلف في معنى قوله تعالى :( ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ) |البقرة : ٢٢٥| فقال ابن عباس، والنخعي وغيرهما : ما كسب القلب هي اليمين الكاذبة الغموس فهذه فيها المؤاخذة في الآخرة.
وقال زيد بن أسلم : هو الرجل يقول هو مشرك إن فعل، أي هذا لغو إلا أن يعتقد الإشراك بقلبه ويكسبه١٦. وقد اختلف في الغموس هل فيها كفارة أم لا ؟ مع اتفاقهم على أن فيها إثما :
فذهب بعضهم إلى أنه كما فيها مؤاخذة في الآخرة، فكذلك فيها في الدنيا الكفارة. ومن حجتهم عموم قوله تعالى :( ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ) وهذا قول الشافعي، وقتادة، وعطاء والربيع. وذهب مالك وجماعة من العلماء إلى أنه لا كفارة فيها. ومن حجتهم أن يتأولوا١٧ المؤاخذة في الآخرة خاصة لا في الدنيا. قال بعضهم ومن حجتهم أيضا قوله تعالى :( ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته ) |المائدة : ٨|. ويمين الغموس محلولة غير منعقدة١٨، ويلزم على مساق الآية، وعلى ما يقتضيه كلام العرب أن تكون المؤاخذة المذكورة في قوله تعالى :( لا يؤاخذكم ) المنفية في قوله تعالى :( لا يؤاخذكم الله باللغو ) الآية. وعلى حسب هذا ينبغي أن تحمل التأويلات الواردة على العلماء في قوله تعالى :﴿ لا يؤاخذكم الله ﴾ الآية فأخرج عن هذا ضعف القول به.
وقد ظن قوم أن المراد بقوله تعالى :﴿ لا يؤاخذكم الله ﴾ أن المؤاخذة في الآخرة، وأن المؤاخذة لا تجب في الدنيا، وليس كما ظنوه فإنه تعالى قال في الأخرى :{ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته ) الآية |المائدة : ٨| فجعل المؤاخذة المستدركة بقوله :( ولكن يؤاخذكم ) الكفارة فيجب أن تكون المؤاخذة المنفية أولا هي المؤاخذة بالكفارة١٩.
٢ في ن "القول"..
٣ أخرجه الطبري في تفسيره (٢/٥٤٦) من طريق الحسن البصري مرسلا. وحسنه ابن كثير في تفسيره (١/٢٦٨)، لكن قال الحافظ ابن حجر في الفتح (١١/٥٤٧): "وهذا لا يثبت لأنهم كانوا لا يعتمدون مراسيل الحسن لأنه كان يأخذ عن كل أحد"..
٤ من أول الآية قال أغلبه ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/٨٦) ويراجع قول مالك في الموطأ، كتاب النذور والأيمان (١/٦١٢)..
٥ كذا في أ و ب والصواب "أبو بكر بن عبد الرحمان" كما جاء في المحرر الوجيز '٢/٨٦)..
٦ رواه الطبري في تفسيره (٢/٥٤١، ٥٤٢) من طريق عمر بن يونس اليمامي، قال: ثنا سليمان بن أبي سليمان الزهري، عن يحيى بن أبي كثير، عن طاوس، عن ابن عباس فذكره.
وسنده ضعيف فيه سليمان بن داود اليمامي أو ابن أبي سليمان ضعفه غير واحد كما في الميزان (٢/٢٠٢) و ٢/٢١٠)..
٧ قال ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/٨٨): "وحكى ابن البر قولا: أن اللغو أيمان المكروه"..
٨ في ب "اليمين المكروه"..
٩ في ن "ذكره"..
١٠ في المحرر الوجيز (٢/٨٨): "أو ما حقه لهجنته أن يسقط"..
١١ في ن "بما"..
١٢ في ب "لغير"..
١٣ في ب "وعلى هذا"..
١٤ في ن و ب "وكذا فيمن لم يكسبه القلب"..
١٥ مضى تخريجه..
١٦ يراجع المحرر الوجيز (٢/٨٨، ٨٩)..
١٧ في ب "يتناول"..
١٨ في ب "معقودة" وكذا في ن..
١٩ قاله الهراسي في أحكام القرآن (١/١٤٧) مستدركا على الجصاص في أحكام القرآن (٢/٤٣، ٤٤)..
ومعنى قوله تعالى :( يؤلون ) يحلفون هذه عبارة بعض المفسرين وعبر بعضهم بأن الإيلاء الامتناع.
وقرأ أبي بن كعب، وابن عباس " للذين يقسمون ". وقال قوم : الإيلاء في لسان العرب الامتناع من فعل الشيء، يقال تألى فلان أن يفعل خيرا أي امتنع١، ومنه قوله تعالى :( ولا يأتل أولوا الفضل منكم ) |النور : ٢٢| أي لا يمتنع. ويحتمل على هذا أن يكون معنى الآية للذين يمتنعون من نسائهم باليمين على ذلك. فرجع التفسيران بمعنى واحد. وأصل هذا أن الرجل كان في الجاهلية إذا كره المرأة وأراد أن لا يطأها ولا ينكحها غيره٢ حلف عليها أن لا يقربها، فتركها لا أيما ولا ذات زوج إضرارا بها. وفعل ذلك في أول الإسلام. فحد الله للمولي من امرأته بهذه الآية حدا لا يتجاوزه٣.
واختلف في تقدير الآية، فقيل : معنى الكلام للذين يحلفون أي يعتزلوا من نسائهم تربص أربعة أشهر. والتربص التوقف والنظر٤. وترك ذكر أن يعتزلوا في الآية اكتفاء بدلالة ما ظهر من الكلام عليه، كقوله :( فمن كان منكم مريضا أو على سفر ) |البقرة : ١٨٤| وقال الفراء : " من " في الآية بمعنى " على " كأنه قال للذين يؤلون على نسائهم، والتقدير الأول أحسن. وليس في ألفاظ هذه الآية ما يدل على اليمين التي يكون بها الإيلاء ما هي ؟ وعلى المدة التي يؤثر الحلف عليها كم هي ؟ ولا على النساء المحلوف عليهن من هن ؟ ولا على الحالف من هو ؟ تجاذب العلماء في ذلك نظرا واجتهادا فمن ذلك اليمين، وقد اختلفوا فيها بحسب القول في العموم والخصوص على أربعة أقوال :
فذهب مالك رحمه الله إلى أنها اليمين على ترك الجماع واليمين التي يلحق الحالف بها عن٥ الحنث فيها حكم بأن لا يطأ زوجته إضرارا بها٦. وقال به عطاء وغيره.
وقال علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- وابن عباس، والحسن بن أبي الحسن : هي يمين الرجل أن لا يطأ زوجته على وجه مغاضبة ومشارة، وسواء كان في ضمن ذلك إصلاح ولد أو لم يكن، فإن لم يكن عن غضب فليس بإيلاء.
وقال ابن سيرين : وسواء كانت اليمين من غضب، أو من غير غضب فهو إيلاء بكل حال. وإلى هذا ذهب الشافعي وأبو حنيفة.
وقال الشعبي والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، وابن المسيب كل يمين حلفها الرجل٧ أن لا يطأ زوجته ولا يكلمها أو أن يغاضبها، فذلك كله إيلاء. قال ابن المسيب منهم : إلا أنه إن حلف أن لا يكلم، وكان يطأ فليس بإيلاء، وإنما يكون اليمين على غير الوطء إيلاء إذا اقترن ذلك بالامتناع من الوطء. وأقوال من ذكرنا مع سعيد محتملة ما قال سعيد، ومحتملة أن يريدوا أن ما أدى من اليمين إلى فساد العشرة إيلاء. وإلى هذا الأخير ذهب الطبري٨.
وعلى ما قدمته تركب الخلاف، فمن حلف أن لا يطأ امرأته حتى تفطم ولدها فالمشهور من المذهب أنه ليس بمول لأنه لم يقصد ضررا وإنما أراد إصلاح ولده. وذكر عن أصبغ أنه مول وللمرأة الفراق إذا لم يفيء. وكأن هذا جنوح إلى مذهب الشافعي، وأبي حنيفة، وغيرهما.
والذي يعضد مذهب مالك أن عموم الآية خرج عن سبب وهو ما كانت الجاهلية تفعله من الحلف على الوطء إضرارا بالمرأة. والعموم إذا خرج على سبب فعن مالك روايتان :
إحداهما : أن يقتصر على سببه ولا يحمل على عمومه فإذا قصرت الآية على السبب الذي نزلت فيه صح مذهب مالك رحمه الله. وكأن مالكا رحمه الله نظر إلى هذا في هذا القول. وأما أبو حنيفة والشافعي رحمهما الله فلم يقصرا ذلك على سببه وحملاه على عمومه في الامتناع من الوطىء كيف كان ؛ وكأن من ذهب إلى فساد العشرة ذهب إلى أن حمل عموم الآية على الامتناع من الوطء وعلى غيره مما يفسد العشرة، فعلى هذا لا يضمر في الآية كما قدمنا أن يعتزلوا نساءهم بل يعتبر فيه لفظ أعم منه.
وكأن الذين راعوا في ذلك الغضب خصصوا عموم الآية بالعادة، لأن العادة في الأكثر أن لا يحلف الإنسان على الامتناع من وطء امرأته، وهو غاضب فحملوا الآية على ذلك٩. وهذا أصل فيه بين الأصوليين خلاف. واختلفوا أيضا في حد المدة التي يكون الحالف بترك الوطىء فيها موليا على أربعة أقوال١٠ :
أحدها : أنه لا يكون موليا إلا من حلف أن لا يطأ امرأته على التأبيد، وأطلق اليمين ولم يقيدها بصفة مخصوصة، فإن قيدها بصفة مخصوصة مؤقتة فليس بمول. وهذا قول ابن عباس.
والثاني : أنه لا يكون موليا، حتى يزيد على أكثر من أربعة أشهر، ولو بيوم، وهذا مذهب مالك ومن تبعه. وقد تأول على المذهب أنه لا يكون موليا حتى يزيد على الأربعة أشهر أكثر مما يتلوم به عليه إذا قال : أنا أفيء. وهذا غلط.
والثالث : أنه يكون مولياإذا حلف على أربعة أشهر فصاعدا، و لا يكون موليا إن حلف على أقل منها. وهو مذهب أبي حنيفة وأهل العراق. وذكره ابن لبابة عن أصبغ.
والرابع : أنه يكون موليا، إذا حلف على كثير من الأوقات، أو قليل١١ أن لا يجامع فتركها أربعة أشهر من غير جماع. وهو مذهب ابن أبي ليلى وطائفة من أهل الكوفة. والدليل على ابن عباس قوله تعالى :( للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر ) فعم ولم يخص مؤبدا من غير مؤبد.
والدليل على أبي حنيفة قوله تعالى :( للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر ) فهذه أدلة. أحدها أنه تعالى أضاف مدة التربص إلى الزوج وجعلها حقا له، وما كان حقا للإنسان لم يكن محلا لوجوب خلف عليه كالآجال في الديون وغيرها، والدليل على ابن أبي ليلى ومن تابعه أنه إذا حلف على يوم يصير بعد مضيه ممتنعا من غير يمين، فكان كمبتدئ الامتناع من غير يمين١٢. وقد اختلف فيمن حلف أن لا يطأ أربعة أشهر، فمضت الأربعة أشهر١٣ فقال مالك والشافعي لا يكون موليا. وقال أبو حنيفة : يكون موليا، ويقع به الطلاق وإن لم ينو الإيلاء. ووجه الاستدلال عليه من الآية أن الله تعالى أضاف الفيء والطلاق إلى المولي فدل على أنهما يتعلقان١٤ بفعله. وأيضا فإنه تعالى قال :( وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم ) ٢٢٧ ) |البقرة : ٢٢٧| فاقتضى ذلك أن يكون عزيمة الطلاق واقعة على وجه فيسمع، وعندهم أن عزيمة الطلاق ترك الوطء مدة التربص وذلك لا يتأتى فيه سماع. وقال تعالى :( للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر ) خلافا لمن يعتبر في الأجل النساء.
وأما أبو حنيفة والمزني فجعلا الإيلاء من الحرة أربعة أشهر ومن الأمة شهرين. واختلف في أجل إيلاء العبد من زوجته فذهب الشافعي، وأبو حنيفة وأحمد، وأبو ثور إلى أن أجله أربعة أشهر. ومن حجتهم عموم الآية وأن الحر والعبد يدخلان تحت عموم قوله تعالى :( للذين يؤلون من نسائهم ) الآية وفي مثل هذا بين الأصوليين خلاف.
وذهب مالك، والزهري، وعطاء، وإسحاق إلى أن أجله شهران قياسا على الطلاق١٥. وفي تخصيص عموم القرآن بالقياس خلاف. وذهب الحسن إلى أن أجله من الحرة أربعة أشهر ومن الأمة شهران. وهذا قول مبني على اعتبار الأجل بالنساء. وهو باطل، إنما يعتبر بالرجال والدليل من الآية أن الله تعالى قد جعل في هذه الآية مدة التربص حقا للزوج والحقوق معتبرة بمن جعلت له كالطلاق وغيره، واختلف في الإيلاء من غير المدخول بها هل يلزم أم لا١٦ ؟ فذهب مالك، وأصحاب الشافعي وأصحاب الرأي والأوزاعي، والنخعي، وغيرهم إلى أن المدخول بها وغير المدخول بها سواء في لزوم الإيلاء منها. وذهب الزهري، وعطاء، والثوري إلى أنه لا إيلاء إلا بعد الدخول.
ووجه الرد عليهم من الآية أنه تعالى قال :( من نسائهم ) فعم غير المدخول بها من النساء، فيلزم فيها الإيلاء.
واختلفوا١٧ في الإيلاء من الصغيرة مدة تنقضي قبل بلوغها هل له حكم أم لا ؟ فذهب مالك إلى أنه لا حكم له. وذهب أبو حنيفة إلى أنه له حكما ويضرب له المدة من وقت اليمين. ومن حجته التعلق بعموم الآية١٨. واختلفوا أيضا في الخصي والذي قد بقي من ذكره ما لا يمكن أن يطأ به والشيخ الفاني إذا آلى أحدهم هل يكون لإيلائه حكم أم لا١٩ ؟ فذهب مالك إلى أنه لا حكم لإيلائه. وللشافعي قولان أحدهما٢٠ : أن الإيلاء منهم ينعقد ويفيء باللسان. ومن حجته أيضا التعلق بعموم الآية.
وقد اختلف فيمن حلف ليعزلن عن زوجته. فقيل : ليس بمول لأن الوطء موجود فيه. قال عبد الحق : وهذا ليس بصواب لأن الإنزال من حقوق الزوجة إذ لا يجوز أن يعزل عنها إلا بإذنها. وقال أبو عمران الفاسي : قد اختلف٢١ فيمن حلف أن لا يبيت عند زوجته هل تطلق عليه أم لا ؟ وهو يطأ بالنهار. وقال عبد الحق : فإذا قد اختلف في هذا ففي العزل أولى أن تطلق عليه.
وكذلك اختلفوا فيمن حلف أن لا يطأ زوجته إلا أن تسأله ذلك فهل هو مول أم لا ؟ وقال سحنون : ليس بمول لأن الامتناع من قبلها.
واختلفوا٢٢ أيضا إذا ترك الوطء مضارا وطال ذلك منه بغير يمين فهل يلزمه حكم المولي أم لا ؟ فذهب مالك إلى أن له حكم المولي. وذهب غيره إلى خلاف ذلك٢٣، ومن حجة غيره ظاهر الآية لأنه تعالى إنما جعل ذلك الحكم للمولي وهذا الحالف على صفة وهذا غير حالف فمن أثبت له ذلك الحكم فعليه الدليل.
ومن حجة مالك قوله تعالى :( ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف ) |البقرة : ٢٢٨| وقوله :( ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ) |البقرة : ٢٣١| وقد روي عن مالك في هذه المسألة أن للمرأة أن تقوم بالفراق من غير أن يضرب لها أجل.
وأما إن ترك الوطء غير مضار مثل أن يتركه لعبادة أو نحو ذلك، فقيل لها أن تقوم بالفراق من غير أجل وهو قول مالك. وقال : يضرب له أجل٢٤ المولي، وهذا قياس٢٥ على المولي. وأما على تأويل من تأول الآية على أن معناها للذين يمتنعون من نسائهم تربص أربعة أشهر، فالحجة فيها بينة. وقد اختلف فيمن قطع ذكره أو نزلت به علة منعته من الإصابة. فقال مالك مرة : لزوجه القيام بالفراق، وقال مرة، لا قيام لها ولو تعمد قطع ذكره كان ذلك لها قولا واحدا.
واختلف الفقهاء فيما يستحسن أن يكتب في الصدقات من قدر أجل المغيب في غير سبيل الحج، بعد اتفاقهم على أن ذلك ليس بلازم فمال جل المذهبين٢٦ بل كلهم إلى أنه يضرب له في ذلك ستة أشهر، وعلى ذلك بنوا الصدقات للحديث المروي عن عمر أنه سأل كم تصبر المرأة عن زوجها ؟ فقيل له أربعة أشهر أو ستة. فكان لا يبعث بعثا في الغزو لأكثر من ذلك نظرا للزوجات٢٧. وقال بعض الفقهاء إلى أن يضرب في ذلك أربعة أشهر استحسانا لقول الله تعالى :( للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر ) قالوا فألزم الله تعالى المولي عند انقضاء الأربعة أشهر أن يفيء أو يطلق، ولم يجعل للزوجة قياما قبلها. وقد روي في حديث علي –رضي الله عنه- أنه لما سأل النساء ذكرن له أربعة أشهر ذكره اللخمي.
٢٢٦- وقوله تعالى :( فإن فاءوا ) |البقرة : ٢٢٦|.
اختلف العلماء في تأويله٢٨، فقال قوم إلى أن معناه فإن فاؤوا فيهن أي في الأربعة أشهر. وقرأ أبي بن كعب " فإن فاؤوا فيهن " وروي عنه : " فإن فاؤوا فيها " ٢٩ وذهب قوم إلى أن تقديره فإن فاؤوا بعدهن وعلى هذين٣٠ التأويلين جاء اختلافهم في حكم المولي بعد انقضاء أجل الإيلاء، فذهب مالك في المشهور عنه، وجميع أصحابه إلى أنه لا يقع عليه طلاق، وإن مرت به سنة حتى يوقف فإما فاء وإما طلق٣١. وروي هذا القول عن علي، وعمر وابن عمر، وعثمان
٢ في أ "وأراد أن لا تنكح زوجا غيره"..
٣ يراجع المحرر الوجيز لابن عطية (٢/٨٩)..
٤ في أ "التنظر" والمثبت موافق لما عند الطبري في تفسيره (٢/٥٥٣)..
٥ في أ و ب خلل في العبارة أصلحته من المحرر الوجيز (٢/٨٩)..
٦ المحرر الوجيز (٢/٨٩، ٩١) ويراجع لأقوال المفسرين والفقهاء في هذا تفسير الطبري (٢/٥٥٣، ٥٥٨) وأحكام القرآن للجصاص (٢/٤٤ -٤٧) وأحكام القرآن للهراسي (١/١٤٧، ١٤٨) وأحكام القرآن لابن العربي (١/١٧٦ -١٧٩) والاستذكار لابن عبد البر (١٧/٨٠ -١٠٨) وتفسير القرطبي (٣/١٠٢ -١٠٨)..
٧ في ب "حلف بها الرجل"..
٨ جامع البيان (٢/٥٥٨)..
٩ يراجع كلام ابن العربي في أحكام القرآن (١/١٧٨) وتفسير القرطبي (٣/١٠٦)..
١٠ يراجع المحرر الوجيز (٢/٩٠، ٩١) والإشراف لعبد الوهاب (٢/٧٦٠، ٧٦١) والاستذكار لابن عبد البر (١٧/١٠٤ -١٠٦)..
١١ في ب "حلف كسر من الأوقات أو قليلا"..
١٢ قاله عبد الوهاب في الإشراف (٢/٧٦١)..
١٣ يراجع أقوال الفقهاء في أحكام القرآن للجصاص (٢/٤٦، ٤٧) وأحكام القرآن للهراسي (١/١٤٨) والإشراف لعبد الوهاب (١/٨٦١)..
١٤ في ن "متعلقان"..
١٥ يراجع المحرر الوجيز (٢/٩١) والإشراف لعبد الوهاب (٢/٧٦١، ٧٦٢)..
١٦ يراجع المحرر الوجيز (٢/٩١)..
١٧ في ب "واختلف"..
١٨ يراجع الإشراف لعبد الوهاب (٢/٧٦٤)..
١٩ يراجع الإشراف (٢/٧٦٤÷، ٧٦٥) والأم للشافعي (٥/٢٧٤، ٢٧٥)..
٢٠ في ب "وذهب الشافعي إلى قولين احديهما"..
٢١ في ب "اختلفوا"..
٢٢ في "واختلف"..
٢٣ يراجع الإشراف لعبد الوهاب(٢/٧٦٤)..
٢٤ في أ زيادة "على"..
٢٥ في ب "قياسا"..
٢٦ سقطت من ب..
٢٧ في ب "المزوجات" ويراجع رأي عمر –رضي الله عنه" في تفسير القرطبي (٣/١٠٨)..
٢٨ يراجع تفسير الطبري (٢/٥٥٩، ٥٨٠) وأحكام القرآن للجصاص (٢/٤٧ -٤٩) والمحرر الوجيز (٢/٢٩ـ ٩٣) وأحكام القرآن للهراسي (١/١٤٩، ١٥٠) وأحكام القرآن لابن العربي (١/١٧٩، ١٨٠) وتفسير القرطبي (٣/١٠٨ -١١٠)..
٢٩ ذكره ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/٩٣)..
٣٠ في ب "وعلى تقدير"..
٣١ قول مالك في الموطأ في الطلاق (٢/٦٧) والمدونة (٣/٩٨)..
عزيمة الطلاق على مذهب مالك١، ومن قال بقوله إيقاعه بعد الإيقاف. وعند أهل العراق وقوعه عند انقضاء أجل الإيلاء. والدليل لقول مالك ومن قال بقوله قوله تعالى :( فإن الله سميع عليم ) وسميع لا يكون إلا بالنطق لأن الكلام هو الذي يسمع، وإذا انقضى أجل الإيلاء فليس بمسموع وإنما هو معلوم٢، وإذا آل من أجنبية صح ولا يفتقر إلى شرط٣ التزويج، وإن تزوجها وقد بقي من مدته أكثر من أربعة أشهر وقف لها. قال أبو حنيفة والشافعي : لا يصح الإيلاء من الأجنبية٤. ودليل ذلك قوله تعالى :( للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر ) ولم يفرق بين إيلاء يقع٥ قبل التزويج أو بعده والكافر لا يصح منه الإيلاء، لأنه لا يؤخذ به إلا بعد إسلامه خلافا لأبي حنيفة والشافعي.
ومن حجتهما عموم هذه الآية، ودليلنا قوله تعالى :( قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ) |الأنفال : ٣٨| ولا خلاف في أن اليمين بالله وبصفاته ينعقد بها الإيلاء.
وأما الحلف بغير ذلك، فقد اختلف فيه فذهب مالك إلى أن الإيلاء يلزم به خلافا للشافعي في قوله لا يكون موليا إلا إذا حلف بالله فقط. والدليل على قول مالك ومن تابعه قوله تعالى :( للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر ) فعم٦.
وقال بعضهم في القول الأول الذي نسبناه للشافعي، هذا إنما يصح على مذهب من يرى الأيمان بغير الله غير لازمة٧. وقد اختلفوا في الكفارة قبل الحنث هل تجزيه أم لا ؟ وعن مالك روايتان. واحتج محمد بن الحسن على امتناع ذلك، بأن قال حكم المولي على ما ذكر الله تعالى فيء أو طلاق، ولو جاز تقديم الكفارة على الحنث لبطل الإيلاء بغير فيء، ولا طلاق لأنه إن حنث لم يلزمه بالحنث شيء، ومتى لم يلزم الحالف بالحنث شيء لم يكن موليا٨، وهذا النظر غير صحيح إذا تؤمل.
٢ في المحرر الوجيز (٢/٩٣)..
٣ في ب "ينعقد".
في ب "صحة"..
٤ يراجع الإشراف لعبد الوهاب (١/٧٦٥)..
٥ في ب "ينعقد" وكذا في ن..
٦ في ب و ن "يلزمه"..
٧ يراجع المصدر السابق (١/٧٦٥، ٧٦٦)..
٨ قاله الجصاص في أحكام القرآن (٢/٥٤، ٥٥) وعنه الهراسي في أحكام القرآن (١/١٥١) ويراجع رد الهراسي واعتراضه على هذا القول..
اختلف أهل العلم١ في القروء وما المراد٢ بها على حسب اختلاف أهل اللغة٣ والنظر ؛ إذ منهم من يقول : إنه اسم مشترك للطهر والحيض ومنهم من يقول : هو حقيقة في الطهر مجاز في الحيض. ومنهم من عكس ذلك، وكذلك اختلفوا في اشتقاقه وتفسيره، فمنهم من قال في الأصل اسم الوقت مأخوذ من قول الشاعر :
................... | إذا هبت لقارئها الرياح٤ |
................... | هجان اللون لم تقرأ جنينا٥ |
يا رب ذي ضغن علي فارض | له قرء كقرء الحائض٧ |
أفي كل عام أنت جاشم غزوة | تشد لأقصاها عزيم عزائكا |
مورثة مال وفي الذكر رفعة | بما ضاع من قروء نسائكا٩ |
وواحد القروء. قرء وقرء بضم القاف وفتحها وقد أقرأت المرأة إذا حاضت وإذا طهرت١٠.
ولما كانت هذه اللفظة كذلك اختلف أهل العلم فيما أريد بها في الآية١١ : فذهب أهل الحجاز وهو مذهب مالك وأصحابه إلى أنها الأطهار لا خلاف بينهم في ذلك.
وذهب أهل العراق إلى أنها الحيض والدليل على حجة قول مالك رحمه الله تعالى قول الله عز وجل :( يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ) |الطلاق : ١| أي في مكان يعتدون فيه كما قرأ ابن عمر : " فطلقوهن في قبل عدتهن " ١٢ وهو قراءة تساق على طريق التفسير. وبين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم : " أن يطلقها في طهر لم يمسها فيه " فدل ذلك أن الطهر الذي طلقها فيه تعتد به، وأنه من أقرائها، ولو كانت الأقراء الحيض لكان المطلق في الطهر مطلقا لغير العدة. وتعلق بعضهم في الاحتجاج لمذهب مالك بدخول هاء التأنيث في١٣ قوله تعالى :( ثلاثة قروء ) وقال فهذا دلالة على أن المراد بالقروء١٤ الأطهار، ولو أراد الحيض لقال ثلاث قروء، وهذا كما زعم، ولكن العرب قد تراعي في التذكير والتأنيث اللفظ المقرون بالعدد. تقول : " ثلاثة منازل "، وهي تعني الديار. وقال عمر بن أبي ربيعة : " ثلاث شخوص " ١٥، وهو يعني نساء فأنث على المعنى وراعاه، ولم يراع اللفظ، فمرة يراعون اللفظ ومرة يراعون المعنى١٦. ففي الاحتجاج بذلك ضعف. وفائدة الخلاف في هذا إنما هو هل تحل المرأة بدخولها في |الدم|١٧ الثالث ؟ أو بانقضاء آخره ؟ فمن قال : إنها الحيض اتفقوا على أنها لا تحل، بأول الدم الثالث، واختلفوا بماذا تحل ؟ فقال قوم لا تحل للأزواج حتى تغتسل من الحيضة الثالثة، وهو قول أبي بكر، وعمر وعثمان، وعلي، وابن عباس، ومجاهد والضحاك، والربيع١٨، وقتادة، وابن مسعود، وأبي موسى، وعبادة بن الصامت، وأبي الدرداء، والثوري، وإسحاق، وأبي عبيد.
وقال قوم : إذا طهرت١٩ من الثالثة انقضت العدة قبل الغسل، وهو قول سعيد بن جبير وطاوس.
ومن قال : إن القروء هي الأطهار وهو مذهب مالك رحمه الله٢٠، والشافعي وأبي ثور، وابن عمر، وعائشة، وزي، والقاسم، وسالم، قالوا : إذا رأت المرأة الدم من الحيضة الثالثة حلت للأزواج.
وقال أشهب٢١ إلا أني أستحب أن تعجل حتى تعلم أنها حيضة مستقيمة بالتمادي فيها لأنها ربما رأت المرأة الدم الساعة، والساعتين، واليوم، ثم ينقطع فيجب عليها الرجوع إلى بيتها، ويكون لزوجها عليها الرجعة، واختلف الشيوخ في قول أشهب هل هو خلاف لقول مالك أوتفسير له، والصحيح أنه خلاف.
ومما اعترض به أصحاب أبي حنيفة على من قال : إن الأقراء في الآية الأطهار بأن قالوا المصير إلى القول بالأطهار خروج عن ظاهر القرآن لأن القروء في اللغة تطلق على الأطهار٢٢ والحيض، وهو من الأسماء المشتركة فإذا أطلق، وقد مضى من الطهر شيء فعندكم أنها تعتد ببقية الطهر، وهذا يوجب كون العدة قرءين وبعض ثالث، فإذا قلنا بالحيض٢٣ كانت العدة ثلاثة قروء كوامل إذ لا يصح الطلاق في الحيض. وعند هذا اضطرب القائلون بالأطهار فذهب بعضهم إلى أن الطهر الذي وقع فيه الطلاق، وقد ذهب بعضه لا تعتد وتستأنف ثلاث تطهيرات سواه وهو قول ابن شهاب. وذهب غير ابن شهاب إلى أنه يعتد بالطهر، وإن مضى أكثره. واختلفوا في الجواب عن ذلك الاعتراض فقال بعضهم : القرء التنقل من حال إلى حال في المستحق بهذه التسمية على موجب هذا الاشتقاق... ٢٤ الطهر يليه الحيض ويعقبه الانتقال من حال إلى حال. وقال بعضهم : غير بعيد تسمية القرأين وبعض الثالث ثلاثا، وقد قال الله تعالى :( الحج أشهر معلومات ) |البقرة : ١٩٧| وهو شهران وعشرة أيام، والظاهر من هذه الآية أن الله تعالى جعل الحيضة براءة للرحم من الحمل. ولهذا٢٥ قال جماعة من أهل العلم إن الحامل لا تحيض، وإن الدم الذي تراه لا يعد حيضا خلافا لقول مالك وأصحابه من أنه حيض٢٦ إلا رواية عن ابن القاسم في " كتاب محمد " أخذ منها اللخمي أن الدم على الحمل ليس بحيض، ونص الرواية قال اللخمي : قال ابن القاسم في كتاب محمد في المطلقة ثلاثة حيض ثم يظهر بها حمل : لو أعلم أن الأول حيض مستقيم لرجمتها قال اللخمي : فنفى عن الحامل الحيض. يريد أن الله عز وجل جعل الحيض دليلا على براءة الرحم، وعلى عدم الحمل، فلو صح الحمل والحيض لم يكن دليلا على البراءة.
واختلف المتأولون في المراد بقوله تعالى :( وما خلق الله في أرحامهن ) |البقرة : ٢٢٨| فقال ابن عمر، ومجاهد، والربيع، وغيرهم : هو الحيض والحمل جميعا. ومعنى تحريم الكتمان : النهي عن الإضرار بالزوج وإذهاب حقه لأنها إذا قالت المطلقة قد حضت وهي لم تحض فقد ذهبت بحقه في الارتجاع. وإذا قالت لم أحض وهي قد حاضت ألزمته من النفقة ما لا يلزمه فأضرت به. وكذلك الحامل تكتم الحمل لتقطع حقه في الارتجاع. وقال قتادة : كانت عادتهن في الجاهلية أن يكتمن الحمل ليلحق الولد بالزوج الجديد، ففي ذلك نزلت الآية٢٧. وقال السدي : سبب الآية أن الرجل كان إذا أراد أن يطلق المرأة سألها أبها حمل مخافة أن يضر بنفسه وولده في فراقها، فأمرهن الله عز وجل بالصدق في ذلك٢٨. وقال إبراهيم النخعي، |وعكرمة|٢٩ : المراد بما خلق الله الحيض وحده. وقال ابن عباس وابن عمر : المراد الحمل وحده.
وفي قوله تعالى :( ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن ) ما يقتضي أنهن مؤتمنات على ما ذكر، ولو كان الاستقصاء مباحا لم يكن كتم٣٠.
وذهب بعضهم إلى أن المراد بما |خلق الله|٣١ في أرحامهن الولد دون الحيض. واحتج بأن الولد مخلوق وهو٣٢ ضعيف لأن الحيض أيضا محدث وهو مخلوق.
والظاهر من الآية أنها تعم ما تختص المرأة بعلمه من نفسها من الحمل، ومن خروج الدم فأمرت بالصدق في ذلك إذ لا يعلم إلا من قولها، ولو كلف النساء أن يعرف ذلك منهن غيرهن لعظمت المشقة، ومما يجب عندي أن يلحق بالحمل والحيض البكارة والثيوبة وعيوب الفرج، لأن ذلك مما خلق الله في أرحامهن فيجب أن يصدقن فيه، وهي الرواية المشهور عن مالك٣٣. وقد روي عنه أن النساء ينظرن إليهن في ذلك. ولفظ الآية بعمومه محتمل للرواية المشهورة، وإن كان ما قبل الآية وما بعدها يدل على أن المراد بها الحيض والحمل على ذلك السبب خرجت، ولكن اللفظ صالح لذلك فلا يبعد أن يحمل على عمومه على أحد المذهبين في هذا الأصل، وإن لم يحمل على عمومه في ذلك فيحمل عليه قياسا.
فإذا قالت المرأة وقد دخل بها زوجها وطئني صدقت، وكذلك إذا قالت : ما أنا رتقا وإن خالف الزوج في ذلك على الرواية المشهورة.
قال أبو الحسن : قال قائلون : لما وعظها بترك الكتمان دل على٣٤ قبول قولها فبنوا عليه وقوع الطلاق عليهما بقولها إذا قالت حضت. وقد علق الطلاق على حيضها ( يريد على مذهب الشافعي- من قال لزوجته إذا حضت فأنت طالق إنها تصدق في أنها قد حاضت وتطلق –وهذا عندنا لا يقوى فإنه ليس النهي عن الكتمان دالا على أن قولها حجة على الزوج في قطع نكاحه، كما لا يدل على وقوع الطلاق على ضرتها –يريد في قوله لها : إذا حضت ففلانة -لضرتها- طالق، فإنها لا تصدق. وقال : وقوله :( أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن ) ليس بظاهر٣٥ في معنى الحيض لأن الدم إنما يكون حيضا إذا سال ولا يكون حيضا في الرحم لأن الحيض حكم يتعلق بالدم الخارج، فما دام في الرحم فلا حكم له، فإذا خرج لعادة٣٦ ما ووقت وبرئت به الرحم من الحمل وقالت : قد حضت ثلاث حيضات وهو أمر يتوقف عليه من قولها، فيقبل قولها. وكذلك إذا قالت لم أر دما ولم تنقض عدتي فالقول قولها وبالجملة فقوله تعالى :( ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن ) الآية، وليس يظهر في الحيض، وإنما يظهر في الحمل، وليس يعرف بغير قولها. وإذا علق الطلاق على حملها، فقالت أنا حامل فلا يقع الطلاق إذا لم يتبين حملها٣٧.
وقد اختلف في هذا في المرأة ينعقد نكاحها، ثم تقول أنا حامل أو لم يأتني حيض، وقد كان دخل بها زوج آخر، ثم طلقها أو مات عنها وأرادت بقولها هذا فسخ نكاح الثاني، وهذا إذا لم يكتب في صداقها مع الثاني أنها خلو من زوج في غير عدة منه. فمن أصحاب مالك من قال : يقبل قولها ويفسخ نكاحها إذا لم يأت من وقت خلوها عن الزوج الأول ما يتبين فيه الحمل. ومنهم من قال : لا يقبل في ذلك إذ لعلها ندمت في النكاح. قال بعضهم : والأول أقيس في الأصول إذ هي مؤتمنة على فرجها. وهذه الآية قوله تعالى :( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ) عامة في جميع المطلقات لكنه قد خص منها المطلقات قبل الدخول والحوامل والآيسة والصغيرة بآيات أخر. وقد عبر قتادة عن هذا بالنسخ٣٨، وعبر عنه ابن عباس بالاستثناء، والأمر على ما ذكرته.
فأما تخصيص المطلقات قبل الدخول فبقوله تعالى :( يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتادونها ) الآية |الأحزاب : ٤٩|.
وأما الحوامل فبقوله تعالى :( وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ) |الطلاق : ٤|.
وأما الآيسة والصغيرة فبقوله تعالى :( واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن ) |الطلاق : ٤|.
وقوله تعالى :( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ) الآية. أولها عام وآخرها خاص، وذلك أنه عم أولها كل مطلقة مدخول بها رجعية كانت أو بائنة ثم خص في آخرها الرجعية. فقال تعالى :( وبعولتهن أحق بردهن في ذلك ) |البقرة : ٢٢٨| وهذا لا يكون إلا في الرجعي.
وقوله :( والمطلقات ) لفظ أيضا يعم الحرائر، والإماء فكان يجب على قول من يقول بالعموم أن يكون تربص الإماء كتربص الحرائر ثلاثة قروء، ولكنه قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ما خصصهن٣٩ من عموم الآية، وهو ما خرجه الترمذي٤٠، وأبو داود٤١، من قوله –
٢ في ب "أريد"..
٣ يراجع تفسير الطبري (٢/٥٨٩ -٥٩١) وأحكام القرآن للجصاص (٢/٥٥، ٥٦)..
٤ صدر البيت: شنئت العقر عقر بني شليل: من ديوان الهذليين (ص٨١ -٨٣) وتفسير الطبري (٢/٥٩٠)..
٥ صدره: ذراعي عيطل أدماء بكر: ذكره الجصاص في أحكام القرآن (٢/٥٦) وذكره في اللسان مادة "قرأ" (٥/٣٥٦٣) ونسبه في تاج العروس إلى عمرو بن كلثوم (١/١٠٣)..
٦ في الناسخ والمنسوخ (ص ٦٢)..
٧ كذا في النسخ وفي المحرر الوجيز (٢/٩٤) وأحكام القرآن للجصاص (٢/٥٦) ولسان العرب مادة "فرض" (٥/٣٣٨٨) ونسبه لابن الأعرابي. وهو من الرجز..
٨ الحديث بهذا اللفظ أخرجه عن عدي بن ثابت، عن أبيه، عن جده مرفوعا بنحوه مطولا أخرجه أبو داود (٢٩٧) والترمذي (١٢٦) و (١٢٧) وابن ماجه (٦٢٥) والدارمي (٧٩٣) وضعفه البخاري في التاريخ الكبير (٢/رقم ٢٠٥٥) وأحمد محمد شاكر في تعليقه على الترمذي (١/٢٢٠، ٢٢١)..
٩ ديوان الأعشى (ص٦٧)..
١٠ يراجع المفردات في غريب القرآن للأصبهاني (ص٦٠٦) واللسان مادة "قرأ" (٥/٣٥٦٣، ٣٥٦٦)..
١١ يراجع خلاف الفقهاء في ذلك في أحكام القرآن للجصاص (٢/٥٦، ٦٦) وتفسير الطبري (٢/٥٨١ -٥٩٢) وأحكام القرآن للهراسي (١/١٥٢ -١٧١) (١/١٨٥، ١٨٦) وزاد المسير لابن الجوزي (١/٦٥٨ -٢٦٠) وتفسير القرطبي (٣/١١٢ -١١٨) وتفسير ابن كثير (١/٢٧٠، ٢٧١) والمحرر الوجيز (٢/٩٤، ٩٦)..
١٢ الموطأ في الطلاق (٢/١٠٢/١٧٢٠) وتفسير الطبري (١٤/١٣٠ – ط الحلبي) وعزاها الطبري لابن عباس ومجاهد..
١٣ أخرجه عن ابن عمر البخاري في الطلاق (٥٢٥١) ومسلم في الطلاق (١٤٧١).
في ب "بدخول الهاء في الثلاث من قوله" وكذا في ن..
١٤ في ب "الأقراء"..
١٥ جزء من بيت لعمر ذكره المازري في المعلم (٢/١٨٦) وهو في ديوانه (١/٩٤)..
١٦ قارن بكلام المازري في المعلم (٢/١٨٦)..
١٧ سقطت من أ..
١٨ في ب "ربيعة"..
١٩ في ب "تطهرت"..
٢٠ يراجع لأقوال الفقهاء الاستذكار لابن عبد البر (١٨/٧ -٥٠) وبداية المجتهد لابن رشد (٢/٦٧ -٧١) والإشراف لعبد الوهاب (٢/٧٩١، ٧٩٢)..
٢١ قول أشهب في المحرر الوجيز (٢/٩٦)..
٢٢ في ب "الطهر" وفي ن " لأن القرء... الطهر"..
٢٣ في ب "المحيض"..
٢٤ بياض بالأصل..
٢٥ في أ "وبهذا" والمثبت من ب و ن..
٢٦ كما في الموطأ وقوت الصلاة (١/١٠٨) والمدونة لسحنون (٣/٤٤٢، ٤٤٣)..
٢٧ قاله ابن عطية في المحرر الوجيز (١/٩٦، ٩٧) ويراجع حول هذه الآية تفسير الطبري (٢/٥٩٢ -٥٩٨) وأحكام القرآن للجصاص (١/٦٦) وأحكام القرآن لابن العربي (١/١٨٦) وتفسير القرطبي (٣/١١٨، ١١٩) وتفسير ابن كثير (١/٢٧١، ٢٧٢) والعجاب في بيان الأسباب لابن حجر (ص ٣٩٢)..
٢٨ ذكره ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/٩٤، ٩٧) ورواه الطبري عنه في تفسيره (٢/٥٩٦)..
٢٩ سقطت من أ وهي ثابتة في المحرر الوجيز..
٣٠ قاله ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/٩٧)..
٣١ سقطت من أ..
٣٢ في ب "هذا"..
٣٣ يراجع كلام عبد الوهاب في الإشراف (٢/٨٠١)..
٣٤ في أحكام الهراسي "وجوب قبول"..
٣٥ في أحكام الهراسي "ليس يظهر"..
٣٦ في ن "بعادة"..
٣٧ يراجع أحكام القرآن للكيا الهراسي (١/١٦١) وفي بعض العبارات اختلاف بين المخطوط والمطبوع..
٣٨ لم ينسبه ابن عطية إلى أحد وقال: "وهذا ضعيف، فإنما الآية فيمن تحيض" كذا في المحرر الوجيز (٢/٩٤)..
٣٩ في ن "خصصه"..
٤٠ في كتاب الطلاق، (١١٨٢)..
٤١ في كتاب الطلاق، (٢١٨٩).
كما أخرجه الدارمي (٢٢٩٤) وابن ماجه (٢٠٨٠) والدارقطني في السنن (٤/٣٩) والحاكم في المستدرك (٢/٢٠٥) والبيهقي في السنن الكبرى (٧/٣٦٩، ٤٢٦) جميعهم من طريق ابن جريح عن مظاهر بن أسلم، عن القاسم، عن عائشة مرفوعا به.
وهذا ضعيف سنده لتدليس ابن جريح وقد عنعن في السند، وضعف مظاهر ابن أسلم المخزومي كما في الميزان للذهبي (٤/١٣٠، ١٣١) والتقريب لابن حجر (ص٣٣٩).
قال أبو داود: "هو حديث مجهول". وقال الترمذي: "حديث عائشة حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من مظاهر بن أسلم، ومظاهر لا نعرف له في العلم غير هذا الحديث، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قول سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق" والحديث ضعفه أبو عمر بن عبد البر في الاستذكار (١٨/رقم ٢٧٠٠٧) والحافظ ابن كثير في تفسيره (١/٢٧٠) والألباني في إرواء الغليل (٢٠٦٦)..
اختلف أهل العلم١ في القروء وما المراد٢ بها على حسب اختلاف أهل اللغة٣ والنظر ؛ إذ منهم من يقول : إنه اسم مشترك للطهر والحيض ومنهم من يقول : هو حقيقة في الطهر مجاز في الحيض. ومنهم من عكس ذلك، وكذلك اختلفوا في اشتقاقه وتفسيره، فمنهم من قال في الأصل اسم الوقت مأخوذ من قول الشاعر :
................... | إذا هبت لقارئها الرياح٤ |
................... | هجان اللون لم تقرأ جنينا٥ |
يا رب ذي ضغن علي فارض | له قرء كقرء الحائض٧ |
أفي كل عام أنت جاشم غزوة | تشد لأقصاها عزيم عزائكا |
مورثة مال وفي الذكر رفعة | بما ضاع من قروء نسائكا٩ |
وواحد القروء. قرء وقرء بضم القاف وفتحها وقد أقرأت المرأة إذا حاضت وإذا طهرت١٠.
ولما كانت هذه اللفظة كذلك اختلف أهل العلم فيما أريد بها في الآية١١ : فذهب أهل الحجاز وهو مذهب مالك وأصحابه إلى أنها الأطهار لا خلاف بينهم في ذلك.
وذهب أهل العراق إلى أنها الحيض والدليل على حجة قول مالك رحمه الله تعالى قول الله عز وجل :( يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ) |الطلاق : ١| أي في مكان يعتدون فيه كما قرأ ابن عمر :" فطلقوهن في قبل عدتهن " ١٢ وهو قراءة تساق على طريق التفسير. وبين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم :" أن يطلقها في طهر لم يمسها فيه " فدل ذلك أن الطهر الذي طلقها فيه تعتد به، وأنه من أقرائها، ولو كانت الأقراء الحيض لكان المطلق في الطهر مطلقا لغير العدة. وتعلق بعضهم في الاحتجاج لمذهب مالك بدخول هاء التأنيث في١٣ قوله تعالى :( ثلاثة قروء ) وقال فهذا دلالة على أن المراد بالقروء١٤ الأطهار، ولو أراد الحيض لقال ثلاث قروء، وهذا كما زعم، ولكن العرب قد تراعي في التذكير والتأنيث اللفظ المقرون بالعدد. تقول :" ثلاثة منازل "، وهي تعني الديار. وقال عمر بن أبي ربيعة :" ثلاث شخوص " ١٥، وهو يعني نساء فأنث على المعنى وراعاه، ولم يراع اللفظ، فمرة يراعون اللفظ ومرة يراعون المعنى١٦. ففي الاحتجاج بذلك ضعف. وفائدة الخلاف في هذا إنما هو هل تحل المرأة بدخولها في |الدم|١٧ الثالث ؟ أو بانقضاء آخره ؟ فمن قال : إنها الحيض اتفقوا على أنها لا تحل، بأول الدم الثالث، واختلفوا بماذا تحل ؟ فقال قوم لا تحل للأزواج حتى تغتسل من الحيضة الثالثة، وهو قول أبي بكر، وعمر وعثمان، وعلي، وابن عباس، ومجاهد والضحاك، والربيع١٨، وقتادة، وابن مسعود، وأبي موسى، وعبادة بن الصامت، وأبي الدرداء، والثوري، وإسحاق، وأبي عبيد.
وقال قوم : إذا طهرت١٩ من الثالثة انقضت العدة قبل الغسل، وهو قول سعيد بن جبير وطاوس.
ومن قال : إن القروء هي الأطهار وهو مذهب مالك رحمه الله٢٠، والشافعي وأبي ثور، وابن عمر، وعائشة، وزي، والقاسم، وسالم، قالوا : إذا رأت المرأة الدم من الحيضة الثالثة حلت للأزواج.
وقال أشهب٢١ إلا أني أستحب أن تعجل حتى تعلم أنها حيضة مستقيمة بالتمادي فيها لأنها ربما رأت المرأة الدم الساعة، والساعتين، واليوم، ثم ينقطع فيجب عليها الرجوع إلى بيتها، ويكون لزوجها عليها الرجعة، واختلف الشيوخ في قول أشهب هل هو خلاف لقول مالك أوتفسير له، والصحيح أنه خلاف.
ومما اعترض به أصحاب أبي حنيفة على من قال : إن الأقراء في الآية الأطهار بأن قالوا المصير إلى القول بالأطهار خروج عن ظاهر القرآن لأن القروء في اللغة تطلق على الأطهار٢٢ والحيض، وهو من الأسماء المشتركة فإذا أطلق، وقد مضى من الطهر شيء فعندكم أنها تعتد ببقية الطهر، وهذا يوجب كون العدة قرءين وبعض ثالث، فإذا قلنا بالحيض٢٣ كانت العدة ثلاثة قروء كوامل إذ لا يصح الطلاق في الحيض. وعند هذا اضطرب القائلون بالأطهار فذهب بعضهم إلى أن الطهر الذي وقع فيه الطلاق، وقد ذهب بعضه لا تعتد وتستأنف ثلاث تطهيرات سواه وهو قول ابن شهاب. وذهب غير ابن شهاب إلى أنه يعتد بالطهر، وإن مضى أكثره. واختلفوا في الجواب عن ذلك الاعتراض فقال بعضهم : القرء التنقل من حال إلى حال في المستحق بهذه التسمية على موجب هذا الاشتقاق... ٢٤ الطهر يليه الحيض ويعقبه الانتقال من حال إلى حال. وقال بعضهم : غير بعيد تسمية القرأين وبعض الثالث ثلاثا، وقد قال الله تعالى :( الحج أشهر معلومات ) |البقرة : ١٩٧| وهو شهران وعشرة أيام، والظاهر من هذه الآية أن الله تعالى جعل الحيضة براءة للرحم من الحمل. ولهذا٢٥ قال جماعة من أهل العلم إن الحامل لا تحيض، وإن الدم الذي تراه لا يعد حيضا خلافا لقول مالك وأصحابه من أنه حيض٢٦ إلا رواية عن ابن القاسم في " كتاب محمد " أخذ منها اللخمي أن الدم على الحمل ليس بحيض، ونص الرواية قال اللخمي : قال ابن القاسم في كتاب محمد في المطلقة ثلاثة حيض ثم يظهر بها حمل : لو أعلم أن الأول حيض مستقيم لرجمتها قال اللخمي : فنفى عن الحامل الحيض. يريد أن الله عز وجل جعل الحيض دليلا على براءة الرحم، وعلى عدم الحمل، فلو صح الحمل والحيض لم يكن دليلا على البراءة.
واختلف المتأولون في المراد بقوله تعالى :( وما خلق الله في أرحامهن ) |البقرة : ٢٢٨| فقال ابن عمر، ومجاهد، والربيع، وغيرهم : هو الحيض والحمل جميعا. ومعنى تحريم الكتمان : النهي عن الإضرار بالزوج وإذهاب حقه لأنها إذا قالت المطلقة قد حضت وهي لم تحض فقد ذهبت بحقه في الارتجاع. وإذا قالت لم أحض وهي قد حاضت ألزمته من النفقة ما لا يلزمه فأضرت به. وكذلك الحامل تكتم الحمل لتقطع حقه في الارتجاع. وقال قتادة : كانت عادتهن في الجاهلية أن يكتمن الحمل ليلحق الولد بالزوج الجديد، ففي ذلك نزلت الآية٢٧. وقال السدي : سبب الآية أن الرجل كان إذا أراد أن يطلق المرأة سألها أبها حمل مخافة أن يضر بنفسه وولده في فراقها، فأمرهن الله عز وجل بالصدق في ذلك٢٨. وقال إبراهيم النخعي، |وعكرمة|٢٩ : المراد بما خلق الله الحيض وحده. وقال ابن عباس وابن عمر : المراد الحمل وحده.
وفي قوله تعالى :( ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن ) ما يقتضي أنهن مؤتمنات على ما ذكر، ولو كان الاستقصاء مباحا لم يكن كتم٣٠.
وذهب بعضهم إلى أن المراد بما |خلق الله|٣١ في أرحامهن الولد دون الحيض. واحتج بأن الولد مخلوق وهو٣٢ ضعيف لأن الحيض أيضا محدث وهو مخلوق.
والظاهر من الآية أنها تعم ما تختص المرأة بعلمه من نفسها من الحمل، ومن خروج الدم فأمرت بالصدق في ذلك إذ لا يعلم إلا من قولها، ولو كلف النساء أن يعرف ذلك منهن غيرهن لعظمت المشقة، ومما يجب عندي أن يلحق بالحمل والحيض البكارة والثيوبة وعيوب الفرج، لأن ذلك مما خلق الله في أرحامهن فيجب أن يصدقن فيه، وهي الرواية المشهور عن مالك٣٣. وقد روي عنه أن النساء ينظرن إليهن في ذلك. ولفظ الآية بعمومه محتمل للرواية المشهورة، وإن كان ما قبل الآية وما بعدها يدل على أن المراد بها الحيض والحمل على ذلك السبب خرجت، ولكن اللفظ صالح لذلك فلا يبعد أن يحمل على عمومه على أحد المذهبين في هذا الأصل، وإن لم يحمل على عمومه في ذلك فيحمل عليه قياسا.
فإذا قالت المرأة وقد دخل بها زوجها وطئني صدقت، وكذلك إذا قالت : ما أنا رتقا وإن خالف الزوج في ذلك على الرواية المشهورة.
قال أبو الحسن : قال قائلون : لما وعظها بترك الكتمان دل على٣٤ قبول قولها فبنوا عليه وقوع الطلاق عليهما بقولها إذا قالت حضت. وقد علق الطلاق على حيضها ( يريد على مذهب الشافعي- من قال لزوجته إذا حضت فأنت طالق إنها تصدق في أنها قد حاضت وتطلق –وهذا عندنا لا يقوى فإنه ليس النهي عن الكتمان دالا على أن قولها حجة على الزوج في قطع نكاحه، كما لا يدل على وقوع الطلاق على ضرتها –يريد في قوله لها : إذا حضت ففلانة -لضرتها- طالق، فإنها لا تصدق. وقال : وقوله :( أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن ) ليس بظاهر٣٥ في معنى الحيض لأن الدم إنما يكون حيضا إذا سال ولا يكون حيضا في الرحم لأن الحيض حكم يتعلق بالدم الخارج، فما دام في الرحم فلا حكم له، فإذا خرج لعادة٣٦ ما ووقت وبرئت به الرحم من الحمل وقالت : قد حضت ثلاث حيضات وهو أمر يتوقف عليه من قولها، فيقبل قولها. وكذلك إذا قالت لم أر دما ولم تنقض عدتي فالقول قولها وبالجملة فقوله تعالى :( ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن ) الآية، وليس يظهر في الحيض، وإنما يظهر في الحمل، وليس يعرف بغير قولها. وإذا علق الطلاق على حملها، فقالت أنا حامل فلا يقع الطلاق إذا لم يتبين حملها٣٧.
وقد اختلف في هذا في المرأة ينعقد نكاحها، ثم تقول أنا حامل أو لم يأتني حيض، وقد كان دخل بها زوج آخر، ثم طلقها أو مات عنها وأرادت بقولها هذا فسخ نكاح الثاني، وهذا إذا لم يكتب في صداقها مع الثاني أنها خلو من زوج في غير عدة منه. فمن أصحاب مالك من قال : يقبل قولها ويفسخ نكاحها إذا لم يأت من وقت خلوها عن الزوج الأول ما يتبين فيه الحمل. ومنهم من قال : لا يقبل في ذلك إذ لعلها ندمت في النكاح. قال بعضهم : والأول أقيس في الأصول إذ هي مؤتمنة على فرجها. وهذه الآية قوله تعالى :( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ) عامة في جميع المطلقات لكنه قد خص منها المطلقات قبل الدخول والحوامل والآيسة والصغيرة بآيات أخر. وقد عبر قتادة عن هذا بالنسخ٣٨، وعبر عنه ابن عباس بالاستثناء، والأمر على ما ذكرته.
فأما تخصيص المطلقات قبل الدخول فبقوله تعالى :( يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتادونها ) الآية |الأحزاب : ٤٩|.
وأما الحوامل فبقوله تعالى :( وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ) |الطلاق : ٤|.
وأما الآيسة والصغيرة فبقوله تعالى :( واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن ) |الطلاق : ٤|.
وقوله تعالى :( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ) الآية. أولها عام وآخرها خاص، وذلك أنه عم أولها كل مطلقة مدخول بها رجعية كانت أو بائنة ثم خص في آخرها الرجعية. فقال تعالى :( وبعولتهن أحق بردهن في ذلك ) |البقرة : ٢٢٨| وهذا لا يكون إلا في الرجعي.
وقوله :( والمطلقات ) لفظ أيضا يعم الحرائر، والإماء فكان يجب على قول من يقول بالعموم أن يكون تربص الإماء كتربص الحرائر ثلاثة قروء، ولكنه قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ما خصصهن٣٩ من عموم الآية، وهو ما خرجه الترمذي٤٠، وأبو داود٤١، من قوله –
٢ في ب "أريد"..
٣ يراجع تفسير الطبري (٢/٥٨٩ -٥٩١) وأحكام القرآن للجصاص (٢/٥٥، ٥٦)..
٤ صدر البيت: شنئت العقر عقر بني شليل: من ديوان الهذليين (ص٨١ -٨٣) وتفسير الطبري (٢/٥٩٠)..
٥ صدره: ذراعي عيطل أدماء بكر: ذكره الجصاص في أحكام القرآن (٢/٥٦) وذكره في اللسان مادة "قرأ" (٥/٣٥٦٣) ونسبه في تاج العروس إلى عمرو بن كلثوم (١/١٠٣)..
٦ في الناسخ والمنسوخ (ص ٦٢)..
٧ كذا في النسخ وفي المحرر الوجيز (٢/٩٤) وأحكام القرآن للجصاص (٢/٥٦) ولسان العرب مادة "فرض" (٥/٣٣٨٨) ونسبه لابن الأعرابي. وهو من الرجز..
٨ الحديث بهذا اللفظ أخرجه عن عدي بن ثابت، عن أبيه، عن جده مرفوعا بنحوه مطولا أخرجه أبو داود (٢٩٧) والترمذي (١٢٦) و (١٢٧) وابن ماجه (٦٢٥) والدارمي (٧٩٣) وضعفه البخاري في التاريخ الكبير (٢/رقم ٢٠٥٥) وأحمد محمد شاكر في تعليقه على الترمذي (١/٢٢٠، ٢٢١)..
٩ ديوان الأعشى (ص٦٧)..
١٠ يراجع المفردات في غريب القرآن للأصبهاني (ص٦٠٦) واللسان مادة "قرأ" (٥/٣٥٦٣، ٣٥٦٦)..
١١ يراجع خلاف الفقهاء في ذلك في أحكام القرآن للجصاص (٢/٥٦، ٦٦) وتفسير الطبري (٢/٥٨١ -٥٩٢) وأحكام القرآن للهراسي (١/١٥٢ -١٧١) (١/١٨٥، ١٨٦) وزاد المسير لابن الجوزي (١/٦٥٨ -٢٦٠) وتفسير القرطبي (٣/١١٢ -١١٨) وتفسير ابن كثير (١/٢٧٠، ٢٧١) والمحرر الوجيز (٢/٩٤، ٩٦)..
١٢ الموطأ في الطلاق (٢/١٠٢/١٧٢٠) وتفسير الطبري (١٤/١٣٠ – ط الحلبي) وعزاها الطبري لابن عباس ومجاهد..
١٣ أخرجه عن ابن عمر البخاري في الطلاق (٥٢٥١) ومسلم في الطلاق (١٤٧١).
في ب "بدخول الهاء في الثلاث من قوله" وكذا في ن..
١٤ في ب "الأقراء"..
١٥ جزء من بيت لعمر ذكره المازري في المعلم (٢/١٨٦) وهو في ديوانه (١/٩٤)..
١٦ قارن بكلام المازري في المعلم (٢/١٨٦)..
١٧ سقطت من أ..
١٨ في ب "ربيعة"..
١٩ في ب "تطهرت"..
٢٠ يراجع لأقوال الفقهاء الاستذكار لابن عبد البر (١٨/٧ -٥٠) وبداية المجتهد لابن رشد (٢/٦٧ -٧١) والإشراف لعبد الوهاب (٢/٧٩١، ٧٩٢)..
٢١ قول أشهب في المحرر الوجيز (٢/٩٦)..
٢٢ في ب "الطهر" وفي ن " لأن القرء... الطهر"..
٢٣ في ب "المحيض"..
٢٤ بياض بالأصل..
٢٥ في أ "وبهذا" والمثبت من ب و ن..
٢٦ كما في الموطأ وقوت الصلاة (١/١٠٨) والمدونة لسحنون (٣/٤٤٢، ٤٤٣)..
٢٧ قاله ابن عطية في المحرر الوجيز (١/٩٦، ٩٧) ويراجع حول هذه الآية تفسير الطبري (٢/٥٩٢ -٥٩٨) وأحكام القرآن للجصاص (١/٦٦) وأحكام القرآن لابن العربي (١/١٨٦) وتفسير القرطبي (٣/١١٨، ١١٩) وتفسير ابن كثير (١/٢٧١، ٢٧٢) والعجاب في بيان الأسباب لابن حجر (ص ٣٩٢)..
٢٨ ذكره ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/٩٤، ٩٧) ورواه الطبري عنه في تفسيره (٢/٥٩٦)..
٢٩ سقطت من أ وهي ثابتة في المحرر الوجيز..
٣٠ قاله ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/٩٧)..
٣١ سقطت من أ..
٣٢ في ب "هذا"..
٣٣ يراجع كلام عبد الوهاب في الإشراف (٢/٨٠١)..
٣٤ في أحكام الهراسي "وجوب قبول"..
٣٥ في أحكام الهراسي "ليس يظهر"..
٣٦ في ن "بعادة"..
٣٧ يراجع أحكام القرآن للكيا الهراسي (١/١٦١) وفي بعض العبارات اختلاف بين المخطوط والمطبوع..
٣٨ لم ينسبه ابن عطية إلى أحد وقال: "وهذا ضعيف، فإنما الآية فيمن تحيض" كذا في المحرر الوجيز (٢/٩٤)..
٣٩ في ن "خصصه"..
٤٠ في كتاب الطلاق، (١١٨٢)..
٤١ في كتاب الطلاق، (٢١٨٩).
كما أخرجه الدارمي (٢٢٩٤) وابن ماجه (٢٠٨٠) والدارقطني في السنن (٤/٣٩) والحاكم في المستدرك (٢/٢٠٥) والبيهقي في السنن الكبرى (٧/٣٦٩، ٤٢٦) جميعهم من طريق ابن جريح عن مظاهر بن أسلم، عن القاسم، عن عائشة مرفوعا به.
وهذا ضعيف سنده لتدليس ابن جريح وقد عنعن في السند، وضعف مظاهر ابن أسلم المخزومي كما في الميزان للذهبي (٤/١٣٠، ١٣١) والتقريب لابن حجر (ص٣٣٩).
قال أبو داود: "هو حديث مجهول". وقال الترمذي: "حديث عائشة حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من مظاهر بن أسلم، ومظاهر لا نعرف له في العلم غير هذا الحديث، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قول سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق" والحديث ضعفه أبو عمر بن عبد البر في الاستذكار (١٨/رقم ٢٧٠٠٧) والحافظ ابن كثير في تفسيره (١/٢٧٠) والألباني في إرواء الغليل (٢٠٦٦)..
قال ابن عباس وغيره هذا ابتداء الطلقة الثالثة. فالتسريح المتقدم هو ترك المرأة حتى تتم عدتها من الثانية. وقوله :( فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ) يعني بهذه الطلقة الثالثة. قال مجاهد : هذه الآية بيان ما يلزم المسرح والتسريح هو الطلقة الثالثة١.
٢٣٠- وقوله تعالى :( حتى تنكح زوجا غيره ) |البقرة : ٢٣٠|.
النكاح في اللغة حقيقة في الوطء مجاز في العقد٢. وقال بعضهم : وإن كان هكذا فالذي يجب على مذهب أهل الأصول إذا ورد مثل هذا اللفظ أن يحمل على الحقيقة حتى يقوم الدليل على أنه مجاز والذي عندي في هذا اللفظ أنه مشترك، يطلق٣ على العقد وعلى الوطء في كلام العرب ليس بمجاز في أحدهما. وأما على ما ذكره المبرد فيجيء أنه مشترك٤ في العقد وأنه حقيقة فيه مجاز في الوطء. وقد قال الأعشى وأراد به العقد :
وأمتعت نفسي من الغانيا | ت إما نكاحا وإما أزن٥ |
إذا زنيت فأجز نكاحا | وأعمل الغدو والرواحا |
والذين ذهبوا إلى أن المراد بقوله تعالى :( حتى تنكح ) الوطء، اختلفوا في الوطء هل يعتبر فيه الإنزال أم لا ؟ فذهب الجمهور إلى أنه لا يعتبر فيه جملة لقوله تعالى :( حتى تنكح زوجا غيره ) على ظاهره من الوطء أنزل أو لم ينزل١٢.
وذهب الحسن بن أبي الحسن إلى أنه لا يحل الوطء إلا مع الإنزال، وهو ذوق العسيلة١٣.
واختلف في نكاح الرجل المرأة ليحلها لزوج١٤ كان طلقها ثلاثا هل يحلها ذلك أم لا ؟ فذهب مالك رحمه الله إلى أن ذلك لا يحلها للزوج الأول لا بشرط كان أو بغير شرط لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لعن الله المحلل والمحللة له " ١٥ وقوله : " لا نكاح إلا نكاح رغبة لا نكاح دلسة ولا استهزاء بكتاب الله " ١٦ وقوله : " ألا أخبركم بالتيس المستعار " قالوا : بلى يا رسول الله. قال : " هو المحلل " ١٧ فاقتضى هذا كله فساد العقد، فلم ير قوله تعالى :( حتى تنكح زوجا غيره ) محمولا على نكاح لا فساد فيه١٨.
وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أن وطأها يحلها للزوج الأول، لأن هذا يسمى نكاحا، والله تعالى يقول : " حتى تنكح زوجا غيره " ولم يخص نكاحا من نكاح. وذهب بعض أصحاب مالك إلى أن ذلك إن كان بشرط لم يحل، وإن كان بنية دون شرط أحل. والاعتبار في فساد العقد والقصد إلى التحليل إنما هو النكاح دون المنكوحة ؛ لأنه يملك الطلاق، وقصد التحليل من غير ملك الطلاق لا يضر كالأجنبي١٩.
وقال الحسن بن أبي الحسن : إذا هم أحد الثلاثة بالتحليل لم تحل للأول. وهذا قول شاذ٢٠. ووطء الملك يحلها مثل أن يطأها سيدها إذا رجعت إليه إن كانت المطلقة أمة خلافا لمن أجازه من الشافعية، وأجازه عثمان بن عفان –رضي الله عنه- وزيد بن ثابت. والدليل على فساد القول قوله تعالى :( حتى تنكح زوجا غيره ) فالشرط في النكاح أن يكون زوجا. وكذلك اختلف في المطلق ثلاثا للأمة ثم اشتراها قبل أن تتزوج هل يجوز له وطؤها بالملك أم لا ؟. فالجمهور على المنع٢١ من ذلك٢٢.
وكان ابن عباس، وعطاء، وطاوس، والحسن يقولون : يحل له وطؤها بملك اليمين، لعموم قوله تعالى :( وما ملكت أيمانكم ) |النساء : ٣٦| وحجة الجمهور أصح لقوله تعالى :( حتى تنكح زوجا غيره ) فلم يجعلها حلالا إلا بنكاح زواج لا بملك يمين. وقوله تعالى :( أو ما ملكت أيمانكم ) |النساء : ٣|.
قد خصص فيها المحرمات باتفاق كالأمهات والبنات والأخوات فكذلك سائر المحرمات.
واختلف عندنا هل تحل بالوطء الفاسد في عقد نكاح صحيح ؟ فقيل : تحل له لأنه يسمى نكاحا، ولوجود اللذة فيه المنبه عليها في الحديث. وقيل : لا تحل لأن مجمل ظواهر الشرع وألفاظه على ما يصح في الشرع دون ما لا يصح، ولا تحل لمسلم بوطء كافر إذا كانت كافرة. وقال أشهب، وأبو حنيفة، والشافعي يحلها لقوله تعالى :( حتى تنكح زوجا غيره ) والأول أصح لما في نكاح الكافر من الفساد٢٣. ولا تحل بوطء المراهق لأن وطأه لا يعتد به٢٤ خلافا للشافعي، وأبي حنيفة في قولهما إن ذلك يحلها، واسم الناكح يقع عليه فهو داخل تحت قوله تعالى :( حتى تنكح زوجا غيره ) ٢٥.
واختلف في المجنون، والمجنونة على أربعة أقوال فذهب ابن القاسم إلى أن المراعى الزوجة، فإن كانت عاقلة حلت وإن أصابها في حال جنونه وإن أصيبت في حال جنونها لم تحل وإن كان عاقلا.
وذهب أشهب إلى أن المراعى الزوج، فإن كان عاقلا أحلها، وإن كان أصابها في حال جنونها، وإن كان مجنونا لم يحلها، وإن كانت عاقلة. وقال عبد الملك : إذا صح العقد كان إحلالا، وإن كانا في حال الإصابة مجنونين أو كان أحدهما كذلك، قال اللخمي : ولا أرى أن يحل إلا أن يكونا عاقلين. وقول اللخمي أحسن الأقوال لأن المراد بالآية نكاح العقلاء، وإليهم توجه الخطاب، ومن لم يكن عاقلا فكيف يدخل تحت الخطاب٢٦، وإذا لم يدخل تحت خطاب لم يكن لأفعاله حكم إلا ما خصصته الشريعة من ذلك، وهذا ليس منه.
واختلف إن ارتد وقد طلقها البتة فهل تحل له دون زوج أم لا ؟ فعلى قول ابن القاسم تحل له لأنها عنده بمنزلة من لم يتقدم له٢٧ الإسلام، ولم يجز ذلك على قول غيره لأنهما يعودان لما كان عليه قبل الارتداد في الخطاب بالآية لهما، وعليهما. ويختلف إذا ارتد الزوج والزوجة نصرانية، فقال ابن القاسم : لا تحل له إذا راجع الإسلام إلا أن تنكح زوجا غيره. وهذا يصح على القول بأنهم مخاطبون بفروع الشريعة٢٨. قال بعضهم : والصحيح أنهم غير مخاطبين إلا بعد تقدم الإسلام، فتحل من غير زوج. وقد اختلف فيمن طلق زوجته طلقتين، ثم ردها، ثم فقد فأقامت زوجته الأربعة الأعوام، وعدة الوفاة، ثم تزوجت، ودخل بها زوجها، ووقع على الزوج طلقة ثالثة، بذلك هل يحلها هذا٢٩ النكاح التي وقع به الطلاق الثالث لزوجها الذي كمل له بهذا النكاح في زوجته المذكورة ثلاث تطليقات أم لا ؟ فروي عن أصبغ أنه يحلها. وفي " السليمانية " أنه لا يحلها، والذي رجحه أبو عمران الفاسي رحمه الله أنه |لا|٣٠ يحلها استدلالا بظاهر قوله تعالى :( حتى تنكح زوجا غيره ) ورأى أن ظاهر الآية يقتضي أنه لابد من ابتداء نكاح بعد النكاح الذي وقع به الطلاق.
٢٣٠- وقوله تعالى :( فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا ) |الآية |البقرة : ٢٣٠|.
معناها إن طلقها الزوج الثاني فلا جناح على الزوج الأول والمرأة أن يتراجعا٣١.
٢٣٠-وقوله تعالى :( إن ظنا ) |البقرة : ٢٣٠|.
الظن هنا على بابه في تغليب أحد الجائزين٣٢. وقال أبو عبيدة : المعنى أيقنا٣٣.
٢ قاله ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/١٠٦)..
٣ في ب "يقع"..
٤ في ن "أشهر"..
٥ ديوان الأعشى (ص ٢٠٦ – ط دار صادر)..
٦ في ن "مجاز في الاستعمال في العقد"..
٧ في ب "هذا"..
٨ أخرجه البخاري في الشهادات (٢٦٣٩)، ومسلم في النكاح (١٤٣٣)..
٩ قال الجصاص في أحكام القرآن (٢/٨٩): "ولم نعلم أحدا تابعه عليه فهو شاذ" ويراجع توجيه كلامه عند ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/١٠٧) وتفسير القرطبي (٣/١٤٧، ١٤٨)..
١٠ في ب "الآحاد" وكذا في ن..
١١ لكم أنصف الجصاص فقال في أحكام القرآن (٢/٨٩): "وهذه أخبار قد تلقاها الناس بالقبول واتفق الفقهاء على استعمالها فهي عندنا في حيز التواتر"..
١٢ في "أم ل"..
١٣ ذكره ابن عطية عنه في المحرر الوجيز (٢/١٠٦)..
١٤ في ب "لرجل"..
١٥ أخرجه الترمذي في النكاح، من حديث ابن مسعود، (١١٢٠) وأحمد في المسند (١/٤٤٨، ٤٦٢).
وقال الترمذي: "حسن صحيح.. وقد روي هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه.
والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعبد الله بن عمرو وغيرهم. وهو قول الفقهاء من التابعين وبه يقول سفيان الثوري وان المبارك، والشافعي وأحمد إسحاق"..
١٦ رواه الطبراني عن ابن عباس في المعجم الكبير (١١/ رقم ١١٥٦٧) وسنده ضعيف فيه داود بن الحصين رغم ثقته فهو ضعيف في روايته عن عكرمة كما قال علي بن المديني وغيره. يراجع تهذيب الكمال للمزي (٨/ رقم ١٧٥٣)..
١٧ أخرجه ابن ماجه في النكاح (١٩٣٦) عن عقبة بن عامر وصححه البوصيري وحسن إسناده محقق ابن ماجه..
١٨ يراجع الإشراف لعبد الوهاب (٢/٧٥٢، ٧٥٧)..
١٩ يراجع المحرر الوجيز لابن عطية (٢/١٠٧)..
٢٠ في ب "فذهب الجمهور"..
٢١ يراجع الإشراف لعبد الوهاب (٢/٧٥٧)..
٢٢ يراجع في هذا الإشراف لعبد الوهاب (٢/٧٥٦) والمعلم بفوائد مسلم للمازري (٢/١٥٤، ١٥٥)..
٢٣ في ن "ليس بوطىء يعتد به"..
٢٤ يراجع الإشراف لعبد الوهاب (٢/٧٥٦)..
٢٥ في ب "يتوجه إليه الخطاب"..
٢٦ في ن "لهما"..
٢٧ في ب "الردة"..
٢٨ في ن "الإسلام"..
٢٩ في ب "ذلك"..
٣٠ سقطت "لا" من أ..
٣١ نسبه ابن عطية لابن عباس كما في المحرر الوجيز (٢/١٠٧)..
٣٢ قاله ابن عطية (٢/١٠٧)..
٣٣ مجاز القرآن (١/٧٤) واستضعف قوله ابن عطية (٢/١٠٧) والطبري في تفسيره (٢/٦٣٥)..
قال قتادة وغيره : هو الرجل يطلق ثم يرتجع، ثم يطلق ثم يرتجع فيطول عليها العدة اعتداء١، أو بمعنى ( بلغن أجلهن ) قاربن أجلهن. فأمر ألا يفعل ذلك لما فيه من الأضرار٢. ويجوز أن يكون حق الفراق بالمعروف أن يمتعها عند الفرقة، وأما الإمساك بالمعروف فالشافعي يقول : إذا عجز عن نفقة امرأته فليس يمسكها بالمعروف، فيجب عليه أن يسرحها بإحسان، فإن الله تعالى إنما خيره بين اثنتين لا ثالث فيها، فإذا عجز عن أحدهما تعين الثاني٣. وبهذا قال مالك رحمه الله خلافا لأبي حنيفة حيث قال : إذا عجز الزوج عن النفقة لم يفرق بينه وبين زوجه بحال إلا أنه لا يقربها ولا يمسها، ويحال بينه وبينها، وإن شاءت اكتسبت٤. وفي المذهب خلاف إذا تزوجت المرأة فقيرا علمت بفقره هل لها نفقة أم لا ؟ والحجة على أبي حنيفة ظاهرة جدا من ألفاظ الآية. وحكم الكسوة في ذلك حكم النفقة، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حجة الوداع في الزوجات : " ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن " وقال في حديث آخر : " تقول المرأة إما أن تطعمني أو تطلقني " والحديث في البخاري٥ والذي قبله في مسلم٦ والترمذي٧ وغيرهما٨.
٢٣١- قوله تعالى :( ولا تتخذوا آيات الله هزؤا ) |البقرة : ٢٣١|.
قال الحسن كان الرجل يطلق ثم يقول : إنما كنت لاعبا إذا سئل عن ذلك. أو يفعل ذلك لاعبا٩. وقالت عائشة –رضي الله عنها- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاث جدهن جد وهزلهن جد : النكاح والطلاق، والرجعة " ١٠ وقد نسب بعضهم هذا الحديث لابن المسيب، فقال –على ما روي عنه- : النكاح، والطلاق والعتق. والأحسن أن يكون المراد بآيات الله جميع أوامره ونواهيه١١.
٢ يراجع تفسير الطبري (٢/٦٣٨) والمحرر الوجيز (٢/١٠٨)..
٣ ذكره الكيا الهراسي في أحكام القرآن (١/١٨٢، ١٨٣)..
٤ يراجع الإشراف لعبد الوهاب (٢/٨٠٧، ٨٠٨)..
٥ في النفقات (٥٣٥٥)..
٦ في كتاب الحج (١٢١٧)..
٧ في مواطن من جامعة (١١٦٣) و (٢١٥٩) و (٣٠٨٧)..
٨ وأبو داود (٣٣٣٤) وأحمد في المسند (٣/٧٢، ٧٣، ٤٢٦، ٤٩٨) وابن حبان (٤١٨٩ –الإحسان)..
٩ رواه الطبري عن الحسن في تفسيره (٢/٦٤٠) وذكره ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/١٠٩)..
١٠ أخرجه عن أبي هريرة مرفوعا أبو داود (٢١٩٤) والترمذي (١١٨٤) وابن ماجه (٢٠٣٩) وابن الجارود في المنتقى (غوث: ٧١٢) والدارقطني في السنن (٣/٢٥٧) وغيرهم. وسنده ضعيف، لكن له شواهد صححوه بها فيراجع نصب الراية (٣/٢٩٣، ٢٩٤) والتلخيص الحبير (٣/٢٠٩) وإرواء الغليل (١٨٢٦).
تنبيه: عزا المؤلف الحديث الوجيز (٢/١٠٩): "قال الحسن: نزلت... وقالته عائشة. وقال رسول الله صلى الله عليه سلم..."..
١١ هو معنى كلام الطبري في تفسيره (٢/٦٣٩) ويراجع تفسير القرطبي (٣/١٥٦، ١٥٧)..
الخطاب للمؤمنين الذين منهم الأزواج، ومنهم الأولياء، وبلوغ الأجل في هذا الموضع تناهيه، لأن المعنى يقتضي ذلك. وقد قال بعض الناس في هذا الموضع إن المراد بقوله تعالى :( فلا تعضلوهن ) للأزواج وذلك بأن يكون الارتجاع مضارة عضلا عن نكاح الغير. فقوله ( أزواجهن ) على هذا يعني به الرجال إذ منهم الأزواج وعلى القول بأن المراد بقوله :( فلا تعضلوهن ) الأولياء فالأزواج هم الذين كن في عصمتهم. والعضل المنع من الزوج، وهو من معنى التضييق والتعسير١. واختلفوا فيمن نزلت هذه الآية فقيل : في معقل بن يسار وأخته٢. وقيل : معقل ابن سنان، وقيل : جابر بن عبد الله٣، وذلك أن رجلا طلق زوجته أخته، وقيل : بنته وتركها حتى تمت عدتها، ثم أراد ارتجاعها، فقال : أتركتها وأنت أملك بها لا زوجتكها أبدا فنزلت الآية. وهذه الآية تقتضي ثبوت حق الولي في إنكاح وليه، وأن النكاح يفتقر إلى ولي خلافا لداود٤ في اعتباره الولي في البكر خاصة ولأبي حنيفة إسقاطه في الثيبات والأبكار البوالغ الجائزات الأمور٥. ولأبي يوسف في اعتباره إذن الولي خاصة، ورد أصحاب أبي حنيفة دلالة هذه الآية، فقال قوم منهم : إذا كان الولي هو الزوج فكيف يقال له لا تمنع٦ فلانة من أن تنكح والإنكاح إنما هو من فعله، فلو لم يكن للمرأة نكاح ما صح أن يقال للأولياء فلا تمنعوهن أن ينكحن. وهو لا يمنعها إنما يمنع نفسه.
وقوله :( ينكحن ) فعل مضاف إليهن وإذا نهي عن المنع وجب ألا يكون له حق فيما نهي عنه من منع المرأة. ومما استشهدوا به أيضا قوله تعالى :( حتى تنكح زوجا غيره ) ولم يذكر الولي. وهذا غلط، وإنما قال تعالى :( حتى تنكح زوجا غيره ) وقال :( ينكحن أزواجهن ) إشارة إلى ما جعلت الشريعة إليهن من التفويض إلى الأولياء والرضى بالنكاح لا إلى مباشرة العقد دون الأولياء٧. وقد قال قوم منهم قوله تعالى :( فلا تعضلوهن ) خطاب مع الأزواج لأجل ما كانوا يفعلونه من المراجعة والطلاق تطويلا للعدة حتى لا تنكح المرأة فنهوا عن ذلك، قالوا : والولي غير مراد بذلك فلا حجة لكم فيها٨. والجواب عن هذا أن المعنى مفهوم من قوله تعالى قبل هذا ( وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن ) الآية |البقرة : ٢٣٢| فلا فائدة في تكراره وحمل الآية على فائدة أخرى أولى. وأيضا فإن الآية نزلت بسبب منع معقل بن يسار أو غيره لوليته٩ من مراجعة زوجها المطلق لها فلا يعدل بمعنى لفظها عن سببها وما يحتج به لقول مالك قوله تعالى :( ولا تنكحوا المشركين ) يخاطب الأولياء ولو لم يكن لهم في ذلك حق لما خاطبهم بذلك.
٢٣٢- وقوله تعالى :( بالمعروف ) |البقرة : ٢٣٢| معناه المهر والإشهاد١٠.
٢ هذه الرواية أصح أخرجها عن معقل البخاري في التفسير (٤٥٢٩) والطبري في تفسيره (٢/٦٤٢)..
٣ رواها الطبري (٢/٦٤٤) والواحدي في أسباب النزول (ص ٥١) ويراجع العجاب لابن حجر (ص٤٠٥، ٤٠٨)..
٤ ظاهر كلام ابن حزم في المحلى يقتضي خلاف ذلك (٩/٤٥١)..
٥ يراجع مذهب أبي حنيفة وأصحابه في أحكام القرآن للجصاص (٢/١٠٢، ١٠٣)..
٦ في ب "مالك تمنع"..
٧ ذكره الهراسي في أحكام القرآن (١/١٨٥) وأحكام القرآن للجصاص (٢/١٠١)..
٨ أحكام القرآن للجصاص (٢/١٠٣)..
٩ في ب "لبنته" و ن "وبنته"..
١٠ قاله ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/١١١)..
قوله :( يرضعن أولادهن ) خبر معناه الأمر. وقد اختلف فيما يلزم المرأة ذات الزوج من رضاع ولدها. فذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى أنه لا يلزمها ذلك على كل وجه، ويكون الأمر بالرضاعة في هذه الآية عندهما على الندب في جميع الوالدات. وذهب أبو ثور إلى أن ذلك يلزمها على كل وجه وذهب مالك رحمه الله إلى أن المرأة ما دامت في عصمة الزوج فالرضاع واجب عليها بقوله تعالى :( والوالدات يرضعن أولادهن ) إلا أن تكون شريفة مثلها لا يرضع، فلا يلزمها ذلك١، تخصيصا لها من عموم الآية بما جاء في بعض الآثار من أن الشريفة لا ترضع ولدها. وإذا لم تكن الأم في عصمة الأب، فإن كان الأب قد مات فمذهب مالك المشهور٢ أن الرضاع لازم للأم بخلاف النفقة أخذا بظاهر عموم الآية. وقيل عنه رضاعه في بيت مال٣ المسلمين٤ وهذا القول مبني على مذهب مالك في المطلقة البائنة لأن حال الموت أشد من حال البينونة، فإذا كان الرضاع لا يلزمها هنالك ففي المرأة أحرى أن لا يلزمها، وأما إن كان طلقها وبانت منه فإن كان الزوج موسرا فلا خلاف أعلمه أنه لا يلزمها الرضاع لقوله تعالى :( فإن أرضعن لكم فأتوهن أجورهن ) وإن كان معسرا أو لا مال للابن أو لم يكن الابن يأتي غيرها فعن مالك فيه روايتان إحداهما : أن الرضاع لازم لها. والثانية : أنه لا يلزمها، وهو الأشهر عنه. وإذا طلبت الأم الرضاع بأجر مثلها، ووجد الرجل من يرضعه بغير أجر٥ كان ذلك له. وقال الشافعي في أحد قوليه : الأم أولى أخذا بظاهر قوله تعالى :( والوالدات يرضعن أولادهن ) فلم يجعل لغير الوالدات حظا في الرضاع٦. واختلف الناس في رضاع الكبير فجمهور العلماء على أنه لا يؤثر٧. وذهب داود، والليث بن سعد٨، وغيرهما إلى أنه يؤثر أخذا منهم بحديث سهلة المشهور، وقد قال صلى الله عليه وسلم في سالم وهو رجل كبير : " ارضعيه تحرمي عليه " ٩ وحمل الجمهور ذلك على أنه من خصائص سهلة. وقد ثبت أن أم سلمة، وسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم منعن أن يدخل عليهن بتلك الرضاعة أحد، وقلن لعائشة –رضي الله عنها- إنه خاص في رضاعة سالم وحده١٠. وحجة الجمهور على من خالفهم١١ قوله تعالى :( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة ) وتمامها بالحولين على ظاهر القرآن يمنع أن يكون حكم ما بين الحولين كحكم الحولين. وهذا ينفي رضاعة الكبير. وقد قال صلى الله عليه وسلم : " الرضاعة من المجاعة " ١٢. وروى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا رضاع بعد الحولين " ١٣ فالذين لم يروا لرضاعة الكبير تأثيرا اختلفوا في تقدير مدة رضاع الصبي ففي " الموطأ " ١٤ : ما كان بعد الحولين فإن قليله وكثيره لا يحرم شيئا، إنما هو بمنزلة الطعام. وفي " كتاب سحنون " ١٥ أن حكم الشهر والشهرين بعد الحولين كحكم الحولين. وروي عن مالك في ذلك الشهر، وروي عنه الثقات، وقيل : اليوم واليومان حكم الحولين في ذلك، وقيل : الأيام اليسيرة هذا كله في المذهب١٦. وذهب زفر إلى أن مدة الرضاع ثلاث سنين. وذهب أبو حنيفة إلى أن مدة الرضاع ستة أشهر، فإذا وقع الرضاع فيها بعد الحولين حرم. فوجه القول الأول الذي في " الموطأ " قوله تعالى :( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين ) فدل على أن ما زاد عليها ليس من الرضاعة. ووجه سائر الأقوال التي في المذهب أن ما قارب الحولين حكمه حكم الحولين. وأما أبو حنيفة فيقول ما بعد الحولين يحرم فطم١٧ أو لم يفطم إلى ستة أشهر، وهو تقدير لا وجه له١٨. قال أبو الحسن : أما الشافعي فرأى أن هذه الزيادة على الحولين كلها تحكما بلا مستند مثل تقدير أبي حنيفة في بلوغ الصبيان لثمان١٩ عشرة سنة. وقوله لا يدفع المال إلى الذي لم يؤنس رشده إلا لابن إحدى وعشرين سنة٢٠ ونحو ذلك. واختلفوا إذا فطم من الحولين واستغنى بالطعام، هل يؤثر رضاعه بعد ذلك في الحولين أم لا ؟ فذهب مالك إلى أنه لا يؤثر على ظاهر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا رضاع بعد فطام " ٢١ وفي حديث آخر " بعد فصال " ٢٢. وذهب أبو حنيفة والشافعي ومطرف، وابن الماجشون، إلى أنه يحرم ما كان في الحولين على ظاهر قوله تعالى :( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين ) فجعل الحولين أمدا للإرضاع، والرضاع فيهما يؤثر استغنى الرضيع بالطعام أو لم يستغن. وإنما وصف الله تعالى الحولين بكاملين لأنه يجوز أن يقال في حول وبعض آخر حولان، وفي يوم وبعض يوم آخر يومان، فنفى الله تعالى بقوله ( كاملين ) ذلك الاحتمال٢٣.
٢٣٣- وقوله تعالى :( لمن أراد أن يتم الرضاعة ) البقرة : ٢٣٣|.
مبين أن الحولين ليستا بفرض لا يتجاوز٢٤.
٢٣٣- وقوله تعالى :( وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف ) |البقرة : ٢٣٣|.
فالمعنى أن على الرجل المولود له رزق الوالدات وكسوتهن بالمعروف، ثم بين تعالى أن الإنفاق على قدر غنى الزوج ومنصبها لقوله :( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) |البقرة : ٢٣٣| والاعتبار عندنا في النفقة بحال الزوجين معا فيفرض لها كفايتها على ما يرى من قدرها وقدر زوجها في العسر واليسر٢٥، وليست بمقدرة، خلافا للشافعي٢٦ في قوله إنها مقدرة ولا اجتهاد للحاكم فيها. وتعتبر بحال الزوج فعلى الموسر مدان، وعلى المتوسط مد ونصف، وعلى المعسر مد. ودليلنا قوله تعالى :( وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف ) وذلك يقتضي مراعاة حالهما جميعا. وقول النبي صلى الله عليه وسلم لهند امرأة أبي سفيان : " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " ٢٧ وهذه الآية تدل على أن المراد بالوالدات اللواتي في العصمة إلا أن تجعل هذه الجملة منقطعة من الأولى، لأن المراد بهذه الآية اللواتي لم يبن من أزواجهن، لأن النفقة والكسوة لا تجب إلا لمن لم تبن بعد. وإذا كان الزوج حاضرا مع زوجه فلا خلاف في وجوب النفقة لها عليه في أيام غيبته. فثبت عن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم فأمرهم أن ينفقوا أو يطلقوا فبعثوا بنفقة ما مضى. وبذلك قال جماعة من أهل العلم. وقال أبو حنيفة : نحن لا نقول ذلك بل نقول ليس لها شيء إلا أن يفرضه السلطان. واختلف في المذهب هل تطلق على الغائب بعدم النفقة أم لا ؟ والدليل على وجوبها عليه قوله تعالى :( وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف ) ٢٨.
وقد اختلف في العبد له زوجة هل تلزمه نفقتها أم لا ؟ فقال ابن القاسم : عليه النفقة٢٩، وقال أبو مصعب : لا نفقة عليه. والقول الأول أظهر لعموم الآية.
وكذلك اختلفوا في الحر له زوجة أمة لم تبوأ معه بيتا. فقال ابن القاسم : لها النفقة لأنها من الأزواج. يريد أنها داخلة في عموم الآية. وفي " كتاب محمد " ٣٠ لا نفقة لها عليه، وكذلك يختلف إذا كان الزوجان عبدين. والقول بوجوب النفقة في هذه المسائل أظهر لعموم الآية. ويؤخذ من قوله تعالى :( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين ) أن الأم أحق بالحضانة لأن حاجة الولد إلى من يحضنه، كحاجته إلى من يرضعه، لأن الأم أرفق به، وآمن عليه، إلا أنه اختلف هل هي من حق الولد ؟ أو من حق الأم ؟ أو من حقوقهما جميعا ؟.
وقد اختلف في نفقتها للصبي، وأجرة رضاعه٣١ إذا مات أبوه وله مال. فقال الجمهور ذلك٣٢ من مال الصبي اعتقادا منهم أن مقتضى الآية أن النفقة على الأب ما دام حيا، وأن ذلك ليس بدين ثابت في الذمة. وروي عن حماد بن سلمة أنه قال : يخرج رضاع الصبي من جميع المال، ثم يقسم له نصيبه مما بقي. جعله بمنزلة الدين. وروي عن النخعي أنه قال : إن كان المال قليلا فمن نصيبه، وإن كان كثيرا فمن جميع المال.
٢٣٣- قوله تعالى :( وعلى الوارث مثل ذلك ) |البقرة : ٢٣٣|.
اختلف فيها هل هي منسوخة أم محكمة ؟ فروي عن مالك أن الآية تضمنت أن الرزق والكسوة على الوارث، ثم نسخ ذلك٣٣ ولم يذكر ما نسخها٣٤. فيحتمل أن يكون سمى التخصيص نسخا، وذلك أن الآية تضمنت الرضاع والنفقة والكسوة، وأن لا مضارة. ثم قال تعالى :( وعلى الوارث مثل ذلك ) فتخصص عند مالك رحمه الله تعالى بالأدلة من عموم قوله تعالى :( وعلى الوارث مثل ذلك ) الرضاع، والنفقة، والكسوة، وبقي نفي المضارة تحت لفظ العموم. ويحتمل أن يكون نسخا حقيقة على ما قال النحاس قال : يشبه أن يكون الناسخ لها أنه لما أوجب للمتوفى عنها زوجها من مال المتوفى في نفقة حول والسكنى، ثم نسخ ذلك ورفع نسخ ذلك أيضا عن الوارث٣٥. والذين ذهبوا إلى أنها محكمة اختلفوا في تأويلها اختلافا كثيرا، فروي عن مالك رحمه الله وجميع أصحابه وجماعة من العلماء غيرهم أن المراد بقوله ( مثل ذلك ) أن لا يضار، وأما الرزق٣٦ والكسوة فلا شيء عليه. وقال قبيصة، والضحاك وغيرهما : الوارث هو الصبي نفسه أي عليه في ماله إذا ورث أباه نفقة نفسه٣٧. وكأن محمد بن جرير يختار هذا القول٣٨. وقال النحاس : وهو إن كان قولا غريبا فالحجة فيه ظاهرة لأن ماله أولى به. وقد أجمع الفقهاء إلا من شذ منهم أن رجلا لو كان له ولد طفل وللولد مال والأب موسر فإنه لا يجب على الأب نفقة ولا رضاع، وإنما ذلك من مال الصبي٣٩. وقيل : معناه أن ولي الصبي سماه وارثا لأنه ورث ولايته عليه من نفقة مال الصبي مثلما كان على الأب. وهذان القولان لمن حمل الآية على عمومها وتأولها على المذهب، ولم ير فيها نسخا. ومن أهل العلم من حملها على العموم في النفقة وغيرها. ولم ير فيها نسخا، وتعلق بظاهرها إلا أنهم اختلفوا في الوارث الذي تلزمه النفقة من هو ؟ فذكر عن عمر بن الخطاب والحسن بن أبي الحسن أن وارث الأب عليه نفقة الصبي وكسوته. وقال بعضهم من الرجال دون النساء، وذهب زيد بن ثابت إلى أن وارث الصبي عليه نفقته وكسوته وإن كثروا فعلى قدر مواريثهم منه. وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد إلى أن كل ذي ولي محرم. قال بعضهم : ممن يرث. وذهب سفيان الثوري إلى أنه الباقي من والد وأم. وذهب الشافعي إلى أنه الأب والجد وما علا وابن الابن وما سفل خاصة. فالإجماع منعقد على أن الوارث لا يضار٤٠.
واختلف هل عليه رزق كسوة ونفقة أم لا ؟ وقرأ يحيى بن يعمر٤١، " وعلى الورثة مثل ذلك " بالجمع٤٢.
٢٣٣- قوله تعالى :( فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما ) |البقرة : ٢٣٣|.
الضمير في ( أرادا ) للأبوين و ( فصالا ) معناه فطاما، ويحتمل أن يريد، فإن أرادا فصالا قبل الحولين، وإن يريد بعدهما، لأن الفاء تقتضي التعقيب. ومن هنا نشأ النظر في رضاعة الكبير. والاحتمال٤٣ الأول أظهر. ولا يقع التشاور والتراضي إلا بما لا ضرر فيه على المولود فإن لم يكن عليه في ذلك قبل الحولين ضرر فلا جناح عليهما في فصله. ومن دعا منهما إلى كمال الحولين فلذلك له٤٤، وروي عن ابن عباس أنه قال ذلك في الولد الذي مكث في البطن ستة أشهر، فإن مكث سبعة أشهر فرضاعه ثلاثة وعشرون شهرا، وإن مكث ثمانية أشهر فرضاعه اثنان وعشرون شهرا، وإن مكث تسعة أشهر فرضاعه إحدى وعشرون شهرا. وهذا القول مبني على هاتين الآيتين قوله :( والوالدات يرضعن
٢ في ب "فمشهور مذهب مالك"..
٣ في أ "في بيت المال"..
٤ نقله ابن عطية في المحرر الوجيز عن ابن الجلاب (٢/١١١)..
٥ في ب "مجانا"..
٦ حكاه الهراسي في أحكام القرآن (١/١٨٧، ١٨٨)..
٧ يراجع قول الجمهور في الإشراف (٢/٨٠٤) وأحكام القرآن للهراسي (١/١٩٠، ١٩١) والمعلم للمازري (٢/١٦٣، ١٦٤)..
٨ يراجع الاستذكار لابن عبد البر (١٨/٢٦٨، ٢٧٩) والمفهم للقرطبي (٤/١٨٧)..
٩ أخرجه مسلم في الرضاع (١٤٥٢)..
١٠ أخرجه مالك في الموطأ في الرضاع، (٢/١٢٣، ١٢٤/١٧٧٥) ويراجع صحيح مسلم في الرضاع (١٤٥٣)..
١١ راجع الاستذكار (١٨/٢٧٥، ٢٧٦) والمفهم للقرطبي أبي العباس (٤/١٨٦ -١٨٩)..
١٢ أخرجه البخاري في الشهادات، (٢٦٤٧) ومسلم في الرضاع (١٤٥٥)..
١٣ أخرجه عن ابن عباس مرفوعا بلفظ "لا رضاع إلا ما كان في الحولين" الدارقطني في السنن (٤/١٧٤) والبيهقي في السنن (٧/٤٦٢) ورجح النقاد ضعفه مرفوعا وصحته موقوفا فيراجع نصب الراية (٣/٢١٨، ٢١٩)..
١٤ في الرضاع (٢/١٢٣/ رقم ١٧٧٤)..
١٥ المدونة (٢/٤٠٧)..
١٦ يراجع الإشراف لعبد الوهاب (٢/٨٠٤)..
١٧ في ن و ب "طعم أو لم يطعم"..
١٨ قول زفر وأبي حنيفة ذكرهما الجصاص في أحكام القرآن (٢/١١٤)..
١٩ في أحكام القرآن للهراسي "الغلام"..
٢٠ كذا في أ و ب وفي أحكام القرآن للهراسي (١/١٩٢): "إلا بعد خمس وعشرين سنة" ولعله أصوب..
٢١ أخرجه ابن عدي عن علي في الكامل (٢/٥٤٥) كما رواه الدارقطني في السنن عن أبي هريرة وضعفه أيضا (٤/١٧٥) ويراجع نصب الراية (٣/٢١٩)..
٢٢ أخرجه ابن عدي عن علي في الكامل (٢/٥٤٥) كما رواه الدارقطني في السنن عن أبي هريرة وضعفه أيضا (٤/١٧٥) ويراجع نصب الراية (٣/٢١٩)..
٢٣ يراجع المدونة (٢/٤٠٧) وأحكام القرآن للجصاص (٢/١١٥، ١١٦) وأحكام القرآن للهراسي (١/١٩٢) والإشراف لعبد الوهاب (٢/٨٠٤، ٨٠٥)..
٢٤ قاله ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/١١٣)..
٢٥ يراجع في هذا الإشراف لعبد الوهاب (٢/٨٠٦) والأحكام لابن العربي (١/٢٠٣) وتفسير القرطبي (٣/١٦٣، ١٦٤)..
٢٦ الأم (٥/٧٩)..
٢٧ أخرجه عن عائشة البخاري في النفقات، (٥٣٦٤) ومسلم في الأقضية (١٧١٤)..
٢٨ في ب "الآية"..
٢٩ يراجع المدونة لسحنون (٢/٢٥٥)..
٣٠ هو ابن المواز الفقيه المصري المعروف..
٣١ في ب "رضاعها"..
٣٢ في ب "في مال"..
٣٣ هي رواية ابن القاسم عن مالك في الأسدية كما في الناسخ والمنسوخ للنحاس (ص ٧٠، ٧١) وتفسير القرطبي (٣/١٦٩)..
٣٤ قال النحاس في الناسخ والمنسوخ (ص ٧١): "وأما قول مالك أنها منسوخة فلم يبينه، ولا علمت أن أحدا من الصحابة بين ذلك" وقد استعظم ذلك ابن العربي على مالك، ثم تأوله على التخصيص واعتبره اصطلاحا للعلماء المتقدمين في التعبير عن ذلك. فيراجع لذلك أحكام القرآن (١/٢٠٥) وتفسير القرطبي (٣/١٦٨ -١٧١)..
٣٥ الناسخ والمنسوخ (ص ٧١)..
٣٦ في ب "النفقة"..
٣٧ قاله ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/١١٦)..
٣٨ جامع البيان (٢/٦٧٠)..
٣٩ الناسخ والمنسوخ (ص ٧١، ٧٢)..
٤٠ يراجع في هذا تفسير الطبري (٢/٦٦٢ -٦٦٩) والمحرر الوجيز (٢/١١٥ -١١٧)..
٤١ في ب "سعيد" وهو تصحيف والتصويب من "المحرر الوجيز" لابن عطية..
٤٢ قاله ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/١١٧)..
٤٣ في ب "النظر" وكذا في ن..
٤٤ قاله ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/١١٧)..
فيها إشكال من طريق الإعراب لأن الذين يتوفون هم الرجال، وقوله ( يتربصن ) هن الزوجات، فلا يصح الإخبار عن الذين بقوله ( يتربصن ) فالتقدير في الآية على أقوال البصريين، وأزواج الذين يتوفون منكم، أو الذين يتوفون منكم أزواجهن أو مما يتلى عليكم الذين يتوفون منكم الآية. وهذه الثلاثة أقوال لأهل البصرة في تصحيح اللفظ على المعنى. وأما بعض الكوفيين فقالوا : الخبر عن ( الذين ) متروك لأن القصد١ إنما هو الإخبار عن أزواجهم. وقال الكسائي : التقدير يتربصن أزواجهم. وقال الأخفش : التقدير يتربصن بأنفسهن بعدهم، ويجوز ذلك٢.
وقد اختلف في هذه الآية هل هي ناسخة أم لا ؟ فذهب جماعة إلى أنها ناسخة لقوله تعالى :( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج ) |البقرة : ٢٤٠| قالت أم سلمة : كانت المرأة إذا توفي زوجها دخلت حفشا٣، ولبست شر ثيابها ولم تمس طيبا حتى تتم سنة، ثم تعطى بعرة فترمي بها، فأنزل الله تعالى ( متاعا إلى الحول غير إخراج ). وكان للمرأة أن تسكن في بيت زوجها سنة وإن شاءت خرجت فاعتدت في بيت أهلها ثم نسخ ذلك بأربعة أشهر وعشر٤، فهذا القول في نسخ الحول بأربعة أشهر وعشر. وقال ابن عباس ومجاهد وغيرهما في قوله تعالى :( وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول ) الآية : إنها منسوخة بآية الميراث بما فرض لهن من الثمن والربع. يريدون أنها كانت الوصية بالنفقة للأزواج في الحول واجبة بالآية، فنسخت بآية الميراث.
وفي نسخ الحول بالأربعة أشهر وعشر٥ نظر، لأن من حق الناسخ أن يكون بعد المنسوخ في الرتبة ولكنه جاء هذا قبل المنسوخ. والجواب عن هذا أن ترتيب٦ الآيتين إنما جاء على الأصل فالآية المنسوخة إنما نزلت قبل الآية الناسخة وإنما طرأ هذا التقديم والتأخير في رتبة الكتب والقراءة خاصة٧. وذهب جماعة إلى أن هذه الآية ليست بناسخة لتلك.
واختلفوا في التأويل، فذهب مجاهد إلى أن آية٨ الأربعة أشهر وعشرا نزلت قبل آية الحول، كما هي قبلها في التلاوة. ورأى أن استعمال الآيتين ممكن من غير متدافع، وأنه أوجب على المعتدة التربص أربعة أشهر وعشرا، لا تخرج فيها من بيتها فرضا عليها، ثم جعل لها تمام الحول سبعة أشهر وعشرين ليلة، وصية لها، تصل إقامتها فيها بإقامتها في العدة المتقدمة، إن شاءت أقامت، وإن شاءت خرجت وصية لها لقول الله تعالى :( وصية لأزواجكم متاعا إلى الحول غير إخراج ) الآية. فحصل له فائدتان في استعمال الآيتين ورأى ألا يسقط حكما من كتاب الله يمكنه٩ استعماله ولا يتبين نسخه. وهذا قول لم يقله أحد من المفسرين غيره، ولا تابعه عليه أحد من فقهاء الأمة. وذهب قوم أيضا إلى أن الآية ليست بناسخة، وإنما فيها نقصان من الحول كالنقصان من صلاة الحضر في السفر، فهو نقصان وليس بنسخ١٠.
وهذا القول مبني على أصل تنازع فيه الأصوليون. وهو نقص بعض الجملة هل هو نسخ للجملة أو لا ؟ فذهب قوم إلى أنه نسخ وذهب آخرون إلى أنه ليس بنسخ، وفرق حذاق الأصوليين بين النقص الذي يغير حكم المنقوص منه حتى يرد ما كان عبادة مستعملة شرعية غير عبادة، وبين النقص الذي ليس كذلك، ورأوا في النقص الذي يغير حكم المنقوص التغيير المذكور أنه نسخ. فعلى هذا يكون الحول المنقوص منه منسوخا. وهذا عندي هو الصواب١١.
وقد تضمنت هذه الآية أن المتوفى عنها تتربص أربعة أشهر وعشرا، ولم يفرق بين حائل وحامل.
فمن الناس من حمل الآية عليهما جميعا، ومنهم من حملها على الحائل خاصة. وقال تعالى في سورة الطلاق :( وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ) |الطلاق : ٤| فذهب قوم من أهل العلم، إلى أن قوله :( وأولات الأحمال أجلهن ) الخ في الطلاق خاصة، لكون ما قبل الآية، وما بعدها إنما هو في المطلقات خاصة، فما بينهما كذلك لا مدخل للمتوفى عنها فيها. ومنهم من قال : هي عامة في المطلقة والمتوفى عنها١٢، فكلا الآيتين على القول بالعموم عامة من وجه خاصة من وجه، والتعارض بينهما ظاهر. وأما على القول بتخصيص الآيتين أو عموم إحداهما وتخصيص الأخرى فلا تعارض بينهما.
وبحسب هذه الاحتمالات اختلف السلف، فمنهم من حمل آية البقرة على أن المراد المتوفى عنها الحائل١٣، وآية الطلاق على أن المراد بها المطلقة خاصة، وأخذ حكم الحامل المتوفى عنها من حديث سبيعة الأسلمية التي نفست بعد وفاة زوجها بليال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قد حللت، فانكحي من شئت " والحديث في " الموطأ " ١٤ و " البخاري " ١٥ و " مسلم " ١٦. ومنهم من حمل آية البقرة على الخصوص في المتوفى عنها الحائل١٧ كما ذكرنا، وأبقى آية سورة الطلاق على العموم في المطلقة والمتوفى عنها الحامل فأخذ حكم المتوفى عنها الحامل من آية سورة البقرة، وعضد ذلك بحديث سبيعة الأسلمية.
ومنهم من حمل آية البقرة على العموم في الحامل والحائل، وآية سورة الطلاق على الخصوص في المطلقة، وصح عنده حديث سبيعة، وهو خبر آحاد فخصص به ذلك العموم في الآية، وهذا قول النخعي. وفيه نظر لأن الأصوليين قد تنازعوا أيهما يقدم١٨ ؟ هل عموم القرآن أو خبر الآحاد١٩ ؟ ويعظم إشكاله عند من يرى التعارض بين العام والخاص، ويسلك به سبيل النسخ لأن خبر الآحاد لا ينسخ به القرآن.
ومنهم من حمل الآيتين معا٢٠ على العموم وجعل آية سورة الطلاق ناسخة لآية سورة البقرة في حكم الحامل المتوفى عنها زوجها وعضد ذلك بحديث سبيعة.
ومنهم من ذهب إلى هذا القول بالعموم في الآيتين أو إلى القول الثالث قبله وجمع على الحامل المتوفى عنها حكم الآيتين فقال : إنها تجلس معتدة أقصى الأجلين، وضع الحمل، أو أربعة أشهر وعشرا. فتحصل بهذا في الحامل المتوفى عنها قولان :
أحدهما : أن عدتها وضع الحمل إلا أنه اختلف قائلو ذلك بالسنة أو بالكتاب.
والثاني : أن عدتها آخر٢١ الأجلين٢٢، وممن قال هذا علي –رضي الله عنه-، وابن عباس في إحدى الروايتين عنه٢٣. والقول الآخر قول أكثر الصحابة والتابعين ومن بعدهم.
وفي الحامل قول ثالث : أن عدتها وضع حملها والطهارة من دم النفاس وهو قول مخالف لظاهر الكتاب والسنة. وممن قال به الحسن والشعبي٢٤. وأما المرتابة بحس البطن، فتتربص إلى أقصى أمد الحمل في الوفاة والطلاق بإجماع.
واختلف في الكتابية على قولين :
أحدهما : أنها تعتد في وفاة زوجها أربعة أشهر وعشرا، وهو قول مالك٢٥.
والثاني : أنها تستبرئ بثلاث حيض. وقيل إنها تستبرئ٢٦ بحيضة. فإذا قلنا عدتها أربعة أشهر وعشرا فهي داخلة في عموم الآية. وأما الكتابية غير المدخول بها فيخرج٢٧ القول فيها على هاتين الروايتين.
إحداهما : أنه لا شيء عليها لبراءة رحمها.
والأخرى : أنها تعتد أربعة أشهر وعشرا لأنها من الأزواج.
وهذا الاختلاف مبني على الاختلاف٢٨ في الكفار هل هم مخاطبون بشرائع الإسلام أم لا ؟.
وأما المرتابة بتأخر الحيض، وهي التي يتأخر حيضها ففيها في المذهب ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها تبرأ بأربعة أشهر وعشرا.
والثاني : أنها تتربص إلى تمام تسعة أشهر.
والثالث : أنها تبرأ بأربعة أشهر٢٩ وعشرا إذا لم يأتها فيها وقت حيضتها٣٠ بخلاف التي يأتيها فيها وقت حيضتها وتتأخر عنها. وأما المستحاضة ففيها قولان :
أحدهما : أنها تبرأ بأربعة أشهر وعشرا.
والثاني : أنها تبرأ بثلاثة أشهر٣١.
فعلى القول بأن المرتابة والمستحاضة عدتهما أربعة أشهر وعشرا يكون قوله تعالى :( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا ) الآية، عاما لهما. وحجة لمن قال فيهما بذلك.
والتربص أربعة أشهر وعشرا واجب على كل متوفى عنها من الحرائر سوى من ذكرنا مدخولا بها كانت أو غير مدخول بها صغيرة أو كبيرة، والزوج المتوفى صغير أو كبير، حر، أو عبد، مجبوب أو سليم لعموم قوله تعالى :( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا ) الآية. وذكر عن داود أن الصغيرة لا عدة وفاة عليها ؛ وهذه الآية حجة عليه٣٢.
لكن من المعتدات من تكون الأربعة أشهر والعشر لها عبادة لا لعلة. ومنهن ما هي لعلة، ومنهن من اختلف فيها.
فأما التي جعلت الأربعة الأشهر والعشر لها عبادة لا لعلة فالصغيرة التي يؤمن عليها الحمل، ٣٣ والكبيرة التي يؤمن عليها الحمل أيضا.
وأما التي تكون الأربعة أشهر والعشر لعلة في حقها فالمدخول بها إلا أن ما زاد على ما تعلم به البراءة عبادة.
وأما التي اختلف هل العدة المذكورة عبادة في حقها لا لعلة أو لعلة فالمرأة التي لم يدخل بها، ومثلها يحمل، فقيل : إنها عبادة لا لعلة. وقيل : إنها لعلة، والعلة في ذلك الاحتياط للزوج الميت إذ قد درج وانطوى بحجته فلعله لو كان لبين أنه دخل بها. ونظير ذلك أن من أثبت دينا على ميت لا يحكم له به إلا بعد اليمين، وإن لم يدع الورثة عليه أنه قد قبض أو وهب٣٤، بل لو أقر له الورثة بالدين ولم يريدوا أن يدفعوه إلا بحكم، لم يحكم له القاضي إلا بعد اليمين مخافة أن يطرأ وارث أو دين.
وقال أبو الحسن : وقال الأصم : إن الآيات في عدة الوفاة وعدة الطلاق بالأشهر والأقراء عامة في حق الأمة والحرة فعدة الحرة والأمة سواء٣٥. وهذا المذهب جار على عمومات الكتاب إذ لا فرق فيها بين الحرة والأمة. والذي جعل الأمة على النصف من الحرة إنما اعتبره لأن حرمة الأمة دون حرمة الحرة. وهذا فيه ضعف، لأن العدة إنما هي لحق الزوج، وحق الزوج بالإضافة إلى الحرة والأمة سواء، وهذا بين، فإن صح الخبر عنه عليه صلى الله عليه وسلم : " طلاق الأمة طلقتان وعدتها حيضتان " ٣٦ ففيه متعلق وإلا فالمتعلق ضعيف٣٧.
وقد اختلف في المتوفى عنها إذا لم تعلم بموت زوجها وبلغها الخبر :
فقال جماعة من الصحابة والتابعين والفقهاء عدتها من يوم مات. وكذلك في الطلاق، إذا طلقها عدتها من يوم طلق.
وقال أبو حنيفة في أحد قوليه : من يوم علمت.
وقال علي بن أبي طالب، والحسن البصري : عدتها في الموت من يوم بلغها الخبر بخلاف الطلاق.
وقال عمر بن عبد العزيز : إن ثبت ذلك بالبينة، فالعدة من يوم الطلاق أو الموت. وإن ثبت بالسماع فالعدة من يوم السماع وقوله تعالى :( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا ) يدل على تعلق العدة بالموت. وكذلك قوله تعالى :( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ) يدل على تعلق العدة بالطلاق٣٨.
والتربص التأني بالشخص في مكان وعلى حال، وقد بين تعالى ذلك بقوله :( بأنفسهن ) وقد ثبتت الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم بالتربص على أي حال هو وفي أي مكان. فجاء عنه أن الحال التي تتربص٣٩ عليها هي الإحداد وهو الامتناع من الزينة٤٠، وإن كان الحسن بن أبي الحسن لم ير الإحداد شيئا. وقيل إنما تتربص على الزواج ولها الزينة والطيب٤١. وهذا القول من الحسن أخذا منه بظاهر الآية إذ لم يذكر فيها الامتناع من شيء ولكنه قول ضعيف ترده الآثار الصحاح.
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أن المكان حيث كانت وقت وفاة زوجها، وإن كان ابن عباس، وأبو حنيفة فيما روي عنهما لا يراعيان المكان ويقولان تعتد ح
٢ كذا في ب و ن وفي أ "ونحو ذلك"..
٣ يراجع المحرر الوجيز لابن عطية (٢/١١٩) و (٣/١٧٣، ١٧٤)..
٤ هو البيت الرديء..
٥ في ب "العشر"..
٦ في ن "رتبة"..
٧ يراجع تحقيق الحافظ ابن حجر في الفتح الباري (٨/١٩٤، ١٩٥)..
٨ في ب "فقال مجاهد: أن.."..
٩ في أ "ورأى أنه لا يسقط حكم من كتاب الله تعالى يمكن.."..
١٠ قال القرطبي في تفسيره (٣/١٧٤): "وهذا غلط بين، لأنه إذا كان حكمها أن تعتد سنة إذا لم تخرج، فان خرجت لم تمنع، ثم أزيل هذا ولزمتها العدة أربعة أشهر وعشرا وهذا هو النسخ، وليست صلاة المسافر من هذا في شيء"..
١١ وحقق في ذلك الباجي ورجحه في أحكام الفصول (ص٤٠٩، ٤١٠) ويراجع المستصفى للغزالي (٢/٦٦ -٦٩) وتحقيق الشوكاني في إرشاد الفحول (ص١٩٦، ١٩٧)..
١٢ يراجع في هذا الإشراف لعبد الوهاب (٢/٧٩٤) وأحكام القرآن للكيا الهراسي (١/١٩٤، ١٩٥) والمحرر الوجيز (٢/١١٩، ١٢٠)..
١٣ في أ و ب "غير الحامل" والسياق يأباه..
١٤ في الطلاق، (٢/ رقم ١٧٢٥ و١٧٢٨)..
١٥ في الطلاق (٥٣١٨)..
١٦ في الطلاق (١٤٨٤)..
١٧ في أ و ب "غير الحامل"..
١٨ ورجح المحققون جواز ذلك فيراجع أحكام الفصول للباجي (ص٢٦١ -٢٦٥) والمستصفى للغزالي (٣/٣٣٢ -٣٣٩) وإرشاد الفحول للشوكاني (ص١٥٧ -١٥٩ – ط دار المعرفة بيروت)..
١٩ في أ "خبر الواحد"..
٢٠ في ب "جميعا"..
٢١ في ب "أقصى"..
٢٢ يراجع هذا القول في المحرر الوجيز (٢/١٢٠) والإشراف لعبد الوهاب (٢/٧٩٤) والمعلم للمازري (٢/٢٠٦، ٢٠٧)..
٢٣ يراجع أحكام القرآن لابن العربي (١/٢٠٨)..
٢٤ في ن "لحس"..
٢٥ قال ابن العربي في أحكام القرآن (١/٢١١): "وهذا منه فاسد جدا لأنه أخرجها من عموم آية الوفاة وهي منها، وأدخلها في عموم آية الطلاق وليست منها" وينظر تفسير القرطبي (٣/١٧٩، ١٨٠)..
٢٦ في أ "تبرأ"..
٢٧ في ب "فيتخرج"..
٢٨ في ب "الخلاف"..
٢٩ في أ "بالأربعة الأشهر"..
٣٠ في أ "حيضها"..
٣١ يراجع أحكام القرآن لابن العربي (١/٢١١)..
٣٢ يراجع كلام القاضي عبد الوهاب في الإشراف على مسائل الخلاف (٢/٧٩٨)..
٣٣ في ب "أو الكبيرة"..
٣٤ في ب "دفع"..
٣٥ قال ابن العربي في أحكام القرآن (١/٢١٠): "وإجماع سائر العلماء على عدم التسوية بينهما قد سبقه لكم لصممه لم يسمع به"..
٣٦ الحديث ضعيف وقد سبق تخريجه ص(٣٢٠)..
٣٧ قاله في أحكام القرآن '١/١٩٥)..
٣٨ يراجع الإشراف لعبد الوهاب (٢/٧٩٣، ٧٩٤) وأحكام القرآن للهراسي (١/١٩٥، ١٩٦)..
٣٩ في ب "يتربصن" وكذا في ن..
٤٠ في ن "أن تتزين وتطيب"..
٤١ يراجع صحيح البخاري في الطلاق، (٥٣٤٢) ومسلم في الطلاق، (٩٣٨)..
أي إذا كان أصل النكاح على المقصد٢ الحسن.
وقال قوم : معناه لا طلب بجميع المهر عليكم، بل عليكم نصف المفروض لمن فرض لها والمتعة خاصة لمن لم يفرض لها٣.
وقال حماد بن أبي سليمان : إذا طلقها ولم يكن دخل بها ولا فرض لها، أجبر على صداق مثلها.
وقال قوم : لا جناح عليكم معناه في أن ترسلوا الطلاق، في وقت حيض، بخلاف المدخول بها٤. وهذا التأويل يساعد القول الأشهر خلافا لمن كره طلاقها وهو أشهب. وتقدير الآية : ما لم تمسوهن ولم تفرضوا. ودل على ذلك قوله تعالى بعد ذلك :( وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة ) |البقرة : ٢٣٧| وسبب الآية أنها نزلت في رجل من الأنصار تزوج امرأة ولم يسم لها مهرا، وطلقها من قبل أن يمسها٥ " فأو " في الآية بمعنى الواو مثل قوله تعالى :( ولا تطع منهم آثما أو كفورا ) |الإنسان : ٢٤|، وقوله تعالى :( أو جاء أحد منكم من الغائط ) |النساء : ٤٣| وقوله تعالى :( إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا ) |الأنعام : ١٤٦| ونحو ذلك٦. وهذه الآية تعطي أن تسمية الصداق ليس من شرط صحة العقد، وجواز النكاح على التفويض، ولا خلاف فيه وإنما اختلفوا في نكاح التحكيم على ثلاثة أقوال، وإن كان نكاح التحكيم بمعنى نكاح التفويض، لأنه ليس في ذلك أكثر من تقدير الصداق في ثاني وقت، وكذلك التفويض. فلهذا ذهب جماعة إلى أنه جائز كالتفويض، وذهب جماعة إلى أنه لا يجوز ويفسخ قبل ويثبت بعد بصداق المثل.
وذهب قوم آخرون إلى أن ذلك جائز إن كان الزوج هو المحكم، ولا يجوز إن كان المحكم غيره. وإذا قلنا إنه جائز كالتفويض، فلا خلاف أن الحكم فيه كالحكم في التفويض إن كان المحكم الزوج وحده. وأما إن كان المحكم غير الزوجين أو الزوجة وحدها أو مع سواها أو الزوج مع غيره ففي ذلك ثلاثة أقوال :
أحدها : أن الحكم في ذلك حكم نكاح التفويض لا يعتبر فيه إلا رضى الزوج.
والثاني : أن النكاح لا يلزم إلا بتراضي المحكم والزوج.
والثالث : أن المحكم ينزل منزلة الزوج في نكاح التفويض.
٢ في ب و أ "القصد" والتصحيح من المحرر الوجيز لابن عطية..
٣ قاله ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/١٣١)..
٤ يراجع: العجاب في بيان الأسباب (ص ٤١١)..
٥ يراجع أحكام القرآن للهراسي (١/٢٠٠، ٢٠١) وأصله في أحكام القرآن للجصاص (٢/١٣٥، ١٣٦)..
٦ في هامش أ "الزوج"..
يعني أعطوهن شيئا يكون متاعا لهن١، والمطلقات في الامتناع ثلاثة أقسام. مطلقة قبل الدخول وقبل التسمية. ومطلقة قبل الدخول وبعد التسمية. ومطلقة بعد الدخول وقبل التسمية أو بعدها. فأما المطلقة قبل الدخول وقبل التسمية فإن الله تعالى قد نص في هذه الآية على إمتاعها، فقال :( لا جناح عليكم ) الآية إلى قوله :( ومتعوهن ).
واختلف أهل العلم في هذا الأمر، أيحمل على الندب أم على الوجوب ؟ فذهب به جماعة إلى الندب٢، وإن كانوا يرون الأمر على الوجوب. قالوا : لأنه حفت به قرائن صرفته عن الوجوب منها تخصيصه بها المحسنين بقوله تعالى :( حقا على المحسنين ) ولا يعلم المحسن من غير المحسن٣ إلا الله تعالى. فلما علق تعالى المتعة بصفة لا يعلمها إلا هو دل على أن الله تعالى لم يوجب الحكم بها على الحكام إذ لم يجعل لهم طريقا إلى تمييز المأمور بها من غيره. وقيل : للمطلق متع إن كنت من المحسنين، فإنها غير مقدرة ولا معلومة والفرائض لا بد أن تكون مقدرة معلومة٤. وذهب جماعة إلى أن حمل الآية على الوجوب ورأوا القضاء بالمتعة عامة في أولها وآخرها، لأن كل مؤمن محسن٥.
وأما المطلقة قبل الدخول وبعد التسمية، فللأهل العلم فيها ثلاثة أقوال :
أحدها : أن إمتاعها ليس بواجب ولا مندوب إليه.
والثاني : أن إمتاعها واجب.
والثالث : أن إمتاعها مندوب إليه.
وحجة القول الأول أن الله تعالى ذكرها عقب المطلقة قبل الدخول وقبل التسمية فأوجب لها نصف فريضة، ولم يأمر لها بالمتاع٦، فدل على أنه لم يجعل لها متاعا لا واجبا ولا مندوبا إليه. وهذا هو مذهب مالك٧.
وحجة من أوجب لها المتاع٨، عموم قوله تعالى :( يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا ٤٩ ) |الأحزاب : ٤٩| إذ لم يفرق بين أن يكون سمى لها صداقا أو لم يسم لها صداقا وعموم قوله تعالى :( وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين ٢٤١ ) وقال هي من المطلقات فوجب لها المتاع مع نصف الصداق كما أن للمدخول بها المتاع، مع جميع الصداق.
وأما المطلقة بعد الدخول فللأهل العلم فيها قولان :
أحدهما : إيجاب المتعة.
والثاني : الندب إليها وهو قول مالك وجميع أصحابه.
وحجة من أوجب قوله تعالى :( وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين ٢٤١ ) قال : وكل مؤمن متق. فلا تخصيص في الآية.
وقد اختلف في متعة هذه والتي طلقت قبل الدخول، وقبل التسمية أيهما أوجب ؟ على أربعة أقوال :
أحدهما : أنهما سواء في إسقاط الوجوب وهو مذهب مالك.
الثاني : أنهما سواء في ثبوت٩ الوجوب، ووجوب الحكم بها.
والثالث : أن المتعة للمدخول بها أوجب لأن الله تعالى أوجب لها المتاع بغير لفظ الأمر المحتمل للوجوب والندب. فقال :( وللمطلقات متاع بالمعروف ) |البقرة : ٢| واستدل أيضا من ذهب إلى هذا بقوله تعالى :( يا أيها النبي قل لأزواجك... ) الآية إلى قوله :( أمتعكن ) |الأحزاب : ٢٨| فنص على إمتاعهن وهن مدخول بهن.
والرابع : أن المتعة للتي لم يدخل بها، ولم يسم لها أوجب لأن الله تعالى نص على المتعة لها بالأمر بها. والأمر على الوجوب ولم ينص على المتعة للمدخول بها إلا في تخيير النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه وذلك حكم خص النبي صلى الله عليه وسلم به دون المؤمنين بدليل إجماعهم أنه لا يجب على أحد أن يخير امرأته وإنما جعل الله لها المتعة لعموم ظاهر اللفظ في قوله :( وللمطلقات ) وليس ما أوجبه بالظاهر والعموم كما نص عليه بالأمر الذي يقتضي الوجوب، ولكل قول منها حض من النظر وأبينها ما ذهب إليه مالك رحمه الله. واختلف في المخيرة والمملكة١٠ هل لهما متعة أم لا ؟ على قولين في المذهب.
أحدهما : عن مالك أن لهما المتعة.
والثاني : عن ابن خويز منداد أن١١ لا متعة لهما.
وحجة من رأى لها المتعة ظاهر الآية لأنهما من المطلقات، ولعلهما لا يريدان الفراق١٢.
وحجة من لم ير لهما متعة أن المتعة إنما جعلت تسلية للمرأة عن فراق زوجها فلا متعة في كل فراق تختاره المرأة من غير سبب يكون للزوج في ذلك كامرأة العنين، والمجذوم، وتختار الفراق، وكالأمة تعتق تحت العبد، فتختار نفسها. قالوا والمرأة إذا اختارت فراق زوجها لم تشقق لذلك ولا حرنت١٣، فلا يحتاج الزوج إلى تسليتها وتطييب نفسها.
واختلف في المختلعة والملاعنة هل لهما متعة أم لا ؟ فذهب الجمهور إلى أنه لا متعة لهما لما قدمناه من علة من لم ير المتعة للمخيرة والمملكة١٤. وذهب قوم إلى أن المتعة لهما فكأنهم اتبعوا ظواهر الآي، فرأوا أنهما من المطلقات١٥، ولعلهم لم يروا تلك العلة لازمة، والنكاح المفسوخ لا متعة فيه، فسخ قبل البناء بطلاق أو بغير طلاق أو طلق الزوج قبل الفسخ، لأن المراد بقوله تعالى :( لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن ) وبقوله :( وللمطلقات متاع بالمعروف ) المطلقات بعد نكاح صحيح مباح. ويظهر من كلام ابن المواز رحمه الله أن لها المتعة إذا طلق قبل الفسخ، وإن فسخ فلا متعة، وإذا لم يمتع الزوج، حتى ماتت المرأة ففي إيجاب المتعة عليه لورثتها قولان.
وإذا قلنا إن المتعة إنما جعلها الله في مقابلة الأذى الحاصل بالفراق على وجه التسلية للمرأة المطلقة لم يكن للميتة متعة.
وهذا أيضا يقتضي ألا يكون للمملوكة إذا طلقت قبل الفرض والمسيس متعة لأن المتعة تكون لسيدها وهو لا يستحق مالا في مقابلة أذى مملوكته بالطلاق. ولا أعلم أحدا قال بذلك سوى الأوزاعي والثوري، فإنهما زعما أن المتعة١٦ في هذه الحالة١٧.
وليست المتعة بدلا عن البضع فيحكم لها بحكم الصداق في الوجوب لأن المعتبر بها حال الرجل بنص كتاب الله تعالى :( على الموسع قدره وعلى المقتر قدره ) |البقرة : ٢٣٦| فدل هذا على أنها ليست بدلا عن١٨ البضع، وليست المتعة أيضا عوضا عن الصداق، ولأنه لو كان، ما صح الترغيب في متعة من تستحق والمهر بالمسيس، والترغيب في الأحوال كلها فالإمتاع واحد. ففيما ذكرناه بطلان قول من زعم أن المتعة عوض عن الصداق، أو عن البضع١٩.
واختلف الناس في مقدار المتعة. فقال ابن عمر أدنى ما يجزي٢٠ في المتعة ثلاثون درهما أو شبهها. وقال ابن حجيرة٢١ : على صاحب الديوان ثلاثة دنانير. وقال ابن عباس : أرفعها خادم ثم كسوة، ثم نفقة. وقال عطاء : من أوسط ذلك درع وخمار وملحفة. وقال أصحاب الرأي وغيرهم : متعة الرجل الذي يطلق قبل الدخول والفرض نصف مهر مثلها لا غير٢٢. وهذه كلها أقوال |لا| يعضدها أصل. والذي تعضده ظواهر الآي أنه لا قدر لها وأنها على قدر عسر الرجل ويسره، والدليل على ذلك قوله تعالى :( على الموسع قدره وعلى المقتر قدره ) فهذا أقوى٢٣ دليل على رفض التحديد وهو مذهب مالك رحمه الله٢٤.
وفي هذه الآية دليل على أن المعتبر في قدرها إنما هو حال الرجل خاصة. وذكر بعض العلماء أن حال المرأة معتبر مع ذلك أيضا، واستدل على ذلك أيضا بقوله تعالى :( بالمعروف ) ولأنه إن لم يعتبر ذلك لزم منه أن تكون متعة الشريفة والدنيئة سواء٢٥.
٢٣٦- وقوله تعالى :( بالمعروف ) |البقرة : ٢٣٦|.
أي لا حمل فيه٢٦ ولا تكلف على أحد الجانبين، فهو تأكيد لقوله :( على الموسع قدره وعلى المقتر قدره ) ٢٧.
٢ في ب "إلى أن الندب"..
٣ في ب "من غيره"..
٤ يراجع المحرر الوجيز لابن عطية (٢/١٣٢) وتفسير الطبري (٢/٧٠٦، ٤٠٨) وأحكام القرآن للجصاص (٢/١٣٦)..
٥ يراجع من قال بذلك في تفسير الطبري (٢/٧٠٥، ٧٠٦)..
٦ في ب "الإمتاع"..
٧ يراجع أقوال الفقهاء في أحكام القرآن للجصاص (٢/١٣٥ -١٤٣) وأحكام القرآن لابن العربي (١/٢١٦ -٢١٨) والمحرر الوجيز (٢/١٣٣، ١٣٤) وتفسير القرطبي (٣/١٩٦ -٢٠١)..
٨ في الطلاق (٥٣١٨)..
٩ في ب "إثبات"..
١٠ المخيرة هي التي يخيرها زوجها بين بقائها معه أو فراقه، والمملكة هي التي يجعل زوجها أمرها بيدها..
١١ في ب "أنه"..
١٢ يراجع رأي مالك عند ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/١٣٣، ١٣٤)..
١٣ حرن الفرس إذا اشتد ولم ينقاد أنظر مادة ح رن من الصحاح للجوهري.
١٤ قال ابن شعبان: المتعة بإزاء غم الطلاق، ولذلك ليس للمختلعة والمبارئة والملاعنة متعة. كذا في المحرر الوجيز لابن عطية (٢/١٣٣)..
١٥ قال ابن عطية: "وقال الترمذي" وعطاء، والنخعي: للمختلعة متعة. وقال أصحاب الرأي: للملاعنة متعة" المحرر الوجيز (٢/١٣٣)..
١٦ كذا في أ و ب و ن والصواب ما جاء في أحكام القرآن للهراسي (١/٢٠٢) "أن لا متعة"..
١٧ حكاه أبو الحسن الهراسي ورده في أحكام القرآن (١/٢٠٢، ٢٠٣)..
١٨ في ب "من"..
١٩ ذكره الهراسي ردا على أصحاب أبي حنيفة حين اعتبروا المتعة بدلا عن البضع أو بدلا عن الصداق. يراجع أحكام القرآن (١/٢٠٣) وأحكام القرآن للجصاص (٢/١٤٢)..
٢٠ في ب "يجزىء"..
٢١ كذا في أ و ب و ن وفي المحرر الوجيز "ابن محيريز" وأظنه خطأ..
٢٢ ذكر هذه الأقوال ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/١٣٤)..
٢٣ كذا في أ و ب وفي هامش أ وعليه صح و ن "أولى"..
٢٤ ذكره ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/١٣٤) وتفسير القرطبي (٣/٢٠١، ٢٠٣)..
٢٥ يراجع هذا أحكام القرآن للجصاص (٢/١٤٣، ١٤٤) وللهراسي (١/٢٠٥)..
٢٦ في ب "فيها"..
٢٧ قاله ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/١٣٥، ١٣٦)..
فذهب ابن المسيب إلى أنها نسخت الآية التي في الأحزاب لأن تمتع كل من لم يدخل بها. |ويعني بالتي في الأحزاب|١ قوله تعالى :( يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن ) الآية |الأحزاب : ٤٩| وفي هذا القول نظر٢.
وذهب قتادة إلى أنها نسخت الآية التي قبلها٣. وفي هذا التأويل أيضا نظر. والذين ذهبوا إلى أنها ليست بناسخة قالوا إنها مخرجة للمطلقة بعد الفرض من حكم التمتيع إذ يتناولها عموم قوله تعالى :( ومتعوهن ) وقال ابن القاسم٤ : كان المتاع لكل مطلقة بقوله تعالى :( وللمطلقات متاع بالمعروف ) ولغير المدخول بها في الآية في سورة الأحزاب فاستثنى الله تعالى المفروض لها قبل الدخول بهذه الآية وأثبت لها نصف ما فرض فقط٥. وقد تقدم من جمع بين الآيتين مرة للمطلقة قبل الدخول وقد فرض لها نصف الصداق بقوله تعالى :( فنصف ما فرضتم ) والمتعة بقوله :( ومتعوهن ) وهذه الآية تدل على أن الصداق لا يجب بعقد النكاح وجوبا مستقرا، لأنه لو وجب وجوبا مستقرا ما سقط نصفه بالطلاق وإنما حاله مترقبة. وهذا القول أصح ما قيل في ذلك. وقد قيل إنه يجب جميعه بالعقد وجوبا مستقرا، إلا أنه يسقط نصفه بالطلاق. وقد قيل : إنه يجب نصفه بالعقد ونصفه الثاني بالدخول. وهذان القولان معترضان من أوجه. وأحق الأقوال بالصواب الأول، ومفهوم الآية يعضده٦.
واختلف إذا خلا الزوج بزوجته خلوة بناء، ثم صدقته على أنه لم يطأ ماذا يجب لها من الصداق ؟ فذهب مالك وجميع أصحابه إلى أنه ليس لها إلا نصف الصداق٧. وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن الخلوة الصحيحة توجب المهر كله، وطىء أو لم يطأ ادعته المرأة أو لم تدعه إذا لم يكن ثم مانع يمنع من الوطء من حيض ونحوه٨. وذهب ابن أبي ليلى، وعطاء إلى أن الخلوة توجب المهر، وإن٩ كان ثم مانع. والآية ترد هذين القولين لأن الله تعالى قيد وجوب الصداق بالمسيس، فإذا لم يكن مسيس فلا يجب لها إلا نصف الصداق والخلوة غير مراعاة إلا مع التناكر.
وحجة القول الثاني ما جاء عن عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- في قوله : إذا أرخيت الستور، فقد وجب الصداق. وهذا القول محتمل لتأويلين. واختلف الذين ذهبوا إلى أن الخلوة لا توجب الصداق : فإذا اختلف الزوجان بعد الخلوة في المسيس، هل يصدق الزوج ؟ أو الزوجة ؟ وفرق مالك بين أن يكون الدخول دخول بناء أو غير دخول بناء١٠، ومن حجة من صدق الزوج في ذلك ظاهر الآية لأن الخطاب بها إنما هو للأزواج ولا يعلم ذلك إلا من قبلهم.
واختلف الذين ذهبوا إلى أنه لا يجب لها جميع الصداق إلا بالوطء إذ خلا بها خلوة بناء وتلذذ بها وعجز عن الوطء على أربعة أقوال : فقال مالك : لها النصف إلا أن يطول مقامه معها، واستمتاعه بها، وتكون لها سنة كاملة كامرأة العنين، فيجب لها الصداق. وقال ابن أبي سلمة : لها النصف وإن طال مقامه معها. وروي عن مالك : أن لها الجميع ولو لم يطل مقامه. وقال عمر : لها النصف وتعاض من تمتعه بها١١. والذي تقتضيه الآية أن لها النصف إذ المسيس هنا الجماع فما عدا الجماع على ذلك١٢ لا يعتبر.
واختلف في المرأة تقبض صداقها فتشتري به ما يصلح لجهازها فيطلقها الزوج قبل البناء، بم١٣ يرجع عليها ؟ فقال مالك بنصف ما اشترت وقال أبو حنيفة والشافعي بنصف ما أخذت منه لا بنصف ما اشترت لقوله تعالى :( فنصف ما فرضتم ) ولم يقل عز وجل فنصف ما اشترت، وبه أخذ ابن المنذر. ولقول مالك وجه من النظر يبحث١٤ عليه في مظانه١٥.
واختلف في نكاح التفويض إذا طلقها قبل الدخول وقد فرض لها. فقيل : يكون لها نصفه ولا متعة، وهو قول مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة : لا شيء لها مما فرضه. ولها المتعة، ودليل القول الأول قوله تعالى :( فنصف ما فرضتم ) ولا فرق أن يفرض في العقد وبعد العقد١٦.
٢٣٧- قوله تعالى :( إلا أن يعفون ) |البقرة : ٢٣٧|.
هو استثناء منقطع لأن عفوهن من الأخذ ليس من جنس أخذهن والمعنى إلا أن يتركن النصف الذي وجب لهن على الزوج. والعافيات في هذه الآية كل امرأة تملك أمر نفسها١٧.
واختلف في البكر التي لا ولي لها هل هي داخلة في عموم قوله تعالى :( إلا أن يعفون ) أم لا ؟ على قولين منصوصين وأما التي في حجر أب أو وصي فليست بداخلة في هذا العموم لأنها لا تصرف لها في مالها فيكون لها العفو١٨.
٢٣٧- وقوله :( أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح ) |البقرة : ٢٣٧|.
اختلف في المراد بذلك فقال ابن عباس، ومالك، والشافعي في قوله القديم وغيرهم : هو الأب في ابنته البكر والسيد في أمته فأجاز لهما العفو عن نصف الصداق بعد الطلاق كما جاءت الآية١٩. واختلف المجيزون لعفو الأب في الأب إن أراد٢٠ أن يعفو عن ذلك قبل الطلاق أيجوز أم لا ؟ فلم يجز مالك، وأجازه ابن القاسم إذا كان نظرا. وذكر بعض المتأخرين أنه يجوز له وضع البعض منه. وأما وضع الجميع فلا يجوز إلا على الطلاق. وحجة مالك أن الله تعالى إنما أجاز له الوضع وبعد الطلاق فلا يتعدى ذلك. وقد قيل : إن قول ابن القاسم تفسير لقول مالك٢١.
وأما الوصي وسائر الأولياء فلم يرهم مالك داخلين في عموم قوله :( أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح ) |البقرة : ٢٣٧| وروى ابن نافع عن مالك : أن الوصي في ذلك مثل الأب وقاله أصبغ. فعلى هذا يكون الوصي داخلا تحت قوله تعالى :( أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح ) وأما شريح، وعكرمة فرأيا كل من بيده عقدة النكاح داخل الآية فأجاز شريح عفو الأخ عن نصف المهر. وقال أنا أعفو عن مهر بني مرة وإن كرهن. وقال عكرمة يجوز عفو الذي بيده عقدة النكاح كان عما، أو أخا، أو أبا وإن كرهن٢٢. وإلى نحو هذا ذهب مجاهد، والزهري والحسن، قالوا هو الولي. ولا خلاف إن كان الولي سفيها في أنه لا يجوز عفوه.
وذهبت فرقة إلى أن الذي بيده عقدة النكاح الزوج وعفوه أن يدفع الصداق كاملا وليس عليه غير نصفه قاله علي بن أبي طالب –رضي الله عنه-، وابن عباس أيضا وشريح رجع إليه، وسعيد بن جبير، وأبو حنيفة، والشافعي٢٣، في الجديد٢٤.
وفائدة الخلاف أن من ذهب إلى أنه الزوج منع الأب من العفو وهو مذهب من ذكرنا. وهذا اللفظ٢٥ يحتمل الوجهين المتأولين فيجب أن ينظر أقوى الوجهين في الاحتمال مما استدل به أصحاب الشافعي، على أن المراد به الزوج أن قالوا : اللائق بالبيان هنا أنه إذا ذكر العفو من أحد الزوجين ذكره أيضا من الزوج الآخر قالوا وقد قال تعالى :( وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا ) |النساء : ٤| فذكر تركه الصداق عليها، وتركها الصداق عليه. ومما استدلوا به أيضا أن قالوا قد قال تعالى :( وأن تعفوا أقرب للتقوى ) |البقرة : ٢٣٧| وليس في هبة مال الغير إفضال منه على غيره٢٦. وذكروا أيضا أدلة أخرى لا تقوم بشيء منها حجة. ولمالك من قال بقوله في الآية أدلة :
أحدهما : أن ابتداء الخطاب بقوله :( وإن طلقتموهن ) للأزواج وقوله :( أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح ) |البقرة : ٢٣٧| كناية للغائب فيجب أن يكون المراد به غير من ووجه بالخطاب، وإذا ثبت ذلك لم يبق إلا ما قالوه في الولي.
والثاني : أن قوله ( الذي بيده عقدة النكاح ) يفيد أن يكون بيده في الحال والزوج ليس بيده بعد الطلاق شيء.
والثالث : أن حقيقة العطف عوده على المعطوف عليه في الشيء الذي أريد بالعطف. وقد ثبت أن قوله :( إلا أن يعفون ) المراد به النصف الواجب للمطلقات يسقطنه عن الزوج. فلما عطف بحرف ( أو ) كان حقيقته عفوا عن ذلك النصف في الثيب أو ولي البكر. ومن حمله على الزوج على العفو عن نصف آخر، وذلك خلاف الظاهر.
والرابع : أن في حملها على ما قلنا سلامتها من التكرار وحملها على الزوج تكرار، لأنه قد ثبت توجه الخطاب إليه بالعفو بقوله :( وأن تعفو أقرب للتقوى ) الآية |البقرة : ٢٣٧|.
والخامس : أن الله تعالى ندب إلى العفو في كلا الطرفين فندب الأزواج بقوله :( وأن العفو أقرب للتقوى ) |البقرة : ٢٣٧| ولم يفصل لأنهم يملكون٢٧ أنفسهم، ثم ندب النساء، وكن ينقسمن إلى ثيبات يملكن أمر أنفسهن، ولا حجر عليهن، وإلى أبكار يولى عليهن، فخاطب الثيب بإيقاع العفو منهن، وامتنع ذلك في الأبكار، فعدل إلى أوليائهن المالكين لأمورهن، وهم الآباء ومتى جعلناه للأزواج كان الأبكار في حيز من ندب إلى العفو، وهذا الاحتجاج لعبد الوهاب٢٨.
والعفو عن نصف الصداق إذا كان دينا على الزوج بين التوجه، وإن كان الصداق عقارا أو عينا معينة فلا يتحقق معنى العفو فيه ولكن العفو فيه٢٩ بمعنى تمليكه إياه بغير عوض والعفو التساهل، يقال : كان الأمر عفوا أي سهلا.
قال الشافعي : ففي هذا دليل على جواز هبة المشاع فيما ينقسم لإباحة الله تعالى تمليك نصف الصداق المفروض الثابت بعد الطلاق، ولم يفرق بين ما كان منه عينا أو دينا أو يحتمل القسمة وما لا يحتملها، فوجب إتباع عموم الآية في جواز هبة المشاع٣٠ خلافا لمن لا يجيزه. وقد اعترض أصحاب مالك في تفسير هذه الآية فإن الذي بيده عقدة النكاح هو الأب. فقيل : كيف جاز للأب أن يعفو عن نصف الصداق وهو ملك غيره ؟ ولو جاز ؛ أيضا له أن يتصرف في مالها بالهبة والصدقة والعتق، ونحو ذلك٣١.
والجواب عن هذا أن الصداق مخالف لما ذكر من قبل، أن للأب أن يجبرها على العقد، وله أن يرفع العقد بخلع يوقعه، وكذلك أن يدفع ما وجب لها بالعقد إذ هو الموقع له، وله في ذلك حظ.
ويؤخذ من هذه الآية أيضا إذا ثبت أن الذي بيده عقدة النكاح هو الأب أن له أن يجبر ابنته البكر على النكاح خلافا لمن رأى أنه لا يزوجها إلا بإذنها، وهو أبو حنيفة، لأن الله تعالى قد جعل ذلك بيد الأب، فلو جعلنا فيه للبنت إذنا لكنا قد جعلنا ذلك بيدها، وذلك خلاف ما تقتضيه الآية. وكذلك البكر الصغيرة التي لم تبلغ داخلة في هذا الحكم للأب أن يجبرها على النكاح باتفاق إلا من شذ.
واختلف في الأب هل له أن يزوج ابنته البكر بأقل من صداق أمثالها، فمنع ذلك الشافعي وأجازه مالك ومن تابعه قياسا على وضع نصف الصداق٣٢.
وقوله تعالى :( أن تعفوا أقرب للتقوى ) |البقرة : ٢٣٧| اختلف في المراد به فقيل جميع الناس، وقيل المراد به النساء الجائزات الأمر والذي بيده عقدة النكاح.
وقرئ " وأن يعفو أقرب للتقوى " بالياء وذلك راجع إلى الذي بيده عقدة النكاح٣٣.
٢ ذكر قوله ابن عطية في المحرر الوجيز '٢/١٣٦) والقرطبي في تفسيره (٣/٢٠٤)..
٣ رواه الطبري في تفسيره (٢/٧١٦). وذكره في المحرر الوجيز (٢/١٣٦) وتعقبه القرطبي..
٤ يراجع المدونة لسحنون (٢/٣٣٢)..
٥ قاله ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/١٣٦، ١٣٧)..
٦ يراجع كلام القاضي عبد الوهاب في الإشراف على مسائل الخلاف (٢/٧١٦، ٧١٧)..
٧ تراجع المدونة لسحنون (٢/٣٢٠، ٣٢٣) وأحكام القرآن للجصاص (٢/١٤٨)..
٨ ذكر ذلك الجصاص في أحكام القرآن (٢/١٤٧)..
٩ في ب "ولو"..
١٠ يراجع المدونة لسحنون (٢/٣٢٠، ٣٢١) والإشراف لعبد الوهاب (٢/٧١٨، ٧١٩)..
١١ يراجع قول عمر –رضي الله عنه- في أحكام القرآن للجصاص (٢/١٤٧ -١٤٨)..
١٢ في ب "هذا"..
١٣ في أ "ثم"..
١٤ في ب "يطلب" وكذا في ن..
١٥ يراجع هذا المبحث في الإشراف على مسائل الخلاف لعبد الوهاب (٢/٧٢٢، ٧٢٣)..
١٦ يراجع الأم للشافعي (٥/٦١) والإشراف لعبد الوهاب (٢/٧١٥، ٧١٦) وعقد الجواهر (٢/٤٨٠ -٤٨٢)..
١٧ قاله ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/١٣٧)..
١٨ يراجع المصدر السابق (٢/١٣٧) وتفسير القرطبي (٣/٢٠٦)..
١٩ يراجع من قال بذلك في المحرر الوجيز (٢/١٣٨)..
٢٠ في ب "إذا"..
٢١ تراجع المدونة لسحنون (٢/١٥٩)..
٢٢ رواه عنهما الطبري في تفسيره (٢/٧٢٢) وذكره الجصاص في أحكام القرآن (٢/١٥١) وابن عطية في المحرر الوجيز (٢/١٣٨) وتفسير القرطبي (٣/٢٠٦ -٢٠٨)..
٢٣ يراجع تفسير الطبري (٢/٧٢٣ -٧٢٨) وأحكام القرآن للجصاص (٢/١٥١) وأحكام القرآن للكيا الهراسي (١/٢٠٨) وأحكام القرآن لابن العربي (١/٢١٩)، والمحرر الوجيز (٢/١٣٨)..
٢٤ في ب "الحديث"..
٢٥ في ب "لفظ"..
٢٦ قاله الكيا الهراسي في أحكام القرآن (١/٢٠٩)..
٢٧ في أ "يلون" والمثبت موافق لما في "الإشراف"..
٢٨ في الإشراف على مسائل الخلاف (٢/٧١٨، ٧١٩/ رقم المسألة ١٢٩٩)..
٢٩ قاله الهراسي في أحكام القرآن (١/٢١٢)..
٣٠ يراجع: أحكام القرآن لابن العربي (١/٢١٩، ٢٢٠) وتفسير القرطبي (٣/٢٠٧، ٢٠٨)..
٣١ في ن "ويجوز ذلك"..
٣٢ يراجع الإشراف لعبد الوهاب (٢/٢٨٧)..
٣٣ قاله ابن عطية، ونسب هذه القراءة إلى أبي نهيك والشعبي كما في المحرر الوجيز (٢/١٤٠، ١٤١)..
هذه الآية أمر الله تعالى فيها بالمحافظة على إقامة الصلوات، في أوقاتها بجميع شروطها. وذكر تعالى الصلاة الوسطى ثانية وقد دخلت في عموم الصلوات، لأنه قصد تشريفها وإغراء المصلين بها وقد قرئت١ : " والصلاة الوسطى " بالنصب على الإغراء٢، واختلف الناس في هذه الصلاة على ثمانية أقوال :
فذهبت فرقة إلى أنها الصبح، وأن لفظ " وسطى " يعطي الترتيب لأن قبلها صلاتي الليل٣، يجهر فيهما وبعدهما صلاتا النهار٤، يسر فيهما وهو قول مالك، وجماعة من أهل العلم٥.
وقالت فرقة : هي صلاة الظهر، وهو قول زيد بن ثابت، ورفع فيها حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم٦. واحتج قائلو هذا بأنها أول صلاة صليت في الإسلام فهي وسطى بذلك أي فضلى، وليس هذا بالتوسط في الترتيب. ويدل لذلك ما قالت حفصة وعائشة حين أملتا ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ) صلاة العصر٧.
وقالت فرقة : هي صلاة العصر لأن قبلها صلاتي نهار وبعدها صلاتي ليل. وفي مصحف عائشة : " والصلاة الوسطى –وهي صلاة العصر " ٨. وفي إملاء حفصة : " والصلاة الوسطى –وهي صلاة العصر " ٩ فيتأول فيه أنه عطف إحدى الصفتين على الأخرى وهما شيء واحد.
وروي عن ابن عباس أنه قرأ : " والصلاة الوسطى –صلاة العصر " ١٠ على البدل. وروى هذا القول سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم١١. وقال صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب : " شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا " ١٢.
وقال البراء بن عازب : كنا نقرأ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم " حافظوا على الصلوات وصلاة العصر " ثم نسخها الله تعالى فقرأنا " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ) فقال له رجل : فهي صلاة العصر ؟ قال : قد أخبرتك قال : كيف قرأناها وكيف نسخت١٣. وروى أبو مالك الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :'الصلاة الوسطى صلاة العصر " ١٤.
وقال قبيصة بن ذؤيب : " الصلاة الوسطى صلاة المغرب " لأنها متوسطة في عدد الركعات ليست ثنائية ولا رباعية١٥.
وقالت فرقة : الصلاة الوسطى صلاة العشاء الأخيرة١٦.
وقالت فرقة : الصلاة الوسطى لم يعينها الله تعالى لنا فهي في جملة الخمس غير معينة كليلة القدر في ليالي العشر جعل الله تعالى ذلك لتقع المحافظة على الجميع١٧.
وقالت فرقة : الصلاة الوسطى صلاة الجمعة فإنها وسطى أي فضلى أي وسطى لما خصت به من الجمع والخطبة وجعلت عيدا١٨.
وقال بعض العلماء : الصلاة الوسطى المكتوبات الخمس وقوله أولا :( على الصلوات ) يعم الفرض والنفل، ثم خص الفرض بالذكر١٩.
وقال المازري : يضعف قول من قال إنها الجمعة بأن المفهوم من الأمر المحافظة عليها من أجل المشقة فيها، والجمعة صلاة واحدة في سبعة أيام فلا مشقة فيها في الغالب٢٠. وكذلك يضعف قول من قال : إنها جميع الصلوات، لأن أهل الفصاحة لا يذكرون شيئا مفصلا ثم يشيرون إليه مجملا. وإنما يصنعون عكس ذلك٢١.
والوسط إما يراد به التوسط في الركوع والسجود أو في العدد والزمان. فأما الركوع فإن حكم الصلاة فيه واحد فهذا القسم لا يراعى فيه للاتفاق عليه. وأما إن راعينا العدد فإنه يؤدي إلى أنها المغرب، وإن راعينا الزمان كان الصحيح أنها إحدى صلاتين إما الصبح وإما العصر، فأما الصبح فإنا إذا قلنا ما بين الفجر إلى طلوع الشمس ليس من النهار ولا من الليل كانت هي الوسطى لأنها الظهر والعصر من النهار والعشاء والمغرب من الدليل قطعا، ووقت المغرب مشترك بين الوقتين فهو وسط وعلى القول لأن ذلك الزمان من النهار يكون الأظهر أن الوسطى العصر لأن الصبح والظهر يسبقان العصر والمغرب والعشاء يتأخران عن العصر فهي إذا وسط بينهما.
وقد احتج أصحابنا بأنها الصبح بالمشقة٢٢ اللاحقة في إتيانها.
وقال من ذهب إلى أنها العصر، أن العصر أيضا كانت تأتي وقت اشتغالهم بمعاشهم، فكانت تشق عليهم فأكد عليهم أمرها.
ويؤيد أن أرجح الأقوال قول من زعم أنها الصبح أو العصر قول النبي صلى الله عليه وسلم : " من صلى البردين دخل الجنة " ٢٣ قيل : المراد بها الصبح والعصر. وقال يعقوب٢٤ : البردان : الغداة والعشاء٢٥. قلت : فعلى ما تقدم يأتي في الوقت من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس قولان :
أحدهما : أنه ليس من الليل ولا من النهار.
والثاني : أنه من النهار.
وفيه قول ثالث : أنه من الليل، وعليه يأتي قول من أجاز الأكل بعد طلوع الفجر في الصوم.
واختلف في الوتر فعندنا أنها سنة مؤكدة٢٦، وعند أبي حنيفة أنها واجبة وليست بفرض. وعنده رواية أخرى أنها فرض.
ودليلنا قوله تعالى :( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ) فلو كانت الوتر واجبة لكانت ستا ولا وسط للست.
٢٣٨- وقوله تعالى :( وقوموا لله قانتين ) |البقرة : ٢٣٨|.
معناه في صلواتكم٢٧.
واختلف في هذه الآية هل هي ناسخة أم لا ؟ فذهب السدي إلى أنها ناسخة. ومعنى ( قانتين ) ساكتين٢٨، وهذه الآية نزلت في المنع من الكلام في الصلاة، وكان ذلك مباحا في صدر الإسلام. وقال عبد الله بن مسعود : كنا نتكلم في الصلاة ونرد السلام، ويسأل الرجل صاحبه حاجته. قال : ودخلت يوما والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس، فسلمت عليه، فلم يرد علي السلام فاشتد ذلك علي. فلما فرغ صلى الله عليه وسلم، فقال : " إنه لم يمنعني أن أرد عليك السلام إلا أنه أمرنا أن نقوم قانتين، لا نتكلم في الصلاة ) ٢٩.
وقد اختلف في ترك الكلام في الصلاة هل هو سنة أم فريضة ؟ على قولين في المذهب، والظاهر أنه فرض، والحجة لهذا قوله تعالى :( وقوموا لله قانتين ) والأمر للوجوب٣٠.
وقد أجمع الناس على أن الكلام في الصلاة عمدا إذا لم يكن لإصلاحها٣١ يفسدها إلا الأوزاعي فإنه قال : من تكلم في الصلاة لإحياء نفس أو لمثل ذلك من الأمور الجسام لم تفسد صلاته بذلك ويمضي٣٢ عليها٣٣. وقال بعضهم عنه : ومثل ذلك لو رأى ذيبا يثب على غنم ونحو ذلك٣٤. ولزم اللخمي على المذهب نحو قول الأوزاعي.
وعموم الأمر بالسكوت في الآية والنهي الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك يرد هذا إلا أن يخصص بدليل واضح.
وأما الكلام في الصلاة لإصلاحها في نحو قصة ذي اليدين حين سلم النبي صلى الله عليه وسلم من اثنتين، وتكلم مع الناس ثم رجع إلى الصلاة وأتمها٣٥. فاختلف في ذلك اختلافا كثيرا. فروى ابن القاسم عن مالك : أن ذلك جائز في تلك القصة المروية وغيرها، فيخصص على قوله عموم الأمر بالسكوت، وعموم النهي عن الكلام٣٦ بهذا الخبر٣٧.
ومن أصحاب مالك من قال : لا يجوز ذلك إلا في قصة ذي اليدين خاصة إذا سلم الإمام من اثنتين، وإذا سلم من واحدة أو ثلاثة، أو منع غير ذلك، فلا يجوز التكلم ولو في إصلاح الصلاة، فخصص من قال ذلك العموم بالحديث ولم يقس عليه. وقال ابن كنانة من أصحاب مالك : إن ذلك لا يجوز بوجه لا في قصة ذي اليدين ولا فيما أشبهها٣٨.
واختلفوا في تأويل قصة ذي اليدين فمنهم من رآها خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم٣٩، ومنهم من رآها منسوخة بالآية والحديث. وضعف أبو عمر٤٠ النسخ٤١. وبنحو قول ابن كنانة قال أبو حنيفة والشافعي : أنه لا يجوز الكلام عمدا لإصلاح الصلاة.
وتأول أصحاب الشافعي الحديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما تكلم وهو يرى أنه في غير صلاة. وتكلم من تكلم معه من أصحابه، وهم يرون أن الصلاة قصرت فلم يتكلموا وهم يرون أنهم في صلاة٤٢. ومنهم من قال لم يتكلموا، وإنما أومؤوا " أي نعم " ٤٣، فعبر عنه بالقول وروي في ذلك حديث٤٤.
وأما الكلام سهوا فلا يبطل الصلاة عند مالك والشافعي خلافا لأبي حنيفة، والحجة عليه حديث ذي اليدين فإنه صلى الله عليه وسلم تكلم ساهيا. واختلف فيمن تكلم جاهلا يظن أن الكلام في الصلاة جائز فقيل : تفسد صلاته لأنه متعمد، وقيل : تصح لأنه تأول في أصل حكم الصلاة٤٥. وقال سعيد بن المسيب يجوز رد السلام في الصلاة. وخالفه الجمهور، ورأوه كلاما عمدا يبطل الصلاة لعموم الآية ومخالفته لنص الحديث. وأما رده إشارة للجائز فليست بكلام خلافا لأبي حنيفة في أنه لا يرد إشارة.
والذين ذهبوا إلى أنها ليست بناسخة اختلفوا في معناها، فقال قوم :( قانتين ) مطيعين قاله الشعبي وغيره٤٦. وقال مجاهد : معنى ( قانتين ) خاشعين٤٧. وقال قوم : القنوت الدعاء. واستدل القاضي أبو محمد على أن الصلاة الوسطى صلاة الصبح بقوله تعالى :( وقوموا لله قانتين ) والقنوت لا يكون إلا في صلاة الصبح. فأشار إلى أن المراد بذلك القنوت الذي يكون في صلاة الصبح٤٨ وفيه إثبات القنوت في الفجر خلافا لمن لا يجيزه فيه. وفي القنوت في الوتر اختلاف كثير٤٩.
وقال الربيع : القنوت طول القيام والركوع والانتصاب له٥٠. قلت يؤخذ أيضا من هذه الآية أن القيام ركن من أركان الصلاة، وشرط في صحتها مع القدرة عليه ولا خلاف في ذلك إلا خلافا شاذا حكاه اللخمي. وروى عمران بن حصين قال : كانت بي بواسير، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " صل قائما، فإن لم تستطع فعلى جنب " ٥١ فخص بهذا الخبر من عموم الآية من لم يستطع القيام وبقيت الآية على عمومها في المستطيعين. وثبت أيضا بحديث عائشة في " الموطأ " ٥٢ جواز القعود في التنقل مع القدرة على القيام. فخص بذلك الآية أيضا على قول من زعم أنها تتناول الفرض والنفل. وبقيت عامة في المستطيعين للقيام في الفريضة فعلى هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم : " صلاة القاعد، على النصف من صلاة القائم " ٥٣ إنما ينبغي أن يحمل إما على صلاة الفرض مع عدم الاستطاعة على القيام، أو على صلاة النفل مع الاستطاعة أو عدمها خلافا لما حكاه ابن حبيب عن ابن الماجشون من أن الحديث فيمن يستطيع أن يصلي قائما والقعود أرفق به قال : فأما من أقعده المرض في مكتوبة أو نافلة، فإن صلاته قاعدا مثل صلاته قائما في الثواب وخلافا للقاضي ابن إسحاق في قوله : إن الحديث في النوافل خاصة.
٢ قاله ابن عطية، ونسب هذه القراءة للحلواني وأبي جعفر الرؤاسي كما في المحرر الوجيز (٢/١٤١، ١٤٢)..
٣ في ب "ليل"..
٤ في أ "نهار"..
٥ يراجع من قال بذلك في المحرر الوجيز (٢/١٤٢) وتفسير الطبري (٢/٧٤٨ -٧٥٠)..
٦ رواه أبو داود في الصلاة (٤١١) والنسائي في الكبرى (٣٥٧) ويراجع فتح الباري (٨/١٩٦)..
٧ في أ و ب "صلاة الظهر" والمثبت هو الصواب كما في الموطأ في الصلاة (١/٢٠٠، ٢٠١/ ٣٦٧ و٣٦٨)..
٨ رواه عنهما الطبري في تفسيره (٢/٧٤٦، ٧٤٧) ورواه غيره وذكره ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/١٤٤)..
٩ رواه عنهما الطبري في تفسيره (٢/٧٤٦، ٧٤٧) ورواه غيره وذكره ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/١٤٤)..
١٠ رواه الطبري في تفسيره (٢/٧٤٧) وذكره ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/١٤٤)..
١١ رواه الطبري في تفسيره (٢/٧٤٢) وأحمد في المسند (٥/١٢، ١٤) والترمذي (١٨٢) و (٢٩٨٣)..
١٢ أخرجه عن علي بن أبي طالب البخاري في الجهاد (٢٩٣١) ومسلم في المساجد، (٦٢٧)..
١٣ أخرجه مسلم في المساجد (٦٣٠)..
١٤ رواه الطبري في تفسيره (٢/٧٤٣) وقال ابن كثير في تفسيره (١/٢٩٣): "إسناده لا بأس به".
واعلم أن الصواب في هذا هو القول أنها لثبوت نصوص في ذلك أصح سندا وأصرح عبارة، قال أبو جعفر الطبري في تفسيره (٢/٧٥١، ٧٥٢): "والصواب من القول في ذلك ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ذكرناها قبل في تأويله وهو أنها العصر. والذي حث الله تعالى ذكره عليه من ذلك نظير الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحث عليه" فيراجع بقية كلامه الممتع هناك. ووافقه المحققون المنصفون مثل ابن عطية في تفسيره (٢/١٤٥) وابن كثير (١/٢٩٣ -٢٩٥) وابن العربي وابن حبيب من المالكية كما في تفسير القرطبي (٣/٢١٠) وابن حجر وحقق في ذلك في فتح الباري (٨/١٩٦ -١٩٨)..
١٥ يراجع قوله في المحرر الوجيز (٢/١٤٥) وأحكام القرآن للجصاص (٢/١٥٥) وتفسير القرطبي (٣/٢١٠) وفتح الباري (٨/١٩٦)..
١٦ المحرر الوجيز (٢/١٤٦) وتفسير القرطبي (٣/٢١٠) وفتح الباري (٨/١٩٧)..
١٧ المحرر الوجيز (٢/١٤٦) ورجحه ابن عبد البر والقرطبي كما في تفسيره (٣/٢١٢، ٢١٣) والفتح (٨/١٩٦، ١٩٧)..
١٨ المحرر الوجيز (٢/١٤٦) وتفسير القرطبي (٣/٢١١) وفتح الباري (٨/١٩٧)..
١٩ المحرر الوجيز (٢/١٤٦) وتفسير القرطبي (٣/٢١٢) وفتح الباري (٨/١٩٦)..
٢٠ في المطبوع من المعلم (١/٤٣٢) "ولا يلحق في حضورها مشقة في الغالب"..
٢١ الظاهر من المؤلف رحمه الله أنه تصرف في كلام الإمام المازري حذفا واختصارا فهنا في المعلم جملة أسقطها..
٢٢ في المعلم "للمشقة"..
٢٣ أخرجه عن أبي موسى الأشعري البخاري في مواقيت الصلاة (٥٧٤) ومسلم في المساجد (٦٣٥)..
٢٤ هو ابن السكيت قاله في إصلاح المنطق (ص٣٩٥) وفيه "العشي" وهو موافق لما في "المعلم" ولعله أصوب..
٢٥ انتهى كلام المازري من المعلم بفوائد مسلم (١/٤٣٢ -٤٣٤)..
٢٦ يراجع أقوال العلماء في أحكام القرآن للجصاص (٢/١٥٦) وأحكام القرآن للهراسي (١/٢١٤، ٢١٥) والإشراف لعبد الوهاب (١/٢٨٨/ رقم ٣٣٠) وأحكام القرآن لابن العربي (١/٢٢٦)..
٢٧ قاله ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/١٤٦)..
٢٨ رواه عنه الطبري في تفسيره (٢/٧٥٥) وذكره ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/١٤٧)..
٢٩ رواه بهذا اللفظ الطبري (٢/٧٥٥/ رقم ٥٥٢٥) وبمعناه عند البخاري في العمل في الصلاة (١١٩) ومسلم في المساجد (٥٣٨) ويراجع لتفصيل ذلك العجاب في بيان الأسباب لابن حجر (ص٤١٤ -٤١٨)..
٣٠ تراجع المدونة (١/١٠٤) والاستذكار لابن البر (٤/٣١٧)..
٣١ في أ "ومضى"..
٣٢ في ن "في صلاحها"..
٣٣ ذكره عنه ابن عبد البر التمهيدي (١/٣٥٠) والاستذكار (٤/٣١٢)..
٣٤ في أ "ونحوه"..
٣٥ أخرج هذه القصة عن أبي هريرة البخاري في الأذان (٧٥٧) ومسلم في الصلاة (٣٩٧)..
٣٦ في هامش "المقال"..
٣٧ قول ابن القاسم في المدونة (١/١٣٣) والتمهيد (١/٣٤٣، ٣٤٤) قال ابن عبد البر: "هذا قول ابن القاسم في كتب المدونة، وروايته عن مالك وهو المشهور من مذهب مالك.." ويراجع له أيضا الاستذكار (٤/٣١٧، ٣١٨)..
٣٨ قول ابن كنانة ذكره أبو عمر في التمهيد (١/٣٤٤) والاستذكار (٤/٣١٨)..
٣٩ قاله أصحاب مالك والشافعي وأصحابه كما في التمهيد (١/٣٤٥ -٣٤٨) والاستذكار (٤/٣١٩ -٣٢٥)..
٤٠ في ب "ابن جبير" وفي أ "ابن عمر" والصواب هو المثبت..
٤١ في التمهيد '١/٣٥٢ (٣٦٩) والاستذكار (٤/٣٢٨ -٣٣٦)..
٤٢ في ب "أن نعم"..
٤٣ التمهيد (١/٣٤٩، ٣٥٠) والاستذكار (٤/٣٢٣، ٣٢٤)..
٤٤ في سنن أبي داود في الصلاة (١٠٠٨) ويراجع فتح الباري (٣/١٠٢)..
٤٥ يراجع أحكام القرآن للجصاص (٢/١٥٧ -١٦٢) والتمهيد لابن عبد البر (١/٣٤٩ -٣٥١)..
٤٦ منهم ابن عباس رواه الطبري في تفسيره (٢/٧٥٣ -٧٥٥) وذكره في المحرر الوجيز (٢/١٤٧)..
٤٧ رواه عنه الطبري (٢/٧٥٦، ٧٥٧) وذكره ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/١٤٧)..
٤٨ يراجع المحرر الوجيز لابن عطية (٢/١٤٢، ١٤٣) واستدلال المؤلف غير ظاهر من كلام ابن عطية..
٤٩ يراجع في هذا شرح معاني الآثار للطحاوي (١/٢٤٥ -٢٥٤)..
٥٠ رواه الطبري عنه في تفسيره (٢/٧٥٧) وذكره ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/١٤٨)..
٥١ أخرجه البخاري في تقصير الصلاة (١١١٧)..
٥٢ في الصلاة (١/١٩٩، ٢٠٠/٣٦٤ و٣٦٥)..
٥٣ سبق تخريجه أخرجه عن عبد الله بن عمرو ومسلم (٧٣٥)..
أمر الله تعالى بالقيام له في الصلاة بحالة قنوت، وهو الوقار والسكينة وهذا على الحالة١ الغالبة في الأمن والطمأنينة، ثم ذكر الله تعالى حالة الخوف الطارئة أحيانا، فرخص لعبيده في الصلاة رجالا منصرفين على الأقدام، وركبانا على الخيل ونحوها إيماء بالرؤوس٢ حيثما توجه وإن كانوا في حال مسايفة. هذا قول جمهور أهل العلم٣، .
وقال أبو حنيفة : لا تجوز الصلاة حال المسايفة، ويؤخرون إلى الأمن والآية حجة عليه٤.
وقوله تعالى :( فإن خفتم ) يقتضي أنواع الخوف، خوف عدو يتبعه، أو خوف سبع يطلبه، أو خوف سيل يحمله. وبالجملة، فكل أمر يخاف منه على وجه٥ يبيح ما تضمنت هذه الآية.
وفرق مالك بين خوف العدو، وخوف السبع ونحوه، بأن استحب في غير خوف العدو والإعادة في الوقت إن وقع الأمن٦.
وقال المغيرة من أصحاب مالك فيمن صلى على دابته خوفا من العدو، ويعيد ما دام في الوقت. ويحتمل أن يتأول قوله تعالى :( فإذا أمنتم ) على ذلك أي إذا أمنتم في الوقت فأعيدوا الصلاة، وأكثر فقهاء الأمصار أن لا إعادة٧، وهو الأظهر من الآية٨.
٢٣٩- قوله تعالى :( فإذا أمنتم فاذكروا الله ) الآية |البقرة : ٢٣٩|.
اختلف المتأولون فيها فقالت فرقة : المعنى فإن زال خوفكم فاذكروا الله بالشكر على نعمه٩ في تعليمكم هذه الصلاة التي وقع بها الإجزاء ولم تفتكم صلاة من الصلوات. وهذا هو الذي لم تكونوا تعلمونه١٠. وقالت فرقة : وإذا كنتم آمنين قبل أو بعد فكأنه قال فمتى كنتم في أمن فاذكروا الله أي صلوا الصلاة التي علمتموها وهي التامة١١. وقال مجاهد : معنى قوله :( فإذا أمنتم ) فإذا خرجتم من دار السفر إلى دار الإقامة١٢.
٢ في المحرر الوجيز "بالرأس"..
٣ قاله ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/١٤٨) وينظر أحكام القرآن لابن العربي (١/٢٢٧، ٢٢٨)..
٤ يراجع أحكام القرآن للجصاص (٢/١٦٢ -١٦٤) وأحكام القرآن للهراسي (١/٢١٨، ٢١٩)..
٥ في المحرر الوجيز "على روحه"..
٦ قاله ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/١٤٨، ١٤٩)..
٧ قال ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/١٤٩): "وأكثر فقهاء الأمصار على أن الأمر سواء"..
٨ في المحرر الوجيز "على هذه النعمة"..
٩ في المحرر الوجيز "يعلمونه"..
١٠ قاله ابن عطية وحكى هذه الجملة الأخيرة عن النقاش فيراجع المحرر الوجيز (٢/١٥١)..
١١ ينظر الهامش السابق..
١٢ رواه عنه الطبري في تفسيره (٢/٧٦٤)..
معنى هذه الآية، أن الرجل إذا مات، كان لزوجه أن تقيم في منزله سنة، وينفق عليها من ماله، وذلك وصية لها. واختلف العلماء ممن هذه الوصية فقالت طائفة : كانت وصية من الله تعالى تجب بعد وفاة الزوج١. قال قتادة : كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها فلها النفقة والسكنى حولا في مال زوجها ما لم تخرج برأيها ثم نسخ ما في هذه الآية من النفقة بالربع أو بالثمن الذي في سورة النساء٢، ونسخ سكنى الحول الأربعة الأشهر والعشر٣.
وقالت فرقة : بل هذه الوصية من الأزواج كانوا قد ندبوا أن يوصوا للزوجات بذلك فيتوفون على هذا القول، معناه : يقاربون الوفاة ويحتضرون، لأن الميت لا يوصي. وهذا القول أيضا لقتادة والسدي.
وقال السدي : إلا أن العدة كانت أربعة أشهر وعشرا، وكان الرجال يوصون بسكنى سنة ونفقتها ما لم تخرج، فلو خرجت بعد انقضاء العدة الأربعة الأشهر والعشرة سقطت الوصية، ثم نسخ الله تعالى ذلك بنزول الفرائض، فأخذت ربعها أو ثمنها ولم يكن لها سكنى ولا نفقة، وصارت الوصايا لمن لا يرث٤. وقيل الناسخ لهذه الوصية قوله –عليه السلام- : " لا وصية لوارث " ٥ وهذان القولان لمن زعم أن الآية منسوخة.
وقال الطبري عن مجاهد : إن هذه الآية محكمة لا عدة فيها، والعدة قد ثبتت أربعة أشهر وعشرا، ثم جعل الله تعالى لهن وصية منه سكنى سبعة أشهر وعشرين ليلة، فإن شاءت المرأة سكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت، وهو قوله تعالى :( غير إخراج ) الآية٦ |البقرة : ٢٤٠| وقد تقدم القول على٧ هذه الآية.
٢ هي قوله تعالى: (ولهن الربع مما تركتم أن لم يكن لكم ولد فان كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم) |النساء: ١٢|..
٣ رواه الطبري عن قتادة في تفسيره (٢/٧٦٧، ٧٦٨) وذكره ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/١٥٣) ويراجع العجاب في بيان الأسباب (ص٤١٨، ٤١٩)..
٤ رواه الطبري عن السدي في تفسيره (٢/٧٦٩) وذكره ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/١٥٣)..
٥ مضى تخريجه ص ١٦٤)..
٦ يراجع جامع البيان (٢/٧٧٠، ٧٧١) وذكره ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/١٥٣، ١٥٤)..
٧ في ب "في"..
اختلف في هذه الآية فقال أبو ثور : هي محكمة١، والمتعة لكل مطلقة : دخل بها أو لم يدخل، فرض لها أو لم يفرض بهذه الآية. وقال الزهري لكل مطلقة متعة والأمة يطلقها زوجها.
وقال ابن القاسم : جعل الله المتعة لكل مطلقة بهذه الآية، ثم استثنى في الآية الأخرى التي فرض لها ولم يدخل بها فأخرجها من المتعة٢. وزعم زيد بن أسلم أنها نسختها.
قال بعض المؤلفين في التفسير : ففر ابن القاسم من لفظ النسخ إلى لفظ الاستثناء. والاستثناء لا يتجه في هذا الموضع بل هو نسخ محض كما قال زيد بن أسلم. وإذا التزم ابن القاسم أن قوله :( وللمطلقات ) عم كل مطلقة لزم القول بالنسخ ولا بد. وهذا كلام من لا يفهم معنى العموم والخصوص، ولا وقف على ما للعلماء فيه من الأقاويل. وإنما أراد ابن القاسم أنه فيه تخصيص فسماه استثناء فلا اعتراض فيما قاله.
وقال عطاء ابن أبي رباح وغيره هذه الآية في الثيب اللواتي قد جومعن إذ قد تقدم في غير هذه الآية ذكر المتعة للواتي لم يدخل بهن.
وقال ابن زيد : هذه الآية نزلت مؤكدة لأمر المتعة لأنه قد نزل قبل :( حقا على المحسنين ) فقال رجل : فإن لم أرد أن أحسن لم أمتع. فنزلت ( حقا على المتقين ) فوجب ذلك عليهم٣.
٢ يراجع المدونة لسحنون (٢/٣٣٢)..
٣ حكاه الطبري في تفسيره (٢/٧٧٤) قال ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/١٥٦): "هذا الإيجاب هو من تقويل الطبري لا من لفظ ابن زيد"..
قيل١ : إنهم فروا من الطاعون وقالوا نأتي أرضا لا موت فيها فأماتهم الله، فمر عليهم نبئ فدعا الله تعالى فأحياهم. ويروى أنهم ماتوا ثمانية أيام. وقيل : إنهم أحيوا بعد أن نتنوا، وكانوا من بني إسرائيل فتلك الرائحة توجد فيهم إلى يومنا.
وقيل : إنهم فروا من القتال فأماتهم الله، ثم أحياهم وأمرهم بالجهاد. فقال : وقاتلوا في سبيل الله.
وقد كره قوم الفرار من الطاعون والوباء والأراضي السقيمة٢. واستدلوا بهذه الآية، وقد اشتهر حديث عمر –رضي الله عنه- في خروجه إلى الشام مع أبي عبيدة، ورجوعه من أجل الوباء، واختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك عليه. وما رواه عبد الرحمان بن عوف من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :'إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه " فقيل : إن عمر -رضي الله عنه- رجع عنه بحديث عبد الرحمان٣. وقيل : إنما حدثه به بعد أن كان قد عزم على الرجوع بما أشار به عليه مشيخة الفتح.
وقال بعضهم : نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن القدوم عليه والفرار منه نهي أدب وإرشاد من ناحية قوله –عليه السلام- : " لا يرد الممرض على المصح، وليحل٤ المصح حيث شاء " ٥. لئلا يقع بنفسه إن قدم عليه فأصابه قدر أنه إن لم يقدم عليه لنجا منه. وأما إن قدم عليه موقنا بالقدر فهو مأجور على ذلك. وإن خالف النهي لأنه ليس بنهي تحريم، قال فعلى هذا هو مخير. وقد قيل سئل مالك عن ذلك في " جامع العتبية " ٦ فقال : إن شاء قدم عليه وذكر الحديث.
قال : وكذلك الخروج عنه جائز إلا أنه مكروه لمخالفة الحديث والمقام أفضل ؛ للحديث والاستسلام للقدر.
وقد روى الزهري أن عمرو بن العاص حين أصاب الناس طاعون بالجابية٧ قام بينهم فقال تفرقوا عنه فإنما هو نار. فقام معاذ فقال : لقد كنت فينا وأنت أضل من حمار أهلك سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " هو رحمة لهذه الأمة " اللهم اذكر معاذا فيمن تذكره في هذه الرحمة٨. فمات في طاعون عمواس.
وروي عن عمرو أنه٩ قال : إنه رجس فتفرقوا عنه فقال شرحبيل بن حسنة : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إنه رحمة ربكم ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم فلا تفرقوا عنه " وأراد بقوله : " دعوة نبيكم " قوله صلى الله عليه وسلم : " اللهم اجعل فناء أمتي بالطعن والطاعون " ووجه ما ذهب إليه عمر هو مخافة أن يصيب الإنسان بالمقام قدر فيقول القائل لو خرج لنجا.
فيحصل على هذا في : الأفضل من القدوم على الوباء، أو الخروج عنه، أو ترك ذلك بعد القول بأنه لا إثم ولا حرج في شيء من ذلك، ثلاثة أقوال :
أحدهما : أن الأفضل أن يقدم وألا يخرج وهو مذهب من أشار على عمر –رضي الله عنه- أن يقدم لأنه إذا رأى القدوم عليه فأحرى ألا يرى الخروج عنه.
والثاني : ألا يقدم وأن يخرج عنه وهو مذهب عمر –رضي الله عنه-.
والثالث : الأفضل ألا يقدم عليه، وألا يخرج عنه على حديث عبد الرحمان وهو أرجح الأقوال١٠.
قال أبو الحسن : ولا نعلم خلافا أن الكفار، وقطاع الطريق إذا قصدوا بلدة ضعيفة، لا طاقة لأهلها بهم١١ أن لهم أن يتنحوا من بين أيديهم، وإن كانت الآجال لا تزيد ولا تنقص١٢.
ومن هذا مسألة : العدو يأخذ مركبا فيه المسلمون فيلقون أنفسهم في البحر ؛ فرارا من العدو وطمعا في النجاة. وقد اختلف في ذلك بالجواز والكراهة.
ومن هذا النوع عندي الفرار وقت الزلزلة فانظره.
٢ في ب "السخيمة"..
٣ يراجع حديث ابن عباس في هذا في صحيح البخاري في الطب (٥٧٢٩) وفي الحيل (٦٩٧٣) ومسلم في السلام (٢٢١٩)..
٤ في ب "وليمض"..
٥ أخرجه البخاري في الطب، عن أبي هريرة (٥٧٧١) ومسلم في السلام (٢٢٢١) مقتصرين على الجملة الأولى فقط. وهذه الزيادة رواها مالك بلاغا في الموطأ (٢/٥٣٥/٢٧٢٤) في ثنايا حديث وهو حديث ضعيف يراجع كلام ابن عبد البر في التمهيد (٢٤/١٨٨، ١٨٩) والبيهقي في السنن (٧/٢١٧) وتعليقنا على مسند الموطأ للجوهري (ص٦٢٨/ رقم ٨٤٧)..
٦ ينظر البيان والتحصيل لابن رشد (١٧/ ٣٩٦ – ط دار الغرب)..
٧ موضع الشام وهو جابية الملوك يراجع معجم ما استعجم (٢/٣٥٥)..
٨ أخرجه الإمام أحمد في المسند (٥/٢٤٨) وصححه الحافظ بطرقه وشواهده فيراجع فتح الباري (١٠/٧٨٧، ١٨٨)..
٩ أخرجه الإمام أحمد في مسنده (٤/١٩٥، ١٩٦) والطحاوي في شرح المعاني (٤/٣٠٦) بسند صحيح كما قال الحافظ في الفتح (١٠/١٨٧) وللحديث طرق أخرى عند أحمد تراجع هناك..
١٠ أخرجه أحمد في المسند (٤/٢٣٨) والحاكم في المستدرك (٢/٩٣) من حديث أبي بردة بن قيس أخي موسى الأشعري مرفوعا بنحوه وصححه الحاكم وقواه الحافظ ابن حجر (١٠/١٨٢)..
١١ يراجع في هذا التمهيد لابن عبد البر (٦/٢٠٩ -٢١٧) و (٨/٣٧١، ٣٧٢) وفتح الباري لابن حجر (١٠/١٨٠ -١٩٤)..
١٢ في أحكام القرآن للهراسي "لأهلها بالقاصدين"..
دلت على١ أن الإمامة لا تؤخذ بالوراثة عن بيت النبوءة أو بيت المملكة وإن ذلك إنما يستحق بالعلم والقوة. وذكر الجسم هنا كناية عن فضل القوة لاقتران فضل القوة زيادة الجسم ولم يرد به عظم الجسم بلا قوة٢.
٢ كذا قال أبو الحسن الهراسي في أحكام القرآن (١/٢٢١، ٢٢٢) وهو كلام الجصاص في أحكام القرآن (٢/١٦٧)..
ذكر أبو بكر الرازي من أصحاب أبي حنيفة١ أن ذلك يدل على أن الشرب من النهر إنما هو الكرع فيه ووضع الشفة عليه ؛ لأنه كان حظر الشرب فيه إلا من اغترف بيده. وهذا يدل على أن الاغتراف ليس بشرب وهو تصحيح لقول أبي حنيفة فيمن قال إن شربت من ماء الفرات فعبدي حر أنه محمول على أن يكرع فيه، وأنه إذا٢ اغترف منه أو شرب بإناء فإنه لا يحنث٣. وهذا بعيد لأن الله تعالى إنما أراد من شرب |من|٤ مائه وأكثر فقد عصى، ومن اغترف غرفة بيده فأقنعه ذلك لم يكن عاصيا. فهجموا على النهر بعد عطش شديد، فوقع أكثرهم في النهر وأكثروا الشرب منه. فبان بذلك ضعف نيتهم أنهم يجبنون على لقاء العدو. وأطاع قوم قليل عددهم، فلم يزيدوا على الاغتراف، فبان بذلك صبرهم وامتثالهم للأمر، وهو استثناء متصل، وعلى ما قالوه هو استثناء منقطع، وحمله على الاتصال أولى ما أمكن٥.
وهذا الذي ذكره أبو الحسن رحمه الله في الاستثناء إنما هو إذا رد الاستثناء إلى قوله تعالى :( فمن شرب منه فليس مني ) وأما إن رد إلى قوله :( ومن لم يطعمه فإنه مني ) فلا يكون إلا منفصلا٦.
وقد استدل بعضهم بقوله :( ومن لم يطعمه ) أن الماء طعام لا يصح بيعه إلا بما يصح به بيع الطعام. والرواية المشهورة عن مالك أنه ليس بطعام وأنه يجوز بيعه بالطعام نقدا وإلى أجل وبيعه قبل قبضه وبيع بعضه ببعض متفاضلا يدا بيد، ونسيئة٧ وهو قول الشافعي. والأول قول أبي حنيفة ولا حجة في الآية لأن الطعام فيها بمعنى الذوق وإثبات الطعم له أو نفيه عنه لا يثبت له أنه طعام٨.
٢ في أ "أن" والمثبت موافق لما عند الهراسي..
٣ زيادة من ن..
٤ أحكام القرآن للجصاص (٢/١٦٧)..
٥ قاله الهراسي في أحكام القرآن (١/٢٢٢، ٢٢٣)..
٦ يراجع أيضا أحكام القرآن لابن العربي (١/١٣٢)..
٧ في ن "والى أجل"..
٨ ينظر أقوال الفقهاء في المدونة (٤/٨٦) وتفسير القرطبي (٣/٢٥٢)..
الدين هنا المعتقد والنية١ بدليل قوله :( قد تبين الرشد من الغي ) ٢ |البقرة : ٢٥٦|. والغي أكثر استعمالهما في الدين. وقد اختلف الناس في هذه الآية هل هي منسوخة أو محكمة فالذين ذهبوا إلى أنها منسوخة اختلفوا فقال بعضهم : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين لا يكره أحدا في الدين فأبى المشركون إلا أن يقاتلوهم فاستأذن الله تعالى في قتالهم فأذن له فالآية على هذا القول مكية منسوخة بآية السيف٣.
وقال السدي : نزلت في رجل من الأنصار يقال له أبو حصين كان له ابنان فقدم تجار من الشام إلى المدينة يحملون الزيت. فلما أرادوا الرجوع أتاهم ابنا أبي حصين فدعوهما إلى النصرانية فتنصروا وذهبا معهم إلى الشام، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم مشتكيا أمرهما، ورغب في أن يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من يردهما فنزلت الآية ( لا إكراه في الدين ) ولم يؤمر يومئذ بقتال أهل مكة. وقال : " أبعدهما الله هما أول من كفر ) فوجد أبو الحصين في نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين لم يبعث في طلبهما فأنزل الله عز وجل :( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ) |النساء : ٦٥| ثم إنه نسخ الإكراه في الدين فأمر بقتال أهل الكتاب في سورة براءة٤. فالآية على هذا مدنية منسوخة. والذين ذهبوا إلى أنها محكمة اختلفوا في تأويلها. فقال قتادة وغيره٥ : هذه الآية خاصة في أهل الكتاب الذين يبذلون الجزية عن يد وهم صاغرون. قالوا وأما العرب أهل الأوثان فلا يقبل منهم إلا لا إله إلا الله محمد رسول الله، أو السيف، فليسوا بداخلين تحت الآية وإنما المراد بها من يجوز أخذ الجزية منهم وهم أهل الكتاب فعلى هذا القول يكره مشركو العرب على الإسلام، دعوا إلى إعطاء الجزية أو لا فإن أبوا فالسيف. وهذا القول يأتي على مذهب الشافعي، وأبي حنيفة، وابن حبيب في مشركي العرب٦.
وأما على مذهب مالك الذي يرى قبول الجزية منهم فإنهم داخلون في الآية ولا يكرهون إذا أدوها٧. وأما قريش والمرتدون فباتفاق أنهم ليسوا بداخلين في هذه الآية على هذا التأويل لأنه لا يجوز أن تؤخذ٨ الجزية منهم باتفاق ؛ فيسلمون أو يقتلون باتفاق.
وأما أهل الكتاب فباتفاق أنهم داخلون في الآية على هذا |القول|٩، بل التأويل لأنه لا خلاف في وجوب قبول الجزية منهم، إلا أني رأيت بعض أشياخ |أهل|١٠ زماننا يقول : الإمام مخير في أخذ الجزية من اليهود والنصارى إذا بذلوها ورضوا بالذمة فالإمام مخير على قوله ألا يقبلها. ولا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف وحكاه عن بعض أشياخه. ومما احتج به هذا القائل حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن عيسى ابن مريم –عليه السلام- أنه ينزل فيكسر الصليب ويضع الجزية١١ قال : وهو لا يأتي إلا بشريعة محمد –عليه السلام-، فلولا أنه في شريعة محمد –عليه السلام- أن الإمام مخير لما جاز له أن لا يقبلها ولو كان قبولها منهم واجبا إذا بذلوها لما جاز له أن يضعها، ولا يأخذها منهم.
وهذا قول غريب لا يتجه إلا على القول الأول إن الآية منسوخة. وأما الاحتجاج بالحديث فيضعف لاحتمال أن قوله " يضع الجزية " أن يريد وضعها عليهم حتى لا يبقى منهم أحد إلا تحت الجزية. ويحتمل أن يريد ويسقطها ولا يرضى منهم إلا بالإسلام.
وحكى ابن حزم الإجماع على أنه تحرم دماؤهم إذا بذلوا الجزية١٢، وهو ظاهر قوله تعالى :( حتى يعطوا الجزية عن يد وهو صاغرون ) |التوبة : ٢٩| وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث إلى قتالهم، أمر أن يدعوا إلى الإسلام فإن أجابوا، وإلا دعوا إلى الجزية، فإن أجابوا، وإلا فالسيف١٣. والمجوس مثلهم لأنه صلى الله عليه وسلم قال : " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " ١٤ وهم أهل كتاب على قول، فلا يكرهون على الإسلام إذا أدوا الجزية باتفاق على القول١٥.
وقوله تعالى :( لا إكراه في الدين ) |البقرة : ٢٥٦| لفظه لفظ الخبر ومعناه النهي١٦، فإن أكره أحد ممن ذكرنا إنه لا يكره على الإسلام فهل ينعقد إسلامه ولا يكون عنه رجوع أم لا ؟. ففيه في المذهب قولان. والشافعي يقول لا يصح إسلامه، وأبو حنيفة١٧ يقول يصح ويحكم به.
والخلاف في المسألة مبني على أن النهي هل يدل على فساد المنهي عنه أم لا ؟ فإذا قلنا إنه يدل على الفساد فليس إسلامهم بإسلام، وإذا لم يكن كذلك١٨ فكأنهم لم يسلموا، فلهم الرجوع إلى ما كانوا عليه. وإن قلنا إنه يدل على الصحة كما قال بعضهم، فالإسلام منعقد تام، فإن رجع عنه قتل، وإن قلنا إنه لا يدل لا على فساد، ولا على صحة كما يذهب إليه المحققون من الأصوليين، فليس في الآية على شيء من ذلك دليل١٩.
وقد وقعت هذه المسألة في زمن الفتنة عندنا بالأندلس٢٠، وقد كتب إلى أبي –رضي الله عنه- بعض ولاة الكور فأجابه بأنهم لا يمكنون من الرجوع عن الإسلام.
وقال ابن عباس وغيره : إنما نزلت الآية في قوم من الأوس والخزرج كانت المرأة منهم إذا كانت مقلاتا لا يعيش لها ولد٢١ تجعل على نفسها إن جاءت بولد أن تهوده، فكان من بني النضير جماعة على هذا النحو، فلما أجلى رسول الله عليه وسلم بني النضير قالت الأنصار : كيف نصنع بأبنائنا إذ قد فعلنا ونحن نرى أن دينهم أفضل مما نحن عليه. وأما إذا جاء |الله|٢٢ بالإسلام فنكرههم عليه فنزلت :( لا إكراه في الدين ) الآية.
وبهذا قال الشعبي ومجاهد : إلا أنه قال كان سبب كونهم في بني النضير الاسترضاع٢٣.
٢ قاله ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/١٩٥)..
٣ يراجع في هذا جامع البيان للطبري (٣/٢٤) والمحرر الوجيز لابن عطية (٢/١٩٧)..
٤ رواه الطبري في تفسيره (٣/٢٢/ رقم ٥٨٢٠) وإسماعيل القاضي في أحكام القرآن وأبو داود في الناسخ والمنسوخ كما في العجاب في بيان الأسباب لابن حجر (ص٤٣٠) من طريق أسباط، عن السدي. وذكره ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/١٩٧)..
٥ يراجع قول قتادة في تفسير الطبري (٣/٢٣، ٢٤) وأحكام القرآن للجصاص (٢/١٦٧، ١٦٨) وللهراسي (١/٢٢٣)..
٦ ونسب ابن عبد البر هذه القول زيادة على ذلك إلى أبي ثور، وأحمد بن حنبل، وأبي عبيد كما في التمهيد (٢/١١٨) والمحرر الوجيز (٢/١٩٦)..
٧ يراجع قول مالك في التمهيد (٢/١١٧، ١١٨) والمحرر الوجيز (٢/١٩٦)..
٨ في ب "أخذ"..
٩ كلاهما زيادة من ب..
١٠ كلاهما زيادة من ب..
١١ أخرجه البخاري في البيوع (٢٢٢٢). ومسلم في الإيمان (١٥٥)..
١٢ يراجع المحلى (١١/٣٠٤) ومراتب الإجماع (ص ١٢٠، ١٢٢)..
١٣ أخرجه مالك في الموطأ بهذا اللفظ في الزكاة (١/٣٧٥/٧٥٦) وسنده منقطع بينه ابن عبد البر في التمهيد (٢/١١٤) وابن حجر في الفتح (٦/٢٦١) ولكن معناه ثابت عند البخاري (٣١٥٧)..
١٤ يراجع في هذا البخاري في التوحيد (٧٣٧٢) ومسلم في الإيمان (١٩)..
١٥ يراجع في هذا التمهيد لابن عبد البر (٢/١١٨، ١١٩) وفتح الآري (٦/٢٥٩ -٢٦٦)..
١٦ كما في أحكام القرآن للجصاص (٢/١٦٨)..
١٧ يراجع قولهما في أحكام القرآن للجصاص (٢/١٦٨، ١٦٩) وأحكام القرآن للهراسي (١/٢٢٣ -٢٢٥)..
١٨ في ب "إذا كان كذلك..""..
١٩ تراجع هذه المسألة في أحكام الفصول للباجي (ص ٢٢٨ – ٢٣٠) والمستصفى للغزالي (٣/١٩٩ -٢٠٣) وإرشاد الفحول للشوكاني (ص ١١٠ -١١٢)..
٢٠ هي من جملة الثورات العارمة التي عصفت بالأندلس في النصف الأول من القرن السادس للهجرة أبان ضعف حكم المرابطين (سنة ٥٣٩ ه) يراجع ترجمة والد المؤلف في التكملة لكتاب الصلة لابن الأبار (٢/٣٧ -٣٩/ رقم ١٠٢) وبغية الملتمس للضبي (ص ١٠٢/ رقم ١٩٦)..
٢١ أو التي ليس لها إلا لها ولد واحد يراجع اللسان مادة "قلت" (٥/٣٧١٥، ٣٧١٦)..
٢٢ زيادة من المحرر الوجيز وسقطت من أ و ب ثم وجدتها في ن..
٢٣ قاله ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/١٩٦، ١٩٧) ورواه عنهما الطبري في تفسيره (٣/٢٠١) وأخرجه غيره فيراجع العجاب في بيان الأسباب لابن حجر (ص ٤٢٨، ٤٢٩)..
استدل بعضهم بهذا على أن من قال في شيء كان : لم يكن، وهو يعتقد صحة ذلك، أنه لا يكون كذبا ؛ لأنه أخبر عما عنده. فكأنه قال عندي أني لبثت يوما أو بعض يوم وقد كان لبث مئة عام. ومثله قول أصحاب الكهف ( لبثنا يوما أو بعض يوم ) |الكهف : ١٩| وكانوا لبثوا ثلاثمئة وتسع سنين ولم يكونوا كاذبين لأنهم أخبروا عما عندهم.
ومثله قوله –عليه السلام- في قصة ذي اليدن " كل ذلك لم يكن " ١.
وفي الناس من يقول إنه كذب على حد حقيقة الكذب، لكنه لا مؤاخذة فيه، فعلى هذا يجوز أن يقال الأنبياء-عليهم الصلاة والسلام- لا يعصمون عن الإخبار عن الشيء خلاف ما هو عليه إذا لم يكن عن قصد، كما لا يعصمون عن السهو والنسيان٢. وهذا على قول الأشعرية، والأول على قول المعتزلة فإن هذا عندهم ليس بكذب لأنهم يشترطون في حد الكذب أنه الإخبار عن الشيء على ما ليس هو به عن عمد وقصد إليه، ودليل قوله –عليه السلام- : " من تعمد علي كذبا فليتبوأ مقعده من النار " ٣ يرد عليهم لأنه يدل على أن ما لم يتعمد لا يقع عليه اسم الكذب.
٢ قاله أبو الحسن الهراسي في أحكام القرآن (١/٢٢٥، ٢٢٦) وأصله من كلام الجصاص في أحكام القرآن للجصاص (٢/١٧٢)..
٣ أخرجه البخاري عن أني بن مالك في العلم (١٠٨) ومسلم في المقدمة (٢)..
اختلف المتأولون هل المراد بهذا الإنفاق الزكاة المفروضة |أو التطوع فقال علي بن أبي طالب وغيره : هي الزكاة المفروضة|١ نهى الناس عن إنفاق الرديء فيها بدلا عنه٢ عن الجيد. وأما التطوع فكما أن للمرء ألا يتطوع بقليل، فكذلك له أن يتطوع بنزر في القدر، ودرهم زائف خير من تمرة، فالأمر على هذا القول فإنه الزكاة المفروضة على الوجوب. وأما البراء بن عازب |وقتادة|٣ والحسن بن أبي الحسن، فظاهر أقوالهم أن الآية في التطوع. وروى البراء وعطاء أن الأنصار كانوا أيام الجذاذ يعلقون أفناء التمر في حبل بين إسطوانتين في المسجد، فيأكل من ذلك فقراء المهاجرين، فعلق رجل حشفا، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بيده : " بئس ما علق هذه " ٤ فنزلت الآية. فالأمر على هذا على الندب٥.
|و قال أبو الحسن : الأمر على الفرض والنفل من طريق الندب والوجوب، وإن كان الأمر أظهر من جهة الوجوب إلا أن يقال أن الآية على الندب|٦ فمن هذا الوجه يظهر أن يقال هو أولى بالوجوب٧، ومن جهة أخرى وهو أنه في النفل يجوز أداء القليل والكثير الجيد والرديء٨.
وقوله تعالى :( ولستم بآخذيه ) الآية |البقرة : ٢٦٧|.
يؤكد الاختصاص بالواجب، فإن مثل هذا إنما يذكر في الديون إذا تسامح طالبها فيها فقبل الرديء٩، والزكاة دين الله على عباده، فلا يقبل منه الرديء إلا مسامحة وعلى إغماض، فالأمر على هذا القول على الندب١٠. وإن كان في الزكاة المفروضة، وكذلك ندبوا أن لا يتطوعوا إلا بجيد مختار.
وكل من ذكرنا قوله في الآية، قالوا١١ يعني من طيبات ما كسبتم يعني من جيد ما كسبتم ومختاره، وجعلوا الخبيث بمعنى الرديء والرذالة. وخالف في ذلك ابن زيد وقال معناه من حلال ما كسبتم١٢، وجعل الخبيث الحرام١٣. فعلى التأويل الأول في الآية يجب على الإنسان إذا كان له من التمر أو الحب ما تجب فيه الزكاة أن لا يتعمد إخراج الرديء منه في الزكاة فإن كان ماله المزكى كله جيدا فقيل : إنه يخرج منه وقيل : إن له أن يأتي بوسط من ذلك ولا يخرج منه. والروايتان عن مالك١٤. ووجه القول الأول قوله تعالى :( ومن طيبات ما كسبتم ) |البقرة : ٢٦٧| وإن كان كلهم رديئا، فقد اختلف فيه. فذهب الجمهور إلى أنه يخرج منه وليس عليه غير ذلك. وفال عبد الملك : إن كان رديئا كله لم يؤخذ منه وكلف صاحبه أن يخرج من غيره. والروايتان عن مالك أيضا. وحجة القول الأول قوله تعالى :( من طيبات ما كسبتم ) فقيد بالطيب من الكسب فإذا لم يكن في الكسب طيب، فليس عليه سواه.
وإنما أمر الله تعالى بذلك من وجد كسبا طيبا فأخرج رديئا كما كانوا يفعلون في ذلك الوقت. وقد تتأول هذه الآية على مذهب عبد الملك١٥ فقال : المراد بها أنفقوا من الطيبات من أي نوع تكسبونه كان الطيب من ذلك النوع المكسوب أو لم يكن. والتأويل الأول أظهر. وإن كان هذا سائغا وإذا كان الجيد والرديء متساويين في القدر أو أحدهما أكثر من الآخر، فروى ابن القاسم عن مالك أنه يخرج من الوسط١٦. وروى أشهب عنه أنه قال يخرج من كل شيء بقدره١٧.
وقوله تعالى :( ما كسبتم ) |البقرة : ٢٦٧|.
معناه كما كانت لكم فيه سعاية، إما بتعب بدن أو مناولة بتجارة والموروث داخل في هذا لأن غير الوارث قد كسبه لأن الضمير في ( كسبتم ) إنما هو لنوع الإنسان والمؤمنين١٨.
وقوله تعالى :( ومما أخرجنا لكم من الأرض ) |البقرة : ٢٦٧|.
يعني النباتات والمعادن والركاز وما ضارع ذلك١٩. وقد اختلف الناس فيما تجب فيه الزكاة من الثمار والحبوب بعد اتفاقهم على وجوبها في أربعة أشياء : الحنطة والشعير، والتمر، والزيت. فقالت فرقة : لا صدقة إلا في هذه الأربعة، وهو قول الحسن وابن سيرين.
وقالت فرقة : لا صدقة إلا فيها وفي السلت٢٠، وهو قول ابن عمر.
وقالت فرقة : لا صدقة إلا في ستة أشياء الخمسة المتقدمة مع الذرة وهو قول النخعي. وذهبت فرقة إلى إيجاب الصدقة في الثمار والنخل، والكرم والحبوب كلها. وهذا قول الجمهور ومالك ومن تابعه. ثم عن مالك على ما تأول بعضهم ثلاثة أقوال :
أحدها :|أن|٢١ الزكاة تجب في الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب، والسلت والأرز، والدخن، والذرة، والقطاني٢٢.
والثاني : أنها تجب في كل ما كان من الحبوب يؤكل، ويدخر، ويختبز. فعلى هذا لا تجب زكاة القطنية لأنها لا تختبز إلا في الشدائد، وليس ذلك الشأن فيها.
والثالث : أنها تجب في كل حب يأكله الناس ويدخر وعلى هذا لا يقتصر على ما جاء عنه في القول الأول، الذي ذكرنا بل تجب على كل بلد في كل حب يأكله الناس مقتاتا أصلا للعيش.
فمن ذلك التين قال ابن القصار : يرجح فيه قول مالك وإنما تكلم على بلده٢٣، ولم يكن التين عندهم إلا مجلوبا فأما بالشام وغيره ففيه الزكاة. قال بعضهم وكذلك بالأندلس وعموم الآية حجة لمن يرى الزكاة في جميع ذلك.
واختلف في سائر ما أخرجته الأرض من غير الحبوب والثمار هل فيها صدقة ؟ فقيل : إن فيها الصدقة حتى أن في عشرة دساتج٢٤ بقل دستجة بقل. وهو قول النخعي على اختلاف عنه في ذلك.
وقال أبو حنيفة في كل ما أخرجت الأرض الزكاة إلا الحطب والعشب والقصب والتين، وقصب الذرة والسكر٢٥.
وقال ابن حبيب من أصحاب مالك : فيما أخرجت الأرض من الخضروات٢٦ والفواكه الزكاة.
وذهب الجمهور ومالك ومن تابعه إلى أنه لا يجب في شيء من ذلك زكاة٢٧. وحجتهم ما تواتر من عمل أهل المدينة في ذلك.
ومن حجة النخعي، ومن رأى الزكاة في شيء من ذلك عموم قوله تعالى :( ومما أخرجنا لكم من الأرض ) |البقرة : ٢٦٧|.
والجمهور على نفي الزكاة فيه لأن العموم عندهم مخصص بقول النبي صلى الله عليه وسلم : " ليس في الخضروات صدقة " ٢٨ وتخصيص العموم بخبر الواحد مختلف فيه.
قال أبو الحسن : وقد احتج قوم لأبي حنيفة في قوله تعالى :( ومما أخرجنا لكم من الأرض ) على أن ذلك عموم في قليل ما تخرجه وكثيره وفي سائر ما تخرجه الأرض.
وهذا بعيد فإن المراد بيان الجهات التي يتعلق حق الله تعالى بها، وليس ذكر النصاب فيها مقصودا ولا بيان ما لا زكاة فيه٢٩.
وفي الخل والعسل خلاف هل فيهما زكاة أم لا ؟.
فمن رأى الزكاة فيهما وهو أبو حنيفة اتبع عموم ظاهر٣٠ الآية ولم يخصص، فمن رأى عدم الزكاة فيهما رآهما مخصصين٣١ من العموم٣٢.
وأحسب أني رأيت في البغال والحمير والعبيد خلافا.
ومن اكترى أرضا فزرعها فعلى المكتري زكاة ما تخرجه الأرض إذا بلغ خمسة أوسق خلافا لأبي حنيفة في قوله تعالى إن العشر على رب الأرض. ودليلنا قوله تعالى :( من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ) |البقرة : ٢٦٧| فكان على الزارع٣٣.
وقوله تعالى :( ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه ) |البقرة : ٢٦٧|.
اختلف في تأويله، فقال ابن عباس والبراء وغيرهما : معناه بآخذيه في ديونكم٣٤ وحقوقكم عند الناس إلا بأن تتساهلوا في ذلك وتتركون من حقوقكم وأنتم مكرهون، فلا تفعلوا مع الله ما لا ترضونه لأنفسكم.
وقال الحسن : معنى ذلك ولستم بآخذيه لو وجدتموه في السوق يباع إلا أن يهضم لكم من ثمنه. وقال البراء أيضا : المعنى لستم بآخذيه ولو أهدي لكم إلا أن تستحيوا من المهدي.
وقال ابن زيد : المعنى ( ولستم بآخذيه ) أي الحرام إلا أن تغمضوا في مكروهه٣٥.
٢ في ب "من"..
٣ زيادة من ن..
٤ أخرجه من حديث البراء بن عازب وليس فيه اللفظ المرفوع الترمذي في التفسير (٢٩٨٧) وابن ماجه في الزكاة (١٨٢٢) والطبري (٣/١٠٧) والواحدي في أسباب النزول (ص ٥٦) وصحح إسناد ابن ماجه البوصيري. ويراجع العجاب في بيان الأسباب (ص ٤٤٤ -٤٤٩)..
٥ قاله ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/٢٤٣، ٢٤٤) ويراجع أحكام القرآن للجصاص (٢/١٧٤، ١٧٥)..
٦ سقطت من أ وفي بعض الألفاظ بياض في ب وفي أحكام الهراسي: "إلا أن تقوم دلالة الندب"..
٧ في أحكام الهراسي "الواجب"..
٨ أحكام القرآن للهراسي (١/٢٢٦)..
٩ المصدر السابق (١/٢٢٦)..
١٠ يراجع أحكام القرآن للجصاص (٢/١٧٤، ١٧٥)..
١١ في ب "قال"..
١٢ ذكره ابن عطية في المحرر الوجيز (٢٢٤٤) ويراجع تفسير الطبري (٣/١٠٥، ١٠٦) قال ابن عطية: "وقول ابن زيد ليس بقوي من جهة نسق الآية، لا من معناه في نفسه"..
١٣ يراجع المدونة لسحنون (١/٣٤٠)..
١٤ في أ "مالك"..
١٥ ينظر المدونة (١/٣٤٠)..
١٦ يراجع المحرر الوجيز (٢/٢٤٤، ٢٤٥)..
١٧ قاله ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/٢٤٥)..
١٨ قاله ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/٢٤٥)..
١٩ قاله ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/٢٤٥)..
٢٠ سقطت من أ..
٢١ في ن "إلا في الأربعة الأشياء المتقدمة وفي السلت"..
٢٢ يراجع الموطأ، الزكاة (١/٣٦٩/٧٤١ و٧٤٢)..
٢٣ قاله ابن عبد البر في الاستذكار (٩/٢٧٢): "واختلفوا في التين، فالأشهر عند أهل المغرب ممن يذهب مذهب مالك، أنه لا زكاة عندهم في التين إلا عبد الله بن حبيب فانه كان يرى الزكاة على مذهب مالك قياسا على التمر والزبيب. والى هذا ذهب جماعة من البغداديين المالكيين: إسماعيل بن إسحاق ومن اتبعه. وقد بلغني عن الأبهري وجماعة من أصحابه أنهم كانوا يفتون به ويرونه مذهب مالك على أصوله عندهم.."..
٢٤ الدستجة هي الحزمة من الشيء..
٢٥ يراجع شرح معاني الآثار للطحاوي (٢/٣٧، ٣٨) والاستذكار لابن عبد البر (٩/٢٧٤، ٢٧٥)..
٢٦ في ب "الخضر"..
٢٧ الموطأ، الزكاة (١/٣٧٢/٧٤٩) والاستذكار (٩/٢٧٠ -٢٧٣)..
٢٨ أخرجه من حديث موسى بن طلحة ابن عدي وابن عدي في الكامل (٢/٦١٠) والدارقطني في السنن (٢/٩٦) والبيهقي في السنن (٤/١٢٩) وسنده ضعيف.
وله طرق وشواهد من حديث معاذ بن جبل قواه بها البيهقي وغيره ويراجع نصب الراية للزيلعي (٢/٣٨٩ -٣٨٦) والتلخيص الحبير لابن حجر (٢/١٦٦) وإرواء الغليل للألباني (٣/ رقم ٨٠١)..
٢٩ كذا قال المؤلف نقلا عن أبي الحسن الهراسي في أحكام القرآن (١/٢٢٧) وفيه تصرف..
٣٠ في أ "عموم الظواهر"..
٣١ في ب "مخصوصين"..
٣٢ يراجع الموطأ الزكاة (١/٣٧٢ -٣٧٤) والإشراف لعبد الوهاب (١/٣٩٧) والاستذكار لابن عبد البر (٩/٢٨٤ -٢٨٧) وأحكام القرآن لابن العربي (١/٢٣٥، ٢٣٦)..
٣٣ يراجع الإشراف لعبد الوهاب (١/٣٩٧/ رقم ٥٤٩)..
٣٤ في ب "أموالكم"..
٣٥ بنحوه ذكره ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/٢٤٧) وروى أغلب هذه الأقوال الطبري في تفسيره (٣/١٠٩ -١١٣)..
تضمنت هذه الآية أن إخفاء الصدقات مطلقا أفضل. واختلف هل المراد بها الفرض أم التطوع ؟ أم هما جميعا ؟ فذهب الجمهور إلى أن المراد بها التطوع وقال ابن عباس : صدقة التطوع في السر أفضل من صدقة العلانية بسبعين ضعفا. وصدقة الفريضة في العلانية أفضل من السر بخمسة وعشرين ضعفا١. وعلى هذا القياس تجري جميع الفرائض والنوافل. وذهب قوم إلى أن المراد بالآية فرض الزكاة وما تطوع به قالوا فكان الإخفاء أفضل في مدة النبي –عليه السلام-. ثم ساءت ظنون الناس بعد ذلك، فاستحسن العلماء إظهار الفرض لئلا يظن بأحد المنع٢. وقيل : إنها صدقة الفرض. وكان يزيد ابن |أبي|٣ حبيب يأمر بقسم الصدقات في السر ويقول : إنما نزلت في الصدقة على اليهود والنصارى٤. وهذان القولان الأخيران ضعيفان لما حكاه الطبري من الإجماع على أن الإظهار في الواجب أفضل٥.
وقد كره ربيعة إظهار جميع أعمال البر، واحتج بالآية المتقدمة، وأجاز مالك ذلك دون كراهة إذا كان أوله لله وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لأنه لا يستطاع التخلص منه.
وقد قال تعالى :( إن تبدوا الصدقات فنعما هي ) فأثنى على إظهارها، وإن كان كتمانها خيرا أو إذا أثنى الله على شيء لم يكره، ومن هذا صلاة النافلة في رمضان، فقال مالك رحمه الله : قيام الرجل بها في بيته فرادى أفضل٦، خلافا للشافعي في قوله إن القيام بها في المساجد أفضل٧.
وفي الآية حجة لمالك رحمه الله لأن الله تعالى إنما نبه بالصدقات على جميع أعمال البر فإذا كان عمل البر السر في الصدقة أفضل فهو في صلاة النافلة أفضل أيضا. وتضمنت الآية أن الصدقة حق للفقير أيضا.
٢ حكاه ابن عطية عن المهدوي قال: "وهذا القول مخالف للآثار، ويشبه في زمننا أن يحسن التستر بصدقة الفرض، فقد كثر المانع لها وصار إخراجها عرضة للرياء"، المحرر الوجيز (٢/٢٥٤)..
٣ زيادة من المحرر الوجيز (٢/٢٥٤)..
٤ رواه الطبري عنه في تفسيره (٣/١٢١) وذكره ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/٢٥٤)..
٥ يراجع تفسير الطبري (٣/١٢١)..
٦ الاستذكار لابن عبد البر (٥/١٥٨)..
٧ يراجع أحكام القرآن للهراسي (١/٢٢٧)..
اختلف في سبب الآية، فقال ابن جبير : سببها أن المسلمين كانوا يتصدقون على فقراء أهل الذمة، فلما كثر فقراء المسلمين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تتصدقوا إلا على فقراء أهل دينكم " ١ فنزلت الآية فنسخت الصدقة على من ليس من دين الإسلام. وقيل أتي النبي صلى الله عليه وسلم بصدقات فجاءه يهودي فقال : أعطني. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ليس لك من صدقات المسلمين شيء " فذهب اليهودي غير بعيد فنزلت الآية فنسخت ذلك المنع٢. وروى ابن عباس : أنه كان لأناس من الأنصار قرابات في بني النضير وقريظة، وكانوا لا يتصدقون عليهم رغبة منهم في أن يسلموا إذا احتاجوا فنزلت الآية٣. وقال بعضهم : إن أسماء بنت أبي بكر الصديق –رضي الله عنها- أرادت أن تصل جدها أبا قحافة، ثم امتنعت من ذلك لكونه كافرا فنزلت الآية٤.
|وذكر الطبري أن مقصد النبي صلى الله عليه وسلم بمنع الصدقة إنما كان ليسلموا|٥ وظاهر سياق٦ الآية دليل على أن المراد بالآية الصدقة عليهم وإن لم يكونوا على دين الإسلام. ودليل ذلك قوله تعالى :( ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا ٨ ) |الإنسان : ٨| والأسير في دار الإسلام لا يكون إلا مشركا. ومثله قوله تعالى :( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم ) الآية |الممتحنة : ٨| فظواهر الآيات يقتضي جواز صرف الصدقات إليهم جملة إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم خص منها الزكاة المفروضة بقوله –عليه السلام- لمعاذ : " خذ الصدقة من أغنيائهم وردها إلى فقرائهم " ٧. فاتفق جمهور العلماء على أن الزكاة المفروضة لا تصرف إليهم ورأى أبو حنيفة ما عدا زكاة المال يجوز صرفها إليهم مثل صدقة الفطر نظرا إلى عموم الآيات٨ في البر وإطعام الطعام٩. ورأى غيره أن صدقة الفطر مخصوصة أيضا من ذلك العموم بقوله صلى الله عليه وسلم : " اغنوهم عن الطلب في مثل هذا اليوم " ١٠ وظاهر ذلك أنه لتشاغلهم بالعيد وصلاته، وذلك لا يتحقق في المشركين١١.
على أن قوله تعالى لنبيه –عليه السلام- :( ليس عليك هداهم ) |البقرة : ٢٧٢| غير ظاهر في الصدقات وصرفها إلى الكفار بل يحتمل أن يكون معناه ليس عليك هداهم ابتداء. ومن أهل العلم من حمل العمومات المذكورة على ظاهرها ولم ير فيها تخصيصا، فأجاز إعطاء الذمي من جميع الصدقات فرضها وتطوعها.
وتحصل من هذا أنه لا خلاف في جواز إعطاء الذمي من صدقة التطوع واختلف في غير التطوع.
وفي قوله تعالى :( إن تبدوا الصدقات فنعما هي ) الآية |البقرة : ٢٧١|. دليل على أن لرب المال تفريق الصدقة بنفسه وهو أحد قولي الشافعي، وهذا الاستدلال إنما يصح بأن الآية يراد بها الفرض١٢.
٢ نقله ابن عطية عن النقاش في المحرر الوجيز (٢/٢٥٩) ولا أراه يصح..
٣ أخرجه النسائي في التفسير من السنن الكبرى (١١٠٥٢) والطبري في تفسيره (٣/١٢٣) والفريابي وعبد بن حميد والثوري في تفاسيرهم كما في العجاب في بيان الأسباب لابن حجر (ص ٤٥١، ٤٥٢) وذكره الجصاص في أحكام (٢/١٧٩) وابن عطية في المحرر الوجيز (٢/٢٥٩، ٢٦٠)..
٤ ذكره مقاتل بن سليمان في تفسيره كما في العجاب لابن حجر (ص٤٥٥) وهو لا يصح سندا ومتنا كما بينه الحافظ..
٥ سقطت من أ..
٦ في ب "مساق" وكذا في ن..
٧ أخرجه من حديث ابن عباس البخاري في التوحيد (٧٣٧٢) ومسلم في الإيمان (١٩)..
٨ في ب "لعموم الآية"..
٩ ذكره الهراسي في أحكام القرآن (١/٢٢٩). قال العربي في أحكام القرآن (١/٢٣٨): "وقال أبو حنيفة: تصرف إليهم صدقة الفطر، لحديث يروى عن ابن مسعود انه كان يعطي الرهبان من صدقة الفطر، وهذا حديث ضعيف لا أصل له". ورأي أبي حنيفة ذكره الجصاص في أحكامه (٢/١٨٠)..
١٠ أخرجه الدارقطني (٢/١٥٣) والحاكم في معرفة علوم الحديث (ص١٣١) والبيهقي في السنن (٤/١٧٥) من طريق أبي معشر السندي، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعا.
وأبو معشر هو نجيح ضعيف. والحديث ضعفه غير واحد فيراجع نصب الراية للزيلعي (٢/٤٣١، ٤٣٢) وإرواء الغليل للألباني (٣/ رقم ٨٤٤)..
١١ قاله بنحوه الكيا الهراسي في أحكام القرآن (١/٢٢٨، ٢٢٩)..
١٢ يراجع المحرر الوجيز لابن عطية (٢/٢٦٠) وتفسير القرطبي (٣/٣٣٧، ٣٣٨)..
قال كثير من المفسرين إن اللام تتعلق بقوله :( وما تنفقوا من خير ) |البقرة : ٢٧٢| وعلى هذا يحتمل أن تكون اللام بمعنى على، فيكون التقدير على الفقراء، ويحتمل أن يكون ( للفقراء ) في موضع الحال من الضمير في ( تنفقوا ) كأنه قال وما تنفقوا باذلين ومتطوعين، ويجوز أن يكون في موضع الصفة لخير كأنه قال من خير مصنوع للفقراء. وقال بعضهم هو على إضمار فعل تقديره أعطوا للفقراء وهو تقدير ضعيف. وفي قوله :( الذين أحصروا ) قولان :
أحدهما : أن المعنى أحصرهم فضل الجهاد فمنعهم من التصرف١.
والثاني : أحصرهم عدوهم أي شيء لشغلهم بجهادهم.
ومعنى ( أحصروا ) صاروا إلى أن حصروا أنفسهم للجهاد كما تقول٢ رابط في سبيل الله٣. قال بعضهم : كان أصحاب الصفة عند مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد أحصرهم الفقر. والصفة السقيفة وقال ابن جبير : هم قوم أخذتهم جراحات فلزمتهم٤ الزمانة.
وقال مجاهد وغيره : الآية يراد بها فقراء المسلمين بل المهاجرين٥. وهذا وإن كان كما قال فمجملها على العموم في كل من كانت صفته على هذا أولى لأنه لفظ عام ورد على سبب وفيه خلاف بين الأصوليين.
قوله تعالى :( يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف ) |البقرة : ٢٧٣| يريد بالجاهل، الجاهل بهم.
وقوله :( تعرفهم بسيماهم ) |البقرة : ٢٧٣|.
اختلف في السيما ما هي : فقال السدي : أثر الفاقة والحاجة. وقال ابن زيد : رثاثة الثياب. وقال مجاهد : التواضع والخشوع٦. وهذه الأقوال على جهة التمثيل، فكل ما تعرف به أحوالهم، فهو داخل تحت قوله ( تعرفهم بسيماهم ). قال بعضهم : هذه الآية تدل على أن اسم الفقير يجوز أن يطلق على من له كسوة ذات قيمة، ولا يمنع ذلك من إعطائه الزكاة٧. وهذا مما اتفق العلماء عليه، بل قد قال مالك : يعطى من الزكاة من له مسكن وخادم ولا فضل فيهما٨. وقال في موضع آخر : له مسكن ودابة لا غناء به عن أحدهما٩. وذكر ابن شعبان عن أبي حنيفة أنه : يعطى من له دار وخادم يساويان عشرة آلاف. وقاله الثوري١٠.
وفي " الموطأ " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أعطوا السائل وإن جاء على فرس " ١١ وهذا يدل على أن الفقير اسم ثابت لكل من عدم الفضل على ما لا بد له منه بحسب حاله. والآية على ما قدمت من تقدير تدل على ذلك.
وقال بعضهم : هذه الآية ترد قول١٢ من قال : إنه لا يجب أن يعطى من الصدقة من عنده ما يواري به عورته ويسد به جوعه. وهذا قول شاذ.
وقد اختلفوا في القدر الذي يخرج به الفقير من اسم الفقر إلى اسم الغنى حتى لا تحل له الزكاة، فقيل : من كانت له كفاية بمال وإن كانت دون نصاب للحديث : " من سأل منكم وله أوقية أو عدلها، فقد سأل إلحافا " ١٣. وقد يكون للرجل أكثر من نصاب ولا كفاية له. وروي عن الشافعي، وذكر الباجي نحوه عن الشيخ أبي بكر١٤. وقيل : هو من له نصاب، وهو قول عبد الملك. وذكر بعضهم عن الشافعي أنه اعتبر في ذلك قوت سنة. وعن مالك رحمه الله أنه اعتبر أربعين درهما. وقال الثوري وأحمد : خمسون درهما١٥.
والأظهر من هذه الأقوال على ظاهر الآية اعتبار الكفاية، لأن الله تعالى قد أباح لهؤلاء الفقراء المهاجرين المذكورين في الآية أخذ الصدقات ولا بد أن لهم كسوة وسلاحا ودوابا.
وقد اختلف هل يعطى الفقير نصابا أم لا ؟ وظاهر الآية الجواز إذ لم يخص من النفقة يسيرا من كثير لهذا قلنا : إن من كان في الغزو لا يعطى من الزكاة إلا أن يكون فقيرا |أي|١٦ في الموضع الذي هو فيه غاز وهو ظاهر الآية لأن الله تعالى قد سمى فقراء الغزاة من المهاجرين فقراء فبذلك الدليل يجب إذا شرط في الغزاة الفقر بموضعهم وحينئذ يعطون من الزكاة خلافا لمن قال يعطى من الزكاة وإن كان غنيا في موضع الغزو وتعلقا بظاهر قوله –عليه السلام- : " لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة : لغاز " الحديث١٧. واحتج بعضهم بهذه الآية، على أن القوي الصحيح في بدنه إذا لم يكن له شيء فقير تحل له الزكاة لأن قوله تعالى :( لا يستطيعون ضربا في الأرض ) |البقرة : ٢٧٣| يدل على أنهم لو زال عنهم الإحصار لقدروا على الضرب في الأرض فدل ذلك على أنهم ذوو مرة أقوياء. وقد أباح لهم تعالى أخذ الصدقة بالفقر خاصة وقوله –عليه السلام- : " لأن يأخذ أحدكم حبله فيحطب على ظهره خير له من أن يأتي رجلا فيسأله " الحديث١٨. يدل على هذا المعنى لأنه لا يقدر على الاحتطاب إلا ذو المرة القوي. ولم يحرم عليه المسألة. وذهب الآخرون١٩ إلى الأخذ بقوله –عليه الصلاة والسلام- : " لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي " ٢٠ |وجعلوا الصحة كالغنى، وهو قول الشافعي، وإسحاق، والقولان في المذهب|٢١.
وقوله –عليه السلام- : " ولا لذي مرة سوي " قال الطحاوي : إنما هذا في الصحيح الذي يقصد التكثر بما يأخذ٢٢.
واحتج بعضهم أيضا على أن الفقير أسوأ حالا من المسكين بقوله تعالى :( للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله ) الآية |البقرة : ٢٧٣| وبقوله تعالى :( أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر ) |الكهف : ٧٩| قال أبو الحسن : ولما قال تعالى٢٣ :( تعرفهم بسيماهم ) دل على أن المراد بالسيما حال من يظهر عليه حتى إذا رأينا ميتا في دار الإسلام وعليه زنار وهو غير مختون٢٤، لا يدفن في مقابر المسلمين، ويقدم |ذلك|٢٥ على حكم الدار في قول أكثر العلماء. ومثله قوله تعالى :( فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول ) |محمد : ٣٠|٢٦.
وقد اختلف عندنا في المذهب إن وجد المذكور مختونا ففي " كتاب " ابن حبيب : أنه لا يصلى عليه لأن النصارى قد يختتنون. وقال ابن وهب : يصلى عليه.
قوله تعالى :( لا يسألون الناس إلحافا ) |البقرة : ٢٧٣|.
اختلف المفسرون فيه٢٧، فقيل : يسألون ولا يلحفون، وقيل : إنهم لا يسألون أصلا، أي لا يكون منهم سؤال فيكون منهم إلحاف كما قال :
على لاحب لا يهتدى بمناره٢٨ ***.........................
واستدل على صحة هذا التأويل بوصفه تعالى لهم بالتعفف، وبقوله –عليه الصلاة والسلام- : " ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يتفطن له فيتصدق عليه ولا يقوم فيسأل الناس " والحديث في " البخاري " ٢٩. واحتج من قال بالتأويل الآخر بقوله –عليه الصلاة والسلام- في حديث آخر وهو في البخاري أيضا٣٠ : " ولكن المسكين الذي ليس له غنى ويستحيي، ولا يسأل الناس إلحافا " قال : والمسألة بغير إلحاف جائزة للمضطرين يدل على ذلك قوله – عليه السلام – ( من سأل وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا " ٣١ فدل هذا على أنه من لم تكن له أوقية فهو غير ملحف ولا ملوم، وهو متعفف. وقال الطحاوي٣٢ : هذا حديث منسوخ بقوله : " من سأل وله خمس أواق فقد سأل إلحافا " ٣٣. فجعل هذا حدا لمن تحل له الصدقة ومن لا تحل له وقد تقدم الكلام على هذا المعنى.
٢ يراجع كلام ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/٢٦٢) وأحكام القرآن لابن العربي (١/٢٣٨)..
٣ في ب "يقال"..
٤ في ب "فجرفتهم"..
٥ يراجع المحرر الوجيز (٢/٢٦٢) وتفسير الطبري (٣/١٢٥)..
٦ تراجع هذه الأقوال في تفسير الطبري (٣/١٢٧، ١٢٨) والمحرر الوجيز لابن عطية (٢/٢٦٤)..
٧ كذا في أحكام القرآن للهراسي (١/٢٣٠) وأصله في أحكام القرآن للجصاص (٢/١٨٠)..
٨ يراجع قول مالك في المدونة (١/٢٩٥) والإشراف على مسائل الخلاف لعبد الوهاب (١/٤٢٠/ رقم ٦١٣)..
٩ في ن "عنهما"..
١٠ يراجع الإشراف لعبد الوهاب (١/٤٢٠)..
١١ في الجامع عن زيد بن أسلم مرفوعا فذكره، (٢/٥٩٥/٢٨٤٦). قال ابن عبد البر في التمهيد (٥/٢٩٤): "لا أعلم في إرسال هذا الحديث خلافا بين رواة مالك، وليس في هذا اللفظ مسند يحتج به فيما علمت"..
١٢ في ب "على قول"..
١٣ أخرجه مالك في الموطأ (٢/٥٩٩/٢٨٥٤) ومن طريقه أبو داود (١٦٢٧) والنسائي (٥/٩٨) والطحاوي في شرح المعاني (٢/٢١) والجوهري في مسند الموطأ (٣٥٠: بتحقيقي) والبيهقي (٦/٢١). وقد صححه ابن عبد البر في التمهيد (٤/٩٣، ٩٤) وينظر فتح الباري لابن حجر (٨/٢٠٣)..
١٤ يراجع المنتقى شرح الموطأ للباجي (٩/٥٠٩) – ط المحققة)..
١٥ تراجع أقوال الفقهاء في ذلك في التمهيد (٤/٩٦ -٤٠٥) وتحقيقه في ذلك وكذا في الاستذكار (٩/٢٠٦ -٢١٧)..
١٦ سقطت من أ..
١٧ تمام الحديث في الموطأ، الزكاة (١/٣٦٠/ رقم ٧١٨) عن بن يسار مرفوعا: ".. في سبيل الله، أو لعامل عليها، أو لغارم، أو لرجل اشتراها بماله، أو رجل له رجل مسكين، فتصدق على المسكين، فأهدى المسكين للغني" والحديث عند مالك كما ترى مرسل. ووصله معمر، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
أخرجه عبد الرزاق (٧١٥١) وأحمد (٣/٥٦) وأبو داود (١٦٣٦) وابن ماجه (١٨٤١) وابن خزيمة (٢٣٧٤) والحاكم (١/٤٠٧) والبيهقي (٧/١٥ و٢٢) ورجح ابن أبي حاتم والدارقطني الإرسال وهو الأصح يراجع العلل لابن حاتم (٦٤٢) وللدارقطني (١١/٢٧٠، ٢٧١)..
١٨ أخرجه عن أبي هريرة البخاري في الزكاة (١٤٧٠) ومسلم في الزكاة (١٠٤٢)..
١٩ في ن "وذهب قوم آخرون"..
٢٠ أخرجه النسائي (٥/٩٩) وابن ماجه (١٨٣٩) وأحمد في المسند (٢/٣٧٧ و٣٨٩) وابن حبان في صحيحه (الإحسان: ٣٢٩٠) والطحاوي في شرح المعاني (٢/١٤) والدارقطني في السنن (٢/١١٨) والبيهقي (٧/١٤) عن أبي هريرة.
وصححه الألباني فيراجع إرواء (٣/ رقم ٨٧٧)..
٢١ سقطت من أ..
٢٢ يراجع شرح معاني الآثار (٢/٢١)..
٢٣ سقطت من أ وهي ثابتة في ب و "أحكام القرآن"..
٢٤ في أحكام القرآن للهراسي "محبوب"..
٢٥ سقطت من أ..
٢٦ أحكام القرآن للهراسي (١/٢٣٠)..
٢٧ يراجع تفسير الطبري (٣/١٢٨ -١٣٠) وأحكام القرآن للجصاص (٢/١٨١ -١٨٣) والمحرر الوجيز (٢/٢٦٤ -٢٦٧) وأحكام القرآن لابن العربي (١/٢٣٨ -٢٤٠) وتفسير القرطبي (٣/٣٤٢ -٣٤٦)..
٢٨ وعجز البيت: إذا سافه العود النباطي جرجرا. وهو لامرئ القيس يراجع ديوانه (ص٩٥)..
٢٩ أخرجه في الزكاة من حديث أبي هريرة (١٤٧٩) ومسلم في الزكاة (١٠٣٩)..
٣٠ أخرجه أيضا من حديث أبي هريرة في الزكاة (١٤٧٦)..
٣١ تقدم الكلام على هذا الحديث الصحيح ص (٣٩٧). ومعنى الأوقية أربعون درهما من الفضة..
٣٢ يراجع مشكل الآثار (١/٢٠٤ -٢٠٦)..
٣٣ أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار (١/٢٠٤) وفي شرح المعاني (٤/٣٧٢) من حديث رجل من الصحابة وانظر لشواهد هذا الحديث ومعناه في فتح الباري (٣/٣٤١ -٣٤٣)..
وقوله تعالى :( يأكلون الربا ) أي يكسبون الربا ويفعلونه. وخصت لفظة الأكل لأنها أقوى مقاصد الإنسان في المال ولأنها دالة على الحرص والجمع، فأقيم هذا البعض٤ من توابع الكسب مقام الكسب كله فاللباس والسكنى والادخار والإنفاق على العيال وغير ذلك كله داخل تحت قوله :( الذين يأكلون ) ٥.
وقوله :( ذلك بأنهم قالوا ) الآية.
معناه عند جميع المتأولين الكفار وأنه قول تكذيب للشريعة ورد عليها، والآية كلها في الكفار المرابين نزلت.
ولهم قيل :( فله ما سلف ) ولا يقال ذلك لمؤمن عاص، ولكن يؤاخذ العصاة في الربا بطرف من وعيد الآية٦.
٢٧٨- وقوله تعالى :( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين ٢٧٨ ) الآية |البقرة : ٢٧٨|.
سبب نزولها أنه كان الربا بين الناس كثيرا في ذلك الوقت وكان بين قريش وثقيف ربا، فكان لهؤلاء على هؤلاء، فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قال في خطبته في اليوم الثاني من الفتح : " ألا كل ربا كان في الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب " ٧ فبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعمه وأخص الناس به، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة واستعمل عتاب بن أسيد على مكة، فلما استنزل أهل الطائف بعد ذلك إلى الإسلام اشترطوا شروطا منها ما أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنها ما لم يعطه. وكان في شروطهم أن كل ربا لهم على الناس فإنهم يأخذونه، وكل ربا عليهم هو موضوع عنهم. فيروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرر لهم هذه، فردها الله بهذه الآية كما رد طلحة لكفار قريش في رد النساء عليهم في عام الحديبية٨. وذكر بعضهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يكتب في أسفل الكتاب لثقيف " لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم " فلما جاءت آجال ربائهم بعثوا إلى مكة للاقتضاء، وكانت الديون لبني عنزة، وهم بنو عمرو بن عمير بن ثقيف على بني المغيرة المخزوميين. فقال بنو المغيرة : لا نعطي شيئا، فإن الربا قد وضع. ورفعوا أمرهم إلى عتاب بن أسيد بمكة، فكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية. فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عتاب، فعلمت به ثقيف، فكفت٩.
وأصل الربا في اللغة الزيادة إلا أن الشرع أثبت زيادات١٠ جائزة وحرم أنواعا من الزيادات ولكن إطلاق اللفظ يقتضي تحريم كل زيادة إلا ما خصه الشرع١١.
وقوله تعالى :( وأحل الله البيع وحرم الربا ) |البقرة : ٢٧٥|.
يقتضي جواز ما لا زيادة فيه إلا ما خصه الشرع١٢ أيضا. وقد اختلف الأصوليون في قوله تعالى :( وأحل الله البيع وحرم الربا ) هل هو عام أو مجمل ؟ والذي اختاره أكثر الفقهاء أنه عام١٣. ثم اختلفوا فمنهم من قال : هو من العموم الذي لا خصوص فيه، ولا يدخله الخصوص لأنه لا بيع إلا وهو حلال. أي أن البيوع الفاسدة لا يطلق عليها اسم البيع شرعا إلا مجازا فهي غير داخلة تحت قوله :( وأحل الله البيع ) وأجازوا أن يطلق عليها اسم البيع لغة. ومنهم من قال : هو من العموم الذي أريد به الخصوص. واختلف أهل هذه الطريقة فمنهم من يجعله فيما أريد به من ذلك من حيز العموم. ومنهم من يجعله من حيز المجمل. والأظهر أنه عام محمول على ظاهره إلا ما قام الدليل على خروجه منه. وإن تخصيص بعضه ليس بمانع من التعلق به، ولا موجب لاحتماله. وهذا هو الصحيح١٤. وقد جاءت أخبار في النهي عن بيوع مخصوصة اتفق الناس على تخصيص الآية بنهيها كنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر١٥، وبيع حبل الحبلة١٦، وبيع الملامسة والمنابذة١٧، وبيع الحصاة١٨، وبيع المضامين والملاقيح١٩ ونحو ذلك. وجاءت أخبار أخر اختلف الناس في التخصيص بها كبيع النجش٢٠، وبيع العربان٢١، وبيع الكلب٢٢ إلى غير ذلك. وكذلك القياس قد يخصص به قوم ولا يخصص به آخرون إلى غير ذلك من الأدلة المتفق عليها والمختلف فيها. فالبيوع على مذهبهم هذا ثلاثة أقسام، جائزة، ومحظورة ومكروهة. وهي المختلف فيها.
فالجائزة : هي التي لم يحظرها الشرع ولا ورد فيها نهي فتندرج تحت قوله تعالى :( وأحل الله البيع ) كل بيع إلا ما خص منه بالدليل والمحظورة : هي التي قام الدليل على تخصيصها من عموم الآية بالمنع منها.
والمختلف فيها : ما تجاذبه الطرفان. ونحن نسوق من ذلك أمثلة يتبين بالنظر فيها كيف تؤخذ الأحكام من الكتاب والسنة والإجماع. فمن ذلك : السلم، أجازه مالك وأصحابه في كل ما يضبط٢٣ بالصفة على شروط مسطورة في كتبهم. وذهب أبو حنيفة إلى أن السلم في الحيوان لا يجوز. وذهبت طائفة من أهل الظاهر إلى أن السلم، فيما عدا المكيل والموزون لا يجوز. ودليل مالك وأصحابه عموم الآية٢٤. ولم ينه صلى الله عليه وسلم عنه فبقي على أصل الإباحة الواردة في القرآن، مع قوله –عليه الصلاة والسلام- : " من سلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم " ٢٥ ومن ذلك بيع العين الغائبة وهو عند مالك جائز على الصفة، وعند الشافعي غير جائز وصف أو لم يوصف. وعند أبي حنيفة أنه جائز وصف أو لم يوصف إلا أنه يوجب٢٦ للمبتاع خيار الرؤية إذا رأى المبيع. وحجة مالك على الشافعي عموم الآية٢٧. ومن ذلك بيع الأعيان الحاضرة التي تشق رؤيتها كالأعدال تباع على البرنامج ونحوه أجازه مالك ومنعه الشافعي في أظهر قوليه٢٨. والحجة لمالك، قوله عز وجل :( وأحل الله البيع وحرم الربا ) وقوله :( إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) |النساء : ٢٩|٢٩.
وقد اختلفوا في بيع المزايدة، وعموم الآية حجة لمن أجازه مع ما ورد في الحديث في ذلك٣٠.
واختلف في بيع أمهات الأولاد، فقال كافة العلماء : إنهن لا يبعن بوجه وأنهن أحرار. وقول أهل الظاهر٣١ جواز بيعهن وعن الشافعي القولان. وقول علي –رضي الله عنه- أنهن يبعن في الدين خاصة٣٢. واحتج من نصر قول أهل الظاهر بقول الله تعالى :( وأحل الله البيع وحرم الربا ) ٣٣ وهذا لا حجة فيه بأن يتخصص بأدلة معلومة. ومن ذلك بيع الجوز، واللوز، والباقلاء في قشره الأعلى أجازه مالك ومنعه الشافعي وأبو حنيفة. وحجة عموم قوله تعالى :( وأحل الله البيع ) ٣٤. ومن ذلك بيع السنبل إذا يبس واستغنى عن الماء قائما على اختلاف في المذهب وحزما على اختلاف فيه أيضا في المذهب وأجاز مالك كله في المشهور عنه. ومنعه الشافعي في أحد قوليه والحجة لمالك عموم الآية٣٥.
وأما بيع الحنطة مدروسة مع سنبلها فلا يجوز باتفاق في المذهب، وفي خارج المذهب اختلاف. ومن ذلك بيع المرابحة أجازه مالك وأصحابه وكرهه ابن عباس وجماعة من التابعين. وحجة مالك رحمه الله قوله تعالى٣٦ :( وأحل الله البيع ) وإذا قلنا بعموم الآية فجعلنا كل بيع جائزا إلا ما قام الدليل عليه، فكذلك تجعل كل ما فيه ربا وهو الزيادة محظورا إلا ما قام الدليل على جوازه.
ونضبط في ذلك أصلا فنقول : البيع يقع نقدا ويقع نساء٣٧ فأما بيع النقد، فيجوز التفاضل فيه والتماثل والبيع كيف يشاء ما لم يكن التبايع في الأثمان والأطعمة المقتاتة، فلا يجوز فيها التفاضل مع الجنسية، ولا يباع المثل منها بمثله إلا متساويا. وإن اختلف التفاضل فيما سوى هذين القسمين جاز بيعه على الإطلاق، فيحصل من هذا أن التفاضل مع الاختلاف في بيع النقود يجوز على الإطلاق، والتفاضل مع التماثل يجوز إلا في ما قدمنا من الأثمان والمقتاتات.
وقد ذهب بعضهم إلى أن لا ربا في النقد، وإنما الربا في النسيئة ورأى أن سياق الآية يدل على أن المذكور في كتاب الله تعالى، ربا النساء فقط فإنه قال :( فله ما سلف ) ( وذروا ما بقي من الربا ) وقال :( وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ) |البقرة : ٢٨٠| وقال :( وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم ) |البقرة : ٢٧٩| واحتجوا بالحديث : " إنما الربا في النسيئة " ٣٨ قالوا : فخص الربا بالنسيئة، وجعلوا ذلك بيانا لقوله تعالى :( وحرم الربا ) وهذا مذهب لا خفاء في فساده. ودليلنا على الجواز مع اختلاف الأجناس قوله تعالى :( وأحل الله البيع وحرم الربا ) وقوله –عليه الصلاة والسلام- : " إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم " ٣٩ ودليلنا على جواز التفاضل فيه بالمتماثلات فيما سوى الثمن والمقتاتات، قوله تعالى :( وأحل الله البيع ). وأيضا فلو كان التفاضل في سائر الأشياء ممنوعا لم يكن لتخصيص النبي صلى الله عليه وسلم ستة أشياء بتحريم التفاضل معنى، ولقال التفاضل حرام عليكم في كل شيء، ولكن لما نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع هذه الستة " الذهب بالذهب والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح إلا سواء بسواء عينا بعين، فمن زاد، أو ازداد فقد أربى " ٤٠، وخصه بنهيه دل على أن التحريم ليس بعام في جميع الأشياء. وإنما يبقى النظر في هذه الستة هل الربا في بيع النقد مقصور عليها، فيكون تحريمها غير معقول المعنى ؟ أو يكون لتحريمها دون غيرها معنى فيطلب ذلك المعنى، فحيث وجد حرم قياسا على الستة ودخل في عموم قوله تعالى :( وحرم الربا ) ٤١ :
فأما أهل الظاهر فقصروا التحريم عليها وأباحوا التفاضل في سائر الأشياء سواها، واحتجوا بعموم قوله تعالى :( وأحل الله البيع وحرم الربا ) ٤٢. وهذا القول مبني على رأيهم في إنكار القياس٤٣.
فأما جمهور العلماء المثبتون للقياس فإنهم طلبوا لذلك معنى وألحقوا به ما وافقه في ذلك المعنى، وخصصوا، وبينوا به قوله تعالى :( وأحل الله البيع وحرم الربا ) أما مالك فحرم التفاضل فيها لأمرين، أما الذهب والفضة فلكونهما ثمنين. وأما الأربعة المطعومة فلكونها تدخر للقوت أو تصلح للقوت. وبعضهم يزيد في العلة أصلا للمعاش غالبا، وبعضهم يسقطه. وقد قدمنا أن ذلك كله مع تماثل الجنس.
وأما الشافعي فوافقه على٤٤ العلة في الذهب والفضة وخالفه في الأربعة، واعتقد أن العلة فيها كونها مطعومة. وأما أبو حنيفة فخالفهما في الجميع واعتقد أن العلة في الذهب والفضة الوزن وفي الأربعة الكيل. وأما سعيد بن المسيب فوافق مالكا والشافعي في الذهب والفضة وخالف في الأربعة، واعتقد أن العلة فيها الكيل والوزن والطعم٤٥. فهي خمسة أقوال في تحرير علة منع التفاضل في هذه المبيعات قولان في المذهب، وثلاثة خارج المذهب٤٦. وإذا فرغنا من الكلام في ربا النقد فلنتكلم على الربا في النسيئة، واعلم أن الربا يدخل في الستة المذكورة في الحديث وما قيس عليها سواء اتفقت الأجناس أو اختلفت. فالذي تدل عليه الآية تحريم الزيادة في النساء، ولا دلالة فيها على تحريم النساء من غير زيادة في نفس المال، ومن أجل ذلك جوز مالك القرض وإن كان الشافعي قد منعه لكنه٤٧ لم يمنعه من جهة الآية لكن من جهة أخرى، فلا يجوز النساء في شيء من تلك، وأما الستة وما قيس عليها فلا يدخل الربا في بيع النسيئة فيها إذا اختلفت الأجناس، كسلم عبد في ثوبين، فإن تسا
٢ في أ "الأعراب" والمثبت موافق لما في المحرر الوجيز..
٣ قاله ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/٢٦٩)..
٤ في ب "اللفظ"..
٥ قاله في الموضوعين ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/٢٧٠، ٢٧١)..
٦ في ب "قررهم على هذا، ثم ردهم الله"..
٧ أخرجه من حديث جابر بن عبد الله مسلم في الحج (١٢١٨) وأبو داود (١٩٠٥) والنسائي (٥/١٤٣، ١٤٤) وابن ماجه (٣٠٧٤) والدارمي (١٨٥٠، ١٨٥١) وابن حبان (الإحسان: ٣٩٤٣، ٣٩٤٤)..
٨ يراجع تفسير الطبري (٣/١٣٨). والعجاب في بيان الأسباب لابن حجر (ص ٤٦٠، ٤٦١).
.
٩ يراجع تفسير الطبري (٣/١٣٨) والعجاب لابن حجر (ص ٤٦٠ -٤٦٣)..
١٠ في ن "زيادة"..
١١ قاله أبو الحسن الهراسي في أحكام القرآن (١/٢٣١، ٢٣٢) وفيه اختلاف لا يضر من جهة المعنى مرده إلى تصرف المؤلف رحمه الله أو للنسخ..
١٢ يراجع كلام الهراسي في المصدر السابق (١/٢٣٢)..
١٣ يراجع المحرر الوجيز لابن عطية (٢/٢٧١)..
١٤ واختاره ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/٢٧١) وأحكام القرآن لابن العربي (١/٢٤٠ -٢٤٥) وتفسير القرطبي (٣/٣٥٦ -٣٥٨)..
١٥ أخرجه عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر" مسلم في البيوع (١٥١٣) ومعنى الغرر الخطر والغرور والخداع..
١٦ أخرج البخاري عن ابن عمر في البيوع (٢١٤٣) ومسلم في البيوع (١٥١٤) ومعناه: بيع بثمن مؤجل إلى أن تلد الناقة ويلد ولدها. وقال آخرون: هو بيع ولد الناقة الحامل في الحال..
١٧ أخرجه عن أبي هريرة البخاري في البيوع (٢١٤٢) ومسلم في البيوع (١٥١١) أما الملامسة: فأن يلمس كل واحد منهما ثوب صاحبه بغير تأمل والمنابذة: أن ينبذ كل واحد منهما ثوبه إلى الآخر، ولم ينظر واحد منهما إلى ثوب صاحبه..
١٨ فيه تأويلات منها أن يقول: بعتك من هذه الأثواب ما وقعت عليه الحصاة التي أرميها ويراجع شرح النووي على مسلم (١٠/١٥٦)..
١٩ المضامين: بيع ما في بطون إناث الإبل والملاقيح: بيع ما على ظهور الجمال. ويراجع الموطأ، كتاب البيوع (٢/١٩٤ -١٩٦)..
٢٠ أخرجه عن أبي هريرة البخاري في البيوع (٢١٥٠) ومسلم في البيوع (١٥١٥) والنجش هو إثارة الرغبة في شراء السلعة ليرفع ثمنها وهو نوع من الخداع..
٢١ فيه حديث ضعيف من حديث عبد الله بن عمرو، رواه أبو داود (٢٠٣٥) وابن ماجه (٢١٩٢) وأحمد (٢/١٨٣) وضعفه غير واحد..
٢٢ في ذلك حديث عن أبي مسعود الأنصاري أخرجه البخاري في الإجازة (٢٢٨٢) ومسلم في المساقاة (١٥٦٧)..
٢٣ في ب "ينضبط"..
٢٤ يراجع أحكام القرآن للجصاص (٢/١٨٤ -١٨٦) والإشراف لعبد الوهاب (٢/٥٦٧، ٥٦٨)..
٢٥ أخرجه عن ابن عباس البخاري في السلم (٢٢٤٠) ومسلم في المساقاة (١٦٠٤) بلفظ "من أسلق في شيء.. فليسلف" ولم هذا اللفظ إلا في الجمع بين الصحيحين لعبد الحق الاشبيلي (٢/٥٦٦ بتحقيقي) وقد يكون ذلك في بعض نسخ الصحيح والله أعلم ويراجع الفتح لابن حجر (٤/٤٣٢)..
٢٦ في أ "يجب"..
٢٧ يراجع المدونة لسحنون (٤/٢٠٧، ٢١٠، ٢١١)..
٢٨ في ب "ظاهر قوله"..
٢٩ يراجع المدونة لسحنون (٤/٢١٠ -٢١٣) والأم للشافعي (٣/١٨، ١٩)..
٣٠ أخرجه أبو داود (١٦٤١) والنسائي (٧/٢٥٩) والترمذي (١٢١٨) وابن ماجه (٢١٩٨) وغيرهم عن أنس. وسنده ضعيف ضعفه ابن القطان الفاسي كما في التلخيص الحبير لابن حجر (٣/١٥) والألباني في إرواء الغليل (١٢٨٩)..
٣١ عزا هذا القول ابن عبد البر لجماعة فقهاء الأمصار فيراجع التمهيد (٣/١٣٦، ١٣٧)..
٣٢ يراجع المحلى لابن حزم (٩/٢١٧ -٢٢١)..
٣٣ ينظر التمهيد (٣/١٣٧ و١٣٨)..
٣٤ يراجع الإشراف لعبد الوهاب (٢/٥٤٥، ٥٤٦)..
٣٥ ينظر الإشراف لعبد الوهاب (٢/٥٤٦) والأم للشافعي (٣/٥٩)..
٣٦ في ب "الآية"..
٣٧ في ب "نسيئة"..
٣٨ أخرجه البخاري من حديث ابن سامة بن زيد في البيوع (٢١٧٨، ٢١٧٩) ومسلم في المساقاة (١٥٩٦)..
٣٩ أخرج مسلم في المساقاة (١٥٨٧) من حديث عبادة بن الصامت مرفوعا: "الذهب بالذهب.." وفي آخره: "فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدا بيد" ويراجع كلام أبي العباس القرطبي في المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (٤/٤٧٥)..
٤٠ أخرجه مسلم في المساقاة من حديث عبادة بن الصامت (١٥٨٧)..
٤١ يراجع الإشراف لعبد الوهاب (٢/٥٢٧ -٥٢٩)..
٤٢ قال أبو عمر بن عبد البر في الاستذكار (٢٠/٤١): "وشذ داود فأجاز النسيئة والتفاضل فيما عدا البر والشعير، والتمر، والملح من الطعام، والآدام، لنص رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعموم قوله الله عز وجل: (وأحل الله البيع) |البقرة: ٢٧٥| فلم يضم إلى النسيئة المنصوصة في حديث عبادة، وغيره شيئا غيرها، وهي الذهب، والورق، والبر، والشعير، والتمر، والملح"..
٤٣ قال ابن حزم في المحلى (٨/٤٦٨): "وممن قال: لا إلا في الأصناف المذكورة طاوس، وقتادة وعثمان البتي وأبو سليمان وجميع أصحابنا" ويراجع بقية كلامه هناك فهو قوي..
٤٤ في ب "في "علة"..
٤٥ يراجع في هذا الاستذكار (٢٠/٣١ -٥٠) والمحلى لابن حزك (٨/ رقم ١٤٧٩ – ط منيرية) وفتح الباري (٤/٣٧٧ -٣٨٦) والمفهم للقرطبي (٤/٤٧٧ -٤٧٩) ونيل الأوطار للشوكاني (٥/١٩٠ -١٩٥)..
٤٦ في ب "خارجه"..
٤٧ في ب "لكن"..
وقوله تعالى :( يأكلون الربا ) أي يكسبون الربا ويفعلونه. وخصت لفظة الأكل لأنها أقوى مقاصد الإنسان في المال ولأنها دالة على الحرص والجمع، فأقيم هذا البعض٤ من توابع الكسب مقام الكسب كله فاللباس والسكنى والادخار والإنفاق على العيال وغير ذلك كله داخل تحت قوله :( الذين يأكلون ) ٥.
وقوله :( ذلك بأنهم قالوا ) الآية.
معناه عند جميع المتأولين الكفار وأنه قول تكذيب للشريعة ورد عليها، والآية كلها في الكفار المرابين نزلت.
ولهم قيل :( فله ما سلف ) ولا يقال ذلك لمؤمن عاص، ولكن يؤاخذ العصاة في الربا بطرف من وعيد الآية٦.
٢٧٨- وقوله تعالى :( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين ٢٧٨ ) الآية |البقرة : ٢٧٨|.
سبب نزولها أنه كان الربا بين الناس كثيرا في ذلك الوقت وكان بين قريش وثقيف ربا، فكان لهؤلاء على هؤلاء، فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قال في خطبته في اليوم الثاني من الفتح :" ألا كل ربا كان في الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب " ٧ فبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعمه وأخص الناس به، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة واستعمل عتاب بن أسيد على مكة، فلما استنزل أهل الطائف بعد ذلك إلى الإسلام اشترطوا شروطا منها ما أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنها ما لم يعطه. وكان في شروطهم أن كل ربا لهم على الناس فإنهم يأخذونه، وكل ربا عليهم هو موضوع عنهم. فيروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرر لهم هذه، فردها الله بهذه الآية كما رد طلحة لكفار قريش في رد النساء عليهم في عام الحديبية٨. وذكر بعضهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يكتب في أسفل الكتاب لثقيف " لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم " فلما جاءت آجال ربائهم بعثوا إلى مكة للاقتضاء، وكانت الديون لبني عنزة، وهم بنو عمرو بن عمير بن ثقيف على بني المغيرة المخزوميين. فقال بنو المغيرة : لا نعطي شيئا، فإن الربا قد وضع. ورفعوا أمرهم إلى عتاب بن أسيد بمكة، فكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية. فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عتاب، فعلمت به ثقيف، فكفت٩.
وأصل الربا في اللغة الزيادة إلا أن الشرع أثبت زيادات١٠ جائزة وحرم أنواعا من الزيادات ولكن إطلاق اللفظ يقتضي تحريم كل زيادة إلا ما خصه الشرع١١.
وقوله تعالى :( وأحل الله البيع وحرم الربا ) |البقرة : ٢٧٥|.
يقتضي جواز ما لا زيادة فيه إلا ما خصه الشرع١٢ أيضا. وقد اختلف الأصوليون في قوله تعالى :( وأحل الله البيع وحرم الربا ) هل هو عام أو مجمل ؟ والذي اختاره أكثر الفقهاء أنه عام١٣. ثم اختلفوا فمنهم من قال : هو من العموم الذي لا خصوص فيه، ولا يدخله الخصوص لأنه لا بيع إلا وهو حلال. أي أن البيوع الفاسدة لا يطلق عليها اسم البيع شرعا إلا مجازا فهي غير داخلة تحت قوله :( وأحل الله البيع ) وأجازوا أن يطلق عليها اسم البيع لغة. ومنهم من قال : هو من العموم الذي أريد به الخصوص. واختلف أهل هذه الطريقة فمنهم من يجعله فيما أريد به من ذلك من حيز العموم. ومنهم من يجعله من حيز المجمل. والأظهر أنه عام محمول على ظاهره إلا ما قام الدليل على خروجه منه. وإن تخصيص بعضه ليس بمانع من التعلق به، ولا موجب لاحتماله. وهذا هو الصحيح١٤. وقد جاءت أخبار في النهي عن بيوع مخصوصة اتفق الناس على تخصيص الآية بنهيها كنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر١٥، وبيع حبل الحبلة١٦، وبيع الملامسة والمنابذة١٧، وبيع الحصاة١٨، وبيع المضامين والملاقيح١٩ ونحو ذلك. وجاءت أخبار أخر اختلف الناس في التخصيص بها كبيع النجش٢٠، وبيع العربان٢١، وبيع الكلب٢٢ إلى غير ذلك. وكذلك القياس قد يخصص به قوم ولا يخصص به آخرون إلى غير ذلك من الأدلة المتفق عليها والمختلف فيها. فالبيوع على مذهبهم هذا ثلاثة أقسام، جائزة، ومحظورة ومكروهة. وهي المختلف فيها.
فالجائزة : هي التي لم يحظرها الشرع ولا ورد فيها نهي فتندرج تحت قوله تعالى :( وأحل الله البيع ) كل بيع إلا ما خص منه بالدليل والمحظورة : هي التي قام الدليل على تخصيصها من عموم الآية بالمنع منها.
والمختلف فيها : ما تجاذبه الطرفان. ونحن نسوق من ذلك أمثلة يتبين بالنظر فيها كيف تؤخذ الأحكام من الكتاب والسنة والإجماع. فمن ذلك : السلم، أجازه مالك وأصحابه في كل ما يضبط٢٣ بالصفة على شروط مسطورة في كتبهم. وذهب أبو حنيفة إلى أن السلم في الحيوان لا يجوز. وذهبت طائفة من أهل الظاهر إلى أن السلم، فيما عدا المكيل والموزون لا يجوز. ودليل مالك وأصحابه عموم الآية٢٤. ولم ينه صلى الله عليه وسلم عنه فبقي على أصل الإباحة الواردة في القرآن، مع قوله –عليه الصلاة والسلام- :" من سلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم " ٢٥ ومن ذلك بيع العين الغائبة وهو عند مالك جائز على الصفة، وعند الشافعي غير جائز وصف أو لم يوصف. وعند أبي حنيفة أنه جائز وصف أو لم يوصف إلا أنه يوجب٢٦ للمبتاع خيار الرؤية إذا رأى المبيع. وحجة مالك على الشافعي عموم الآية٢٧. ومن ذلك بيع الأعيان الحاضرة التي تشق رؤيتها كالأعدال تباع على البرنامج ونحوه أجازه مالك ومنعه الشافعي في أظهر قوليه٢٨. والحجة لمالك، قوله عز وجل :( وأحل الله البيع وحرم الربا ) وقوله :( إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) |النساء : ٢٩|٢٩.
وقد اختلفوا في بيع المزايدة، وعموم الآية حجة لمن أجازه مع ما ورد في الحديث في ذلك٣٠.
واختلف في بيع أمهات الأولاد، فقال كافة العلماء : إنهن لا يبعن بوجه وأنهن أحرار. وقول أهل الظاهر٣١ جواز بيعهن وعن الشافعي القولان. وقول علي –رضي الله عنه- أنهن يبعن في الدين خاصة٣٢. واحتج من نصر قول أهل الظاهر بقول الله تعالى :( وأحل الله البيع وحرم الربا ) ٣٣ وهذا لا حجة فيه بأن يتخصص بأدلة معلومة. ومن ذلك بيع الجوز، واللوز، والباقلاء في قشره الأعلى أجازه مالك ومنعه الشافعي وأبو حنيفة. وحجة عموم قوله تعالى :( وأحل الله البيع ) ٣٤. ومن ذلك بيع السنبل إذا يبس واستغنى عن الماء قائما على اختلاف في المذهب وحزما على اختلاف فيه أيضا في المذهب وأجاز مالك كله في المشهور عنه. ومنعه الشافعي في أحد قوليه والحجة لمالك عموم الآية٣٥.
وأما بيع الحنطة مدروسة مع سنبلها فلا يجوز باتفاق في المذهب، وفي خارج المذهب اختلاف. ومن ذلك بيع المرابحة أجازه مالك وأصحابه وكرهه ابن عباس وجماعة من التابعين. وحجة مالك رحمه الله قوله تعالى٣٦ :( وأحل الله البيع ) وإذا قلنا بعموم الآية فجعلنا كل بيع جائزا إلا ما قام الدليل عليه، فكذلك تجعل كل ما فيه ربا وهو الزيادة محظورا إلا ما قام الدليل على جوازه.
ونضبط في ذلك أصلا فنقول : البيع يقع نقدا ويقع نساء٣٧ فأما بيع النقد، فيجوز التفاضل فيه والتماثل والبيع كيف يشاء ما لم يكن التبايع في الأثمان والأطعمة المقتاتة، فلا يجوز فيها التفاضل مع الجنسية، ولا يباع المثل منها بمثله إلا متساويا. وإن اختلف التفاضل فيما سوى هذين القسمين جاز بيعه على الإطلاق، فيحصل من هذا أن التفاضل مع الاختلاف في بيع النقود يجوز على الإطلاق، والتفاضل مع التماثل يجوز إلا في ما قدمنا من الأثمان والمقتاتات.
وقد ذهب بعضهم إلى أن لا ربا في النقد، وإنما الربا في النسيئة ورأى أن سياق الآية يدل على أن المذكور في كتاب الله تعالى، ربا النساء فقط فإنه قال :( فله ما سلف ) ( وذروا ما بقي من الربا ) وقال :( وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ) |البقرة : ٢٨٠| وقال :( وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم ) |البقرة : ٢٧٩| واحتجوا بالحديث :" إنما الربا في النسيئة " ٣٨ قالوا : فخص الربا بالنسيئة، وجعلوا ذلك بيانا لقوله تعالى :( وحرم الربا ) وهذا مذهب لا خفاء في فساده. ودليلنا على الجواز مع اختلاف الأجناس قوله تعالى :( وأحل الله البيع وحرم الربا ) وقوله –عليه الصلاة والسلام- :" إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم " ٣٩ ودليلنا على جواز التفاضل فيه بالمتماثلات فيما سوى الثمن والمقتاتات، قوله تعالى :( وأحل الله البيع ). وأيضا فلو كان التفاضل في سائر الأشياء ممنوعا لم يكن لتخصيص النبي صلى الله عليه وسلم ستة أشياء بتحريم التفاضل معنى، ولقال التفاضل حرام عليكم في كل شيء، ولكن لما نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع هذه الستة " الذهب بالذهب والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح إلا سواء بسواء عينا بعين، فمن زاد، أو ازداد فقد أربى " ٤٠، وخصه بنهيه دل على أن التحريم ليس بعام في جميع الأشياء. وإنما يبقى النظر في هذه الستة هل الربا في بيع النقد مقصور عليها، فيكون تحريمها غير معقول المعنى ؟ أو يكون لتحريمها دون غيرها معنى فيطلب ذلك المعنى، فحيث وجد حرم قياسا على الستة ودخل في عموم قوله تعالى :( وحرم الربا ) ٤١ :
فأما أهل الظاهر فقصروا التحريم عليها وأباحوا التفاضل في سائر الأشياء سواها، واحتجوا بعموم قوله تعالى :( وأحل الله البيع وحرم الربا ) ٤٢. وهذا القول مبني على رأيهم في إنكار القياس٤٣.
فأما جمهور العلماء المثبتون للقياس فإنهم طلبوا لذلك معنى وألحقوا به ما وافقه في ذلك المعنى، وخصصوا، وبينوا به قوله تعالى :( وأحل الله البيع وحرم الربا ) أما مالك فحرم التفاضل فيها لأمرين، أما الذهب والفضة فلكونهما ثمنين. وأما الأربعة المطعومة فلكونها تدخر للقوت أو تصلح للقوت. وبعضهم يزيد في العلة أصلا للمعاش غالبا، وبعضهم يسقطه. وقد قدمنا أن ذلك كله مع تماثل الجنس.
وأما الشافعي فوافقه على٤٤ العلة في الذهب والفضة وخالفه في الأربعة، واعتقد أن العلة فيها كونها مطعومة. وأما أبو حنيفة فخالفهما في الجميع واعتقد أن العلة في الذهب والفضة الوزن وفي الأربعة الكيل. وأما سعيد بن المسيب فوافق مالكا والشافعي في الذهب والفضة وخالف في الأربعة، واعتقد أن العلة فيها الكيل والوزن والطعم٤٥. فهي خمسة أقوال في تحرير علة منع التفاضل في هذه المبيعات قولان في المذهب، وثلاثة خارج المذهب٤٦. وإذا فرغنا من الكلام في ربا النقد فلنتكلم على الربا في النسيئة، واعلم أن الربا يدخل في الستة المذكورة في الحديث وما قيس عليها سواء اتفقت الأجناس أو اختلفت. فالذي تدل عليه الآية تحريم الزيادة في النساء، ولا دلالة فيها على تحريم النساء من غير زيادة في نفس المال، ومن أجل ذلك جوز مالك القرض وإن كان الشافعي قد منعه لكنه٤٧ لم يمنعه من جهة الآية لكن من جهة أخرى، فلا يجوز النساء في شيء من تلك، وأما الستة وما قيس عليها فلا يدخل الربا في بيع النسيئة فيها إذا اختلفت الأجناس، كسلم عبد في ثوبين، فإن تسا
٢ في أ "الأعراب" والمثبت موافق لما في المحرر الوجيز..
٣ قاله ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/٢٦٩)..
٤ في ب "اللفظ"..
٥ قاله في الموضوعين ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/٢٧٠، ٢٧١)..
٦ في ب "قررهم على هذا، ثم ردهم الله"..
٧ أخرجه من حديث جابر بن عبد الله مسلم في الحج (١٢١٨) وأبو داود (١٩٠٥) والنسائي (٥/١٤٣، ١٤٤) وابن ماجه (٣٠٧٤) والدارمي (١٨٥٠، ١٨٥١) وابن حبان (الإحسان: ٣٩٤٣، ٣٩٤٤)..
٨ يراجع تفسير الطبري (٣/١٣٨). والعجاب في بيان الأسباب لابن حجر (ص ٤٦٠، ٤٦١).
.
٩ يراجع تفسير الطبري (٣/١٣٨) والعجاب لابن حجر (ص ٤٦٠ -٤٦٣)..
١٠ في ن "زيادة"..
١١ قاله أبو الحسن الهراسي في أحكام القرآن (١/٢٣١، ٢٣٢) وفيه اختلاف لا يضر من جهة المعنى مرده إلى تصرف المؤلف رحمه الله أو للنسخ..
١٢ يراجع كلام الهراسي في المصدر السابق (١/٢٣٢)..
١٣ يراجع المحرر الوجيز لابن عطية (٢/٢٧١)..
١٤ واختاره ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/٢٧١) وأحكام القرآن لابن العربي (١/٢٤٠ -٢٤٥) وتفسير القرطبي (٣/٣٥٦ -٣٥٨)..
١٥ أخرجه عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر" مسلم في البيوع (١٥١٣) ومعنى الغرر الخطر والغرور والخداع..
١٦ أخرج البخاري عن ابن عمر في البيوع (٢١٤٣) ومسلم في البيوع (١٥١٤) ومعناه: بيع بثمن مؤجل إلى أن تلد الناقة ويلد ولدها. وقال آخرون: هو بيع ولد الناقة الحامل في الحال..
١٧ أخرجه عن أبي هريرة البخاري في البيوع (٢١٤٢) ومسلم في البيوع (١٥١١) أما الملامسة: فأن يلمس كل واحد منهما ثوب صاحبه بغير تأمل والمنابذة: أن ينبذ كل واحد منهما ثوبه إلى الآخر، ولم ينظر واحد منهما إلى ثوب صاحبه..
١٨ فيه تأويلات منها أن يقول: بعتك من هذه الأثواب ما وقعت عليه الحصاة التي أرميها ويراجع شرح النووي على مسلم (١٠/١٥٦)..
١٩ المضامين: بيع ما في بطون إناث الإبل والملاقيح: بيع ما على ظهور الجمال. ويراجع الموطأ، كتاب البيوع (٢/١٩٤ -١٩٦)..
٢٠ أخرجه عن أبي هريرة البخاري في البيوع (٢١٥٠) ومسلم في البيوع (١٥١٥) والنجش هو إثارة الرغبة في شراء السلعة ليرفع ثمنها وهو نوع من الخداع..
٢١ فيه حديث ضعيف من حديث عبد الله بن عمرو، رواه أبو داود (٢٠٣٥) وابن ماجه (٢١٩٢) وأحمد (٢/١٨٣) وضعفه غير واحد..
٢٢ في ذلك حديث عن أبي مسعود الأنصاري أخرجه البخاري في الإجازة (٢٢٨٢) ومسلم في المساقاة (١٥٦٧)..
٢٣ في ب "ينضبط"..
٢٤ يراجع أحكام القرآن للجصاص (٢/١٨٤ -١٨٦) والإشراف لعبد الوهاب (٢/٥٦٧، ٥٦٨)..
٢٥ أخرجه عن ابن عباس البخاري في السلم (٢٢٤٠) ومسلم في المساقاة (١٦٠٤) بلفظ "من أسلق في شيء.. فليسلف" ولم هذا اللفظ إلا في الجمع بين الصحيحين لعبد الحق الاشبيلي (٢/٥٦٦ بتحقيقي) وقد يكون ذلك في بعض نسخ الصحيح والله أعلم ويراجع الفتح لابن حجر (٤/٤٣٢)..
٢٦ في أ "يجب"..
٢٧ يراجع المدونة لسحنون (٤/٢٠٧، ٢١٠، ٢١١)..
٢٨ في ب "ظاهر قوله"..
٢٩ يراجع المدونة لسحنون (٤/٢١٠ -٢١٣) والأم للشافعي (٣/١٨، ١٩)..
٣٠ أخرجه أبو داود (١٦٤١) والنسائي (٧/٢٥٩) والترمذي (١٢١٨) وابن ماجه (٢١٩٨) وغيرهم عن أنس. وسنده ضعيف ضعفه ابن القطان الفاسي كما في التلخيص الحبير لابن حجر (٣/١٥) والألباني في إرواء الغليل (١٢٨٩)..
٣١ عزا هذا القول ابن عبد البر لجماعة فقهاء الأمصار فيراجع التمهيد (٣/١٣٦، ١٣٧)..
٣٢ يراجع المحلى لابن حزم (٩/٢١٧ -٢٢١)..
٣٣ ينظر التمهيد (٣/١٣٧ و١٣٨)..
٣٤ يراجع الإشراف لعبد الوهاب (٢/٥٤٥، ٥٤٦)..
٣٥ ينظر الإشراف لعبد الوهاب (٢/٥٤٦) والأم للشافعي (٣/٥٩)..
٣٦ في ب "الآية"..
٣٧ في ب "نسيئة"..
٣٨ أخرجه البخاري من حديث ابن سامة بن زيد في البيوع (٢١٧٨، ٢١٧٩) ومسلم في المساقاة (١٥٩٦)..
٣٩ أخرج مسلم في المساقاة (١٥٨٧) من حديث عبادة بن الصامت مرفوعا: "الذهب بالذهب.." وفي آخره: "فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدا بيد" ويراجع كلام أبي العباس القرطبي في المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (٤/٤٧٥)..
٤٠ أخرجه مسلم في المساقاة من حديث عبادة بن الصامت (١٥٨٧)..
٤١ يراجع الإشراف لعبد الوهاب (٢/٥٢٧ -٥٢٩)..
٤٢ قال أبو عمر بن عبد البر في الاستذكار (٢٠/٤١): "وشذ داود فأجاز النسيئة والتفاضل فيما عدا البر والشعير، والتمر، والملح من الطعام، والآدام، لنص رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعموم قوله الله عز وجل: (وأحل الله البيع) |البقرة: ٢٧٥| فلم يضم إلى النسيئة المنصوصة في حديث عبادة، وغيره شيئا غيرها، وهي الذهب، والورق، والبر، والشعير، والتمر، والملح"..
٤٣ قال ابن حزم في المحلى (٨/٤٦٨): "وممن قال: لا إلا في الأصناف المذكورة طاوس، وقتادة وعثمان البتي وأبو سليمان وجميع أصحابنا" ويراجع بقية كلامه هناك فهو قوي..
٤٤ في ب "في "علة"..
٤٥ يراجع في هذا الاستذكار (٢٠/٣١ -٥٠) والمحلى لابن حزك (٨/ رقم ١٤٧٩ – ط منيرية) وفتح الباري (٤/٣٧٧ -٣٨٦) والمفهم للقرطبي (٤/٤٧٧ -٤٧٩) ونيل الأوطار للشوكاني (٥/١٩٠ -١٩٥)..
٤٦ في ب "خارجه"..
٤٧ في ب "لكن"..
وقوله تعالى :( يأكلون الربا ) أي يكسبون الربا ويفعلونه. وخصت لفظة الأكل لأنها أقوى مقاصد الإنسان في المال ولأنها دالة على الحرص والجمع، فأقيم هذا البعض٤ من توابع الكسب مقام الكسب كله فاللباس والسكنى والادخار والإنفاق على العيال وغير ذلك كله داخل تحت قوله :( الذين يأكلون ) ٥.
وقوله :( ذلك بأنهم قالوا ) الآية.
معناه عند جميع المتأولين الكفار وأنه قول تكذيب للشريعة ورد عليها، والآية كلها في الكفار المرابين نزلت.
ولهم قيل :( فله ما سلف ) ولا يقال ذلك لمؤمن عاص، ولكن يؤاخذ العصاة في الربا بطرف من وعيد الآية٦.
٢٧٨- وقوله تعالى :( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين ٢٧٨ ) الآية |البقرة : ٢٧٨|.
سبب نزولها أنه كان الربا بين الناس كثيرا في ذلك الوقت وكان بين قريش وثقيف ربا، فكان لهؤلاء على هؤلاء، فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قال في خطبته في اليوم الثاني من الفتح :" ألا كل ربا كان في الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب " ٧ فبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعمه وأخص الناس به، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة واستعمل عتاب بن أسيد على مكة، فلما استنزل أهل الطائف بعد ذلك إلى الإسلام اشترطوا شروطا منها ما أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنها ما لم يعطه. وكان في شروطهم أن كل ربا لهم على الناس فإنهم يأخذونه، وكل ربا عليهم هو موضوع عنهم. فيروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرر لهم هذه، فردها الله بهذه الآية كما رد طلحة لكفار قريش في رد النساء عليهم في عام الحديبية٨. وذكر بعضهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يكتب في أسفل الكتاب لثقيف " لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم " فلما جاءت آجال ربائهم بعثوا إلى مكة للاقتضاء، وكانت الديون لبني عنزة، وهم بنو عمرو بن عمير بن ثقيف على بني المغيرة المخزوميين. فقال بنو المغيرة : لا نعطي شيئا، فإن الربا قد وضع. ورفعوا أمرهم إلى عتاب بن أسيد بمكة، فكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية. فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عتاب، فعلمت به ثقيف، فكفت٩.
وأصل الربا في اللغة الزيادة إلا أن الشرع أثبت زيادات١٠ جائزة وحرم أنواعا من الزيادات ولكن إطلاق اللفظ يقتضي تحريم كل زيادة إلا ما خصه الشرع١١.
وقوله تعالى :( وأحل الله البيع وحرم الربا ) |البقرة : ٢٧٥|.
يقتضي جواز ما لا زيادة فيه إلا ما خصه الشرع١٢ أيضا. وقد اختلف الأصوليون في قوله تعالى :( وأحل الله البيع وحرم الربا ) هل هو عام أو مجمل ؟ والذي اختاره أكثر الفقهاء أنه عام١٣. ثم اختلفوا فمنهم من قال : هو من العموم الذي لا خصوص فيه، ولا يدخله الخصوص لأنه لا بيع إلا وهو حلال. أي أن البيوع الفاسدة لا يطلق عليها اسم البيع شرعا إلا مجازا فهي غير داخلة تحت قوله :( وأحل الله البيع ) وأجازوا أن يطلق عليها اسم البيع لغة. ومنهم من قال : هو من العموم الذي أريد به الخصوص. واختلف أهل هذه الطريقة فمنهم من يجعله فيما أريد به من ذلك من حيز العموم. ومنهم من يجعله من حيز المجمل. والأظهر أنه عام محمول على ظاهره إلا ما قام الدليل على خروجه منه. وإن تخصيص بعضه ليس بمانع من التعلق به، ولا موجب لاحتماله. وهذا هو الصحيح١٤. وقد جاءت أخبار في النهي عن بيوع مخصوصة اتفق الناس على تخصيص الآية بنهيها كنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر١٥، وبيع حبل الحبلة١٦، وبيع الملامسة والمنابذة١٧، وبيع الحصاة١٨، وبيع المضامين والملاقيح١٩ ونحو ذلك. وجاءت أخبار أخر اختلف الناس في التخصيص بها كبيع النجش٢٠، وبيع العربان٢١، وبيع الكلب٢٢ إلى غير ذلك. وكذلك القياس قد يخصص به قوم ولا يخصص به آخرون إلى غير ذلك من الأدلة المتفق عليها والمختلف فيها. فالبيوع على مذهبهم هذا ثلاثة أقسام، جائزة، ومحظورة ومكروهة. وهي المختلف فيها.
فالجائزة : هي التي لم يحظرها الشرع ولا ورد فيها نهي فتندرج تحت قوله تعالى :( وأحل الله البيع ) كل بيع إلا ما خص منه بالدليل والمحظورة : هي التي قام الدليل على تخصيصها من عموم الآية بالمنع منها.
والمختلف فيها : ما تجاذبه الطرفان. ونحن نسوق من ذلك أمثلة يتبين بالنظر فيها كيف تؤخذ الأحكام من الكتاب والسنة والإجماع. فمن ذلك : السلم، أجازه مالك وأصحابه في كل ما يضبط٢٣ بالصفة على شروط مسطورة في كتبهم. وذهب أبو حنيفة إلى أن السلم في الحيوان لا يجوز. وذهبت طائفة من أهل الظاهر إلى أن السلم، فيما عدا المكيل والموزون لا يجوز. ودليل مالك وأصحابه عموم الآية٢٤. ولم ينه صلى الله عليه وسلم عنه فبقي على أصل الإباحة الواردة في القرآن، مع قوله –عليه الصلاة والسلام- :" من سلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم " ٢٥ ومن ذلك بيع العين الغائبة وهو عند مالك جائز على الصفة، وعند الشافعي غير جائز وصف أو لم يوصف. وعند أبي حنيفة أنه جائز وصف أو لم يوصف إلا أنه يوجب٢٦ للمبتاع خيار الرؤية إذا رأى المبيع. وحجة مالك على الشافعي عموم الآية٢٧. ومن ذلك بيع الأعيان الحاضرة التي تشق رؤيتها كالأعدال تباع على البرنامج ونحوه أجازه مالك ومنعه الشافعي في أظهر قوليه٢٨. والحجة لمالك، قوله عز وجل :( وأحل الله البيع وحرم الربا ) وقوله :( إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) |النساء : ٢٩|٢٩.
وقد اختلفوا في بيع المزايدة، وعموم الآية حجة لمن أجازه مع ما ورد في الحديث في ذلك٣٠.
واختلف في بيع أمهات الأولاد، فقال كافة العلماء : إنهن لا يبعن بوجه وأنهن أحرار. وقول أهل الظاهر٣١ جواز بيعهن وعن الشافعي القولان. وقول علي –رضي الله عنه- أنهن يبعن في الدين خاصة٣٢. واحتج من نصر قول أهل الظاهر بقول الله تعالى :( وأحل الله البيع وحرم الربا ) ٣٣ وهذا لا حجة فيه بأن يتخصص بأدلة معلومة. ومن ذلك بيع الجوز، واللوز، والباقلاء في قشره الأعلى أجازه مالك ومنعه الشافعي وأبو حنيفة. وحجة عموم قوله تعالى :( وأحل الله البيع ) ٣٤. ومن ذلك بيع السنبل إذا يبس واستغنى عن الماء قائما على اختلاف في المذهب وحزما على اختلاف فيه أيضا في المذهب وأجاز مالك كله في المشهور عنه. ومنعه الشافعي في أحد قوليه والحجة لمالك عموم الآية٣٥.
وأما بيع الحنطة مدروسة مع سنبلها فلا يجوز باتفاق في المذهب، وفي خارج المذهب اختلاف. ومن ذلك بيع المرابحة أجازه مالك وأصحابه وكرهه ابن عباس وجماعة من التابعين. وحجة مالك رحمه الله قوله تعالى٣٦ :( وأحل الله البيع ) وإذا قلنا بعموم الآية فجعلنا كل بيع جائزا إلا ما قام الدليل عليه، فكذلك تجعل كل ما فيه ربا وهو الزيادة محظورا إلا ما قام الدليل على جوازه.
ونضبط في ذلك أصلا فنقول : البيع يقع نقدا ويقع نساء٣٧ فأما بيع النقد، فيجوز التفاضل فيه والتماثل والبيع كيف يشاء ما لم يكن التبايع في الأثمان والأطعمة المقتاتة، فلا يجوز فيها التفاضل مع الجنسية، ولا يباع المثل منها بمثله إلا متساويا. وإن اختلف التفاضل فيما سوى هذين القسمين جاز بيعه على الإطلاق، فيحصل من هذا أن التفاضل مع الاختلاف في بيع النقود يجوز على الإطلاق، والتفاضل مع التماثل يجوز إلا في ما قدمنا من الأثمان والمقتاتات.
وقد ذهب بعضهم إلى أن لا ربا في النقد، وإنما الربا في النسيئة ورأى أن سياق الآية يدل على أن المذكور في كتاب الله تعالى، ربا النساء فقط فإنه قال :( فله ما سلف ) ( وذروا ما بقي من الربا ) وقال :( وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ) |البقرة : ٢٨٠| وقال :( وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم ) |البقرة : ٢٧٩| واحتجوا بالحديث :" إنما الربا في النسيئة " ٣٨ قالوا : فخص الربا بالنسيئة، وجعلوا ذلك بيانا لقوله تعالى :( وحرم الربا ) وهذا مذهب لا خفاء في فساده. ودليلنا على الجواز مع اختلاف الأجناس قوله تعالى :( وأحل الله البيع وحرم الربا ) وقوله –عليه الصلاة والسلام- :" إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم " ٣٩ ودليلنا على جواز التفاضل فيه بالمتماثلات فيما سوى الثمن والمقتاتات، قوله تعالى :( وأحل الله البيع ). وأيضا فلو كان التفاضل في سائر الأشياء ممنوعا لم يكن لتخصيص النبي صلى الله عليه وسلم ستة أشياء بتحريم التفاضل معنى، ولقال التفاضل حرام عليكم في كل شيء، ولكن لما نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع هذه الستة " الذهب بالذهب والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح إلا سواء بسواء عينا بعين، فمن زاد، أو ازداد فقد أربى " ٤٠، وخصه بنهيه دل على أن التحريم ليس بعام في جميع الأشياء. وإنما يبقى النظر في هذه الستة هل الربا في بيع النقد مقصور عليها، فيكون تحريمها غير معقول المعنى ؟ أو يكون لتحريمها دون غيرها معنى فيطلب ذلك المعنى، فحيث وجد حرم قياسا على الستة ودخل في عموم قوله تعالى :( وحرم الربا ) ٤١ :
فأما أهل الظاهر فقصروا التحريم عليها وأباحوا التفاضل في سائر الأشياء سواها، واحتجوا بعموم قوله تعالى :( وأحل الله البيع وحرم الربا ) ٤٢. وهذا القول مبني على رأيهم في إنكار القياس٤٣.
فأما جمهور العلماء المثبتون للقياس فإنهم طلبوا لذلك معنى وألحقوا به ما وافقه في ذلك المعنى، وخصصوا، وبينوا به قوله تعالى :( وأحل الله البيع وحرم الربا ) أما مالك فحرم التفاضل فيها لأمرين، أما الذهب والفضة فلكونهما ثمنين. وأما الأربعة المطعومة فلكونها تدخر للقوت أو تصلح للقوت. وبعضهم يزيد في العلة أصلا للمعاش غالبا، وبعضهم يسقطه. وقد قدمنا أن ذلك كله مع تماثل الجنس.
وأما الشافعي فوافقه على٤٤ العلة في الذهب والفضة وخالفه في الأربعة، واعتقد أن العلة فيها كونها مطعومة. وأما أبو حنيفة فخالفهما في الجميع واعتقد أن العلة في الذهب والفضة الوزن وفي الأربعة الكيل. وأما سعيد بن المسيب فوافق مالكا والشافعي في الذهب والفضة وخالف في الأربعة، واعتقد أن العلة فيها الكيل والوزن والطعم٤٥. فهي خمسة أقوال في تحرير علة منع التفاضل في هذه المبيعات قولان في المذهب، وثلاثة خارج المذهب٤٦. وإذا فرغنا من الكلام في ربا النقد فلنتكلم على الربا في النسيئة، واعلم أن الربا يدخل في الستة المذكورة في الحديث وما قيس عليها سواء اتفقت الأجناس أو اختلفت. فالذي تدل عليه الآية تحريم الزيادة في النساء، ولا دلالة فيها على تحريم النساء من غير زيادة في نفس المال، ومن أجل ذلك جوز مالك القرض وإن كان الشافعي قد منعه لكنه٤٧ لم يمنعه من جهة الآية لكن من جهة أخرى، فلا يجوز النساء في شيء من تلك، وأما الستة وما قيس عليها فلا يدخل الربا في بيع النسيئة فيها إذا اختلفت الأجناس، كسلم عبد في ثوبين، فإن تسا
٢ في أ "الأعراب" والمثبت موافق لما في المحرر الوجيز..
٣ قاله ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/٢٦٩)..
٤ في ب "اللفظ"..
٥ قاله في الموضوعين ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/٢٧٠، ٢٧١)..
٦ في ب "قررهم على هذا، ثم ردهم الله"..
٧ أخرجه من حديث جابر بن عبد الله مسلم في الحج (١٢١٨) وأبو داود (١٩٠٥) والنسائي (٥/١٤٣، ١٤٤) وابن ماجه (٣٠٧٤) والدارمي (١٨٥٠، ١٨٥١) وابن حبان (الإحسان: ٣٩٤٣، ٣٩٤٤)..
٨ يراجع تفسير الطبري (٣/١٣٨). والعجاب في بيان الأسباب لابن حجر (ص ٤٦٠، ٤٦١).
.
٩ يراجع تفسير الطبري (٣/١٣٨) والعجاب لابن حجر (ص ٤٦٠ -٤٦٣)..
١٠ في ن "زيادة"..
١١ قاله أبو الحسن الهراسي في أحكام القرآن (١/٢٣١، ٢٣٢) وفيه اختلاف لا يضر من جهة المعنى مرده إلى تصرف المؤلف رحمه الله أو للنسخ..
١٢ يراجع كلام الهراسي في المصدر السابق (١/٢٣٢)..
١٣ يراجع المحرر الوجيز لابن عطية (٢/٢٧١)..
١٤ واختاره ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/٢٧١) وأحكام القرآن لابن العربي (١/٢٤٠ -٢٤٥) وتفسير القرطبي (٣/٣٥٦ -٣٥٨)..
١٥ أخرجه عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر" مسلم في البيوع (١٥١٣) ومعنى الغرر الخطر والغرور والخداع..
١٦ أخرج البخاري عن ابن عمر في البيوع (٢١٤٣) ومسلم في البيوع (١٥١٤) ومعناه: بيع بثمن مؤجل إلى أن تلد الناقة ويلد ولدها. وقال آخرون: هو بيع ولد الناقة الحامل في الحال..
١٧ أخرجه عن أبي هريرة البخاري في البيوع (٢١٤٢) ومسلم في البيوع (١٥١١) أما الملامسة: فأن يلمس كل واحد منهما ثوب صاحبه بغير تأمل والمنابذة: أن ينبذ كل واحد منهما ثوبه إلى الآخر، ولم ينظر واحد منهما إلى ثوب صاحبه..
١٨ فيه تأويلات منها أن يقول: بعتك من هذه الأثواب ما وقعت عليه الحصاة التي أرميها ويراجع شرح النووي على مسلم (١٠/١٥٦)..
١٩ المضامين: بيع ما في بطون إناث الإبل والملاقيح: بيع ما على ظهور الجمال. ويراجع الموطأ، كتاب البيوع (٢/١٩٤ -١٩٦)..
٢٠ أخرجه عن أبي هريرة البخاري في البيوع (٢١٥٠) ومسلم في البيوع (١٥١٥) والنجش هو إثارة الرغبة في شراء السلعة ليرفع ثمنها وهو نوع من الخداع..
٢١ فيه حديث ضعيف من حديث عبد الله بن عمرو، رواه أبو داود (٢٠٣٥) وابن ماجه (٢١٩٢) وأحمد (٢/١٨٣) وضعفه غير واحد..
٢٢ في ذلك حديث عن أبي مسعود الأنصاري أخرجه البخاري في الإجازة (٢٢٨٢) ومسلم في المساقاة (١٥٦٧)..
٢٣ في ب "ينضبط"..
٢٤ يراجع أحكام القرآن للجصاص (٢/١٨٤ -١٨٦) والإشراف لعبد الوهاب (٢/٥٦٧، ٥٦٨)..
٢٥ أخرجه عن ابن عباس البخاري في السلم (٢٢٤٠) ومسلم في المساقاة (١٦٠٤) بلفظ "من أسلق في شيء.. فليسلف" ولم هذا اللفظ إلا في الجمع بين الصحيحين لعبد الحق الاشبيلي (٢/٥٦٦ بتحقيقي) وقد يكون ذلك في بعض نسخ الصحيح والله أعلم ويراجع الفتح لابن حجر (٤/٤٣٢)..
٢٦ في أ "يجب"..
٢٧ يراجع المدونة لسحنون (٤/٢٠٧، ٢١٠، ٢١١)..
٢٨ في ب "ظاهر قوله"..
٢٩ يراجع المدونة لسحنون (٤/٢١٠ -٢١٣) والأم للشافعي (٣/١٨، ١٩)..
٣٠ أخرجه أبو داود (١٦٤١) والنسائي (٧/٢٥٩) والترمذي (١٢١٨) وابن ماجه (٢١٩٨) وغيرهم عن أنس. وسنده ضعيف ضعفه ابن القطان الفاسي كما في التلخيص الحبير لابن حجر (٣/١٥) والألباني في إرواء الغليل (١٢٨٩)..
٣١ عزا هذا القول ابن عبد البر لجماعة فقهاء الأمصار فيراجع التمهيد (٣/١٣٦، ١٣٧)..
٣٢ يراجع المحلى لابن حزم (٩/٢١٧ -٢٢١)..
٣٣ ينظر التمهيد (٣/١٣٧ و١٣٨)..
٣٤ يراجع الإشراف لعبد الوهاب (٢/٥٤٥، ٥٤٦)..
٣٥ ينظر الإشراف لعبد الوهاب (٢/٥٤٦) والأم للشافعي (٣/٥٩)..
٣٦ في ب "الآية"..
٣٧ في ب "نسيئة"..
٣٨ أخرجه البخاري من حديث ابن سامة بن زيد في البيوع (٢١٧٨، ٢١٧٩) ومسلم في المساقاة (١٥٩٦)..
٣٩ أخرج مسلم في المساقاة (١٥٨٧) من حديث عبادة بن الصامت مرفوعا: "الذهب بالذهب.." وفي آخره: "فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدا بيد" ويراجع كلام أبي العباس القرطبي في المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (٤/٤٧٥)..
٤٠ أخرجه مسلم في المساقاة من حديث عبادة بن الصامت (١٥٨٧)..
٤١ يراجع الإشراف لعبد الوهاب (٢/٥٢٧ -٥٢٩)..
٤٢ قال أبو عمر بن عبد البر في الاستذكار (٢٠/٤١): "وشذ داود فأجاز النسيئة والتفاضل فيما عدا البر والشعير، والتمر، والملح من الطعام، والآدام، لنص رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعموم قوله الله عز وجل: (وأحل الله البيع) |البقرة: ٢٧٥| فلم يضم إلى النسيئة المنصوصة في حديث عبادة، وغيره شيئا غيرها، وهي الذهب، والورق، والبر، والشعير، والتمر، والملح"..
٤٣ قال ابن حزم في المحلى (٨/٤٦٨): "وممن قال: لا إلا في الأصناف المذكورة طاوس، وقتادة وعثمان البتي وأبو سليمان وجميع أصحابنا" ويراجع بقية كلامه هناك فهو قوي..
٤٤ في ب "في "علة"..
٤٥ يراجع في هذا الاستذكار (٢٠/٣١ -٥٠) والمحلى لابن حزك (٨/ رقم ١٤٧٩ – ط منيرية) وفتح الباري (٤/٣٧٧ -٣٨٦) والمفهم للقرطبي (٤/٤٧٧ -٤٧٩) ونيل الأوطار للشوكاني (٥/١٩٠ -١٩٥)..
٤٦ في ب "خارجه"..
٤٧ في ب "لكن"..
وقوله تعالى :( يأكلون الربا ) أي يكسبون الربا ويفعلونه. وخصت لفظة الأكل لأنها أقوى مقاصد الإنسان في المال ولأنها دالة على الحرص والجمع، فأقيم هذا البعض٤ من توابع الكسب مقام الكسب كله فاللباس والسكنى والادخار والإنفاق على العيال وغير ذلك كله داخل تحت قوله :( الذين يأكلون ) ٥.
وقوله :( ذلك بأنهم قالوا ) الآية.
معناه عند جميع المتأولين الكفار وأنه قول تكذيب للشريعة ورد عليها، والآية كلها في الكفار المرابين نزلت.
ولهم قيل :( فله ما سلف ) ولا يقال ذلك لمؤمن عاص، ولكن يؤاخذ العصاة في الربا بطرف من وعيد الآية٦.
٢٧٨- وقوله تعالى :( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين ٢٧٨ ) الآية |البقرة : ٢٧٨|.
سبب نزولها أنه كان الربا بين الناس كثيرا في ذلك الوقت وكان بين قريش وثقيف ربا، فكان لهؤلاء على هؤلاء، فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قال في خطبته في اليوم الثاني من الفتح :" ألا كل ربا كان في الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب " ٧ فبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعمه وأخص الناس به، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة واستعمل عتاب بن أسيد على مكة، فلما استنزل أهل الطائف بعد ذلك إلى الإسلام اشترطوا شروطا منها ما أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنها ما لم يعطه. وكان في شروطهم أن كل ربا لهم على الناس فإنهم يأخذونه، وكل ربا عليهم هو موضوع عنهم. فيروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرر لهم هذه، فردها الله بهذه الآية كما رد طلحة لكفار قريش في رد النساء عليهم في عام الحديبية٨. وذكر بعضهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يكتب في أسفل الكتاب لثقيف " لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم " فلما جاءت آجال ربائهم بعثوا إلى مكة للاقتضاء، وكانت الديون لبني عنزة، وهم بنو عمرو بن عمير بن ثقيف على بني المغيرة المخزوميين. فقال بنو المغيرة : لا نعطي شيئا، فإن الربا قد وضع. ورفعوا أمرهم إلى عتاب بن أسيد بمكة، فكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية. فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عتاب، فعلمت به ثقيف، فكفت٩.
وأصل الربا في اللغة الزيادة إلا أن الشرع أثبت زيادات١٠ جائزة وحرم أنواعا من الزيادات ولكن إطلاق اللفظ يقتضي تحريم كل زيادة إلا ما خصه الشرع١١.
وقوله تعالى :( وأحل الله البيع وحرم الربا ) |البقرة : ٢٧٥|.
يقتضي جواز ما لا زيادة فيه إلا ما خصه الشرع١٢ أيضا. وقد اختلف الأصوليون في قوله تعالى :( وأحل الله البيع وحرم الربا ) هل هو عام أو مجمل ؟ والذي اختاره أكثر الفقهاء أنه عام١٣. ثم اختلفوا فمنهم من قال : هو من العموم الذي لا خصوص فيه، ولا يدخله الخصوص لأنه لا بيع إلا وهو حلال. أي أن البيوع الفاسدة لا يطلق عليها اسم البيع شرعا إلا مجازا فهي غير داخلة تحت قوله :( وأحل الله البيع ) وأجازوا أن يطلق عليها اسم البيع لغة. ومنهم من قال : هو من العموم الذي أريد به الخصوص. واختلف أهل هذه الطريقة فمنهم من يجعله فيما أريد به من ذلك من حيز العموم. ومنهم من يجعله من حيز المجمل. والأظهر أنه عام محمول على ظاهره إلا ما قام الدليل على خروجه منه. وإن تخصيص بعضه ليس بمانع من التعلق به، ولا موجب لاحتماله. وهذا هو الصحيح١٤. وقد جاءت أخبار في النهي عن بيوع مخصوصة اتفق الناس على تخصيص الآية بنهيها كنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر١٥، وبيع حبل الحبلة١٦، وبيع الملامسة والمنابذة١٧، وبيع الحصاة١٨، وبيع المضامين والملاقيح١٩ ونحو ذلك. وجاءت أخبار أخر اختلف الناس في التخصيص بها كبيع النجش٢٠، وبيع العربان٢١، وبيع الكلب٢٢ إلى غير ذلك. وكذلك القياس قد يخصص به قوم ولا يخصص به آخرون إلى غير ذلك من الأدلة المتفق عليها والمختلف فيها. فالبيوع على مذهبهم هذا ثلاثة أقسام، جائزة، ومحظورة ومكروهة. وهي المختلف فيها.
فالجائزة : هي التي لم يحظرها الشرع ولا ورد فيها نهي فتندرج تحت قوله تعالى :( وأحل الله البيع ) كل بيع إلا ما خص منه بالدليل والمحظورة : هي التي قام الدليل على تخصيصها من عموم الآية بالمنع منها.
والمختلف فيها : ما تجاذبه الطرفان. ونحن نسوق من ذلك أمثلة يتبين بالنظر فيها كيف تؤخذ الأحكام من الكتاب والسنة والإجماع. فمن ذلك : السلم، أجازه مالك وأصحابه في كل ما يضبط٢٣ بالصفة على شروط مسطورة في كتبهم. وذهب أبو حنيفة إلى أن السلم في الحيوان لا يجوز. وذهبت طائفة من أهل الظاهر إلى أن السلم، فيما عدا المكيل والموزون لا يجوز. ودليل مالك وأصحابه عموم الآية٢٤. ولم ينه صلى الله عليه وسلم عنه فبقي على أصل الإباحة الواردة في القرآن، مع قوله –عليه الصلاة والسلام- :" من سلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم " ٢٥ ومن ذلك بيع العين الغائبة وهو عند مالك جائز على الصفة، وعند الشافعي غير جائز وصف أو لم يوصف. وعند أبي حنيفة أنه جائز وصف أو لم يوصف إلا أنه يوجب٢٦ للمبتاع خيار الرؤية إذا رأى المبيع. وحجة مالك على الشافعي عموم الآية٢٧. ومن ذلك بيع الأعيان الحاضرة التي تشق رؤيتها كالأعدال تباع على البرنامج ونحوه أجازه مالك ومنعه الشافعي في أظهر قوليه٢٨. والحجة لمالك، قوله عز وجل :( وأحل الله البيع وحرم الربا ) وقوله :( إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) |النساء : ٢٩|٢٩.
وقد اختلفوا في بيع المزايدة، وعموم الآية حجة لمن أجازه مع ما ورد في الحديث في ذلك٣٠.
واختلف في بيع أمهات الأولاد، فقال كافة العلماء : إنهن لا يبعن بوجه وأنهن أحرار. وقول أهل الظاهر٣١ جواز بيعهن وعن الشافعي القولان. وقول علي –رضي الله عنه- أنهن يبعن في الدين خاصة٣٢. واحتج من نصر قول أهل الظاهر بقول الله تعالى :( وأحل الله البيع وحرم الربا ) ٣٣ وهذا لا حجة فيه بأن يتخصص بأدلة معلومة. ومن ذلك بيع الجوز، واللوز، والباقلاء في قشره الأعلى أجازه مالك ومنعه الشافعي وأبو حنيفة. وحجة عموم قوله تعالى :( وأحل الله البيع ) ٣٤. ومن ذلك بيع السنبل إذا يبس واستغنى عن الماء قائما على اختلاف في المذهب وحزما على اختلاف فيه أيضا في المذهب وأجاز مالك كله في المشهور عنه. ومنعه الشافعي في أحد قوليه والحجة لمالك عموم الآية٣٥.
وأما بيع الحنطة مدروسة مع سنبلها فلا يجوز باتفاق في المذهب، وفي خارج المذهب اختلاف. ومن ذلك بيع المرابحة أجازه مالك وأصحابه وكرهه ابن عباس وجماعة من التابعين. وحجة مالك رحمه الله قوله تعالى٣٦ :( وأحل الله البيع ) وإذا قلنا بعموم الآية فجعلنا كل بيع جائزا إلا ما قام الدليل عليه، فكذلك تجعل كل ما فيه ربا وهو الزيادة محظورا إلا ما قام الدليل على جوازه.
ونضبط في ذلك أصلا فنقول : البيع يقع نقدا ويقع نساء٣٧ فأما بيع النقد، فيجوز التفاضل فيه والتماثل والبيع كيف يشاء ما لم يكن التبايع في الأثمان والأطعمة المقتاتة، فلا يجوز فيها التفاضل مع الجنسية، ولا يباع المثل منها بمثله إلا متساويا. وإن اختلف التفاضل فيما سوى هذين القسمين جاز بيعه على الإطلاق، فيحصل من هذا أن التفاضل مع الاختلاف في بيع النقود يجوز على الإطلاق، والتفاضل مع التماثل يجوز إلا في ما قدمنا من الأثمان والمقتاتات.
وقد ذهب بعضهم إلى أن لا ربا في النقد، وإنما الربا في النسيئة ورأى أن سياق الآية يدل على أن المذكور في كتاب الله تعالى، ربا النساء فقط فإنه قال :( فله ما سلف ) ( وذروا ما بقي من الربا ) وقال :( وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ) |البقرة : ٢٨٠| وقال :( وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم ) |البقرة : ٢٧٩| واحتجوا بالحديث :" إنما الربا في النسيئة " ٣٨ قالوا : فخص الربا بالنسيئة، وجعلوا ذلك بيانا لقوله تعالى :( وحرم الربا ) وهذا مذهب لا خفاء في فساده. ودليلنا على الجواز مع اختلاف الأجناس قوله تعالى :( وأحل الله البيع وحرم الربا ) وقوله –عليه الصلاة والسلام- :" إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم " ٣٩ ودليلنا على جواز التفاضل فيه بالمتماثلات فيما سوى الثمن والمقتاتات، قوله تعالى :( وأحل الله البيع ). وأيضا فلو كان التفاضل في سائر الأشياء ممنوعا لم يكن لتخصيص النبي صلى الله عليه وسلم ستة أشياء بتحريم التفاضل معنى، ولقال التفاضل حرام عليكم في كل شيء، ولكن لما نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع هذه الستة " الذهب بالذهب والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح إلا سواء بسواء عينا بعين، فمن زاد، أو ازداد فقد أربى " ٤٠، وخصه بنهيه دل على أن التحريم ليس بعام في جميع الأشياء. وإنما يبقى النظر في هذه الستة هل الربا في بيع النقد مقصور عليها، فيكون تحريمها غير معقول المعنى ؟ أو يكون لتحريمها دون غيرها معنى فيطلب ذلك المعنى، فحيث وجد حرم قياسا على الستة ودخل في عموم قوله تعالى :( وحرم الربا ) ٤١ :
فأما أهل الظاهر فقصروا التحريم عليها وأباحوا التفاضل في سائر الأشياء سواها، واحتجوا بعموم قوله تعالى :( وأحل الله البيع وحرم الربا ) ٤٢. وهذا القول مبني على رأيهم في إنكار القياس٤٣.
فأما جمهور العلماء المثبتون للقياس فإنهم طلبوا لذلك معنى وألحقوا به ما وافقه في ذلك المعنى، وخصصوا، وبينوا به قوله تعالى :( وأحل الله البيع وحرم الربا ) أما مالك فحرم التفاضل فيها لأمرين، أما الذهب والفضة فلكونهما ثمنين. وأما الأربعة المطعومة فلكونها تدخر للقوت أو تصلح للقوت. وبعضهم يزيد في العلة أصلا للمعاش غالبا، وبعضهم يسقطه. وقد قدمنا أن ذلك كله مع تماثل الجنس.
وأما الشافعي فوافقه على٤٤ العلة في الذهب والفضة وخالفه في الأربعة، واعتقد أن العلة فيها كونها مطعومة. وأما أبو حنيفة فخالفهما في الجميع واعتقد أن العلة في الذهب والفضة الوزن وفي الأربعة الكيل. وأما سعيد بن المسيب فوافق مالكا والشافعي في الذهب والفضة وخالف في الأربعة، واعتقد أن العلة فيها الكيل والوزن والطعم٤٥. فهي خمسة أقوال في تحرير علة منع التفاضل في هذه المبيعات قولان في المذهب، وثلاثة خارج المذهب٤٦. وإذا فرغنا من الكلام في ربا النقد فلنتكلم على الربا في النسيئة، واعلم أن الربا يدخل في الستة المذكورة في الحديث وما قيس عليها سواء اتفقت الأجناس أو اختلفت. فالذي تدل عليه الآية تحريم الزيادة في النساء، ولا دلالة فيها على تحريم النساء من غير زيادة في نفس المال، ومن أجل ذلك جوز مالك القرض وإن كان الشافعي قد منعه لكنه٤٧ لم يمنعه من جهة الآية لكن من جهة أخرى، فلا يجوز النساء في شيء من تلك، وأما الستة وما قيس عليها فلا يدخل الربا في بيع النسيئة فيها إذا اختلفت الأجناس، كسلم عبد في ثوبين، فإن تسا
٢ في أ "الأعراب" والمثبت موافق لما في المحرر الوجيز..
٣ قاله ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/٢٦٩)..
٤ في ب "اللفظ"..
٥ قاله في الموضوعين ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/٢٧٠، ٢٧١)..
٦ في ب "قررهم على هذا، ثم ردهم الله"..
٧ أخرجه من حديث جابر بن عبد الله مسلم في الحج (١٢١٨) وأبو داود (١٩٠٥) والنسائي (٥/١٤٣، ١٤٤) وابن ماجه (٣٠٧٤) والدارمي (١٨٥٠، ١٨٥١) وابن حبان (الإحسان: ٣٩٤٣، ٣٩٤٤)..
٨ يراجع تفسير الطبري (٣/١٣٨). والعجاب في بيان الأسباب لابن حجر (ص ٤٦٠، ٤٦١).
.
٩ يراجع تفسير الطبري (٣/١٣٨) والعجاب لابن حجر (ص ٤٦٠ -٤٦٣)..
١٠ في ن "زيادة"..
١١ قاله أبو الحسن الهراسي في أحكام القرآن (١/٢٣١، ٢٣٢) وفيه اختلاف لا يضر من جهة المعنى مرده إلى تصرف المؤلف رحمه الله أو للنسخ..
١٢ يراجع كلام الهراسي في المصدر السابق (١/٢٣٢)..
١٣ يراجع المحرر الوجيز لابن عطية (٢/٢٧١)..
١٤ واختاره ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/٢٧١) وأحكام القرآن لابن العربي (١/٢٤٠ -٢٤٥) وتفسير القرطبي (٣/٣٥٦ -٣٥٨)..
١٥ أخرجه عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر" مسلم في البيوع (١٥١٣) ومعنى الغرر الخطر والغرور والخداع..
١٦ أخرج البخاري عن ابن عمر في البيوع (٢١٤٣) ومسلم في البيوع (١٥١٤) ومعناه: بيع بثمن مؤجل إلى أن تلد الناقة ويلد ولدها. وقال آخرون: هو بيع ولد الناقة الحامل في الحال..
١٧ أخرجه عن أبي هريرة البخاري في البيوع (٢١٤٢) ومسلم في البيوع (١٥١١) أما الملامسة: فأن يلمس كل واحد منهما ثوب صاحبه بغير تأمل والمنابذة: أن ينبذ كل واحد منهما ثوبه إلى الآخر، ولم ينظر واحد منهما إلى ثوب صاحبه..
١٨ فيه تأويلات منها أن يقول: بعتك من هذه الأثواب ما وقعت عليه الحصاة التي أرميها ويراجع شرح النووي على مسلم (١٠/١٥٦)..
١٩ المضامين: بيع ما في بطون إناث الإبل والملاقيح: بيع ما على ظهور الجمال. ويراجع الموطأ، كتاب البيوع (٢/١٩٤ -١٩٦)..
٢٠ أخرجه عن أبي هريرة البخاري في البيوع (٢١٥٠) ومسلم في البيوع (١٥١٥) والنجش هو إثارة الرغبة في شراء السلعة ليرفع ثمنها وهو نوع من الخداع..
٢١ فيه حديث ضعيف من حديث عبد الله بن عمرو، رواه أبو داود (٢٠٣٥) وابن ماجه (٢١٩٢) وأحمد (٢/١٨٣) وضعفه غير واحد..
٢٢ في ذلك حديث عن أبي مسعود الأنصاري أخرجه البخاري في الإجازة (٢٢٨٢) ومسلم في المساقاة (١٥٦٧)..
٢٣ في ب "ينضبط"..
٢٤ يراجع أحكام القرآن للجصاص (٢/١٨٤ -١٨٦) والإشراف لعبد الوهاب (٢/٥٦٧، ٥٦٨)..
٢٥ أخرجه عن ابن عباس البخاري في السلم (٢٢٤٠) ومسلم في المساقاة (١٦٠٤) بلفظ "من أسلق في شيء.. فليسلف" ولم هذا اللفظ إلا في الجمع بين الصحيحين لعبد الحق الاشبيلي (٢/٥٦٦ بتحقيقي) وقد يكون ذلك في بعض نسخ الصحيح والله أعلم ويراجع الفتح لابن حجر (٤/٤٣٢)..
٢٦ في أ "يجب"..
٢٧ يراجع المدونة لسحنون (٤/٢٠٧، ٢١٠، ٢١١)..
٢٨ في ب "ظاهر قوله"..
٢٩ يراجع المدونة لسحنون (٤/٢١٠ -٢١٣) والأم للشافعي (٣/١٨، ١٩)..
٣٠ أخرجه أبو داود (١٦٤١) والنسائي (٧/٢٥٩) والترمذي (١٢١٨) وابن ماجه (٢١٩٨) وغيرهم عن أنس. وسنده ضعيف ضعفه ابن القطان الفاسي كما في التلخيص الحبير لابن حجر (٣/١٥) والألباني في إرواء الغليل (١٢٨٩)..
٣١ عزا هذا القول ابن عبد البر لجماعة فقهاء الأمصار فيراجع التمهيد (٣/١٣٦، ١٣٧)..
٣٢ يراجع المحلى لابن حزم (٩/٢١٧ -٢٢١)..
٣٣ ينظر التمهيد (٣/١٣٧ و١٣٨)..
٣٤ يراجع الإشراف لعبد الوهاب (٢/٥٤٥، ٥٤٦)..
٣٥ ينظر الإشراف لعبد الوهاب (٢/٥٤٦) والأم للشافعي (٣/٥٩)..
٣٦ في ب "الآية"..
٣٧ في ب "نسيئة"..
٣٨ أخرجه البخاري من حديث ابن سامة بن زيد في البيوع (٢١٧٨، ٢١٧٩) ومسلم في المساقاة (١٥٩٦)..
٣٩ أخرج مسلم في المساقاة (١٥٨٧) من حديث عبادة بن الصامت مرفوعا: "الذهب بالذهب.." وفي آخره: "فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدا بيد" ويراجع كلام أبي العباس القرطبي في المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (٤/٤٧٥)..
٤٠ أخرجه مسلم في المساقاة من حديث عبادة بن الصامت (١٥٨٧)..
٤١ يراجع الإشراف لعبد الوهاب (٢/٥٢٧ -٥٢٩)..
٤٢ قال أبو عمر بن عبد البر في الاستذكار (٢٠/٤١): "وشذ داود فأجاز النسيئة والتفاضل فيما عدا البر والشعير، والتمر، والملح من الطعام، والآدام، لنص رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعموم قوله الله عز وجل: (وأحل الله البيع) |البقرة: ٢٧٥| فلم يضم إلى النسيئة المنصوصة في حديث عبادة، وغيره شيئا غيرها، وهي الذهب، والورق، والبر، والشعير، والتمر، والملح"..
٤٣ قال ابن حزم في المحلى (٨/٤٦٨): "وممن قال: لا إلا في الأصناف المذكورة طاوس، وقتادة وعثمان البتي وأبو سليمان وجميع أصحابنا" ويراجع بقية كلامه هناك فهو قوي..
٤٤ في ب "في "علة"..
٤٥ يراجع في هذا الاستذكار (٢٠/٣١ -٥٠) والمحلى لابن حزك (٨/ رقم ١٤٧٩ – ط منيرية) وفتح الباري (٤/٣٧٧ -٣٨٦) والمفهم للقرطبي (٤/٤٧٧ -٤٧٩) ونيل الأوطار للشوكاني (٥/١٩٠ -١٩٥)..
٤٦ في ب "خارجه"..
٤٧ في ب "لكن"..
وقوله تعالى :( يأكلون الربا ) أي يكسبون الربا ويفعلونه. وخصت لفظة الأكل لأنها أقوى مقاصد الإنسان في المال ولأنها دالة على الحرص والجمع، فأقيم هذا البعض٤ من توابع الكسب مقام الكسب كله فاللباس والسكنى والادخار والإنفاق على العيال وغير ذلك كله داخل تحت قوله :( الذين يأكلون ) ٥.
وقوله :( ذلك بأنهم قالوا ) الآية.
معناه عند جميع المتأولين الكفار وأنه قول تكذيب للشريعة ورد عليها، والآية كلها في الكفار المرابين نزلت.
ولهم قيل :( فله ما سلف ) ولا يقال ذلك لمؤمن عاص، ولكن يؤاخذ العصاة في الربا بطرف من وعيد الآية٦.
٢٧٨- وقوله تعالى :( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين ٢٧٨ ) الآية |البقرة : ٢٧٨|.
سبب نزولها أنه كان الربا بين الناس كثيرا في ذلك الوقت وكان بين قريش وثقيف ربا، فكان لهؤلاء على هؤلاء، فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قال في خطبته في اليوم الثاني من الفتح :" ألا كل ربا كان في الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب " ٧ فبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعمه وأخص الناس به، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة واستعمل عتاب بن أسيد على مكة، فلما استنزل أهل الطائف بعد ذلك إلى الإسلام اشترطوا شروطا منها ما أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنها ما لم يعطه. وكان في شروطهم أن كل ربا لهم على الناس فإنهم يأخذونه، وكل ربا عليهم هو موضوع عنهم. فيروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرر لهم هذه، فردها الله بهذه الآية كما رد طلحة لكفار قريش في رد النساء عليهم في عام الحديبية٨. وذكر بعضهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يكتب في أسفل الكتاب لثقيف " لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم " فلما جاءت آجال ربائهم بعثوا إلى مكة للاقتضاء، وكانت الديون لبني عنزة، وهم بنو عمرو بن عمير بن ثقيف على بني المغيرة المخزوميين. فقال بنو المغيرة : لا نعطي شيئا، فإن الربا قد وضع. ورفعوا أمرهم إلى عتاب بن أسيد بمكة، فكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية. فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عتاب، فعلمت به ثقيف، فكفت٩.
وأصل الربا في اللغة الزيادة إلا أن الشرع أثبت زيادات١٠ جائزة وحرم أنواعا من الزيادات ولكن إطلاق اللفظ يقتضي تحريم كل زيادة إلا ما خصه الشرع١١.
وقوله تعالى :( وأحل الله البيع وحرم الربا ) |البقرة : ٢٧٥|.
يقتضي جواز ما لا زيادة فيه إلا ما خصه الشرع١٢ أيضا. وقد اختلف الأصوليون في قوله تعالى :( وأحل الله البيع وحرم الربا ) هل هو عام أو مجمل ؟ والذي اختاره أكثر الفقهاء أنه عام١٣. ثم اختلفوا فمنهم من قال : هو من العموم الذي لا خصوص فيه، ولا يدخله الخصوص لأنه لا بيع إلا وهو حلال. أي أن البيوع الفاسدة لا يطلق عليها اسم البيع شرعا إلا مجازا فهي غير داخلة تحت قوله :( وأحل الله البيع ) وأجازوا أن يطلق عليها اسم البيع لغة. ومنهم من قال : هو من العموم الذي أريد به الخصوص. واختلف أهل هذه الطريقة فمنهم من يجعله فيما أريد به من ذلك من حيز العموم. ومنهم من يجعله من حيز المجمل. والأظهر أنه عام محمول على ظاهره إلا ما قام الدليل على خروجه منه. وإن تخصيص بعضه ليس بمانع من التعلق به، ولا موجب لاحتماله. وهذا هو الصحيح١٤. وقد جاءت أخبار في النهي عن بيوع مخصوصة اتفق الناس على تخصيص الآية بنهيها كنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر١٥، وبيع حبل الحبلة١٦، وبيع الملامسة والمنابذة١٧، وبيع الحصاة١٨، وبيع المضامين والملاقيح١٩ ونحو ذلك. وجاءت أخبار أخر اختلف الناس في التخصيص بها كبيع النجش٢٠، وبيع العربان٢١، وبيع الكلب٢٢ إلى غير ذلك. وكذلك القياس قد يخصص به قوم ولا يخصص به آخرون إلى غير ذلك من الأدلة المتفق عليها والمختلف فيها. فالبيوع على مذهبهم هذا ثلاثة أقسام، جائزة، ومحظورة ومكروهة. وهي المختلف فيها.
فالجائزة : هي التي لم يحظرها الشرع ولا ورد فيها نهي فتندرج تحت قوله تعالى :( وأحل الله البيع ) كل بيع إلا ما خص منه بالدليل والمحظورة : هي التي قام الدليل على تخصيصها من عموم الآية بالمنع منها.
والمختلف فيها : ما تجاذبه الطرفان. ونحن نسوق من ذلك أمثلة يتبين بالنظر فيها كيف تؤخذ الأحكام من الكتاب والسنة والإجماع. فمن ذلك : السلم، أجازه مالك وأصحابه في كل ما يضبط٢٣ بالصفة على شروط مسطورة في كتبهم. وذهب أبو حنيفة إلى أن السلم في الحيوان لا يجوز. وذهبت طائفة من أهل الظاهر إلى أن السلم، فيما عدا المكيل والموزون لا يجوز. ودليل مالك وأصحابه عموم الآية٢٤. ولم ينه صلى الله عليه وسلم عنه فبقي على أصل الإباحة الواردة في القرآن، مع قوله –عليه الصلاة والسلام- :" من سلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم " ٢٥ ومن ذلك بيع العين الغائبة وهو عند مالك جائز على الصفة، وعند الشافعي غير جائز وصف أو لم يوصف. وعند أبي حنيفة أنه جائز وصف أو لم يوصف إلا أنه يوجب٢٦ للمبتاع خيار الرؤية إذا رأى المبيع. وحجة مالك على الشافعي عموم الآية٢٧. ومن ذلك بيع الأعيان الحاضرة التي تشق رؤيتها كالأعدال تباع على البرنامج ونحوه أجازه مالك ومنعه الشافعي في أظهر قوليه٢٨. والحجة لمالك، قوله عز وجل :( وأحل الله البيع وحرم الربا ) وقوله :( إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) |النساء : ٢٩|٢٩.
وقد اختلفوا في بيع المزايدة، وعموم الآية حجة لمن أجازه مع ما ورد في الحديث في ذلك٣٠.
واختلف في بيع أمهات الأولاد، فقال كافة العلماء : إنهن لا يبعن بوجه وأنهن أحرار. وقول أهل الظاهر٣١ جواز بيعهن وعن الشافعي القولان. وقول علي –رضي الله عنه- أنهن يبعن في الدين خاصة٣٢. واحتج من نصر قول أهل الظاهر بقول الله تعالى :( وأحل الله البيع وحرم الربا ) ٣٣ وهذا لا حجة فيه بأن يتخصص بأدلة معلومة. ومن ذلك بيع الجوز، واللوز، والباقلاء في قشره الأعلى أجازه مالك ومنعه الشافعي وأبو حنيفة. وحجة عموم قوله تعالى :( وأحل الله البيع ) ٣٤. ومن ذلك بيع السنبل إذا يبس واستغنى عن الماء قائما على اختلاف في المذهب وحزما على اختلاف فيه أيضا في المذهب وأجاز مالك كله في المشهور عنه. ومنعه الشافعي في أحد قوليه والحجة لمالك عموم الآية٣٥.
وأما بيع الحنطة مدروسة مع سنبلها فلا يجوز باتفاق في المذهب، وفي خارج المذهب اختلاف. ومن ذلك بيع المرابحة أجازه مالك وأصحابه وكرهه ابن عباس وجماعة من التابعين. وحجة مالك رحمه الله قوله تعالى٣٦ :( وأحل الله البيع ) وإذا قلنا بعموم الآية فجعلنا كل بيع جائزا إلا ما قام الدليل عليه، فكذلك تجعل كل ما فيه ربا وهو الزيادة محظورا إلا ما قام الدليل على جوازه.
ونضبط في ذلك أصلا فنقول : البيع يقع نقدا ويقع نساء٣٧ فأما بيع النقد، فيجوز التفاضل فيه والتماثل والبيع كيف يشاء ما لم يكن التبايع في الأثمان والأطعمة المقتاتة، فلا يجوز فيها التفاضل مع الجنسية، ولا يباع المثل منها بمثله إلا متساويا. وإن اختلف التفاضل فيما سوى هذين القسمين جاز بيعه على الإطلاق، فيحصل من هذا أن التفاضل مع الاختلاف في بيع النقود يجوز على الإطلاق، والتفاضل مع التماثل يجوز إلا في ما قدمنا من الأثمان والمقتاتات.
وقد ذهب بعضهم إلى أن لا ربا في النقد، وإنما الربا في النسيئة ورأى أن سياق الآية يدل على أن المذكور في كتاب الله تعالى، ربا النساء فقط فإنه قال :( فله ما سلف ) ( وذروا ما بقي من الربا ) وقال :( وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ) |البقرة : ٢٨٠| وقال :( وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم ) |البقرة : ٢٧٩| واحتجوا بالحديث :" إنما الربا في النسيئة " ٣٨ قالوا : فخص الربا بالنسيئة، وجعلوا ذلك بيانا لقوله تعالى :( وحرم الربا ) وهذا مذهب لا خفاء في فساده. ودليلنا على الجواز مع اختلاف الأجناس قوله تعالى :( وأحل الله البيع وحرم الربا ) وقوله –عليه الصلاة والسلام- :" إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم " ٣٩ ودليلنا على جواز التفاضل فيه بالمتماثلات فيما سوى الثمن والمقتاتات، قوله تعالى :( وأحل الله البيع ). وأيضا فلو كان التفاضل في سائر الأشياء ممنوعا لم يكن لتخصيص النبي صلى الله عليه وسلم ستة أشياء بتحريم التفاضل معنى، ولقال التفاضل حرام عليكم في كل شيء، ولكن لما نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع هذه الستة " الذهب بالذهب والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح إلا سواء بسواء عينا بعين، فمن زاد، أو ازداد فقد أربى " ٤٠، وخصه بنهيه دل على أن التحريم ليس بعام في جميع الأشياء. وإنما يبقى النظر في هذه الستة هل الربا في بيع النقد مقصور عليها، فيكون تحريمها غير معقول المعنى ؟ أو يكون لتحريمها دون غيرها معنى فيطلب ذلك المعنى، فحيث وجد حرم قياسا على الستة ودخل في عموم قوله تعالى :( وحرم الربا ) ٤١ :
فأما أهل الظاهر فقصروا التحريم عليها وأباحوا التفاضل في سائر الأشياء سواها، واحتجوا بعموم قوله تعالى :( وأحل الله البيع وحرم الربا ) ٤٢. وهذا القول مبني على رأيهم في إنكار القياس٤٣.
فأما جمهور العلماء المثبتون للقياس فإنهم طلبوا لذلك معنى وألحقوا به ما وافقه في ذلك المعنى، وخصصوا، وبينوا به قوله تعالى :( وأحل الله البيع وحرم الربا ) أما مالك فحرم التفاضل فيها لأمرين، أما الذهب والفضة فلكونهما ثمنين. وأما الأربعة المطعومة فلكونها تدخر للقوت أو تصلح للقوت. وبعضهم يزيد في العلة أصلا للمعاش غالبا، وبعضهم يسقطه. وقد قدمنا أن ذلك كله مع تماثل الجنس.
وأما الشافعي فوافقه على٤٤ العلة في الذهب والفضة وخالفه في الأربعة، واعتقد أن العلة فيها كونها مطعومة. وأما أبو حنيفة فخالفهما في الجميع واعتقد أن العلة في الذهب والفضة الوزن وفي الأربعة الكيل. وأما سعيد بن المسيب فوافق مالكا والشافعي في الذهب والفضة وخالف في الأربعة، واعتقد أن العلة فيها الكيل والوزن والطعم٤٥. فهي خمسة أقوال في تحرير علة منع التفاضل في هذه المبيعات قولان في المذهب، وثلاثة خارج المذهب٤٦. وإذا فرغنا من الكلام في ربا النقد فلنتكلم على الربا في النسيئة، واعلم أن الربا يدخل في الستة المذكورة في الحديث وما قيس عليها سواء اتفقت الأجناس أو اختلفت. فالذي تدل عليه الآية تحريم الزيادة في النساء، ولا دلالة فيها على تحريم النساء من غير زيادة في نفس المال، ومن أجل ذلك جوز مالك القرض وإن كان الشافعي قد منعه لكنه٤٧ لم يمنعه من جهة الآية لكن من جهة أخرى، فلا يجوز النساء في شيء من تلك، وأما الستة وما قيس عليها فلا يدخل الربا في بيع النسيئة فيها إذا اختلفت الأجناس، كسلم عبد في ثوبين، فإن تسا
٢ في أ "الأعراب" والمثبت موافق لما في المحرر الوجيز..
٣ قاله ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/٢٦٩)..
٤ في ب "اللفظ"..
٥ قاله في الموضوعين ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/٢٧٠، ٢٧١)..
٦ في ب "قررهم على هذا، ثم ردهم الله"..
٧ أخرجه من حديث جابر بن عبد الله مسلم في الحج (١٢١٨) وأبو داود (١٩٠٥) والنسائي (٥/١٤٣، ١٤٤) وابن ماجه (٣٠٧٤) والدارمي (١٨٥٠، ١٨٥١) وابن حبان (الإحسان: ٣٩٤٣، ٣٩٤٤)..
٨ يراجع تفسير الطبري (٣/١٣٨). والعجاب في بيان الأسباب لابن حجر (ص ٤٦٠، ٤٦١).
.
٩ يراجع تفسير الطبري (٣/١٣٨) والعجاب لابن حجر (ص ٤٦٠ -٤٦٣)..
١٠ في ن "زيادة"..
١١ قاله أبو الحسن الهراسي في أحكام القرآن (١/٢٣١، ٢٣٢) وفيه اختلاف لا يضر من جهة المعنى مرده إلى تصرف المؤلف رحمه الله أو للنسخ..
١٢ يراجع كلام الهراسي في المصدر السابق (١/٢٣٢)..
١٣ يراجع المحرر الوجيز لابن عطية (٢/٢٧١)..
١٤ واختاره ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/٢٧١) وأحكام القرآن لابن العربي (١/٢٤٠ -٢٤٥) وتفسير القرطبي (٣/٣٥٦ -٣٥٨)..
١٥ أخرجه عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر" مسلم في البيوع (١٥١٣) ومعنى الغرر الخطر والغرور والخداع..
١٦ أخرج البخاري عن ابن عمر في البيوع (٢١٤٣) ومسلم في البيوع (١٥١٤) ومعناه: بيع بثمن مؤجل إلى أن تلد الناقة ويلد ولدها. وقال آخرون: هو بيع ولد الناقة الحامل في الحال..
١٧ أخرجه عن أبي هريرة البخاري في البيوع (٢١٤٢) ومسلم في البيوع (١٥١١) أما الملامسة: فأن يلمس كل واحد منهما ثوب صاحبه بغير تأمل والمنابذة: أن ينبذ كل واحد منهما ثوبه إلى الآخر، ولم ينظر واحد منهما إلى ثوب صاحبه..
١٨ فيه تأويلات منها أن يقول: بعتك من هذه الأثواب ما وقعت عليه الحصاة التي أرميها ويراجع شرح النووي على مسلم (١٠/١٥٦)..
١٩ المضامين: بيع ما في بطون إناث الإبل والملاقيح: بيع ما على ظهور الجمال. ويراجع الموطأ، كتاب البيوع (٢/١٩٤ -١٩٦)..
٢٠ أخرجه عن أبي هريرة البخاري في البيوع (٢١٥٠) ومسلم في البيوع (١٥١٥) والنجش هو إثارة الرغبة في شراء السلعة ليرفع ثمنها وهو نوع من الخداع..
٢١ فيه حديث ضعيف من حديث عبد الله بن عمرو، رواه أبو داود (٢٠٣٥) وابن ماجه (٢١٩٢) وأحمد (٢/١٨٣) وضعفه غير واحد..
٢٢ في ذلك حديث عن أبي مسعود الأنصاري أخرجه البخاري في الإجازة (٢٢٨٢) ومسلم في المساقاة (١٥٦٧)..
٢٣ في ب "ينضبط"..
٢٤ يراجع أحكام القرآن للجصاص (٢/١٨٤ -١٨٦) والإشراف لعبد الوهاب (٢/٥٦٧، ٥٦٨)..
٢٥ أخرجه عن ابن عباس البخاري في السلم (٢٢٤٠) ومسلم في المساقاة (١٦٠٤) بلفظ "من أسلق في شيء.. فليسلف" ولم هذا اللفظ إلا في الجمع بين الصحيحين لعبد الحق الاشبيلي (٢/٥٦٦ بتحقيقي) وقد يكون ذلك في بعض نسخ الصحيح والله أعلم ويراجع الفتح لابن حجر (٤/٤٣٢)..
٢٦ في أ "يجب"..
٢٧ يراجع المدونة لسحنون (٤/٢٠٧، ٢١٠، ٢١١)..
٢٨ في ب "ظاهر قوله"..
٢٩ يراجع المدونة لسحنون (٤/٢١٠ -٢١٣) والأم للشافعي (٣/١٨، ١٩)..
٣٠ أخرجه أبو داود (١٦٤١) والنسائي (٧/٢٥٩) والترمذي (١٢١٨) وابن ماجه (٢١٩٨) وغيرهم عن أنس. وسنده ضعيف ضعفه ابن القطان الفاسي كما في التلخيص الحبير لابن حجر (٣/١٥) والألباني في إرواء الغليل (١٢٨٩)..
٣١ عزا هذا القول ابن عبد البر لجماعة فقهاء الأمصار فيراجع التمهيد (٣/١٣٦، ١٣٧)..
٣٢ يراجع المحلى لابن حزم (٩/٢١٧ -٢٢١)..
٣٣ ينظر التمهيد (٣/١٣٧ و١٣٨)..
٣٤ يراجع الإشراف لعبد الوهاب (٢/٥٤٥، ٥٤٦)..
٣٥ ينظر الإشراف لعبد الوهاب (٢/٥٤٦) والأم للشافعي (٣/٥٩)..
٣٦ في ب "الآية"..
٣٧ في ب "نسيئة"..
٣٨ أخرجه البخاري من حديث ابن سامة بن زيد في البيوع (٢١٧٨، ٢١٧٩) ومسلم في المساقاة (١٥٩٦)..
٣٩ أخرج مسلم في المساقاة (١٥٨٧) من حديث عبادة بن الصامت مرفوعا: "الذهب بالذهب.." وفي آخره: "فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدا بيد" ويراجع كلام أبي العباس القرطبي في المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (٤/٤٧٥)..
٤٠ أخرجه مسلم في المساقاة من حديث عبادة بن الصامت (١٥٨٧)..
٤١ يراجع الإشراف لعبد الوهاب (٢/٥٢٧ -٥٢٩)..
٤٢ قال أبو عمر بن عبد البر في الاستذكار (٢٠/٤١): "وشذ داود فأجاز النسيئة والتفاضل فيما عدا البر والشعير، والتمر، والملح من الطعام، والآدام، لنص رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعموم قوله الله عز وجل: (وأحل الله البيع) |البقرة: ٢٧٥| فلم يضم إلى النسيئة المنصوصة في حديث عبادة، وغيره شيئا غيرها، وهي الذهب، والورق، والبر، والشعير، والتمر، والملح"..
٤٣ قال ابن حزم في المحلى (٨/٤٦٨): "وممن قال: لا إلا في الأصناف المذكورة طاوس، وقتادة وعثمان البتي وأبو سليمان وجميع أصحابنا" ويراجع بقية كلامه هناك فهو قوي..
٤٤ في ب "في "علة"..
٤٥ يراجع في هذا الاستذكار (٢٠/٣١ -٥٠) والمحلى لابن حزك (٨/ رقم ١٤٧٩ – ط منيرية) وفتح الباري (٤/٣٧٧ -٣٨٦) والمفهم للقرطبي (٤/٤٧٧ -٤٧٩) ونيل الأوطار للشوكاني (٥/١٩٠ -١٩٥)..
٤٦ في ب "خارجه"..
٤٧ في ب "لكن"..
اختلف الناس في هذه الآية، فذهب بعضهم١ إلى أنها ناسخة ما كان في أول الإسلام إذا لم يجد ما يقضي به دينه يبيعه صاحب الدين ويستوفي منه دينه، فأنزل الله تعالى :( وإن كان ذو عسرة فنظرة ) الآية٢. وجاء عن عبد الرحمان بن البيلماني قال : كنت بمصر، فقال لي رجل : ألا أدلك على رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقلت : بلى. فأشار إلى رجل فجئته، فقلت : من أنت يرحمك الله ؟ قال : أنا سرق. فقلت : سبحان الله ما ينبغي أن تتسمى بهذا الاسم وأنت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال : إن رسول الله سماني سرقا. قال لقيت رجلا من أهل البادية ببعيرين له يبيعهما فابتعتهما منه. وقلت له انطلق معي حتى أعطيك فدخلت بيتي ثم خرجت من خلف بيتي٣، وقضيت بثمن البعيرين حاجتي وتغيبت حتى ظننت أن الأعرابي قد خرج فخرجت والأعرابي مقيم فأخذني فقدمني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما حملك على ما صنعت ؟ " قال : قضيت بثمنهما حاجتي يا رسول الله. قال : " فاقضه " قال : ليس عندي مال. قال : " أنت سرق، اذهب يا أعرابي فبعه حتى تستوفي حقك " فجعل الناس يسومونه في ويلتفت إليهم فيقول : " ما تريدون ؟ " فيقولون نريد أن نبتاعه منك ونعتقه. قال : " فوالله ما منكم٤ أحوج إليه مني اذهب فقد أعتقتك " ٥ ثم نسخ الله تعالى هذا من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالآية. فعلى هذا لا يجوز أن يباع الحر في الدين.
وقد ذهب قوم إلى أن الحر يباع في الدين وكأنهم لم يروا الآية ناسخة. وذهب بعضهم في الآية إلى أنها نزلت في الربا كانوا يتعاملون به في الجاهلية فلما جاء الإسلام أمرهم الله عز وجل أن يأخذوا رؤوس أموالهم بلا زيادة فإن أعسر الذي عليه الدين فلينظر إلى أن يوسر٦. وعلى هذا القول يأتي قول من يقول : إن النظرة إلى ميسرة إنما هي موقوفة على أهل الربا خاصة دون سائر الديون خلافا لقول الجمهور من أن ذلك عام في الديون كلها ربا كان أو غير ربا٧. فإذا ثبت عدم الذي عليه الدين فلينظر حتى يوسر. وعلى هذا القول، فلا يجوز أن يؤاجر الحر المعسر في الدين، وهو المشهور عن مالك خلافا لأحمد بن حنبل في قوله إنه يؤاجر في الدين٨. وذكر الباجي عن مالك أنه يؤاجر إذا كان مثله يؤاجر. وعموم الآية حجة لمن لم ير ذلك، ولا يلازم أيضا في الدين، فيدار معه كيف دار خلافا لأبي حنيفة في قوله إنه يلازم والآية حجة عليه ولا يحبس أيضا خلافا لشريح ومن قال بقوله٩. وكان هؤلاء أخذوا في الآية بالقول الثاني الذي ذكرناه أنها في الربا خاصة وقالوا إن الله أمر بأداء الأمانة. والآية في إنظار المعسر إنما نزلت في الربا وقد قرئ : " وإن كان ذا عسرة " ١٠ قال بعضهم : على هذا تختص الآية بالربا، ومن قرأ : " ذو عسرة " فهي عامة في جميع من عليه الدين. وهذا الذي ذكروه غير لازم بل القراءتان كل واحدة١١ منهما محتملة للتأويلين١٢.
وقوله سبحانه :( وإن كان ذو عسرة ) يظهر منه أن الأصل في الناس الملأ حتى يتبين العدم، لأنه تعالى قضى أولا برد رؤوس الأموال ثم قال :( وإن كان ذو عسرة ) فظهر من هذا أن الأصل الملأ فيلزم قضاء الدين إلا أن يكون معسرا فيسقط عنه القضاء في تلك الحال. قال بعضهم : ويحتمل أن يقال : إنه محمول على العدم حتى يتبين الملأ.
وقد اختلفوا من هذا في الذي يغيب عن امرأته، ثم يقدم، فتطلبه بالنفقة، فيدعي الإعسار في غيبته ليسقط بذلك نفقتها التي تطلبه بها. فذهب ابن القاسم إلى أنه محمول على اليسر أبدا إذا لم تعرف حاله إلا أن يكون خرج عديما فتكون هذه شبهة١٣ توجب أن يكون القول قوله١٤. وذهب ابن كنانة إلى أنه إن لم تعرف حالته في مغيبه ووقت خروجه فهو محمول على العدم مع يمينه حتى تثبت الزوجة ما تدعيه. والآية حجة لقول ابن القاسم إذا جعلناها عامة في الديون. ونفقة المرأة دين على زوجها، فيجب أن يحمل على اليسر حتى يثبت خلافه. وإذا وجب تأخير المعسر بالدين فليس في الآية ما يقتضي أن عليه مع ذلك يمينا بصحة عدمه. وقد ذكر مالك عن بعض الصحابة اليمين وأخذ بذلك١٥.
وقوله تعالى :( وأن تصدقوا خير لكم ) الآية١٦ |البقرة : ٢٨٠|.
اختلف في تأويلها فقيل : هي الصدقة على المعسر جعلها خيرا من الإنظار. وقيل : هي في الغني والفقير١٧.
٢ حكاه ابن عطية عن مكي بن أبي طالب، ويراجع نقله عن المهدوي في المحرر الوجيز (٢/٢٨٠). ويراجع في سبب نزولها تفسير الطبري (٣/١٤٢ -١٤٥) والعجاب في بيان الأسباب لابن حجر العسقلاني (ص٤٦٤)..
٣ في "من خلف لي"..
٤ في ب "ما أنتم"..
٥ أخرجه ابن سعد في الطبقات (٧/٥٠٤، ٥٠٥) والطحاوي في شرح المعاني (٤/١٥٧) والحاكم في المستدرك (٤/١٠) ومن طريقه البيهقي في السنن (٦/٥٠) من طرق عن زيد بن أسلم، عن عبد الرحمان بن البيلماني.
وابن البيلماني ضعيف في الحديث وبه ضعفه البيهقي (٦/٥١) وضعفه القرطبي في تفسيره (٣/٣٧١)..
٦ يراجع ما سبق التنبيه عليه من أسباب النزول ص(٤١٣)..
٧ عزاه ابن عطية لجمهور العلماء في المحرر الوجيز (٢/٢٨٣) ويراجع أحكام القرآن لابن العربي (١/٢٤٥، ٢٤٦) وتفسير القرطبي (٣/٣٧٢).
.
٨ يراجع أحكام القرآن للجصاص (٢/١٩٦، ١٩٧) والمدونة لسحنون (٥/٢٠٤، ٢٠٥)..
٩ يراجع المصدرين السابقين والأم للشافعي (٣/٢١٢، ٢١٣)..
١٠ نسب الطبري هذه القراءة لمصحف أبي بن كعب في تفسيره (٣/١٤٢) وعند ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/٢٨٠) ويراجع تفسير القرطبي (٣/٣٧٣، ٣٧٤)..
١١ في ب "بل كلتا القراءتين محتملة"..
١٢ قاله النحاس في الناسخ والمنسوخ (ص٨٢) وابن عطية في المحرر الوجيز (٢/٢٨٠، ٢٨١)..
١٣ في ب "سمته"..
١٤ المدونة لسحنون (٢/٢٦٢)..
١٥ يراجع نقل سحنون عن بعض معنى ذلك في المدونة (٥/٢٠٥)..
١٦ زيادة من ب..
١٧ يراجع تفسير الطبري (٣/١٤٦) وأحكام القرآن لابن العربي (١/٢٤٦) والمحرر الوجيز (٢/٢٨٣) وتفسير القرطبي (٣/٣٧٤، ٣٧٥)..
اختلف الناس في أمره تعالى بالكتب هل هو منسوخ أم لا ؟ فذهب أبو سعيد الخذري وغيره إلى أن ذلك منسوخ بقوله تعالى بعد ذلك :( فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته ) ١. وهذا القول مبني على أن الأمر بالكتب في الآية على الوجوب فنسخ وجوبه.
وذهب٢ جماعة إلى أن الآية محكمة واختلفوا في التأويل فذهب جماعة إلى أن الأمر على الوجوب وأنه لم ينسخ، وأن كتب الديون واجب على أربابها٣. وذهب قوم إلى أن الأمر في الآية محمول على الندب لا على الوجوب٤. وقد روي عن ابن عباس أنه لما قيل له إن آية الدين منسوخة قال : والله إنها محكمة ما فيها نسخ٥. ومن مضمن القول بوجوب الكتب القول بوجوب الإشهاد. وقد قال به بعض علماء السلف. فقالوا : يجب الإشهاد فيما قل وجل، وفيما حل وأجل، وإليه ذهب داود وابنه أبو بكر. وإذا قيل : إن وجوب الكتب منسوخ فوجوب الإشهاد أيضا منسوخ. وقد روي ذلك عن أبي سعيد، والشعبي والحسن٦.
وقوله سبحانه وتعالى :( إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى ) قال ابن عباس : نزلت في السلم خاصة. يعني أن سلم أهل المدينة كان سبب٧ الآية٨.
وقد اختلف الأصوليين في الكلام المستقل بنفسه الوارد على سبب هل يقتصر على سببه أو يحمل على عمومه. وقد قال مالك في الآية : وهذا يجمع الدين كله.
وقد استدل بعضهم بهذه الآية على جواز التأجيل في القرض على ما قاله مالك إذ لم يفصل بين القرض وسائر العقود في المداينات وضعف بعضهم الاستدلال بذلك٩. وكيف ما قلنا فالآية دليل لمن أجاز السلم في كل ما يضبط بالصفة على الشروط المعروفة.
وإنما قال تعالى :( بدين ) وقد كان قوله :( تداينتم ) يغني عنه لأن ذلك لفظ مشترك يكون بمعنى الجزاء كقولهم : " كما تدين تدان " ويكون من الدين المعروف فأزال تعالى ذلك الاشتراك بقوله :( بدين ) وقوله ( مسمى ) دليل على أنه لا يجوز الجهل بالمداينة.
وفي هذه الآية عندي دليل للقول بأن السلم لا بد له من أجل، وأنه لا يجوز أن يكون حالا وهذا١٠ الأشهر من قول مالك، وإن كان قد جاء عنه القول الآخر أنه يجوز أن يكون حالا، فهما روايتان عنه١١.
ولا بأس بالبيع إلى الجداد والحصاد لأنه معروف عند الناس فهو أجل مسمى، وإن اختلف بأيام يسيرة. وذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى أن البيع إليهما لا يجوز، ورأيا أنهما ليسا بأجل مسمى١٢.
وقد اتفقوا على جواز البيع إلى عشرين شهرا وأيامها مختلفة ثلاثون وتسعة وعشرون والبيوعات لا تخلو من يسير الغرر١٣.
وقوله تعالى :( وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب ) البقرة : ٢٨٢|.
اختلف في هذه الآية هل هي منسوخة أو محكمة ؟ فذهب الربيع، والضحاك إلى أنها منسوخة بقوله :( ولا يضار كاتب ولا شهيد ) ١٤.
وذهب آخرون إلى أنها محكمة واختلفوا في تأويلها :
فقال عطاء وغيره : واجب على الكاتب أن يكتب ولم يفصل، فسواء عنده وجد كاتب سواه أو لم يوجد ؟ وهذا قول ضعيف.
وقال الشافعي١٥ وعطاء أيضا : ذلك واجب عليه إذا لم يوجد كاتب سواه. وقال السدي : ذلك واجب على الكاتب إذا كان فارغا١٦.
والقول في هذا عندي أن الأمر فيه أنه لا مدخل للوجوب فيه. ولذلك أجاز الجمهور إجازة الموثقين١٧. والذي اختاره اللخمي أن الكتابة من فروض الكفاية، وما هو فرض على الكفاية، إذا حقق النظر فيه رئي أنه فرض على الأعيان، هذا قول محققي الأصوليين.
وقوله تعالى :( وليكتب بينكم كاتب بالعدل ) |البقرة : ٢٨٢|.
استدل به بعضهم على أنه لا يكتب الوثائق إلا عارف بها عدل في نفسه مأمون١٨.
وقوله تعالى :( كما علمه الله فليكتب ) |البقرة : ٢٨٢|.
اختلف في قوله تعالى :( كما ) بماذا تتعلق فقيل : تتعلق بقوله :( أن يكتب ) وقال بعضهم : يحتمل أن تكون متعلقة بما في قوله :( ولا يأب ) من المعنى أي كما أنعم الله تعالى عليه بعلم الكتابة فلا يأب هو١٩.
وقوله تعالى :( وليملل الذي عليه الحق ) |البقرة : ٢٨٢|.
أمر الله الذي عليه الحق بالإملاء، لأن الكتب والشهادة إنما هما بحسب إقراره. وهذا أمر مندوب إليه، فإن كانت الوثيقة دون إملاء الذي عليه الحق ثم عرضت عليه فأقر بها فهي كإملاله، ثم أمر تعالى بالتقوى فيما يمل، وأن لا يترك من الحق شيئا.
وهذا يدل على أن كل من أقر بشيء لغيره فالقول قوله فيه، وهو مثل قوله تعالى :( ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن ) |البقرة : ٢٢٨| ومثل قوله تعالى :( ولا تكتموا الشهادة ) |البقرة : ٢٨٣| ثم قال تعالى :( فليملل وليه بالعدل ) الآية |البقرة : ٢٨٢| وقد اختلف في الضمير في قوله :( وليه ) على ما يعود ؟ فقيل : هو عائد على الذي عليه الحق، وقيل : هو عائد على الحق. وهذا قول الربيع، وابن عباس، وهذا ضعيف٢٠.
واختلف في السفيه : فقيل : السفيه هنا الجاهل بالإملال من قوله :( سيقول السفهاء من الناس ) |البقرة : ١٤٢| وقيل : هو السفيه في المال من صغير أو كبير لا يحسن الإمساك. وقيل : هو العاجز عن الإملال لعي في لسانه أو خرس أو نحو ذلك٢١. وقيل : هو الأحمق أي ضعيف العقل.
واختلف في الذي لا يستطيع أن يمل لعيه أو لعذر : فقيل هو الصبي الصغير٢٢.
واختلف فيمن ليس في ولاية وهو مبذر أيحجر عليه أم لا ؟ والمشهور في المذهب وغيره أنه يحجر عليه. والدليل على ذلك قوله تعالى :( فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا ) الآية ثم قال :( فليملل وليه بالعدل ) فلم يجز إملال السفيه وأمر أن يمل وليه. والولي لا يكون إلا أبا أو وصيا، فليلزم إن لم يكن له أب أن يقدم له وصي يمل عنه. وإذا كان هذا في الإملال، فأن يكون في صلاح ماله أولى٢٣.
وقال أبو الحسن : ليس في قوله تعالى :( فليملل وليه ) تصريح بأن إقرار الولي عليه مقبول، ولا فيه دليل ظاهر على أن الحجر ثابت على السفيه ولا فيه٢٤ بيان معنى السفه الذي يقتضي الحجر بل قوله تعالى :( إذا تداينتم بدين ) الآية يدل على أن المداينة مع من ذكر في الآية جائزة فإنه قال :( إذا تداينتم ) ثم قال :( فمن لم يستطع ) بعض المتدائنين٢٥أن يمل فليملل الولي بالعدل، وليس الضعيف اسما للمحجور عليه فإنه يتناول الخرف والأخرس، والصبي٢٦، والسفيه قد يراد به الخفيف العقل.
واختلفوا في الذمي والفاسق هل يجوز أن يوصى إليهما ؟ والصحيح أن لا يكونا وصيين. والدليل على ذلك قوله :( فليملل وليه بالعدل ) ولا يؤمر أن يمل بالعدل إلا عدل.
واختلفوا في الوصية إلى المرأة والعبد، والصحيح أنهما يكونان وصيين إذا وجد فيهما العدل لأن الله تعالى لم يشترط في الأولياء إلا العدل.
قوله تعالى :( واستشهدوا شهيدين من رجالكم ) الآية إلى قوله :( وإن كنتم على سفر ) |البقرة : ٢٨٢|.
اختلف العلماء في شهادة العبد، فقال الجمهور لا تجوز واستشهدوا بقوله تعالى :( ذوى عدل منكم ) قالوا : وهذه الإضافة تفيد الحرية دون الإسلام لأن غير المسلمين ليسوا بعدول٢٧. وقال داود وجماعة من الصحابة : شهادة العبيد جائزة. وقال أنس : ما علمت أحدا رد شهادة العبد وبه قال ابن المنذر لدخوله في جملة قوله تعالى :( ممن ترضون من الشهداء ). وذهب الشعبي والنخعي إلى قبول شهادتهم في القليل لا٢٨ الكثير. وكذلك رأى بعضهم أن قوله تعالى :( من رجالكم ) شامل للعبيد والأحرار لأنهم من رجالنا وأهل ديننا، فقيل لهم قد قال تعالى :( إذا تداينتم بدين ) الآية وساق الكلام إلى قوله :( من رجالكم ) فظاهر الخطاب يتناول الذين يتداينون، والعبيد لا يملكون ذلك دون إذن السيد، ولهم أن يقولوا : إن خصوص أول الآية لا يمنع التعلق بعموم آخرها٢٩.
وقد اختلف فيه الأصوليون، ومن أقوى ما يستدل به من كتاب الله تعالى على رد شهادة العبد قوله تعالى :( كونوا قوامين بالقسط شهداء على الله ) |النساء : ١٣٥| والعبد قد سلب القيام بذلك لكونه ممنوعا من الخروج إلى القاضي. وتصحيح دعوى المدعي٣٠.
ومن شروط الشاهد الإسلام، فلا تجوز عندنا شهادة الكافر على مسلم ولا على كافر٣١.
وأجاز قوم شهادة الكفار وإن كانوا مجوسيين٣٢ في الوصية في السفر إذا لم يكن هناك مسلمون على كفار أو مسلمين. وأجاز أبو حنيفة شهادة الكفار على الكفار. وقال بعض أصحابه : إلا في الحدود.
ودليلنا على منع شهادة الكفار٣٣ جملة قوله تعالى :( ممن ترضون من الشهداء ) |البقرة : ٢٨٢| وقوله :( وأشهدوا ذوى عدل منكم ) |الطلاق : ٢| ولم يخص سفرا من حضر. وحجة من أجاز شهادة الكفار على المسلمين في وصية السفر قوله تعالى :( يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم ) |المائدة : ١٠٦| وسيأتي الكلام على هذا في موضعه إن شاء الله تعالى.
واختلف فيمن لا يعرف بعدالة ولا سخط٣٤، هل يحمل على غير العدالة حتى تثبت عدالته أو على العدالة حتى يثبت فسقه ؟ فذهب مالك والشافعي إلى أنه لا يقبل حتى تعرف عدالته٣٥.
وذهب أبو حنيفة، والليث بن سعد، والحسن، إلى أنه مقبول حتى يعرف فسقه قال : ومجرد الإسلام يقتضي العدالة٣٦. وقد أجاز ابن حبيب شهادة من ظاهره العدالة بالتوسم فيما يقع بين المسلمين في الأسفار من المعاملات والتجارات والأكرية بينهم، وبين المكارين مراعاة لهذا القول. وحكي ذلك عن مالك وأصحابه وهو خلاف قول ابن القاسم، وروايته عن مالك، أنه لم يجز شهادة الغرباء دون أن تعرف عدالتهم. وروي عن يحيى بن عمر أنه أجاز شهادة من لا تعرف عدالته في الشيء اليسير وذلك أيضا استحسان. والحجة لقول مالك المتقدم قوله تعالى :( واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء ) |البقرة : ٢٨٢| وقال :( وأشهدوا ذوى عدل منكم ) |الطلاق : ٢| فقد اعتبر الرضى والعدالة. وذلك معنى يزيد على الإسلام.
واختلف في شهادة الوالد لولده٣٧، والولد لوالده، والجد لولد ولده، وولد الولد لجده٣٨. فأجاز جماعة لعموم الآية ولم يجزها الأكثر لأنها مخصصة من العموم بقول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين " ٣٩. وقال الزهري : كانوا فيما مضى يتأولون قوله عز وجل :( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين ) |النساء : ١٣٥| ولم يكن يتهم في سلف٤٠ الأمة والد، ولا ولد ولا زوجة ولا زوج، ثم دخل الناس فتركنا شهادتهم.
واختلف في شهادة أحد الزوجين لصاحبه٤١، فمنعها الجمهور وأجازها الشافعي. وقال الشعبي : تجوز شهادة الرجل للمرأة، ولا تجوز شهادة المرأة لزوجها. وأخذ ابن المنذر بقول الشافعي لقوله تعالى :( ممن ترضون من الشهداء ) الآية. قال : ولا نعلم حجة توجب استثناء الزوج والزوجة من الآية. ودليلنا عليه قوله تعالى :( خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ) |الروم : ٢١| فنبه على أن التهمة حاصلة بين الزوجين في غالب الطباع، لأن الإنسان يحب نفع زوجته ويهوى هواها وينتفع بمالها. قال مالك فيما حكى عنه ابن حبيب : وتجوز شهادة من وراء هؤلاء من القرابات.
وهذا يقتضي جواز شهادة الأخ لأخيه وابن أخيه وهي رواية ا
٢ في ب "وذهبت"..
٣ وهو اختيار الإمام الطبري في تفسيره (٣/١٥٥) ويراجع تعقب ابن عطية له في المحرر الوجيز (٢/٢٨٦)..
٤ هو رأي الجمهور كما في المحرر الوجيز (٢/٢٨٦)..
٥ رواه عنه الطبري في تفسيره (٣/١٥٠) وذكره الجصاص في أحكام القرآن (٢/٢٠٥) والهراسي في أحكام القرآن (١/٢٣٧)..
٦ ذكره الهراسي في أحكام القرآن (١/٢٣٧، ٢٣٨) ويراجع كلام القرطبي في تفسيره (٣/٣٨٢، ٣٨٣) وابن كثير في تفسيره (١/٣٣٥ – ط دار الفكر بيروت)..
٧ في ب "بسبب"..
٨ رواه عنه الطبري (٣/١٥٠) وذكره عنه الجصاص في أحكام القرآن (٢/٢٠٨) وذكره البغوي في معالم التنزيل (١/٣٤٨) وابن كثير في تفسيره (١/٣٣٥)..
٩ يراجع كلام الهراسي في ذلك في أحكام القرآن (١/٢٣٩)..
١٠ في ب "وهو"..
١١ يراجع الإشراف على مسائل الخلاف لعبد الوهاب (٢/٥٦٧)..
١٢ يراجع المصدر السابق (٢/٥٦٨) وبتوسع الاستذكار لابن عبد البر (٢٠/١٩ -٣٠) و (١٩/١٦٨)..
١٣ في ب "غرر"..
١٤ يراجع تفسير الطبري (٣/١٥١)..
١٥ في المحرر الوجيز (٢/٢٨٧) "الشعبي" وأظنه الصواب وكذا عند الطبري (٣/١٥٤)..
١٦ يراجع تفسير الطبري (٣/١٥٤) والمحرر الوجيز (٢/٢٨٧) وأحكام القرآن لابن العربي (١/٢٤٨) وتفسير القرطبي (٣/٣٨٣، ٣٨٤)..
١٧ قاله بمعناه الهراسي في أحكام القرآن (١/٢٤٠)..
١٨ عزاه ابن عطية إلى مالك في المحرر الوجيز (٢/٢٨٧)..
١٩ ذكره ابن عطية وقال أيضا: "ويحتمل أن يكون الكلام على هذا المعنى تاما عند قوله: "إن يكتب" ثم يكون قوله: "كما علمه الله" ابتداء كلام، وتكون الكاف متعلقة بقوله: "فليكتب" كذا في المحرر الوجيز (٢/٢٨٧، ٢٨٨)..
٢٠ قال ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/٢٨٩، ٢٩٠): "وذهب الطبري إلى أن الضمير في وليه عائد على (الحق) وأسند في ذلك عن الربيع وابن عباس. وهذا عندي شيء لا يصح عن ابن عباس.." ثم توسع في رده بقوة..
٢١ يراجع كلام الهراسي في أحكام القرآن (١/٢٤٢) وتحقيق القاضي أبي بكر بن العربي في أحكام القرآن (١/٢٤٩، ٢٥٠) وتفسير القرطبي (٣/٣٨٥ -٣٨٨)..
٢٢ يراجع المحرر الوجيز لابن عطية (٢/٢٨٩)..
٢٣ يراجع الإشراف لعبد الوهاب (٢/٥٩٣، ٥٩٤)..
٢٤ في ن "فيها"..
٢٥ في ب "المدائنيين" والمثبت موافق لما في أحكام القرآن للهراسي (١/٢٤٣)..
٢٦ قاله أبو الحسن الكيا الهراسي في أحكام القرآن (١/٢٤٢، ٢٤٣) وعنده "العيي"..
٢٧ قول الجمهور في الإشراف لعبد الوهاب (٢/٩٧١) والمحرر الوجيز لابن عطية (٢/٢٩٠) وبداية المجتهد لابن رشد (٢/٣٤٧). وتفسير القرطبي (٣/٣٩٠)..
٢٨ في ب "دون الكثير". وكذا في ن..
٢٩ نسب هذا القول لداود ابن حزم في المحلى (٩/٤١٢) كما نسبه لعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان، وعزاه ابن عطية لشريح وإسحاق بن راهويه، وأحمد بن حنبل كما في المحرر الوجيز (٢/٢٩٠) وعزاه القرطبي لعثمان البتي وأبي ثور يراجع تفسيره (٣/٣٨٩، ٣٩٠)..
٣٠ استدل بهذا أبو الحسن الهراسي في أحكام القرآن (١/٢٤٥) وهو معنى كلام الجصاص في أحكام القرآن (٢/٢٢٢، ٢٢٣) ورده ابن حزم بقوة قائلا أن "العبد قادر على أداء الشهادة، كما يقدر على أداء الصلاة، والى النهوض إلى من يتعلم منه أمر دينه" وله أدلة قوية ترجح اختياره في المحلى (٩/٤١٢ -٤١٥)..
٣١ يراجع في هذا أقوال الفقهاء عند الجصاص في أحكام القرآن (٢/٢٢١، ٢٢٢) وفي المدونة لسحنون (٥/١٥٦، ١٥٧) والإشراف لعبد الوهاب (٢/٩٧٢) وأحكام القرآن لابن العربي (١/٢٥٢) وتفسير القرطبي (٣/٣٨٩ -٣٩١)..
٣٢ في ب "مجوسا" وكذا في ن..
٣٣ في ب "الكافر"..
٣٤ في ب "ولا سخطة"..
٣٥ يراجع أحكام القرآن للجصاص (٢/٢٣٧) والإشراف لعبد الوهاب (٢/٩٥٦، ٩٥٧) وأحكام القرآن لابن العربي (١/٢٥٤، ٢٥٥)..
٣٦ يراجع أحكام القرآن للجصاص (٢/٢٣٣ -٢٣٦) وتعقب القرطبي لرأي أبي حنيفة في تفسيره (٣/٣٩٥ -٣٩٧)..
٣٧ في ب في الموضعين: "وعكسه"..
٣٨ يراجع الخلاف في هذا الإشراف لعبد الوهاب (٢/٩٧٢، ٩٧٣) وأحكام القرآن للجصاص (٢/٢٤١) والمدونة (٥/١٥٤، ١٥٥) والمحلى لابن حزم (٩/٤١٥ -٤١٨) وأحكام القرآن للهراسي (١/٢٥٣، ٢٥٤)..
٣٩ أخرجه من حديث طلحة بن عبد الله بن عوف أبو داود في المراسيل (٣٥٩ – ط باكستان) ومن طريقه البيهقي في السنن (١٠/٢٠١) قال الحافظ في التلخيص (٤/٢٠٣): "ليس له إسناد صحيح لكن له طرق يقوي بعضها بعضا" وصححه الألباني بنحو ذلك في إرواء الغليل (٨/ رقم ٢٦٧٤)..
٤٠ في ب "سالف"..
٤١ يراجع الإشراف لعبد الوهاب (٢/٩٧٣) والمحلى (٩/٤١٥) وأحكام القرآن للهراسي (١/٢٥٤)..
مذهب مالك وجميع أصحابه وغيرهم إجازة الرهن في السفر والحضر خلافا لأبي حنيفة، ومجاهد، وداود، في قصرهم ذلك على السفر تعلقا منهم بدليل خطاب الآية١. ولا حجة لهم فيها لأن ذكر الرهن في السفر ليس دليلا على منعه في الحضر بل أراد الله تعالى أن ينبه على جواز الرهن إذا منع عذر من الانتقاد فذكر السفر إذ قد يكون أحد الأعذار المانعة من الانتقاد تنبيها على سائر الأعذار. فالرهن في الحضر أيضا مشار إليه بالآية على هذا الوجه، وأيضا فإنه قدرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم درعه عند يهودي في شعير استلفه. وتوفي صلى الله عليه وسلم وتلك الدرع مرهونة٢. وكان هذا منه –عليه الصلاة والسلام- في الحضر فهذا يذهب حكم دليل الخطاب في الآية لو قلنا به٣.
واختلف في الرهن في السلم فلم يجزه بعضهم والجمهور على الجواز. وحجة٤ الجواز قوله تعالى :﴿ وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان ﴾ الآية. فعم.
والرهن يجوز ويلزم بالعقد ولا يتم إلا بالحيازة لقوله تعالى :( فرهان مقبوضة ) هذا مذهب مالك وجميع أصحابه. وذهب الشافعي، وأهل العراق إلى أنه لا يكون رهنا حتى يكون مقبوضا٥. وفائدة الخلاف أن الراهن عندنا لا يكون له الرجوع في الرهن وإن لم يقبضه المرتهن. وعندهم أنه لا يلزمه حتى يقبضه. واستدلوا بقوله تعالى :( فرهان مقبوضة ) وقالوا لما وصفها الله تعالى بالقبض وجب أن يكون ذلك من شروط كونها رهنا، وأن يكون القبض مصاحبا لها كما أنه لما وصف الرقبة بالإيمان، كان الإيمان شرطا فيها مصاحبا لها. قالوا ولأن قوله فرهان مقبوضة لا يخلو إما أن يكون خبرا أو أمرا فإن كان خبرا كان شرطا فيها لامتناع أن يقع الخبر بخلاف مخبره، وإن كان أمرا فهو على وجوبه والدليل على صحة قولنا قوله تعالى :( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ) |المائدة : ١| والعقد قد حصل لأنه الإيجاب والقبول وذلك موجود. وأيضا فإنه قال :( فرهان مقبوضة ) فجعل القبض من صفاتها فدل ذلك على أنها تكون رهنا قبل القبض لأن وصف الشيء بصفة يجب أن يكون معنى زائدا على وجوده.
واختلف في الرهن يوضع على يدي عدل فقالت طائفة : لا يصح وليس بمقبوض ولا يكون شاهدا ولا يكون أحق به من الغرماء والذي ذهب إليه مالك أنه مقبوض فيكون بذلك شاهدا له ويكون أحق به من الغرماء. والذي ذهب إليه مالك أنه مقبوض٦. وقيل : إنه لا يكون شاهدا إذا كان على يدي عدل، وهو ظاهر قول مالك في " موطئه " ٧ وحجة القول بأنه مقبوض قوله تعالى :( فرهان مقبوضة ) معناه مقبوضة من الراهن. وهذا موجود في هذا الرهن، فهو إذا مقبوض.
واختلف في استدامة القبض هل هي شرط في صحة الرهن أم لا ؟ فالمذهب على أنه شرط فمتى عاد إلى يد الراهن برضى من المرتهن على أي وجه خرج فقد زال عن الرهن. وقال الشعبي٨ ليس ذلك بشرط ولا يخرج من الرهن بعوده إلى يد الراهن. وقال أبو حنيفة إن رجع بكراء بطل وإن رجع بوديعة أو عارية لم يبطل. ودليل المذهب قوله تعالى :( فرهان مقبوضة ) فعم سائر أحوال الرهن٩. واختلف في شهادة الرهن فذهب بعضهم إلى أن القول قول المرتهن فيما رهن وإن كان ما ادعى أكثر من قيمة الرهن فجعلوا الرهن شاهدا له بجميع دينه. وذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى أن القول قول الراهن قل أو كثر ما ادعاه فلم يجعلوا للراهن شهادة١٠. واستدل بعضهم لهذا القول بقوله تعالى :( وليملل الذي عليه الحق ) قال : فهذا يدل على أنه مؤتمن، فيقتضي ذلك قبول١١ قول الراهن إذا اختلف هو والمرتهن في مقدار الدين، والراهن هو الذي عليه الحق. قال : وربما رهن الشيء بالقليل والكثير. وذهب مالك وجميع أصحابه إلى أن القول قول المرتهن فيما رهن فيه الرهن ما لم يجاوز قيمة الرهن، فكأن الرهن شاهد بقيمته. وهذا القول أعدل الأقوال. ولو لم يكن الرهن شاهدا، وكان كما يقول من ذكرنا لم يكن لقوله عز وجل :( فإن أمن بعضكم فليؤد الذي اؤتمن أمانته ) معنى لأنه إذا ائتمنه ولم يستوثق منه بالرهن فيما داينه به. فالقول قوله أيضا فيما يقر به من الدين ولا يجوز أن تكون الحالة الثالثة كالتي قبلها، فالقرآن دال على خلاف قول من ذكرنا.
وعندنا أنه يصح عقد الرهن قبل وجوب الحق، فإذا وجب الحق كان رهنا بذلك العقد، ولا يحتاج إلى استئناف عقد ثان. وكذلك يصح تقديم الضمان على الحق المضمون. وقال الشافعي : لا يصح ذلك. ودليل ذلك قوله تعالى :( فرهان مقبوضة ) فعم١٢.
واختلف في رهن المشاع فأجازه مالك وأصحابه ولم يجزه أبو حنيفة١٣. والحجة على من لم يجزه أنهم إن١٤ سلموا أن قبضه يصح، فالظاهر تناوله بقوله فرهان مقبوضة. وإن منعوه دللنا عليه بأن صفة القبض متساوية. وقد ثبت أن بيع المشاع جائز، وأن بيع ما لا يمكن قبضه لا يصح. فإذا صح البيع فيه صح قبضه كالمقسوم. وإذا كان لرجل على رجل دين فباع من عليه الدين ممن له الدين شيئا وجعل الدين عليه رهنا. فروى ابن القاسم عن مالك أنه يجوز ويصح الرهن١٥. وقال غيره من العلماء : لا يجوز لأنه لا يتحقق إقباضه له والقبض شرط لزوم الرهن ودليل القول الأول عموم الآية. وإذا رهن الرجل عند الرجل رهنا على حق ثم استزاده شيئا آخر على ذلك الرهن جاز وكان رهنا بالحقين خلافا لأبي حنيفة والشافعي لقوله تعالى :( فرهان مقبوضة ) فعم كل دين يجوز أخذ الرهن به. وكل رهن١٦ يجوز ارتهانه بكل١٧ دين١٨.
وإذا ارتهن الرجل رهنا على أنه إن جاء الراهن بالثمن، وإلا فالرهن للمرتهن صح الرهن عندنا وبطل الشرط وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي : يبطل الرهن.
ودليلنا على أنه لا يبطل قوله تعالى :( فرهان مقبوضة ) ١٩. ورهن المجهول، والغرر يجوز.
وقال أبو حنيفة والشافعي٢٠ لا يجوز.
ودليلنا عموم الآية قوله تعالى :( فرهان مقبوضة ) فعم.
والمكاتب والعبد المأذون يجوز أن يرهن. وذهب الشافعي إلى أنه لا يجوز٢١.
ودليلنا ( فرهان مقبوضة ) فعم العبد والمكاتب. وقوله تعالى :( فرهان مقبوضة ) ليس في هذه دليل على حكم الرهن إذا قبض فهلك فأحاله من الضمان ؟ لأن القبض إذا حصل بحكم الآية بقي النظر فيه هل يحكم لذلك القبض بحكم الأمانة أم لا ؟ فذهب أبو حنيفة إلى أنه مضمون منه من غير تفصيل٢٢. وذهب الشافعي إلى أنه غير مضمون منه من غير تفصيل. وفرق مالك بين ما يغاب عليه وما لا يغاب عليه. وعنه إذا قامت بينة على التلف مما يغاب عليه قولان٢٣.
ومن حجة الشافعي قوله –عليه الصلاة والسلام- : " الرهن ممن رهنه له غنمه وعليه غرمه " ٢٤ وهذا يحتمل أن يريد إذا ظهر هلاكه فلا يكون فيه حجة. وقد جاء عنه –عليه الصلاة والسلام- قال : " الرهن بما فيه " ٢٥ وهذه عبارة عن وجوب ضمانه على المرتهن٢٦.
وقوله تعالى :( فإن أمن بعضكم بعضا ) الآية |البقرة : ٢٨٣|.
قد استدل بعضهم بهذه الآية في مسألة اختلاف المتبايعين للسلعة إذا اختلفا في أجل الثمن على المبتاع إذا قبض السلعة، فإن القول قوله سواء أقر له البائع بأجل أم لا ؟. وفي المسألة اختلاف كثير.
وكذلك إذا اختلفا في عدد الثمن قال : لأن القبض ائتمان فإذا دفع السلعة إلى المبتاع ولم يتوثق بالشهادة وجب أن يكون القول قوله٢٧.
٢ يراجع صحيح البخاري كتاب السلم من حديث عائشة (٢٢٥١، ٢٢٥٢)..
٣ يراجع تحقيق ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/٣٠١)..
٤ في ب "وحجتهم"..
٥ يراجع أحكام القرآن للجصاص (٢/٢٦٠ -٢٦٢) الإشراف لعبد الوهاب (٢/٥٧٦، ٥٧٧) وأحكام القرآن للهراسي (١/٢٦٣ -٢٦٥)..
٦ يراجع أحكام القرآن للجصاص (٢/٢٦١، ٢٦٢) الإشراف لعبد الوهاب (٢/٥٧٦، ٥٧٧) والمحرر الوجيز (٢/٣٠٦) وتفسير القرطبي (٣/٤١٠)..
٧ يراجع الموطأ (٢/٢٧١ -٢٧٦)..
٨ كذا في الأصول الخطية والظاهر أنه تصحيف والصواب "الشافعي" كما في الإشراف لعبد الوهاب والمؤلف ينقل عنه..
٩ يراجع في هذا المدونة لسحنون (٥/٣٠٩) والإشراف لعبد الوهاب (٢/٥٧٦) والأم للشافعي (٣/١٤٠، ١٤١) وأحكام القرآن للجصاص (٢/٢٦٠، ٢٦١)..
١٠ يراجع الإشراف لعبد الوهاب (٢/٥٨٥) وأحكام القرآن للكيا الهراسي (١/٢٦٣)..
١١ في ب "فيقضى ذلك بقبول"..
١٢ يراجع كلام القاضي عبد الوهاب في الإشراف (٢/٤٨٣، ٥٨٤/ رقم ٩٧٥)..
١٣ يراجع الأم للشافعي (٣/١٩٠، ١٩١) وأحكام القرآن للجصاص (٢/٢٦٠) والإشراف لعبد الوهاب (٢/٥٧٧/ رقم ٩٥٧)..
١٤ في ب "إذا"..
١٥ تراجع المدونة لسحنون (٥/٣٤٠)..
١٦ في ب "وكان رهنا"..
١٧ في ب و أ "لكل" والمثبت موافق لما في "الإشراف" لعبد الوهاب..
١٨ يراجع الأم للشافعي (٣/١٥٤، ١٥٥) والإشراف على مسائل الخلاف لعبد الوهاب (٢/٥٧٩/ رقم ٩٦١)..
١٩ يراجع الموطأ لمالك (٢/٢٧١، ٢٧٢) وأحكام القرآن للجصاص (٢/٢٧٠، ٢٧١) وأحكام القرآن للهراسي (١/٢٦٨)..
٢٠ الأم للشافعي (٣/١٢٦)..
٢١ الظاهر أن نقل المؤلف لما في كتاب الشافعي يراجع الأم (٣/١٩٣)..
٢٢ يراجع أحكام القرآن للجصاص (٢/٢٦٢، ٢٦٣)..
٢٣ الأم للشافعي (٣/١٦٧، ١٦٨)..
٢٤ ورد من حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ: "لا يغلق الرهن.." والبقية مثله أخرجه ابن ماجه (٢٤٤١) والشافعي (٢/١٦٤) وابن حبان (الإحسان: ٥٩٣٤) والدارقطني في السنن (٣/٣٢) والحاكم في المستدرك (٢/٥١) والبيهقي (٦/٣٩).
والحديث موصول ضعيف وهو مرسل صحيح وتوسعت في الكلام عليه في تحقيقي لغرائب مالك لابن مظفر (ص ١٠٥ -١٠٧/ رقم ٩٩ و١٠٠). ويراجع إرواء الغليل للألباني (٥/٢٣٩ -٢٤٣/ رقم ١٤٠٦)..
٢٥ أخرجه الدارقطني في السنن (٣/٢٣) وعنه البيهقي في السنن (٦/٤٠) من طريق إسماعيل بن أبي أمية، نا حماد بن سلمة، عن قتادة، أنس. فذكره مرفوعا. كما روياه من طريق إسماعيل بن أبي أمية، نا سعيد بن راشد، نا حميد الطويل، عن أنس فذكر مثله.
قال أبو الحسن الدارقطني: "إسماعيل هذا يضع الحديث، وهذا باطل عن قتادة، وعن حماد بن سلمة والله أعلم".
ووافقه الحافظ البيهقي وقال: "والأصل في هذا الباب حديث مرسل وفيه من الوهن ما فيه".
وللحديث طرق أخرى لا يصح شيء منها لكن وجدت إمام المغرب وحافظه أبو عمر بن عبد البر يقول في الاستذكار (٢٢/٩٥): "وأصل هذا الحديث عند أكثر أهل العلم به مرسل، وان كان قد وصل من جهات كثيرة إلا أنهم يعللونها على ما ذكرنا عنهم في "التمهيد" وهم مع ذلك لا يدفعه، بل الجميع يقبله، وان اختلفوا في تأويله" فهو يصححه من حيث المعنى وان كان يضعفه من جهة السند، وهو منهجه في كثير من الأحاديث كما هو مبين في رسالتي العلمية حوله..
٢٦ يراجع الإشراف لعبد الوهاب (٢/٥٨٢، ٥٨٣) والاستذكار لابن عبد البر (٢٢/٩٣ -١٠٥)..
٢٧ يراجع أحكام القرآن لان العربي (١/٢٦٢، ٢٦٣) والمحرر الوجيز لابن عطية (٢/٣٠٦، ٣٠٧)..
اختلف في هذه الآية هل هي منسوخة أم محكمة :
والذين ذهبوا إلى أنها منسوخة قالوا لما نزلت هذه الآية شق على أصحاب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى :( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) فنسخ بهذه الآية تلك. وهذا قول ابن عباس، وأبي هريرة، والشعبي، وغيرهم١.
والذين ذهبوا إلى أنها محكمة اختلفوا في تأويلها :
فقال بعضهم : هي في كتمان الشهادة٢ وإظهارها وهو قول ابن عباس والشعبي أيضا وعكرمة وغيره. فهذان القولان للشعبي في الآية.
وقال آخرون : معناها أن الله تعالى يحاسب خلقه على ما عملوا وعلى ما لم يعملوا بما ثبت في نفوسهم وأضمروه ونووه وأرادوه، فيغفر للمؤمنين، ويؤاخذ بها أهل الكفر والنفاق٣. وهذا القول أيضا لابن عباس٤. فهذه ثلاثة أقوال لابن عباس في الآية.
وقال مجاهد : الآية فيما يطرأ٥ على النفوس من الشك واليقين. وقال آخرون : ما هم الرجل به من الذنوب في الدنيا عوقب على ذلك بما يصيبه من الهم والحزن. وهذا القول لعائشة.
والأحسن في الآية أن لا تكون منسوخة لأنها خبر، والأخبار لا تنسخ إلا أن تكون الآية الثانية إنما نسخت الشدة اللاحقة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عند نزول الأولى فيكون من قولهم نسخت الريح. الأمر أي أزالته. ومن قولهم نسخت الشمس الظل إذا أزالته وحلت محله٦. فكأن اللين الذي في الآية الأخرى أزال الشدة التي في الأولى وحل محلها٧ والله تعالى أعلم.
٢ رواه أبو عبيد في الناسخ والمنسوخ (ص٢٧٤، ٢٧٥) والطبري في تفسيره (٣/١٨٤، ١٨٥) ويراجع العجاب لابن حجر (ص ٤٦٧، ٤٦٨)..
٣ في ب "الكفار والمنافقين"..
٤ رواه الطبري عنه في تفسيره (٣/١٩١) وذكره ابن عطية في المحرر الوجيز (٢/٣١٠)..
٥ في ب "يظهر"..
٦ رواه الطبري عنها في تفسير (٣/١٩٣)..
٧ ووافق على هذا وحقق فيه الإمام الطبري في تفسيره (٣/١٩٤ -١٩٦) وابن عطية في المحرر الوجيز (٢/٣١٠ -٣١٣) ويراجع تفسير القرطبي (٣/٤٢٢، ٤٢٣).
.