تفسير سورة الأحزاب

اللباب
تفسير سورة سورة الأحزاب من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
سورة الأحزاب
مكية١ نزلت بعد آل عمران، وهي ثلاث وسبعون آية ومائتان وثمانون كلمة وخمسة آلاف وسبعمائة حرف.
١ نقله الإمام الشوكاني في فتح القدير أنها مدنية، ونزلت بالمدينة وانظر: فتح القدير ٤/٢٥٩. وذكر ابن الجوزي كذلك في زاد المسير ٦/٣٤٧، والإمام القرطبي في الجامع ١٤/١١٣..

مكية نزلت بعد آل عمران، وهي ثلاث وسبعون آية ومائتان وثمانون كلمة وخمسة آلاف وسبعمائة حرف. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا النبي اتق الله﴾ اعلم أن الفرق ين نداء المنادى بقوله: «يَا رَجُلُ» ويايُّهَا الرَّجُل، أن قوله: «يَا رَجُل» يدل على النداء، وقوله: «يا أيها الرجل» يدل على ذلك ويُنْبِىءُ عن خطر المادى له أو غفلة المنادى فقوله: «يأيها» لا يجوز حمله على غفلة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأن قوله: «النبي» ينافي الغفلة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خبيرٌ، فلا يكون غافلاً، فيجب حمله على خَطَر الخَطْب.
فإن قيل: الأمر بالشيء لا يكون إلا عند عدم اشتغال المأمور بالمأمورية إذْ لا يصلح أن (يكون) يقال للجالس: اجلس وللساكت اسْكُتْ والنبي - عَلَيْهِ
495
الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان متقياً فما الوجه في قوله «اتق الله» ؟.
فالجواب: أنه أمر (بالمدينة) بالمداومة فإنه يصح أن يقال للجالس: اجلس ههنا إلى أن يأتيك ويقال للساكت قد أصبت فاسكت تسلم أي دُمْ على ما أنت عليه، وأيضاً من جهة العقل أن الملك يتقي منه عباده على ثلاثة أوجه بعضهم يخاف من عقابه وبعضهم يخاف من قطع ثوابه وثالث يخاف من احتجابه فالنبي - عليه (الصلاة و) السلام لم يؤمر بالتقوى بالأول ولا بالثاني، وأما الثالث: فالمخلص لا يأمنه ما دام في الدنيا فكيف والأمور البدنية شاغلة فالآدَميُّ في الدنيا تارة مع الله والأخرى مقبل على ما لا بد منه وإن كان معه الله وإلى هذا أشار بقوله: ﴿إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يوحى إِلَيَّ﴾ [الكهف: ١١٠] يعني برفع الحجاب عني وقت الوحي ثم أعود إليكم كأني منكم فأُمِرَ بتقوى توجب استدامة الحضور، وقال المفسرون: نزلت في أبي سفيان وعكرمة بن أبي جهل وأبي الأعور عمرو بن أبي (رأس المنافقين) بعد قتال أحد وقد أعطاهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قولهم الأمان على أن يكلموه فقام (معهم) عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح، وطُعْمَةُ بن أُبَيْرِق فقالوا للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وعنده عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - ارفض ذكر آلهتنا اللاتَ والعُزَّى ومَنَاةَ وقل إن لها شفاعةً لمن عبدها وندعك وربَّك فشق على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قولهم فقال عمر: يا رسول اللَّهِ ائذنْ لي في قتلهم. فقال: إني قد أعطيتهم الأمان. فقال عمر: اخرجوا في لعنة الله وغضبه وأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عمر أن يُخْرِجَهُمْ من المدينة فأنزل الله: ﴿ياا أَيُّهَا النبي اتق الله﴾ أي دُم على التقوى كما يقول ارجل لغيره وهو قائم: «قُمْ قائماً» أي اثبتْ قائماً، وقيل: الخطاب مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - والمراد الأمة، وقال الضحاك معناه: اتق الله ولا تَنْقُضِ العهد الذي بينك وبينهم.
قوله: ﴿وَلاَ تُطِعِ الكافرين﴾ أي من أهل مكة يعني أبا سفيان، وعكرمة وأبا الأعور، والمنافقين من أهل المدينة عبد الله بن أبي، وطعمة ﴿إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً (حَكِيماً﴾ بخلقه قبل أن يخلقهم حكيماً فيما دبره لهم
فإن قيل: لم خص الكافر والمنافق بالذكر مع أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ينبغي أن لا يطع أحداً غير الله؟
فالجواب من وجهين:
496
الأول: أن ذكر الغير لا حاجة إليه لأن غيرهما لا يطلب من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الأتِّباع ولا يتوقع أن يصير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مطيعاً له بل يقصد اتباعه ولا يكون عنده إلا مطاعاً.
الثاني: أنه (تعالى) لما قال: ﴿﴾ منعه (من) طاعة الكل لأن كل من طلب من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - طاعته فهو كافر أو منافق لأن من يأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يأمر إيجاب معتقداً أنه لو لم يفعله يعاقبه بحق يكون كافراً.
قوله: ﴿واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ﴾ وهذا يقدر ما ذكره أولاً من أنه عليم حكيم فاتباعه واجب.
قوله: ﴿بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾ وبعده ﴿بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيراً﴾ قرأهما أبو عمرو بياء الغيبة، والباقون بتاء الخطاب أما الغيبة (في الأولى) فلقوله «الكافرين والمنافقين» وأما الخطاب فلقوله: «يأيها النبي» لأن المراد هو وأمته وخوطب بالجمع تعظيماً (له) كقوله:
٤٠٦٨ - فَإِنْ شئْتَ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُ...................................
وجوز أبو حيان أن يكون التفاتاً يعني (عن) الغائبين (و) الكافرين والمنافقين (وهو بعيد) وأما (الغيبة) في الثاني فلقوله ﴿إذ جاءتكم جنود﴾ وأما الخطاب فلقوله ﴿يأيها الذين آمنوا﴾. قوله: ﴿وتوكل على الله﴾ أي ثق بالله يعني إن توهمت من أحد فتوكل على الله فإنه كافيك ﴿وكفى بالله وَكِيلاً﴾ حافظاً لك، وقيل: كفيلاً برزْقكَ. قوله {مَّا
497
جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ «نزلت في أبي يَعْمُرَ (و) جميل بن مَعْمَرٍ الفِهْرِي وكان رجلاً لبيباً حافظاً لما يسمعه فقالت قريش: ما حفظ أبو معمر هذه الأشياء إلا وله قلبان وكان يقول: لي قلبان أعقِلُ بكُلِّ واحد منهما أَفْضَلُ من عقل محمد فلما هزم الله المشركين يوم بدر انهزم أبو مَعْمَرُ فَلَقِيَهُ أبو سفيان وإحدى نعليه بيده والأخرى في رجله فقال له: يا أبا معمر ما حال الناس؟ قال: انهزموا قال فما لك إحدى نعليك (في يدك) والأخرى في رجلك. قال أبو معمر: ما شعرت إلا أنهما في رجلي فعلموا يومئذ أنه لو كان له قلبان لما نسي نَعْلَهُ في يده.
وقال الزُّهْرِيُّ ومقتل: هذا مَثَلٌ ضربه الله للمظاهر من امرأته والمتبنيّ ولد غيره يقول: فكما لا يكون لرجل قلبان فذلك لا يكون امرأة المظاهر أمه حتى يكون لها ابناً ولا يكون ولداً واحداً من رَجُلَيْنِ. (قال الزَّمخشري) : قوله: ﴿وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ﴾ أي ما جعل الله لرجل قلبين كما لم يجعل لرجلين أمين ولا لابن أَبَوَيْنِ، (وقوله: {وما جعل أزواجكم اللائي «) قرأ الكوفيونَ وابن عامر اللائي ههنا وفي سورة الطلاق بياء ساكنة بعد همزة مكسورة وهذا هو الأصل في هذا اللفظ لأنه جميع»
التي «معنى وأبو عمرو والبَزِّيُّ اللائي بيان ساكنة وصلاً بعد ألف محضة في أحد وجيهيها، ولهما وجه آخر سيأتي، ووجه هذه القراءة أنهما حذفا الياء بعد الهمزة تخفيفاً ثم ابدلاً الهمزة ياء وسكناها ليصيرورتها ياء مكسوراً ما قبلها (إلاَّ أنَّ هذا ليس بقياس وإِنما القياس جعل الهمزة بين بين).
498
(قال أبو علي: لا يُقْدَمُ على مثل هذا البدل إلا أن يُسْمَعَ). قال شهاب الدين: قال أبو عمرو بن العلاء إنها لغة قُريش التي أمر الناس أن يقرءوا بها. وقال بعضهم: لم يبدلوا وإنما كتبوا فعبر عنهم القرآن بالإبدال. وليس بشيء. وقال أبو علي:» أو غير بإظهار أبي عمرو اللاَّئي يَئِسْنَ يدل على أنه يشهد ولم يبدل «وهذا غير لازم لأن البدل عارض فلذلك لم يدغم وقرأها ورش بهمزةٍ مُسَهَلَةٍ بَيْنَ بَيْنَ، وهذا الذي زعم بعضهم أنه لم يصح عنهم غيره وهو تخفيف قياس، وإذا وقفاو سكنوا الهمزة ومتى سكنوها استحال تسهيلها بين بين لزوال حركتها فتقلب ياءً لوقوعها ساكنةٌ بعد كسرة وليس (هذا) من مذهبهم تخفيفها فتقر همزة، وقرأ قُنْبُل وورش بهمزة مكسورة دون ياء حذف الياء واجتزأ عنها بالكسرة وها الخلاف بعينه جارٍ في المجادلة أيضاً والطلاق.
قوله:»
تَظَاهَرُونَ «قرأ عاصمٌ تُظَاهِرُونَ بضم التاء وكسر الهاء بعد ألف، مضارع» ظَاهَرَ «وابن عامر» تَظَّاهَرون «بفتح التاء والهاء وتشديد الظاء مضارع» تَظَاهَرَ «والأصل» تَتَظَاهَرُونَ «بتاءين فأدغم. والأخوان كذلك إلا أنهما خففا الظاء والأصل أيضاً بتاءين (إلا أنهما) حذفا إحداهما، وهما طريقان في تخفيف هذا النحو إما الإدغام وإما الحذف وقد تقدم تحقيقه في نحو تَذّكر وتَذَّكَّرون مخففاً ومثقلاً وتقدم نحوه في البقرة أيضاً. والباقون» تَظَّهرُونَ «بفتح التاء والحاء (وتشديد الظاء) والهاء دون ألف، والأصل» تَتَظَهَّرُونَ «بتاءين فأدغم نحو» تذكرون «وقرأ الجميع في المجادلة كقراءتهم
499
في قوله: ﴿والذين يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ﴾ [المجادلة: ٢، ٣] إلا الأخوين، فإنهما خالفا أصلهما هنا فقرءا في المجادلة بتشديد الظاء كقراءة ابن عامر.
والظهار مشتق من الظَّهْر، وأصله أن يقول الرجل لامرأته: «أنْتَ عَلَيَّ كظَهْرِ أُمِّي» وإنما لم يقرأ الأخوان بالتخفيف في المجادلة لعدم المسوِّغ له وهو الحذف؛ لأن الحذف إنما كَان لاجتماع مثلين وهما التاءان وفي المجادلة ياء من تحت وتاء مِن فوق فلم يجتمع مثلان فلا حذف فاضطر إلا الإدغام، وهذا ما قرىء به متواتراً، وقرأ ابن وثاب «تَظهَّرُونَ» بفتح التاء والظاهء مخففة وتشديد الهاء والأصل: تَتَظَهَّرُونَ مضارع «تَظَهَّر» مشدداً، فحذف إحدى التاءين، وقرأ الحسن «تُظَهِّرُونُ» بضم التاء وفتح الظاء مخففة وتشديد الهاء مكسورة مضارع «ظَهَّرَ» مشدداً وعن أبي عمرو «تَظْهَرُونَ» بفتح التاء والهاء وسكون الظاء مضارع «ظَهَرَ» مخففاً وقرأ أُبَيٌّ - وهي في مصحفه كذلك - تَتَظَهَّرُونَ - بتاءين فهذه تسع قراءات، أربعٌ متواترة، وخمسٌ شاذة، وأخذ هذه الأفعال من لفظ «الظَّهْرِ» كأخذ «لَبَّى» من التَّلْبِيَةِ، و «أفف» من أُفّ. وإنما عدي «بمن» لأنه ضمن معنى التباعد كأنه قيل: يَتَبَاعَدُونَ من نسائهم بسبب الظهار كما تقدم في البقرة في تعدية الإيلاء (بِمِنْ).

فصل


الظهار أن يقول الرجل لامرأته: أَنْتِ عَلَيَّ كظهرِ أمي، فقال الله تعالى: مَا جَعَلَ اللَّهُ نِسَاءَكُمْ اللاتي تقولون لهم هذا في التحريم كأمهاتكم ولكنه منكر وزور. وفيه كفارة يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى في سورة المُجَادَلَة.
قوله: ﴿وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ﴾ (يعني) ما جعل من تبنّيتموهم أبناءكم، (نسخ) التبني، وذلك أن الرجل في الجاهلية كان يتبنى الرجل فيجعله كالابن يدعوه الناس إليه ويرث ميراثه، «وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أعتق زيد بن حارثة بن شراحبيل
500
الكلبي وتبناه قبل الوحي وآخى بينه وبين حمزة بن عبد المطلب» فلما تزوج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - زينتب بنت جحش وكانت تحت زيدِ بن حارثة قال المنافقون تزوج محمد امرأة ابنه وهو ينهى الناس عن ذلك فأنزل الله هذه الآية، ونسخ التبني. واعلم أن الظهار كان في الجاهلية طلاقاً حتى كان للزوج ان يتزوج بها من جديدٍ.
قوله: «ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ» مبتدأ وخبر أيْ دعاؤكم الأدعياء أبناء مجدر قول لسان من غير حقيقة، والأَدْعِيَاءُ جمع دَعِيٍّ بمعنى مَدْعُوٍّ فعيل بمعنى مفعول وأصله دَعِيوٌ فأدغم ولكن جمعه على أَدْعِيَاء غير مقيس؛ لأن «أفعلاء» إنما يكون جمعاً لفَعِيل المعتل اللام إذا كان بمعنى فاعل نحو: تَقِيّ وأَتْقِيَاء، وغَنِيّ وأَغنياء، وهذا وإن كان فعيلاً معتل اللام إلا أنه بمعنى مفعول فكان قياس جمعه على فَعْلَى كقَتِيل وقَتْلَى، وجَرِيح، وَجَرْحَى، ونظير هذه (الآية في) الشذوذ، قولهم: أَسِيرٌ وأُسَرَاء، والقياس: أَسْرَى، وقد سمع فيه الأصل.
واعلم أن الله تعالى قال ههنا ﴿ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهَكُمْ﴾ وقال في قوله: ﴿وَقَالَتْ النصارى المسيح ابن الله ذلك قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ [التوبة: ٣٠] يعني نسبة الشخص إلى غير الأب قول لا حقيقة له ولا يخرج من قلب ولا يدخل أيضاً في قلب، فهو قول بالفم مثل أصوات البهائم.
قوله: ﴿والله يَقُولُ الحق﴾ أي قوله الحق ﴿وَهُوَ يَهْدِي السبيل﴾ أي يرشد إلى سبيل الحق وهذا إشارة إلى أنه ينبغي للعاقل أن يكون قوله إما من عقل أو شرع فإذا قال: فلانٌ بنُ فلان ينبغي أن يكون عن حقيقة أو شرع بأن يكون ابنه شرعاً وإن لم تعلم الحقيقة كمن تزوج بامرأةٍ فولدت لِستةِ أشْهُرٍ ولداً وكانت الزوجة من قبل زوجة شخص آخر يحتمل أن يكون الولد منه فإنا نلحقه بالزوج الثاني لقيام الفراش ونقول: إنه ابنه شرعاً، وفي الدَّعِيِّ لم توجد الحقيقة ولا ورد الشرع به لأنه لا يقول إلا الحق وهذا خلاف الحق، لأن أباه مشهور ظاهر وأشار فيه من وجه آخر إلى أن قولهم هذه زوجة الابن فتحرم فقال الله هي لك حلال فقولهم لا اعتبار له لأنه بأفواههم كأصوات البهائم وقوله الحقّ فيجب اتباعه وهو يهدي السبيل فيجب اتباعه لكونه حقاً ولكونه هادياً.
501
قوله: ﴿ادعوهم لآبَآئِهِمْ﴾ (أي الذين ولدوهم ﴿هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله﴾ أي أعدل قال عبد الله بن عِمران زيد بن حارثة مولى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزل القرآن ادْعُوْهُمْ لآبائهم هو أقسط عند) الله. واعلم أن قوله: هو أقسط أي دعاؤهم لآبائهم فهو مصدر قَاصِرٌ لدلالة فعله عليه كقوله: ﴿اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى﴾ [المائدة: ٨] قال ابن الخطيب وهو يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون ترك الإضافة للعموم أي اعدلوا كل كلام كقولك الله أكبر.
الثاني: أن يكون ما تقدم مَنْوِيّاً كأنه (قال) : ذلك أقسط من قولكم هو ابن فلان ثم تمم الإرشاد فقال: ﴿فَإِن لَّمْ تعلموا آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي الدين﴾ أي قولوا لهم إخواننا فإن كانوا مُجَرَّدِينَ فقولوا موالي فلان ثم قال: ﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ﴾ أي قبل النهي فنسبتموه إلى غيره.
قوله: ﴿ولكن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ يجوز في «ما» وجهان:
أحدهما: أن تكون مجرورة المحل عطف على ( «ما» ) المجرورة قبلها بفي، والتقدير: ولكن الجناح فيما تعمدته.
الثاني: أنها مرفوعة المحل بالابتدءا والخبر محذوف، تقديره تؤاخذون به أو عليكم في الجُنَاح ونحوه.
قوله: ﴿وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً﴾ المغفرة هي أن يستر القادر قَبِيحَ مَنْ تَحْتِ قدرته حتى أنَّ العبد إذا ستر عيب سيده مخافةَ عقابه لا يقال غفر له والرحمة هي أن يميل بالإحسان إلى المرحوم لعجز المرحوم لا لعوض فإن من مال إلى إنسان قادر كالسلطان لا يقال رحمه وكذلك من أحسن إلى غيره رجاءً في خيره أو عوضاً عما صدر منه آنفاً من الإحسان لا يقال: رحمه إذا علم هذه فالمغفرة إذا ذكرت قبل الرحمة يكون معناها أنه ستر عيبه ثم رآه مفلِساً عاجزاً فرحمه وأعطاه، وإذا ذكرت المغفرة بعد الرحمة وهو قليل يكون معناها أنه مال إليه لعجزه فترك عقابه (ولم) يقتصر عليه بل ستر ذنوبه.
502
قوله :﴿ واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ ﴾ وهذا يقدر ما ذكره أولاً من أنه عليم حكيم فاتباعه واجب١.
قوله :﴿ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ﴾ وبعده ﴿ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيراً ﴾ قرأهما أبو عمرو بياء الغيبة٢، والباقون بتاء الخطاب أما الغيبة ( في الأولى٣ ) فلقوله «الكافرين والمنافقين » وأما الخطاب فلقوله :«يأيها النبي » لأن المراد هو وأمته وخوطب بالجمع تعظيماً ( له٤ ) كقوله :
٤٠٦٨ - فَإِنْ شئْتَ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُ ***. . . . . . . . . . ٥
وجوز أبو حيان أن يكون التفاتاً يعني ( عن٦ ) الغائبين ( و٧ ) الكافرين والمنافقين ( وهو بعيد٨ ) وأما ( الغيبة٩ ) في الثاني فلقوله ﴿ إذ جاءتكم جنود ﴾ وأما الخطاب فلقوله ﴿ يأيها الذين آمنوا ﴾.
١ المرجع السابق..
٢ وهي قراء ابن أبي إسحاق والسلمي أيضاً على الخبر وانظر: القرطبي ١٤/١١٥ والبحر ٧/٢١٠، والسبعة ١٨، والإتحاف ٣٥٢..
٣ ساقط من "ب"..
٤ كذلك..
٥ هذا صدر بيت من الطويل وعجزه:
............... *** وإن شئت لم أطعم نقاحاً ولا بردا
وينسب لعبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان والصواب أنه لعمر بن أبي ربيعة، وهو بديوانه ٥١ والنقا: الماء، والبرد: النوم وشاهده يكمن في "سواكم" فإنه يخاطب فرداً ولكن جمع تعظيماً له وهكذا الآية كذلك وانظر: اللسان: " ب ر د" ٢٤٩ ونقح ٤٥١٧ وشرح شواهد الكشاف ٤/٣٦٩ و ١/٣٨١ من الكشاف..

٦ سواقط من "ب" وانظر البحر المحيط ٧/٢١٠..
٧ سواقط من "ب" وانظر البحر المحيط ٧/٢١٠..
٨ سواقط من "ب" وانظر البحر المحيط ٧/٢١٠..
٩ سقط من "ب"..
قوله :﴿ وتوكل على الله ﴾ أي ثق بالله يعني إن توهمت من أحد فتوكل على الله فإنه١ كافيك ﴿ وكفى بالله وَكِيلاً ﴾ حافظاً لك، وقيل : كفيلاً برزْقكَ.
١ في "ب" أنه..
قوله ﴿ مَا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ﴾ نزلت في أبي يَعْمُرَ١ ( و٢ ) جميل بن مَعْمَرٍ الفِهْرِي وكان رجلاً لبيباً حافظاً لما يسمعه٣ فقالت قريش : ما حفظ أبو معمر هذه الأشياء إلا وله قلبان وكان يقول : لي قلبان٤ أعقِلُ بكُلِّ واحد منهما أَفْضَلُ من عقل محمد فلما هزم الله المشركين يوم بدر انهزم أبو مَعْمَرُ فَلَقِيَهُ أبو سفيان وإحدى نعليه بيده والأخرى في رجله فقال له : يا أبا معمر ما حال الناس ؟ قال : انهزموا قال فما لك إحدى نعليك ( في يدك٥ ) والأخرى في رجلك. قال أبو معمر : ما شعرت إلا أنهما في رجلي فعلموا يومئذ أنه لو كان له قلبان لما نسي نَعْلَهُ في يده٦.
وقال الزُّهْرِيُّ ومقاتل : هذا٧ مَثَلٌ ضربه الله للمظاهر من امرأته والمتبنيّ ولد٨ غيره يقول٩ : فكما لا يكون لرجل قلبان فكذلك١٠ لا يكون امرأة المظاهر أمه حتى يكون لها ابناً ولا يكون ولداً واحداً١١ من رَجُلَيْنِ. ( قال الزَّمخشري١٢ ) : قوله :﴿ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ ﴾ أي ما جعل الله لرجل قلبين كما لم يجعل لرجلين أمين ولا لابن أَبَوَيْنِ١٣، ( وقوله :﴿ وما جعل أزواجكم اللائي ﴾ )١٤ قرأ الكوفيونَ وابن عامر اللائي ههنا وفي سورة الطلاق بياء١٥ ساكنة بعد همزة مكسورة وهذا هو الأصل في هذا اللفظ لأنه جمع «التي » معنى وأبو عمرو والبَزِّيُّ١٦ اللائي بياء ساكنة وصلاً بعد ألف محضة في أحد وجهيها، ولهما وجه آخر سيأتي، ووجه هذه القراءة أنهما حذفا الياء بعد الهمزة تخفيفاً ثم أبدلا الهمزة ياء وسكناها لصيرورتها ياء مكسوراً ما قبلها١٧ ( إلاَّ أنَّ هذا ليس بقياس وإِنما القياس١٨ جعل الهمزة بين بين ).
( قال أبو علي١٩ : لا يُقْدَمُ على مثل هذا البدل إلا أن يُسْمَعَ )٢٠. قال شهاب٢١ الدين : قال أبو عمرو بن العلاء إنها لغة قُريش التي أمر الناس أن يقرءوا بها. وقال بعضهم : لم يبدلوا وإنما كتبوا فعبر عنهم القرآن٢٢ بالإبدال. وليس بشيء. وقال أبو علي :«أو غير بإظهار أبي عمرو اللاَّئي يَئِسْنَ يدل على أنه يشهد٢٣ ولم يبدل » وهذا غير لازم لأن البدل عارض فلذلك لم يدغم وقرأها ورش بهمزةٍ مُسَهَلَةٍ بَيْنَ بَيْنَ٢٤، وهذا الذي زعم بعضهم أنه لم يصح عنهم غيره وهو تخفيف قياسي، وإذا وقفوا سكنوا الهمزة ومتى سكنوها استحال تسهيلها بين بين لزوال حركتها فتقلب ياءً لوقوعها ساكنةٌ بعد كسرة وليس ( هذا )٢٥ من مذهبهم تخفيفها٢٦ فتقر همزة، وقرأ قُنْبُل وورش بهمزة٢٧ مكسورة دون ياء حذف الياء واجتزأ عنها بالكسرة وهذا الخلاف بعينه جارٍ في المجادلة٢٨ أيضاً والطلاق٢٩.
قوله :«تَظَاهَرُونَ » قرأ عاصمٌ تُظَاهِرُونَ بضم التاء وكسر الهاء بعد ألف، مضارع «ظَاهَرَ » وابن عامر «تَظَّاهَرون » بفتح التاء والهاء وتشديد الظاء مضارع «تَظَاهَرَ » والأصل «تَتَظَاهَرُونَ » بتاءين فأدغم٣٠. والأخوان٣١ كذلك إلا أنهما خففا الظاء والأصل أيضاً بتاءين ( إلا أنهما٣٢ ) حذفا إحداهما، وهما طريقان في تخفيف هذا النحو إما الإدغام وإما الحذف وقد تقدم تحقيقه في نحو تَذّكر وتَذَّكَّرون٣٣ مخففاً ومثقلاً وتقدم نحوه في البقرة أيضاً. والباقون «تَظَّهرُونَ » بفتح التاء والحاء ( وتشديد الظاء )٣٤ والهاء دون ألف، والأصل «تَتَظَهَّرُونَ » بتاءين فأدغم نحو «تذكرون » وقرأ الجميع٣٥ في المجادلة كقراءتهم في قوله :﴿ والذين يُظَاهِرُونَ مِن نِسَائِهِمْ ﴾ إلا الأخوين، فإنهما خالفا أصلهما هنا فقرءا في المجادلة بتشديد الظاء كقراءة ابن عامر.
والظهار مشتق من الظَّهْر، وأصله أن يقول الرجل لامرأته٣٦ :«أنْتِ عَلَيَّ كظَهْرِ أُمِّي » وإنما لم يقرأ الأخوان بالتخفيف في المجادلة لعدم المسوِّغ٣٧ له وهو الحذف ؛ لأن الحذف إنما كَان لاجتماع مثلين وهما التاءان وفي المجادلة ياء من تحت وتاء مِن فوق فلم يجتمع مثلان فلا حذف فاضطر إلا الإدغام، وهذا ما قرئ به متواتراً٣٨، وقرأ ابن وثاب «تَظهَّرُونَ » بفتح التاء والظاء مخففة وتشديد٣٩ الهاء والأصل : تَتَظَهَّرُونَ مضارع «تَظَهَّر » مشدداً، فحذف إحدى التاءين، وقرأ الحسن «تُظَهِّرُونُ » بضم التاء وفتح الظاء مخففة وتشديد الهاء مكسورة مضارع «ظَهَّرَ » مشدداً٤٠ وعن أبي عمرو «تَظْهَرُونَ » بفتح التاء والهاء وسكون الظاء مضارع «ظَهَرَ » مخففاً٤١ وقرأ أُبَيٌّ - وهي في مصحفه كذلك - تَتَظَهَّرُونَ - بتاءين٤٢ فهذه تسع قراءات، أربعٌ متواترة، وخمسٌ شاذة، وأخذ هذه الأفعال من لفظ «الظَّهْرِ » كأخذ «لَبَّى » من التَّلْبِيَةِ، و «أفف » من أُفّ. وإنما عدي «بمن » لأنه ضمن معنى التباعد كأنه قيل : يَتَبَاعَدُونَ من نسائهم بسبب الظهار كما تقدم في البقرة في تعدية الإيلاء ( بِمِنْ٤٣ ).

فصل :


الظهار أن يقول الرجل لامرأته : أَنْتِ عَلَيَّ كظهرِ أمي، فقال الله تعالى : مَا جَعَلَ اللَّهُ نِسَاءَكُمْ اللاتي تقولون لهم هذا في التحريم كأمهاتكم ولكنه منكر وزور. وفيه كفارة يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى في سورة المُجَادَلَة.
قوله :﴿ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ﴾ ( يعني )٤٤ ما جعل من تبنّيتموهم أبناءكم، ( نسخ٤٥ ) التبني٤٦، وذلك أن الرجل في الجاهلية كان يتبنى الرجل فيجعله كالابن يدعوه الناس إليه ويرث ميراثه، «وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أعتق زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي وتبناه قبل الوحي وآخى بينه٤٧ وبين٤٨ حمزة بن عبد المطلب » فلما تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زينب بنت جحش وكانت تحت زيدِ بن حارثة قال المنافقون تزوج محمد امرأة ابنه وهو ينهى الناس عن ذلك فأنزل الله هذه الآية٤٩، ونسخ التبني. واعلم أن الظهار كان في الجاهلية طلاقاً حتى كان للزوج أن يتزوج بها من جديدٍ.
قوله :«ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ » مبتدأ وخبر أيْ دعاؤكم الأدعياء أبناء مجرد قول لسان٥٠ من غير حقيقة، والأَدْعِيَاءُ جمع دَعِيٍّ بمعنى مَدْعُوٍّ فعيل بمعنى مفعول وأصله دَعِيوٌ فأدغم٥١ ولكن جمعه على أَدْعِيَاء غير مقيس ؛ لأن «أفعلاء » إنما يكون جمعاً لفَعِيل المعتل اللام إذا كان بمعنى فاعل نحو : تَقِيّ وأَتْقِيَاء، وغَنِيّ وأَغنياء، وهذا وإن كان فعيلاً معتل اللام إلا أنه بمعنى مفعول فكان قياس جمعه على فَعْلَى كقَتِيل وقَتْلَى، وجَرِيح، وَجَرْحَى، ونظير هذه ( الآية٥٢ في ) الشذوذ، قولهم : أَسِيرٌ وأُسَرَاء، والقياس : أَسْرَى٥٣، وقد سمع فيه الأصل٥٤.
واعلم أن الله تعالى قال ههنا ﴿ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ ﴾ وقال في قوله :﴿ وَقَالَتِ النصارى المسيح ابن الله ذلك قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ ﴾ [ التوبة : ٣٠ ] يعني نسبة الشخص إلى غير الأب قول لا حقيقة له ولا يخرج من قلب ولا يدخل أيضاً في قلب، فهو قول بالفم مثل أصوات البهائم.
قوله :﴿ والله يَقُولُ الحق ﴾ أي قوله الحق ﴿ وَهُوَ يَهْدِي السبيل ﴾ أي يرشد إلى سبيل الحق وهذا إشارة إلى أنه ينبغي للعاقل أن يكون قوله إما من عقل أو شرع فإذا قال : فلانُ بنُ فلان ينبغي أن يكون عن حقيقة أو شرع بأن يكون ابنه شرعاً وإن لم تعلم الحقيقة كمن تزوج بامرأةٍ فولدت لِستةِ أشْهُرٍ ولداً وكانت٥٥ الزوجة من قبل زوجة شخص آخر يحتمل أن يكون الولد منه فإنا نلحقه بالزوج الثاني لقيام الفراش ونقول : إنه ابنه شرعاً، وفي الدَّعِيِّ لم توجد٥٦ الحقيقة ولا ورد الشرع به لأنه لا يقول إلا الحق وهذا خلاف الحق، لأن أباه مشهور ظاهر وأشار فيه من وجه آخر إلى أن قولهم هذه زوجة الابن فتحرم فقال الله هي لك حلال فقولهم لا اعتبار له لأنه بأفواههم كأصوات البهائم وقوله الحقّ فيجب اتباعه وهو يهدي السبيل فيجب اتباعه لكونه حقاً ولكونه هادياً٥٧.
١ في "ب" معمر وهو الأصح..
٢ زيادة من "أ" لا معنى لها..
٣ في "ب" لما يسمع بدون عائد..
٤ في "ب" إن لي قلبين..
٥ سقط من "ب"..
٦ القرطبي ١٤/١١٦..
٧ المرجع السابق..
٨ في "ب" وللمتمني ولد غيره..
٩ في "ب" معقول بدلاً من "يقول" وهو تحريف..
١٠ في "ب" كذلك..
١١ في "ب" ابن رجلين..
١٢ ساقط من "ب"..
١٣ انظر: الكشاف ٣/٢٩٤..
١٤ ساقط من "ب"..
١٥ انظر: الكشاف ٣/٢٤٦ والإتحاف ٣٥٢ والسبعة ٥١٨ وإبراز المعاني ٦٤٤ وهي قراءة حمزة والكسائي وعاصم أيضاً وهذا الاتفاق يجيء في سورة المجادلة أيضاً..
١٦ هو: أحمد بن محمد بن عبد الله بن القاسم بن نافع بن أبي بزة أبو الحسن البَزِّي المَكِّي المُقْرِئ قارئ ومؤذن المسجد الحرام مات سنة ٢٥٠ هـ، غاية النهاية ١/١١٩ وكذلك معرفة القراء الكبار ١/١٧٣..
١٧ كياء الغازي والقاضي وانظر: حجة ابن خالويه ٢٨٨ والكشف عن وجوه القراءات ٢/١٩٣..
١٨ تكملة وزيادة من "ب"..
١٩ ما بين القوسين ساقط من "أ". وهو الحسن بن أحمد بن عبد الغفار بن محمد بن سليمان الإمام أبو علي المشهور واحد زمانه في العربية أخذ عن الزجاج وابن السراج وعنه الربعي وله مصنفات نافعة في القراءات والنحو وغيرها كالحجة والمسائل الحلبية، والبغدادية وغيرها مات سنة ٣٧٧، بغية الوعاة للسيوطي ١/٤٩٦..
٢٠ الحجة في القراءات ٦/١٤٥..
٢١ الدر المصون ٤/٣٦٣ و ٣٦٤..
٢٢ المرجع السابق وفي "ب" القراء..
٢٣ في الحجة له: "يسهل" وهو الأصح وانظر: الحجة ٦/١٤٥ وإبراز المعاني للإمام أبي شامة فقد نقل قول أبي على ومعناه دون تعيين ص ٤٧ و ٦٤٤..
٢٤ الإتحاف ٣٥٢ والسبعة ٥١٨..
٢٥ ساقط من "ب"..
٢٦ في "ب" فتقلب وينظر: إبراز المعاني ٦٤٤ والدر المصون ٤/٣٦٤..
٢٧ المراجع السابقة..
٢٨ الآية من المجادلة "٢"..
٢٩ الآية ٤ من الطلاق..
٣٠ المراجع السابقة..
٣١ هما حمزة والكسائي. المراجع السابقة..
٣٢ سقط من "ب"..
٣٣ وردت في آيات كثيرة إلا أن الأسبق آية الأعراف والأنعام الآية ١٥٢ من الأنعام والآية ٣ من الأعراف وقد قيل فيهما مثل ما قال أعلى..
٣٤ ما بين القوسين ساقط من "ب"..
٣٥ في "ب" وقراءة بصيغة الاسم..
٣٦ في "ب" لزوجته..
٣٧ في "ب" لعدم مثل له..
٣٨ نقله السمين في الدر المصون ٤/٣٦٤..
٣٩ انظر: البحر ٧/٢١١ وقد نقل عنه أيضاً أنه قرأ "تظهرون" بضم التاء وكسر الهاء وسكون الظاء من "أظهر" وكلتا القراءتين شاذتان، انظر: بحر أبي حيان ٧/٢١١..
٤٠ من القراءات الشاذة أيضاً غير المتواترة ذكرها ابن خالويه في مختصره ١١٨ والإتحاف ٣٥٣ ومعاني القرآن للفراء ٢/٣٣٤..
٤١ ابن خالويه ١١٨ والبحر المحيط ٧/٢١١ والدر المصون ٤/٣٦٤..
٤٢ المرجعان السابقان..
٤٣ يشير إلى الآية ٢٢٦ وهي قوله تعالى: ﴿للذين يولون من نسائهم تربص أربعة أشهر﴾ وقد ذكر هناك أن الإيلاء عدي بمن أي يبعدون من نسائهم، انظر: اللباب ١/٤٠٢ ب..
٤٤ سقط من "ب"..
٤٥ سقط من "ب"..
٤٦ في "ب" التبين وهو تحريف..
٤٧ في "ب" بنته..
٤٨ في "ب" من حمزة..
٤٩ ذكره القرطبي في ١٤/١١٨ و ١٤/١٩٤ وقد روى الأئمة أن ابن عمر قال: ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد حتى نزلت: "ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله"..
٥٠ في "ب" للسان..
٥١ بعد أن اجتمعت الواو والياء وسبق إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء ثم كانت مرحلة الإدغام اليائيّ..
٥٢ سقط من "ب"..
٥٣ ذكره أبو حيان في البحر ٧/٢١٢ والدر ٤/٣٦٥..
٥٤ الدر ٤/٣٦٥ ويقصد أنه سمع دعوى جمعاً "لدَعِيّ" ولم أعثر على جمع تلك الكلمة بهذا الوزن..
٥٥ الفخر ٢٥/١٩٢..
٥٦ في "ب" لم توجب..
٥٧ نقله الفخر في التفسير ٢٥/١٩٢..
قوله :﴿ ادعوهم لآبَائِهِمْ ﴾ ( أي الذين ولدوهم ﴿ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله ﴾ أي أعدل قال عبد الله بن عِمران زيد بن حارثة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزل القرآن ادْعُوْهُمْ لآبائهم هو أقسط عند )١ الله. واعلم أن قوله : هو أقسط أي دعاؤهم لآبائهم فهو مصدر قَاصِرٌ لدلالة فعله عليه كقوله :﴿ اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى ﴾ [ المائدة : ٨ ] قال ابن الخطيب٢ وهو يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون ترك الإضافة للعموم٣ أي اعدلوا كل كلام كقولك الله أكبر.
الثاني : أن يكون ما تقدم مَنْوِيّاً كأنه ( قال٤ ) : ذلك أقسط من قولكم هو ابن فلان ثم تمم الإرشاد فقال :﴿ فَإِن لَمْ تعلموا آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي الدين ﴾ أي قولوا لهم إخواننا فإن كانوا مُجَرَّدِينَ فقولوا موالي فلان ثم قال :﴿ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ ﴾ أي قبل النهي فنسبتموه إلى غيره.
قوله :﴿ ولكن مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ﴾ يجوز في «ما » وجهان :
أحدهما : أن تكون مجرورة المحل عطف على ( «ما٥ » ) المجرورة قبلها بفي، والتقدير : ولكن الجناح فيما تعمدته.
الثاني : أنها مرفوعة المحل بالابتداء والخبر محذوف، تقديره تؤاخذون به أو عليكم فيه الجُنَاح٦ ونحوه.
قوله :﴿ إنَّ الله كان غَفُوراً رَحِيماً ﴾ المغفرة هي أن يستر القادر قَبِيحَ مَنْ تَحْتِ قدرته حتى أنَّ العبد إذا ستر عيب سيده مخافةَ عقابه لا يقال غفر له والرحمة هي أن يميل بالإحسان إلى المرحوم لعجز المرحوم لا لعوض فإن من مال إلى إنسان قادر كالسلطان لا يقال رحمه٧ وكذلك من أحسن إلى غيره رجاءً في خيره أو عوضاً عما صدر منه آنفاً من الإحسان لا يقال : رحمه إذا علم هذه فالمغفرة إذا ذكرت قبل الرحمة يكون معناها أنه ستر عيبه ثم رآه مفلِساً عاجزاً فرحمه وأعطاه، وإذا ذكرت المغفرة بعد الرحمة وهو قليل يكون معناها أنه مال إليه لعجزه فترك عقابه ( ولم٨ ) يقتصر عليه بل ستر ذنوبه٩.
١ ما بين القوسين ساقط من "ب"..
٢ الفخر ٢٥/١٩٣..
٣ هكذا في الرازي المرجع السابق وما في "ب" المعلوم وهو تحريف..
٤ ساقط من "ب" وهي في تفسير الرازي..
٥ ساقط من "ب"..
٦ ذكره في الدر المصون ٤/٣٦٥ وابن الأنباري في البيان ٢/٢٦٤ والفراء في معانيه ٢/٣٣٥ والعكبري في التبيان ١٠٥١..
٧ ذكره الإمام الفخر في تفسيره (٢٥/١٩٣)..
٨ ساقط من "ب"..
٩ نقله الفخر الرازي في تفسيره ٢٥/١٩٣ و ١٩٤..
قوله: ﴿النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ أي من بعضهم ببعض في نفوذ حكمه ووجوب طاعته عليهم وقال ابن عباس (وقتادة) وعطاء يعني إذا دعاهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ودعتهم أنفسهم إلى شيء كانت طاعة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أولى بهم من طاعة أنفسهم. وقال ابن زيد. النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم فيما قضى بينهم كما كنت أولى بعبدك فيما قضيت عليه، وقيل: أولى بهم في الحمل على الجهاد وبَذْلِ النفس دونه، وقيل: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يخرج إلى الجهاد فيقول قومٌ: نذهب فنَسْتَأْذِنُ من آبائنا وأمهاتنا. فنزلت (الآية)، وروى أبو هريرة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال:» مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلاَّ أَنَا أَوْلَى بِهِ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ اقرْءَوا إنْ شِئْتُمْ: ﴿النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم﴾ فَأَيُّمَا مؤمِن مَاتَ وتَرَكَ مالاً فَلْيَرِثْهُ عَصَبَتُهُ مَنْ كَانُوا وَمَنْ تَرَكَ دُنْيا أو ضياعاً فَلْيأْتني فَأَنَا مَوْلاَهُ «قوله:» وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ «أي مثل أمهاتهم وهو أب لهم وهن أمهات المؤمنين في تعظيم حقهن وتحريم نكاحهن على التأبيد لا في النظر إليهن، والخلوة بهن فإنه حرام في حقهن كما في حق الأجانب قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فاسألوهن مِن وَرَآءِ حِجَابٍ﴾ [الأحزاب: ٣٣] ولا يقال لبناتهن هن أخوات للمؤمنين ولا لإخوانهن وأخواتهن أخوال المؤمنين وخالاتهم وقال الشافعي: تزوج الزبير أسماء بنت أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وهي أخت أم المؤمنين، واختلفوا في أنهن هل كن أمهات النساء المؤمنات، قيل: كن أمهات المؤمنين جميعاً وقيل: كن أمهات المؤمنين دون النساء.
روى الشعبِيُّ عن مسروق أن امرأة قالت لعائشة يا أمه فقالت: لست لك بأم
503
إنما أنا أمُّ رِجَالِكُمْ فدل هذا على أن معنى هذه الأمومة تحريم نكاحهن.

فصل


قال ابن الخطيب: هذا تقرير آخر، وذلك لأن زوجة النبي - عليه السلام - ما جعلها الله في حكم الأم إلا لقطع نظر الأمة عما تعلق به غرض النبي - عليه السلام - فإذا تعلق خاطره بامرأة شاركت زوجاته في التعلق فحرمت مثل ما حرمت أزواجه على غيره. فإن قيل: كيف قال: وأزواجه أمهاتهم وقال من قبل: ﴿ما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم﴾ فأشار إلى أن غير من ولدت لا تصير أمّاً بوجه، ولذلك قال في موضع آخر ﴿إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ﴾ [المجادلة: ٢] ؟.
فالجواب: أن قوله تعالى في الآية المتقدمة: ﴿والله يقول الحق وهو يهدي السبيل﴾ جواب عن هذا والمعنى أن الشرع مثل الحقيقة ولهذا يرجع العاقل عند تعذر اعتبار الحقيقة إلى الشريعة كما أن امرأتين (إذا) ادَّعَتْ كل واحدة ولداً (بعينه (ولم يكن لهما بينة وحلفت إحداهما دون الأخرى حكم لها بالولد فعلم أن عند عدم الوصول إلى الحقيقة يرجع إلى الشرع بل في بعض المواضع (على المندوب) تغلبُ الشريعة على الحقيقة فإن الزاني لا يجعل أباً لولدِ الزنا وإن كان ولده في الحقيقة وإذا كان كذلك فالشارع له الحكم فقول القائل: هذه أمي قول (يفهم) لا عن حقيقة ولا يترتب عليه حقيقة وأما قول الشارع فهو حق فله أن يتصرف في الحقائق كم يشاء، ألا ترى أن الأم ما صارت أمَّا إلا بخلق الله الولد في رحمها ولو خلقه في جوف غيرها لكانت الأم غيرها فإذا كان الذي يجعل الم الحقيقة أمَّا فله أن يسمى أي امرأة أمَّا ويعطيها حكم الأمومة.
على الابن لأن الزوجية تحصل الغيرة فإن تزوج بمن كان تحت الأب يُفْضي إلى قطع الرحم والعقوق ولكن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - يربي في الدنيا والأخرة فوجب أن يكون زجاته مثل زوجات الآباء.
504
فإن قيل: فَلِمَ لم يقل إن النبي أبوكم ويحصل هذا المعنى أو لم يقل أزواج أبيكم.
فالجواب: ان الحكمة فيه هو النبي (عليه السلام) (مما بينا) أنه إذا أراد زوجة واحدٍ من الأمة وجب عليه تركها ليتزوج بها النبي - عليه (الصلاة و) السلام - فلو قال: أنت أبوهم لحرم عليه زوجات المؤمنين على التأبيد، ولأنه لام جعل أولى بهم من أنفسهم والنفس مقدمة على الأب لقوله (- عليه السلام -) :«ابْدَأْ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ» ولذلك فإن المحتاج (إلى القوت) لا يجب عليه صرفه إلى (الأب ويجب عليه صرفه إلى) النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثم إن أزواجه لهم حكم أزواج الأب حتى لا تحرم أولادهن على المؤمنين ولا أخواتهن ولا أمهاتهن وإن كان الكل يحرمن في الأم الحقيقة والرضاعة.
قوله: ﴿وَأُوْلُو الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله﴾ يعني في الميراث قال قتادة: كان المسلمون يتوارثون بالهجرة قال الكلبي: إخاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بين الناس كان يُؤاخِي بين رجلين فإِذا مات أحَدُهُما وَرِثَهُ الأخَرُ دون عصبته حتى نزلت هذه الآية: ﴿وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله﴾ في حكم الله من المؤمنين الذين آخى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بينهم والمهاجرين يعني ذوي القرابات بعضهم أولى بميراث بعض من أن يرثوا بالإيمان والهجرة فنسخت هذه الآية الموارثة بالمؤاخاة والهجرة فصارت بالقَرَابة وبعضهم يجوز فيه وجهين:
أحدهما: أن يكون بدلا من أولو.
والثاني: أنه مبتدأ، وما بعده خبر، والجملة خبر الأول.
قوله: ﴿فِي كِتَابِ الله﴾ يجوز أن يتعلق «بأُولِي» إلا أن أفعل التفضيل يعمل في الظرف، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من الضمير في أولو والعمل فيها أولو لأنها شبيهة بالظرف ولا جائز أن يكون حالاً (من أولو) للفصل بالخَبَرِ ولأنه لا عامل فيها.
505
قوله: «مِنَ المُؤْمِنِينَ» يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أنها «من» الجارة المفضول كهي في «زَيْدٌ أَفْضَلُ مِنْ عَمْروٍ» والمعنى وأولو الأرحام أولى بالإرث من المؤمنين والمهاجرين الأجانب.
والثاني: أنها للبيان جيء بها بياناً لأولى الأرحام فيعتلق بمحذوف أي (أَعْنِي) والمعنى وأولو الأرحام من المؤمنين أولى بالإرْثِ من الأَجانب.
قوله: ﴿إِلاَّ أَن تفعلوا﴾ هذا استثناء من غير الجنس وهو مستثنى من معنى الكلام وفحواه إذا التقدير وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في الإرث وغيره لكن إذا فعلتم مع غيرهم من أوليائكم خيراً كان لكم ذلك وعدى تفعلوا (بإلى) لتضمنه معنى تدخلوا، وأراد بالمعروف الوصية للذين تولونه من المُعاقِدِينَ يعني إن أوْصَيْتُم فغير الوارثين أولى وإذا لم تُوصُوا فالوارثون أولى بميراثكم وذلك أن الله لما نسخ التوارث بالحلف والهجرة وأباح أن يوصي (لمن يتولاه) بما أحب ثُلُثَ ماله. قال مجاهد: أراد بالمعروف المعرفة وحفظ الحُرْمَة بحق الإيمان والهجرة يعني وأولو الأرحام من المُؤِمِنِينَ والمهاجرين أولى ببعض أي لا توارث بين المسلم والكَافِرِ ولا بين المهاجر وغير المهاجر ﴿إِلاَّ أَن تفعلوا إلى أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً﴾ أي إلا أن تَعْرِضُوا لذوي قُرَابَاتِكُمْ بشيء وإن كانوا من غير أهل الإيمان والهجرة وهذا قول عطاءٍ وقتادةَ وعكرمة.
فإن قيل: أي تعلق للميراث والوصية بما تقدم.
فالجواب: قال ابن الخطيب وجوابه من وجهين:
أحدهما: أن غير النبي في حال حياته لا يصير إليه مال الغير وبعد وفاته لا يصير ماله لغير ورثته والنبي - عليه السلام - في حال حياته كان يصير له مال الغير إذا أرادوه ولا يصير ماله لوَرثَتِهِ بعد وفاته فكأن الله تعالى عوض النبي عن قطع ميراثه بقدرته بأن له تملك مال الغير وعوض المؤمنين بأن ما تركه النبي يرجع إليهم حتى لا يكون حرج على المؤمنين في أن النبي (عليه السلام) إذا أراد شيئاً يصير له ثم يموت ويبقى لورثته فيفوت عليهم، ولا يرجع إليهم فقال الله تعالى: ﴿وَأُوْلُو الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ﴾
506
يعني التوارث بينكم فيصير مال أحدكم لغيره بالإرث والنبي لا توارث بينه وبين أقاربه فينبغي أن يكون له بدل هذا وهو أنه أولى في حياته بما في أيديكم.
الثاني: أن الله تعالى ذكر دليلاً على أن النبي عليه السلام أولى فيصير أولى من قريبه فكأنه بالواقع قطع الإرث وقال هذا مالي لا ينتقل عني إلا لمن أريده فكذلك جعل الله تعالى لنبيه من الدنيا ما أراده ثم ما يفضل منه يكون لغيره ثم قال: ﴿كَانَ ذَلِكَ فِي الكتاب مَسْطُوراً﴾ مكتوباً.
قال القرطبي: أراد بالكتاب القرآن وهو آية المواريث والوصية وقيل: اللوح المحفوظ.
قوله: ﴿وإذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين ميثاقهم﴾ الآية وجه تعلق هذه الآية بما قبلها هو أن الله تعالى لما أمر النبي عليه السلام بالاتقاء وقال: ﴿يا أيها النبي اتق الله﴾ وأكده بالحكاية التي خشي (فيها) منهم، خفّف عنه لكي لا يخشى أَحداً غيره وبين أنه لم يرتكب أمراً يوجب الخشية بقوله: ﴿النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم﴾ وأكده بوجه آخر فقال: «وإذْ أَخَذْنَا» كأنه قال: اتق الله ولا تخف أاحداً واذكر أن الله (أخذ ميثاق) النبيين في أنهم بلغون رسالات الله ولا يمنعهم من ذلك خوف ولا طمع والمراد من الميثاق العهد الذي بينه في إرسالهم وأمرهم بالتبليغ وأن يصدق بعضهم بعضاً قال مقاتل: أخذنا ميثاقهم على أن يدعوا الناس إلى عبادته، ويصدق بعضهم بعضاً وينصحوا لقومهم. قوله: «وإذْ» يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون منصوباً «باذكر» أي اذْكُرْ إِذْ أَخَذْنَا «.
والثاني: أن يكون معطوفاً على مَحَلِّ:»
في الكتاب «فيعمل فيه» مَسْطُوراً «أي كان مسطوراً في الكتاب (و) وقت أَخِذِنا. قوله: ﴿وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وموسى وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ﴾ خص هؤلاء
507
الخمسةَ بالذكر لأنهم أصحاب الكتب والشرائع وأولو العزم من الرُّسُلِ، وقدم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأنه أولهم في كتاب الله،» كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: كُنْتُ أَوَّلَ النبيّين في الخَلْقِ، وآخِرَهم في البَعْثِ «قال قتادة وذلك قول الله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ﴾ فبدأ به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال ابن الخطيب: وخص بالذكر أربعة من الأنبياء وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى، لأن موسى وعيسى كان لهما في زمان نبينا قوم وأمه فذكرهما احتجاجاً على قومهما، وإبراهيم (عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ) يقولون بفضله (وكانوا يتبعونه في الشعائر، ونوحاً لأنه كان أصلاً ثانياً للناس حيث وجد الخلق منه بعد الطوفان)، وعلى هذا لو قال قائل: فآدم كان أولى بالذكر من نوح فنقول: خلق آدم كان للعمارة ونبوته كانت مثل الأبوّة للأولاد ولهذا لم يكن في زمانه إهلاك قوم ولا تعذيب، وأما نوحٌ فكان مخلوقاً للنبوة وأرسل للإنزال ولما كذّبوه أهلك قومه وأغرقوا، وأما ذكرعيسى بقوله: عيسى ابن مريم والمسيح ابن مريم؛ فهو إشارة إلى أنه لا أب له، إذ لو كان لوقع التعريفُ به.
قوله:»
مِيثَاقاً غَلِيظاً «هو الأول، وإنما كرر لزيادة صفته وإيذانا بتوكيده، قال المفسرون: عهداً شديداً على الوفاء بما حملوا. قوله:» ليسألَ «فيها وجهان:
أحدهما: أنها لام كي أي أخذنا ميثاقهم ليسأل المؤمنين عن صدقهم والكافرين عن تكذيبهم فاستغنى عن الثاني بذكر مُسَبِبَّهِ وهو قوله:»
وأَعَدَّ «ومفعول صدقهم محذوف أي صِدْقِهِمْ عَهْدَهُمْ، ويجوز أن يكون» صِدْقِهِم «في معنى تصديقهم ومفعوله محذوف أيضاً أي عن تصديقهم الأنْبِيَاءَ.
قوله: «وأَعَدَّ»
يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون معطوفاً على ما دل عليه «لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ» ؛ إذ التقدير: فأثاب الصادقين وأعد للكافرين.
508
قوله :﴿ وإذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين ميثاقهم ﴾ الآية وجه تعلق١ هذه الآية بما قبلها هو أن الله تعالى لما أمر النبي عليه السلام بالاتقاء وقال :﴿ يا أيها النبي اتق الله ﴾ وأكده بالحكاية التي خشي ( فيها )٢ منهم، خفّف عنه لكي لا يخشى أَحداً غيره وبين أنه لم يرتكب٣ أمراً يوجب الخشية بقوله :﴿ النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ﴾ وأكده بوجه آخر فقال :«وإذْ أَخَذْنَا » كأنه قال : اتق الله ولا تخف أحداً واذكر أن الله ( أخذ ميثاق )٤ النبيين في أنهم مبلغون رسالات الله ولا يمنعهم من ذلك خوف ولا طمع والمراد من الميثاق العهد الذي بينه في إرسالهم وأمرهم بالتبليغ وأن يصدق بعضهم بعضاً قال مقاتل : أخذنا ميثاقهم٥ على أن يدعوا الناس إلى عبادته، ويصدق بعضهم بعضاً وينصحوا لقومهم.
قوله :«وإذْ » يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أن يكون منصوباً «باذكر » أي اذْكُرْ إِذْ أَخَذْنَا٦.
والثاني : أن يكون معطوفاً على مَحَلِّ :«في الكتاب » فيعمل فيه «مَسْطُوراً » أي كان مسطوراً في الكتاب ( و٧ ) وقت أَخْذِنَا.
قوله٨ :﴿ وَمِنْكَ وَمِن نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ ومُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ﴾ خص هؤلاء الخمسةَ بالذكر لأنهم أصحاب الكتب والشرائع وأولو العزم من الرُّسُلِ، وقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه أولهم في كتاب الله، «كما قال صلى الله عليه وسلم : كُنْتُ أَوَّلَ النبيّين في الخَلْقِ، وآخِرَهم في البَعْثِ »٩ قال قتادة وذلك قول الله عز وجل :﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيّين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن١٠ نُوحٍ ﴾ فبدأ به ١١- صلى الله عليه وسلم - قال ابن الخطيب١٢ : وخص بالذكر أربعة من الأنبياء وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى، لأن موسى وعيسى كان لهما في زمان نبينا قوم وأمة فذكرهما احتجاجاً على قومهما١٣، وإبراهيم ( عليه الصلاة١٤ والسلام ) يقولون بفضله ( وكانوا١٥ يتبعونه في الشعائر، ونوحاً لأنه كان أصلاً ثانياً للناس حيث وجد الخلق منه بعد الطوفان )، وعلى هذا لو قال قائل : فآدم كان أولى بالذكر من نوح فنقول١٦ : خلق آدم كان للعمارة ونبوته كانت مثل الأبوّة للأولاد ولهذا لم يكن في زمانه إهلاك قوم ولا تعذيب، وأما نوحٌ فكان مخلوقاً للنبوة وأرسل للإنزال ولما كذّبوه أهلك قومه وأغرقوا، وأما ذكر عيسى بقوله : عيسى ابن مريم والمسيح ابن مريم ؛ فهو إشارة إلى أنه لا أب له، إذ لو كان لوقع التعريفُ به١٧.
قوله :«مِيثَاقاً غَلِيظاً » هو الأول، وإنما كرر لزيادة صفته وإيذانا بتوكيده١٨، قال المفسرون : عهداً شديداً على١٩ الوفاء بما حملوا.
قوله :«ليسألَ » فيها وجهان :
أحدهما : أنها لام كي أي أخذنا ميثاقهم ليسأل المؤمنين عن صدقهم والكافرين عن تكذيبهم فاستغنى عن الثاني بذكر مُسَبَّبِهِ وهو قوله :«وأَعَدَّ ». ومفعول صدقهم محذوف أي صِدْقِهِمْ عَهْدَهُمْ، ويجوز أن يكون «صِدْقِهِم » في معنى تصديقهم ومفعوله محذوف أيضاً أي عن تصديقهم الأنْبِيَاءَ٢٠.
١ كذا قرره الإمام الفخر الرازي في تفسيره ٢٥/١٩٦..
٢ في "ب" فيه وهو خطأ لأن الضمير يعود على الحكاية..
٣ هكذا هي أيضاً في تفسير الفخر، وما في "ب" لم يترك..
٤ في "ب" واذكر إذ أخذنا..
٥ كذا قرره الإمام أبو الفرج ابن الجوزي في تفسيره زاد المسير ٦/٣٥٤..
٦ هذا قول أبي البقاء في التبيان ١٠٥٢..
٧ ساقط من "ب"..
٨ وهذا رأي الحوفي وابن عطية انظر: البحر المحيط ٧/٢١٢..
٩ انظر: تفسير القرطبي ١٤/١٢٧..
١٠ زاد المسير ٦/٣٥٤..
١١ في "ب" فبدأ بالنبِيّ..
١٢ انظر تفسيره ص ١٩٧ ج ٢٥..
١٣ هكذا هي هنا وفي تفسيره وما في "ب": قومهم بالجمع..
١٤ زيادة من "ب"..
١٥ ما بين القوسين ساقط من "ب"..
١٦ في "ب" نقول بدون فاء..
١٧ ذكره الرازي في تفسيره ٢٥/١٩٧..
١٨ قرره السمين في الدر ٤/٣٦٦..
١٩ قاله القرطبي في تفسيره ١٤/١٢٧..
٢٠ ذكره أبو حيان في بحره ٧/٢١٣ وكذا السمين ٤/٣٦٦ ولقد رجح أبو حيان أن تكون اللام للصيرورة وهذا هو الوجه الثاني فيها فقال: "يحتمل أن تكون لام الصيرورة أي أخذ الميثاق على الأنبياء ليصير الأمر إلى كذا" البحر ٧/٢١٣، وانظر: الكشاف أيضاً ٣/٢٥٢..
قوله :«وأَعَدَّ » يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أن يكون معطوفاً على ما دل عليه «لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ » ؛ إذ التقدير : فأثاب الصادقين وأعد للكافرين.
والثاني : أنه معطوف على «أَخَذْنَا » ؛ لأن المعنى أن الله أكد على الأنبياء الدعوة إلى دينه لإثابة المؤمنين وأعد للكافرين، وقيل : إنه حذف من الثاني ما أثبت مُقَابِلُهُ في الأول، ومن الأول ما أثبت مقابلهُ في الثاني والتقدير : ليسأل الصادقين عن صدقهم فأثابهم ويسأل الكافرين عما أجابوا رُسُلَهُمْ ﴿ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أليما ﴾١.

فصل :


قال المفسرون : المعنى أخذنا ميثاقهم لكي يسأل الصادقين عن صدقهم يعني النبيين عن تبليغهم الرسالة والحكمة في سؤالهم٢ مع علمه أنهم صادقون بتبكيت من أرسلوا إليهم. وقيل : ليسأل الصادقين عن علمهم بالله عز وجل، وقيل : ليسأل الصادقين بأفواههم٣ عن صدقهم بقلوبهم٤.
١ المرجعان السابقان وانظر: الدر المصون ٤/٣٦٧..
٢ في "ب" والحكمة في سؤاله..
٣ في "ب" عن أفواههم..
٤ ذكر هذه الأوجه كلها الإمام القرطبي في تفسيره لأحكام القرآن ١٤/١٢٨..
والثاني: أنه معطوف على «أَخَذْنَا» ح لأن المعنى أن الله أكد على النبياء الدعوة إلى دينه لإثابة المؤمنين وأعد للكافرين، وقيل: إنه حذف من الثاني ما أثبت مُقَابِلُهُ في الأول، ومن الأول ما أثبت مقابلهُ في الثاني والتقدير: ليسأل الصادقين عن صدقهم فأثابهم ويسأل الكافرين عما أجابوا رُسُلَهُمْ ﴿وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً﴾.

فصل


قال المفسرون: المعنى أخذنا ميثاقهم لكي يسأل الصادقين عن صدقهم يعني النبيين عن تبليغهم الرسالة والحكمة في سؤالهم مع علمه أنهم صادقون بتبكيت من أرسلوا إليهم. وقيل: ليسأل الصادقين عن علمهم بالله عَزَّ وَجَلَّ، وقيل: ليسأل الصادقين بأفواههم عن صدقهم بقلوبهم.
قوله
تعالى
: ﴿يا
أيها
الذين آمَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ... ﴾
الآية وهذا تحقيق لما سبق من الأمر بتقوى الله بحث لا يبقى معه خوف من أحد وذلك حين حُوصِرَ المسلمون مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أيام الخَنْدَق، واجتمع الأحزاب واشتد الأمر على الأصحاب حيث اجتمع المشركون بأسرهم واليهود بأجمعهم، ونزلوا على المدينة وعمل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الخَنْدَق وكان الأمر في غاية الشدة والخوف بالغاً إلى الغاية والله دفع القوم عنهم من غير قتال وآمَنَهُمْ من الخوف فينبغي أن لا يخاف العبدُ غَيْرَ ربه فإنه القادر
509
على كل الممكنات فكان قادراً على أن يقهر المسلمين بالكفار مع أنهم ضعفاء كما قهر الكافين بالمؤمنين مع قوتهم وشوكتهم.
قوله: «إذْ جَاءَتْكُمْ» يجوز أن يكون منصوباً «بنعمة» أي النعمة الواقعة في ذلك الوقت، ويجوز أن يكون منصوباً باذْكُرُوا على أن يكون بدلاً من «نعمة» بدل اشتمال، والمراد بالجنون الأحزاب وهم قريش وغَطفَان، ويهود قُرَيْظَةَ والنَّضِير ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً﴾ وهي الصَّبَا، قال عكرمة: قالت الجنوب للشمال ليلة الأحزاب: انطلق بنصر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقالت الشمالُ إن الحرَّّة لا تَسْرِي بالليل فكانت الريح التي أرسلت عليهم الصبا وروى مجاهد عن ابن عباس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «قال:» نُصِرتُ بالصَّبَا وأهلكَتْ عَادٌ بالدَّبورِ «
قوله: ﴿وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا﴾ قرأ الحسن بفتح الجيم، والعامة بضمها، و»
جُنَوداً «عطفاً على» ريحاً «و» لَمْ تروها «صفة لهم، وروي عن أبي عمرو، وأبي بكر» لم يَرَوْهَا «بياء الغيبة، وهم الملائكة ولم تقاتل الملائكة يومئذ فبعث الله عليهم تلك اليلة ريحاً باردة فقلعت الأوتاد وقطعت أطنا الفَسَاطِيطِ وأطفأت النيرانَ وأَكْفَأت القُدُورَ، وجالت الخيل بعضها في بعض وكثر تكبير الملائكة في جوانب عسكرهم حتى كان سيد كل حي يقول: يا بني فلان هَلُمَّ إليَّ فإذا اجتمعوا عنده قال: النَّجَا النَّجَا أتيتم لما بعث الله عليهم من الرعب فانهزموا من غير قتال. ﴿وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً﴾ وهذا إشارة إلى أنه الله علم التجاءكم إليه وجاءكم فضله فنصركم على الأعداء عند الاستعداد والقصة مشهورة.
قوله:»
إِذْ جَاؤُوكُمْ «بدل من» إذْ «الأولى، والحناجر جمع» حَنْجَرَةٍ «وهي رأس الغَلْصَمَةِ والغَلْصَمَة منتهى الحُلْقُومِ، والحلقوم مجرى الطعام والشراب، وقيل: الحلقوم
510
مَجْرَى النفس والمريء الطعام والشراب وهو تحت الحلقوم وقال الرَّاغِبُ: رَأْسُ الغَْصَمَةِ من خارج.
قوله:» الظُّنُونا «قرأ نافع وابن عامر وأبو بكر بإثبات ألف بعد نون» الظُّنُون «ولام الرسول في قوله:
﴿وَأَطَعْنَا الرسولا﴾ [الأحزاب: ٦٦] ولام السبيل في قوله: ﴿فَأَضَلُّونَا السبيلا﴾ [الأحزاب: ٦٧] وصلاً وَوَقْفاً موافقة للرسم؛ لأنهن رسمن في المصحف كذلك وأيضاً فإن هذه الألف تشبه هاء السكت لبيان الحركة، وهاء السكت تثبت وَقْفاً للحاجة إليها وقد ثبتت وصلاً إجراءً للوصل مُجْرَى الوقف كما تقدم في البقرة والأنعام فكذلك هذه الألف، وقرأ أبو عمرو وحمزةُ بحذفها في الحالين؛ لأنها لا أصل لها وقولهم: أجريت الفواصل مُجْرَى القوافي غير معتدٍّ به لأن القوافيَ يلتزم الوقف عليها غاباً، والفواصل لا يلزم ذلك فيها فلا تُشَبَّهُ بها، والباقون بإثباتها وقفاً وحذفها وصلاً إجراء للفواصل مُجْرَى القوافي في ثبوت ألف الإطلاق كقوله:
٤٠٦٩ - اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِالوَفَاءِ وَبِالعَدْلِ وَوَلَّى المَلاَمَةَ الرَّجُلاَ
وقوله:
٤٠٧٠ - أَقِلِّي اللَّوْمَ عَاذِلَ وَالعِتَابَا وَقُولِي إِنْ أَصَبْتُ لَقَدْ أَصَابَا
ولأنها كهاء السكت وهي تثبت وقفاً وتحذف وصلاً، قال شهاب الدين: «كذلك يقولون تشبيهاً للفواصل بالقوافي وأنا لا أحب هذه العبارة فإِنها منكرة لفظاً»
. ولا خلاف في قوله: ﴿وَهُوَ يَهْدِي السبيل﴾ أنه بغير ألف في الحالين.
511

فصل


المعنى إذْ جَاؤُوكُمْ من فوقكم أي من فوق الوادي من قبل المَشْرِق وهم «أَسَدٌ»، وغَطَفَان عليهم مالكُ بن عَوْف النَّضرِيّ، وعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْن الفزَاريّ في ألفٍ من غَطَفَانَ ومنهم طلحةُ بن خُوَيْلد الأسَدِيّ في بني أسد، وحُيَيّ بن أَخْطَبَ في يهودِ بني قُرَيْظَةِ ﴿وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ﴾ أي من بطن الوادي من قِبَلِ المَغْرب وهم قُرَيْشٌ وكِنَانَةُ عليهم أبُو سُفْيَانَ بنُ حَرْبٍ ومن معه وأبو الأعور بن سُفْيَانَ السُّلَمِي من قبل الخندق، وكان الذي جر غزوة الخندق فيما قيل إجلاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَنِي النَّضِير من ديارهم ﴿وَإِذْ زَاغَتِ الأبصار﴾ مالت وشَخِصَتْ من الرعب، وقيل: مالت عن كل شيء فلم تنظر إلا إلى عدوها ﴿وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر﴾ فزالت عن أماكنها حتى بلغت الحُلُوق من الفَزَع، وهذا على التمثيل عبر به عن شدة الخوف. قال الفراء معناه أنهم جَبنُوا، سبيل الجَبَان إذا اشتد خوفه أن تَنْتَفِخَ رِئَتُهُ فإذا انتفخت الرئة رفعت القلب إلى الحنجرة ولهذا يقال للجبال: انتفخ سحره؛ لأن القلب عند الغضب يندفع وعند الخوف يجتمع فيتقلص بالحنجرة وقد يفضي إلى أن يَسُدَّ مخرج النفس فلا يقدر المرء (أن) يتنفس ويموت من الخوف. ﴿وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا﴾ وهو اختلاف الظنون، فظن المنافقون استئصال محمد وأصحابه وظن المؤمنون النصر والظفر لهم.
فإن قيل: المَصْدَرُ لا يُجْمَعُ فما الفائدة من جمع الظنون؟
فالجواب: لا شك أنه منصوب على المصدر ولكن الاسم قد يجعل مصدراً كما يقال: «ضَرَبْتُهُ سِيَاطاً» و «أَدَّبْتُهُ مِرَاراً» فكأنه قال: ظَنَنْتُمْ ظَنّاً جاز أن يكون مصيبين فإذا قال: ظُنُوناً بين أن فيهم من كان ظنه كاذباً لأن الظنون قد تكذب كلها، وقد تكذب بعضها إذا كانت في أمر واحد كما إذا رأى جمع جسماً من بعيد فظنه بعضهم أنه زيدٌ، وآخرونَ أنه عمرو، وآخرون أنه بكرٌ، ثم ظهر لهم الحق قد يكونون
512
كلهم مخطئين والمرئي شجر أو حجر، وقد يكون أحدهم مصيباً ولا يمكن أن يكونوا كلهم مُصِيبِين في ظنونهم، فقوله: «الظُّنون» فادنا ان فيهم من أخطأ الظن، ولو قال: ﴿تظنون بالله ظناً﴾ ما كان يفيد هذا، والألف واللام في «الظنون» يمكن أن تكون للاستغراق مبالغة بمعنى تظنون كل ظن، ولأن عند الأمر العظيم كل أحد يظن شيئاً، ويمكن أن تكون الألف واللام للعهد أي ظنونهم المعهودة؛ لأن المعهود من المؤمن ظن الخير بالله كما قاله عليه (الصلاة و) السلام:
«ظُنُّوا باللَّهِ خَيْراً» ومن الكافر الظن السوء كقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ ظَنُّ الذين كَفَرُواْ﴾ [ص: ٢٧] وقوله: ﴿إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن﴾ [الأنعام: ١٤٨].
قوله: «هُنَالِكَ» منصوب «بابْتُلِيَ». وقيل: «بتَظُنُّونَ» واستضعفه ابن عطية وفيه وجهان:
أحدهما: أنه ظرف مكان بعيد أي في ذلك المكان الدحْضِ وهو الخَنْدق.
والثاني: أنه ظرف زمان، وأنشد بعضهم على ذلك:
٤٠٧١ - وَإِذَا الأُمُورُ تَعَاظَمَتْ وَتَشَاكَلَتْ فَهُنَاكَ يَعْتَرِفُونَ أَيْنَ المَفْزَعُ
«وَزُلْزِلُوا» قرأ العامة بضم الزاي الأولى، (وكسر الثانية على اصل ما لم يسم فاعله، وروى غير واحد عن «أبي عمرو» كسر الأولى)، وروى الزمخشري عنه إشمامها كسراُ، ووجه هذه القراءة أن يكون أتبع الزاي الأولى للثانية في الكسر ولم يعتد بالساكن لكونه غير حصين كقولهم: مِبين - بكسر الميم - والأصل ضمها.
قوله: «زِلْزَالاً» مصدر مُبَيِّن للنوع بالوصف والعامة على كسر الزاي، وعيسى، والجَحْدَرِيّ فتحاها وهما لغتان في مصدر الفعل المضعف إذا جاء على «فعلال»
513
نحو: «زَلْزَال، وقَلقالَ وصَلْصَال، وقد يراد بالمفتوح اسم الفاعل نحو: صَلْصَال بمعنى مُصَلْصِلٌ بمعنى» مُزَلْزِل «.

فصل


قال المفسرون: معنى ابتلي المؤمنون اختبر المؤمنون بالحَصْرِ والقتال ليبين المخلص من المنافق، والابتلاء من الله ليس لإبانة الأمر له بل لحكمة أخرى وهي أن الله تعالى عالم بما هم عليه لكنه أراد أظهار الأمر لغيره من الملائكة والأنبياء كما أن السيد إذا علم من عبده المخالفة عزم على معاقبته على مخالفته، وعنده غير من العبيد أو غيرهم فيأمره بأمر عالماً بأنه مخالف لكي يتبين الأمر عند الغير فيقع المعاقبة على أحسن الوجوه حيث لا يقع لأحد أنه يظلم، وقوله: ﴿وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً﴾ أي أزعجوا وحركوا حركة شديدة فمن ثبت منهم كان من الذين إذا ذكر الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ.
ثم قال: ﴿وَإِذْ يَقُولُ المنافقون﴾ معتب بن قُشَيْر، وقيل: عبد الله بن أبي وأصحابه ﴿والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ شك وضعف اعتقاد ﴿مَّا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً﴾ وهذا تفسير الظنون وبيان لها، فظن المنافقون أن ما قال الله ورسوله كان زوراً ووعدهما كان غروراً حيث ظنوا بأن الغلبة واقعة لهم يَعِدُنَا محمدٌ فَتْحَ قُصُرِ الشام وفارسَ وأحدنا لا يستطيع أن يجاوز رحله هذا والله الغرور.
قوله: ﴿وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ﴾ أي من المنافقين «وهم أوس بن قيظي وأصحابه»
﴿ياأهل يَثْرِبَ﴾ يعني المدينة، قال أبو عبيد (ة) : يَثْرِبُ: اسم أرض ومدينة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في ناحية منها، وفي بعض الأخبار: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى أن تمسى المدينةُ يَثْرِبَ، وقال: هي طابة» كأنه كره هذه اللفظة، وقال أهل اللغة: يثرب اسم المدينة، وقيل: اسم البقعة التي فيها المدينة، وامتناع صرفها إما للعلمية والوزن أو للعلمية والتأنيث، وأما
514
يَتْرَب - بالتاء المثناة وفتح الراء فموضع ضع آخر باليمن، قال الشاعر:
٤٠٧٢ - وَعَدْتَ وَكَانَ الخُلْفُ مِنْكَ سَجِيَّةً مَواعِيدَ عُزْقُوب أَخَاء بِيَتْرَبِ
وقال:
٤٠٧٣ - وَقَدْ وَعَدْتُكَ مَوْعِداً لوقت مواعيد عرقوب أخاه بيترب
﴿لاَ مُقَامَ لَكُمْ﴾ قرأ حفصٌ، وأبو عبد الرحمن السُّلَمِيّ بضم الميم، ونافعٌ وابنُ عامر بضم ميمة أيضاً في الدخان في قوله: ﴿إِنَّ المتقين فِي مَقَامٍ﴾ [الدخان: ٥١] ولم يختلف في الأولى أنه بالفتح وهو «مقام كريم» والباقون بفتح الميم في الموضعين، والضم والفتح مفهومان من سورة مريم عند قوله: ﴿خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً﴾ [مريم: ٧٣] فمعنى الفتح لا مكان لكم تنزلون به وتقيمون فيه. ومعنى الضم لا إقامة لكم فارجعوا إلى منازلكم عن اتباع محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وقيل: عن القتال إلى منازلكم. ﴿وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النبي﴾ هم بنو حارثة وبنو سلمة ﴿إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ﴾ أي خالية ضائعة، وهي مما يلي العدو ويخشى عليها السُّراق.
قوله: «عَورةٌ» أي ذاتُ عورة، وقيل: منكشفة أي قصيرة الجُدْرَان للسارق وقال الشاعر:
٤٠٧٤ - لَهُ الشِّدَّةُ الأُولَى إِذَا القَرْنُ أَعْوَرَا...
515
وقرأ ابن عباس وابنَ يَعْمُرَ وقتادةُ وأبو رجاء وأبو حَيْوَة وآخرون: عَورة بكسر الواو وكذلك ﴿وَمَا هِيَ بِعَورَةٍ﴾، وهما اسم فاعل، يقال: عَوِرَ المنزلُ: يَعْوِرُ عَوَراً وعَوِرَة فهو عَوِرٌ، وبيوتٌ عَوِرَةٌ، قال ابن جني: تصحيح الواو شاذ، يعني حيث تحركت وانفتح ما قبلها ولم تقلب ألفاً، وفيه نظر لأن شرط ذاك في الاسم الجاري على الفعل أن يعتل فعله نحومَقَامٍ ومَقَالٍ، وأما هذا ففعله صحيح نحو عَوِرَ، وإنما صح الفعل وإن كان فيه مقتضى الإعلال لِمَدْرَكٍ آخر وهو أنه في معنى ما لا يعلم وهو «أعور» ولذلك لم نتعجب من «عور» وبابه، وأعْوَرَّ المَنْزِلُ: بدت عَوْرَتُهُ، واعورَّ الفارس بدا منه خلله للضَّرْبِ قال الشاعر:
٤٠٧٥ - مَتَى تَلْقَهُمْ لَمْ تَلْقَ فِي البَيْتِ مُعْوَراً وَلاَ الصَّيْفَ مَسْجُوراً ولاَ الجَارَ مُرْسَلاً
ثم كذبهم الله تعالى فقال: ﴿وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً﴾.
قوله: ﴿وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِّنْ أَقْطَارِهَا﴾ ولو دخل عليهم المدينة أو البيوت يعني هؤلاء الجيوش الذين يريدون قتالهم وهم الأحواب «مِنْ أقْطَارِهَا» جوانبها. وفيه لغة وتروى: أَفْتَار - بالتاء -. والقُطْرُ: الجانب أيضاً ومنه قَطَرْتُهُ أي أَلْقَيْتُهُ على قطره فَتَقَطَّرَ أي وقع عليه قال:
٤٠٧٦ - قَدْ عَلِمَتْ سَلْمَى وَجَاراتُها مَا قَطَّرَ الفَارِسَ إِلاَّ أَنَا
وفي المثل: «الانفِضَاضُ يُقَطِّرُ الجَلَب» تفسيره أن القوم إذا انفضوا أي فني زادهم احتاجوا إلى جَلْب الإِبل، وسمي القَطْرُ قطراً لسقوطه.
516
قوله: «ثُمَّ سُئِلُوا» قرأ مجاهد «سُويِلُوا» بواو ساكنة ثم ياء مكسورة «كقُوتِلُوا». حتى أبو زيد: هما يَتَسَاوَلاَن بالواو، والحسن: سُولُوا بواو ساكنة فقط فاحتملت وجهين:
أحدهما: أن يكون أصلها: سيلوا كالعامة، ثم خففت الكسرة فسكنت كقولهم في ضَرب - بالكسر - ضرب بالسكون فسكنت الهمزة بعد ضمة فقلبت واواً نحو: بُوسٍ في بُؤْسٍ.
والثاني: أن يكون من لغة الواو، ونقل عن أبي عمرو أنه قرأ سِيلُوا بياء ساكنة بعد كسرة نحو: قِيلوا.
قوله: «لأتَوْهَا» قرأ نافعٌ وابنُ كثير بالقصرب بمعنى لَجَاؤُوهَا وغَشوهَا، والباقون بالمد بمعنى لأعطوها ومفعوله الثاني محذوف تقديره: لآتوها السائلين. والمعنى ولو دخلت البيوت أو المدينة من دميع نواحيها ثم سئل أهلها الفتنة لم يمتنعوا من إعطائها، وقراءة المد يستلزم قراءة القصر من غير عكس بهذا المعنى الخاص.
قوله: «إِلاَّ يَسيراً» أي إلا تَلَبُّثاً أو إلا زماناً يسيراً. وكذلك قوله: ﴿إِلاَّ قَلِيلاً﴾ [الأحزاب: ١٦ - ١٨] أي إلا تَمَتُّعاً أو إلا زمانا قليلاً.

فصل


دلت الآية على أن ذلك الفرار والرجوع ليس لحفظ البيوت لأن من يفعل فعلاً لغرض فإذا فاته الغرض لا يفعله فقال تعالى هم قالوا بأن رجوعنا عنك لحفظ بيوتنا ولو دخلها الأحزاب وأخذوها منهم لرجعوا أيضاً فليس رجوعهم عنك إلا بسبب كفرهم وحبهم الفتنة وهي الشرك، ﴿مّوَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَآ﴾ أي ام تلبثوا بالمدينة أو البيوت «إلاَّ يَسِيراً» وأن المؤمنين يُخْرِجُونَهُمْ قاله الحسن، وقيل: ما تلبثوا أي ما احْتَبَسُوا عن الفتنة -
517
وهي الشرك - إلا يسيراً ولأسرعوا للإجابة إلى الشرك طيّبةً به أنفُسُهم وهذا قول أكثر المفسِّرين.
قوله: ﴿وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ الله مِن قَبْلُ﴾ أي من قبل غزوة الخندق ﴿لاَ يُوَلُّونَ الأدبار﴾ عدوهم أي لا ينهزمون قال يزيد بن رومان: هم بنو حارثة هموا يوم الخندق أن يَقْتَتِلُوا مع بني سلمة، فلما نزل فيهم ما نزل عاهدوا الله أن لا يعودوا لمثلها، وقال قتادة: هم ناس كانوا قد غابوا عن واقعة بدر ورأوا ما أعطى الله أهل بدر من الكرامة والفضيلة وقالوا لئن أَشْهَدَنَا اللَّهُ قتالاً لَنُقَاتِلَنَّ فساق الله إليهم ذلك وقال مقالت والكلبي:
«هم سبعون رجلاً جاءوا بايعوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ليلة العقبة وقالوا اشترط لنفسك ولربك ما شئتَ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأولادكم قالوا: وإذا فعلنا ذلك (فما لنا يا رسول الله؟ قال: لكم النصر في الدنيا والجنة في الآخرة، قالوا: قد فعلنا فذلك) عهدهم»، وهذا القول ليس بمَرْضِيٍّ؛ لأن الذين بايعوا ليلة العقبة كانوا سبعين لم يكن فيهم شَاكٌّ ولا مَنْ يقول مثل هذا القول وإنما الآية في قوم عاهدوا الله أن يقاتلوا ولا يَفِرُّوا فَنَقَضُوا العهد. وهذا بيان لفساد سريرتهم وقبح سيرتهم لنقضهم العهود فإنهم قبل ذلك تخلفوا وأظهروا عذراً ونَدَماً ثم هددهم بقوله: ﴿وَكَانَ عَهْدُ الله مَسْئُولاً﴾ أي مَسْؤُولاً عنه.
قوله: «لاَ يُوَلُّونَ» جواب لقوله: «عَاهَدُوا» لأنه في معنى: «أقسموا» وجاء على حكاية اللفظ فجاء بلفظ الغيبة ولو جاء على حكاية المعنى لقيل: لا يُولِّي، والمفعول الأول محذوف أي يولون العدو الأدبار. وقال أبو البقاء: ويقرأ بالتشديد تشديد النون وحذف الواو على تأكيد جواب القسم. قال شهاب الدين: ولا اظن هذا إلا غلظاً منه وذلك أنه إما أن يُقْرأ مع ذلك بلا النافية أو بلام التأكيد، والأول لا يجوز لأن
518
المضارع المنفي بلا لا يؤكد بالنون إلا ما نَدَرَ مما لا يقاس عليه والثاني فاسد المعنى.
قوله: «إنْ فَرَرْتُمْ» جوابه محذوف لدلالة النفي قبله عليه أو متقدم عند من يرى ذلك.
قوله: ﴿وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ إذَنْ جواب وجزاء، ولما وقعت بعد عاطف جاءت على الأكثر وهو عدم إعمالها ولم يشذّ هنا ما شَذَّ في الإسراء، فلم يقرأ بالنصب، والعامة بالخطاب في «تُمَتَّعُونَ». وقرىء بالغيبة.

فصل


المعنى: «قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمْ الفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ المَوْتِ أَو القَتْلِ} الذي كتب عليكم لأن من حضر أجله مات أوقتل ﴿وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ أي لا تمتعون بعد الفِرار إلا مدة آجالكم وهي قليل. وهذا إشارة إلى ان الأمور مقدرة لا يمكن الفرار مما قدره الله لأنه كائن لا محالة فلو فررتم لما دمتم بل لا تمتعون إلا قليلاً وهو ما بقي من آجالكم فالعاقل لا يرغب في شيء قليل يفوت عليه شيئاً كثيراً.
قوله: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي﴾ تقدم في البقرة، قال الزمخشري: فإن قلت: كيف جعلت الرحمة قرينة السوء في العصمة ولا عصمة إلا من السوء؟ قلت: معناه أو يصيبكم بسوء إن أراد بكم رحمة، فاختصر الكلام وأجْرِيَ مُجْرَى قوله:
مُتَقَلِّداً سيفاً وَرُمْحاً...
519
أو حمل الثاني على الأول لما في العِصْمَةِ من معنى المنع قال أبو حيان: أما الوجه الأول فيه حذف جملة لا ضرورة تدعو إلى حذفها، والثاني هو الوجه لا سيما إذا قدر مضاف محذوف أي يمنعكم من مُرَادِ الله، قال شهاب الدين: وأين الثاني من الأول ولو كان معه حذف جُمَلٍ.

فصل


المعنى من ذا الذي يمنعكم من الله إن أراد بكم سوءاً هزيمة أو أراد بكم رحمة نُصْرَةً، وهذا بيان لما تقدم من قوله: ﴿لَّن يَنفَعَكُمُ الفرار﴾ وقوله: ﴿وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً﴾ تقرير لقوله: ﴿مَن ذَا الذي يَعْصِمُكُمْ مِّنَ الله﴾ أي ليس لكم شفيع أي قريب ينفعكم ولا نصير ينصركم ويدفع عنكم السوء إذا أتاكم.
520
قوله :«إِذْ جَاؤُوكُمْ » بدل من «إذْ » الأولى١، والحناجر جمع «حَنْجَرَةٍ » وهي رأس الغَلْصَمَةِ والغَلْصَمَة منتهى الحُلْقُومِ، والحلقوم مجرى الطعام والشراب، وقيل : الحلقوم مَجْرَى النفس والمريء الطعام والشراب وهو تحت الحلقوم٢ وقال الرَّاغِبُ٣ : رَأْسُ الغَْلصَمَةِ من خارج٤.
قوله :«الظُّنُونا » قرأ نافع وابن عامر وأبو بكر بإثبات ألف بعد نون «الظُّنُون » ولام الرسول في قوله :﴿ وَأَطَعْنَا الرسولا ﴾ [ الأحزاب : ٦٦ ] ولام السبيل في قوله :﴿ فَأَضَلُّونَا السبيلا ﴾ [ الأحزاب : ٦٧ ] وصلاً وَوَقْفاً موافقة للرسم٥ ؛ لأنهن رسمن في المصحف كذلك وأيضاً فإن هذه الألف تشبه هاء السكت لبيان الحركة، وهاء السكت تثبت وَقْفاً للحاجة إليها وقد ثبتت وصلاً إجراءً للوصل مُجْرَى الوقف كما تقدم في البقرة والأنعام فكذلك هذه الألف، وقرأ أبو عمرو وحمزةُ بحذفها في الحالين٦ ؛ لأنها لا أصل لها وقولهم : أجريت الفواصل مُجْرَى القوافي غير معتدٍّ به لأن القوافيَ٧ يلتزم الوقف عليها غالباً، والفواصل لا يلزم ذلك فيها فلا تُشَبَّهُ بها، والباقون بإثباتها وقفاً وحذفها وصلاً إجراء للفواصل مُجْرَى القوافي في ثبوت ألف الإطلاق٨ كقوله :
٤٠٦٩ - اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِالوَفَاءِ وَبِالعَدْلِ وَوَلَّى المَلاَمَةَ الرَّجُلاَ٩
وقوله :
٤٠٧٠ - أَقِلِّي اللَّوْمَ عَاذِلَ وَالعِتَابَا وَقُولِي إِنْ أَصَبْتُ لَقَدْ أَصَابَا١٠
ولأنها كهاء السكت وهي تثبت وقفاً وتحذف وصلاً، قال شهاب الدين :«كذا يقولون تشبيهاً للفواصل بالقوافي وأنا لا أحب هذه العبارة فإِنها منكرة١١ لفظاً ». ولا خلاف في قوله :﴿ وَهُوَ يَهْدِي السبيل ﴾ أنه بغير ألف في الحالين.

فصل :


المعنى إذْ جَاؤُوكُمْ من فوقكم أي من فوق الوادي من قبل المَشْرِق١٢ وهم «أَسَدٌ »، وغَطَفَان عليهم مالكُ بن عَوْف النَّضرِيّ، وعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْن الفزَاريّ في١٣ ألفٍ من غَطَفَانَ ومنهم طلحةُ بن خُوَيْلد الأسَدِيّ في بني أسد، وحُيَيّ بن أَخْطَبَ في يهودِ بني قُرَيْظَةَ ﴿ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ﴾ أي من بطن الوادي من قِبَلِ المَغْرب وهم قُرَيْشٌ وكِنَانَةُ عليهم أبُو سُفْيَانَ بنُ حَرْبٍ ومن معه وأبو الأعور بن سُفْيَانَ السُّلَمِي من قبل الخندق، وكان الذي جر غزوة الخندق فيما قيل إجلاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بَنِي النَّضِير من ديارهم ﴿ وَإِذْ زَاغَتِ الأبصار ﴾ مالت وشَخِصَتْ١٤ من الرعب، وقيل : مالت١٥ عن كل شيء فلم تنظر إلا إلى عدوها ﴿ وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر ﴾ فزالت عن أماكنها حتى بلغت الحُلُوق من الفَزَع، وهذا على التمثيل عبر به عن شدة الخوف١٦. قال الفراء معناه أنهم جَبنُوا١٧، وسبيل الجَبَان إذا اشتد خوفه أن تَنْتَفِخَ رِئَتُهُ فإذا انتفخت الرئة رفعت القلب إلى الحنجرة ولهذا يقال للجبان : انتفخ سحره ؛ لأن القلب١٨ عند الغضب يندفع وعند الخوف يجتمع فيتقلص بالحنجرة١٩ وقد يفضي إلى أن يَسُدَّ مخرج النفس فلا يقدر المرء ( أن ) يتنفس ويموت من الخوف. ﴿ وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا ﴾ وهو اختلاف الظنون، فظن المنافقون استئصال محمد وأصحابه وظن المؤمنون النصر والظفر لهم.
فإن قيل : المَصْدَرُ لا يُجْمَعُ فما الفائدة من جمع الظنون ؟.
فالجواب : لا شك أنه منصوب على المصدر ولكن الاسم قد يجعل٢٠ مصدراً كما يقال :«ضَرَبْتُهُ سِيَاطاً » و «أَدَّبْتُهُ مِرَاراً » فكأنه قال : ظَنَنْتُمْ ظَنّاً٢١ جاز أن يكونوا مصيبين فإذا قال : ظُنُوناً بين أن فيهم من كان ظنه كاذباً لأن الظنون قد تكذب كلها، وقد تكذب بعضها إذا كانت في أمر واحد كما إذا رأى جمع جسماً من بعيد فظنه بعضهم أنه زيدٌ، وآخرونَ أنه عمرو، وآخرون أنه بكرٌ، ثم ظهر لهم الحق قد يكونون كلهم مخطئين والمرئي شجر أو حجر، وقد يكون أحدهم مصيباً ولا يمكن أن يكونوا كلهم مُصِيبِين في ظنونهم، فقوله :«الظُّنون » أفادنا أن فيهم من أخطأ الظن، ولو قال :﴿ تظنون بالله ظناً ﴾ ما كان يفيد٢٢ هذا، والألف واللام في «الظنون » يمكن أن تكون للاستغراق مبالغة بمعنى تظنون كل ظن، ولأن عند الأمر العظيم كل أحد يظن شيئاً، ويمكن أن تكون الألف واللام للعهد أي ظنونهم المعهودة ؛ لأن المعهود من المؤمن ظن الخير٢٣ بالله كما قال عليه ( الصلاة٢٤ و ) السلام :«ظُنُّوا باللَّهِ خَيْراً »٢٥ ومن الكافر الظن السوء كقوله تعالى :﴿ ذَلِكَ ظَنُّ الذين كَفَرُوا ﴾ [ ص : ٢٧ ] وقوله :﴿ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن ﴾ [ الأنعام : ١٤٨ ].
١ ذكره في الدر المصون ٤/٣٦٧. والتبيان ١٠٥٣..
٢ ذكره أيضاً في الدر المصون ٤/٣٦٧ والقرطبي ١٤/١٤٥..
٣ تقدم..
٤ ينظر: المفردات ١٣٣..
٥ انظر الإتحاف ٣٥٣ والسبعة ٥١٩ و ٩٢٠ وإبراز المعاني ٦٤٥ و ٦٤٦ والنشر ٢/٣٤٧ وحجة ابن خالويه ٢٨٩..
٦ المراجع السابقة..
٧ في "ب" يلزم..
٨ ذكره في الدر المصون ٤/٣٧٨..
٩ البيت من المنسرح وهو للأعشى وهو فيه يخبرنا أن الكمال لله وحده بينما النقص صفة من صفات الإنسان تعالى الله عنه علواً كبيراً. والبيت شاهد على ألف الإطلاق في "الرَّجُلا" فكان بالإمكان أن يقول: "الرجل" ولكنه أطلق وهنا يصحّ وكثير في كلامهم الشّعْريّ وانظر: إبراز المعاني ٦٤٦ وديوانه ١٧٠..
١٠ من مشهور الأبيات الشعرية وهو من تمام الوافر، لجرير وقوله: "عاذل" مرخم "عاذلة" علماً، والشاهد: "أصابا، والعتابا" بألف أطلقت ناشئة عن إشباع فتحة الباء، وذلك- كما قلت- كثيرٌ في الشعر ويروى: العتابن، وأصَابَنْ، وعليه فلا شاهد فيه حينئذ. فالألف قد أبدلت نوناً وهو المسمى التنوين الغالي. وانظر: الكتاب ٤/٢٠٥ و ٢٠٨ والمقتضب ١/٣٧٥ والخصائص ١/١٧١ و ٢/٩٦ والإنصاف ٦٥٥ وابن يعيش ٤/١١٥ و ١٤٥ و ٩/٢٩، والخزانة ١/٦٩، ٧٤، وديوانه ٨٩..
١١ انظر: الدر المصون ٤/٣٦٨..
١٢ انظر: القرطبي ١٤/١٤٤..
١٣ في "ب" من..
١٤ قال ابن قتيبة في غريب القرآن ٣٤٨: "عدلت" وانظر: القرطبي ١٤/١٤٤ و ١٤٥..
١٥ المرجع السابق..
١٦ وقيل: هو على معنى المبالغة على مذهب العرب على إضمار "كاد" قال:
إذا غضبنا غضبةً مُضربَّةً هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما
أي كادت تقطر كذا قرره القرطبي في تفسيره الجامع ١٤/١٤٥..

١٧ في المعاني ٢/٣٣٦ ذكر أن الرجل منهم كانت تنتفخ رئته حتى ترفع قلبه إلى حنجرته من الفزع..
١٨ نقله الفخر الرازي في تفسيره ٢٥/١٩٨..
١٩ في الفخر فيتقلص فيلتصق..
٢٠ في "ب" يحصل..
٢١ في تفسير الرازي: ظننتم ظناً بعد ظن أي ما ثبتم على ظن فالفائدة هي أن الله تعالى لو قال: تظنون ظناً جاز.....
٢٢ انظر: تفسير الرازي ٢٥/١٩٨، ١٩٩..
٢٣ السابق..
٢٤ زيادة من "ب"..
٢٥ لم أعثر عليه بصيغته هذه في الكتب المعتمدة للحديث وقد نقله الفخر الرازي ٢٥/١٩٨..
قوله :«هُنَالِكَ » منصوب «بابْتُلِيَ »١. وقيل :«بتَظُنُّونَ » واستضعفه ابن عطية٢ وفيه وجهان :
أحدهما : أنه ظرف مكان بعيد أي في ذلك المكان الدحْضِ وهو الخَنْدق.
والثاني : أنه ظرف زمان٣، وأنشد بعضهم على ذلك :
٤٠٧١ - وَإِذَا الأُمُورُ تَعَاظَمَتْ وَتَشَاكَلَتْ فَهُنَاكَ يَعْتَرِفُونَ أَيْنَ المَفْزَعُ٤
«وَزُلْزِلُوا » قرأ العامة بضم الزاي الأولى، ( وكسر٥ الثانية على أصل ما لم يسم فاعله٦، وروى غير واحد عن «أبي عمرو » كسر الأولى٧ )، وروى الزمخشري عنه إشمامها كسراً٨، ووجه هذه القراءة أن يكون أتبع الزاي الأولى للثانية في الكسر ولم يعتد بالساكن لكونه غير حصين كقولهم : مِبين - بكسر الميم - والأصل ضمها.
قوله :«زِلْزَالاً » مصدر مُبَيِّن للنوع بالوصف والعامة على كسر الزاي، وعيسى، والجَحْدَرِيّ فتحاها٩ وهما لغتان في مصدر الفعل المضعف إذا جاء على «فعلال » نحو :«زَلْزَال، وقَلقالَ وصَلْصَال١٠، وقد يراد بالمفتوح اسم الفاعل نحو : صَلْصَال بمعنى مُصَلْصِلٌ بمعنى «مُزَلْزِل »١١.

فصل :


قال المفسرون : معنى ابتلي المؤمنون اختبر المؤمنون بالحَصْرِ والقتال ليبين المخلص من المنافق، والابتلاء من الله ليس لإبانة الأمر له بل لحكمة أخرى وهي أن الله تعالى عالم بما هم عليه لكنه أراد إظهار الأمر لغيره من الملائكة والأنبياء كما أن السيد إذا علم من عبده المخالفة عزم على معاقبته على مخالفته، وعنده غيره من العبيد أو غيرهم فيأمره بأمر عالماً بأنه مخالف لكي يتبين الأمر عند الغير فيقع المعاقبة على أحسن الوجوه حيث لا يقع لأحد أنه يظلم، وقوله :﴿ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً ﴾ أي أزعجوا وحركوا حركة شديدة فمن ثبت منهم كان من الذين إذا ذكر الله١٢ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ.
١ ذكره أبو حيان في بحره ٧/٢١٧ والسمين في الدر ٤/٣٦٨..
٢ المرجعان السابقان..
٣ الدر المصون ٤/٣٦٨..
٤ البيت من الكامل، وهو من تمامه للأفوه الأودي وشاهده في قوله: "وهناك" فهو اسم إشارة للزمان، وهو ظرف للفعل كالآية تماماً أي يعترفون في ذلك الوقت المكان الذي يلجأون إليه. وقد تقدم..
٥ ما بين القوسين كله سقط من نسخة "ب"..
٦ انظر: البحر المحيط ٧/٢١٧ والدر المصون ٤/٣٦٩..
٧ قال في البحر: "وقرأ أحمد بن موسى اللؤلؤي عن أبي عمرو بكسر الزاي قاله ابن خالويه". انظر: بحر أبي حيان ٧/٢١٧ وانظر: مختصر ابن خالويه ١١٨..
٨ انظر الكشاف ٣/٢٥٤..
٩ مختصر ابن خالويه ١١٨ والبحر ٧/١١٧ وهي من الشواذ..
١٠ والقصد من ذلك التخفيف كما قرره الرضيّ في شرح الشافية ١/١٧٨ ٧/١١٧ قال: "وإنما جاز ذلك في المضاعف كالقَلْقَال والزَّلْزَالِ والخَلْخَال قصداً للتخفيف، لثقل التضعيف". وانظر: الدر المصون ٤/٣٦٩..
١١ المرجع الأخير السابق..
١٢ كذا قرره الإمام الفخر الرازي في التفسير الكبير ٢٥/١٩٨، ١٩٩..
ثم قال :﴿ وَإِذْ يَقُولُ المنافقون ﴾ معتب بن قُشَيْر، وقيل : عبد الله بن أبي وأصحابه١ ﴿ والذين فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ ﴾ شك وضعف اعتقاد ﴿ مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً ﴾ وهذا تفسير الظنون وبيان لها، فظن المنافقون أن ما قال الله ورسوله كان زوراً ووعدهما كان غروراً حيث ظنوا بأن الغلبة واقعة لهم يَعِدُنَا محمدٌ فَتْحَ قُصُورِ الشام وفارسَ وأحدنا لا يستطيع أن يجاوز رحله هذا والله الغرور٢.
١ ذكره القرطبي في تفسيره ١٤/١٤٧، وابن الجوزي في تفسيره ٦/٣٥٩..
٢ المرجعان السابقان..
قوله :﴿ وَإِذْ قَالَت طَائِفَةٌ مِنْهُمْ ﴾ أي من المنافقين «وهم أوس بن قيظي وأصحابه »١ ﴿ يا أهل يَثْرِبَ ﴾ يعني المدينة، قال أبو عبيد( ة )٢ : يَثْرِبُ : اسم أرض ومدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم٣ - في ناحية منها، وفي بعض الأخبار :«أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تسمى المدينةُ يَثْرِبَ٤، وقال : هي طابة » كأنه كره هذه اللفظة، وقال أهل اللغة٥ : يثرب اسم المدينة، وقيل : اسم البقعة التي فيها المدينة، وامتناع صرفها إما للعلمية والوزن٦ أو للعلمية والتأنيث، وأما يَتْرَب - بالتاء المثناة وفتح الراء فموضع ضع آخر باليمن٧، قال الشاعر :
٤٠٧٢ - وَعَدْتَ وَكَانَ الخُلْفُ مِنْكَ سَجِيَّةً *** مَواعِيدَ عُرْقُوب أَخَاء بِيَتْرَبِ٨
وقال :
٤٠٧٣ - وَقَدْ وَعَدْتُكَ مَوْعِداً لوقت *** مواعيد عرقوب أخاه بيترب٩
﴿ لاَ مُقَامَ لَكُمْ ﴾ قرأ حفصٌ، وأبو عبد الرحمن السُّلَمِيّ بضم الميم، ونافعٌ وابنُ عامر بضم ميمه أيضاً في الدخان١٠ في قوله :﴿ إِنَّ المتقين فِي مُقَامٍ ﴾١١ ولم يختلف في الأولى أنه بالفتح وهو «مقام كريم » والباقون بفتح الميم في الموضعين١٢، والضم والفتح مفهومان من سورة مريم عند قوله :﴿ خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً ﴾ [ مريم : ٧٣ ] فمعنى الفتح لا مكان لكم تنزلون به وتقيمون فيه. ومعنى الضم لا إقامة لكم فارجعوا إلى منازلكم عن اتباع محمد - صلى الله عليه وسلم ١٣-. وقيل : عن القتال إلى منازلكم١٤. ﴿ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النبي ﴾ هم بنو حارثة وبنو سلمة ﴿ يقولون إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ ﴾ أي خالية ضائعة١٥، وهي مما يلي العدو ويخشى عليها السُّراق١٦.
قوله :«عَورةٌ » أي ذاتُ عورة، وقيل : منكشفة أي قصيرة١٧ الجُدْرَان للسارق وقال الشاعر :
٤٠٧٤ - لَهُ الشِّدَّةُ الأُولَى إِذَا القَرْنُ أَعْوَرَا١٨ ***. . .
وقرأ ابن عباس وابنَ يَعْمُرَ وقتادةُ وأبو رجاء وأبو حَيْوَة وآخرون : عَورة بكسر الواو وكذلك ﴿ وَمَا هِيَ بِعَورَةٍ ﴾١٩، وهما اسم فاعل٢٠، يقال : عَوِرَ المنزلُ : يَعْوِرُ عَوَراً وعَوِرَة فهو عَوِرٌ، وبيوتٌ عَوِرَةٌ، قال ابن جني : تصحيح الواو شاذ، يعني حيث تحركت وانفتح ما قبلها ولم تقلب ألفاً٢١، وفيه نظر لأن شرط ذاك في الاسم الجاري على الفعل أن يعتل فعله نحو مَقَامٍ ومَقَالٍ، وأما هذا ففعله صحيح نحو عَوِرَ٢٢، وإنما صح الفعل وإن كان فيه مقتضى الإعلال لِمَدْرَكٍ آخر وهو أنه في معنى ما لا يعل٢٣ وهو «أعور » ولذلك لم نتعجب من «عور » وبابه، وأعْوَرَّ المَنْزِلُ : بدت عَوْرَتُهُ، واعورَّ الفارس بدا منه خلله٢٤ للضَّرْبِ قال الشاعر :
٤٠٧٥ - مَتَى تَلْقَهُمْ لَمْ تَلْقَ فِي البَيْتِ مُعْوَراً *** وَلاَ الصَّيْفَ مَسْجُوراً ولاَ الجَارَ مُرْسَلاً٢٥
ثم كذبهم الله تعالى فقال :﴿ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً ﴾.
١ المرجعان السابقان..
٢ زيادة وتصحيح عن النسختين فهو أبو عبيدة: صاحب مجاز القرآن معمر بن المثنى وقد عرفت به..
٣ انظر: مجاز القرآن ٢/١٣٤ والقرطبي ١٤/١٤٨..
٤ ذكره اللسان:" ث ر ب" ٤٧٥ قال: وروي أن النبي- صلى الله عليه وسلم- نهى أن يقال للمدينة يثرب، وسماها طيبة كأنه كره الثرب لأنه فساد في كلام العرب..
٥ المرجع السابق..
٦ الدر المصون ٤/٣٦٩..
٧ يقال: إنه موضع قريب من اليمامة اللسان:" ت ر ب" ٤٢٥..
٨ من الطويل وهو لجَبْهَاء الأشجعي والبيت هذا له عجز مشترك لبيت آخر للشماخ وموضع الشاهد: "بيترب" حيث إنها بالتاء لا بالثاء وهو موضع قريب من اليمن. انظر: ملحقات ديوان الشماح ٤٣٠ و ٤٣٢ وابن يعيش ٤٣٠ و ٤٣٢ والخصائص ٢/٣٠٧ واللسان مكرراً وعد ٤٨٧١ و"ترب" ٤٢٥ والكتاب ١/٢٧٢ والهمع ٢/٩٢ ومجمع الأمثال للميداني ٢/٣١١ والسراج المنير ٣/٢٢٩ والدر المصون ٤/٣٦٩..
٩ قيل: إنه للشماخ وصدره:
أوعدتني ما لا أحاول نفعه ***....................
كما في ملحق ديوانه (٤٣٠) وعجزه مشترك مع صدر البيت السابق وانظر المراجع السابقة..

١٠ السبعة ٥٢٠ والإتحاف ٣٥٣ ومعاني الفراء ٢/٣٣٧..
١١ الدخان الآية ٥١..
١٢ الإتحاف ٣٥٣ والسبعة ٥٢. والمعاني ٣/٣٣٧ والنشر ٢/٣٤٨ وحجة ابن خالويه ٢٨٩..
١٣ ذكره الفراء في معانيه ٢/٣٣٧ والقرطبي في ١٤/١٤٨..
١٤ وهذا رأى الكلبي والسابق رأي الحسن ذكرهما ابن الجوزي في زاد المسير ٦/٣٦٠..
١٥ انظر: غريب القرآن لابن قتيبة ٣٤٨..
١٦ وهذا رأي الحسن ومجاهد انظر: زاد المسير ٦/٢٦١..
١٧ ذكره السمين في الدر ٤/٣٧٠..
١٨ هذا شطر بيت من الطويل لم أعثر على تتمة له سابقةً كانت أو لاحقة. وقال الفراء في معانيه ٢/٣٣٧: "وأنشدني أبو ثروان: البيت يعني الأسد" ولم ينسبه كذلك في اللسان "ع و ر" وشاهده: "القرن أعورا" بمعنى انكشف وظهر للعدو للمنال. وانظر: اللسان "ع و ر" ٣١٦٧ والبحر ٧/٢١٨..
١٩ من القراءات الشاذة غير المتواترة انظر: المحتسب ٢/١٧٦ ومختصر ابن خالويه ١١٨..
٢٠ ذكره في التبيان ١٠٥٣ والدر المصون ٤/٢٧٠..
٢١ ذكره في المحتسب ٢/١٧٦ ووجهة نظره أنها من المواضع التي تقلب فيها الواو ياء..
٢٢ ذكره السمين أيضاً في الدر المصون ٤/٣٧٠..
٢٣ نقله في الدر المصون ٤/٣٧٠..
٢٤ في "ب" خلل الضرب..
٢٥ هو من بحر الطويل ورواه القرطبي: "مفجوعاً" بدلاً من "مسجوراً" وانظر البحر المحيط ٧/٢١٨ والقرطبي ١٤/٤٨ والدر المصون ٤/٣٧٠..
قوله :﴿ وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ﴾ ولو دخل عليهم المدينة أو البيوت يعني هؤلاء الجيوش الذين يريدون قتالهم وهم الأحزاب «مِنْ أقْطَارِهَا » جوانبها. وفيه لغة وتروى : أَقْتَار - بالتاء١ -. والقُطْرُ : الجانب أيضاً ومنه قَطَرْتُهُ أي أَلْقَيْتُهُ على قطره فَتَقَطَّرَ أي وقع عليه قال :
٤٠٧٦ - قَدْ عَلِمَتْ سَلْمَى وَجَاراتُها مَا قَطَّرَ الفَارِسَ إِلاَّ أَنَا٢
وفي المثل :«الانفِضَاضُ يُقَطِّرُ الجَلَب »٣ تفسيره أن القوم إذا انفضوا أي فني زادهم احتاجوا إلى جَلْب الإِبل، وسمي القَطْرُ٤ قطراً لسقوطه.
قوله :«ثُمَّ سُئِلُوا » قرأ مجاهد «سُويِلُوا » بواو ساكنة ثم ياء مكسورة «كقُوتِلُوا »٥. حكى أبو زيد : هما يَتَسَاوَلاَن بالواو٦، والحسن : سُولُوا٧ بواو ساكنة فقط فاحتملت وجهين :
أحدهما : أن يكون أصلها : سيلوا كالعامة، ثم خففت الكسرة فسكنت كقولهم في ضَرب - بالكسر - ضرب بالسكون فسكنت الهمزة بعد ضمة فقلبت واواً نحو : بُوسٍ في بُؤْسٍ.
والثاني : أن يكون من لغة الواو٨، ونقل عن أبي عمرو أنه قرأ سِيلُوا بياء ساكنة بعد كسرة نحو : قِيلوا٩.
قوله :«لأتَوْهَا » قرأ نافعٌ وابنُ كثير بالقصر بمعنى لَجَاؤُوهَا وغَشوهَا١٠، والباقون بالمد بمعنى لأعطوها ومفعوله الثاني محذوف تقديره : لآتوها السائلين. والمعنى ولو دخلت البيوت أو المدينة من جميع نواحيها ثم سئل أهلها الفتنة لم يمتنعوا من إعطائها، وقراءة المد يستلزم قراءة القصر من غير عكس بهذا المعنى الخاص١١.
قوله :«إِلاَّ يَسيراً » أي إلا تَلَبُّثاً أو إلا زماناً يسيراً١٢. وكذلك قوله :﴿ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ [ الأحزاب : ١٦ - ١٨ ] أي إلا تَمَتُّعاً أو إلا زماناً قليلاً.

فصل :


دلت الآية على أن ذلك الفرار والرجوع ليس لحفظ البيوت لأن من يفعل فعلاً لغرض فإذا فاته الغرض لا يفعله فقال تعالى هم قالوا بأن رجوعنا عنك لحفظ بيوتنا ولو دخلها الأحزاب وأخذوها منهم لرجعوا أيضاً فليس رجوعهم عنك إلا بسبب كفرهم وحبهم الفتنة وهي الشرك، ﴿ وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا ﴾ أي ما تلبثوا بالمدينة أو البيوت «إلاَّ يَسِيراً » وأن المؤمنين يُخْرِجُونَهُمْ قاله الحسن١٣، وقيل : ما تلبثوا أي١٤ ما احْتَبَسُوا عن الفتنة - وهي الشرك - إلا يسيراً ولأسرعوا للإجابة إلى الشرك طيّبةً به أنفُسُهم وهذا قول أكثر المفسِّرين.
١ انظر الإبدال لابن السِّكِّيت باب الطاء والتاء ١٢٩، والأمالي لأبي علي القالي ٢/١٥٦..
٢ البيت مختلف في نسبته فمن نسبه إلى عمرو بن معد يكربَ وهو من بحر السريع، ومن ناسب له لأبي بجيلة ومن ناسب له لبعض اللصوص. والمشهور الأول. وشاهده: "قطر" أي ما صرعه فألقاه وأوقعه إلا هو. وقد تقدم..
٣ ذكره في اللسان ٣٦٧٢ ومجمع الأمثال ٣/٣٨١..
٤ وهو المطر..
٥ ذكرها ابن خالويه في المختصر ١١٨ وفيه "سُوئِلُوا" بالهمزة..
٦ نقله عنه ابن جني في المحتسب ٢/١٧٧ ولم أجده في النوادر..
٧ في المحتسب أنها: "سولوا" بضم السين قال: " ومن ذلك قراءة الحسن: "ثم سولوا الفتنة" مرفوعة السين، ولا يجعل فيها ياء ولا يمدها" انظر: ٣٦٥/١٧٧ وانظر: شواذ القرآن للكرماني ١٩٣..
٨ الدر المصون ٤/٣٧١..
٩ وجدت في مختصر ابن خالويه: أن هذه القراءة بضم السين وكسر الياء "سُيِلُوا" قال: "من غير همز عبد الوارث عن أبي عمرو والأعمش" المختصر ص ١١٨ ومن المحتمل أن تكون قراءة أخرى وتنسب إلى أبي عمرو وينظر أيضاً شواذ القرآن ١٩٣..
١٠ السبعة لابن مجاهد ٥٢٠ والإتحاف للبناء ٣٥٤ ومعاني القرآن للفراء ٢/٣٣٧..
١١ نقله السمين في الدر المصون ٤/٣٧١..
١٢ انظر: التبيان ١٠٥٣ والدر المصون ٤/٣٧١ ومشكل إعراب القرآن ٢/١٩٥..
١٣ وهو قول السدي أيضاً نقله في زاد المسير ٦/٣٦٢..
١٤ وهو رأي قتادة. انظر: المرجع السابق..
قوله :﴿ وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا الله مِن قَبْلُ ﴾ أي من قبل غزوة الخندق ﴿ لاَ يُوَلُّونَ الأدبار ﴾ عدوهم أي لا ينهزمون قال يزيد بن رومان١ : هم بنو حارثة هموا يوم الخندق أن يَقْتَتِلُوا مع بني سلمة، فلما نزل فيهم ما نزل عاهدوا الله أن لا يعودوا لمثلها، وقال قتادة : هم ناس كانوا٢ قد غابوا عن واقعة بدر ورأوا ما أعطى الله أهل بدر من الكرامة والفضيلة وقالوا لئن أَشْهَدَنَا اللَّهُ قتالاً لَنُقَاتِلَنَّ فساق الله إليهم ذلك وقال مقاتل٣ والكلبي :
«هم سبعون رجلاً جاءوا بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم٤ - ليلة العقبة وقالوا اشترط لنفسك ولربك ما شئتَ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأولادكم قالوا : وإذا فعلنا ذلك ( فما لنا٥ يا رسول الله ؟ قال : لكم النصر في الدنيا والجنة في الآخرة، قالوا : قد فعلنا فذلك ) عهدهم »، وهذا القول ليس بمَرْضِيٍّ ؛ لأن الذين بايعوا ليلة العقبة كانوا سبعين لم يكن فيهم شَاكٌّ ولا مَنْ يقول مثل هذا القول وإنما الآية في قوم عاهدوا الله أن يقاتلوا ولا يَفِرُّوا فَنَقَضُوا العهد. وهذا بيان لفساد سريرتهم وقبح سيرتهم لنقضهم العهود فإنهم قبل ذلك تخلفوا وأظهروا عذراً ونَدَماً ثم هددهم بقوله :﴿ وَكَانَ عَهْدُ الله مَسْئُولاً ﴾ أي مَسْؤُولاً عنه.
قوله :«لاَ يُوَلُّونَ » جواب لقوله :«عَاهَدُوا » لأنه في معنى :«أقسموا »٦ وجاء على حكاية اللفظ فجاء بلفظ الغيبة ولو جاء على حكاية المعنى لقيل : لا يُولِّي، والمفعول الأول محذوف أي يولون العدو الأدبار٧. وقال أبو البقاء : ويقرأ بالتشديد تشديد النون وحذف الواو على تأكيد جواب القسم٨. قال شهاب الدين : ولا٩ أظن هذا إلا غلطاً منه وذلك أنه إما أن يُقْرأ مع ذلك بلا النافية أو بلام التأكيد١٠، والأول لا يجوز لأن المضارع المنفي بلا لا يؤكد بالنون إلا ما نَدَرَ مما لا يقاس عليه والثاني فاسد المعنى.
١ القرطبي ١٤/١٥٠..
٢ السابق..
٣ السابق وانظر: زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي ٦/٣٦٢ و ٣٦٣..
٤ انظر: القرطبي ١٤/١٥٠..
٥ ما بين القوسين كله ساقط من "ب"..
٦ ذكره في التبيان ١٠٥٣ والبيان ٢/٢٦٥ والدر المصون ٤/٣٧٢..
٧ ذكره في البحر ٧/٢١٩ والدر المصون ٤/٣٧٢..
٨ ذكره في التبيان ١٠٥٣..
٩ ذكره في الدر المصون ٤/٣٧٢..
١٠ قال ابن يعيش في شرح المفصل ٢١/ج ٩: "وأما الداخلة على الفعل فهي تدخل على الماضي والمستقبل فإذا دخلت على المستقبل فلا بد من النون الثقيلة أو الخفيفة؛ فاللام للتأكيد وتفصل بين النفي والإيجاب". انظره في ٩/٢١ بتفصيل..
قوله :«إنْ فَرَرْتُمْ » جوابه محذوف لدلالة النفي قبله عليه أو متقدم عند من يرى١ ذلك.
قوله :﴿ وَإِذاً لاَ تُمَتَّعُونَ ﴾ إذَنْ جواب وجزاء، ولما وقعت بعد عاطف جاءت على الأكثر وهو عدم إعمالها ولم يشذّ٢ هنا ما شَذَّ في الإسراء، فلم يقرأ بالنصب٣، والعامة بالخطاب٤ في «تُمَتَّعُونَ ». وقرئ بالغيبة٥.

فصل :


المعنى :«قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمْ الفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ المَوْتِ أَو القَتْلِ } الذي كتب عليكم لأن من حضر أجله مات أو قتل ﴿ وَإِذاً لاَ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ أي لا تمتعون بعد الفِرار إلا مدة آجالكم وهي قليل. وهذا إشارة إلى أن الأمور مقدرة لا يمكن الفرار مما قدره الله لأنه كائن لا محالة فلو فررتم لما دمتم بل لا تمتعون إلا قليلاً وهو ما بقي من آجالكم فالعاقل لا يرغب في شيء قليل يفوت عليه شيئاً كثيراً٦.
١ وسيبويه ممن قال بالتقديم فقد قال: (وقد تقول: إن أتيتني آتيك" أي آتيك إن آتيتني) انظر: الكتاب ٣/٦٦. وعلى ذلك فالجواب هو: "لن ينفعكم الفرار" النفي بينما رأي المبرد من البصريين والكوفيين غير ذلك، انظر: الهمع ٢/٦٠..
٢ يشير إلى الآية ١٧٦: "وإذاً لا يلبثون خلافك إلا قليلاً" فقد قرئ بنصب: "يلبثوا" على إعمال "إذاً" ونصب الفعل "بأن" مضمرة وجوباً وهي قراءة أبي بن كعب ذكره أبو حيان في البحر ٦/٦٦ والفراء في معانيه ٢/٣٣٧ و ٣٣٨..
٣ وقد عرف أنها قراءة أبي وانظر: المراجع السابق..
٤ في "ب" على الخطاب..
٥ ذكرها في البحر المحيط ٧/٢١٩ والدر المصون ٤/٢٧٢ والقرطبي ١٤/١٥١ ولقد ذكر القرطبي قراءة ثالثة وهي "وإذاً لا تمتعوا" نصب "بإذاً". وانظر: إعراب القرآن للنحاس ٤/٣٠٧..
٦ انظر: تفسير الفخر الرازي ٢٥/٢٠٠..
قوله :﴿ مَنْ ذَا الَّذِي ﴾ تقدم في البقرة، قال الزمخشري : فإن١ قلت : كيف جعلت الرحمة قرينة السوء في العصمة ولا عصمة إلا من السوء ؟ قلت : معناه أو يصيبكم بسوء إن أراد بكم رحمة، فاختصر٢ الكلام وأجْرِيَ مُجْرَى قوله :
مُتَقَلِّداً سيفاً وَرُمْحاً٣ ***. . .
أو حمل الثاني على الأول لما في العِصْمَةِ من معنى المنع قال أبو حيان : أما الوجه الأول فيه حذف جملة لا ضرورة تدعو إلى حذفها، والثاني هو الوجه لا سيما إذا قدر مضاف محذوف أي يمنعكم من مُرَادِ الله٤، قال شهاب الدين : وأين الثاني من الأول ولو كان معه حذف جُمَلٍ٥ ؟.

فصل :


المعنى من ذا الذي يمنعكم من الله إن أراد بكم سوءاً هزيمة أو أراد بكم رحمة نُصْرَةً، وهذا بيان لما تقدم من قوله :﴿ لَن يَنفَعَكُمُ الفرار ﴾ وقوله :﴿ وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً ﴾ تقرير لقوله :﴿ مَن ذَا الذي يَعْصِمُكُمْ مِنَ الله ﴾ أي ليس لكم شفيع أي قريب ينفعكم ولا نصير ينصركم ويدفع عنكم السوء إذا أتاكم٦.
١ الكشاف ٣/٢٥٥..
٢ هكذا هي في الكشاف وما في "ب" فاختص وهو تحريف وبعد عن المعنى المراد..
٣ هذا عجز بيت من الكامل وصدره:
يا ليت زوجك قد غدا ***.......................
وشاهده في قوله: "متقلداً سيفاً ورمحاً" فإن الظاهر أن التقليد يقع على المعطوف عليه ولكن الأصح: أن هنا محذوف تقديره: متقلداً سيفاً ومعتقلاً رمحاً لأن علماء اللغة قالوا إنه يقال: تقلد فلان سيفه ولا يقال: رمحه. وانظر: الكشاف ٣/٢٥٥ والبحر المحيط ٧/٢١٩، والإنصاف ٦١٢، والكامل ١/٣٣٤، والمقتضب ٥١ والخصائص ٢/٤٣١ وشرح ابن يعيش ٢/٥٠ وأمالي المرتضى ١/٥٤ و ٢/٢٦٠ و ٣٧٥ والهمع ٢/٥١ والأشموني ٢/١٧٢ والبيضاوي ٢/١٢٩..

٤ البحر ٧/٢١٩..
٥ في الدُّرِّ: "حمل" كما هنا وفي النسختين جملة وانظر: الدر المصون ٤/٣٧٣..
٦ قاله الإمام الفخر الرازي ٢٥/٢٠١ و ٢٠٠..
قوله: ﴿قَدْ يَعْلَمُ الله المعوقين مِنكُمْ﴾ المثَبِّطين الناس عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ﴿والقآئلين لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا﴾ ارجعوا إلينا ودعوا محمداً فلا تشهدوا معه الحرب فإنا نخاف عليكم الهلاك، قال قتادة: هم ناس من المنافقين كانوا يُثَبِّطُونَ أنصار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقولون لإخوانهم: إن محمداً وأصحابه لو كانوا (لحماً لالْتَهَمُهمْ) أبو سفيان وأصحابه دعوا الرجل فإنه هالك. وقال مقاتل: نزلت في المنافقين فإنّ اليهود أرسلوا إلى المنافقين قالوا ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبي سُفْيَانَ ومَنْ مَعَهُ فإنهم إن قَدِرُوا عليكم في هذه المرة لم يَسْتَبْقُوا منكم أحداً وإنّا نشفق عليكم أنتم إخواننا وجيراننا هَلُمَّ إلينا فأقبل عبد الله بن أبيٍّ وأصحابُه على المؤمنين يُعَوِّقُونَهُمْ ويُخَوِّفُونَهُمْ بأبي سفيان وبمن معه قالوا: لئن قدروا عليكم لم يستبقوا منكم أحداً ما ترجون من محمد، ما عنده خير ما هو إلا أن يقتلنا ههُنَا انطلقوا بنا إلى إخواننا يعني اليهود فلم يزدد المؤمنون بقول المنافقين إلا إيماناً واحتساباً.
قوله: «هَلُمَّ» (تقدّم) الكلام فيه آخر الأنعام. وهو هنا لازم، وهناك مُتَعَدٍّ لنصبه مفعوله وهو «شُهَدَاءَكُمْ» بمعنى أَحْضِرُوهُمْ، وههنا بمعنى «احْضَرُوا» وتَعَالوا، وكلام الزمخشري هنا مؤذن بأنه متعد أيضاً وحُذِفَ مفعوله، فإنه قال: «وهَلُمُّوا إِلَيْنَا» أي قربوا أنفسكم إلينا (قال) :«وهي صوت سمي به فعل متعد مثل: احضَر وقَرْبْ»، وفي تسميته إياه صوتً نظر إذا أسماء الأصوات محصورة ليس هذا منها. ولا يجمع في لغة الحجاز ويجمع في غيرها فيقال للجماعة: هَلُمُّوا وللنساء هَلْمُمْنَ.
قوله: ﴿وَلاَ يَأْتُونَ البأس﴾ الحرب «إِلاَّ قَلِيلاً» رياء وسمعة أي لا يقاتلون معكم ويتعللون عن الاشتغال بالقتال وقت الحضور معكم ولو كان ذلك القليل لكان كثيراً.
521
قوله: «أَشِحَّةً» العامة على نصبه وفيه وجهان:
أحدهما: أنه منصوب على الشَّتْمِ.
والثاني: على الحال وفي العامل فيه أوجه:
أحدها: «وَلاَ يَأْتُونَ» قاله الزجاج.
الثاني: «هَلُمَّ إِلَيْنَا». قاله الطبري.
الثالث: «يعوقون» مضمراً، قاله الفراء.
الرابع: «المُعَوِّقِينَ».
الخامس: «القَائِلِينَ» ورد هذان الوجهان الأخيران بأن فيهما الفصل بين أبعاض الصلة بأجنبي، وفي الرد نظر لأن الفصل بين أبعاض الصلة من متعلقاتها، وإنما يظهر الرد على الوجه الرابع لأنه قد عطف على الموصول قبل تمام صلته فتأمله فإنه حسن وأما «وَلاَ يَأْتُونَ» فمُعْتَرِضٌ والمُعْتَرِضُ لا يمنع من ذلك. وقرأ ابن أبي عبلة أَشِحَّةٌ بالرفع على خبر ابتداء مضمر أي هم أشحة وأشحة جمع «شَحِيحٍ» وهو جمع لا ينقاس؛ إذ قياس «فَعِيل» الوصف الذي عينه ولامه من واد واحد أن يجمع على أفعلاء نحو خَلِيلٍ وأَخِلاَّء وَظنِينٍ وأَظِنَّاء، وضَنين وأَضِنَّاء، وقد سمع أشِحَّاء وهو القياس.
والشُّحُّ البخل، وقد تقدم في آل عمران.

فصل


المعنى أشحة عليكم بخلاء بالنفقة في سبيل الله والنصرة، وقال قتادة بخلاء عند الغنيمة وصفهم الله بالبخل والجبن فقال: ﴿فَإِذَا جَآءَ الخوف رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ﴾ في الرؤوس من الخوف والجبن ﴿كالذي يغشى عَلَيْهِ مِنَ الموت﴾ أي
522
كَدَوَرَانِ عين الذين يغشى عليه من الموت وذلك أن من قَرُبَ من الموت وغَشِيَتْهُ أسبابه يذهب عقله ويشخص بصره فلا يطرِفُ، واعلم أن البخل شبيه الجبن فلما ذكر البخيل بين سببه وهو الجبن لأن الجبان يبخل بماله ولا ينفقه في سبيل الله لأنه لا يتوقع الظفر فلا يرجو الغنيمة فيقول هذا إنفاق لا بدل له فيتوقف فيه، وأما الشجاع فيتيقن الظفر والاغتنام فيهون عليه إخراج المال في القتال طمعاً فيما هو أضعاف ذلك.
قوله: «يَنْظُرُونَ» في محل (نصب) حال من مفعول «رَأَيْتَهُمْ» لأن الرؤية بصرية.
قوله: «تدور» إما حال تانية وإما حال من «يَنْظُرُونَ» «كالَّذِي يُغْشَى» يجوز فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون حالاً من: «أَعْنهم» أي تدور أعينهم حال كونها مشبهة عين الذي يغشى عليه من الموت.
الثاني: أنه نعت مصدر مقدر لقوله «ينظرون» تقديره: ينظرون إليك نظراً مثلَ نظرِ الذي يغشى عليه من الموت ويؤيده الآية الأخرى: ﴿يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المغشي عَلَيْهِ مِنَ الموت﴾ [محمد: ٢٠] المعنى يحسبون أي هؤلاء المانفِقُونَ يحسبون الأحزاب يعني قريشاً وغَطَفَانَ واليهود «لَمْ يذهبُوا» لم ينصرفوا عن قتالهم من غاية الجبنِ عند ذهابهم كأنهم غائبون حيث لا يقاتلون كقوله: ﴿وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مَّا قاتلوا إِلاَّ قَلِيلاً﴾ ﴿وَإِن يَأْتِ الأحزاب﴾ أي يرجعون إليهم للقتال بعد الذهاب ﴿يودوا لو أَنهم بادون في الأعراب﴾ من الخوف والجبن.
(قوله) :«بَادُونَ» هذه قراءة العامة جمع «باد» وهو المُقيم بالبادية يقال: بَدَا يَبْدُوا بداوةً إذا خرج إلى البَادِيةٍ، وقرأ عبدُ الله وابنُ عباس وطلحةُ وابنُ يَعْمُرَ بُدَّى -
523
بضم الباء وفتح الدال مشدّدة - مقصوراً كَغَازٍ وغُزّىً، وسَارٍ وسُرّىً. وليس بقياس، وإنما قياسه في بادٍ وبُداةٍ، كقَاضٍ وقُضَاةٍ، ولكن حمل على الصحيح كقولهم: «ضُرَّب». وروي عن ابن عباس قراءة ثانية بزنة «عُدّىً» وثالثة: «بَدَوا» فعلاً ماضياً.
(قوله) :«يَسْأَلُونَ» يجوز أن يكون مستأنفاً، وإن يكون حالاً من فاعل «يَحْسَبُونَ» والعامة على سكون السين بعدها «همزة»، ونقل ابن عطية عن أبي عمرو وعاصم بنقل حركة الهمزة إلى السين كقوله:
﴿سَلْ
بني
إِسْرَائِيلَ
كَمْ آتَيْنَاهُم﴾
[البقرة: ٢١١] وهذه ليست بالمشهورة عنهما، ولعلها نقلت عنهام ذاشة، وإنا هي معروفة بالحسن والأمش، وقرأ زيدُ بنُ عَلِيٍّ والجَحْدَرِيُّ وقتادةُ والحَسَنُ «يَسَّاءلُونَ» بتشديد السين والأصل «يَتَسَاءَلُونَ» فأدغم، أي يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً.

فصل


﴿يسألون عن أبنائكم﴾ أخباركم، وما آل إليه أمركم «وَلَوْ كَانُوا» يعني هؤلاء المنافقين ﴿فِيكُمْ مَّا قاتلوا إِلاَّ قَلِيلا﴾. أي يقاتلون قليلاً يقيمون به عذرهم فيقولون: قد قَاتَلْنَا، قال الكَلْبَيُّ: «إِلاَّ قَلِيلاً» أي رمياً بالحجارة. وقال مقاتل: إلاَّ رياءً وسُمْعَةٌ من غير احتساب.
(قوله) تعالى: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ قرأ عاصم: «أُسْوَةٌ» بضم الهمزة حيث وَقَعَتْ هذه اللفظة والباقون بكسرها. وهما لغتان كالغُدْوَةِ والغِدْوَةِ والقُدْوَةِ والقِدْوةِ والأُسْوة بمعنى الاقتداء أي قدوة صالحة، وهي اسمٌ وُضِعَ مَوْضِعَ المَصْدَرِ وهو «الايتساء» فالأسوة من الايتساء كالقُدْوَة من الاقْتِدَاء، وائْتَسَى فُلانٌ بِفُلاَنٍ أي اقْتَدَى به، وأسوة اسم «كان» وفي الخبر وجهان:
524
أحدهما: هو «لكم» فيجوز في الجار الآخر وجوه: التعلق بما يتعلق به الخبر، أي بمحذوف على أنه حال من «أُسْوَةٍ» ؛ إذ لو تأخر لكان صفةً أو «بكان» على مذهب من يَرَاهُ.
الثاني: أن الخبر هو: «فِي رَسُولِ اللَّهِ» و «لَكُمْ» على ما تقدم في «رسول الله» أو يتعلق بمحذوف على التبيين أَعْنِي لَكُمْ.
قوله: ﴿لِّمَن كَانَ يَرْجُو﴾ فيه أوجه:
أحدها: أنه بدل من الكاف في «لَكُمْ» قاله الزمخشري، ومنعه أبو البقاء، وتابعه أبو حيان، قال أبو البقاء: وقيل: هو بدل من ضمير المُخَاطَبِ بإعادة الجارِّ، ومنع منه الأكثرون؛ لأن ضمير المخاطب لا يبدل منه. وقال أبو حيان: قال الزمخشري بدل من «لكم» كقوله: ﴿استضعفوا لِمَنْ آمَنَ﴾ [الأعراف: ٧٥]. قال: ولا يجوز على مذهب جمهور البصريين أن يبدل من ضمير المتكلم ولا من ضمير المخاطب بدل شيء من شيء وهما لعين واحدة وأجاز ذلك الكوفيون والأخفش وأنشد:
٤٠٧٧ - بِكُمْ قُرَيْشٍ كُفِينَا كُلَّ مُعْضِلَةٍ وأَمَّ نَهْجَ الهُدَى مَنْ كَانَ ضِلّيلاً
قال شهاب الدين: لا نسلم أن هذا بدل شيء من شيء وهما لعين واحدة، بل بدل بعض من كل باعتبار الواقع لأن الخطاب في قوله: «لكُم» أعمّ مِن: «مَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وغَيْره» ثم خصص ذلك العموم لأن المتأَسِّيَ به عليه (الصلاة و) السلام في الواقع إنما هو المؤمنون ويدل عليه ما قلته ظاهر تشبيه الزمخشري هذه الآية بآية الأعراف، وآية الأعراف البدل فيها بدل كل من كل ومجابٌ بأنه إنما قصد التشبيه في مجرد إعادة العامل.
525
والثاني: أن يتعلق بمحذوف على أنه صفة «لحَسَنَةٍ».
والثالثك أن يتعلق بنفس «حسنة» قالهما أبو البقاء، ومنع أن يتعلق بأسوة قال: لأنها قد وصفت و «كَثِيراً» أي ذِكْراً كَثِيراً.

فصل


لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة أي قدوة صالحة أن تنصروا دين الله وتؤازروا الرسول ولا تتخلفوا عنه وتصبروا على ما يصيبكم كما فعل هو إذا كسرت رُبَاعِيَّتُهُ، وجرح وَجْهُهُ وقتل عمه، وأوذي بَضُروبٍ من الأذى فواساكم مع ذلك بنفسه فافعلوا أنتم كذلك أيضاً، واستنوا بسنته ﴿لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الآخر﴾ قال ابن عباس لمن كان يرجو ثواب الله. وقال مقاتل: يخشى الله واليوم الآخر أي يخشى يوم البعث الذي فيه جزاء الأعمال وذكر الله كثيراً في جميع المواطن على السراء والضراء، ثم وصف حال المؤمنين عند لقاء الأحزاب فقال: ﴿وَلَمَّا رَأَى المؤمنون الأحزاب﴾ لما بين حال المنافقين ذكر حال المؤمنين عند لقاء الأحزاب وهو أنهم لما رأوا الأحزاب قالوا تسليماً لأمر الله وتصديقاً بوعده وهو قولهم: ﴿هذا مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ﴾، وقولهم ﴿وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ﴾ ليس بإشارة إلى ما وقع فإنهم كانوا يعرفون صدق الله قبل الوقوع وإنما هو إشارة إلى بشارة وهو أنهم قالوا: ﴿هذا مَا وَعَدَنَا الله﴾ وقد وقع صدق الله في جميع ما وعد فيقع الكل مثل فتح مكة وفتح الروم وفارس ﴿وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً﴾ (عند وجوده ووعد الله إياهم ما ذكر في سورة البقرة: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة﴾ [الآية: ٢١٤] إلى قوله: ﴿إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ﴾ [البقرة: ٢١٤] فالآية تتضمن أن المؤمنين يلحقهم مثل ذلك البلاء فلما) (رأوا الأحزاب وما أصابهم من الشدة قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً) أي تصديقاً لله وتسليماً له.
قوله: ﴿وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ﴾ من تكرير الظاهر تعظيماً لقوله:
526
٤٠٧٨ - لاَ أَرَى المَوْتَ يَسْبِقُ المَوْتَ شَيءٌ...................................
ولأنه لو أعادهما مضمرين لجمع بين اسم الباري تعالى واسم رسوله في لفظة واحدة فكان يقال: «وصدقا»، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قد كره ذلك ورد على من قال حيث قال: مَنْ يُطِع اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى فقال له بئس خطيبُ القوم أنتَ قل: ومن يعص الله ورسوله قصداً إلى تعظيم الله. وقيل إنما رد عليه لأنه وقف على «يَعْصِهِمَا» وعلى الأولى استشكل بعضهم قوله: «حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُما» فقد جمع بينهما في ضمير واحد وأجيب: بأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أعرف بقدر الله منا فليس لنا أن نقول كما يقال.
قوله: «وَمَا زَادهم» فاعل «زادهم» ضمير الوعد أي وما زادهم وعد الله أو الصدق.
وقال مكي ضمير النظر لأن قوله «لما رأى» بمعنى لما نظر. وقال أيضاً: وقيل ضمير الرؤية، وإنما ذكر لان تأنيثها غير حقيقي ولم يذكر غيرهما، وهذا عجيب منه حيث حجَّروا واسعاً مع الغنية عنه. وقرأ ابن أبي عبلة «وما زادوهم» بضمير الجمع، ويعود للأحزاب لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أخبرهم أن الأحزاب يأتيهم بعد عشر أو تسع.
قوله: ﴿مِّنَ المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ﴾ ووفوا به.
قوله: «صدقوا» صدق يتعدى لاثتين لثانيهما بحرف الجر، ويجوز حذفه ومنه المثل: «صَدَقَنِي سِنَّ بَكْرة» أي في سن. والآية يجوز أن تكون من هذا، والأول محذوف أي صدقوا الله فيما عاهدوا الله عليه، ويجوز أن يتعدى لواحد كقولك «صَدَقِنِي
527
زَيْدٌ، وكَذَبَنِي عَمْرٌوا» أي قال لي الصدق وقال الكذب، ويكون المعاهد عليه مصدوقاً مجازاً كأنهم قالوا للشيء المعاهد عليه لنوفين بك وقد فعلوا و «ما» بمعنى الذي، ولذلك عاد عليها الضمير في «عليه»، وقال مكي «ما» في موضع نصب «بصدقوا» وهي والفعل مصدر تقديره «صَدَقُوا» العهد أي وفوا به. وهذا يرده عود المضير إلا أن الأخفس وابن السراج يذهبان إلى اسمية «ما» المصدرية.
(قوله) :«قَضَى نَحْبَهُ» النحب ما التزمه الإنسان واعتقد الوفاء به قال:
٤٠٧٩ - عَشِيَّةَ فَرَّ الحَارِثيُّونَ بَعْدَمَا قَضَى نَحْبَهُ فِي مُلْتَقَى القَوْمِ هَوْبَرُ
وقال:
٤٠٨٠ - بِطَخْفَةَ جَالَدْنَا المُلُوكَ وَخَيْلُنَا عَشِيَّةَ بَسْطَامٍ جَرَيْنَ عَلَى نَحْبِ
أي على أمر عظيم، ولهذا يقال: نحب فلان أي نذر نذراً التزمه ويعبر به عن الموت كقولهم «قَضَى أجله» لما كان الموت لا بد منه جعل كالشي الملتزم والنجيب البكاء معه صوت.

فصل


قال المفسرون معنى ﴿صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ﴾ أي وفوا بعهدهم الذي عاهدوا الله «فَمِنْهُمْ نَحْبَهُ» أي فرغ من نذره ووفاه بعهده فصبر على الجهاد وقاتل حتى قتل
528
والنحيب النذر قال القُرطبي: مَنْ قَضَى نحبه أجله فقتل على الوفاء يعني حمزة وأصحابه، وقيل: قضى نحبه أي بذل جهده في سبيل الوفاء بالعهد من قول العرب «نحب فلان في سيره يومه وليلته أجمع» إذ مد فلم ينزل ﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ﴾ الشهادة يعني من بقي من المؤمنين ينتظرون أحد أمرين إما الشهادة أو النصر ﴿وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً﴾ بخلاف المنافقين فإنهم قالوا: لا نولي الأدبار وبدلوا قولهم وولوا أدبارهم.
قوله: «لِيَجْزِيَ اللَّهُ» فيه وجهان:
أحدهما: أنها لام العلة.
والثاني: أنها لام الصيرورة، وفيما يتعلق به أوجه إما «بصَدَقَوا» وإام «بزَادَهُمْ» وإما بمَا بَدَّلُوا وعلى هذا قال الزمخشري: جعل المنافقون كأنهم قصدوا عاقبة السوء وأرادوها بتبديلهم كما قصد الصادقون عاقبة الصدق بوفائهم لأن كلا الفريقين مسوقٌ إلى عاقبته من الثواب والعقاب فكأنهما استويا في طلبهما والسعي لتحصيلها، والمعنى ليجزي الله الصادقين بصدقهم أي جزاء صدقهم وهو الوفاء بالعهد.
﴿وَيُعَذِّبَ المنافقين إِن شَآءَ﴾ أي الذين كذبوا وأخلفوا، وقوله: «إنْ شَاءَ» ذلك فيمنعهم من الإيمان أو يتوب عليهم إن أراد ( «واو» ) وجواب إن شاء مقدر وكذلك مفعول «شاء» أي إن شاء تعذيبَهم عَذَّبهم، فإن قيل: عذبهم متحتم فكيف يصح تعليقه على المشيئة وهو قد شاء تعذيبهم إذا ماتوا على النفاق؟!. فأجاب ابن عطية بأن تعذيب المنافقين ثمرة إدامتهم الإقامة على النفاق إلى موتهم، والعقوبة موازية لتلك الإقامة وثمرة التوبة تركهم دون عذاب فهما درجتان إقامة على نفاق، أو توبة منه وعنهما ثمرتان تعذيب أو رحمة فذكر تعالى على جهة الإيجاز واحدةً من هاتين وواحدة (من هاتين) ما ذكر على ما ترك ذكره، ويدل على أن معنى قوله: «ليُعَذِّب» ليديم على النفاق، قَوْلُهُ: «إنْ شَاءَ» ومعادلته بالتوبة وحرف «أو». قال أبو حيان وكان ما ذكر يؤول إلى أن التقدير: ليقيموا على النفاق فيموتوا عليه إن شاء فيعذبهم أو يتوب عليهم فيرحمهم فحذف سبب التعذيب وأثبت المسبَّب وهو التعذيب، وأثبت سبب الرحمة والغفران وحذف المسبب وهو الرحمة والغفران،
529
وقال ابن الخطيب إنما قال ذلك حيث لم يكن قد حصل ما بين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن إيمانهم وآمن بعد ذلك ناس ﴿وكان الله غفوراً﴾ حيث ستر ذنبهم و «رحيماً» حيث رحمهم ورزقهم الإيمان فيكون هذا فيمن آمن بعده. أو نقول «ويعذب المنافقين» مع أنه كان غفوراً رحيماً لكثرة ذنوبهم وقوة جرمهم ولو كان دون ذلك لغفر لهم ثم بين بعض ما جزاهم الله على صدقهم فقال: ﴿وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ﴾ وهم قريش وغطفان ردّهم بغيظهم لم تُشْفَ صدورهم بنيل ما أرادوا لم ينالوا خيراً «ظفراً» وَكَفَى اللَّهُ المؤمنين القِتَال بالملائكة والريح أي لم يحوجهم إلى القتال ﴿وكان الله قوياً﴾ في ملكه غير محتاج إلى قتالهم «عزيزاً» في انتقامه قادراً على استئصال الكفار.
قوله: «بغَيْظِهِمْ» يجوز أن تكون الباء سببية وهو الذي عبر عنه أبو البقاء بالمفعول أي أنها مُعَدِّية.
والثاني: أن تكون للمصاحبة فتكون حالاً أي مَغِيظِينَ.
قوله: ﴿لم ينالوا خيراً﴾ حال ثانية أو حال من الحال الأولى فهي متداخلة، ويجوز أن تكون حالً من الضمير المجرور بالإضافة.
وجوز الزمخشري فبها أن تكون بياناً للحال الأولى أي مستأنفة، ولا يظهر البيان إلا على البدل والاستئناف بعيد.
قوله: «وَأَنْزَلَ الذينَ» أي أنزل الله الذين «ظَاهَرُوهُمْ» أي عاونوا الأحزاب من قريش وغطفان على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - والمسلمين وهم بنو قريظة.
قوله: ﴿مِّنْ أَهْلِ الكتاب﴾ بيان للموصول فيتعلق بمحذوف، (ويجوز أن يكون حالاً) «من صَياصِيهِمْ» متعلق «بأنزل» و «من» لابتداء الغاية، والصياصي جمع صِيصِيَةٍ وهي الحصون والقلاع والمعاقل ويقال لكل ما يمتنع به ويتحصن «
530
صِيصِيَةٌ» ومنه قيل لقَرْن الثَّوْرِ ولشوكة الديك: صِيصِيَة، والصّيَاصِي أيضاً شوك الحكة، ويتخذ من حديد قال دُرَيْدُ بنُ الصِّمَّةِ:
٤٠٨١ -......................... كَوَقْعِ الصَّيَاصِي في النَّسِيجِ المُمَدَّدِ
قوله: ﴿وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعب﴾ حتى سلموا أنفسهم للقتل وأولادهم ونساءهم للسبي.
قوله: «فريقاً تقتلون» منصوب بما بعده وكذلك «فريقاً» منصوب بما قبله، والجملة مبينة ومقررة لقذف الرعب في قلوبهم والعامة على الخطاب في الفعلين، وابن ذكوان - في رواية - بالغيبة فيهما، واليماني بالغيبة في الأول فقط، وأبو حيوة «تَأْسُرُونَ» بضم السين.
فإن قيل: ما فائدة التقديم المفعول في الأول حيث قال: تقتلون وتأخيره حيث قال «وتأسرون فريقاً؟!.
فالجواب: قال ابن الخطيب إن القائل يبدأ بالأهم فالأهم والأقرب فالأقرب والرجال كانوا مشهورين وكان القتل وارداً عليهم والأسراء كانوا هم النساء والذَّرَارِي ولم يكونوا مشهورين ولاسبي والأسر أظهر من القتل لأنه يبقى فيظهر لكل أحد أنه أسير فقدم من المحلَّين ما هو أشهر على الفعل القائم به ومن الفعلين ما هو أشهر قدمه
531
على المحل الخفي ووجه آخر وهو أن قوله» فريقاً تقتلون «فعل ومفعول والأصل في الجمل الفعلية تقديم الفعل على المفعول والفاعل أما أنها جملة فعلية فلأنها لوكانت اسمية لكان الواجب في» فريق «الرفع، كأنه يقول فريق منهم تقتلونهم (فلما نصب كان ذلك بفعل مضمير يفسره الظاهر تقديره:» تقتلون فريقاً تقتلون «) والحامل على مثل هذا الكلام شدة الاهتمام ببيان المفعول، وههنا كذلك لأنه تعالى لما ذكر حال الذين ظاهروهم وأنه قد قذف في قلوبهم الرعب فلو قال: تقتلون أوهم أن يسمع السامع مفعول» تقتلون «" يكون زمان وقد يمنعه مانع فيفوته ولا يعلم أيهم هم المقتولون فأما إذا قال: " فريقا " سبق في قلوبهم الرعب إلى سمعهم فيستمع إلى تمام الكلام، وإذا كان الأول فعلاً ومفعولاً قدم المفعول لفائدة عطف الجملة الثانية عليها على الأصل (فعدم) تقديم الفعل لزوال موجب التقديم إذ عرف حالهم وما يجيء بعده يكون مصروفاً إليهم فلو قال بعد ذلك:» وَفَريقاً تأسرون «فمن سمع» فريقاً «ربما يظن أنه يقال فيهم يطلقون أو لا يقدرون عليهم فكان تقديم الفعل ههنا أولى وكذا الكلام في قوله: ﴿وَأَنزَلَ الذين (ظَاهَرُوهُم) ﴾ (ظَاهَرُوهُمْ) وقوله:» قذف «، فإن قذف الرعب قبل الإنزال لأن الرعب صار سبيل الإنزال ولكن لما كان الفرح في إنزالهم أكثر قدم الإنزال على قذف الرعب والله أعلم.

فصل


فريقاً تقتلون هم الرجال قيل: كانوا ستمائة، و «تأسرون فريقاً»
وهم النساء والذراري، قيل: كانوا سبعمائة وخمسين، وقيل تسعمائة ﴿وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا﴾ بعد؛ قال ابن زيد ومقاتل يعني خيبر وقال قتادة. كنا نحدث أنها مكية، وقال الحسن: فارس والروم وقيل: القلاع وقال عكرمة: كل أرض تفتح إلى يوم القيامة.
قوله: «لم تَطَئُوها» الجملة صفة «لأرضاً» والعامة على همزة مضومة ثم واو ساكنة، وزيد بن علي «تَطَوْهَا» بواو بعد طاء مفتوحة ووجهها أنها كبدلِ الهمزة ألفاًعلى الإسناد كقوله:
532
٤٠٨٢ - إنَّ الأُسُودَ لَتُهْدَى في مَرَابِضِهَا.................................
فلما أسنده للواء التقى ساكنان محذوف أولهما نحو «لم تَرَوْهَا» وهذا أحسن من أن تقول ثم أجرى الألف المبدلة من الهمزة مجرى الألف المتأصلة فحذفها جزماً لأن الأحسن هناك أن لا يحذف اعتداداً بأصلها، واستشهد بعضهم على الحذف بقول زهير:
٤٠٨٣ - جَرِيء مَتَى يُظْلَمُ يُعَاقَبْ بظُلْمِهِ سَرِيعاً وإِلا يُبْدَ بالظُّلْمِ يَظْلِم
قوله: ﴿وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً﴾ هذا يؤكد قول من قال: إن المراد من قوله ﴿وأرضاً لم تطؤوها﴾ ما يؤخذ بعد من بني قريظة لأن الله تعالى لما ملكهم تلك البلاء ووعدهم بغيرها دفع استبعاد من لا يكون قوي الاتكال على الله تعالى وقال أليس الله ملككم هذه فهو على كل شيء قدير يملككم غيرها، روى أبو هريرة - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يقول:» لا إله إلا الله وحده، أعزَّ جنده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحدَه، فلا شيء بعده. «
533
قوله :«أَشِحَّةً » العامة على نصبه وفيه وجهان :
أحدهما : أنه منصوب على الشَّتْمِ١.
والثاني : على الحال وفي العامل فيه أوجه :
أحدها :«وَلاَ يَأْتُونَ » قاله الزجاج٢.
الثاني :«هَلُمَّ إِلَيْنَا ». قاله الطبري٣.
الثالث :«يعوقون » مضمراً، قاله الفراء٤.
الرابع :«المُعَوِّقِينَ »٥.
الخامس :«القَائِلِينَ »٦ ورد هذان الوجهان الأخيران بأن فيهما الفصل بين أبعاض الصلة بأجنبي، وفي الرد نظر لأن الفاصل بين أبعاض الصلة من متعلقاتها، وإنما يظهر الرد على الوجه الرابع لأنه قد عطف على الموصول٧ قبل تمام صلته فتأمله فإنه حسن وأما «وَلاَ يَأْتُونَ » فمُعْتَرِضٌ والمُعْتَرِضُ لا يمنع من٨ ذلك. وقرأ ابن أبي عبلة أَشِحَّةٌ٩ بالرفع على خبر ابتداء مضمر أي هم أشحة وأشحة جمع «شَحِيحٍ » وهو جمع لا ينقاس ؛ إذ قياس «فَعِيل » الوصف الذي عينه ولامه من واد١٠ واحد أن يجمع على أفعلاء نحو خَلِيلٍ وأَخِلاَّء وَظنِينٍ وأَظِنَّاء، وضَنين وأَضِنَّاء، وقد سمع أشِحَّاء وهو القياس١١.
والشُّحُّ البخل، وقد تقدم في آل عمران١٢.

فصل :


المعنى أشحة عليكم بخلاء بالنفقة في سبيل الله والنصرة، وقال قتادة١٣ بخلاء عند الغنيمة وصفهم الله بالبخل والجبن فقال :﴿ فَإِذَا جَاءَ الخوف رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ ﴾ في الرؤوس من الخوف والجبن ﴿ كالذي يغشى عَلَيْهِ مِنَ الموت ﴾ أي كَدَوَرَانِ عين الذين يغشى عليه من الموت وذلك أن من قَرُبَ من الموت وغَشِيَتْهُ أسبابه يذهب عقله ويشخص بصره فلا يطرِفُ، واعلم أن البخل شبيه الجبن فلما ذكر البخيل بين سببه وهو الجبن لأن الجبان يبخل بماله ولا ينفقه في سبيل الله لأنه لا يتوقع الظفر فلا يرجو الغنيمة فيقول هذا إنفاق لا بدل١٤ له فيتوقف فيه، وأما الشجاع فيتيقن١٥ الظفر والاغتنام فيهون عليه إخراج المال في القتال طمعاً فيما هو أضعاف ذلك١٦.
قوله :«يَنْظُرُونَ » في محل ( نصب١٧ ) حال من مفعول «رَأَيْتَهُمْ » لأن الرؤية بصرية١٨.
قوله :«تدور » إما حال١٩ ثانية وإما حال من «يَنْظُرُونَ »٢٠ «كالَّذِي يُغْشَى » يجوز فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون حالاً من :«أَعْينهم » أي تدور أعينهم حال كونها مشبهة عين الذي يغشى عليه من الموت٢١.
الثاني : أنه نعت مصدر مقدر لقوله «ينظرون » تقديره : ينظرون إليك نظراً مثلَ نظرِ الذي٢٢ يغشى عليه من الموت ويؤيده٢٣ الآية الأخرى :﴿ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المغشي عَلَيْهِ مِنَ الموت ﴾ [ محمد : ٢٠ ] المعنى يحسبون أي هؤلاء المنافِقُونَ يحسبون الأحزاب يعني قريشاً وغَطَفَانَ واليهود
١ في "ب" على القسم بدل الشتم وهو تحريف وانظر: الدر المصون ٤/٣٧٣ والبيان ٢/٢٦٦..
٢ انظر: معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤/٢٢٠ وهو قول أبي البقاء في التبيان ١٠٥٤ والنحاس في إعراب القرآن ٣/٣٠٨ وانظر البيان ٢/٢٦٦ ومشكل القرآن لمكي ٢/١٩٥..
٣ الطبري ٢١/٨٩ في جامع البيان..
٤ معاني القرآن للفراء ٢/٣٣٨..
٥ قالهما أبو حيان في البحر ٧/٢٢٠ وكذلك السمين في الدر ٤/٣٧٣..
٦ قالهما أبو حيان في البحر ٧/٢٢٠ وكذلك السمين في الدر ٤/٣٧٣..
٧ قاله شهاب الدين في الدر المصون ٤/٣٧٣..
٨ المرجع السابق..
٩ شواذ القرآن ١٩٣ والبحر ٢٢٠٧ والكشاف ٣/٣٥٥..
١٠ في "ب" من مادة واحدة..
١١ نقله السمين في الدر ٤/٣٧٤..
١٢ انظر: اللباب ١/٣٤٣ ب..
١٣ انظر القرطبي ١٤/١٥٢..
١٤ في "ب" لا بد له..
١٥ في "ب" متيقن..
١٦ ذكره في التفسير الكبير ٢٥/٢٠١ و ٢٠٢..
١٧ ساقطة من "أ"..
١٨ حكاه أبو البقاء في التبيان ١٠٥٤ والبيان ٢/٢٦٦ والدر المصون ٤/٣٧٤..
١٩ ذكره ابن الأنباري في البيان المرجع السابق والسمين في الدر المرجع السابق..
٢٠ البيان لأبي البقاء ١٠٥٤ وانظر المرجعين السابقين..
٢١ هذا رأي أبي البقاء في التبيان ٢/١٠٥٤ والدر المصون ٤/٣٧٤..
٢٢ البحر المحيط ٧/٢٢٠ والدر المصون ٤/٣٧٣..
٢٣ في "ب" وأيده..
«لَمْ يذهبُوا » لم ينصرفوا عن قتالهم من غاية الجبنِ عند ذهابهم كأنهم غائبون حيث لا يقاتلون كقوله :﴿ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قاتلوا إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ ﴿ وَإِن يَأْتِ الأحزاب ﴾ أي يرجعون إليهم للقتال بعد الذهاب١ ﴿ يودوا لو أَنهم بادون في الأعراب ﴾ من الخوف والجبن.
( قوله )٢ :«بَادُونَ » هذه قراءة العامة جمع «باد » وهو المُقيم بالبادية يقال : بَدَا يَبْدُو بداوةً إذا خرج إلى البَادِيةٍ٣، وقرأ عبدُ الله وابنُ عباس٤ وطلحةُ وابنُ يَعْمُرَ بُدَّى - بضم الباء وفتح الدال مشدّدة - مقصوراً٥ كَغَازٍ وغُزًّى، وسَارٍ وسُرًّى. وليس بقياس، وإنما قياسه في بادٍ وبُداةٍ، كقَاضٍ وقُضَاةٍ، ولكن حمل على الصحيح كقولهم :«ضُرَّب »٦. وروي عن ابن عباس قراءة ثانية بزنة «عُدًّى » وثالثة :«بَدَوا » فعلاً ماضياً٧.
( قوله )٨ :«يَسْأَلُونَ » يجوز أن يكون مستأنفاً٩، وأن يكون حالاً من فاعل «يَحْسَبُونَ »١٠ والعامة على سكون١١ السين بعدها «همزة »، ونقل ابن عطية عن أبي عمرو وعاصم بنقل حركة الهمزة إلى السين كقوله :
﴿ سَلْ بني إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم ﴾ [ البقرة : ٢١١ ] وهذه ليست بالمشهورة عنهما، ولعلها نقلت عنهما شاذة، وإنما هي معروفة بالحسن والأعمش١٢، وقرأ زيدُ بنُ عَلِيٍّ والجَحْدَرِيُّ وقتادةُ والحَسَنُ «يَسَّاءلُونَ » بتشديد١٣ السين والأصل «يَتَسَاءَلُونَ » فأدغم، أي يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً.

فصل :


﴿ يسألون عن أنبائكم ﴾ أخباركم، وما آل إليه أمركم «وَلَوْ كَانُوا » يعني هؤلاء المنافقين ﴿ فِيكُمْ مَا قاتلوا إِلاَّ قَلِيلاً ﴾. أي يقاتلون قليلاً يقيمون به عذرهم فيقولون : قد قَاتَلْنَا، قال الكَلْبَيُّ :«إِلاَّ قَلِيلاً » أي رمياً بالحجارة. وقال مقاتل : إلاَّ رياءً وسُمْعَةً من غير احتساب١٤.
١ انظر: الجامع لأحكام القرآن ١٤/١٥٤..
٢ زيادة من "ب"..
٣ قال في اللسان ٢٣٥: "تبدى الرجل: أقام بالبادية، وتبادى: تشبه بأهل البادية..
٤ هو ابن مصرف وقد سبق التعريف به..
٥ ذكرها في القرطبي ١٤/١٥٥ و ١٥٤ وهي من القراءات الشاذة غير المتواترة، وقد ذكرها ابن خالويه في المختصر ١١٩ وقال: "بادون جمع سلامة وبُدَّى جمعُ تكسير" ثم قال: "ورُوِيت عن ابن مسعود".
وانظر كذلك المحتسب لابن جني ٢/١٧٧ وشواذ القرآن ١٩٣..

٦ قاله السمين في الدر المصون ٤/٣٧٥..
٧ ذكرها أبو حيان في بحره ٧/٢٢١ وذكر الزمخشري القراءة الأولى في الكشاف ٣/٢٥٦..
٨ ساقط من "أ" وزيادة من "ب"..
٩ ذكره السمين في الدر ٤/٣٧٥..
١٠ المرجع السابق والتبيان ١٠٥٤..
١١ فتكون "يسألون" وانظر البحر ٧/٢٢١..
١٢ المرجع السابق وانظر: معاني الفرَّاء ٢/٣٣٩..
١٣ المرجعان السابقان والإتحاف ٣٥٤ والقرطبي ١٤/١٥٥ وهي قراءة يعقوب أيضاً في رواية رُوَيْس..
١٤ حكاهما القرطبي في المرجع السابق..
( قوله ) تعالى :﴿ لََقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾ قرأ عاصم :«أُسْوَةٌ » بضم الهمزة حيث وَقَعَتْ هذه اللفظة والباقون بكسرها١. وهما لغتان كالغُدْوَةِ والغِدْوَةِ٢ والقُدْوَةِ والقِدْوةِ والأُسْوة بمعنى الاقتداء أي قدوة صالحة، وهي اسمٌ وُضِعَ مَوْضِعَ المَصْدَرِ وهو «الايتساء » فالأسوة من الايتساء كالقُدْوَة من الاقْتِدَاء، وائْتَسَى فُلانٌ بِفُلاَنٍ أي اقْتَدَى به٣، وأسوة اسم «كان » وفي الخبر وجهان :
أحدهما : هو «لكم »٤ فيجوز في الجار الآخر٥ وجوه : التعلق بما يتعلق به الخبر٦، أي بمحذوف على أنه حال من «أُسْوَةٍ »٧ ؛ إذ لو تأخر لكان صفةً أو «بكان » على مذهب من يَرَاهُ٨.
الثاني : أن الخبر هو :«فِي رَسُولِ اللَّهِ » و «لَكُمْ » على ما تقدم في «رسول الله » أو يتعلق بمحذوف على التبيين أَعْنِي لَكُمْ٩.
قوله :﴿ لِمَن كَانَ يَرْجُو ﴾ فيه أوجه :
أحدها : أنه بدل من الكاف في «لَكُمْ » قاله الزمخشري١٠، ومنعه أبو البقاء، وتابعه أبو حيان، قال أبو البقاء : وقيل : هو بدل من ضمير المُخَاطَبِ بإعادة الجارِّ، ومنع منه الأكثرون ؛ لأن ضمير المخاطب لا يبدل منه١١. وقال أبو حيان١٢ : قال الزمخشري بدل من «لكم » كقوله :﴿ استضعفوا لِمَنْ آمَنَ منهم ﴾ [ الأعراف : ٧٥ ]. قال : ولا يجوز على١٣ مذهب جمهور البصريين أن يبدل من ضمير المتكلم ولا من ضمير المخاطب بدل شيء من شيء وهما لعين واحدة وأجاز ذلك الكوفيون والأخفش وأنشد :
٤٠٧٧ - بِكُمْ قُرَيْشٍ كُفِينَا كُلَّ مُعْضِلَةٍ وأَمَّ نَهْجَ الهُدَى مَنْ كَانَ ضِلّيلاً١٤
قال شهاب الدين : لا نسلم أن هذا بدل١٥ شيء من شيء وهما لعين واحدة، بل بدل بعض من كل باعتبار الواقع لأن الخطاب في قوله :«لكُم » أعمّ مِن :«مَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وغَيْره » ثم خصص ذلك العموم لأن المتأَسِّيَ به عليه ( الصلاة١٦ و ) السلام في الواقع إنما هم المؤمنون ويدل عليه١٧ ما قلته ظاهر تشبيه الزمخشري هذه الآية بآية الأعراف، وآية الأعراف البدل فيها بدل كل من كل ومجابٌ١٨ بأنه إنما قصد التشبيه في مجرد إعادة العامل.
والثاني : أن يتعلق بمحذوف على أنه صفة «لحَسَنَةٍ »١٩.
والثالث : أن يتعلق بنفس «حسنة » قالهما٢٠ أبو البقاء، ومنع أن يتعلق بأسوة قال : لأنها قد٢١ وصفت و «كَثِيراً » أي ذِكْراً كَثِيراً٢٢.

فصل :


لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة أي قدوة صالحة أن تنصروا دين الله وتؤازروا الرسول ولا تتخلفوا عنه وتصبروا على ما يصيبكم كما فعل هو إذا كسرت رُبَاعِيَّتُهُ، وجرح وَجْهُهُ وقتل عمه، وأوذي بَضُروبٍ من الأذى فواساكم مع ذلك بنفسه فافعلوا أنتم كذلك أيضاً، واستنوا بسنته ﴿ لِمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الآخر ﴾ قال ابن عباس لمن كان٢٣ يرجو ثواب الله. وقال مقاتل : يخشى الله واليوم الآخر٢٤ أي يخشى يوم البعث الذي فيه جزاء الأعمال وذكر الله كثيراً في جميع المواطن على السراء والضراء،
١ السبعة ٥٢٠ والإتحاف ٣٥٤ ومعاني الفراء ٢/٣٣٩..
٢ فالضم لقيس والحسن وأهل الحجاز يقرؤون إسوة- بالكسر- حكاه الفراء في معانيه ٢/٣٣٩..
٣ نقله السمين في الدر ٤/٣٧٦..
٤ المرجع السابق وانظر كذلك التبيان ١٠٥٤..
٥ وهو: "في رسول الله"..
٦ وهو الاستقرار لا بأسوة..
٧ قالهما السمين في الدر ٤/٣٧٦ وأبو البقاء في التبيان ١٠٥٥..
٨ أي على مذهب من يرى أن كان وأخواتها تعمل في الخبر "جارًّا وظرفاً"..
٩ قالهما أبو حيان في البحر ٧/٢٢٢ وأبو البقاء في التبيان ١٠٥٥ والسمين في الدر ٤/٣٧٦..
١٠ انظر: الكشاف ٣/٢٥٦..
١١ التبيان ١٠٥٥..
١٢ البحر المحيط ٧/٢٢٢..
١٣ المرجع الأخير السابق..
١٤ البيت من بحر البسيط وهو مجهول قائله وشاهده في "بكم قريش" حيث أبدل "قريشاً" من الكاف في "بكم" وعامة الجمهور لا يجيزه وأجازه الأخفشُ والكوفيون وعلى ذلك استشهدوا بهذا البيت. وقد تقدم..
١٥ نقله شهاب الدين السمين في الدر ٤/٣٧٦ و ٣٧٧..
١٦ زيادة من "ب"..
١٧ في الدر: "ويدلك"..
١٨ في "ب" والسمين "ويجاب" بلفظ الفعلية..
١٩ قال ابن الأنباري في البيان "الجرار والمجرور في موضع رفع لأنه صفة "لأسوة" وتقديره: أسوة حسنة كائنة لمن كان يرجو الله ولا يجوز أن يتعلق بنفس "أسوة" إذا جعل بمعنى التأسي لأن "أسوة" وصفت وإذا وصف المصدر لم يعمل فكذلك ما كان في معناه". وانظر: البيان ٢/٢٦٧..
٢٠ في "ب" قاله وهو خطأ وانظر التبيان ١٠٥٥..
٢١ المرجع السابق وانظر: الدر ٤/٣٧٦ و ٣٧٧..
٢٢ المراجع السابقة..
٢٣ ذكرهما القرطبي في تفسيره ١٤/١٥٦ وانظر كذلك زاد المسير ٦/٣٦٨..
٢٤ ذكرهما القرطبي في تفسيره ١٤/١٥٦ وانظر كذلك زاد المسير ٦/٣٦٨..
ثم وصف حال المؤمنين عند لقاء الأحزاب فقال :﴿ وَلَمَّا رَأَى المؤمنون الأحزاب ﴾ لما بين حال المنافقين ذكر حال المؤمنين عند لقاء الأحزاب وهو أنهم لما رأوا الأحزاب قالوا تسليماً لأمر الله وتصديقاً بوعده وهو قولهم :﴿ هذا مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ ﴾، وقولهم ﴿ وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ ﴾ ليس بإشارة إلى١ ما وقع فإنهم كانوا يعرفون صدق الله قبل الوقوع وإنما هو إشارة إلى بشارة وهو أنهم قالوا :﴿ هذا مَا وَعَدَنَا الله ﴾ وقد وقع صدق الله في جميع ما وعد فيقع الكل مثل فتح مكة وفتح الروم وفارس ﴿ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً ﴾ ( عند وجوده٢ ووعد الله إياهم ما ذكر في سورة البقرة :﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجنة ﴾ إلى قوله :﴿ ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ ﴾ فالآية تتضمن أن المؤمنين يلحقهم مثل ذلك البلاء فلما ) ( رأوا الأحزاب وما أصابهم من الشدة قالوا٣ : هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً ) أي تصديقاً لله وتسليماً له.
قوله :﴿ وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ ﴾ من تكرير الظاهر تعظيماً لقوله :
٤٠٧٨ - لاَ أَرَى المَوْتَ يَسْبِقُ المَوْتَ شَيءٌ . . . . . . . . . ٤
ولأنه لو أعادهما مضمرين لجمع بين اسم الباري تعالى واسم رسوله في لفظة واحدة فكان يقال :«وصدقا »، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد كره ذلك ورد على من قال حيث قال : مَنْ يُطِع اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى فقال له بئس خطيبُ القوم أنتَ قل : ومن يعص الله ورسوله قصداً إلى تعظيم٥ الله. وقيل إنما رد عليه لأنه وقف على «يَعْصِهِمَا » وعلى الأولى استشكل بعضهم قوله :«حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُما »٦ فقد جمع بينهما في ضمير واحد وأجيب : بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعرف بقدر الله منا فليس لنا أن نقول كما يقول.
قوله :«وَمَا زَادهم » فاعل «زادهم » ضمير الوعد أي وما زادهم وعد الله أو الصدق.
وقال مكي ضمير٧ النظر لأن قوله «لما رأى » بمعنى لما نظر. وقال أيضاً : وقيل ضمير الرؤية٨، وإنما ذكر لأن تأنيثها٩ غير حقيقي ولم يذكر غيرهما، وهذا عجيب منه حيث حجَّروا واسعاً١٠ مع الغنية عنه. وقرأ ابن أبي عبلة «وما زادوهم » بضمير الجمع١١، ويعود للأحزاب لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرهم أن الأحزاب يأتيهم بعد عشر أو تسع.
١ ذكره الفخر الرازي في تفسيره ٢٥/٢٠٣..
٢ ما بين القوسين كله ساقط من "ب"..
٣ ما بين القوسين كله ساقط من "ب"..
٤ هو من الخفيف وهو لعدي بن زيد، وعجزه:
......................... نغص الموت ذا الغنى والفقيرا.
وشاهده: تكرير كلمة الموت تأكيداً واهتماماً به أو نقول وضع الظاهر موضع المضمر فكان من الإمكان القول "لا أرى الموت يسبقه شيء" وهنا هو المألوف عادة ولكنه خرج هنا عنها لغرض بلاغي وهو الاهتمام بالأمر وتأكيده، وقد عدوه من الضرورات الشعرية. وقد تقدم..

٥ صحيح البخاري ١/٧ و ٤/٣٩..
٦ مشكل الإعراب ٢/١٩٥..
٧ السابق..
٨ في "ب" لأن باعثهما وانظر: البيان ٢/٢٦٧ ومعاني الفراء ٢/٣٤٠..
٩ يريد أن هذين الوجهين مشهوران عن غيره وقد نسبهما أي مكي لنفسه وفي الحديث: "لقد تحَجَّرْتَ واسعاً" أي ضيقت ما وسعه الله وخصصت به..
١٠ ذكرهما أبو حيان في البحر المحيط ٧/٢٢٣..
١١ قاله السمين في الدر ٤/٣٧٨..
قوله :﴿ مِنَ المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا الله عَلَيْهِ ﴾ ووفوا به.
قوله :«صدقوا » صدق يتعدى لاثنين لثانيهما بحرف الجر١، ويجوز حذفه٢ ومنه المثل :«صَدَقَنِي سِنَّ بَكْرة »٣ أي في سن. والآية يجوز أن تكون من هذا، والأول محذوف أي صدقوا الله فيما عاهدوا الله عليه، ويجوز أن يتعدى لواحد كقولك «صَدَقَنِي زَيْدٌ، وكَذَبَنِي عَمْرٌو » أي قال لي الصدق وقال الكذب، ويكون المعاهد عليه مصدوقاً مجازاً كأنهم قالوا للشيء المعاهد عليه لنوفين بك وقد فعلوا٤ و «ما » بمعنى الذي، ولذلك عاد عليها الضمير في «عليه »٥، وقال مكي «ما » في موضع نصب «بصدقوا » وهي والفعل مصدر تقديره «صَدَقُوا » العهد أي وفوا به٦. وهذا يرده عود الضمير إلا أن الأخفش وابن السراج٧ يذهبان إلى اسمية «ما » المصدرية.
( قوله٨ ) :«قَضَى نَحْبَهُ » النحب ما التزمه الإنسان واعتقد الوفاء به قال :
٤٠٧٩ - عَشِيَّةَ فَرَّ الحَارِثيُّونَ بَعْدَمَا قَضَى نَحْبَهُ فِي مُلْتَقَى القَوْمِ هَوْبَرُ٩
وقال :
٤٠٨٠ - بِطَخْفَةَ جَالَدْنَا المُلُوكَ وَخَيْلُنَا عَشِيَّةَ بَسْطَامٍ جَرَيْنَ عَلَى نَحْبِ١٠
أي على أمر عظيم، ولهذا يقال : نحب فلان أي نذر نذراً التزمه ويعبر به عن الموت كقولهم «قَضَى أجله »١١ لما كان الموت لا بد منه جعل كالشيء الملتزم والنحيب البكاء معه صوت.

فصل :


قال المفسرون معنى ﴿ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا الله عَلَيْهِ ﴾ أي وفوا بعهدهم الذي عاهدوا الله «فَمِنْهُمْ من قضى نَحْبَهُ » أي فرغ من نذره ووفاه بعهده فصبر على الجهاد وقاتل حتى قتل والنحيب١٢ النذر قال القُرطبي : مَنْ قَضَى نحبه١٣ أجله فقتل على الوفاء يعني حمزة وأصحابه، وقيل : قضى نحبه أي١٤ بذل جهده في سبيل الوفاء بالعهد من قول العرب «نحب فلان في سيره يومه وليلته أجمع » إذ مد فلم ينزل ﴿ وَمِنْهُمْ مَن يَنتَظِرُ ﴾ الشهادة يعني من بقي من المؤمنين ينتظرون أحد أمرين إما الشهادة أو النصر ﴿ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ﴾ بخلاف المنافقين فإنهم قالوا : لا نولي الأدبار وبدلوا قولهم وولوا أدبارهم.
١ أي حذف حرف الجر..
٢ ذكره الميداني في مجمع الأمثال وهو يضرب للصادق في قوله. وله قصة انظر: المجمع للميداني ٢/٢١٢، واللسان: " ص د ق" ٢٤١٧، وشاهده: تعدي " صدق" للمفعول الثاني المجيء بحرف جر والذي حذف جوازاً وهو "سن" حيث كان "في سن" فحذفت "في "جوازاً..
٣ قاله أبو حيان في البحر ٧/٢٢٣، والسمين في الدر ٤/٣٧٨..
٤ المرجعان السابقان..
٥ انظر: مشكل الإعراب لمكي ٢/١٩٥ ثم البيان ٢/١٦٧..
٦ هو أبو بكر محمد بن السري المعروف بابن السراج كان أحد العلماء المذكورين وأئمة النحو المشهورين أخذ عن أبي العباس المبرد وأخذ عنه الزجاجي والسيرافي وغيرهما مات سنة ٣١٠ هـ انظر: نزهة الألباء ١٦٦..
٧ زيادة من "ب"..
٨ قاله القرطبي في ١٤/١٥٨ و ١٦٠ وغريب القرآن ٣٤٩ وتأويل مشكل القرآن – وكلاهما لابن قتيبة ١٨٣..
٩ هو من بحر الطويل وهو لذي الرمة، ويروى: "في ملتقى الخيل" بدل "القوم" وهو يفتخر بشجاعة قومه وإقدامهم. و"هوبر" اسم رجل والشاهد في "نحبه" فهو هنا بمعنى الوفاء والأجل والعهد الذي التزم الإنسان به على نفسه وهو الشاهد المراد وهناك شاهد آخر لا صلة لنا به الآن وهو حذف المضاف دون ما دليل يدل عليه وهو من ضرورات الشعر التي لا يقاس عليها والأصل: ابن هوبر فحذف "ابن" وهذا قد يؤدي إلى اللبس انظر: ابن يعيش ٣/٢٤ والقرطبي ١٤/١٦٠ برواية "الخيل" وفتح القدير ٤/٢٧١ والهمع ٢/٥١ والطبري ٢١ ص ٩٢، والدر المصون ٤/٣٧٨..
١٠ البيت من الطويل وهو لجرير وطَخْفَة مكان وبسطام: يوم لهم وشاهده "نحب" فإن المعنى الخطر العظيم وانظر: ديوانه ٨٢ واللسان: " ن ح ب" ٤٣٦٢ والبحر ٧/٢٠٨، وفتح القدير ٤/٢٧١ ومجمع البيان ٧/٥٤٨ والدر المصون ٤/٣٧٨..
١١ قاله الفراء في معانيه ٢/٣٤٠ والزمخشري في الكشاف ٣/٢٥٦..
١٢ في القرطبي ١٤/١٥٨..
١٣ المرجع السابق..
١٤ السابق..
قوله :«لِيَجْزِيَ اللَّهُ » فيه وجهان :
أحدهما : أنها لام العلة.
والثاني : أنها لام الصيرورة، وفيما يتعلق به أوجه إما «بصَدَقَوا » وإما «بزَادَهُمْ » وإما بمَا بَدَّلُوا١ وعلى هذا قال الزمخشري : جعل المنافقون كأنهم قصدوا عاقبة السوء وأرادوها بتبديلهم كما قصد الصادقون عاقبة الصدق بوفائهم لأن كلا الفريقين مسوقٌ إلى عاقبته من الثواب والعقاب فكأنهما استويا في طلبهما والسعي لتحصيلها، والمعنى ليجزي الله الصادقين بصدقهم أي جزاء صدقهم وهو الوفاء بالعهد.
﴿ وَيُعَذِّبَ المنافقين إِن شَاءَ ﴾ أي الذين كذبوا وأخلفوا، وقوله :«إنْ شَاءَ » ذلك فيمنعهم من الإيمان أو يتوب عليهم إن أراد ( «وأو٢ » ) وجواب إن شاء مقدر وكذلك مفعول «شاء » أي إن شاء تعذيبَهم عَذَّبهم٣، فإن قيل : عذابهم متحتم فكيف يصح تعليقه على المشيئة وهو قد شاء تعذيبهم إذا ماتوا على النفاق ؟ !. فأجاب ابن عطية بأن تعذيب المنافقين ثمرة إدامتهم الإقامة على النفاق إلى موتهم، والعقوبة٤ موازية لتلك الإقامة وثمرة التوبة تركهم دون عذاب فهما درجتان إقامة على نفاق، أو توبة منه وعنهما ثمرتان تعذيب أو رحمة فذكر تعالى على جهة الإيجاز واحدةً من هاتين وواحدة ( من٥ هاتين ) ما ذكر على ما ترك ذكره، ويدل على أن معنى قوله :«ليُعَذِّب » ليديم على النفاق، قَوْلُهُ :«إنْ شَاءَ » ومعادلته بالتوبة وحرف «أو٦ ». قال أبو حيان وكان ما ذكر يؤول إلى أن التقدير : ليقيموا على النفاق فيموتوا عليه إن شاء فيعذبهم أو يتوب عليهم فيرحمهم فحذف سبب التعذيب وأثبت المسبَّب وهو التعذيب٧، وأثبت سبب الرحمة والغفران وحذف المسبب وهو الرحمة والغفران، وقال ابن الخطيب إنما قال ذلك حيث لم يكن قد حصل ما بين٨ النبي - صلى الله عليه وسلم - عن إيمانهم وآمن بعد ذلك ناس ﴿ وكان الله غفوراً ﴾ حيث ستر ذنبهم و «رحيماً » حيث رحمهم ورزقهم الإيمان فيكون هذا فيمن آمن بعده. أو نقول «ويعذب المنافقين » مع أنه كان غفوراً رحيماً لكثرة ذنوبهم وقوة جرمهم ولو كان دون ذلك لغفر لهم
١ الدر المصون ٤/٣٧٩ وانظر: البحر ٧/٢٢٣ والكشاف ٣/٢٥٧..
٢ زيادة لا معنى لها..
٣ قاله السمين في الدر المصون ٤/٣٧٩..
٤ في البحر والسمين و"ب" والتوبة دون العقوبة..
٥ في المرجعين السابقين ولكنه ساقط من "ب"..
٦ انظر: البحر ٧/٢٢٣ والدر المصون ٤/٣٧٩..
٧ المرجع السابق قال: وهذا من الإيجاز الحسن البحر ٧/٢٢٣..
٨ في تفسيره "يأس النبي"..
ثم بين بعض ما جزاهم١ الله على صدقهم فقال :﴿ وَرَدَّ الله الذين كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ ﴾ وهم قريش وغطفان ردّهم بغيظهم لم تُشْفَ صدورهم بنيل ما أرادوا لم ينالوا خيراً «ظفراً » وَكَفَى اللَّهُ المؤمنين القِتَال بالملائكة والريح أي لم يحوجهم إلى القتال ﴿ وكان الله قوياً ﴾ في ملكه غير محتاج إلى قتالهم «عزيزاً » في انتقامه قادراً على استئصال الكفار.
قوله :«بغَيْظِهِمْ » يجوز أن تكون الباء سببية وهو الذي عبر عنه أبو البقاء بالمفعول أي٢ أنها مُعَدِّية.
والثاني : أن تكون للمصاحبة٣ فتكون حالاً أي مَغِيظِينَ.
قوله :﴿ لم ينالوا٤ خيراً ﴾ حال ثانية أو حال من الحال الأولى فهي متداخلة، ويجوز٥ أن تكون حالاً من الضمير المجرور٦ بالإضافة.
وجوز الزمخشري فيها أن تكون بياناً للحال الأولى أي مستأنفة٧، ولا يظهر البيان إلا على البدل والاستئناف بعيد٨.
١ وفيه: "جازاهم" بصيغة التفاعل وانظر: تفسير الفخر الرازي ٢٥/٢٠٤..
٢ قال في التبيان ١٠٥٥ "يجوز أن يكون حالاً، وبأن يكون مفعولاً"..
٣ أقوال شهاب الدين السمين في الدر ٤/٣٧٩ والحال المتداخلة التي تدخل تحت الأولى كالجملة الصغرى التي تحت الكبرى..
٤ أقوال شهاب الدين السمين في الدر ٤/٣٧٩ والحال المتداخلة التي تدخل تحت الأولى كالجملة الصغرى التي تحت الكبرى..
٥ أقوال شهاب الدين السمين في الدر ٤/٣٧٩ والحال المتداخلة التي تدخل تحت الأولى كالجملة الصغرى التي تحت الكبرى..
٦ من "بغيظهم"..
٧ قال في الكشاف ٣/٢٥٧: "ويجوز أن تكون الثانية بياناً للأولى أو استئنافاً"..
٨ قاله أبو حيان في رده عليه في البحر ٧/٢٢٤ وكذلك السمين في الدر ٤/٣٧٩..
قوله :«وَأَنْزَلَ الذينَ » أي أنزل الله الذين «ظَاهَرُوهُمْ » أي عاونوا الأحزاب من قريش وغطفان على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين وهم بنو قريظة١.
قوله :﴿ مِنْ أَهْلِ الكتاب ﴾ بيان للموصول فيتعلق بمحذوف٢، ( ويجوز أن يكون٣ حالاً ) «من صَياصِيهِمْ » متعلق «بأنزل » و «من » لابتداء الغاية٤، والصياصي جمع صِيصِيَةٍ٥ وهي الحصون والقلاع والمعاقل ويقال لكل ما يمتنع به ويتحصن «صِيصِيَةٌ » ومنه قيل لقَرْن الثَّوْرِ ولشوكة الديك : صِيصِيَة، والصّيَاصِي أيضاً شوك الحاكة، ويتخذ من حديد قال دُرَيْدُ بنُ الصِّمَّةِ :
٤٠٨١ -. . . . . . . . . كَوَقْعِ الصَّيَاصِي في النَّسِيجِ المُمَدَّدِ٦
قوله :﴿ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعب ﴾ حتى سلموا أنفسهم للقتل وأولادهم ونساءهم للسبي.
قوله :«فريقاً تقتلون » منصوب بما بعده وكذلك «فريقاً » منصوب بما قبله٧، والجملة مبينة ومقررة لقذف الرعب في قلوبهم والعامة على الخطاب في الفعلين، وابن ذكوان٨ - في رواية - بالغيبة فيهما٩، واليماني بالغيبة في الأول فقط١٠، وأبو حيوة «تَأْسُرُونَ »١١ بضم السين.
فإن قيل : ما فائدة التقديم تقديم المفعول في الأول حيث قال : تقتلون وتأخيره حيث قال «وتأسرون فريقاً ؟ !.
فالجواب : قال ابن الخطيب إن القائل يبدأ بالأهم فالأهم والأقرب فالأقرب والرجال كانوا مشهورين وكان القتل وارداً عليهم والأسراء كانوا هم النساء والذَّرَارِي١٢ ولم يكونوا مشهورين١٣ والسبي والأسر أظهر من القتل لأنه يبقى فيظهر لكل أحد أنه أسير فقدم من المحلَّين ما هو أشهر على الفعل القائم به ومن الفعلين ما هو أشهر قدمه على المحل الخفي ووجه آخر وهو أن قوله «فريقاً تقتلون » فعل ومفعول والأصل في الجمل الفعلية تقديم الفعل على المفعول والفاعل أما أنها جملة فعلية فلأنها لو كانت اسمية لكان الواجب في «فريق » الرفع، كأنه يقول فريق منهم تقتلونهم ( فلما نصب١٤ كان ذلك بفعل مضمر يفسره الظاهر تقديره :«تقتلون فريقاً تقتلون » ) والحامل على مثل هذا الكلام شدة الاهتمام ببيان المفعول، وههنا كذلك لأنه تعالى لما ذكر حال الذين ظاهروهم وأنه قد قذف في قلوبهم الرعب فلو قال : تقتلون أوهم أن يسمع السامع مفعول «تقتلون » يكون زمان وقد يمنعه مانع فيفوته ولا يعلم أيهم هم المقتولون فأما إذا قال :«فريقاً » سبق في قلوبهم الرعب إلى سمعهم فيستمع إلى تمام الكلام، وإذا كان الأول فعلاً ومفعولاً قدم المفعول لفائدة عطف الجملة الثانية عليها على الأصل ( فعدم١٥ ) تقديم الفعل لزوال موجب التقديم إذ عرف حالهم وما يجيء بعده يكون مصروفاً إليهم فلو قال بعد ذلك :«وفَريقاً تأسرون » فمن سمع «فريقاً » ربما يظن أنه يقال فيهم يطلقون أو لا يقدرون عليهم فكان تقديم الفعل ههنا أولى وكذا الكلام في قوله :﴿ وَأَنزَلَ الذين ( ظَاهَرُوهُم )١٦ وقوله :«قذف »، فإن قذف الرعب قبل الإنزال لأن الرعب صار سبيل الإنزال ولكن لما كان الفرح في إنزالهم أكثر قدم الإنزال على قذف الرعب١٧ والله أعلم.

فصل :


فريقاً تقتلون هم الرجال قيل : كانوا ستمائة، و «تأسرون فريقاً » وهم النساء والذراري، قيل : كانوا سبعمائة وخمسين، وقيل تسعمائة
١ قاله الإمام القرطبي في الجامع ١٤/١٦١..
٢ قاله في السمين ٤/٣٧٩..
٣ ما بين القوسين ساقط من "ب"..
٤ المرجع السابق..
٥ قاله في اللسان "صيا" ٢٥٣٩ وانظر المجاز ٢/١٣٦..
٦ هذا عجز بين من الطويل له وصدره:
وما راعني إلا الرماح تنوشه ........................
ويروى: فجئت إليه والرماح تنوشه، ويروى أيضاً: غداة دعاني والرماح ينشنه والبيت كناية عن شدة البأس والبلاء في الحرب لأن معناه أن رماح القوم اجتمعت عليه تتناوله بالطعن ليتأكد موته والشاهد: "الصياصي" حيث استعملت في تلك الآلة التي تتخذ من حديد وانظر: مجاز القرآن ٢/١٣٦ والدر المصون ٤/٣٨٠ والأصمعيات ١٠٩، والقرطبي ١٤/١٦١ برواية "فجئت إليه" وانظر: اللسان "ص ي أ" ٣٥٣٩ و "ن و ش" ٤٥٧٥ و "ص ي ص " والأغاني ٩/٤..

٧ قاله أبو البقاء ١٠٥٦ والسمين ٤/٣٨٠..
٨ هو أبو عبد الرحمن عبد الله بن ذكوان أبو الزناد فقيه المدينة سمع أنساً، وأبا أمامة وعنه السفيانان والليث مات سنة ٩٣١ هـ، انظر: تذكرة الحفاظ للذهبي ١/١٣٤ وانظر: البحر ٧/٢٢٥..
٩ في "تقتلون" و"تأسرون"..
١٠ الذي ذكره ابن خالويه في الشواذ ١١٩ أن اليماني يقرأ بالغيبة في الثاني وهو "تأسرون" وليس في الأول وهو "تقتلون" ولعل ما ذكره المؤلف- تبعاً للسمين- سهو أراد الثاني وقصد الأول سهواً فالله أعلم..
١١ المرجع السابق ١١٩ ومعاني الفراء ٢/٣٦ فقد قال "وتأسرون" لغة ولم يقرأ بها أحد فعلى ذلك تكون شاذة الرواية..
١٢ هم الولد قال في اللسان: "وذرية الرجل ولده والجمع الذراري والذريات" انظر: اللسان ١٤٩٤..
١٣ تفسير الفخر الرازي ٢٥/٢٠٤ و ٢٠٥..
١٤ ما بين القوسين ساقط من "ب" وهو في المرجع السابق..
١٥ زيادة يقتضيها المعنى وهي في الفخر الرازي..
١٦ ساقط من "ب"..
١٧ المرجع السابق..
﴿ وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَئُوهَا ﴾ بعد ؛ قال ابن زيد ومقاتل يعني خيبر١ وقال قتادة٢. كنا نحدث أنها مكة، وقال الحسن٣ : فارس والروم وقيل : القلاع وقال عكرمة٤ : كل أرض تفتح إلى يوم القيامة.
قوله :«لم تَطَئُوها » الجملة صفة «لأرضاً »٥ والعامة على همزة مضمومة ثم واو ساكنة، وزيد بن علي «تَطَوْهَا » بواو بعد طاء مفتوحة٦ ووجهها أنها كبدلِ الهمزة ألفاً على الإسناد كقوله :
٤٠٨٢ - إنَّ الأُسُودَ لَتُهْدَى في مَرَابِضِهَا ***. . . . . . . . . . . . ٧
فلما أسنده٨ للواء التقى ساكنان محذوف أولهما نحو «لم تَرَوْهَا » وهذا أحسن من أن تقول ثم أجرى الألف المبدلة من الهمزة مجرى الألف المتأصلة فحذفها جزماً لأن الأحسن هناك أن لا يحذف اعتداداً بأصلها٩، واستشهد بعضهم على الحذف بقول زهير :
٤٠٨٣ - جَرِيء مَتَى يُظْلَمْ يُعَاقَبْ بظُلْمِهِ *** سَرِيعاً وإِلا يُبْدَ بالظُّلْمِ يَظْلِم١٠
قوله :﴿ وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً ﴾ هذا يؤكد قول من قال : إن المراد من قوله ﴿ وأرضاً لم تطؤوها ﴾ ما يؤخذ١١ بعد من بني قريظة لأن الله تعالى لما ملكهم تلك البلاء ووعدهم بغيرها دفع استبعاد١٢ من لا يكون قوي الاتكال على الله تعالى وقال أليس الله ملككم هذه فهو على كل شيء قدير يملككم غيرها، روى أبو هريرة - «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول :«لا إله إلا الله وحده، أعزَّ جنده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحدَه، فلا شيء بعده »١٣.
١ في القرطبي نسب هذا الرأي إلى هؤلاء على أنها "حنين" ١٤/١٦١. وما في زاد المسير ٦/٣٧٥ يوافق ما قاله المؤلف..
٢ المرجعان السابقان..
٣ المرجعان السابقان..
٤ المرجعان السابقان..
٥ قاله السمين ٤/٣٨٠..
٦ هذه قراءة عشرية متواترة أوردها البناء في الإتحاف ٣٥٤ وأبو حيان في البحر ٧/٢٢٥ وهو وجه شاذ كما سيتبين بعد..
٧ هذا صدر البيت من البسيط لابن هرمة، وعجزه:............ *** والناس لا يهتدى من شرهم أبدا
والبيت في ذم حال الناس وقد رواه ابن منظور في اللسان:
إن السباع لتهدا عن فرائسها *** والناس ليس بهاد شرهم أبدا
وشاهده تخفيف الهمزة في "هدأ" تخفيفاً على غير قياس لأنها مفردة متحركة وقبلها متحرك والتخفيف بقلبها ألفاً محضة إنما هو غير قياس ويؤخذ سماعاً فالقياس أن تكون بين بين. وانظر: الخصائص ٣/١٥٢ واللسان "هـ د أ" ٤٦٢٨ والبحر المحيط ٧/٢٢٥ والممتع لابن عصفور ٣٨٢ والدر المصون ٧/٣٨٠، والتاج "هـ د أ"..

٨ وهو الفعل "وطئ" قال في اللسان وَطِئَ الشيء يَطَؤُهُ وَطْئاً داسَهُ قال سيبويه: أما وَطئ يَطَأ فمِثل وَرِمَ يَرِمُ ولكنهم فتحوا يفعل وأصله الكسر. اللسان: "وطأ" ٤٨٦٢..
٩ قاله السمين في الدر ٤/٣٨١..
١٠ من الطويل له في مدح الحسين بن ضمضم وشاهده: "يبد" حيث حذف الألف المنقلبة عن الهمزة فهي "يبدأ" وعاملها كالألف المتأصلة وحذفها للجزم وحري بالقول أن الفعل مجزوم لأنه وقع بعد فعل شرط وقد يقال عن ذلك: إن الهمزة حذفت بحركتها للوزن الشعري. على أنه ورد عن الأنصار: بَديتُ بالشيء أي قدمته فهذا منه. وقد تقدم..
١١ في "ب" سيؤخذ..
١٢ في "ب" استبطان..
١٣ الحديث تقدم..
قوله تعالى: ﴿يا أيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياة الدنيا﴾ الآية وجه التعلق (هو) أن مكارم الأخلاق منحصرة في شيئين التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله وإلى هذا أشار عليه (الصلاة و) السلام بقوله: «الصَّلاَةَ وَمَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ»، فاللَّه (تعالى لما) أرشد نبيه إلى ما يتعلق بجانب التعظيم لله بقوله: ﴿يأيها النبي اتق الله﴾ [الأحزاب: ١] ذكره ما يتعلق بجانب الشفقة وبدأ بالزوجات فإنهن أولى الناس بالشفقة ولهذا قَدَّمَهُنَّ في النفقة.

فصل


قال المفسرون: سبب نزلو هذه الآية نساء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (سَأَلْنَهُ) عن عرض الدنيا (شيئاً) وطلبن منه زيادة في النفقة وآذينه بغيرة بعضهن على بعض فهجرهن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وآلى أن لا يقربهن شهراً ولا يخرج إلى أصحابه فقالوا ما شأنه وكانوا يقولون طلق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نساءه فقال عمر: لأعلَمنَّ لكم شأنه قال: فدخلت على رسوله الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقلت يا رسول الله: أطلقتهن قال: لا، فقلت: يا رسول الله إني
534
دخلت المسجد والمسلمون يقولون طلق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نساءه أفأنزل فأخبرهم أنك لم تطلقهن قال: نعم إنْ شِئْتَ فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي لم يطلق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نساءه ونزلت هذه الآية: ﴿وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأمن أَوِ الخوف أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرسول وإلى أُوْلِي الأمر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النساء: ٨٣] فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر وأنزل الله آية التخيير وكانت تحت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يومئذ تسعُ نسوة خمسٌ من قريش عائشةُ بنت أبي بكرن وحفصةُ بنت عمر، وأمُّ حبيبةَ بنتُ أبي سفيانَ وأمّ سلمةَ بنت أمية، وسودةُ بنت زَمْعة وغير القرشيات زينب بنتُ جحش الأسدية، وميمونةُ بنت الحارث الهلالية وصفية بنت حُيَيّ بن أخطب الخَيْبريَّة وجُوَيْرِيةُ بنت الحارث المُصْطَلِقيَّة، فلما نزلت آية التخيير بدأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعائشة وكانت أحبهن إليه فخيرها فقرأ عليها (القرآن) فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة. ورُؤي الفرح في وجه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وتابعنها على ذلك، قال قتادة فلما اخْتَرْن الله ورسوله شكرهن الله على ذلك وقصره عليهن فقال: ﴿لاَ تَحِلُّ لَكَ النِّسَاْءُ مِنْ بَعْدُ﴾. وعن جابر بن عبد الله قال: «دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فوجد الناس جلوساً ببابه لم يؤذن لواحد منهم قال: فأذن لأبي بكر فدخل ثم اقبل عمر فاستأذن فأذن له فوجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جالساً حوله نساؤه واجماً ساكناً قال: فقال: لأقولَنَّ شيئاً أُضْحِكُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال: يا رسول الله لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فَوَجأْتُ عنقها فضحك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقال: هن حولي كما ترى يسألنني النفقة فقام أبو بكر إلى عائشة يَجَأُ عُنُقَها وقام عمر إلى حفصة يَجَأُ عنقها كلاهما يقول: تسألن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شيئاً أبداً ليس عنده ثم اعتزلهن شهراً أو تسعاً وعشرين يوماً ثم نزلت هذه الآية: ﴿يا أيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ﴾ حتى بلغ ﴿لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً﴾ قال: فبدأ بعائشة فقال: يا عائشة إني أعرض عليك أمراً لا أحب أن تعجلي حتى تستشيري أبويك، قالت: وما هو يا رسول الله فتلا عليها الآية فقالت: أفيك يا رسول الله أستشير أَبَويَّ بل اختار الله ورسوله والدار الآخرة وسألك أن لا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت، قال: لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها أنّ الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً ولكن بعثني معلماً مبشراً»
، ورى
الزهري «
535
أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أقسم أن لا يدخل على أزواجه شهراً» قال الزهري: فأخبرني عروة «عن عائشة قالت: فلما مضت تسعٌ وعشرونَ أعُدُّهن دخل عليّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقلت: بدأ بي فقلت: يا رسول الله إنك أقسمت أن لا تدخل علينا شهراً وإنك دخلت من تسع وعشرين أعدهن فقال: إن الشهر تسع وعشرون»

فصل


اختلف العلماء في هذا الخيار هل كان ذلك تفويض الطلاق إليهن حتى يقع بنفس الاختيار أم لا؟ فذهب الحَسَنُ وَقَتَادة وأكثر أهل العلم إلى أنه لم يكن تفويض للطلاق، وإنما خيرهن على أنهن إذا اخترن الدنيا فارقهن لقوله تعالى: ﴿فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ﴾ ويدل عليه أنه لم يكن جوابهن على الفور فإنه قال لعائشة: «لا تعجلي حتى تَسْتَشَيري أبوَيْك» وفي تفويض الطلاق يكون الجواب على الفور. وذهب آخرون إلى أنه كان تفويضَ طلاق ولو اخترن أنفسهن كان طلاقاً، واختلف العلماء في حكم التخيير فقال عمر وابن مسعود وابن عباس إذا خير رجلٌ امرأته فاختارت زوجها لا يقع شيء، ولو اختارت نفسها وقع طلقة واحدة وهو قول عمر بن عبد العزيز وابنُ أبي ليلى وسفيان والشافعي وأصحاب الرأي إلا ان عند أصحاب الرأي تقع طلقةٌ بائنةً إذا اختارت نفسها، وعند الآخرين رجعيةٌ، وقال زيد بن ثابت: إذا اختارت الزوج يقع طلقة واحدةً وإذا اختارت نفسها فثلاثٌ وهو قول الحسن، وروايةً عن مالك.
وروي عن علي أيضاً أنها إذا اختارت زوجها يقع طلقة واحدة وإذا اختارت نفسها فطلقة ثانية، وأكثر العلماء على أنها إذا اختارت زوجها لا يقع شيء لما روت
536
عائشة قالت: «خيرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فاخترنا الله ورسوله فلم يعد ذلك شيئاً»
قوله: «أُمَتَّعْكُنَّ وأُسَرِّحْكُنَّ» العامة على جزمهما، وفيه وجهان:
أحدهما: أنه مجزوم على جواب الشرط، وما بين الشرط وجوابه معترض، ولا يضر دخول الفاء على جملة الاعتراض ومثله في دخول الفاء قوله:
٤٠٨٤ - وَاعْلَمْ فَعِلْمُ المَرْءِ يَنْفَعهُ أَنْ سَوْفَ يَأْتِي كُلُّ مَا قُدِرَا
يريد: واعلم أن سوف يأتي.
والثاني: أن الجواب قوله «فتعالين» و «أمتعكن» جواب لهذا الأمر، وقرأ زيد بن علي «أُمْتِعْكُنَّ»، بتخفيف التاء من «أمته» وقرأ حُمَيْد الحَزَّاز «أُمَتِّعُكُنَّ وَأُسَرِّحُكُنَّ» بالرفع فيهما على الاستئناف و «سَرَاحاً» قائم مقام التَّسريح.

فصل


قال ابن الخطيب: وههنا مسائل منها هل كان هذا التخيير واجباً على النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ) أم لا والجواب أن التخيير كان قولاً واجباً من غير شك لأنه إبلاغ للرسالة لأن الله تعالى لما قال (له) :«قل لهم» صار من الرسالة، وأما التخيير معنى فمبني على أن الأمر للوجوب أم لا، والظاهر أنه للوجوب ومنه أن واحدة منهم لو اختارت الفراق هل كان يصير اختيارها فراقاً. والظاهر أنه لا يصير فراقاً وإنما تبيين المختارة نفسها فإنه من جهة النبي عليه السلام لقوله: ﴿فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً﴾ ومنها أن واحدة منهن لو اختارت نفسها وقلنا إنها لا تبين إلا بإبانة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فهل كان يجب على النبي عليه (الصلاة و) السلام الطلاق أم لا؟ الظاهر نظراً إلى منصبه عليه (الصلاة و) السلام أنه كان طلاقاً لأن الخُلْفَ في الوعد من النبي غير جائز بخلاص أحدنا فإنه لا يلزمه شرعاً الوفاء بما يعد، ومنها أن المطلقة بعد البينونة هل كانت تحرم
537
على غيره أم لا؟ والظاهر أنها لا تحرم وإلا لم يكن التخيير ممكناً لها من التمتع بزينة الدنية ومنها أن من اختارت الله ورسوله هل كان يحرم على النبي عليه (الصلاة و) السلام طلاقها أم لا؟ الظاهر الحرمة نظراً إلى منصب الرسول عليه السلام على معنى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يمتنع منه أصلاً لا بمعنى أنه لو أتى به لعُوقِب أو لعُوتِبَ.
قوله: ﴿أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ﴾ أي من عمل صالحاً منكن كقوله تعالى: ﴿وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى الله وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ [لقمان: ٢٢] والأجر العظيم: الكثير الزائد في الطول وفي العرض وفي العمق حتى لو كان زائداً في الطول يقال له طويل ولو كان زائداً في العرض يقال له: عريض وكذلك العميق فإذا وجدت (منه) الأمور الثلاثة قيل عظيم، فيقال: جبل عظيم إذا كان عالياً ممتداً في الجهات، وإن كان مرتفعاً حيث يقال: جبل عال.
إذا عُرف هذا فأجر الدنيا في ذاته قليل وفي صفاته غير خال عن وجهة قبح لما في مأكوله ومشروبه من الضرر وغيره، وأيضاً فهو غير دائم، وأجر الآخرة كثير خالٍ عن جهات القبح دائم فهو عظيم.
قوله تعالى: ﴿يانسآء النبي مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ... ﴾ الآية العامة على «يأت» بالياء من تحت حملاً على لفظ «مَنْ» لأن «مَنْ» أداة تقوم مقام الاسم يعبر به عن الواحد والجمع (و) المذكر والمؤنث، وزيدُ بن علي، والجَحْدَريُّ، ويعقوب بالتاء من فوق حملاً على معناها لأنه يرشح بقوله: «منْكُنَّ» حال من فاعل «يأْتِ» وتقدم القراءة في «مبينة» بالنسبة لكسر الياء وفتحها، في النساء.
قوله: «يضاعف» قرأ عمرو «يَضَعَّف» - بالياء من تحت وتشديد العين مفتوحة على البناء للمفعول - العذابُ بالرفع لقيامة مقام الفاعل، وقرأ ابن كثير وابن عامر «يُضَعِّف» - بنون العظمة وتشديد العين مكسورة على البناء للفاعل - العَذَابَ بالنصب على المفعول به وقرأ الباقون «يُضَاعَف» من المفاعلة مبنياً للمفعول العذابُ بالرفع لقيامه مقام الفاعل (وقد) تقدم توجيه التضعيف والمضاعفة في سورة البقرة.
538

فصل


قال ابن عباس المراد هنا بالفاحشة النشوز وسوء الخلق، وقيل: هو كقوله تعالى: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر: ٦٥]. واعلم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما خير نساءه واخترن الله ورسوله أدبهن الله وهددهن بالتوقي عما يسوء النبي ويقبح بهن من الفاشحة التي هي أصعب على الزوج من كل ما يأتي به زوجته وأوعدهن بتضعيف العذاب وفيه حكمتان.
إحدهما: أن زوجة الغير تعذب على الزنا بسبب ما في الزنا من المفاسد وزوجة النبي تعذب إن أتت به لذلك ليذاء قلبه والإزراء بمَنْصِبِه وعلى هذا بنات النبي عليه السلام كذلك ولأن امرأة لو كانت تحت النبي عليه السلام وأتت بفاحشة تكون قد اختارت غير النبي على النبي ويكون ذلك الغير خيراً عندها من النبي وأولى والنبي أولى من النفس التي هي أولى من الغير فقد نزلت منصب النبي مرتبتين فتعذب من العذاب ضعفين.
وثانيهما: أن هذا إشارة إلى شرفهن، لأن الحرة عذبها ضعف عذاب الأمة إظهاراً لشرفها ونسبة النبي إلى غيره من الرجال نسبة السادات إلى العبيد لكونه أولى بهم من أنفسهم فكذلك زوجاته اللائي هن أمهات المؤمنين، وأم الشخص امرأة حاكمة عليه واجبة الطاعة وزوجته مأمورة محكومة له وتحت طاعته فصارت زوجة الغير بالنسبة إلى زوجة النبي عليه السلام كالأَمَةِ بالسنبة إلى الحرة، واعلم أن قول القائل من يفعل ذلك في قوة قوله: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ من حيث إن ذلك ممكن الوقوع في أول النظر ولا يقع في بعض الصور جزماً وفي بعض (يقعُ) جزماً، وفي البعض يتردد السامع في الأمرين، فقوله تعالى: ﴿مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ﴾ من القبيل الأولى فإن الأنبياء صار الله زوجاتهم عن الفاحشة ثم قال: ﴿وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيراً﴾ أي ليس كونكن تحت النبي عليه السلام وكونكنّ شريفات جليلات مما يدفع العذاب عنكن فليس أمر الله كأمر الخلق حيث يتعذر عليهم تعذيب الأعزة بسبب كثرة أوليائهم وأعوانهم وشفعائهم وإخوانهم.
539
قوله: ﴿وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ﴾ أي يطع الله ورسوله وهذا بيان لزيادة ثوابهن كما بين زيادة عقابهن ﴿نُؤْتِهَآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ﴾ في مقابلة قوله: ﴿يضاعف لها العذاب ضعفين﴾ وفيه لطيفة وهي أن عند إيتاء الأجر ذكر الموفي وهو الله وعند العذاب لم يصرح بالعذاب فقال: «يضاعف» وهذا إشارة إلى كمال الرحمة والكرم. قوله: ﴿وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَآ﴾ قرأ الأخوان «ويَعْمَلْ ويُؤْتِ» - بالياء من تحت فيهما، والباقون «وتعمل» بالتاء من فوق و «نُؤْتها» بالنون، فأما الياء في «ويعمل» فلأجل الحمل على لفظ «من» وهو الأصل والتاء من فوق على معناها إذا المراد بها مؤنث ويرشح هذا قتدم لفظ المؤنث وهو «منكنّ» ومثله قوله:
٤٠٨٥ - وإِنَّ مِنَ النِّسْوَانِ مَنْ هِيَ رَوْضَةٌ...........................
لما تقدم قوله «من النِّسْوان» يرجع المعنى فحمل عليه، وأما «يؤتها» بالياء من تحت فالضمير لله تعالى لقتدمه في «لله ورسوله» وبالنون فهي نون العظمة، وفيه انتقال من الغيبة إلى التكلم، وقرأ الجَحْدَريُّ ويعقوبُ وابن عامر - في رواية - وأبو جعفر وشيبة: «تَقْنُتْ» بالتاء من فوق حملاً على المعنى وكذلك «وَتَعْمَلْ». وقال ابو البقاء: إن بعضهم قرأ «وَمَنْ تَقْنُتُ» بالتأنيث حملاً على المعنى وَيَعْمَلْ بالتذكير حملاً على اللفظ قال: فقال بعض النحويين: هذا ضعيف لأن التذكير أصل فلا يجعل تبعاً للتأنيث وما عللوه به قد جاء مثله في القرآن قال تعالى: ﴿خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أَزْوَاجِنَا﴾ [الأنعام: ١٣٩].
540

فصل


معنى أجْرَهَا مَرَّتَيْن أي مثل أجر غيرها، قال مقاتل: مكان كل حسنةٍ عشرون حسنةً ﴿وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً﴾ يعني الجنة، ووصف رزق الآخرة بكونه كريماً مع أن الكرم لا يكون وصفاً إلا للرزاق، وذلك إشارة إلى أن الرزق في الدنيا مقدر على أيدي الناس، التاجر يسترزق من السوقة، والعاملين والصناع من المتعلمين والملوك من الرعية منهم، فالرزق في الدنيا لا يأتي بنفسه وإنما هو مستمر للغير يمسكه ويرسله إلى الأغيار، وأما في الآخرة فلا يكون له ممسك ومرسل في الظاهر فهو الذي يأتي بنفسه فلأجل هذا لا يوصف في الدنيا بالكريم إلا الرازق وفي الآخر يوصف بالكريم نفس الرزق.
قوله
: ﴿يانسآء
النبي لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النسآء﴾
قال الزمخشري: «أحد» في الأصل يعني وَحَد وهو الواحد، ثم وضع في النفي العام مستوياً فيه المذكر والمؤنث، والواحد وما وراءه والمعنى لستن كجماعة واحدة من جماعة النساء (أي) إذا تَقَصَّيْتُ جماعات النساء واحدةً واحداةً لم يوجد منهن جماعة واحدة تساويكن في الفضل والسابقة. ومنه قوله عَزَّ وَجَلَّ ﴿والذين آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ﴾ [النساء: ١٥٢] يريد بين جماعة واحدة منهم تسوية بين جميعهم في أنهم على الحق البين. قال أبو حيان أما قوله: «أحَد» في الأصل بمعنى «وحد» وهو الواحد فصحيح، وأما قوله: وضع إلى قوله وما وراءه. فليس بصحيح، لأن الذي يستعمل في النفي العام مدلوله غير مدلول واحد لأن «واحد» ينطلق على شيء اتصف بالوحدة «وأَحَداً» المستعمل في النفي العام مختص بمن يعقل، وذكر النحويون أن مادَّته همزةٌ وحاءٌ ودالٌ ومادة «أحد» بمعنى واحد واو وحاء ودال فقد اختلفا مادة ومدلولاً، وأما قوله: «لَسْتُنَّ كجماعة واحدة» فقد قلنا إن معناه ليست كل واحدة منكن فهو حكم على كل واحدة لا على المجموع من حيث هو مجموع، وأما ﴿وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ﴾ فيحتمل أن يكون الذي يستعلم في النفي العام ولذلك جاء في سياق النفي فعم وصلحت
541
التثنية للعموم، ويحتمل أن يكون «أحدٌ» بمعنى «واحد» وحذفَ معطوفٌ، أي بين أحدٍ وأحدٍ (كما قال:)
٤٠٨٦ - فَمَا كَانَ بَيْنَ الخَيْر لَوْ جَاءَ سَالِماً أبُو حَجَرٍ إِلا لَيَالٍ قَلاَئِلُ
أي بين الخير وبيني انتهى، قال شهاب الدين «أما قوله فإنهما مختلفان مدلولاً ومادة فمسَلَّم، ولكن الزمخشري لم يجعل أحداً الذي أصله واحد - بمعنى أحد المختص بالنفي، ولا يمنع أن» أحداً «الذي أصله» واحد «أن يقع في سياق النفي، وإنما الفارق بينهما أن الذي همزته أصل لا يستعمل إلا في النفي كأخواته في غريب، وكَيْتَع ودَابِر، وتامر والذي أصله واحد يجوز أن يستعمل إثباتاً ونفياً وأيضاً المختص بالنفي مختص بالعقلاء، وهذا لا يختص، وأما معنى النفي فإنه ظاهر على ما قاله الزمخشري من الحكم على المجموع ولكن المعنى على ما قاله أبو حيان أوضح وإن كان خلاف الظاهر».
قوله: «إن اتَّقَيْتُنَّ» في جوابه وجهان:
أحدهما: أنه محذوف لدلالة ما تقدم عليه أي إِن اتَّقَيْتُنَّ اللَّهُ فَلَسْتُنَّ كَأَحدٍ، فالشرط قيد في نفي أن يشبَّهْنَ بأحد من النساء.
والثاني: أن جوابه قوله «فَلاَ تَخْضَعْنَ» والتقوى على بابها، وجوز أبو حيان على هذا أن يكون «اتَّقَى» بمعنى اسْتَقْبَلَ أي استقبلتن أحداً فلا تُلِنَّ له القول، واتَّقَى بمعنى استقبل معروف في اللغة، وأنشد:
542
٤٠٨٧ - سَقَطَ النَّصِيفُ ولم تُرِد إِسْقَاطَهُ فَتَنَاوَلَتْهُ واتَّقَتُنَا بِاليَدِ
أي واستقبلتنا باليد قال: «ويكون على هذا المعنى أبلغ من مدحهن؛ إذ لم يعلق فضيلتهن على التقوى ولا على نهيه عن الخضوع بها إذْ هنّ متقيات لله في أنفسهن، والتعليق يقتضي ظاهره أنهن لسن متحليات بالتقوى، قال شهاب الدين: هذا خروج عن الظاهر من غير ضرورة وأما البيت فالاتِّقاءُ أيضاًعلى بابه أي صانت وجهها بيدها عنا.
قوله:»
فَيَطْمَعَ «العامة على نصبه جواباً للنهي، والأعرج بالجزم فيكسر العين لالتقاء الساكنين وروي عنه وعن أبي السَّمَّال وعيسى بن عمر وابن مُحَيْصِن بفتح الياء وكسر الميم، وهذا شاذ حيث توافق الماضي والمضارع في حركة. وروى عن الأعرض أيضاً أنه قرأ بضم الياء وكسر الميم من» أَطْمَع «وهي تحتمل وجهين:
أحدهما»
أن يكون الفاعل ضميراً مستتراً عائداً ععلى الخضوع المفهوم من الفعل و «الذي» مفعوله أي لا تخضعن فيطمع الخضُوع المريضَ القلبِ، ويحتمل أن يكون «الذي» فاعلاً، ومفعوله محذوف أي فيطمع المريض نفسه.

فصل


قال ابن عباس: معنى لسْتُنَّ كأحد من السناء يريد ليس قدركن عندي مثل قدر غيركن من النساء الصالحات أنتن أكرم عليّ، وثوابكن أعظم لَدَيَّ، ولم يقل كواحد لأن الأحد عام يصلح للواحد، والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث، قال تعالى: ﴿لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ﴾ [البقرة: ٢٨٥} وقال: ﴿فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ [الحاقة: ٤٧] وقوله: «إِنْ اتَّقَيْتُنَّ» الله فأطعتنّه ولما منعهن من الفعل القبيح منعهن من مقدماته وفي
543
المحادثة مع الرجال فقال: ﴿فَلاَ تَخْضَعْنَ بالقول﴾ أي تُلِنَّ القولَ للرجال، ولا ترفضن الكلام ﴿فَيَطْمَعَ الذي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ﴾ أي فسق وفجور وشهوة، وقيل: نِفاق أي لا تقولن قولاً يجدُ منافقٌ أو فاجرٌ به سبيلاً إلى المطامع فيكُنَّ والمرأة مندوبة إلى الغلظة في المقالة إذا خاطبت الأجانب لقطع الأطماع ﴿وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً﴾ أي ذكر الله وما تحتجن إليه من الكلام مما يوجب الدين والإسلام بتصريح أو بيان من غير خضوع.
قوله: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ قرأ نافعٌ وعاصمٌ بفتح القاف والباقون بكسرها، فأما الفتح فمن وجهين:
أحدهما: أنه أمر من قَرِرْتُ - بكسر الراء الأولى - في المكان أَقَرُّ به - بالفتح - فاجتمع راءان في: «اقرَرْنَ» فحذفت الثانية تخفيفاً، ونقلت حركة الراء الأولى إلى القاف فحذفت همزة الوصل استغناء عنها فصار «قَرْنَ» على وزن «فَعْنَ» فإن المحذوف هو اللام لأنه حصل أخرى ساكنة فحذفت الأولى لالتقاء الساكنين، ووزنه على هذا «فَلْنَ» فإن المحذوف هو العين، وقال أبو علي: أبدلتِ الراءُ الأولى ياءً ونقلت حركتها إلى القاف، فالتقى ساكنان فحذفت الياء لالتقائهما، فهذه ثلاثة أوجه في توجيه أنها أمر من «قَررتُ بالمكانِ».
والوجه الثاني: أنها أمر من «قَارَ - يَقَارُ -» كخَافَ يَخَافُ إذا اجتمع، ومنه «القَارَةُ» لاجتماعها، فحذفت العين لالتقاء الساكنين، فقيل: «قِرْنَ» «كخِفْنَ» ووزنه على على هذا أيضاً: فلْنَ، إلا أن بعضهم تكلم في هذه القراءة من وجهين:
544
أحدهما: قال أبو حاتم يقال: قَرَرْتُ بالمَكانِ - بالتفح - أَقِرُّ به - بالكسر - وقِرَّت عَيْنُهُ - بالكسر - تَقَرُّ - بالفتح - فكيف تقرأ وقرن بالفتح؟! والجواب عن هذا أنه قد سمع في كل منهما الفتح والسكر، حكاه أبو عبيد، وتقدم ذلك في سورة مَرْيَمَ.
الثاني: سلمنا أنه يقال قَرِرْتُ بالمكان - بالكسر - أَقَرُّ به - بالفتح - وأن الأمر اقْرَرْنَ إلا أنه لا مسوغ للحذف، لأن الفتحة خفيفة، ولا يجوز قياسه على قولهم «ظلت» في «ظللت» قال تعالى: ﴿فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ﴾ [الواقعة: ٦٥] و ﴿ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً﴾ [طه: ٩٧] وبابه، لأن هناك شيئين ثقيلين التضعيف والكسرة (فحسن الحذف وأما هنا فالتضعيف فقط)، والجواب أن المقتضي للحذف إنما هو التكرار ويؤيد هذا أنهم لم يحذفوا مع التكرار ووجود الضمة وإن كان أثقل نحو «اغضضن أبْصَارَكُنَّ» وكان أولى بالحذف فيقال: غَضْنَ لكن السماع خلافه قال تعالى: ﴿وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ﴾ [النور: ٣١] على أن ابن مالك قال: إنه يحذف في هذا بطريق الأولى. أو نقول: إن هذه القراءة إنما هي من «قَارَ - يَقَارُ» بمعنى اجتمع وهو وجه حسن بريء من التكلف فيندفع اعتراض أبي حاتم وغيره لولا أن المعنى على الأمر بالاستقرار لا بالاجتماع. وأما الكسر فمن وجهين أيضاً:
أحدهما: أنه أمر من قَرَّ في المكان - بالفتح - في الماضي والكسر في المضارع، وهي اللغة الفصيحة، ويجيء فهيا التوجيهات الثلاث المذكورة أولاً، أما حذف الراء الثانية أو الأولى أو إبدالُها ياءً وحذفها كما قاله الفارسيّ، ولا اعتراض على هذه القراءة لمجيئها على مشهور اللغة، فيندفع اعتراض أبي حاتم، ولأن الكسر ثقيل فيندفع الاعتراض الثاني ومعناها مطابق لما يراد بها من الثبوت والاستقرار.
الوجه الثانيك أنها أمر من «وَقَرَ» أي ثبت واستقر ومنه «الوَقَار» وأصله اوْقِرْنَ فحذفت الفاء - وهو الواو - واستغني عن همزة الوصل فبقي «قِرْنَ»، وهذا كالأمر من
545
وعد سواء، ووزنه على هذا «عِلْنَ»، قال البغوي: الأصح أنه أمر من «الوقار» قولك من الوعد «عِدْنَا»، ومن الوصل «صِلْنَا».
وهذه الأوجه المذكورة إنما يهتدي إليها من مَرِنَ في علم التصريف وإلا ضاق به ذَرْعاً.
قوله: «تَبَرُّجَ الجَاهِلِيةِ» مصدر تشبيهيّ أي مثل تبرج والتبرج الظهور من البُرْجِ لظهوره، وقد تقدم، وقرأ البزِّيُّ: «ولا تبرجن» بإدغام التاء في التاء، والباقون بحذف إحداهما وتقدم تحقيقه في البقرة في: «وَلاَ تَيَمَّمُوا».

فصل


قال المفسرون وقرن أي الزمْنَ بيوتكنّ من قولهم: قررت بالمكان أقر قراراً يقال: قررت: أقر وقررت: أقر، وهما لغتان، لإن كان من الوقار أي كن أهل وقار وسكون من قولهم: وَقَر فُلان يَقِر وُقُوراً إذا سكن واطمأن، و «لا تبرجن» قال مجاهد وقتادة التبرج هو التكسر والتغنج، وقال ابن أبي نُجَيح: وهو التبختر، وقيل: هو إظهار الزينة، وإبراز المحاسن لرجال «تَبَرُّجَ الجَاهِلية الأولى» قال الشعبي: هي ما بين عيسى ومحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقال أبو العالية: هي بين داود وسليمان - عليهما السلام -، وكانت المرأة تلبس قميصاً من الدر غير مخيط الجانبين فيرى حلقها فيه، وقال الكلبي: كان ذلك في زمن نمروذ، وكانت المرأة تتخذ الدرع من اللؤلؤ فتلبسه، وتمشي وسط الطريق ليس عليها شيء غيره، وتعرض نفسها على الرجال، وروى عِكْرَمةُ عن ابن عباس أنه قال: الجاهلية الأولى أي فيما بين نوح وإدريس وكانت ألف سنة وإن بطنين من ولد آدم كان أحدهما يسكن السهل والآخر يسكن الجبل وكان رجال الجبل صباحاً وفي النساء دمامة، وكان نساء السهل صباحاً وفي الرجال دمامة، وإن إبليس أتى رجلاً من أهل السهل وأجر
546
نفسه منه فكان يخدمه واتخذ شيئاً مثل الذي يزمر به الرعاء فجاء بصوت لم يسمع مثله فبلغ ذلك من حولهم فانتابوهم يسمعون إليه واتخذه عيداً يجتمعون إليه في السنة فتتبرج النساء للرجال وتتزين الرجال لهن، وإن رجلاً من أهل الخيل هجم عليهم في عيدهم فرأى النساء وصباحتهن فأتى أصحابه فأخبرهم بذلك فنزلوا معهم فظهرت الفاحشة فذلك قوله: ﴿وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهلية الأولى﴾، وقيل: الجاهلية الأولى ما ذكرنا والجاهلية الأخرى قوم يفعلون مثل فعلهم في آخر الزمان، وقيل: قد تذكر الأولى وإن لم يكن لها أخرى كقوله تعالى: ﴿وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأولى﴾ [النجم: ٥٠] ولم يكن لها أخرى.
قوله: ﴿وَأَقِمْنَ الصلاة وَآتِينَ الزكاة وَأَطِعْنَ الله وَرَسُولَهُ﴾ يعني ليس التكليف في النهي وحده حتى يحصل بقوله: ﴿وَلاَ تَخْضَعْنَ. وَلاَ تَبَرَّجْنَ﴾ بل في النهي وفي الأوامر فأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله فيما أمر به، ونهى عنه ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس﴾ قال مقاتل: الرجس: الإثم الذي نهى الله النساء عنه، وقال ابن عباس يعني عمل الشياطين وما ليس لله فيه رضا.
وقال قتادةُ يعني السوء، وقال مجاهد: الرِّجْس: الشَّكُّ.
قوله: «أَهْلَ البَيْتِ» فيه أوجه: النداء والاختصاص، إلا أنه في المخاطب أقل منه في المتكلم وسمع «بِكَ اللَّهَ نَرْجُو الفَضْلَ»، والأكثر إنما هو في التكلم كقولها:
547
(وقوله:)
٤٠٨٨ - نَحْنُ بَنَاتُ طَارِقْ نَمْشِي عَلَى النَّمارِقْ
٤٠٨٩ - نَحْنُ - بَنِي ضَبَّة - أَصْحَابُ الجَمَلْ المَوْتُ أَحْلَى عِنْدَنَا مِنَ العَسَلْ
(و) «نَحْنُ العَرَبَ أَقْرَى النَّاسِ لِلضَّيْفِ» (و) :«نَحْنَ مَعَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ لاَ نُورثُ» أو على المدح أي أمدحُ أهلَ البيت، واختلف في أهل البيت، فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنهم نساء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأنهن في بيته، وتلا قوله: ﴿واذكرن مَا يتلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ الله﴾ وهو قول عكرمة ومقاتل. وذهب أبو سعيد الخدري وجماعة من التابعين منهم مجاهد وقتادة غيرهم إلى أنهم عليّ، وفاطمة، والحسن والحسين، لما روت عائشة قالت: «خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذات غَداةٍ وعليه مرط مرجَّل من شعر أسود فجلست فأتت فاطمة فأدخلها فيه ثم جاء علي فأدخله فيه ثم جاء حسين فأدخله فيه، ثم قال:» إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتَ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً «
وروت أم سلمة قالت:»
في بيت أنزل: إنَّما يريدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ قال: فأرسل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إلى فاطمة وعلي والحسين والحسن فقال: هؤلاء أهل بيتي. فقلت: يا رسول الله أما أنا من أهل البيت قال: بلى إن شاء الله، وقال
548
زيد بن أرقم: أهل بيته من حرم الصدقة بعده، آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس، قال ابن الخطيب: والأولى أن يقال: هم أولاده وأزواجه والحسن والحسين، وعليّ منهم لأنه كان من أهل بيته لمعاشرته بنت النبي عليه (الصلاة و) السلام وملازمته له «
قوله: ﴿واذكرن مَا يتلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ الله﴾ يعني القرآن والحكمة، قال قتادة يعني السنة، وقال مقاتل: أحكام القرآن ومواعظه، و ﴿من آيات الله﴾ بيان للموصول فيتعلق»
بأعني «ويجوز أن يكون حالاً إما من الموصول، وإما من عائده المقدر فيتعلق بمحذوف أيضاً ﴿إِنَّ الله كَانَ لَطِيفاً﴾ بأوليائه» خَبِيراً «بجميع خلقه.
قوله: ﴿إِنَّ المسلمين والمسلمات﴾ قال مقاتل: قالت أم سلمة بنت أبي أمية، ونسية بنت كعب الأنصارية للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ما بال ربنا يذكر الرجال ولا يذكر النساء في شيء من كتابه نَخْشَى أن لا يكون فيهن خير فنزلت فيهن هذه الآية، ويروى أن أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قلن: يا رسول الله ذكر الرجال في القرآن ولم يذكر النساء بخير فما فينا خير نذكر إنا نخاف أن لا تقبل منا طاعة، فأنزل الله هذه الآية، ورُوِيَ
«أن أسماء بنت عميسٍ رجعت من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب فدخلت على نساء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقالت: هل نزل فينا شيء من القرآن قلن: لا فأتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقالت: يا رسول الله إن السناء لفي خيبة وخسارة، قال وممَّ ذلك؟ قالت: لأنهن لا يذكرن بخير كما تذكر الرجال»
فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ -: ﴿إِنَّ المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين﴾ المطيعين «والقَانِتَاتِ والصَّادِقينَ» في إيمانهم، وفيما سرهم وساءهم {والصَّادِقَاتِ والصَّابِرِينَ «على أمر الله» والصَّابِرَاتِ والخَاشِعِينَ «
549
المتواضعين» والخَاشِعَاتِ «. وقيل: أراد به الخشوع في الصلاة ومن الخشوع أن لا يلتفت» والمُتَصَدِّقينَ «مما رزقهم الله ﴿والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فُرُوجَهُمْ﴾ عما لا يحِل» والحَافِظَاتِ «. وحذف مفعول الحافظات لتقدم ما يدل عليه والتقدير: والحَافِظَاتِها وكذلك: والذاكرات، وحسن الحذف رُؤُوس الفواصل ﴿والذاكرين لله كثيراً والذاكرات﴾، قال مجاهد: لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيراً حتى يذكر الله قائماً وقاعداً ومضطجعاً. وروي» أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال سبق المفردون، قالوا: وما المفردُونَ؟
قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات «قال عطاء بن أبي رباح من فوض أمره إلى الله عَزَّ وَجَلَّ فهو داخل في قوله: ﴿إِنَّ المسلمين والمسلمات﴾ ومن أقر بأن الله ربه، ومحمداً رسوله، ولم يخالف قلبُه لسانه فهو داخل في قوله:» والمُؤْمِنِينَ والمُؤْمِنَاتِ «ومن أطاع الله في الفرض، والرسول في السنة فهو داخل في قوله:» والقَانِتِينَ والقَانِتَاتِ «ومن صان قوله عن الكذب فهو داخل في قوله:» والصَّادِقِينَ والصَّادِقَاتِ «ومن صَبَرَ على الطاعة وعن المعصية وعلى الرزية فهو داخل في قوله:» والصابرين والصابرات «ومن صلى ولم يعرف من يمينه عن يساره فهو داخل في قوله:» والخَاشِعِينَ والخَاشِعَاتِ «ومن تصدق في كل أسبوع بدرهم فهو داخل في قوله:» والمُتَصَدِّقِينَ والمُتَصَدِّقَاتِ «، ومن صام في كل شهر أيام البيض الثالثَ عَشَر، والخَامِسَ عَشَر فهو داخل في قوله:» والصَّائِمِينَ والصَّائِمَاتِ «ز ومن حفظ فرجه فهو داخل في قوله» والحَافِظِينَ فُرُوجهُمُ والحَافِظَاتِ «ومن صلى الصلوات الخمس بحقوقها فهو داخل في قوله: ﴿والذاكرين الله كَثِيراً والذاكرات أَعَدَّ الله لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً﴾ وغلب المذكرعلى المؤنث في» لهم «ولم يقل:» لهن « (لشرفهم).
قوله: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ﴾ نزلت الآية في زينبَ بنت جحش الأسدية، وأخيها عبد الله بن جحش وأمها أميمة بنت عبد المطلب عمة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اشترى زيداً في الجاهلية بعُكَاظَ، فأعتقه وتبناه، فلما خطب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اشترى زيدا في الجاهلية بعكاظ، فأعتقه وتبناه، فلما خطب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زينب رضيت وظنت أنه يخاطبها لنفسه فلام علمت أنه يخطبها لزيد أبت وقال: أنا ابن عمتك يا رسول الله فلا
550
أرضاه لنفسي وكانت بيضاءَ جميلةً فيها حدة وكذلك كره أخوها ذلك فانزل الله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وما كان لمؤمن ولا مؤمنة﴾ يعني عبد الله بن جحش وأخته زينت ﴿إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً﴾ وهو نكاح زيدٍ لزينبَ ﴿أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ﴾. والخيرة الاختيار أي يريد غير ما أراد الله ويمتنع مما أمرالله ورسوله.
قوله: ﴿أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة﴾ أن يكون «هو اسم كان، والخبر الجار متقدم وقوله: ﴿إِذَا قَضَى الله﴾ يجوز أن يكون محْض ظرف معموله الاستقرار الذي تعلق به الخبر، أي وما كان مستقراً لمؤمن ولا مؤمنةٍ وقت قضاء الله كَوْنُ خيرة وأن تكون شرطية ويكون جوابها مقدراً مدلولاً عليه بالنفي المتقدم. وقرأ الكوفيون وهِشَامٌ» يكون «- بالياء من أسفل؛ لأن» الخِيرَةَ «مجازيُّ التأنيث، وللفصل أيضاً، والباقون بالتاء من فوق مراعاةً للفظها، وقد تقدم أن» الخِيَرَةَ «مصدر» تَخَيَّرَ «» كالطَّيرِةِ «من» تَطَيَّرَ «، ونقل عيسى بن سُلَيْمَانَ أنه قرىء الخِيرَة - بسكون الياء - و» مِنْ أَمْرِهِمْ «حال من الخيرة، وقيل:» من «بمعنى» في «وجمع الضمير في» أمرهم «وما بعده لأن المراد بالمؤمن والمؤمنة الجنس. وغلب المذكر على المؤنث، وقال الزمخشري:» كان من حق الضمير أن يُوَحَّدَ كما تقول: مَا جَاءَنِي مِنْ رَجُلٍ وَلا امْرَأَةٍ إلاَّ كَانَ مِنْ شَأْنِهِ كَذَا «قال أبو حيان:» وليس بصحيح؛ لأن العطف بالواو، فلا يجوز ذلك إلا بتأويل الحذف «.
قوله: ﴿وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً﴾ أخْطَأَ خَطَأً ظَاهِراً. فلما سمعا ذلك رضيا بذلك وسلما وجعلت أمرها بيد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إليها عَشْرَةَ دَنَانِيرٍ وستِّينَ دِرْهَماً وخِماراً ودِرْعاً وَإِزَاراً وملْحَفَةً وخَمْسِينَ مُدّاً مِن الطَّعَامِ وثلاثينَ صاعاً من تَمْرٍ.
551
قوله :﴿ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ ﴾ أي من عمل صالحاً منكن كقوله تعالى :﴿ وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى الله وَهُوَ مُحْسِنٌ ﴾ [ لقمان : ٢٢ ] والأجر العظيم : الكثير الزائد في الطول وفي العرض وفي العمق حتى لو كان زائداً في الطول يقال له طويل ولو كان زائداً في العرض يقال له : عريض وكذلك العميق فإذا وجدت ( منه ) الأمور الثلاثة قيل عظيم، فيقال : جبل عظيم إذا كان عالياً ممتداً في الجهات، وإن كان مرتفعاً حيث يقال : جبل عال.
إذا عُرف هذا فأجر الدنيا في ذاته قليل وفي صفاته غير خال عن جهة قبح لما في مأكوله ومشروبه من الضرر وغيره، وأيضاً فهو غير دائم، وأجر الآخرة كثير خالٍ عن جهات القبح دائم فهو عظيم١.
١ قاله الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره ٢٥/٢٠٦..
قوله تعالى :﴿ يا نساء النبي مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ. . . ﴾ الآية العامة على «يأت » بالياء من تحت حملاً على لفظ «مَنْ » لأن «مَنْ » أداة تقوم مقام الاسم يعبر به عن الواحد والجمع ( و ) المذكر والمؤنث، وزيدُ بن علي، والجَحْدَريُّ، ويعقوب بالتاء١ من فوق حملاً على معناها لأنه يرشح بقوله :«منْكُنَّ »٢ حال من فاعل «يأْتِ » وتقدم القراءة في «مبينة »٣ بالنسبة لكسر الياء وفتحها، في النساء.
قوله :«يضاعف » قرأ عمرو «يُضَعَّف »٤ - بالياء من تحت وتشديد العين مفتوحة على البناء للمفعول - العذابُ بالرفع لقيامة مقام الفاعل، وقرأ ابن كثير وابن عامر «يُضَعِّف٥ » - بنون العظمة وتشديد العين مكسورة على البناء للفاعل - العَذَابَ بالنصب على المفعول به وقرأ الباقون «يُضَاعَف » من المفاعلة مبنياً للمفعول العذابُ بالرفع لقيامه مقام الفاعل ( وقد٦ ) تقدم توجيه التضعيف والمضاعفة في سورة البقرة٧.

فصل :


قال ابن عباس المراد هنا بالفاحشة النشوز وسوء٨ الخلق، وقيل : هو كقوله تعالى :﴿ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ﴾ [ الزمر : ٦٥ ]. واعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم٩ - لما خير نساءه واخترن الله ورسوله أدبهن الله وهددهن بالتوقي عما يسوء النبي ويقبح بهن من الفاحشة التي هي أصعب على الزوج من كل ما يأتي به زوجته وأوعدهن بتضعيف العذاب وفيه حكمتان١٠.
إحداهما١١ : أن زوجة الغير تعذب على الزنا بسبب ما في الزنا من المفاسد وزوجة النبي تعذب إن أتت به لذلك لإيذاء قلبه والإزراء بمَنْصِبِه وعلى هذا بنات النبي عليه١٢ السلام كذلك ولأن امرأة لو كانت تحت النبي عليه السلام وأتت بفاحشة تكون قد اختارت غير النبي على النبي ويكون ذلك الغير خيراً عندها من النبي وأولى والنبي أولى من النفس التي هي أولى من الغير فقد نزلت منصب النبي مرتبتين فتعذب من العذاب ضعفين.
وثانيهما : أن هذا إشارة إلى شرفهن، لأن الحرة عذابها ضعف عذاب الأمة إظهاراً لشرفها ونسبة النبي إلى غيره من الرجال نسبة السادات إلى العبيد لكونه أولى بهم من أنفسهم فكذلك زوجاته اللائي هن أمهات المؤمنين، وأم الشخص امرأة حاكمة عليه واجبة الطاعة وزوجته مأمورة محكومة له وتحت طاعته فصارت زوجة الغير بالنسبة إلى زوجة النبي عليه السلام كالأَمَةِ١٣ بالنسبة إلى الحرة، واعلم أن قول القائل من يفعل ذلك في قوة قوله :﴿ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ﴾ من حيث إن ذلك ممكن الوقوع في أول النظر ولا يقع في بعض الصور جزماً وفي بعض ( يقعُ )١٤ جزماً، وفي البعض يتردد السامع في الأمرين، فقوله تعالى :﴿ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ ﴾ من القبيل الأولى فإن الأنبياء صان الله زوجاتهم عن الفاحشة ثم قال :﴿ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيراً ﴾ أي ليس كونكن تحت النبي عليه السلام وكونكنّ شريفات جليلات مما يدفع العذاب عنكن فليس أمر الله كأمر الخلق حيث يتعذر عليهم تعذيب الأعزة بسبب كثرة أوليائهم وأعوانهم وشفعائهم وإخوانهم.
١ ذكرها في البحر ٧/٢٢٨ وفي المحتسب ٢/١٧٩ وهي من القراءات الشاذة..
٢ حكاه السمين في الدر ٤/٣٨٢..
٣ يقصد الآية ١٩ من سورة النساء وهي قوله تعالى: ﴿إلا أن يأتين بفاحشة مبينة﴾..
٤ معاني الفراء ٢/٣٤١ والسبعة ٥٢١، وإبراز المعاني ٦٤٨..
٥ المراجع السابقة وانظر في توجيه هذه القراءات الكشف لمكي ٢/١٩٦ والحجة "لابن خالويه" ٣٨٩ كما قرر هو أعلى في النص..
٦ ساقط من "ب"..
٧ يشير إلى قوله تعالى: ﴿من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له...﴾ وهي الآية ٢٤٥ وقرر هناك أن التضعيف والمضاعفة بمعنى واحد. وقيل: إن المضعف للتكثير وقيل: لما جعل مثلين أما المضاعفة- بصيغة المفاعلة- لما زيد عليه أكثر من ذلك، اللباب ١/٦١٧..
٨ ذكره ابن الجوزي في زاد المسير ٦/٣٧٨..
٩ هذا كله قول الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير ٢٥/٢٠٧..
١٠ في "ب" حكمان..
١١ في "ب" أحدهما موافقة "لحكمان"..
١٢ في "ب" صلى الله عليه وسلم..
١٣ في "ب" كالابنة بالنسبة على الجدة وهو خلاف ما في تفسير الرازي..
١٤ سقط من "ب"..
قوله :﴿ وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ ﴾ أي يطع الله ورسوله١ وهذا بيان لزيادة ثوابهن كما بين زيادة عقابهن ﴿ نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ ﴾ في مقابلة قوله :﴿ يضاعف لها العذاب ضعفين ﴾ وفيه لطيفة وهي أن عند إيتاء الأجر ذكر الموفي وهو الله وعند العذاب لم يصرح بالعذاب٢ فقال :«يضاعف » وهذا إشارة إلى كمال الرحمة والكرم٣. قوله :﴿ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا ﴾ قرأ الأخوان «ويَعْمَلْ ويُؤْتِ » - بالياء من تحت فيهما، والباقون «وتعمل »٤ بالتاء من فوق و «نُؤْتها » بالنون، فأما الياء في «ويعمل » فلأجل الحمل على لفظ «من » وهو الأصل والتاء من فوق على معناها إذ المراد بها مؤنث٥ ويرشح هذا بتقدم لفظ المؤنث وهو «منكنّ » ومثله قوله :
٤٠٨٥ - وإِنَّ مِنَ النِّسْوَانِ مَنْ هِيَ رَوْضَةٌ ***. . . . . . . . . ٦
لما تقدم قوله «من النِّسْوان » يرجع المعنى فحمل عليه، وأما «يؤتها » بالياء من تحت فالضمير لله تعالى لتقدمه في «لله ورسوله » وبالنون فهي نون العظمة، وفيه انتقال من الغيبة إلى التكلم، وقرأ الجَحْدَريُّ ويعقوبُ وابن عامر - في رواية - وأبو جعفر وشيبة٧ :«تَقْنُتْ »٨ بالتاء من فوق حملاً على المعنى وكذلك «وَتَعْمَلْ ». وقال أبو البقاء : إن بعضهم قرأ «وَمَنْ تَقْنُتْ »٩ بالتأنيث حملاً على المعنى وَيَعْمَلْ بالتذكير حملاً على اللفظ قال : فقال بعض النحويين : هذا ضعيف لأن التذكير أصل فلا يجعل تبعاً للتأنيث وما عللوه به قد جاء مثله في القرآن قال تعالى :﴿ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أَزْوَاجِنَا ﴾ [ الأنعام : ١٣٩ ].

فصل :


معنى أجْرَهَا مَرَّتَيْن أي مثل أجر غيرها، قال مقاتل١٠ : مكان كل حسنةٍ عشرون حسنةً ﴿ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً ﴾ يعني الجنة، ووصف رزق الآخرة بكونه كريماً مع أن الكرم لا يكون وصفاً إلا للرزاق١١، وذلك إشارة إلى أن الرزق في الدنيا مقدر على أيدي الناس، التاجر يسترزق من السوقة، والعاملين والصناع من المتعلمين والملوك من الرعية منهم، فالرزق في الدنيا لا يأتي بنفسه وإنما هو مستمر للغير يمسكه ويرسله إلى الأغيار١٢، وأما في الآخرة فلا يكون له ممسك ومرسل في الظاهر فهو الذي يأتي بنفسه فلأجل هذا لا يوصف في الدنيا بالكريم إلا الرازق وفي الآخرة يوصف بالكريم نفس الرزق١٣.
١ قاله القرطبي ١٤/١٧٦ و ٢/٨٦ و ٣/٢١٣..
٢ في "ب" بالمعذب وكذا هي في تفسير الرازي ٢٥/٢٠٨..
٣ المرجع السابق..
٤ ذكرت في السبعة ٥٢١ والإتحاف ٣٥٥ ومعاني القرآن للفراء ٢/٣٤١ و ٣٤٢ وإعراب القرآن للنحاس ٣/٣١٢، وإبراز المعاني ٦٤٨ والكشف ٢/١٩٦ والتبيان ١٠٥٦..
٥ وهو ظاهر كلام السمين في الدر ٤/٣٨٢ وابن خالويه في الحجة ٢٩٠..
٦ صدر بيت من تام الطويل وعجزه:
.............. *** تهيج الرياض قبلها وتصوح
وينسب لجران العَوْد وليس بديوانه و"تصيح": تَثُور، و"تَصُوحُ" الأصل: "تتصوّح"، فحذفت إحدى التاءين تخفيفاً ويقال: تصوح البقل إذا يبس أعلاه وهنا تشبيه بعض النساء بالروضة التي تتأخر في هيجان نباتها عن غيرها من الرياض ويقصد المرأة التي تتأخر عن الولادة في وقتها، وشاهده: "هي روضة" حيث راعى المعنى معنى "مَن" ولو أراد اللفظ لقال: "مَن هو". وقد تقدم..

٧ شيبة بن نصاح بن سرجس إمام ثقة مقرئ المدينة مع أبي جعفر وقاضيها ومولى أم سلمة من قراء التابعين أول من ألف كتاب الوقوف. مات سنة ١٣٠ هـ انظر: الغاية ١/٣٣٠..
٨ ذكرها أبو حيان ٧/٢٢٨ وابن مجاهد في السبعة وأنكرها. السبعة ٥٢١ والمختصر لابن خالويه ١١٩..
٩ التبيان ١٠٥٦..
١٠ وفَسَّره أَبُو عبيدة في المجاز بالثواب فقال: "نُعْطِها ثَوَابَهَا" المجاز ٢/١٣٧..
١١ في "ب" الرازق..
١٢ في كلتا النسختين الأعيان وفي الفخر الرازي الأغيار كأعلى ب..
١٣ تفسير الرازي ٢٥/٢٠٨..
قوله :﴿ يا نساء النبي لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النساء ﴾ قال الزمخشري :«أحد » في الأصل١ يعني وَحَد وهو الواحد، ثم وضع في النفي العام مستوياً فيه المذكر والمؤنث، والواحد وما وراءه، والمعنى لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء ( أي )٢ إذا تَقَصَّيْتَ٣ جماعات النساء٤ واحدةً واحدةً لم يوجد منهن جماعة واحدة تساويكن في الفضل والسابقة. ومنه قوله عز وجل :﴿ والذين آمَنُوا بالله وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ ﴾ [ النساء : ١٥٢ ] يريد بين جماعة واحدة منهم تسوية بين جميعهم في أنهم على الحق البين٥. قال أبو حيان أما قوله :«أحَد » في الأصل بمعنى «وحد » وهو الواحد فصحيح٦، وأما قوله : وضع إلى قوله وما وراءه. فليس بصحيح، لأن الذي يستعمل في النفي العام مدلوله غير مدلول واحد لأن «واحد » ينطلق٧ على شيء اتصف بالوحدة «وأَحَداً » المستعمل في النفي العام مختص٨ بمن يعقل، وذكر النحويون أن مادَّته همزةٌ وحاءٌ ودالٌ ومادة «أحد » بمعنى واحد واو وحاء ودال فقد اختلفا مادة ومدلولاً، وأما قوله :«لَسْتُنَّ كجماعة واحدة » فقد قلنا إن معناه ليست كل واحدة منكن فهو حكم على كل واحدة لا على المجموع من حيث هو مجموع، وأما ﴿ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ ﴾ فيحتمل أن يكون الذي يستعمل في النفي العام ؛ ولذلك جاء في سياق النفي فعم وصلحت التثنية للعموم، ويحتمل أن يكون «أحدٌ » بمعنى «واحد » وحذفَ معطوفٌ، أي بين أحدٍ وأحدٍ٩ ( كما قال١٠ :)
٤٠٨٦ - فَمَا كَانَ بَيْنَ الخَيْر لَوْ جَاءَ سَالِماً أبُو حَجَرٍ إِلا لَيَالٍ قَلاَئِلُ١١
أي بين الخير وبيني انتهى، قال شهاب الدين «أما قوله فإنهما مختلفان مدلولاً ومادة فمسَلَّم، ولكن الزمخشري لم يجعل أحداً الذي أصله واحد - بمعنى أحد المختص بالنفي، ولا يمنع أن «أحداً » الذي أصله «واحد » أن يقع في سياق النفي، وإنما الفارق بينهما أن الذي همزته أصل لا يستعمل إلا في النفي كأخواته في غريب١٢، وكَيْتَع ودَابِر١٣، وتامر١٤، والذي أصله واحد يجوز أن يستعمل إثباتاً ونفياً وأيضاً المختص بالنفي مختص بالعقلاء، وهذا لا يختص، وأما معنى النفي فإنه ظاهر على ما قاله الزمخشري من الحكم على المجموع ولكن المعنى على ما قاله أبو حيان أوضح وإن كان خلاف الظاهر »١٥.
قوله :«إن اتَّقَيْتُنَّ » في جوابه وجهان :
أحدهما : أنه محذوف لدلالة ما تقدم عليه أي إِن اتَّقَيْتُنَّ اللَّهَ فَلَسْتُنَّ كَأَحدٍ، فالشرط قيد في نفي أن يشبَّهْنَ بأحد من النساء١٦.
والثاني : أن جوابه قوله «فَلاَ تَخْضَعْنَ »١٧ والتقوى على بابها، وجوز أبو حيان على هذا أن يكون «اتَّقَى » بمعنى اسْتَقْبَلَ أي استقبلتن١٨ أحداً فلا تُلِنَّ له القول، واتَّقَى بمعنى استقبل معروف في اللغة، وأنشد :
٤٠٨٧ - سَقَطَ النَّصِيفُ ولم تُرِد إِسْقَاطَهُ فَتَنَاوَلَتْهُ واتَّقَتْنَا بِاليَدِ١٩
أي واستقبلتنا باليد قال :«ويكون على هذا المعنى أبلغ من مدحهن ؛ إذ لم يعلق فضيلتهن على التقوى ولا على نهيه عن الخضوع٢٠ بها إذْ هنّ متقيات لله في أنفسهن، والتعليق يقتضي ظاهره أنهن لسن متحليات بالتقوى »٢١، قال شهاب الدين : هذا خروج عن الظاهر من غير ضرورة وأما البيت فالاتِّقاءُ أيضاً على بابه أي صانت وجهها بيدها٢٢ عنا.
قوله :«فَيَطْمَعَ » العامة على نصبه جواباً للنهي، والأعرج٢٣ بالجزم فيكسر٢٤ العين لالتقاء الساكنين٢٥ وروي عنه وعن أبي السَّمَّال وعيسى بن عمر وابن مُحَيْصِن بفتح الياء وكسر الميم٢٦، وهذا شاذ حيث توافق الماضي والمضارع في حركة. وروى عن الأعرج أيضاً أنه قرأ بضم الياء وكسر الميم٢٧ من «أَطْمَع » وهي تحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون الفاعل ضميراً مستتراً عائداً على الخضوع المفهوم من الفعل و «الذي » مفعوله أي لا تخضعن فيطمع الخضُوع المريضَ القلبِ، ويحتمل أن يكون «الذي » فاعلاً، ومفعوله محذوف أي فيطمع المريض نفسه٢٨.

فصل :


قال ابن عباس : معنى لسْتُنَّ كأحد من النساء يريد ليس قدركن عندي مثل قدر غيركن من النساء٢٩ الصالحات أنتن أكرم عليّ، وثوابكن أعظم لَدَيَّ، ولم يقل كواحد لأن٣٠ الأحد عام يصلح للواحد، والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث. قال تعالى :﴿ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِن رُسُلِهِ ﴾ [ البقرة : ٢٨٥ } وقال :﴿ فَمَا مِنكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ﴾ [ الحاقة : ٤٧ ] وقوله :«إِنْ اتَّقَيْتُنَّ » الله فأطعتنّه، ولما منعهن من الفعل القبيح منعهن من مقدماته، وهي المحادثة مع الرجال فقال :﴿ فَلاَ تَخْضَعْنَ بالقول ﴾ أي تُلِنَّ القولَ للرجال، ولا ترفضن الكلام ﴿ فَيَطْمَعَ الذي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ﴾ أي فسق وفجور وشهوة، وقيل : نِفاق، أي لا تقولن قولاً يجدُ منافقٌ أو فاجرٌ به سبيلاً إلى المطامع٣١ فيكُنَّ. والمرأة مندوبة إلى الغلظة في المقالة إذا خاطبت الأجانب لقطع الأطماع٣٢ ﴿ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً ﴾ أي ذكر الله٣٣، وما تحتجن إليه من الكلام مما يوجب الدين والإسلام بتصريح أو بيان من غير خضوع.
١ قاله في الكشاف ٣/٣٥٩..
٢ سقطت من "ب"..
٣ هكذا هي في الكشاف وما في "ب" نقصت..
٤ وهي أمة النساء وجماعة لم توجد منهن جماعة..
٥ في الكشاف المبين..
٦ البحر المحيط ٧/٢٢٩..
٧ في "ب" مطلقة..
٨ في "ب" وهو ما في البحر مخصوص..
٩ البحر ٧/٢٢٨..
١٠ ساقط من "ب"..
١١ البيت من بحر الطويل وهو للنابغة الذبياني، وأبو حجر كناية عن النعمان بن الحارث وشاهده: حذف الواو ومعطوفها والأصل: بين الخير وبيني فقد حذف الواو مع معطوفها وهذا تقرير لقول أبي حيان الذي أجاز هذا الاحتمال. انظر: البحر المحيط ٧/٢٢٩ وابن الناظم بدر الدين على الألفية ٢١٤ وأوضح المسالك لابن هشام ١٩٢ والأشموني ٣/١١٦ والتصريح ٢/١٥٣ والديوان (١٢٠)..
١٢ يقال: ما في الدار غريب في النفي ولا يقال: في الدار غريب لعدم الفائدة وكذا: ما بالدار كيتع، أي أحد اللسان: "ك ت ع" ٣٨٢٠ وإصلاح المنطق ٣٩١..
١٣ من أقوالهم: ما يعرف قَبيلُهُ من دبيره، وفلان ما يدري قبيلاً من دبير، المعنى ما يدري شيئاً اللسان: "د ب ر" ١٣١٩..
١٤ قالوا: ما في الدار تَامُور وتُومُور، وما بها تُومري أي ليس بها أحد. وقال أبو زيد: ما بها تأمور أي ما بها أحد اللسان "ت م ر "٤٤٦..
١٥ انظر: الدر المصون ٤/٣٨٣ و ٣٨٤..
١٦ قاله السمين في الدر ٤/٣٨٤ وقدره ابن الأنباري في البيان انفردتن بخصائص من جملة سائر النساء البيان ٢/٢٦٨..
١٧ المرجعان السابقان..
١٨ البحر المحيط ٧/٢٢٩ واستدل بالبيت الأعلى..
١٩ البيت من الكامل وهو للنابغة في مدح "المتجردة" زوج النعمان بن المنذر، والنصيف غطاء الرأس للمرأة وهو الخِمار، وقيل: ما تشد به رأسها وهو المعجر والشاهد فيه: استعمال "اتقى" بمعنى استقبل كما قرره أبو حيان، أي استقبلتنا باليد. انظر: ديوانه ٩٣ والأشموني ٢/١٩١ ولسان العرب "نصف" والبحر المحيط ٧/٢٢٩ والدر المصون ٤/٣٨٥..
٢٠ في البحر: " ولا علق نَهْيُهُنَّ عن الخضوع"..
٢١ البحر المحيط لأبي حيان ٧/٢٢٩..
٢٢ ذكره في الدر المصون ٤/٣٨٥..
٢٣ هو عبد الرحمن بن هرمز قد عرفت به فيما سبق..
٢٤ في "ب" بكسر- بالباء-..
٢٥ ذكرها كل من ابن جني وابن خالويه في كتابيهما الأول في المحتسب ٢/١٨١ والثاني في المختصر ص ١١٩ وهي من الشواذ غير المتواترة. البحر المحيط لأبي حيان ٧/٢٣٠..
٢٦ ابن خالويه ١١٩ وهي من الأربع الشواذ فوق العشرة المتواترة الإتحاف ٣٥٥ والبحر ٧/٢٣٠..
٢٧ انظر: شواذ القرآن ١٩٤ والبحر ٧/٢٣٠ مروية عن ابن محيصن أيضاً..
٢٨ قاله السمين في الدر ٤/٣٨٥..
٢٩ نقله ابن الجوزي في زاد المسير ٦/٣٧٨..
٣٠ قاله القرطبي في ١٤/١٧٧..
٣١ في "ب" إلى الطامع..
٣٢ نقله الإمام أبو الفرج ابن الجوزي في تفسيره المسمى زاد المسير ٦/٣٧٩..
٣٣ وقد فسره ابن عباس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر انظر: القرطبي ١٤/١٧٨..
قوله :﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ﴾ قرأ نافعٌ وعاصمٌ بفتح القاف والباقون بكسرها١، فأما الفتح فمن وجهين :
أحدهما : أنه أمر من قَرِرْتُ - بكسر الراء الأولى - في المكان أَقَرُّ به - بالفتح - فاجتمع راءان في :«اقرَرْنَ » فحذفت الثانية تخفيفاً، ونقلت حركة الراء الأولى إلى القاف فحذفت همزة الوصل استغناء عنها، فصار «قَرْنَ » على وزن٢ «فَعْنَ » فإن المحذوف هو اللام لأنه حصل به الثقل، وقيل : المحذوف الراء الأولى ؛لأنه لما نقلت حركتها بقيت ساكنة وبعدها أخرى ساكنة فحذفت الأولى لالتقاء الساكنين، ووزنه على هذا «فَلْنَ » فإن المحذوف هو العين٣، وقال أبو علي : أبدلتِ الراءُ الأولى ياءً ونقلت حركتها إلى القاف، فالتقى ساكنان فحذفت الياء لالتقائهما٤، فهذه ثلاثة أوجه في توجيه أنها أمر من «قَررتُ بالمكانِ ».
والوجه الثاني : أنها أمر من «قَارَ - يَقَارُ » كخَافَ يَخَافُ إذا اجتمع، ومنه «القَارَةُ »٥ لاجتماعها، فحذفت العين لالتقاء الساكنين، فقيل :«قِرْنَ » «كخِفْنَ » ووزنه على هذا أيضاً : فلْنَ، إلا أن بعضهم تكلم في هذه القراءة من وجهين :
أحدهما : قال أبو حاتم٦ يقال : قَرَرْتُ بالمَكانِ - بالفتح - أَقِرُّ به - بالكسر - وقِرَّت عَيْنُهُ - بالكسر - تَقَرُّ - بالفتح - فكيف تقرأ وقرن بالفتح ؟ ! والجواب عن هذا أنه قد سمع في كل منهما الفتح والكسر، حكاه أبو عبيد٧، وتقدم ذلك في سورة مَرْيَمَ٨.
الثاني : سلمنا أنه يقال قَرِرْتُ بالمكان - بالكسر - أَقَرُّ به - بالفتح - وأن الأمر منه اقْرَرْنَ إلا أنه لا مسوغ٩ للحذف، لأن الفتحة خفيفة، ولا يجوز قياسه على قولهم :«ظلت » في «ظللت » قال تعالى :﴿ فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ﴾ [ الواقعة : ٦٥ ] و ﴿ ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً ﴾ [ طه : ٩٧ ] وبابه، لأن هناك شيئين ثقيلين التضعيف والكسرة ( فحسن١٠ الحذف وأما هنا فالتضعيف فقط )، والجواب أن المقتضي للحذف إنما هو التكرار ويؤيد هذا أنهم لم يحذفوا مع التكرار ووجود الضمة وإن كان أثقل نحو «اغضضن أبْصَارَكُنَّ » وكان أولى بالحذف فيقال : غُضْنَ لكن السماع خلافه قال تعالى :﴿ وَقُل لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ ﴾ على أن ابن مالك قال : إنه١١ يحذف في هذا بطريق الأولى. أو نقول : إن هذه القراءة إنما هي من «قَارَ - يَقَارُ » بمعنى اجتمع، وهو وجه حسن بريء من التكلف فيندفع اعتراض أبي حاتم وغيره لولا أن المعنى على الأمر بالاستقرار لا بالاجتماع. وأما الكسر فمن وجهين أيضاً :
أحدهما : أنه أمر من قَرَّ في المكان - بالفتح - في الماضي والكسر في المضارع، وهي اللغة الفصيحة١٢، ويجيء فيها التوجيهات الثلاث المذكورة أولاً، أما حذف الراء الثانية أو الأولى أو إبدالُها ياءً وحذفها كما قاله١٣ الفارسيّ، ولا اعتراض على هذه١٤ القراءة لمجيئها على مشهور اللغة، فيندفع اعتراض أبي حاتم، ولأن الكسر ثقيل فيندفع الاعتراض الثاني ومعناها مطابق لما يراد بها من الثبوت والاستقرار.
الوجه الثاني : أنها أمر من «وَقَرَ » «يَقِرُ » أي ثبت واستقر ومنه «الوَقَار » وأصله اوْقِرْنَ فحذفت الفاء - وهو الواو - واستغني عن همزة الوصل فبقي «قِرْنَ »، وهذا كالأمر من وعد سواء، ووزنه على هذا «عِلْنَ »، قال البغوي : الأصح١٥ أنه أمر من «الوقار » كقولك من الوعد «عِدْنَ »، ومن الوصل «صِلْنَ ».
وهذه الأوجه المذكورة إنما يهتدي إليها من مَرِنَ في علم التصريف وإلا ضاق بها ذَرْعاً.
قوله :«تَبَرُّجَ الجَاهِلِيةِ » مصدر تشبيهيّ أي مثل تبرج، والتبرج الظهور من البُرْجِ لظهوره، وقد تقدم١٦، وقرأ البزِّيُّ :«ولا تبرجن » بإدغام التاء في التاء، والباقون بحذف إحداهما وتقدم تحقيقه في البقرة١٧ في :«وَلاَ تَيَمَّمُوا ».

فصل :


قال المفسرون وقرن أي الزمْنَ بيوتكنّ من قولهم : قررت بالمكان أقر قراراً يقال : قررت : أقر وقررت : أقر، وهما لغتان، فإن كان من الوقار أي كن أهل وقار وسكون من قولهم : وَقَر فُلان يَقِر وُقُوراً إذا سكن واطمأن، و «لا تبرجن » قال مجاهد وقتادة التبرج هو التكسر والتغنج، وقال ابن أبي نُجَيح١٨ : وهو التبختر، وقيل : هو إظهار الزينة١٩، وإبراز المحاسن للرجال «تَبَرُّجَ الجَاهِلية الأولى » قال الشعبي٢٠ : هي ما بين عيسى ومحمد - صلى الله عليه وسلم - وقال أبو العالية : هي٢١ بين داود وسليمان - عليهما السلام -، وكانت المرأة تلبس قميصاً من الدر غير مخيط الجانبين فيرى خلفها فيه، وقال الكلبي : كان ذلك في زمن نمروذ، وكانت المرأة تتخذ الدرع من اللؤلؤ فتلبسه، وتمشي وسط الطريق ليس عليها شيء غيره، وتعرض نفسها على الرجال، وروى عِكْرمَةُ عن ابن عباس أنه٢٢ قال : الجاهلية الأولى أي فيما بين نوح وإدريس، وكانت ألف سنة، وإن بطنين من ولد آدم كان أحدهما يسكن السهل والآخر يسكن الجبل وكان رجال الجبل صباحاً وفي النساء دمامة، وكان نساء السهل صباحاً وفي الرجال دمامة، وإن إبليس أتى رجلاً من أهل السهل وأجر نفسه منه فكان يخدمه، واتخذ شيئاً مثل الذي يزمر به الرعاء، فجاء بصوت لم يسمع الناس مثله، فبلغ ذلك من حولهم فانتابوهم يسمعون إليه، واتخذوه عيداً يجتمعون إليه في السنة فتتبرج النساء للرجال وتتزين الرجال لهن، وإن رجلاً من أهل الجبل هجم عليهم في عيدهم فرأى النساء وصباحتهن فأتى أصحابه، فأخبرهم بذلك فنزلوا معهم فظهرت الفاحشة فذلك قوله :﴿ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهلية الأولى ﴾٢٣، وقيل : الجاهلية الأولى ما ذكرنا، والجاهلية الأخرى قوم يفعلون مثل فعلهم في آخر الزمان٢٤، وقيل : قد تذكر الأولى وإن لم يكن لها أخرى كقوله تعالى :﴿ وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأولى ﴾ [ النجم : ٥٠ ] ولم يكن لها أخرى٢٥.
قوله :﴿ وَأَقِمْنَ الصلاة وَآتِينَ الزكاة وَأَطِعْنَ الله وَرَسُولَهُ ﴾ يعني ليس التكليف في النهي وحده حتى يحصل بقوله :﴿ وَلاَ تَخْضَعْنَ. وَلاَ تَبَرَّجْنَ ﴾ بل في النهي وفي الأوامر فأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله فيما أمر به، ونهى عنه ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس ﴾ قال مقاتل : الرجس : الإثم الذي نهى الله النساء عنه٢٦، وقال ابن عباس يعني عمل الشياطين وما ليس٢٧ لله فيه رضا.
وقال قتادةُ يعني السوء٢٨، وقال مجاهد : الرِّجْس٢٩ : الشَّكُّ.
قوله :«أَهْلَ البَيْتِ » فيه أوجه : النداء والاختصاص٣٠، إلا أنه في المخاطب أقل منه في المتكلم وسمع «بِكَ اللَّهَ نَرْجُو الفَضْلَ »٣١، والأكثر إنما هو في التكلم كقولها :
٤٠٨٨ - نَحْنُ بَنَاتُ طَارِقْ نَمْشِي عَلَى النَّمارِقْ٣٢
( وقوله :٣٣ )
٤٠٨٩ - نَحْنُ - بَنِي ضَبَّة - أَصْحَابُ الجَمَلْ المَوْتُ أَحْلَى عِنْدَنَا مِنَ العَسَلْ٣٤
( و ) «نَحْنُ العَرَبَ أَقْرَى النَّاسِ لِلضَّيْفِ »٣٥ ( و ) :«نَحْنَ مَعَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ لاَ نُورثُ٣٦ » أو على المدح أي أمدحُ أهلَ البيت، واختلف في أهل البيت، فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنهم نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنهن في بيته٣٧، وتلا قوله :﴿ واذكرن مَا يتلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ الله ﴾ وهو قول عكرمة ومقاتل. وذهب أبو سعيد الخدري وجماعة من التابعين منهم مجاهد وقتادة وغيرهم إلى أنهم عليّ، وفاطمة، والحسن٣٨ والحسين، لما روت عائشة قالت :«خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات غَداةٍ وعليه مرط مرجَّل من شعر أسود فجلست٣٩ فأتت فاطمة فأدخلها فيه، ثم جاء علي فأدخله فيه، ثم جاء حسين فأدخله فيه، ثم قال :﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتَ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ﴾.
وروت أم سلمة قالت :«في بيتي أنزل : إنَّما يريدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ قالت : فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى فاطمة وعلي والحسين والحسن فقال : هؤلاء أهل بيتي. فقلت : يا رسول الله أما أنا من أهل البيت قال : بلى إن شاء الله٤٠، وقال زيد٤١ بن أرقم : أهل بيته من حرم الصدقة بعده، آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس٤٢، قال ابن الخطيب : والأولى أن يقال : هم أولاده وأزواجه والحسن والحسين، وعليّ منهم لأنه كان من أهل بيته لمعاشرته بنت النبي عليه ( الصلاة٤٣ و ) السلام وملازمته٤٤ له ».
١ ذكرها في الإتحاف ٣٥٥ والسبعة ٥٢١ و ٢٢٢ وإبراز المعاني ٤٦٩ وانظر أيضاً القرطبي ١٤/١٧٨ وزاد المسير ٦/٣٧٩ والكشف ٢/١٩٧ والتبيان ١٠٥٦..
٢ قاله ابن قتيبة في غريب القرآن ٣٥٠ والتبيان ١٠٥٧ وانظر البيان ٢/٣٦٨ ومشكل إعراب القرآن ٢/١٩٦ والدر المصون ٤/٣٨٥ ومعاني القرآن للفراء ٢/٣٤٢ وإعراب القرآن للنحاس ٢/٣١٣ ومعاني القرآن وإعرابه لأبي إسحاق الزجاج ٤/٢٢٥ واللسان "ق ر ر " ٣٥٧٩ و ٣٥٨٠ وهذه القراءة جاءت في مراجع جمة وقد ذكرت ما فيه الكفاية من المراجع..
٣ المراجع السابقة..
٤ قاله أبو علي في الحجة مع تغيير في النص انظر: الحجة ٦/١٥٤ ولم يرتض رأيه أبو حيان حيث قال "وهذا غاية في التحميل كعادته" انظر البحر المحيط ٧/٢٣٠..
٥ يطلق هذا الوصف على قبيلة بعينها وقد سموا كذلك لاجتماعهم والتفافهم اللسان "ق و ر" ٣٧٧٢ وقد قاله الزمخشري أيضاً في الكشاف ٣/٢٦٠ قال: ألا ترى إلى قول عضل والديش اجتمعوا فكونوا قارة الكشاف ٣/٢٦٠..
٦ هو سهل بن محمد السجستاني كان عالماً ثقة، قَيِّماً بعلم اللغة والشعر، أخذ عن أبي زيد وأبي عُبَيْدَةَ والأصمعيّ، وأخذ عنه ابن دريد أبو بكر توفي فيما قبل سنة خمسين ومائتين في خلافة المستعين وقال ابن دريد: توفي سنة خمس وخمسين ومائتين انظر نزهة الألباء ١٣٣..
٧ هو القاسم بن سلام أبو عُبَيْد كان إمام أهل عصره في كل فن من العلم، أخذ عن أبي زيد، وأبي عبيدة والأصمعي، واليزيديّ وغيرهم له غريب القرآن والحديث ومعاني القرآن وغير ذلك مات سنة ٢٢٠ هـ انظر بغية الوعاة ٢/٢٥٣ و ٢٥٤ وانظر مشكل الإعراب ٢/١٩٦ والبحر ٧/٢٣٠ والقرطبي ١٤/١٧٨..
٨ عند قوله تعالى: "وقَرِّي عَيْناً" وهي الآية ٢٦ وانظر اللباب ٦/٢٣٧ "ب"..
٩ في "ب" يسوع بالياء..
١٠ ما بين القوسين ساقط من "ب"..
١١ شرح الكافية الشافية له ٩٠٩ و ٩١٠..
١٢ معاني الفراء ٢/٢٤٣..
١٣ في "ب" فيما قال..
١٤ وانظر في هذا كله الدر المصون ٤/٣٨٥: ٣٨٧..
١٥ قاله البغوي في معالم التنزيل ٤/٣٥٨ بلفظ "عدن وصلن"..
١٦ في سورة النور من قوله تعالى: ﴿غير متبرجات بزينة﴾ وهي الآية ٦٠ من سورة النور. وانظر اللباب ٦/٣٠١..
١٧ الإتحاف ٣٥٥، والدر المصون ٤/٣٨٧ وقد قال هناك من الآية (٢٧٦) بعدم تشديد التاء في تلك الآية وما أشبهها من مواضع في القرآن وحجته هو من التثاقل الناشئ من اجتماع مثلين وتعذر إدغام الثانية في تاليها نزل اتصال الأولى بسابقتها منزلة اتصالها بكلمتها فأدغمت في الثانية تخفيفاً مراعاة للأصل والرسم اللباب ١/٢٠١..
١٨ هو عبد الله بن أبي نجيح، الثقفي مولاهم أبو يسار المكي عن طاوس ومجاهد وعنه عمرو بن شعيب وأبو إسحاق الفزاري وشعبة روى عنه ابن عيينة مات سنة ١٣١ هـ الخلاصة ٢١٧ وانظر رأيه في القرطبي ١٢/٣٠٩..
١٩ هذا قول الزجاج في معاني القرآن وإعرابه ٤/٢٢٥..
٢٠ زاد المسير ٦/٣٨٠ والقرطبي ١٤/١٨٠..
٢١ السابقان..
٢٢ زاد المسير ٦/٣٨١..
٢٣ ورد هذا الأثر في تفسير الحافظ الإمام ابن كثير ٣/٤٨٣..
٢٤ قال ابن عطية والذي يظهر عندي أنه أشار للجاهلية التي لحقتها فأمرن بالنقلة عن سيرتهن فيها وهي ما كان قبل الشرع من سيرة الكفرة لأنهم كانوا لا غيرة عندهم. انظر: تفسير الشَّوكَانِيّ ٤/٢٧٨ والقرطبي ١٤/١٨٠..
٢٥ هذا رأي فخر الدين الرازي حيث قال: "إن هذه ليست أولى تقتضي أخرى بل معناه تبرج الجاهلية القديمة كقول القائل: أين الأكاسرة الجبابرة الأولى" انظر: التفسير الكبير للإمام الفخر ٢٥/٢٠٩..
٢٦ وهو رأي السدي أيضاً انظر: زاد المسير ٦/٣٨٠..
٢٧ وهو رأي ابن زيد المرجع السابق..
٢٨ حكى هذين الرأيين الماوردي المرجع السابق..
٢٩ المرجع السابق..
٣٠ ذكرهما أبو البقاء في التبيان ١٠٥٧..
٣١ قاله سيبويه في الكتاب ٢/٢٣٤: وزعم الخليل- رحمه الله- أن قولهم: "بك الله نرجو الفضل، وسبحانك الله العظيم" نصبه كنصب ما قبله يشير إلى قولهم: "نحن العرب أقوى الناس للضيف" وفيه معنى التعظيم. وانظر أيضاً همع الهوامع للسيوطي ١/١٧١ وشرح ابن يعيش على المفصل ٢/١٧..
٣٢ رجز لهند بنت عتبة في تحريض الجند المشترك ضد الإسلام في غزوة أحد والشاهد "بنات طارق" فإنها منصوبة على الاختصاص بفعل مضمر وجوباً تقديره "أعني" أو أريد، أو أخص وهذا على الغالب في الاختصاص في التكلم. انظر: سيرة ابن هشام ٥٦٢ والأغاني ١٤/١٦ والمغني ٣٨٧ وشرح شواهده للإمام السيوطي ٨٠٩، وطبقات الشافعية ١/٢٥٤ والهمع ١/١٧١، والبحر ٧/٢٣١ وإعراب ثلاثين سورة ٣٨ والبداية والنهاية ٤/١٦..
٣٣ زيادة يقتضيها السياق والمعنى..
٣٤ رجز- أيضاً- كسابقه من البيت الشعري. وقد اختلف في نسبته فمن قائل: إنه للحارث الضبيِّ، ومن قائل: إنه للأعرج المعنى، ومن قائل إنه لعمرو بن يَثْربي، والشاهد فيه: "بني ضبة" وهو اختصاص وقد وقع بعد تكلم وهو "نحن" وهذا هو الغالب، ولا يخفى أن المختص وهو: "بني" منصوب بالياء لأنه ملحق بجمع المذكر السالم و "بنات" الكلمة السابقة منصوبة بالكسرة نيابة عن الفتحة للجمع المؤنث السالم والبيت من شواهد شذور الذهب لابن هشام، واللسان: " ب ج ل" ٢١٣ ورد فيه:
نحن بني أصحاب الجمل ردوا علينا شيخنا ثم بجل
وانظر الهمع ١/١٧١ والأشموني ٣/١٣٧ والكامل للمبرد ٣/١١٢ والعقد الفريد ٤/٣٢٧..

٣٥ الحديث هذا جاء في الكتاب ٢/٢٣٤..
٣٦ رواه الإمام أحمد في مسنده ٢/٤٦٣..
٣٧ قاله ابن الجوزي في زاد المسير ٦/٣٨١ والقرطبي في الجامع ١٤/١٨٢ والزجاج في المعاني ٤/٢٢٦..
٣٨ المرجع السابق..
٣٩ ذكره الشوكاني في فتح القدير ٤/٢٧٩. وأمرط الخفيف شعر الجسد والحاجبين والعينين ورجل أمرط: لا شعر على جسده..
٤٠ ذكره البغوي في معالم التنزيل ٤/٢٥٩ والخازن في تفسيره ٤/٢٥٩ والقرطبي في ١٤/١٨٣ وابن كثير في ٣/٤٨٤..
٤١ زيد بن أرقم بن زيد بن قيس بن النعمان روى عن ابن أبي ليلى، وطاوس ومحمد بن كعب والنضر بن أنس مات سنة ٦٦ هـ انظر خلاصة الكمال ١٢٦..
٤٢ السابق..
٤٣ زيادة من "ب"..
٤٤ انظر: تفسير الفخر الرازي ٢٥/٢٠٩..
قوله :﴿ واذكرن مَا يتلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ الله ﴾ يعني القرآن والحكمة، قال قتادة يعني السنة١، وقال مقاتل : أحكام القرآن٢ ومواعظه، و ﴿ من آيات الله ﴾ بيان للموصول فيتعلق «بأعني » ويجوز أن يكون حالاً إما من الموصول، وإما من عائده المقدر فيتعلق بمحذوف أيضاً٣ ﴿ إِنَّ الله كَانَ لَطِيفاً ﴾ بأوليائه «خَبِيراً » بجميع خلقه.
١ ذكرهما ابن الجوزي في تفسيره زاد المسير ٦/٣٨٢ و ٣٨٣..
٢ ذكرهما ابن الجوزي في تفسيره زاد المسير ٦/٣٨٢ و ٣٨٣..
٣ قاله شهاب الدين السمين في الدر المصون ٤/٣٨٨..
قوله :﴿ إِنَّ المسلمين والمسلمات ﴾ قال مقاتل : قالت أم سلمة بنت أبي أمية، ونسيبة بنت كعب الأنصارية للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما بال ربنا يذكر الرجال ولا يذكر النساء في شيء من كتابه نَخْشَى أن لا يكون فيهن خير فنزلت فيهن هذه الآية١، ويروى٢ أن أزواج النبي – عليه الصلاة والسلام - قلن : يا رسول الله ذكر الرجال في القرآن ولم يذكر النساء بخير فما فينا خير نذكر إنا نخاف أن لا تقبل منا طاعة، فأنزل٣ الله هذه الآية، ورُوِيَ «أن أسماء بنت عميسٍ٤ رجعت من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب فدخلت على نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : هل نزل فينا شيء من القرآن قلن : لا فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يا رسول الله إن السناء لفي خيبة وخسارة، قال : وممَّ ذلك ؟ قالت : لأنهن لا يذكرن بخير كما تذكر الرجال » فأنزل الله٥ - عز وجل - :﴿ إِنَّ المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين ﴾ المطيعين ﴿ والقَانِتَاتِ والصَّادِقينَ ﴾ في إيمانهم، وفيما سرهم وساءهم٦ ﴿ والصَّادِقَاتِ والصَّابِرِينَ ﴾ على أمر الله ﴿ والصَّابِرَاتِ والخَاشِعِينَ ﴾ المتواضعين ﴿ والخَاشِعَاتِ ﴾. وقيل : أراد به الخشوع في الصلاة ومن الخشوع أن لا يلتفت ﴿ والمُتَصَدِّقينَ ﴾ مما رزقهم الله ﴿ والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فُرُوجَهُمْ ﴾ عما لا يحِل ﴿ والحَافِظَاتِ ﴾. وحذف مفعول الحافظات لتقدم ما يدل عليه والتقدير : والحَافِظَاتِها وكذلك : والذاكرات، وحسن الحذف رُؤُوس الفواصل ﴿ والذاكرين الله كثيراً والذاكرات ﴾، قال مجاهد : لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيراً حتى يذكر الله قائماً وقاعداً ومضطجعاً٧. وروي «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال سبق المفردون، قالوا : وما المفردُونَ ؟ قال : الذاكرون الله كثيراً والذاكرات »٨. قال عطاء بن أبي رباح من فوض أمره إلى الله عز وجل فهو داخل في قوله :﴿ إِنَّ٩ المسلمين والمسلمات ﴾ ومن أقر بأن الله ربه، ومحمداً رسوله، ولم يخالف قلبُه لسانه فهو داخل في قوله :«والمُؤْمِنِينَ والمُؤْمِنَاتِ » ومن أطاع الله في الفرض، والرسول في السنة فهو داخل في قوله :«والقَانِتِينَ والقَانِتَاتِ » ومن صان قوله عن الكذب فهو داخل في قوله :«والصَّادِقِينَ والصَّادِقَاتِ » ومن صَبَرَ على الطاعة وعن المعصية وعلى الرزية فهو داخل في قوله :«والصابرين والصابرات » ومن صلى ولم يعرف من يمينه عن يساره فهو داخل في قوله :«والخَاشِعِينَ والخَاشِعَاتِ » ومن تصدق في كل أسبوع بدرهم فهو داخل في قوله :«والمُتَصَدِّقِينَ والمُتَصَدِّقَاتِ »، ومن صام في كل شهر أيام البيض الثالثَ عَشَر، والرابع عشر، والخَامِسَ عَشَر فهو داخل في قوله :«والصَّائِمِينَ والصَّائِمَاتِ ». ومن حفظ فرجه فهو داخل في قوله «والحَافِظِينَ فُرُوجهُمْ والحَافِظَاتِ » ومن صلى الصلوات الخمس بحقوقها فهو داخل في قوله :﴿ والذاكرين الله كَثِيراً والذاكرات أَعَدَّ الله لَهُم مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ﴾ وغلب المذكر على المؤنث في «لهم » ولم يقل :«لهن » ( لشرفهم )١٠.
١ انظر: معالم التنزيل للبغوي ٤/٢٥٩ و ٢٦٠..
٢ في "ب" روي..
٣ المرجع السابق..
٤ هي الخثعمية وأخت ميمونة لأمها ولها ستون حديثاً وتزوجها أبو بكر بعد جعفر. انظر: خلاصة الكمال ٤٨٨ هـ..
٥ انظر: تفسير الخازن ٤/٢٦٠ وانظر في هذا كله أسباب النزول للسيوطي ١٣٩..
٦ في "ب" وأساءهم..
٧ ذكره كلّ من البغوي والخازن في تفسيريهما ٤/٢٦٠..
٨ سبق..
٩ المرجعان السابقان..
١٠ سقط من "أ"..
قوله :﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ ﴾ نزلت الآية في زينبَ بنت جحش الأسدية١، وأخيها عبد الله بن جحش. وأمها أميمة بنت عبد المطلب عمة النبي - صلى الله عليه وسلم - اشترى زيداً في الجاهلية بعُكَاظَ، فأعتقه وتبناه، فلما خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زينب رضيت وظنت أنه يخطبها لنفسه فلما علمت أنه يخطبها لزيد أبت وقالت : أنا ابنة عمتك٢ يا رسول الله فلا أرضاه لنفسي وكانت بيضاءَ جميلةً فيها حدة، وكذلك كره أخوها ذلك فأنزل الله٣ عز وجل :﴿ وما كان لمؤمن ولا مؤمنة ﴾ يعني عبد الله بن جحش وأخته زينب ﴿ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً ﴾ ( أي أراد الله ورسوله٤ أمراً ) وهو نكاح زيدٍ لزينبَ ﴿ أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾. والخيرة الاختيار أي يريد غير ما أراد الله، ويمتنع مما أمر الله ورسوله.
قوله :﴿ أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة ﴾ «أن يكون » هو اسم كان، والخبر الجار متقدم٥ وقوله :﴿ إِذَا قَضَى الله ﴾ يجوز أن يكون محْض ظرف معموله الاستقرار الذي تعلق به الخبر، أي وما كان مستقراً لمؤمن ولا مؤمنةٍ وقت قضاء الله كَوْنُ خيرة، وأن تكون شرطية ويكون جوابها مقدراً مدلولاً عليه بالنفي٦ المتقدم. وقرأ الكوفيون وهِشَامٌ «يكون » - بالياء من أسفل ؛ لأن «الخِيرَةَ » مجازيُّ التأنيث، وللفصل أيضاً، والباقون بالتاء من فوق مراعاةً للفظها٧، وقد تقدم أن «الخِيَرَةَ » مصدر «تَخَيَّرَ » «كالطِّيرِةِ » من «تَطَيَّرَ »٨، ونقل عيسى بن سُلَيْمَانَ٩ أنه قرئ الخِيرَة - بسكون الياء١٠ - و «مِنْ أَمْرِهِمْ » حال من الخيرة، وقيل :«من » بمعنى «في » وجمع الضمير في «أمرهم » وما بعده لأن المراد بالمؤمن والمؤمنة الجنس. وغلب المذكر على المؤنث١١، وقال الزمخشري :«كان من حق الضمير أن يُوَحَّدَ كما تقول : مَا جَاءَنِي مِنْ رَجُلٍ وَلا امْرَأَةٍ إلاَّ كَانَ مِنْ شَأْنِهِ كَذَا »١٢ قال أبو حيان :«وليس بصحيح ؛ لأن العطف بالواو، فلا يجوز ذلك إلا بتأويل الحذف »١٣.
قوله :﴿ وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِيناً ﴾ أخْطَأَ خَطَأً ظَاهِراً. فلما سمعا ذلك رضيا بذلك وسلما وجعلت أمرها بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم – وكذلك أخوها فأنكحها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – زيداً فدخل بها. وساق رسول الله – صلى الله عليه وسلم - إليها عَشْرَةَ دَنَانِيرٍ وستِّينَ دِرْهَماً وخِماراً ودِرْعاً وَإِزَاراً وملْحَفَةً وخَمْسِينَ مُدّاً مِن الطَّعَامِ وثلاثينَ صاعاً من تَمْرٍ١٤.
١ انظر: أسباب النزول في القرطبي ١٤/١٨٦ وزاد المسير ٦/٣٨٥ وتفسير الخازن ٤/٢٦١ والبغوي ٤/٢٦١ والطبري ٢٢/٩ وفتح القدير للشوكاني ٤/٢٨٣ وابن كثير ٣/٤٨٩، والكشاف ٣/٢٦١ وأسباب النزول للسيوطي ١٣٩..
٢ في "ب" أنا ابن عمة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-..
٣ انظر: المراجع السابقة..
٤ ما بين القوسين ساقط من "ب"..
٥ قاله السمين في الدر ٤/٣٨٨..
٦ المرجع السابق..
٧ ذكره في الحجة لابن خالويه ٢٩٠ كما ذكره ابن الجوزي في النشر ٢/٣٥٠ وانظر الإتحاف ٣٥٥ والسبعة ٥٢٢ وقد نقل القرطبي اختيار أبي عبيد لقراءة الكوفيين قال: "قرأ الكوفيون بالياء وهو اختيار أبي عبيد لأنه قد فرق بين المؤنث وفعله". انظر: الجامع ١٤/١٨٧..
٨ يشير إلى الآية ٦٨ من القصص: ﴿وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة﴾ وقال هناك: إن الخيرة كالطيرة من التطير فيستعملونه استعمال المصدر انظر: اللباب ٦/٣٣٢..
٩ هو عيسى بن سليمان أبو موسى الحجازي المعروف بالشيزري الحنفي مقرئ عالم نحويّ معروف أخذ القراءة عرضاً وسماعاً عن الكسائي وروى الفقه عن أحد أصحاب أبي حنيفة والحروف عن نافع وجعفر وشيبة انظر: غاية النهاية ١/٦٠٩..
١٠ من القراءة الشاذة غير المتواترة مختصر ابن خالويه ١١٩ وهي قراءة ابن السميقع. القرطبي ١٤/١٨٧..
١١ السمين قرره في إعرابه ٤/٣٨٨..
١٢ قاله في الكشاف ٣/٢٦٢..
١٣ قاله في البحر المحيط ٧/٢٣٤..
١٤ قاله الإمام البغوي في تفسيره المسمى بمعالم التنزيل ٥/٢٦١ وانظر كذلك الخازن ٥/٢٦١..
قوله: ﴿وَإِذْ تَقُولُ للذي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ﴾ وهو زيد بن حارثة أنعم الله عليه بالإِسلام «وأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ» بالتحرير والإِعتاق.
قوله: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ» نص بعض النحويين على أن «على» في مثل هذا التركيب اسم قال: لئلا يتعدى فعل المضمر المتصل إلى ضمير المتصل في غير باب «ظَنَّ» وفي لفظتي: فَقَدَ وعَدِمَ وجعل من ذلك:
٤٠٩٠ - هَوِّنْ عَلَيْكَ فَإِنَّ الأُمُ ورَ بِكَفِّ الإِلَهِ مَقَادِيرُهَا
وكذلك حكم على «عن» في قوله:
٤٠٩١ -[ف] دَعْ عَنْكَ نَهبْاً صِيحَ في حجَرَاتِهِ...
552
وقد تقدم ذلك مُشْبَعاً في النَّحل في قوله: ﴿وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ﴾، وفي قوله: ﴿وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة﴾ [مريم: ٢٥] (وقوله) :﴿واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ﴾ [القصص: ٣٢].
قوله: «وَتُخْفِي» فيه أوجه:
أحدها: أنه معطوف على «تقول» أي وإِذْ تَجْمَعُ بَيْنَ قَوْلِكَ كَذَا وإِخْفَاءِ كَذَا وخَشْيَةِ الناس قاله الزمخشري.
الثاني: أنها واو الحال أي تقول كذا في هذه الحالة، قاله الزمخشري أيضاً، وفيه نظر حيث إنه مضارع مثبت فكيف تباشره الواو؟ وتخريجه «قُمْتُ وَأَصُكُّ عَيْنَهُ» أعني على إضمار مبتدأ.
الثالث: أنه مستأنف قاله الحوفي، وقوله: ﴿والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ﴾ تقدم مثله في بَرَاءَةَ.

فصل


قال المفسرون إن الآية نزلت في زَيْنَبَ بنتِ جَحْش، وذلك «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما زوج» زينب «من» زَيْد «مكثَتْ عنده حيناً ثم إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أتى زيداً ذات يوم لحاجة فأبصر زينب قائمة في دِرْع وخِمَار، وكانت بيضاء وجميلة ذات خُلُق من أتمِّ نساء قريش فوقعت في نفسه، وأعجبه حسنها فقال: سبحان الله مقلِّبَ القلوب وانصرف فلما جاء زيد ذكرت ذلك له، ففطن زيد فألقي في نفس زيد كراهتها في الوقت فأتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال: إن أريدُ أن أفارق صاحبتي قال: ما لك أَرَابَكَ منها شيء قال: لاَ واللَّهِ يا رسول الله ما رأيت منها إلا خيراً، ولكنها تتعظم عَلَيَّ لشرفها وتؤذيني بلسانها. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوجَكَ يعني زينب بنت جحش واتَّقِ اللَّهِ في أمرها ثم طلَّقَها زيدٌ»، فذلك قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَإِذْ تَقُولُ للذي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ﴾ بالإسلام وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ بالإعتاق وهو زيد بن حارثة ﴿أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ واتق الله﴾ فيها ولا تفارقها ﴿وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ﴾ أي تُسرُّ في نفسك ما الله مظهره أي كان في قلبه لو فارقها تزوجها. وقال ابن عباس: حبها، وقال قتادة: وَدَّ أنه لو طلقها «وَتَخْشَى النَّاسَ» قال ابنُ عباس والحسن: تستحييهم، وقيل: تخاف لائمةَ الناس أن يقولوا
553
أمرَ رجلاً بطلاق امرأته ثم نكحها، ﴿والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ﴾.
قال عمر وابن مسعود وعائشة: ما نزلت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - آية هي أشد عليه من هذه (الآية). وروي عن مسروق قال: قالت عائشة: لو كتم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شيئاً مِمَّا أوحي إليه لكتم هذه الآية: ﴿وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ﴾ وروي عن سفيانَ بْن عُيَيْنَةَ عن عليِّ بن جُدْعَانَ قالك سألني عليّ بن الحُسَيْنِ زَيْنُ العابدين ما يقول الحَسَنُ في قوله: ﴿وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه﴾ قال: قلت: (تقول) :«لَمَّا جاء زيد إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال له: يا نبي إني أريد أن أطلق زينب فأعجبه ذلك قال: أمسك عليك زوجك واتق الله» فقال علي بن الحسين ليس كذلك كان الله قد أعلمه أنها ستكون من أزواجه وأن زيداً سيطلقها فلما جاء زيد قال: أريد أن أطلقها قال له: أمْسِكْ عليك زوجك فعاتبه الله وقال: لِمَ قُلْتَ: أمسك عليك زوجك وقد أعلمتك أنها ستكون من أزواجك وهذا هو الأولى ولأليق بحال الأنبياء وهو مطابق للتلاوة لأن الله تعالى أعلم أنه يبدي ويظهر ما أخفاه ولم يظهر غير تزويجها منه فقال: «زَوَّجْنَاكَهَا» فلو كان الذي أضمره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - محبتها أو إرادة طلاقها لكان يظهر ذلك لأنه لا يجوز أنه يخبر أنه يُظْهِرُه ثم يكتمه فلا يظهره فدل على أنه لا يجوز أن يخبر أنه يُظْهِرُهُ ثم يكتمه فلا يظهره فدل على أنه إنما عوتب على إخفاء ما أعلمه الله أنها ستكون زوجة له، وإنما أخفاه استحياء أن يقول لزيد: إن الذي تحتك في نِكَاحِكَ ستكون امرأتي وهذا حسن وإن كان الآخرَ وهو أنه أخفى محبتها أو نكاحها لو طلقها لا يقدح في حال الأنبياء؛ لأن العبد غير ملوم على ما يقع في قلبه من مثل هذه الأشياء ما لم يقصد فيه المأثم؛ لأن الوُدَّ ومَيْلَ النفس من طبع البشر، وقوله: ﴿أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ واتق الله﴾ أمر بالمعروف وهو خشية الإثم فيه وقوله: ﴿والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ﴾ لم يرد به أنه لم يكن يخشى الله فيما سبق فإنه عليه (الصلاة و) السلام قد قال: «أَنَّا أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ» ولكن المعنى الله أحَقُّ أنْ تَخْشَاهُ وَحْدَهُ، ولا تخشى أحداً معه وأنت تخشاه وتخشى الناس أيضاً، فلام ذكر الخشية من الناس ذكر أن الله احق بالخشية في عموم الأحوال وفي جميع الأشياء.
قوله: ﴿فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا﴾، «وطراً» مفعول «قضى»، والوَطَرُ الشهوة والمحبة قاله المبرد وأنشد:
554
٤٠٩٢ - وَكَيْفَ ثَوَائِي بالمَدِينَةِ بَعْدمَا قَضَى وَطَراً مِنْهَا جَمِيلُ بْنُ معْمَرِ
وقال أبو عبيدة: الوَطَرُ: الأَرَبُ والحَاجَةُ، وأنشد الربيعُ بن ضبع الفزَارِيُّ.
٤٠٩٣ - وَدَّعَنَا قَبْلَ أن نُوَدِّعَهُ لَمَّا قَضَى مِنْ شَبَابِنَا وَطَرَا
وقرأ العامة: «زَوَّجْنَاكَهَا»، وقرأ علي وابناه الحَسَنَان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم، وأرضاهم - «زَوَّجْتُكَهَا»، بتاء المتكلم و «لِكَيْلأاَ» متعلق «بزوجناكها». وهي هنا ناصبة فقط لدخول الجار عليها، واتصل الضميران بالفعل، لاختلافهما رتبةً.

فصل


المعنى فلما قصى زيد منها حاجة من نكاحها زوجناكها، وذكر قضاء الوطر ليعلم أن زوجة المتبنَّى تَحِلُّ بعد الدخول بها إذا طلقت وانقضت عدتها؛ لان الزوجة ما دامت في نكاح الزوج فهي تدفع حاجته وهو محتاج إليها فلم يقض منها الوطر بالكلية ولم يستغن عنها، وكذلك إذا كانت في العدة لها بها تعلق لأجل شُغْلٍ الرحم فلم يقض منها بعد وطر، فإذا طلقت وانقضت عدتها استغنى عنها ولم يبق له معها تعلق فقضى منها الوطر. قال أنس: كانت زينب تَفْتَخِرُ على أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - زَوَّجَكثنَّ أَهَالِيكُنَّ، وَزَوَّجَنِي اللَّهُ مِنْ فَوْق سَبْعِ سَمَاوَاتٍ، وقال الشعبيُّ: كانت زينب تقول للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِني لأُدِلُّ عَلَيْك بثلاث ما من نسائك امرأة تُدِلُّ بهن، جَدِّي وَجدُّك واحد، وإني أَنْكَحنِيكَ اللَّهُ فِي السَّمَاءِ وإنَّ السفيرَ لِجِبْرِيل.
قوله: ﴿لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ﴾ إثم ﴿﴾ فالأدعياء جمع أَدءعَى وهو المتبنَّى بخلاف امرأة ابن الصلب لا تحِل للأب ﴿وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً﴾ أي قضاء الله ماضياً وحكمه نافذاً، وقد قضى في زينب أن يتزوجها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
555
قوله: ﴿مَّا كَانَ عَلَى النبي مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ الله لَهُ﴾ أي فيما أحل الله له.
قوله: «سُنَّةَ اللَّهِ» منصوب على المصدر ك ﴿صُنْعَ الله﴾ [النمل: ٨٨] و ﴿وَعْدُ الله﴾ [الزمر: ٢٠] أو اسم وضع موضع المصدر أو منصوب «بِجَعَلَ» أبو بالإِغراء أي فعليه سنة الله، قاله ابن عطية ورده أبو حيان بأن عامل الإغراء لا يحذف، وبأن فيه غغراء الغائب وما ورد منه مؤول على نُدُوره نحو: «عَلَيْهِ رَجُلاً لَيْسَني». قال شهاب الدين: وقد ورد قوله عليه السلام: «وَإِلاَّ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ» فقيل: هو إغراء، وقيل: ليس به وإنما هو مبتدأ وخبر، والباء زائدة في المبتدأ وهو تخريج فاسد المعنى، لأن الصوم ليس واجباً على ذلك. وقال البغوي: نصب بنزع الخافض أي كَسُنَّةِ اللَّهِ.

فصل


المراد بسنة الله في الذين خلوا من قبل أي في الأنبياء الماضين أن لا يؤاخذهم بما أحل لهمن قال الكلبي ومقاتل: أراد داود حين جمع بينه وبين المرأة التي هَوِيَهَا فكذلك جمع بين محمد وبين زينب، وقيل أراد بالسنة النكاح، فإنه من سنة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ﴿وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَّقْدُوراً﴾، وقول ثانياً: ﴿وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً﴾ لطيفة وهي أن الله تعالى لما قال: «زَوَّجْنَاكَهَا» قال: ﴿وكان أمر الله مفعولاً﴾، أي تزويجنا زينت إياك كان مقصوداً مَقْضِيّاً مُرَاعىً، ولما قال: ﴿وكان أمر الله قدراً مقدوراً﴾ أشار إلى قصة داود حين افتتن بامرأة «أوريا» قال: ﴿وكان أمر الله قدراً مقدوراً﴾ أي كان ذلك حكماً تبعياً.
قوله: «الذين يبلّغون» يجوز أن يكون تابعاً «لِلَّذِينَ خَلَوا» وأن يكون مقطوعاً عنه رفعاً ونصباً على إضمار: «هم» أو أعْنِي، أو أمْدَحُ.
556

فصل


المعنى إنَّ الذين يبلغون رسالات الله كانوا أيضاً رُسُلاً مِثْلَكَ، ثم ذكر حالهم بأنهم جرّبوا الخشية ووجدوها فيخشون الله ولا يخشون أحداً سواه فصار كقوله: «فَبِهُدَاهُم اقْتَدِه» ولا يخسى قَالة الناس فإنهم ليسوا بمهتمين فيما أحل الله لهم وفرض عليهم، ﴿وكفى بالله حَسِيباً﴾ حافظاً لأعمال خلقه ومحاسبتهم فلا يُخْشَى غَيْرُهُ.
قوله: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ﴾ لما تزوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - زينب قال الناس: إن محمداً تزوج امرأة انبه فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ - ﴿ما كان محمد أبا أحد من رجالكم﴾ يعني زيد بن حارثة أي ليس أبا أاحد من رجالكمالذين لم يلده فيحرم عليه نكاح زوجته بعد فراقه إياها. فإن قيل: أليس أنه كان له أبناء القاسمُ والمطهرُ، وإبراهيم، والطَّيِّبُ، وكذلك الحَسَنُ، الحُسَيْنُ، قال - عليه (الصلاة و) السلام -: «إن ابني هذا سيد
؟»
فالجواب: هؤلاء كانوا صغاراً ولم يكونوا رجالاً، والصحيح أنه أراد أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُم الذي لم يلده.
قوله: ﴿ولكن رَّسُولَ الله﴾ العامة على تخفيف «لكن» ونصب «رسول»، ونصبه إما على إضمار «كَانَ» لدلالة «كان» السابقة عليها، أي ولكن كَانَ، وإما بالعطف على «أَبَا أَحَدٍ» : والأول أليق؛ لأن «لكن» ليست عاطفة لأجل الواو، فالأليق بها أن تدخل على الجمل «كبل» التي ليست عاطفة. وقرأ أَبُو عَمْروٍ - في رواية - بتشديدها، على أن «رسول الله» اسمها وخبرها محذوف للدلالة، أي ولكن رسول الله هُوَ أي محمد، وحذف خبرها سائغ وأنشد:
557
أي أنت، وهذا البيت يروونه أيضاً «ولكن زِنْجِيٌّ» بالرفع، شاهداً على حذف امسها، أي «ولكنك».
وقرأ زيد بن علي، وابن أبي عبلة بتخفيفها ورفع «رسول» على الابتداء، والخبر مقدر أي هو، أو بالعكس أي ولكن هُوَ رَسُولُ كقوله:
٤٠٩٤ - فَلَوْ كُنْتَ ضبّيّاً عَرَفْتَ قَرَابَتِي وَلَكِنَّ زِنْجِيّاً عَظِيمَ المَشَافِرِ
٤٠٩٤ - وَلَسْت الشَّاعِرَ السِّفْسَافَ فِيهِمْ وَلَكن مِدْرَهَ الحَرْبِ العَوَانِ
أي ولكن أنا مدره.
قوله: «وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ» قرأ عاصم بفتح التاء والباقون بسكرهان فالفتح اسم للآلة التي يختم بها كالطَّابَع والقَالَب، لما يطبع به، ويقلب فيه هذا هو المشهور، وذكر أبو البقاء فيه أَوْجُهاً أُخَرَ منها أنه في معنى المصدر قال: كذا ذكر في بعض الأعاريب، قال شهاب الدين: وهو لغط محض كيف وهو مُحْوِجٌ إلى تَجَوُّزٍ أو إضْمار، ولو حكى هذا في خَاتِم - بالكسر - لكان أقرب، لن قد يجيء المصدر على فاعل وفاعلة وسيأتي ذلك قريباً، ومنها أنه اسم بمعنى «آخَرَ» ومنها أنه فعل ماض مثل «قَاتَل» فيكون «النَّبِيِّينَ» مفعولاً به، قال شهاب الدين: ويؤيد هذا قراءة عبد الله المتقدمة. وقال بعضهم هو بمعنى المفتوح يعني بمعنى آخرهم لأنه قد ختم النبيين فهو خَاتم.

فصل


قال ابن عباس: يريد لو لم أَختم به النبيين لجعلت له ابناً يكون من بعده نبيّاً، وروى عطاء عن ابن عباس: أن الله تعالى لما حكم أنه لا نبي بعده لم يُعْطِهِ ولداً ذكراً
558
قوله :﴿ مَا كَانَ عَلَى النبي مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ الله لَهُ ﴾ أي فيما أحل الله له.
قوله :«سُنَّةَ اللَّهِ » منصوب على المصدر١ ك ﴿ صُنْعَ الله ﴾ [ النمل : ٨٨ ] و ﴿ وَعْدُ الله ﴾ [ الزمر : ٢٠ ] أو اسم وضع موضع٢ المصدر أو منصوب «بِجَعَلَ » أبو بالإِغراء أي فعليه سنة الله، قاله٣ ابن عطية ورده أبو حيان بأن عامل الإغراء لا يحذف، وبأن فيه إغراء الغائب وما ورد منه مؤول على نُدُوره نحو :«عَلَيْهِ رَجُلاً لَيْسَني »٤. قال شهاب الدين : وقد٥ ورد قوله عليه السلام :«وَإِلاَّ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ »٦ فقيل : هو إغراء، وقيل : ليس به وإنما هو مبتدأ وخبر، والباء زائدة في المبتدأ وهو تخريج فاسد المعنى، لأن الصوم ليس واجباً على ذلك. وقال البغوي : نصب٧ بنزع الخافض أي كَسُنَّةِ اللَّهِ.

فصل :


المراد بسنة الله في الذين خلوا من قبل أي في الأنبياء الماضين أن لا يؤاخذهم بما أحل لهم، قال الكلبي ومقاتل٨ : أراد داود حين جمع بينه وبين المرأة التي هَوِيَهَا فكذلك جمع بين محمد وبين زينب، وقيل أراد بالسنة النكاح، فإنه من سنة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ﴿ وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَقْدُوراً ﴾ مقضيّاً كائناً ماضياً. واعلم أن في قوله أولاً :﴿ وكان أمر الله مفعولاً ﴾، وقوله ثانياً :﴿ وَكَانَ أَمْرُ الله قدراً مقدوراً ﴾ لطيفة وهي أن الله تعالى لما قال :«زَوَّجْنَاكَهَا » قال :﴿ وكان أمر الله مفعولاً ﴾، أي تزويجنا زينب إياك كان مقصوداً شرعياً مَقْضِيّاً مُرَاعىً، ولما قال :﴿ سنة الله في الذين خلوا ﴾ أشار إلى قصة داود حين افتتن بامرأة «أوريا » قال :﴿ وكان أمر الله قدراً مقدوراً ﴾ أي كان ذلك حكماً تبعياً٩.
١ قاله في المشكل ٢/١٩٨ والسمين في الدر ٤/٣٩١..
٢ قاله الزمخشري في الكشاف ٣/٢٦٤..
٣ ذكره أبو حيان في البحر ٧/٢٣٦..
٤ المرجع السابق ويقصد أبو حيان أن الإغراء لا يكون إلا للمخاطب وأما ما ورد من قولهم: " عليه رجلاً" فمؤول أي ليلزم رجلاً غيري. انظر: ابن يعيش ٢/٢٩، والأشموني ٣/١٩٢ والتصريح ٢/١٩٥..
٥ الدر المصون ٤/٣٩١..
٦ أورده الإمام البخاري في صحيحه كتاب النكاح ٢/١٥٨..
٧ قاله في معالم التنزيل ٥/٢٦٤ وقال: "وقيل نصب على الإغراء"..
٨ المرجع السابق. وانظر: زاد المسير ٦/٣٩٢..
٩ انظر: تفسير الفخر الرازي ٢٥/٢١٣..
قوله :«الذين يبلّغون » يجوز أن يكون تابعاً «لِلَّذِينَ خَلَوا » وأن يكون مقطوعاً عنه رفعاً ونصباً على إضمار :«هم » أو أعْنِي، أو أمْدَحُ١.

فصل :


المعنى إنَّ الذين يبلغون رسالات الله كانوا أيضاً رُسُلاً مِثْلَكَ، ثم ذكر حالهم بأنهم جرّبوا الخشية ووجدوها فيخشون الله ولا يخشون أحداً سواه فصار كقوله :«فَبِهُدَاهُم اقْتَدِه » ولا يخشى قَالة الناس فإنهم ليسوا بمتهمين فيما أحل الله لهم وفرض عليهم، ﴿ وكفى بالله حَسِيباً ﴾ حافظاً لأعمال خلقه ومحاسبتهم فلا يُخْشَى غَيْرُهُ.
١ انظر: التبيان ١٠٥٧ والدر المصون ٤/٣٩١ والكشاف ٣/٢٦٤..
قوله :﴿ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِن رِجَالِكُمْ ﴾ لما تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - زينب قال الناس : إن محمداً تزوج امرأة ابنه فأنزل الله - عز وجل١ - ﴿ ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ﴾ يعني زيد بن حارثة أي ليس أبا أحد من رجالكم الذين لم يلده فيحرم عليه نكاح زوجته بعد فراقه إياها. فإن قيل : أليس أنه كان له أبناء القاسمُ والمطهرُ، وإبراهيم، والطَّيِّبُ، وكذلك الحَسَنُ، الحُسَيْنُ، قال - عليه ( الصلاة٢ و ) السلام - :«إن ابني هذا سيد ؟ ».
فالجواب : هؤلاء كانوا صغاراً ولم يكونوا رجالاً، والصحيح أنه أراد أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُم الذي لم يلده٣.
قوله :﴿ ولكن رَسُولَ الله ﴾ العامة على تخفيف «لكن » ونصب «رسول »، ونصبه إما على إضمار «كَانَ » لدلالة «كان » السابقة عليها، أي ولكن كَانَ٤، وإما بالعطف على٥ «أَبَا أَحَدٍ » : والأول أليق ؛ لأن «لكن » ليست عاطفة لأجل الواو، فالأليق بها أن تدخل على الجمل «كبل » التي ليست عاطفة٦. وقرأ أَبُو عَمْرٍو - في رواية - بتشديدها٧، على أن «رسول الله » اسمها وخبرها محذوف للدلالة، أي ولكن رسول الله هُوَ أي محمد، وحذف خبرها سائغ وأنشد :
٤٠٩٤ - فَلَوْ كُنْتَ ضبّيّاً عَرَفْتَ قَرَابَتِي وَلَكِنَّ زِنْجِيّاً عَظِيمَ المَشَافِرِ٨
أي أنت، وهذا البيت يروونه أيضاً «ولكن زِنْجِيٌّ » بالرفع، شاهداً على حذف اسمها، أي «ولكنك ».
وقرأ زيد بن علي، وابن أبي عبلة بتخفيفها٩ ورفع «رسول » على الابتداء، والخبر مقدر أي هو، أو بالعكس أي ولكن هُوَ رَسُولُ كقوله :
٤٠٩٤ - وَلَسْت الشَّاعِرَ السِّفْسَافَ فِيهِمْ وَلَكن مِدْرَهَ الحَرْبِ العَوَانِ١٠
أي ولكن أنا مدره.
قوله :«وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ » قرأ عاصم بفتح التاء١١ والباقون بكسرها، فالفتح اسم للآلة التي يختم١٢ بها كالطَّابَع والقَالَب، لما يطبع به، ويقلب فيه هذا هو المشهور، وذكر أبو البقاء فيه أَوْجُهاً أُخَرَ منها أنه في معنى المصدر قال : كذا١٣ ذكر في بعض الأعاريب، قال شهاب الدين : وهو غلط١٤ محض كيف وهو مُحْوِجٌ١٥ إلى تَجَوُّزٍ أو إضْمار، ولو حكى هذا في خَاتِم - بالكسر - لكان أقرب، لأن قد يجيء المصدر على فاعل وفاعلة وسيأتي ذلك قريباً، ومنها أنه اسم بمعنى١٦ «آخَرَ » ومنها أنه فعل ماض مثل «قَاتَل » فيكون «النَّبِيِّينَ » مفعولاً به، قال شهاب الدين : ويؤيد هذا قراءة عبد الله المتقدمة١٧. وقال بعضهم هو بمعنى المفتوح يعني بمعنى آخرهم لأنه قد ختم النبيين فهو خَاتم١٨.

فصل :


قال ابن عباس : يريد لو لم أَختم به النبيين لجعلت له ابناً١٩ يكون من بعده نبيّاً، وروى عطاء عن ابن عباس : أن الله تعالى لما حكم أنه لا نبي بعده لم يُعْطِهِ ولداً ذكراً يصير رَجُلاً٢٠، وقيل : من لا نبي بعده يكون أشفق على أمته وأهدى لهم إذ هو كالوالد لولد ليس له غيره٢١. ﴿ وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ﴾ أي علمه بكل شيء دخل فيه أن لا نبي بعده، فعلم أن من الحكمة إكمال شرع محمد عليه ( الصلاة٢٢ و ) السلام أن زوجه بزوجة٢٣ دعيِّه تكميلاً للشرع، وذلك من حيث إنَّ قول النبي – عليه الصلاة والسلام - يفيد شرعاً لكن إذا امتنع هو عنه يفيد في بعض النفوس نُفْرة، ألا ترى أنه ذكر بقوله ما فهم منه حِلّ أكل الضَّبِّ، ثم لما لم يأكله بَقِيَ في النفوس شيء، ولما أكل لحم الجمل طاب أكله، مع أنه في بعض الملل لا يؤكل وكذلك الأرنب٢٤، روى أبو هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :«مَثَلِي ومَثَلُ الأنبياء كَمَثَلِ قَصْرِ أُحْكِمَ بُنْيَانُهُ تُرِكَ مِنْهُ مَوْضِعُ لَبِنَةٍ فَطَافَ بِهِ النُّظَّارُ يَتَعَجَّبُونَ مِنْ حُسْنِ بِنَائِهِ إِلاَّ مَوْضِعَ تِلْكَ اللَّبِنَةِ لاَ يُجِيبُونَ سِوَاهَا فَكُنْت أنَا مَوْضِع تِلْكَ اللَّبِنَةِ خُتِمَ بِهِ البُنْيَانُ، وَخُتِمَ بِي الرُّشْدُ »٢٥، وقال - عليه ( الصلاة٢٦ و ) السلام :«إنَّ لِي٢٧ أسْمَاءَ أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا الماحِي يَمْحُو اللَّهُ بِيَ الكُفْرَ، وَأَنَا الحَاشِرُ الَّذِي يَحْشُرُ اللَّهُ النَّاسَ عَلَى قَدَمِيَ وأَنَا العَاقِبُ » والعاقِبُ الَّذي لَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ.
١ قاله القرطبي في الجامع الكبير ١٤/١٩٦ وابن الجوزي في الزاد ٦/٣٩٣..
٢ زيادة من "ب"..
٣ قاله القرطبي في المرجع السابق وانظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤/٢٢٩ و ٢٣٠ والخازن ٥/٢٦٤ و ٣٦٥ والبغوي ٥/٢٦٤ و ٢٦٥ وفيه "الذين لم يلدهم" بلفظ الجمع..
٤ هذا رأي أبي الحسن الأخفش فقد قال في المعاني ٢/٦٦٠: " أي ولكن كان رسول الله" واستحسن رأيه ابن الأنباري في غريب إعراب القرآن ٢/٢٧٠ وانظر: الدر للسمين ٤/٣٩١ وإعراب القرآن للزجاج ٤/٢٣٠ والتبيان ١٠٥٨ ومعاني الفراء ٢/٣٤٤..
٥ قاله أبو حيان في البحر ٧/٢٣٦ والسمين في الدر ٤/٣٩١..
٦ المرجع السابق..
٧ مختصر ابن خالويه ١٢٠ والمحتسب ٢/١٨١ وهي من الشَّواذِّ..
٨ البيت من الطويل يهجو به رجلاً من "ضبة" وهو للفرزدق والمشافر جمع مشفر وهو من البعير كالشفة للإنسان وشاهده: ولكنَّ زِنْجِياً، حيث حذف خبر "لكن" أي "لا يَعْرِفُ قَرَابَتِي"، وإذا رفع زِنْجِيٌّ فإن المحذوف هو الاسم، والبيت لا يوجد بديوان الفرزدق وانظر: الكتاب ٢/١٣٦ والبحر ٧/٢٣٦، والإفصاح ٢١٣ والمحتسب ٢/١٨٢ والإنصاف ١٨٢ وأسرار البلاغة ١٢٩ وابن يعيش ٨/٨١ والهمع ١/١٣٦ ومجالس ثعلب ١٠٥، وأمالي السهيلي ١١٦، وتمهيد القواعد ٢/١١٧، واللسان "شفر" والمقرب ١/١٠٨، والمغني ٢٩١ وشرح شواهده للسيوطي ٧٠١ والمنصف ٣/١٢٩ وقد وجد بديوانه بلفظ "مشافره"..
٩ ذكر تلك القراءة الشاذة ابن خالويه في المختصر ١٢٠ وانظر: معاني الفراء ٢/٣٤٤ والبحر المحيط ٧/٢٣٦ والأخفش في معانيه ٦٦٠..
١٠ البيت من تمام الوافر وهو مجهول القائل. وقد تقدم..
١١ الحجة لابن خالويه ٢٩٠ والنشر ٢/٣٤٨ وتقريبه ١٦١ والسبعة ٥٢٤ والإتحاف ٣٥٥..
١٢ انظر: اللسان: "خ ت م " ١١٠١..
١٣ التبيان ١٠٥٨..
١٤ الدر المصون ٤/٣٩٢..
١٥ وفيه: "يحوج" بالمضارعة..
١٦ المرجعان السابقان..
١٧ لم يذكر المؤلف تقدماً لتلك القراءة وهي: "وخَتَمَ النَّبِيِّينَ" بلفظ الماضي وهي قراءة ابن مسعود ومن حذا حذوه، وانظر: مختصر ابن خالويه ١٢٠ ومعاني الفراء ٢/٢٤٤..
١٨ المرجعان السابقان..
١٩ نقله في زاد المسير ٦/٣٩٣..
٢٠ ذكره الخازن والبغوي في تفسيريهما ٥/٢٦٥..
٢١ ذكره الفخر الرازي ٢٥/٢١٤..
٢٢ زيادة من "ب"..
٢٣ في "ب" بزوجته وما هنا هو الموافق لتفسير الرازي..
٢٤ قاله الإمام الرازي في التفسير الكبير ٢٥/٢١٤..
٢٥ الحديث رواه الإمام السيوطي في كتابه: "جامع الأحاديث" عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. وانظر: كذلك مجمع البيان للطبرسي ٨/٥٦٧..
٢٦ زيادة من "ب"..
٢٧ الحديث رواه جابر بن مطعم عن النبي – صلى الله عليه وسلم- ولقد أورده الإمام البخاري في صحيحه ٣/٢٠١، والإمام مالك في الموطأ رقم "١" من أسماء النبي وأورده أحمد في مسنده ٤/٨٠ و ٨١ و ٨٤..
يصير رَجُلاً، وقيل: من لا نبي بعده يكون أشفق على أمته وأهدى لهم إذ هو كالوالد لولد ليس له غيره. ﴿وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيما﴾ أي علمه بكل شيء دخل فيه أن لا نبي بعده، فعلم أن من الحكمة إكمال شرع محمد عليه (الصلاة و) السلام أن زوجه بزوجة دعيِّه تكميلاً للشرع، وذلك من حيث إنَّ قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يفيد شرعاً لكن إذا امتنع هو عنه يفيد في بعض النفوس نُفْرة، ألا ترى أنه ذكر بقوله ما فهم منه حِلّ أكل الضَّبِّ، ثم لما لم يأكله بَقِيَ في النفوس شيء، ولما أكل لحم الجمل طاب أكله، مع أنه في بعض الملل لا يؤكل وكذلك الأرنب، روى أبو هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: «مَثَلِي ومَثَلُ الأنبياء كَمَثَلِ قَصْرِ أُحْكِمَ بُنْيَانُهُ تُرِكَ مِنْهُ مَوْضِعُ لَبِنَةٍ فَطَافَ بِهِ النُّظَّارُ يَتَعَجَّبُونَ مِنْ حُسْنِ بِنَائِهِ إِلاَّ مَوْضِعَ تِلْكَ اللَّبِنَةِ لاَ يُجِيبُونَ سِوَاهَا فَكُنْت أنَا مَوْضِع تِلْكَ اللَّبِنَةِ خُتِمَ بِهِ البُنْيَانُ، وَخُتِمَ بِي الرُّشْدُ»، وقال - عليه (الصلاة و) السلام: «إنَّ لِي أسْمَاءَ أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا الماحِي يَمْحُو اللَّهُ بِيَ الكُفْرَ، وَأَنَا الحَاشِرُ الَّذِي يَحْشُرُ اللَّهُ النَّاسَ عَلَى قَدَمِيَ وأَنَا العَاقِبُ» والعاقِبُ الذَّي لَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ.
قوله
: ﴿يا
أيها
الذين آمَنُواْ اذكروا الله ذِكْراً كَثِيراً﴾
قال ابن عباس: لم يفرض الله على عباده فريضة إلا جعل حدّاً معلوماً ثم عذر أهلها في حال العذر غير الذكر فإنه لم
559
يجعل له حداً ينتهي إليه ولم يعذر أهله في تركه إلا مغلوباً على عقله وأمرهم به في الأحوال كلها، فقال: ﴿فاذكروا الله قِيَاماً وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِكُمْ﴾ [النساء: ١٠٣] وقال: ﴿اذكروا الله ذِكْراً كَثِيراً﴾ أي بالليل والنهار، والبرِّ والبحر والصحة والسِّقَم في السر والعلانية وقال مجاهد: الذكر الكثير أن لا ينساه أبداً ﴿وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾ أي صلوا له بكرة يعني صلاة الصبح و «أصيلاً» يعني صلاة العصر، وقال الكلبي: «وأصيلاً» صلاة الظهر والعصر والعشاء، وقال مجاهد معناه: قولوا: سبحانَ اللَّهِ والحمدُ لله ولا إله إلا الله واللَّه أكبر ولا حَوْلَ ولا قوة إلى بالله فعبر بالتسبيح عن أخواته، وقيل: المراد من قوله: «ذكْراً كَثيراً» هذه الكلمات يقولها الطاهرُ والخبيثُ والمحدث.
قوله: ﴿هُوَ الذي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ﴾ الصلاة من الله الرحمة، ومن الملائكة الاستغفار للمؤمنين فذكر صلاته تحريضاً للمؤمنين على الذكر والتسبيح، قال السدي: قالت بنو إسرائيل لموسى: أيصلي ربنا؟ فكَبُرَ هذا الكلام على موسى فأوحى الله إليه قل لهم: إنِّي أصلي وإن صلاتي رحمتي وقد وسعت رحمتي كُلَّ شيء. وقيل: الصلاة من الله هي إشاعة الذكر الجميل له في عباده، وقيل: الثناء عليه. قال أنس: لما نزلت إن الله وملائكته يصلون على النبي قال أبو بكر: ما خَصَّك الله يا رسول الله بشرف إلا وقد أشركنا فيه فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ هذه الآية.
قوله: «ومَلاَئِكَتُهُ» إما عطف على فاعل «يصلي»، وأغنى الفصل بالجار عن التأكيد بالضمير، وهذا عند من يرى الاشتراك أو القدر المشترك أو المجاز؛ لأن صلاة الله غير صلاتهم. وإما مبتدأ وخبره محذوف، أي «وملائكته يصلون» وهذا عند من يرى شيئاً مما تقدم جائزاً إلا أن فيه بحثاً، وهو أنهم نصوا على أنه إذا اختلف مدلولاً الخبرين فلا يجوز حذف أحدهما لدلالة الآخر عليه وإن كانا بلفظ واحد، فلا تقول: «زَيْدٌ ضَاربٌ وَعَمرٌو» يعني وعمرو ضاربٌ في الأرضِ أي مُسِافِرٌ.
560

فصل


الصلاة من الله رحمة، ومن الملائكة استغفار، فقيل: إن اللفظ المشترك يجوز استعماله في مَعْنَيَيْهِ معاً وكذلك الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ جائز. قال ابن الخطيب: وينسب هذا القول للشافعي رَحِمَهُ اللَّهُ، وهو غير بعيد؛ وذلك لأن الرحمة والاستغفار مشتركان في العناية بحال المرحوم والمستغفر له والمراد هو القدر المشترك فتكون الدلالة واحدة، ثم قال: ﴿لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور﴾ أي من ظلمةِ الكفر إلى نور الإيمان يعنى (أنه) برحمته وهدايته ودعاء الملائكة لكم أخرجكم من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان.
﴿وَكَانَ بِالمُؤْمِنِينَ رَحِيماً﴾ وهذا بشارة لجميع المؤمنين وأشار بقوله: «يصلي عليكم» أن هذا غير مختص بالسامعين وقت الخطاب. قوله: «تَحِيَّتُهُمْ» يجوز أن يكون مصدراً مضافاً لمفعوله، وأن يكون مضافاً لفاعله ومفعوله على معنى أن بعضهم يُحَيِّي بعصاً، فيصح أن لا يكون الضكير للفاعل والمفعول باعتبارين لا أنه يكون فاعلاً ومفعولاً من وجهٍ واحد وهو قول من قال: ﴿وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ﴾ [الأنبياء: ٧٨] أنه مضاف للفاعل والمفعول.

فصل


المعنى تحيةُ المؤمنين يَوْمَ يلقونه أي يرون الله سلام أي يسلم اللَّهُ عليهم ويسلمهم من جميع الآفات، وروي عن البراب بن عازب قال: تحيتهم يوم يلقونه سلام يعني ملك الموت لا يقبض روح مؤمن إلا سلم عليه. وعن ابن مسعود قال: إذا جاء ملك يقبض روح المؤمن قال: رَبُّكَ يُقْرِئُكَ السلام، وقيل: تسلم عليهم الملائكة تبشرهم حين يخرجون من قبورهم ثم قال: ﴿وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً﴾ يعني الجنة.
فإن قيل: الإعداد إنما يكون مِمَّن لا يقدر عند الحاجة إلى الشيء عليه، وأما الله تعالى فغير محتاج ولا عاجز فحيث يلقاه (و) يؤتيه ما يرضى به وزيادة فما معنى الإعداد من قبل؟.
فالجواب: أن الأعداد للإكرام لا للحاجة.
561
قوله: ﴿يا أيها النبي إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً﴾ أي شاهداً للرسل بالتبليغ «وَمُبَشِّراً» لمن آمن بالجنة و «نَذِيراً» لمن كذب بالنار «فشاهداً» حال مقدرة، أو مقارنة لقرب الزمان ﴿وَدَاعِياً إِلَى الله﴾ إلى توحيده وطاعته، وقوله «بِإِذْنِهِ» حال أي ملتبساً بتسهيله، ولا يريد حقيقة الإذن لأنه مستفاد من «أَرْسَلْنَاكَ».
قوله: «وَسِرَاجاً» يجوز أن يكون عطفاً على ما تقدم، إما على التشبيه، إما على حذف مضاف أي ذا سراج، وجوز الفَرَّاءُ أن يكون الأصل: وتالياً سراجاً، ويعني بالسِّراج القرآن، وعلى هذا فيكون من عطف الصفات وهي لذات واحدة، لأن التالي هو المرسل. وجوز الزمخشري أن يعطف على مفعول «أَرْسَلْنَاكَ» وفيه نظر لأن السراج هو القرآن ولا يوصف بالإرسال بل بالإنزال إلاَّ أن يقال: إنه حمل على المعنى كقوله:
٤٠٩٦ - فَعَلَفْتُهَا تِبْناً وَمَاءً بَارِداً [حَتَّ شَتَتْ هَمَّالَةً عَيْنَاهَا]
وأيضاً فيغتفر في الثواني ما لا يغفتر في الأوائل، وقوله: «مُنِيراً» لأنه يهتدى به كالسِّراج يستضاء به في الظلمة. واعلم أنَّ في قوله: «سِرَاجاً» ولم يقل: إنه شمس مع أن الشمس أشد إضاءة من السراج فائدةً وهي أن نور الشمس لا يؤخذ منه شيء، والسراج يؤخذ منه أنوار كثيرة إذا انطفى الأول يبقى الذي أخذ منه وكذلك إن غاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان كُلُّ صحابي كذلك سراجاً يؤخذ منه نور الهداية كما قال عليه (الصلاة و) السلام:
«أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ» وفي هذا الخبر لطيفة وهي أن النبي عليه (الصلاة و) السلام لم يجعل أصحابه كالسرج وجعلهم كالنجوم لأن النجم لا يؤخذ منه (نور) بل له في نفسه نور إذا غرب لا يبقى نور مستفاد منه فكذلك الصحابي إذا مات فالتابعي يستنير بنور النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولو جعلهم كالسِّراج والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان سراجاً كان للمجتهد أن يَسْتَنِيرَ بمَنْ أراد منهم، ويأخذ النور مِمَّن اختار وليس كذلك فإن مع
562
﴿ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ﴾ أي صلوا له بكرة يعني صلاة الصبح و «أصيلاً » يعني صلاة العصر، وقال الكلبي :«وأصيلاً » صلاة الظهر والعصر والعشاء، وقال مجاهد معناه : قولوا : سبحانَ اللَّهِ والحمدُ لله ولا إله إلا الله واللَّه أكبر ولا حَوْلَ ولا قوة إلى بالله فعبر بالتسبيح عن أخواته، وقيل : المراد من قوله :«ذكْراً كَثيراً » هذه الكلمات يقولها الطاهرُ والخبيثُ والمحدث١.
١ ذُكِرَتْ هذه الآراء في زاد المسير لابن الجوزي ٦/٣٩٨ ومعالم التنزيل للبغوي ٥/٢٦٦..
قوله :﴿ هُوَ الذي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ ﴾ الصلاة من الله الرحمة، ومن الملائكة الاستغفار للمؤمنين فذكر صلاته تحريضاً للمؤمنين على الذكر١ والتسبيح، قال السدي : قالت٢ بنو إسرائيل لموسى : أيصلي ربنا ؟ فكَبُرَ هذا الكلام على موسى فأوحى الله إليه قل لهم : إنِّي أصلي وإن صلاتي رحمتي وقد وسعت رحمتي كُلَّ شيء. وقيل : الصلاة من الله هي إشاعة الذكر الجميل له في عباده، وقيل : الثناء عليه. قال أنس : لما نزلت إن الله وملائكته يصلون على النبي قال أبو بكر : ما خَصَّك الله يا رسول الله بشرف إلا وقد أشركنا فيه فأنزل الله عز وجل هذه٣ الآية.
قوله :«ومَلاَئِكَتُهُ » إما عطف على فاعل «يصلي »، وأغنى الفصل بالجار عن التأكيد بالضمير٤، وهذا عند من يرى الاشتراك أو القدر المشترك أو المجاز٥ ؛ لأن صلاة الله غير صلاتهم. وإما مبتدأ وخبره محذوف، أي «وملائكته يصلون » وهذا عند من يرى شيئاً مما تقدم جائزاً إلا أن فيه بحثاً، وهو أنهم نصوا على أنه إذا اختلف مدلولا الخبرين فلا يجوز حذف أحدهما لدلالة الآخر عليه وإن كانا بلفظ واحد، فلا تقول :«زَيْدٌ ضَاربٌ وَعَمرٌو » يعني وعمرو ضاربٌ في الأرضِ أي مُسِافِرٌ٦.

فصل :


الصلاة من الله رحمة، ومن الملائكة استغفار، فقيل : إن اللفظ المشترك يجوز استعماله في مَعْنَيَيْهِ معاً وكذلك الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ جائز. قال ابن الخطيب٧ : وينسب هذا القول للشافعي رحمه الله، وهو غير بعيد ؛ وذلك لأن الرحمة والاستغفار مشتركان في العناية بحال المرحوم والمستغفر له والمراد هو القدر المشترك فتكون الدلالة واحدة، ثم قال :﴿ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظلمات إِلَى النور ﴾ أي من ظلمةِ الكفر إلى نور الإيمان يعنى ( أنه )٨ برحمته وهدايته ودعاء الملائكة لكم أخرجكم من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان.
﴿ وَكَانَ بِالمُؤْمِنِينَ رَحِيماً ﴾ وهذا بشارة لجميع المؤمنين وأشار بقوله :«يصلي عليكم » أن هذا غير مختص بالسامعين وقت الخطاب. قوله :«تَحِيَّتُهُمْ » يجوز أن يكون مصدراً مضافاً لمفعوله، وأن يكون مضافاً لفاعله ومفعوله على معنى أن بعضهم يُحَيِّي بعصاً، فيصح أن يكون الضمير للفاعل والمفعول باعتبارين لا أنه يكون فاعلاً ومفعولاً من وجهٍ واحد٩ وهو قول من قال :﴿ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ﴾ [ الأنبياء : ٧٨ ] أنه مضاف للفاعل والمفعول.
١ قاله الإمام الفخر الرازي في تفسيره ٢٥/٢١٥..
٢ ذكر الخازن والبغوي في تفسيريهما هذه الأقوال ٥/٢٦٦ وانظر: القرطبي ١٤/١٩٨..
٣ معالم التنزيل للبغوي المرجع السابق ٥/٢٦٦..
٤ حيث إن من شرط العطف على الضمير المرفوع المنفصل بظاهر أن يؤكد هذا الضمير بضمير مثله كقوله تعالى:﴿اسكن أنت وزوجك الجنة﴾..
٥ قال الزمخشري: "جعلوا لكونهم مستجابي الدعوة كأنهم فاعلون الرحمة والرأفة" فكأنه يرى صحة العطف وانظر الدر المصون ٤/٢٩٣..
٦ يعني لأن الصلاة من الله الرحمة ومن الملائكة الاستغفار فقد اختلف المعنيان وإن كانا بلفظ واحد. وانظر الدر المصون للسمين ٤/٢٩٣٩..
٧ قاله فخر الدين الرازي في تفسيره ٢٥/٢١٥..
٨ سقط من "ب"..
٩ قاله في البحر المحيط ٧/٢٣٨ والدر المصون ٤/٣٩٣..

فصل :


المعنى تحيةُ المؤمنين يَوْمَ يلقونه أي يرون الله سلام أي يسلم اللَّهُ عليهم ويسلمهم من جميع الآفات، وروي عن البراء بن عازب١ قال : تحيتهم يوم يلقونه سلام يعني ملك الموت لا يقبض روح مؤمن إلا سلم عليه. وعن ابن مسعود٢ قال : إذا جاء ملك يقبض روح المؤمن قال : رَبُّكَ يُقْرِئُكَ السلام، وقيل : تسلم عليهم الملائكة تبشرهم حين يخرجون٣ من قبورهم ثم قال :﴿ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً ﴾ يعني الجنة.
فإن قيل : الإعداد إنما يكون مِمَّن٤ لا يقدر عند الحاجة إلى الشيء عليه، وأما الله تعالى فغير محتاج ولا عاجز فحيث يلقاه ( و )٥ يؤتيه ما يرضى به وزيادة فما معنى الإعداد من قبل ؟.
فالجواب : أن الأعداد للإكرام لا للحاجة٦.
١ تفسير البغوي ٥/٢٦٦ المسمى معالم التنزيل..
٢ المرجع السابق..
٣ المرجع السابق وانظر: القرطبي ١٤/١٩٩..
٤ قاله الإمام الفخر الرازي في تفسيره التفسير الكبير ٢٥/٢١٦..
٥ الواو ساقطة من الفخر الرازي ومن "ب"..
٦ كذا هي في تفسير الرازي و "أ" هنا. وما في "ب" لا لحاجة بدون ألف التعريف..
قوله :﴿ يا أيها النبي إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً ﴾ أي شاهداً للرسل بالتبليغ «وَمُبَشِّراً » لمن آمن بالجنة و «نَذِيراً » لمن كذب بالنار «فشاهداً » حال مقدرة، أو مقارنة لقرب الزمان١
١ قال بذلك أبو حيان في البحر ٧/٢٣٨ والسمين في الدر ٤/٣٩٣..
﴿ وَدَاعِياً إِلَى الله ﴾ إلى توحيده وطاعته، وقوله «بِإِذْنِهِ » حال أي ملتبساً بتسهيله، ولا يريد حقيقة الإذن لأنه مستفاد من «أَرْسَلْنَاكَ »١.
قوله :«وَسِرَاجاً » يجوز أن يكون عطفاً على ما تقدم، إما على التشبيه، إما على حذف مضاف أي ذا سراج٢، وجوز الفَرَّاءُ أن يكون الأصل : وتالياً سراجاً، ويعني بالسِّراج القرآن٣، وعلى هذا فيكون من عطف الصفات وهي لذات واحدة، لأن التالي هو المرسل. وجوز الزمخشري أن يعطف على٤ مفعول «أَرْسَلْنَاكَ » وفيه نظر لأن السراج هو القرآن ولا يوصف بالإرسال بل بالإنزال إلاَّ أن يقال : إنه حمل على المعنى كقوله :
٤٠٩٦ - فَعَلَفْتُهَا تِبْناً وَمَاءً بَارِداً [ حَتَّى شَتَتْ هَمَّالَةً عَيْنَاهَا ]٥
وأيضاً فيغتفر في الثواني ما لا يغتفر في الأوائل، وقوله :«مُنِيراً » لأنه يهتدى٦ به كالسِّراج يستضاء به في الظلمة. واعلم٧ أنَّ في قوله :«سِرَاجاً » ولم يقل : إنه شمس مع أن الشمس أشد إضاءة من السراج فائدةً وهي أن نور الشمس لا يؤخذ منه شيء، والسراج يؤخذ منه أنوار كثيرة إذا انطفى الأول يبقى الذي أخذ منه وكذلك إن غاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كان كُلُّ صحابي كذلك سراجاً يؤخذ منه نور الهداية كما قال عليه ( الصلاة٨ و ) السلام :
«أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ »٩ وفي هذا الخبر لطيفة وهي أن النبي عليه ( الصلاة١٠ و ) السلام لم يجعل أصحابه كالسراج وجعلهم كالنجوم لأن النجم لا يؤخذ منه ( نور١١ ) بل له في نفسه نور إذا غرب لا يبقى نور مستفاد منه فكذلك الصحابي إذا مات فالتابعي يستنير بنور النبي - صلى الله عليه وسلم – ولا يأخذ إلا قول النبي – عليه ( الصلاة١٢ و ) السلام- وعليه فأنوار المجتهدين كلهم من النبي- صلى الله عليه وسلم- ولو جعلهم كالسِّراج والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان سراجاً كان للمجتهد أن يَسْتَنِيرَ بمَنْ أراد منهم، ويأخذ النور مِمَّن اختار وليس كذلك فإن مع نص النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يُعْمَل بقول الصَّحابيِّ بل يؤخذ النور من النبي ولا يؤخذ من الصحابي، فلم يجعله سراجاً.
١ المرجعان السابقان..
٢ السابقان..
٣ نقل هذا الرأي للفراء أبو حيان في بحره ٧/٢٣٨ ولم أجده في كتابه معاني القرآن ولعله في كتاب آخر له..
٤ قال: " ويجوز أن يعطف على كاف أرسلناك" انظر: الكشاف ٣/٢٦٦..
٥ هذا بيت من الرجز ذكره الفراء في معانيه ١/١٤ ونسبه لبعض بني أسد، وفي ٣/١٢٤ ونسبه لبعض بني دبير وقد نسبه ابن جني في الخصائص لذي الرمة. انظر: الخصائص ٢/٤٣١. وانظر: الدر المصون ٤/٩٠ و ٣٩٤ واللسان: " ع ل ف" ٣٠٧٠، والحجة للفارسي ١/٢٣٣ وأمالي المرتضى ٢/٢٥٩..
٦ في "ب" مهتدى بالاسمية..
٧ قرره الفخر الرازي في تفسيره ٢٥/٢١٧..
٨ ساقط من "ب"..
٩ المرجع السابق..
١٠ سواقط من "أ" والفخر الرازي وزيادة من "ب"..
١١ سواقط من "أ" والفخر الرازي وزيادة من "ب"..
١٢ سواقط من "أ" والفخر الرازي وزيادة من "ب"..
قوله :«وَبَشِّر المُؤْمِنِينَ » عطف على مفهوم تقديره :«إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً ومُبَشراً فاشْهَدْ وبَشِّرْ } ولم يذكر «فاشهد » للاستغناء عنه، وأما البشارة فذكرت إشارة للكرم، ولأنها غير واجبة لولا الأمر١. وقوله ﴿ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ الله فَضْلاً كِبِيراً ﴾ كقوله تعالى :﴿ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً عَظِيماً ﴾ والعظيم والكبير متقاربان.
١ قاله الرازي في تفسيره (٢٥/٢١٨)، وفيه: إبانة للكرم، وليس إشارة..
قوله :﴿ وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين ﴾ تقدم تفسيره أول السورة، وهو إشارة إلى الإِنذار يعني خالفهم ورُدَّ عليهم.
قوله :«وَدَعْ أَذَاهُمْ » يجوز أن يكون «أَذَاهُمْ » مضافاًً لمفعوله أي اترك أذاك لهم، أي عقابك إياهم١.
قال الزجاج : لا تجازهم٢ عليه، وهذا منسوخ بآيةِ السيف، ويجوز أن يكون مضافاً لفاعله أي اترك ما٣ أَذَوْكَ به فلا تؤاخذهم حتى تُؤْمَر أي دعه إلى الله فإنه يعذبهم بأيديكم وبالنار وبين هذا قوله تعالى :﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الله وكفى بالله وَكِيلاً ﴾ أي حافظاً.
١ الدر المصون ٤/٣٩٤..
٢ معاني القرآن وإعرابه له ٤/٢٣١..
٣ الدر المصون المرجع السابق..
نص النبي - صلى الله عيه وسلم - لا يُعْمَل بقول الصَّحابيِّ بل يؤخذ النور من النبي ولا يؤخذ من الصحابي، فلم يجعله سراجاً.
قوله: «وَبَشِّر المُؤْمِنِينَ» عطف على مفهوم تقديره: «إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً ومُبَشراً فاشْهَدْ وبَشِّرْ} ولم يذكر» فاشهد «للاستغناء عنه، وأما البشارة فذكرت إشارة للكرم، ولأنها غير واجبة لولا الأمر. وقوله ﴿بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ الله فَضْلاً كِبِيراً﴾ كقوله تعالى: ﴿وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً عَظِيماً﴾ والعظيم والكبير متقاربان.
قوله: ﴿وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين﴾ تقدم تفسيره أو السورة، وهو إشارة إلى الإِنذار يعني خالفهم ورُدَّ عليهم.
قوله:»
وَدَعْ أَذَاهُمْ «يجوز أن يكون» أَذَاهُمْ «مضافً لمفعوله أي اترك أذاك لهم، أي عقابك إياهم.
قال الزجاج: لا تجازهم عليه، وهذا منسوخ بأيةِ السيف، ويجوزم أن يكون مضافاً لفاعله أي اترك ما أَذَوْكَ به فلا تؤاخذهم حتى تُؤْمَر أي دعه إلى الله فإنه يعذبهم بأيديكم وبالنار وبين هذا قوله تعالى: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الله وكفى بالله وَكِيلاً﴾ أي حافظاً.
قوله
: ﴿يا
أيها
563
قبلها هو أن الله تعالى في هذه السورة مكارم الأخلاق وأدب نبيه على ما تقدم والله تعالى أمر عباده المؤمنين بما أمر به نبيه فكلما ذكر لنبيّه مكرمةٌ، وعلَّمَه أدباً ذكر للمؤمنين ما يناسبه، ولما بدأ الله تعالى في تأديب النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ذكر ما يتعلق بجانب الله تعالى بقوله: ﴿ياا أَيُّهَا النبي اتق الله﴾ [الأحزاب: ١] وثنى بما يتعلق بجانب من هو تحت يده من أزواجه بقوله: بعده ﴿يا أيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ﴾ [الأحزاب: ٢٨، ٥٢] وثلث بما يتعلق بجانب العامة بقوله: ﴿يا أيها النبي إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً﴾ [الأحزاب: ٤٥] كذلك بدأ في إرشاد المؤمنين بما يتعلق بجانب الله فقال: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ اذكروا الله ذِكْراً كَثِيراً﴾ [الأحزاب: ٤١] ثم ثنى بما يتعلق بجانب من تحت أيديهم بقوله: ﴿يا أيها الذين آمنوا إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات﴾ ثم كما ثلث في تأديب بجانب الأمة ثَلَّث في حق المؤمنين بما يتعلق بهم فقال بعد هذا: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي﴾ [الأحزاب: ٥٣] وبقوله: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ﴾ [الأحزاب: ٥٦] فإن قيل: إذا كان هذا إرشاداً إلى ما يتعلق بجانب من هو خواص المرء فلم خص المطلقات اللاتي طلقن قبل المسيس؟.
فالجواب: هذا إرشاد إلى أعلى درجات المكرمات ليعلم منها ما دونها، وبيانه أن المرأة إذا طلقت قبل المسيس لم يحصل بينهما تأكد العهد، ولهذا قال تعالى في حق المَمْسُوسَة: ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً﴾ [النساء: ٢١] فإذا أمر الله (تعالى) بالتمتع والإحسان مع من لا مودة بينه وبينهما فلما ظنك بمن حصلت المودة بالنسبة إليها بالإفضاء أو حصل تأكدها بحصول الولد بينهما، وهذا كقوله تعالى: ﴿فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا﴾ [الإسراء: ٣٢] لو قال: لا تضربهما ولا تشتمهما ظن أنه حرام لمعنى مختص بالضرب أو الشتم، فأما إذا قال: ﴿لا تقل لهما أف﴾ علم من معانٍ كثيرةٍ فكذلك ههنا لما أمرنا بالإحِسان مع من لا مودة معها علم منه الإِحسان مع الممسوسة ومن لم تطلق بعدُ ومن ولدت عنده منه.
قوله: «ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ» إن قيل: ما الفائدة بالإتيان «بثُمَّ» وحكم من طلقت على الفور بعد العقد كذلك؟ فالجواب: أنه جرى على الغالب. وقال الزمخشري: نفى التوهم عمن عسى يتوهم تفاوت الحكم بين أن يطلقها قريبة العهد بالنكاح وبين أن يبعُدَ عهدها بالنكاح وتتراخى بها المرأة في حُبَالَة الزوج ثم طلّقها. قال أبو حيان:
564
واستعمل «عسى» صلة لمن وهو لا يجوز. «قال شهاب الدين» يخرج قوله على ما خرج عليه قول الآخَر:
الذين آمنوا إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ﴾ الآية وجه تعلق الآية بما
٤٠٩٧ - وَإِني لَرَامٍ نَظْرَةً قِبَلَ الَّتِي لَعَلِّي - وَإِنْ شَطَّتْ نَوَاهَا - أَزُورُهَا
وهو إضمار القول، وفي هذه الآية دليل على أن تعليق الطلاق قبل النكاح لا يصح، لأن الله تعالى رتب الطلاق على النكاح بكلمة «ثم» وهي للتراخي حتى (و) لو قال لأجنبية: إِذَا نَكَحْتُكَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، أو كل امرأة أتزوجها فهي طالق فنكح، لا يقع الطلاق، وهو قول عَلِيٍّ، وابنِ مسعود، وجابر، ومعاذٍ، وعائشةَ. وبه قال سعيد بن أبي المسيب، وعُرْوَةُ، وشُرَيْحٌ، وسعيد بنُ جبير، والقاسمُ، وطاوسٌ والحسنُ، وعكرمةُ، وعطاءُ بن يَسَارِ، والشّعبيُّ، وقتادةُ، وأكثر أهل العلم. وبه قال الشافعيُّ، وأحمدُ. وروى عن ابن مسعود أنه قال: يقع الطلاق وهو قول إبراهيم النَّخَعِيِّ وأصحابِ الرأي، وقال ربيعةُ ومالكٌ والأوزاعِيُّ: إن عين امرأةً يقع، وإن عم فلا يقع، ورى عكرمة عن ابن عباس قال: كذبوا على ابن مسعود إن كان قالها فزلة من عالم في الرجل يقول: إن تزوجت فلانة فهي طالق، يقول الله تعالى: ﴿إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ﴾ ولم يقل: «إِذَا طَلَقْتُمُوهنَّ ثُمَّ نَكَحْتُمُوهُنَّ» وروى عطاء عن جابر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «لاَ طَلاَقَ قَبْلَ النِّكَاحِ»
قوله: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ تجامعوهن ﴿فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا﴾ أي تحصونها وتستوفونها بالأقراء والأشهر، «فتعتدونها» صفة «لعدة» وتعتدونها تفتعلونها إما من العَدَد، وإما من الاعْتِدَادِ أي تحتسبونها أو تستوفون عددها من قولك: عَدَّ الدَّرَاهِمَ فَاعْتَدَّهَا أي استوفى عددها، نحو: كِلْتُهُ فَاكْتَالَهُ، ووَزنتهُ فاتَّزَنَهُ، وقرأ ابن
565
كثير - في رواية - وأهل مكة بتخفيف الدال وفيها وجهان:
أحدهما: أنها من الاعتداد وإنما كرهوا تضعيفه فخفَّفوه؛ قاله الرازي، قال: ولو كان من الاعتداء الذي هو الظلم لضعف، لأن الاعتداء يتعدى «بعلى». قيل: ويجوز أن يكون من الاعتداء وحذف حرف الجر أي تَعْتَدُونَ عَلَيْهَا أي على العدة مجازاً، ثم تعتدونها كقوله:
٤٠٩٨ - تَحِنُّ فَتُبْدِي مَا بِهَا مِنْ صَبَابِةٍ وَأُخْفِي الَّذِي لَوْلاَ الأَسَى لَقَضَانِي
أي لقَضَى عَلَيَّ، وقال الزمخشري: وقرىء تَعْتَدُونَهَا مخففاً أي تعتدون فيها كقوله:
٤٠٩٩ - ويَوْم شَهِدْنَاهُ سُلَيْمَى وَعَامراً قَلِيل سِوَى الطَّعْنِ النَّهَال نَوَافِلُهْ
وقيل: معنى تعتدونها أي تعتدون عليهن فيها، وقد أنكر ابن عطية القراءة عن ابن كثير وقال: غلط ابن أبي بزة عنه، وليس كما قال.
والثاني: أنها من العدوان (والاعتداء) وقد تقدم شرحه، واعتراض أبي الفضل عليه بأنه كان ينبغي أن يتعدى «بعلى» وتقدم جوابه، وقرأ الحسن «تعْتدونها» - بسكون العين وتشديد الدال - وهو جمع بين ساكنين على (غير) حديهما.
566

فصل


دلت هذه الآية على أن العدة حق الزوج فيها غالب وإن كان لا يَسْقُطُ بإسقاطه؛ لما فيه من حق الله تعالى.
ثم قال: «فَمَتِّعُوهُنَّ» أي أعطُوهُنَّ ما يستمتعن به قال ابن عباس: هذا إذا لم يكن سمى لها صداقاً فلها المتعة، وإن كان فرض لها صداقاً فلها نصف الصداق ولا متعة لها، وقال قتادة: هذه الآية منسوخة بقوله: ﴿فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ [البقرة: ٢٣٧]، قيل: إنه عام وعلى هذا فهل هو أمر وجوب أو أمر استحباب؟ فقيل: للوجوب فتجب المتعة مع نصف المهر، وقيل: للاستحباب فيستحب أن يمتعها مع الصداق بشيء، ثم قال: ﴿وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً﴾ أي خلوا سبيلهن بالمعروف من غير ضرار، وقيل: السراح الجميل: أن لا يطالبها بما آتاها.
قوله تعالى: ﴿يا أيها النبي إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ﴾ أي مهورهن ﴿وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ﴾ وقوله: ﴿مِمَّآ أَفَآءَ الله عَلَيْكَ﴾ رد عليك من الكفار بأن تَسْبِي فتملك، وهذا بيان لما ملكت، وليس هذا قيداً بل لو ملكت يمينه بالشراء كان الحكم كذا، وإِنَّما خرج مَخْرَج الغالب. واعلم أنه ذكر للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ما هو أولى فإن الزوجة التي أُوتِيَتْ مهرها أطيب قلباً من التي لم تؤت والمملوكة التي سَبَاها الرجل بنفسه أطهر من التي اشتراها الرجل لأنه لا يدري كيف حالها، ومن هاجرت من أقارب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - معه أشرف ممن لم تهاجِر، وقال بعضهم: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ما كان يستوفي ما لا يجب له والوطء قبل إيتاء الصداق غير مستحق وإن كان حالاً لنا وكيف والنبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ إذا طلب شيئاً حرم الامتناع على المطلوب؟ والظاهر أن الطالب في المرة الأولى إنما هو الرجل لحياء المرأة فلو طلب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من المرأة التمكين قبل المهر للزم أن يجب وأن لا يجب وهو محال ولا كذلك أحدنا ويؤكد هذا قوله: ﴿وامرأة مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ﴾ يعني حينئذ لا يبقى لها صداق فتصير كالمستوفية مهرها.
واعلم أن اللاتي يملكت يمينه مثل صفية، وجُوَيْريَة، ومَارِيَة ﴿وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ﴾ يعني نساء قريش ﴿وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ﴾ يعني نساء بني زُهْرَة ﴿اللاتي هَاجَرْنَ مَعَكَ﴾ إلى المدينة فمن لم تهاجر معه منهم لم يجز له نكاحها، روى أبو صالح عن أم هانىء أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما فتح مكة خطبني لإنزل الله هذه الآية فلم أحل له
567
لأني لم أكن من المهاجرات وكنت من المطلقات، ثم نسخ شرط الهجرة في التحليل.
قوله «وامرْأَةً» العامة على النصب وفيه وجهان:
أحدهما: أنها عطف على مفعول «أَحْلَلْنا» أي وأحْلَلْنَا لك امرأة ً موصوفة بهذين الشرطين، قال أبو البقاء وقد رد هذا قوم، وقالوا: «أَحْلَلْنا» ماضٍ، و «إنْ وَهَبَتْ» - وهو صفة للمرأة - مستقبل، «فأحللنا» في موضع جوابه، وجواب الشرط لا يكون ماضياً في المعنى، قالك وهذا ليس بصحيح لأم معنى الإحلال ههنا الإعلام بالحل إذا وقع الفعل على ذلك كما تقول: «أَبَحْتُ لَكَ أَنْ تُكَلِّمَ فُلاَناً إِنْ سَلَّمَ عَلَيْكَ».
والثاني: انه ينتصب بمقدر تقديره: «ويُحِلُّ لك امرأةً».
قوله: «إنْ وَهَبَتْ، إِنْ أَرَادَ» هذا من اعتراض الشرط على الشرط، والثاني هو قيد في الأول ولذلك نعربه حالاً، لأن الحال قيد، ولهذا اشترط الفقهاء أن يتقدم الثاني على الأول في الوجود. فلو قال: إن أَكَلْتُ إنْ رَكِبْتُ فأنتِ طالقٌ، فلا بد أن يتقدم الركوب على الأكل، وهذا له تحقق الحالية والتقييد كما ذكرنا، إذ لو لم يتقدم لخلا جزء من الأكل غير مقيد بركوب فلهذا اشترطنا تقدم الثاني وقد مضى تحقيق هذا وأنه يشترط أن لا تكون ثَمَّ قرينة تمنع من تقدم الثاني على الأول كقوله: «إنْ تَزَوَّجْتُك إِنْ طَلَّقْتُكِ فعَبْدِي حُرٌّ» (لأنه) لا يتصور هنا تقديمُ الطلاق على التَّزويج.
قال شهاب الدين: وقد عرض لي إشكال على ما قاله الفقهاء بهذه الآية وذلك أن الشرط الثاني هنا لا يمكن تقدمه في الوجود بالنسبة إلى الحكم الخاص بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لا أنه لا يمكن عقلاً، وذلك ان المفسرين فسروا قوله تعالوا: «إنْ أَرَادَ» بمعنى قبل الهِبَة لأن بالقبول منه (عليه الصلاة و) السلام يتم نكاحه وهذا لا يتصور تقدمه على الهبة إذ القبول متأخر، وأيضاً فإن القصة كانت على ما ذكرته من تأخر إرادته من هِبَتها وهو مذكور في التفسير، وأبو حيان لما جاء إلى ههنا جعل الشرط الثاني متقدماً على
568
الأول على القاعدة العامة، ولم يسشكل شيئاً مما ذكرته، وقد عرضت هذا الإِشكال على جماعة من أعيان زماننا فاعترفوا به ولم يظهر عن جواب إلا ما قدمته من أنه ثم قرينة مانعة من ذلك كما مثلته آنفاً، وقرأ أبو حيوة «وامْرَأَةٌ» بالرفع على الابتداء، والخبر مقدر، أي أَحْلَلْنَا لَكَ أَيْضاً. وفي قوله: ﴿إِنْ أَرَادَ النبي﴾ التفات من الخطاب إلى الغيبة بلفظ الظاهر تنبيهاً على أن سبب ذلك النبوة، ثم رجع إلى الخطاب فقال: «خَالِصَةً لَكَ»، وقرأ أبي والحسن وعيسى «أَنْ» بالفتح، وفيه وجهان:
أحدها: أنه بدل من «امرأة» بدل اشتمال قاله أبو البقاء، كأنه قيل: وأحْلَلْنَا لك هِبَةَ المَرْأَةِ نَفْسَهَا لَكَ.
قوله: «خالصة» العامة على النصب وفيه أوجه:
أحدها: أنه منصوب على الحال من فاعل «وَهَبَتْ» أي حال كونها خالصةً لك دُونَ غَيْرِكَ.
الثاني: أنها حال من «امرأة» لأنها وصفت فتخصصت، وهو بمعنى الأول، وإليه ذهب الزجاج.
الثالث: أنها نعت مصدر مقدر أي هبة خالصة فنصبها «بوَهَبَتْ».
الرابع: أنها مصدر مؤكد «كوَعْدَ اللَّهِ، قال الزمخشري: والفاعل والفاعلة في
569
المصادر غير عزيزين كالخَارجِ والقَاعِدِ، والكاذِبَةِ والعَافِيَةِ يريد بالخارج ما في قول الفرزدق:
٤١٠٠ -......................... وَلاَ خَارِجاً مِنْ فِيَّ زُورُ كَلاَمِ
وبالقاعد ما في قولهم:» أَقَاعِداً وَقَدْ سَارَ الرَّكْبُ «، وبالكاذبة ما في قوله تعالى: ﴿لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ﴾ [الواقعة: ٢]، وقد أنكر أبو حيان عليه قوله:» غير عزيزين «وقال: بل هما عزيزان، وما ورد متأول، وقرىء:» خَالِصَةٌ «بالرفع، فإن كانت» خالصة «حالاً قدر المبتدأ» هي «أي المرأة الواهبة، وإن كانت مصدراً قدر فتلك الحالة خالصة، و» لك «على البيان أي أعني لك نحو:» سَقْياً لَكَ «.

فصل


المعنى: أحللنا لك امرأة مؤمنة وهبت نفسها لك بغير صداق، فأما غير المؤمنة فلا تَحِلُّ له إذا وهبت نفسها منه، واختلفوا في أنه هل كان يحِل للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نكاح اليهودية والنصرانية، فذهب أكثرهم إلى أنه كان لا يحل له ذلك لقوله:»
وامرأة مؤمنة «وأول بعضهم الهجرة في قوله:» هَاجَرْنَ مَعَكَ «يعني على الإسلام أي أسلمن معك، فيدل ذلك على أنه لا يحل نكاح غير المسلمة. وكان نكاح ينعقد في حقه بمعنى الهبة من غير ولي ولا شهود ولا مَهْرٍ، وكان ذلك من خصائصه عليه (الصلاة و) السلام - لقوله تعالى: ﴿خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ المؤمنين﴾ كالزيادة على الأدب ووجوب تخيير النساء من خصائص لا مشاركة لأحد معه، واختلفوا في انعقاد النكاح بلفظ الهبة في حق الأمة، فقال سعيد بن المسيب والزهري ومجاهد وعطاء: لا ينعقد إلا بلفظ النكاح أو
570
التزويج، وبه قال ربيعة ومالك والشافعي، ومعنى الآية أنّ إباحة الوطء بالهبة وحصول التزويج بلفظها من خواصه عليه السلام. وقال النخعيُّ وأبو حنيفةَ وأهلُ الكوفة ينعقد بلفظ الهبة والتمليك وأن معنى الآية أن تلك المرأة صارت خالصة لك زوجةً من أمهات المؤمنين ولا تحل لغيرك أبداً بالتزويج وأجيب بأن هذا التخصيص بالواهبة لا فائدة فيه فإن أزواجه كلهن خالصات له، وما ذكرناه (يتبين) للتخصيص فائدة.

فصل


اختلفا في التي وهبت نفسها لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هل كانت عنده امرأة منهن فقال عبد الله بن عباس ومجاهد: لم يكن عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - امرأة وهبت نفسها منه ولم يكن عنده امرأة إلا بعقد نكاح أو ملك يمين، وقوله» وَهَبَتْ نَفْسَهَا «على طريق الشرط والجزاء، وقيل: بل كانت موهوبة واختلفوا فيها، فقال الشعبي: هي زينب بنت خزيمة الهلالية يقال لها: أم المساكين، وقال قتادة: هي ميمونة بنت الحارث، وقال علي بن الحسين والضحاك ومقاتل: أمّ شريك بنت جابر من بني أسد، وقال عروة بن الزبير: هي خولة بنت حكيم من بني سُلَيْم.
قوله: ﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا﴾ أوجبنا على المؤمنين «فِي أَزواجِهِمْ»
من الأحكام أن لا يتزوجوا أكثر من أربع ولا يتزوجوا إلا بولي وشهود ومهر ﴿وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾ أي ما أوجبنا من الأحكام في ملك اليمين، وإنما ذكر هذا لئلا يحمل واحدٌ من المؤمنين نفسه على ما كان النبي عليه السلام فإن له في النكاح خصائصَ ليست لغيره، وكذلك في السَّرَارِي.
قوله: «لِكَيْلاَ» يتعلق «بخالصة» وما بينهما اعتراض و «مِنْ دُونِ» متعلق «بخالصة» كما تقول: خَلَص مِنْ كَذَا.
571

فصل


قال المفسرون: هذا يرجع إلى أول الآية أي أحللنا لك أزواجَك وما ملكت يمينك والموهبة ﴿لكيلا يكون عليك حرج﴾ ﴿وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً﴾ يغفر الذنوب جميعاً ويرحم العبيد.
قوله: «تُرْجِي» أي تؤخر ﴿مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وتؤويا إِلَيْكَ﴾ أي تضم إِلَيْكَ «مَنْ تَشَاءُ» واختلف المفسرون في معنى الآية فأشهر الأقاويل أنه في القسم بينهن وذلك أن التسوية بينهن في القسم كان واجباً عليه، فلما نزلت هذه الآية سقط عنه وصار الاختيار إليه فيهن. قال أبو رزين وابنُ زيد نزلت هذه الآية حين غار بعض أمهات المؤمنين على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وطلب بعضهن زيادة النفقة وهجرهن النبي - صلى الله علي وسلم - شهراً حتى نزلت آية التخيير فأمره الله - عَزَّ وَجَلَّ - أن يُخَيرَهُن بين الدنيا والآخرة وأن يخلي سبيل من اختارت الدنيا، ويمسك من اختارت الله ورسوله والدار الأخرة على أنهن أمهات المؤمنين فلا يُنكحن أبداً وعلى أنه يؤوي إليه من يشاء منهن ويرجي من يشاء فيرضين به قَسَم لهن أو لم يقسم أو قسم لبعض دون بعض أوفضل بعضهن على بعض في النفقة والقسمة فيكون الأمر في ذلك إليه يفعل كيف يشاء وكان ذلك من خصائص فرضين بذلك واخترنه على هذا الشرط وذلك لأن النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بالنسبة إلى أمته نسبة السّيد المطاع والرجل وإن لم يكن نبياً فالزوجة في ملك نكاحه والنكاح عليها فكيف زوجات النبي بالنسبة غليه فإذن هن كالمملوكات له ولا يجب القسم بين المملوكات. والإرجاء التأخير والإيواء الضم، واختلفوا في أنه هل أخرج أحداً منهن عن القسم فقيل: لم يخرج أحداً بل كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مع ما جعل الله من ذلك يسوي بينهن في القسم إلا سَوْدَةَ فإنها رَضِيَتْ بترك حقها من القَسْم وجعلت نوبتها لعائشةَ، وقيل: أَخْرَجَ بعضهن، روى جرير عن منصور عن أبي رَزِين قال: لما نزلت آية التخيير أَشفَقْنَ أَنْ يُطَلِّقَهُنَّ،
572
فقلن يا رسول الله: اجعل لنا من نفسك ومالك ما شئتَ ودَعْنَا على حالنا فنزلت هذه الآية فأرجأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعضهن وآوى إليه بعضهن فكان ممن آوى عائشةُ وحفصةُ وزينبُ وأمُّ سلمة وكان يقسم بينهن سواءً، وأرجأ منهن خمساً: أمَّ حبيبة، وميمونَة، وسودةَ، وصفيةَ، وجُورَيْرِية فكان يقسِمُ لهن ما شاء.
وقال مجاهد: ترجى من تشاء منهن يعني تعزل من تشاء منهنّ بغير طلاق وترد إليك من تشاء بعد العزل بلا تجديد عقد، وقال ابن عباس: تطلق من تشاء منهن وتُمْسك من تشاء وقال الحسن: تترك نكاح من شئت وتنكح من شئت من تشاء من أمتك وقال: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إذا خَطب امرأة لم يكن لغيره خِطْبَتُهَا حتى يتركها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقيل: تَقْبَلُ من تشاء من المؤمنات اللاتي يهبن أنفسهن لك فتؤويها إليك وتَتْرُكُ من تشاء فلا تقبلها، روى هشامٌ عن أبيه قال: كانت خَوْلَةٌ بنتُ حَكِيم من اللاتي وهبن أنفسهن للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقالت عائشة: أما تستحي المرأة انت تَهَب نفسها للرجل فلما نزلت ﴿تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ﴾ قالت: يا رسول الله. ما أرى ربُّكَ إلاّ يُسارع في هَوَاكَ.
قوله: «وَمَن ابْتَغَيْتَ» يجوز في «من» وجهان:
أحدهما: أنها شرطية في محل نصب بما بعدها وقوله: ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ﴾ جوابها، والمعنى من طلبتها من النسوة اللاتي عزلتهن فليس عَليك في ذلك جناح.
والثاني: أن تكون مبتدأة، والعائد محذوف وعلى هذا فيجوز في «مَنْ» أن تكون «موصولة» وأنْ تكون شرطية، و ﴿فلا جناح عليك﴾ خبر، أو جواب أي التي ابتغيها. ولا بد حينئذ من ضمير راجع إلى اسم الشرط من الجواب أي في ابتغائها وطلبها، وقيل: في الكلام حذف معطوف تقديره: ومن ابتغيتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ وممن لم
573
تعزل سواء، لا جناح عليك كما تقول: «مَنْ لَقِيَكَ ممَّن لَمْ يَلْقكَ جميعُهم لَكَ شَاكرٌ» يريد من لقيك ومن لم يلقك وهذا في إِلغاز.
قوله: «ذَلِكَ» أي التفويض إلى مشيئتك ﴿أدنى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ﴾ أي أقرب إلى قرة أعينهن، والعامة «تَقَرَّ» مبنياً للفاعل مسنداً «لأعينهن» وابن مُحِيْصِن «» تُقرّ «من» أقر «- رباعياً - وفاعله ضمير المخاطب (و) » أَعْيُنُهُنَّ «رفع لقيامه مقام الفاعل وتقدم معنى» قرة العين «في مريم.
قوله: «كُلُّهن»
العامة على رفعه توكيداً لفاعل «يَرْضِيْنَ»، وأبو إياس بالنصب توكيداً لمفعول «آتَيْتَهُنَّ».

فصل


قال المفسرونَ لا جناح عليك لا إثم عليك، أباحَ له ترك القَسْم لهن حتى إنه ليُرجِي من يشاء في نوبتها وَيَطَأ من يشاء منهن في غير نوبتها ويرد إلى فراشه من عزلها تفضيلاً له على سائر الرجال ﴿ذلك أدنى أن تقر أعينهنّ وَلاَ يَحْزَنَّ﴾ أي ذلك التخيير الذي خيرتك في صحبتهن أقرب إلى رضاهن، وأطيب لأنفسهن وأقل لحزنهن إذا علمن أن ذلك من الله عَزَّ وَجَلَّ، ﴿وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنَّ﴾ أعطيتهن من تقريب وإرجاء وعزل وإيواء ﴿والله يَعْلَمُ مَا فِي قلُوبِكُمْ﴾ من أمر النساء والميل إلى بعضهن ﴿وَكَانَ الله عَلِيماً حَلِيماً﴾ أي إن أضمرت خلاف ما أظهرت فالله يعلم ضمائر القلوب فإنه عليم وإن لم يعاقبْهن في الحال فلا يغتررن فإنه حليم لا يعجل.
قوله: ﴿لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء﴾ قرأ أبو عمرو «لا تَحِلُّ» بالتأنيث اعتباراً باللفظ والباقون
574
بالياء لأنه جنس والمفصل أيضاً، وقوله «مِنْ بَعْدُ» أي من (بعد) اللائي نصصنا لك على إحْلاَلَهِنَّ كما تقدم، وقيل: من بعد إباحة النساء المسلمات دون الكِتَابِيَّات.

فصل


قال المفسرون: من بعد أي من بعدهن: قال ابن الخطيب: والأولى أن يقال لا تحل لك النساء من بعد اختيارهن الله ورسوله ورضاهن بما تؤتيهن من الوصل والهجران، وقال ابن عباس وقتادة: من بعد هؤلاء التسعة خيرتهن فاخترنَك، وذلك ان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما خيرهن فاخْترن الله ورسوله شكر الله لهن، وحُرِّمَ عليه السناء سواهن ونهاه عن تطليقهن وعن الاستبدال بهن، واختلفوا في أنه هل أبيح له النساء نم بعد، قالت عائشة: ما مات رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حتى أحل له النساء. وقال أنس: مات على التحريم، وقال عكرمة: معنى الآية لا تحل لك النساء إلا اللاتي أحللنَا لك أزواجَك، الآية ثم قال: لا تحل لك النساء من بعد اللاتي أحللنا لك بالصفة التي تقدم ذكرها.
قول لأبي بن كعب: لو مات نساء النبي - صلى الله عيله وسلم - كان يحل له أن يتزوج، قال: (و) ما يمنعه من ذلك؟ قيل: قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء مِن بَعْدُ﴾ قال: إنما أحَلَّ اللَّهُ ضَرْباً من النساء فقال: ﴿يا أيها النبي إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ﴾ قال: ﴿لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء مِن بَعْدُ﴾ (و) قال أبو صالح: أمر أن لا يتزوج أعرابية ولا غريبة ويتزوج من نساء قومه من بنات العم والعمة والخال والخالة إن شاء ثلاثمائة. وقال مجاهد: معناه لا تحل لك اليَهُودِيَّاتُ بعد المسلمات ﴿وَلاَ أَنْ تَبَدَّلَ﴾ بالمسلمات غيرهن من اليهود والنصارى يقول: لا تكون أم المؤمنين يهودية ولا نصرانية ﴿إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ﴾ أحلَّ له ما ملكت يمينه من الكتابيات أن يَتَسرى بهنَّ؛ وروي عن الضحاك معنى ﴿وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ﴾ ولا أن تبدل بأزواجك اللاتي هي في حبالك أزواجاً غيرهن بأن تطلق فتنكح غيرهن فحرم عليه طلاق النساء اللواتي كن عنده وجعلهن أمهات المؤمنين وحرمهن على غيره حين اخترنه، فأما نكاح غيرهن فلم يمنع عنه.
وقال ابن زيد في قوله: {وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ
575
مِنْ أَزْوَاجٍ} كانت العرب في الجاهيلة يتبادلونَ بأزواجهم يقول الرجل: بادِلْنِي بامرأتك وأبادِلك بأمْرأتي، تنزل لي عن امرأتك وانزل لك عن امرأتي، فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ - ﴿وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ﴾ يعني تبادل بأزواجك غيرك بأن تعطيه زوجتك وتأخذ زوجته ﴿إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ﴾ لا بأس أن تبادل بجاريتك ما شئت، فأما الحَرَائِرُ فلا، روى عطاء بن يَسَارِ عن أبي هُرَيْرَةَ قال: «دخل عُيَيْنَةُ بن حصن على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بغير إذن وعنده عائشة فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يا عيينة أين الاستئذانُ؟ قال يا رسول الله: ما استأذنت على رجل من مضر منذ أدركت، ثم قال: مَنْ هذه الحميراء التي جنبك؟ فقال: هذه عائشة أم المؤمنين فقال عيينة: أفلا أنزل لك عن أحسن الخلق؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إن الله قد حرم ذلك فلما خرج قالت عائشة: من هذا يا رسول الله؟ قال: هذا أحمق مُطَاع وإنه على ما تَرَيْن لسيدُ قومه» قوله: «وَلَوْ أَعْجَبَكَ» كقوله: «أَعْطُوا السَّائِلَ وَلَوْ على فَرَسٍ» أي في كل حال ولو على هذه الحال المنافية قال الزمخشري: قوله «حسنهن» في معنى الحال.

فصل


معنى ﴿ولو أعجبك حسنهن﴾ أي ليس لك أن تطلق أحداً من نسائك وتنكح بدلها أخرى ولو أعجبك جمالها. قال ابن عباس يعني أسماء ينت عميْس الخَثْعَمِيَّة امرأة جعفر بن أبي طالب فلما استشهد جعفر أراد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أن يَخْطِبَها فنهي عن ذلك. وقال بعض المفسرين ظاهر هذا ناسخ لما كان قد ثبت له عليه (الصلاة و) السلام من أنه إذا رأى واحدة فوقعت في قلبه مَوْقِعاً كانت تحرم على الزوج ويجب عليه طلاقها. وهذه مسألة حكمية وهي أن النبي عليه (الصلاة و) السلام وسائر الأنبياء في أول النبوة يشتد عليها برحاء الوحي ثم يستأنسون به فينزل عليهم وهم متحدِّثون
576
مع أصحابهم لا يمنعهم من ذلك مانع، ففي أول الأمر أحل الله من وقع في قلبه تفريغاً لقلبه، وتوسعاً لصدره لئلا يكون مشغول القلب بغير الله، ثم لما استأنس بالوحي نسخ ذلك إما لقوله عليه (الصلاة و) السلام الجمع بين الأمرين، وإما لأنه بدوام الإنزال لم يبق له مألوفٌ من أمور الدنيا فلم يبق له التفات إلى غير الله فلم يبق له حاجة إلى إخلاء المتزوّج بمن وقع بصره عليه.
قوله: ﴿إِلاَّ مَا مَلَكَتْ﴾ فيه أوجه:
أحدها: أنه مستثنى من النساء فيجوز فيه وجهان: النصب على أصل الاستثناء والرفع على البدل وهو المختار، والثالث: أنه مستثنى من «أزواج: قاله أبو البقاء، فيجوز أن يكون في موضع نصب على أصل الاستثناء، وأن يكون في موضع جر بدلاً مِن» هُنَّ « (على) اللفظ، وأن يكون في موضع نصب بدلاً مِن» هُنَّ «على المحل، وقال ابن عطية إن كانت (ما) مصدرية فهي في موضع نصب لأنه من غير الجنس وليس بجيد؛ لأنه قال بعد ذلك والتقدير: إلا ملك اليمين، و» ملك «بمعنى مملوك انتهى. وإذا كان بمعنى مملوك صار من الجنس وإذا صار من الجنس لم يكن منقطعاً على أنه على تقدير انقطاعه لا يتحتم نصبه، بل يجوز عند تميم الرفْعُ بدلاً والنصب على الأًل كالمتصل بشرط صحة توجه العامل إليه كما تقدم تحقيقه، وهذا يمكن توجه العامل إليه، ولكن اللغة المشهورة لغةُ الحِجَاز وهو لزوم النصب في المنقطع مطلقاً، كما ذكره أبو محمد آنفاً.

فصل


قال ابن عباس ملك بعد هؤلاء مَارِيَة، و ﴿وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً﴾ حافظاً عالماً بكل شيء قادراً عليه، وفي الآية دليل على جواز النظر إلى من يريد نكاحها من
577
قوله تعالى :﴿ يا أيها النبي إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ﴾ أي مهورهن ﴿ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ ﴾ وقوله :﴿ مِمَّا أَفَاءَ الله عَلَيْكَ ﴾ رد عليك من الكفار بأن تَسْبِي فتملك، وهذا بيان لما ملكت، وليس هذا قيداً بل لو ملكت يمينه بالشراء كان الحكم كذا، وإِنَّما خرج مَخْرَج الغالب١. واعلم أنه ذكر٢ للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما هو أولى فإن الزوجة التي أُوتِيَتْ مهرها أطيب قلباً من التي لم تؤت والمملوكة التي سَبَاها الرجل بنفسه أطهر من التي اشتراها الرجل لأنه لا يدري كيف حالها، ومن هاجرت من أقارب النبي - صلى الله عليه وسلم - معه أشرف ممن لم تهاجِر، وقال بعضهم : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان يستوفي ما لا يجب له والوطء قبل إيتاء الصداق غير مستحق وإن كان حلالاً لنا وكيف والنبي عليه الصلاة والسلام إذا طلب شيئاً حرم الامتناع على المطلوب ؟ والظاهر أن الطالب في المرة الأولى إنما هو الرجل لحياء المرأة فلو طلب النبي - صلى الله عليه وسلم - من المرأة التمكين قبل المهر للزم أن يجب وأن لا يجب وهو محال ولا كذلك أحدنا ويؤكد هذا قوله :﴿ وامرأةً مُؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ ﴾ يعني حينئذ لا يبقى لها صداق فتصير كالمستوفية مهرها.
واعلم أن اللاتي٣ ملكت يمينه مثل صفية، وجُوَيْريَة، ومَارِيَة ﴿ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ ﴾ يعني نساء قريش ﴿ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ ﴾ يعني نساء بني زُهْرَة ﴿ اللاتي هَاجَرْنَ مَعَكَ ﴾ إلى المدينة فمن لم تهاجر معه منهم لم يجز له نكاحها، روى أبو صالح عن أم هانئ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما فتح مكة خطبني فأنزل الله هذه الآية فلم أحل له لأني لم أكن من المهاجرات وكنت من المطلقات٤، ثم نسخ شرط الهجرة في التحليل.
قوله «وامرْأَةً » العامة على النصب وفيه وجهان :
أحدهما : أنها عطف على مفعول «أَحْلَلْنا » أي وأحْلَلْنَا لك امرأة ً موصوفة٥ بهذين الشرطين، قال أبو البقاء وقد رد هذا قوم، وقالوا :«أَحْلَلْنا » ماضٍ، و «إنْ وَهَبَتْ » - وهو صفة للمرأة - مستقبل، «فأحللنا » في موضع جوابه، وجواب الشرط لا يكون ماضياً في المعنى، قال : وهذا ليس بصحيح لأم معنى الإحلال ههنا الإعلام بالحل إذا وقع الفعل على ذلك كما تقول :«أَبَحْتُ لَكَ أَنْ تُكَلِّمَ فُلاَناً إِنْ سَلَّمَ عَلَيْكَ »٦.
والثاني : أنه ينتصب بمقدر تقديره :«ويُحِلُّ لك امرأةً »٧.
قوله :«إنْ وَهَبَتْ، إِنْ أَرَادَ » هذا من اعتراض الشرط على الشرط، والثاني هو قيد في الأول ولذلك نعربه حالاً، لأن الحال قيد، ولهذا اشترط الفقهاء أن يتقدم الثاني على الأول في الوجود. فلو قال : إن أَكَلْتُ إنْ رَكِبْتُ فأنتِ طالقٌ، فلا بد أن يتقدم الركوب على الأكل، وهذا له تحقق الحالية والتقييد كما ذكرنا، إذ لو لم يتقدم لخلا جزء من الأكل غير مقيد بركوب فلهذا اشترطنا تقدم الثاني وقد مضى تحقيق هذا وأنه يشترط أن لا تكون ثَمَّ قرينة تمنع من تقدم الثاني على الأول كقوله :«إنْ تَزَوَّجْتُك إِنْ طَلَّقْتُكِ فعَبْدِي حُرٌّ » ( لأنه )٨ لا يتصور هنا تقديمُ الطلاق على التَّزويج٩.
قال شهاب الدين : وقد عرض لي إشكال على١٠ ما قاله الفقهاء بهذه الآية وذلك أن الشرط الثاني هنا لا يمكن تقدمه في الوجود بالنسبة إلى الحكم الخاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لا أنه لا يمكن عقلاً، وذلك أن المفسرين فسروا قوله تعالى :«إنْ أَرَادَ » بمعنى قبل الهِبَة١١ لأن بالقبول منه ( عليه الصلاة١٢ و ) السلام يتم نكاحه وهذا لا يتصور تقدمه على الهبة إذ القبول متأخر، وأيضاً فإن القصة كانت على ما ذكرته من تأخر إرادته من هِبَتها وهو مذكور في التفسير١٣، وأبو حيان لما جاء إلى ههنا جعل الشرط الثاني متقدماً على الأول على القاعدة العامة، ولم١٤ يستشكل شيئاً مما ذكرته، وقد عرضت هذا الإِشكال على جماعة من أعيان زماننا فاعترفوا به ولم يظهر عن جواب إلا ما قدمته من أنه ثم قرينة مانعة من ذلك كما مثلته آنفاً، وقرأ أبو حيوة «وامْرَأَةٌ » بالرفع على الابتداء، والخبر مقدر، أي أَحْلَلْنَاها لَكَ أَيْضاً١٥. وفي قوله :﴿ إِنْ أَرَادَ النبي ﴾ التفات من الخطاب إلى الغيبة بلفظ الظاهر تنبيهاً على أن سبب ذلك النبوة، ثم رجع إلى الخطاب فقال :«خَالِصَةً لَكَ »، وقرأ أبي والحسن وعيسى «أَنْ » بالفتح١٦، وفيه وجهان :
أحدها : أنه بدل من «امرأة » بدل اشتمال قاله أبو البقاء١٧، كأنه قيل : وأحْلَلْنَا لك هِبَةَ المَرْأَةِ نَفْسَهَا لَكَ.
والثاني : أنها على حذف لام العلة١٨ ( أي )١٩ " لأَنْ وَهَبَتْ "، وزيد بن علي " إِذْ وَهَبَتْ " ٢٠ وفيه معنى العِلِّيِّةِ.
قوله :«خالصة » العامة على النصب وفيه أوجه :
أحدها : أنه منصوب على الحال من فاعل «وَهَبَتْ » أي حال كونها خالصةً لك دُونَ غَيْرِكَ٢١.
الثاني : أنها حال من «امرأة » لأنها وصفت فتخصصت، وهو بمعنى الأول، وإليه ذهب٢٢ الزجاج.
الثالث : أنها نعت مصدر مقدر أي هبة خالصة فنصبها «بوَهَبَتْ »٢٣.
الرابع : أنها مصدر مؤكد «كوَعْدَ اللَّهِ »٢٤، قال الزمخشري : والفاعل والفاعلة في المصادر غير عزيزين كالخَارجِ والقَاعِدِ، والكاذِبَةِ والعَافِيَةِ٢٥ يريد بالخارج ما في قول الفرزدق :
٤١٠٠ -. . . . . . . . . . . . وَلاَ خَارِجاً مِنْ فِيَّ زُورُ كَلاَمِ٢٦
وبالقاعد ما في قولهم :«أَقَاعِداً وَقَدْ سَارَ الرَّكْبُ »، وبالكاذبة ما في قوله تعالى :﴿ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ﴾ [ الواقعة : ٢ ]، وقد أنكر أبو حيان عليه قوله :«غير عزيزين » وقال : بل هما عزيزان، وما ورد متأول٢٧، وقرئ :«خَالِصَةٌ » بالرفع٢٨، فإن كانت «خالصة » حالاً قدر المبتدأ «هي » أي المرأة الواهبة، وإن كانت مصدراً قدر فتلك الحالة خالصة، و «لك » على البيان أي أعني لك نحو :«سَقْياً لَكَ »٢٩.

فصل :


المعنى : أحللنا لك امرأة مؤمنة وهبت نفسها لك بغير صداق، فأما غير المؤمنة فلا تَحِلُّ له إذا وهبت نفسها منه، واختلفوا في أنه هل كان يحِل للنبي - صلى الله عليه وسلم - نكاح اليهودية والنصرانية، فذهب أكثرهم إلى أنه كان لا يحل له ذلك لقوله :«وامرأة مؤمنة » وأول بعضهم الهجرة في قوله :«هَاجَرْنَ مَعَكَ » يعني على الإسلام أي أسلمن معك، فيدل ذلك على أنه لا يحل نكاح غير٣٠ المسلمة. وكان النكاح ينعقد في حقه بمعنى الهبة من غير ولي ولا شهود ولا مَهْرٍ، وكان ذلك من خصائصه عليه ( الصلاة٣١ و ) السلام - لقوله تعالى :﴿ خَالِصَةً لََكَ مِن دُونِ المؤمنين ﴾ كالزيادة على الأدب ووجوب تخيير النساء من خصائص لا مشاركة لأحد معه، واختلفوا في انعقاد النكاح بلفظ الهبة في حق الأمة، فقال سعيد بن المسيب والزهري ومجاهد وعطاء : لا ينعقد إلا بلفظ النكاح٣٢ أو التزويج، وبه قال ربيعة ومالك والشافعي٣٣، ومعنى الآية أنّ إباحة الوطء بالهبة وحصول التزويج بلفظها من خواصه عليه السلام. وقال النخعيُّ وأبو حنيفةَ وأهلُ الكوفة ينعقد بلفظ الهبة٣٤ والتمليك وأن معنى الآية أن تلك المرأة صارت خالصة لك زوجةً من أمهات المؤمنين ولا تحل لغيرك أبداً بالتزويج وأجيب بأن هذا التخصيص بالواهبة لا فائدة فيه فإن أزواجه كلهن خالصات له، وما ذكرناه ( يتبين )٣٥ للتخصيص فائدة.

فصل :


اختلفوا في التي وهبت نفسها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - هل كانت عنده امرأة منهن فقال عبد الله بن عباس ومجاهد : لم يكن عند النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة وهبت نفسها منه ولم يكن عنده امرأة إلا بعقد نكاح أو ملك يمين٣٦، وقوله «وَهَبَتْ نَفْسَهَا » على طريق الشرط والجزاء، وقيل : بل كانت موهوبة واختلفوا فيها، فقال الشعبي : هي زينب بنت خزيمة الهلالية٣٧ يقال لها : أم المساكين٣٨، وقال قتادة٣٩ : هي ميمونة بنت الحارث٤٠، وقال علي بن الحسين والضحاك ومقاتل٤١ : أمّ شريك بنت جابر من بني أسد٤٢، وقال عروة بن الزبير٤٣ : هي خولة بنت حكيم من بني٤٤ سُلَيْم.
قوله :﴿ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا ﴾ أوجبنا على المؤمنين «فِي أَزواجِهِمْ » من الأحكام أن لا يتزوجوا أكثر من أربع ولا يتزوجوا إلا بولي وشهود ومهر ﴿ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ﴾ أي ما أوجبنا من الأحكام في ملك اليمين، وإنما ذكر هذا لئلا يحمل واحدٌ من المؤمنين نفسه على ما كان النبي عليه السلام فإن له في النكاح خصائصَ ليست لغيره، وكذلك في السَّرَارِي.
قوله :«لِكَيْلاَ » يتعلق «بخالصة »٤٥ وما بينهما اعتراض و «مِنْ دُونِ » متعلق «بخالصة » كما تقول : خَلَص٤٦ مِنْ كَذَا.

فصل :


قال المفسرون : هذا يرجع إلى أول الآية أي أحللنا لك أزواجَك وما ملكت يمينك والموهوبة ﴿ لكيلا يكون عليك حرج ﴾ ﴿ وَكَانَ الله غَفُوراً رَحِيماً ﴾ يغفر الذنوب جميعاً ويرحم العبيد.
١ المرجعان السابقان..
٢ ذكره الفخر الرازي في تفسيره ٢٥/٢٢٠..
٣ في "ب" اللائي بالهمزة وكلاهما صحيح..
٤ في "ب" والبغوي الطلقاء وانظر: معالم التنزيل للإمام البغوي ٥/٢٦٨ وتفسير الخازن ٥/٢٦٨ أيضاً..
٥ قاله الفراء في معانيه ٢/٣٤٥ ومكي في مشكل الإعراب ٢/١٩٩ وأبو البقاء في التبيان ١٠٥٨ وابن الأنباري في البيان ٢/٢٧١ والسمين في الدر ٤/٣٩٦..
٦ التبيان ١٠٥٨..
٧ انظر: البيان والتبيان والدر المصون المراجع السابقة..
٨ زيادة يقتضيها السياق..
٩ انظر تلك الفقرة بأكملها فقرة "إن وهبت" في الدر المصون للسمين ٤/٣٩٦ وانظر: حاشية الجمل على الجلالين فيما نقله عن السمين ٣/٣٧٠..
١٠ ذكره في الدر المصون ٤/٣٩٦ و ٣٩٧ وفيه: "إلا أنه قد عرض لي إشكال"..
١١ في الدر "الهدية"..
١٢ زيادة من "ب" عن الدر المصون و"أ"..
١٣ ممن قال بذلك الزمخشري في الكشاف ٣/٢٦٨ والقرطبي في الجامع ١٤/٢٠٩..
١٤ قال أبو حيان في البحر ٧/٢٤٢ :"وإذا اجتمع شرطان فالثاني شرط في الأول متأخر في اللفظ متقدم في الوقوع ما لم تدل قرينة على الترتيب نحو: إن تزوجتك إن طلقتك فعبدي حر"..
١٥ ذكرها ابن خالويه في مختصره ١٢٠. وهي من الشواذ وانظر: أبا حيان في بحره ٧/٢٤٢..
١٦ المحتسب ٢/١٨٢ ومختصر ابن خالويه ١٢٠ ومعاني الفراء ٢/٣٤٥ وهي من القراءات من الأربعة فوق العشرة المتواترة الإتحاف ٣٥٦ والكشاف ٣/٢٦٨ بنسبتها للحسن فقط والقرطبي ١٤/٢٠٩ والبحر ٧/٢٤٢ بزيادة الشعبي وسلام..
١٧ قاله في التبيان ١٠٥٩..
١٨ المرجع السابق وانظر: الكشاف ٣/٢٦٨ والبيان ٢/٢٧١..
١٩ ساقطة من "ب"..
٢٠ ذكرها أبو حيان في بحره ٧/٢٤٢..
٢١ التبيان ١٠٥٩ ومشكل الإعراب لمكي ٢/١٩٩ وقد جَعَلَها حالاً مطلقة ولم يحدد صاحبها، الدر المصون ٤/٣٩٧ أيضاً..
٢٢ قاله الزجاج في معاني القرآن وإعرابه: "وخالصة منصوب على الحال المعنى: أنا أحللنا لك هؤلاء، وأحللنا لك من وهبت نفسها لك" وانظر: البحر المحيط ٧/٢٤٢..
٢٣ قاله أبو البقاء في التبيان ١٠٥٩ والسمين في الدر ٤/٣٩٧..
٢٤ ذكره أبو البقاء في المرجع السابق وأبو حيان في البحر ٧/٢٤٢ والسمين في الدر ٤/٣٩٧ والزمخشري في الكشاف ٣/٢٦٨..
٢٥ المرجع السابق وفيه: "والعافية- والكاذبة"..
٢٦ عجز بيت من بحر الطويل صدره:
على حلفة لا أشتم الدهر مسلماً .......................
ويروى: "على قَسَمٍ" بدل "على حَلْفَةٍ" و"سوء الكلام" بدل "زور كلام" والشاهد: "ولا خارجاً" حيث نصب "خارجاً" على المصدر النائب عن فعله قال في الكتاب ١/٣٤٦ كأنه قال: ولا يخرج خروجاً ألا تراه ذكر "عاهدت" في البيت قبله. وانظر: ديوانه ٢/٢١٢ والكتاب ١/٣٤٦ والبحر المحيط ٧/٢٤٢ والمقتضب ٣/٢٦٩ و ٤/٣١٣ وأمالي المرتضى ١/٤٦ وشرح شواهد الشافية ٧٢-٧٩، والإفصاح ١٨٢ و ٢٢٤ و ٣٣٦ وكامل المبرد ١/١٢٠..

٢٧ ذكر ذلك أبو حيان في بحره ٧/٢٤٢..
٢٨ في البحر المرجع السابق ولم ينسبها لمعين وقد نسبها صاحب شواذ القرآن (١٩٥) لابن أبي عبلة..
٢٩ الدر المصون ٤/٣٩٨..
٣٠ نقل ذلك القرطبي في الجامع عن ابن العربي ١٤/٢١٠ والبغوي ٥/٢٦٨..
٣١ سقط من "أ"..
٣٢ في "ب" الإنكاح..
٣٣ انظر: معالم التنزيل ٥/٢٦٨ وتفسير الخازن ٥/٢٦٨..
٣٤ المرجعان السابقان..
٣٥ زيادة للسياق..
٣٦ القرطبي ١٤/٢٠٨..
٣٧ السابق..
٣٨ لكثرة إطعامها المساكين، انظر: أسد الغابة ٤٦٦/٥..
٣٩ السابق..
٤٠ ماتت سنة ٤٩ هـ، أعلام النساء ٥/١٣٨ و ١٣٩..
٤١ البغوي ٥/٢٦٨ والقرطبي ١٤/٢٠٩..
٤٢ الأنصارية واسمها غزية أو غزيلة. انظر: القرطبي السابق وأسد الغابة ٥/٥٩٤..
٤٣ معالم التنزيل للبغوي ٥/٢٦٨..
٤٤ لها خمسة عشر حديثاً وروى عنها عمر بن عبد العزيز وعُرْوَةُ، انظر: خلاصة الكمال ٤٩٠..
٤٥ هذا قول الزمخشري في الكشاف ٣/٢٦٩ والسمين في الدر ٤/٣٩٨.
٤٦ المرجع الأخير السابق وقد جعل أبو البقاء وابن الأنباري ومكي "أحللنا" هو المتعلق "لكيلا". انظر: التبيان ١٠٥٩ والبيان ٢/٢٧١ ومشكل الإعراب ٢/١٩٩..
قوله :«تُرْجِي » أي تؤخر١ ﴿ مَن تَشَاءُ مِنْهُنَّ وتؤوي إِلَيْكَ ﴾ أي تضم٢ إِلَيْكَ «مَنْ تَشَاءُ » واختلف المفسرون في معنى الآية فأشهر الأقاويل أنه في القسم بينهن وذلك أن التسوية بينهن في القسم كان واجباً عليه، فلما نزلت هذه الآية سقط عنه وصار الاختيار إليه فيهن. قال أبو رزين٣ وابنُ زيد نزلت هذه الآية حين غار بعض أمهات المؤمنين على النبي - صلى الله عليه وسلم - وطلب بعضهن زيادة النفقة وهجرهن النبي - صلى الله علي وسلم - شهراً حتى نزلت آية التخيير فأمره الله - عز وجل - أن يُخَيرَهُن بين الدنيا والآخرة وأن يخلي سبيل من اختارت الدنيا، ويمسك من اختارت الله ورسوله والدار الآخرة على أنهن أمهات المؤمنين فلا يُنكحن أبداً وعلى أنه يؤوي إليه من يشاء منهن ويرجي من يشاء فيرضين به قَسَم لهن أو لم يقسم أو قسم لبعض دون بعض أو فضل بعضهن على بعض في النفقة والقسمة فيكون الأمر في ذلك إليه يفعل كيف يشاء وكان ذلك من خصائص فرضين بذلك واخترنه على هذا الشرط٤ وذلك لأن النبي٥ عليه الصلاة والسلام بالنسبة إلى أمته نسبة السّيد المطاع والرجل وإن لم يكن نبياً فالزوجة في ملك نكاحه والنكاح عليها فكيف زوجات النبي بالنسبة إليه فإذن هن كالمملوكات له ولا يجب القسم بين المملوكات. والإرجاء التأخير والإيواء الضم، واختلفوا في أنه هل أخرج أحداً منهن عن القسم فقيل : لم يخرج أحداً بل كان رسول٦ الله - صلى الله عليه وسلم - مع ما جعل الله من ذلك يسوي بينهن في القسم إلا سَوْدَةَ٧ فإنها رَضِيَتْ بترك حقها من القَسْم وجعلت نوبتها لعائشةَ، وقيل : أَخْرَجَ بعضهن٨، روى جرير٩ عن منصور١٠ عن أبي رَزِين قال : لما نزلت آية التخيير أَشفَقْنَ أَنْ يُطَلِّقَهُنَّ، فقلن يا رسول الله : اجعل لنا من نفسك ومالك ما شئتَ ودَعْنَا على حالنا فنزلت هذه الآية فأرجأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعضهن وآوى إليه بعضهن فكان ممن آوى عائشةُ وحفصةُ وزينبُ وأمُّ سلمة وكان يقسم بينهن سواءً، وأرجأ منهن خمساً : أمَّ حبيبة١١، وميمونَة، وسودةَ، وصفيةَ١٢، وجُوَيْرِية١٣ فكان يقسِمُ لهن ما شاء١٤.
وقال مجاهد : ترجي من تشاء منهن يعني تعزل من تشاء منهنّ بغير طلاق وترد إليك من تشاء بعد العزل بلا تجديد عقد١٥، وقال ابن عباس : تطلق من تشاء منهن وتُمْسك من تشاء١٦ وقال الحسن : تترك نكاح من شئت وتنكح من شئت من تشاء من أمتك١٧ وقال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خَطب امرأة لم يكن لغيره خِطْبَتُهَا حتى يتركها رسول الله١٨ - صلى الله عليه وسلم - وقيل : تَقْبَلُ من تشاء من المؤمنات اللاتي يهبن أنفسهن لك فتؤويها إليك وتَتْرُكُ من تشاء فلا تقبلها١٩، روى هشامٌ عن أبيه قال : كانت خَوْلَةُ بنتُ حَكِيمٍ من اللاتي وهبن أنفسهن للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت عائشة : أما تستحيي المرأة أن تَهَب نفسها للرجل فلما نزلت ﴿ تُرْجِي مَن تَشَاءُ مِنْهُنَّ ﴾ قالت : يا رسول الله. ما أرى ربُّكَ إلاّ يُسارع في هَوَاكَ٢٠.
قوله :«وَمَن ابْتَغَيْتَ » يجوز في «من » وجهان :
أحدهما : أنها شرطية في محل نصب بما بعدها وقوله :﴿ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ ﴾ جوابها، والمعنى من طلبتها من النسوة اللاتي عزلتهن فليس عَليك في ذلك جناح٢١.
والثاني : أن تكون مبتدأة، والعائد محذوف٢٢ وعلى هذا فيجوز في «مَنْ » أن تكون «موصولة » وأنْ تكون شرطية، و ﴿ فلا جناح عليك ﴾ خبر، أو جواب أي التي ابتغيتها. ولا بد حينئذ من ضمير راجع إلى اسم الشرط من الجواب أي في ابتغائها وطلبها٢٣، وقيل : في الكلام حذف معطوف تقديره : ومن ابتغيتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ وممن لم تعزل سواء، لا جناح عليك كما تقول :«مَنْ لَقِيَكَ ممَّن لَمْ يَلْقكَ جميعُهم لَكَ شَاكرٌ » يريد من لقيك ومن لم يلقك وهذا فيه إِلغاز٢٤.
قوله :«ذَلِكَ » أي التفويض إلى مشيئتك ﴿ أدنى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ ﴾ أي أقرب إلى قرة أعينهن، والعامة «تَقَرَّ » مبنياً للفاعل مسنداً «لأعينهن » وابن مُحِيْصِن «تُقرّ » من «أقر » - رباعياً - وفاعله ضمير المخاطب٢٥ ( و )٢٦ «أَعْيُنَهُنَّ »، نصب على المفعول به وقرئ " تُقَرّ " مبنياً للمفعول٢٧ ( و ) «أَعْيُنُهُنّ َ » رفع لقيامه مقام الفاعل وتقدم معنى «قرة العين »٢٨ في مريم.
قوله :«كُلُّهن » العامة على رفعه توكيداً لفاعل «يَرْضَِيْنَ »، وأبو إياس٢٩ بالنصب توكيداً لمفعول «آتَيْتَهُنَّ »٣٠.

فصل :


قال المفسرونَ لا جناح عليك لا إثم عليك، أباحَ له ترك القَسْم لهن حتى إنه ليُرْجِي من يشاء في نوبتها وَيَطَأ من يشاء منهن في غير نوبتها ويرد إلى فراشه من عزلها تفضيلاً له على سائر الرجال ﴿ ذلك أدنى أن تقر أعينهنّ وَلاَ يَحْزَنَّ ﴾ أي ذلك التخيير الذي خيرتك في صحبتهن أقرب إلى رضاهن، وأطيب لأنفسهن وأقل لحزنهن إذا علمن أن ذلك من الله عز وجل، ﴿ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ ﴾ أعطيتهن من تقريب وإرجاء وعزل وإيواء ﴿ والله يَعْلَمُ مَا فِي قلُوبِكُمْ ﴾ من أمر النساء والميل إلى بعضهن ﴿ وَكَانَ الله عَلِيماً حَلِيماً ﴾ أي إن أضمرت خلاف ما أظهرت فالله يعلم ضمائر القلوب فإنه عليم وإن لم يعاقبْهن٣١ في الحال فلا يغتررن٣٢ فإنه حليم لا يعجل.
١ انظر: مجاز القرآن لأبي عبيدة ٢/١٣٩..
٢ انظر: مجاز القرآن لأبي عبيدة ٢/١٣٩..
٣ أبو رزين: مسعود بن مالك ويقال: ابن عبد الله أبو رزين الكوفي وردت عنه الرواية في حروف القرآن روى عن ابن مسعود وعليّ والأعمش، انظر: غاية النهاية ٢/٢٩٦ وانظر أسباب النزول في القرطبي ١٤/٢١٥ وتفسير البغوي المسمى بمعالم التنزيل ٥/٢٦٩..
٤ المرجع الأخير السابق..
٥ قاله الفخر الرازي في تفسيره ٢٥/٢٢١..
٦ قاله ابن الجوزي في زاد المسير ٦/٤٠٨..
٧ هي سَوْدَةُ بنتُ زَمْعَةَ روى أبو داود والنسائي ماتت سنة ٥٤ هـ. انظر: أعلام النساء ٢/٢٦٩..
٨ المرجع السابق..
٩ هو جرير بن حازم الأزدي أبو النضر أحد الأعلام عن الحسن وابن سيرين وطاوس، وابن أبي مليكة وعنه أيوب، وابن عون وابنه وهب بن جرير مات سنة ١٧٠ هـ. وانظر: خلاصة الكمال ٦١..
١٠ منصور بن المعتمر السلمي أبو عتاب الكوفي أحد الأعلام المشاهير عن إبراهيم، وأبي وائل وعنه: أيوب وشعبة، متقن لا يخلط ولا يدلس ثقة ثبت له ألفا حديث مات سنة ١٣٢ هـ انظر: خلاصة الكمال ٣٨٨..
١١ بنت أبي سفيان كانت تحت عبد الله بن جحش وهلك بأرض الحبشة فتزوجها رسول الله، انظر: المعارف لابن قتيبة ١٣٦..
١٢ بنت حيي بن أخطب الخَيْبَرِيَّة لها أحاديث ماتت سنة ٥٠ هـ، انظر: خلاصة الكمال ٤٩٣..
١٣ بنت الحارث المصطلقية لها أحاديث في البخاري ومسلم ماتت سنة ٥٦ هـ انظر أعلام النساء ١/٢٢٧..
١٤ القرطبي ١٤/٢١٥..
١٥ انظر: تفسير ابن الجوزي في زاد المسير ٦/٤٠٧..
١٦ السابق..
١٧ السابق..
١٨ انظر: تفسير البغوي ٥/٢٦٩..
١٩ وهو قول الشعبي وعكرمة انظر: زاد المسير المرجع السابق ومعالم التنزيل للبغوي ٥/٢٦٩..
٢٠ المرجع الخير السابق وانظر القرطبي ١٤/٢١٥..
٢١ قاله أبو البقاء في التبيان ١٠٥٩ والسمين في الدر ٤/٣٩٨..
٢٢ المرجعان السابقان..
٢٣ المرجع الأخير السابق..
٢٤ السابق والبحر المحيط ٧/٢٤٣ وقد رجح أبو حيان الرأيين السابقين الجائزين في "من" فقد قال: "ويجوز أن يكون ذلك توكيداً لما قبله أي ومن ابتغيت ممن عزلت (ومن لم تعزل) سواء لا جناح عليك..." ثم قال: "والراجح القول الأول"..
٢٥ قراءة من القراءات الشاذة فوق العشرة المتواترة فقد ذكرت في الإتحاف ٣٥٦ وانظر: البحر ٧/٢٤٣ وهي في الكشاف بلا نسبة الكشاف ٣/٢٦٩. وقد نسبها ابن خالويه في المختصر له ص ١٢٠..
٢٦ زيادة يقتضيها السياق..
٢٧ لم تعز في كل من البحر ٧/٢٤٣ والكشاف ٣/٢٦٩ والجامع لأحكام القرآن ١٤/٢١٦..
٢٨ قرت عينه تقر: بردت وانقطع بكاؤها واستحرارها بالدمع اللسان: "ق ر ر" ٣٥٨٠..
٢٩ هو جؤبة بن عائذ كما ذكره ابن جني في المحتسب..
٣٠ من القراءات الشاذة وقد ذكرها ابن جني في المحتسب ٢/١٨٢ و ١٨٣ وابن خالويه في المختصر ١٢٠، وقد قال ابن جني: "فالمعنيان إذاً واحد، إلا أن الرفع أقوى معنى، وذلك أن فيه إصراحاً من اللفظ بأن يرضين كلهن"..
٣١ في "ب" يعاتبهن..
٣٢ وفيها يغترون بإسناد الفعل إلى واو الجماعة..
قوله :﴿ لاَ يَحِلُّ لَكَ النساءُ ﴾ قرأ أبو عمرو «لا تَحِلُّ » بالتأنيث اعتباراً باللفظ والباقون بالياء لأنه جنس والمفصل أيضاً١، وقوله «مِنْ بَعْدُ » أي من ( بعد )٢ اللائي نصصنا لك على إحْلاَلِهِنَّ كما تقدم٣، وقيل : من بعد إباحة النساء المسلمات دون الكِتَابِيَّات٤.

فصل :


قال المفسرون : من بعد أي من بعدهن : قال ابن الخطيب : والأولى أن يقال لا تحل لك النساء من بعد اختيارهن الله ورسوله ورضاهن بما تؤتيهن من الوصل والهجران٥، وقال ابن عباس وقتادة : من بعد هؤلاء التسعة٦ خيرتهن فاخترنَك، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خيرهن فاخْترن الله ورسوله شكر الله لهن، وحُرِّمَ عليه النساء سواهن ونهاه عن تطليقهن وعن الاستبدال بهن، واختلفوا في أنه هل أبيح له النساء من بعد، قالت عائشة : ما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أحل له النساء. وقال أنس : مات على التحريم، وقال عكرمة : معنى الآية لا تحل لك النساء إلا اللاتي أحللنَا لك أزواجَك، الآية ثم قال : لا تحل لك النساء من بعد اللاتي أحللنا لك بالصفة التي تقدم٧ ذكرها.
وقيل لأبي بن كعب : لو مات نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحل له أن يتزوج، قال :( و )٨ ما يمنعه من ذلك ؟ قيل : قوله عز وجل :﴿ لاَ يَحِلُّ لَكَ النساء مِن بَعْدُ ﴾ قال : إنما أحَلَّ اللَّهُ ضَرْباً من النساء فقال :﴿ يا أيها النبي إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ ﴾ قال :﴿ لاَ يَحِلُّ لَكَ النساء مِن بَعْدُ ﴾ ( و )٩ قال أبو صالح : أمر أن لا يتزوج أعرابية ولا غريبة ويتزوج من نساء قومه من بنات العم والعمة والخال والخالة إن شاء ثلاثمائة. وقال مجاهد : معناه لا تحل لك اليَهُودِيَّاتُ بعد المسلمات١٠ ﴿ وَلاَ أَنْ تَبَدَّلَ ﴾ بالمسلمات غيرهن من اليهود والنصارى يقول : لا تكون أم المؤمنين يهودية ولا نصرانية ﴿ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ ﴾ أحلَّ له ما ملكت يمينه من الكتابيات أن يَتَسرى بهنَّ ؛ وروي عن الضحاك معنى ﴿ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ ﴾ ولا أن تبدل بأزواجك اللاتي هن في حبالك أزواجاً غيرهن بأن تطلق فتنكح غيرهن فحرم عليه طلاق النساء اللواتي كن عنده وجعلهن أمهات المؤمنين وحرمهن على غيره حين١١ اخترنه، فأما نكاح غيرهن فلم يمنع عنه١٢.
وقال ابن زيد في قوله :﴿ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ ﴾ كانت العرب في الجاهلية يتبادلونَ بأزواجهم١٣ يقول الرجل : بادِلْنِي بامرأتك وأبادِلك بامْرأتي، تنزل لي عن امرأتك وأنزل لك عن امرأتي١٤، فأنزل الله - عز وجل - ﴿ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ ﴾ يعني تبادل بأزواجك غيرك بأن تعطيه زوجتك وتأخذ زوجته ﴿ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ ﴾ لا بأس أن تبادل بجاريتك ما شئت، فأما الحَرَائِرُ فلا، روى عطاء بن١٥ يَسَارِ عن أبي هُرَيْرَةَ قال :«دخل عُيَيْنَةُ بن حصن على النبي - صلى الله عليه وسلم - بغير إذن وعنده عائشة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - يا عيينة أين الاستئذانُ ؟ قال يا رسول الله : ما استأذنت على رجل من مضر منذ أدركت، ثم قال : مَنْ هذه الحميراء التي١٦ جنبك ؟ فقال : هذه عائشة أم المؤمنين فقال عيينة : أفلا أنزل لك عن أحسن الخلق١٧ ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الله قد حرم ذلك فلما خرج قالت عائشة : من هذا يا رسول الله ؟ قال : هذا أحمق مُطَاع وإنه على ما تَرَيْن لسيدُ قومه » قوله :«وَلَوْ أَعْجَبَكَ » كقوله :«أَعْطُوا السَّائِلَ وَلَوْ على فَرَسٍ » أي في كل حال ولو على هذه الحال المنافية قال الزمخشري١٨ : قوله «حسنهن » في معنى الحال.

فصل :


معنى ﴿ ولو أعجبك حسنهن ﴾ أي ليس لك أن تطلق أحداً من نسائك وتنكح بدلها أخرى ولو أعجبك جمالها. قال ابن عباس١٩ يعني أسماء بنت عميْس الخَثْعَمِيَّة٢٠ امرأة جعفر بن أبي طالب فلما استشهد جعفر أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يَخْطِبَها فنهي عن ذلك. وقال بعض المفسرين٢١ ظاهر هذا ناسخ لما كان قد ثبت له عليه ( الصلاة٢٢ و ) السلام من أنه إذا رأى واحدة فوقعت في قلبه مَوْقِعاً كانت تحرم على الزوج ويجب عليه طلاقها. وهذه مسألة حكمية وهي أن النبي عليه ( الصلاة٢٣ و ) السلام وسائر الأنبياء٢٤ في أول النبوة يشتد عليهم برحاء الوحي ثم يستأنسون به فينزل عليهم وهم متحدِّثون٢٥ مع أصحابهم لا يمنعهم من ذلك مانع، ففي أول الأمر أحل الله من وقع في قلبه تفريغاً لقلبه، وتوسعاً لصدره لئلا يكون مشغول القلب بغير الله، ثم لما استأنس بالوحي نسخ ذلك إما لقوله عليه ( الصلاة٢٦ و ) السلام الجمع بين الأمرين، وإما لأنه بدوام الإنزال لم يبق له مألوفٌ من أمور الدنيا فلم يبق له التفات إلى غير الله فلم يبق له حاجة إلى إخلاء٢٧ المتزوّج بمن وقع بصره عليها.
قوله :﴿ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ ﴾ فيه أوجه :
أحدها : أنه مستثنى من النساء فيجوز فيه وجهان : النصب على أصل الاستثناء والرفع على البدل وهو المختار٢٨، والثالث : أنه مستثنى من «أزواج » قاله أبو البقاء٢٩، فيجوز أن يكون في موضع نصب على أصل الاستثناء، وأن يكون في موضع جر بدلاً مِن «هُنَّ » ( على٣٠ ) اللفظ، وأن يكون في موضع نصب بدلاً مِن «هُنَّ » على المحل٣١، وقال ابن عطية إن كانت ( ما٣٢ ) مصدرية فهي في موضع نصب لأنه من غير الجنس٣٣ وليس بجيد ؛ لأنه قال بعد ذلك٣٤ والتقدير : إلا ملك اليمين، و «ملك » بمعنى مملوك انتهى. وإذا كان بمعنى مملوك صار من الجنس وإذا صار من الجنس لم يكن منقطعاً على أنه على تقدير انقطاعه لا يتحتم نصبه، بل يجوز عند تميم الرفْعُ بدلاً والنصب على الأصل كالمتصل بشرط صحة توجه العامل إليه٣٥ كما تقدم تحقيقه٣٦، وهذا يمكن توجه العامل إليه، ولكن اللغة المشهورة لغةُ الحِجَاز وهو لزوم النصب في المنقطع مطلقاً، كما ذكره أبو محمد آنفاً٣٧.

فصل :


قال ابن عباس ملك بعد هؤلاء مَارِيَة٣٨، و ﴿ وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً ﴾ حافظاً عالماً بكل شيء قادراً عليه، وفي الآية دليل على جواز النظر إلى من يريد نكاحها من النساء، روي عن جابر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إِذَا خَطبَ أَحَدُكُمْ المَرْأَةَ فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَا يَدْعُوهُ إِلَى نِكَاحِها فَلْيَفْعَلْ »٣٩.
١ الإتحاف للبناء ٣٥٦، والسبعة لابن مجاهد ٥٢٣ وحجة ابن خالويه ٢٩١ والتيسير في القراءات ١٧٩ والنشر ٢/٣٤٩ وقد قال فيه: "فقرأ البصريان بالتاء على التأنيث" والدر المصون ٤/٣٩٩..
٢ ما بين القوسين ساقط من "أ" وزيادة من "ب"..
٣ يشير إلى الآية ٥٠ من نفس السورة..
٤ هذا قول مجاهد وغيره وانظر: بحر أبي حيان ٧/٢٤٣ و ٢٤٤..
٥ انظر: تفسيره ٢٥/٢٢٢..
٦ في "ب" التسع وهو الصواب نحوياً وانظر: زاد المسير ٦/٤٠٩..
٧ انظر هذه الأقوال في تفسير البغوي ٥/٢٧٠..
٨ زيادتان عن "أ" و "ب"..
٩ زيادتان عن "أ" و "ب"..
١٠ ذكره الإمام أبو الفرج ابن الجوزي في تفسيره زاد المسير ٦/٤١٠..
١١ في "ب" إذ..
١٢ المرجع السابق..
١٣ في "ب" يقول الرجل للرجل..
١٤ وهو نفس رأي أبي هريرة رضي الله عنه، انظر: المرجع السابق ومعالم التنزيل للبغوي ٥/٢٧١ وتفسير الخازن ٥/٢٧١..
١٥ المرجعان السابقان الأخيران..
١٦ في "ب" إلى جنبك وكذلك في المرجعين الأخيرين..
١٧ وفيهما: وتنزل لي عن هذه..
١٨ قال في الكشاف ٣/٢٧١: ولو أعجبك في موضع الحال من الفاعل وهو الضمير في "تَبَدَّلَ" لا من المفعول الذي هو "من أزواج" لأنه موغِل في التنكير وتقديره: "مفروضاً إعجابك بهن"..
١٩ معالم التنزيل للبغوي ٥/٢٧١..
٢٠ هي الخثعمية من المهاجرات الأول وأخت ميمونة لأمها لها ستون حديثاً، انظر: الخلاصة ٤٨٨ وفي "ب" الحنفية وهو تحريف..
٢١ وهو الفخر الرازي..
٢٢ زيادتان من "ب"..
٢٣ زيادتان من "ب"..
٢٤ انظر: التفسير الكبير للإمام الفخر الرازي ٢٥/٢٢٢..
٢٥ في الفخر: "يتحدثون"..
٢٦ زيادة من "ب" على "أ" و الفخر..
٢٧ في تفسير الفخر: "إحلال التزوج"..
٢٨ ذكره ابن الأنباري في البيان ٢/٢٧٢ ومشكل الإعراب لمكي ٢/٢٠٠ وإعراب القرآن للنحاس ٣/٣٢٢ والتبيان ١٠٥٩..
٢٩ التبيان المرجع السابق ١٠٦٠..
٣٠ ما بين المعقوفين ساقط من "ب"..
٣١ هذا شرح لعبارة أبي البقاء قاله السمين في الدر المصون ٤/٣٩٩..
٣٢ سقطت من "ب"..
٣٣ نقله عنه أبو حيان في بحره ٧/٢٤٥..
٣٤ هذا هو اعتراض أبي حيان عليه في البحر ٧/٢٤٥..
٣٥ بقية معنى كلام أبي حيان في البحر ٧/٢٤٥ على ابن عطية..
٣٦ لعله يقصد قول الله-عز وجل-: ﴿فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس﴾ وهي الآية "٩٨" من نفس السورة "يونس"..
٣٧ وأبو محمد هنا هو ابن عطية فتلك كنيته..
٣٨ زاد المسير ٦/٤١٠..
٣٩ ذكره الخازن والبغوي في تفسيرهما ٥/٢٧١..
النساء، روي عن جابر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -» إِذَا خَطبَ أَحَدُكُمْ المَرْأَةَ فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَا يَدْعُوهُ إِلَى نِكَاحِها فَلْيَفْعَلْ «
قوله
تعالى
: ﴿يا
أيها
الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي﴾
الآية قال أكثر المفسرين: نزلت هذه الآية في شأن وليمة زينبَ حين بنى بها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما روى ابن شِهَابٍ قال: أخبرني أنسُ بنُ مالك أنه كان ابن عَشْرِ سنينَ فقدِم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
578
المدينة قال: فكانت ام هانىء تواظبُني على خدمةِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فخدمته عَشْر سنينَ وتوفي وانا ابن عشرينَ فكنت أعلمَ الناس بشأن الحِجاب حين أنزل وكان أول ما أنزل في مْبْتَنَى رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بزينبَ بنتِ جحشٍ أصبح النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بها عروساً فدعا القوم وأَصابوا من الطّعام ثم خرجوا وبَقِيَ رَهْطٌ منهم عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فأطالوا المُكْثَ فقام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وخرج وخرجت معه لكي يخرجوا فمشى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فمشيت حتى جاء عتبة حُجْرَة عائشةَ ثم ظن أنهم قد خرجوا فرجَع فرَجَعْتُ معهم حتى إذا دخل على زينب فإذا هم جلوس لم يخرجوا فرجَع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ورجعت معه حتى إذا بلغ عتبة حجرة عائشة فظن أنهم قد خرجوا فرَجَع ورجعت معه فإذا هم قد خرجوا فضرب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بيني وبينه بالسِّتر - فأنزل الله الحجاب، (و) قال أبو عثمان واسمه الجَعد عن أنس (قال) فدخل - يعني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - البيت وأرخى الستر وإني لفي الحجرة وهو يقول: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿والله لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الحق﴾ وروي عن ابن عباس أنها نزلت في ناسٍ من السلمين كانوا يتحيَّنون طعام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فيدخلون عيله قبل الطعام إلى أن يدرك ثم يأكلون ولا يخرجون وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يتأذَّى بهم فنزلت الآية ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي﴾. وروى ابنُ شِهابٍ عن عروة عن عائشة أن أزواج النبي - صلى الله عيه وسلم - كُنَّ يَخْرُجْنَ باللَّيْلِ إذَا تَبَرَّزْنَ إِلَى المَنَاصِع وهو صَعِيدٌ أَفْيَحُ فكان عمر يقول للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - احجبْ نِسَاءَكَ فلم يكن رسولُ الله يفعل فخرجت سُوْدةُ بنتُ زمعة زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ليلةً من الليالي عشاءً وكانت امرأة طويلة فناداها عمر: قد عرفناك يا سَوْدَةُ حرصاً على أن تنزل آيةُ الحجاب فأنزل الله الحجاب، وعن أنس قال: قال عمر: وافَقَنِي ربي في ثلاثة، قلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فأنزل الله:
﴿واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ [البقرة: ١٢٥]، وقلت يا رسول الله: إنه يدخل عليك البرُّ الفاجر فلو أمرت أمهات
579
المؤمنين بالحِجاب فأنزل الله آية الحجاب قال: بلغني ما آذين رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نساؤه قال: فدخلت عليهن فجعلت استقربهن واحدة واحدة قلت: والله لَتَنْتَبِهْنَ أوْ لَيُبَدِّلنَّه الله أزواجاً خَيْراً منْكُنَّ حت أتيت على زينب فقالت: يا عُمَرُ: ما كان في رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ما يعظ نساءه حتى تَعِظَهُنَّ أنت قال: فخرجت فأنزل الله: ﴿عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ﴾ [التحريم: ٥] الآية
قوله: ﴿إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ﴾ فيه أوجه:
أحدها: أنها في موضع نصب على الحال تقديره إِلاَّ مَصْحُوبِينَ بالإِذن.
الثاني: أنها على إسقاط باء السبب تقديره: «إلا بِسبِب الإذن لكم» كقوله «فَأَخْرَجَ بِهِ» أي بسببه.
الثالث: أنه منصوب على الظرف قال الزمشخري: ﴿إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ﴾ في معنى الظرف تقديره: إلا وقت أن يؤذن لكم و «غَيْرَ نَاظِرينَ» حال من «لاَ تَدْخُلُوا» وقع الاسثناء على الحال والوقت معاً كأنه قيل: لا تدخلوا بيوت النبي إلا وَقْتَ الإذْنِ ولا تدخلوا إلاَّ غَيْرَ ناظرين إناه، ورد أبو حيان الأول بأن النحاة نصوا على أن «أنْ» المصدرية لا تقع مَوْقِعَ الظرف، لا يجوز: «آتِيكَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ» وإن جاز ذلك في المصدر الصريح نحو: «آتِيكَ صِيَاحَ الدِّيكَ»، ورد الثاني بأنه لا يقع بعد «إلا» في الاستثناء إلا المستثنى أو المستثنى منه أو صفته ولا يجوز فيما عَدَا هذا عند الجمهور، وأجاز ذلك الكسائي والأخفش أجازا «مَا قَامَ القوْمُ إِلاَّ يَوْمَ الجُمُعَةِ ضَاحِكِينَ» و «إلَى طَعَام» متعلق ب «يُؤْذَن» لأنه بمعنى إلاَّ أنْ يَدْعُوا إلى طعام، وقرأ العامة غَيْرَ ناظرين - بالنصب على الحال - كا تقدم، فعند الزمخشري ومن تابعه العامل فيه «يُؤْذَنَ» وعند غيرهم العامل فيه مقدر تقديره ادخلوا غير ناظرين، وقرأ
580
ابن أبي عبلة «غَيْرِ» بالجر صفة لطعام واستضعفها الناس من أجل عدم بروز الضمي لجَرَيَانه على غير مَنْ هو له فكان من حقه أن يقال: غَيْرَ ناظرين إناه أنتم، وهذا رأي البصريين، والكوفيونَ يجيزون ذلك إن لم يُلْبِسْ كهذه الآية، وقد تقدمت هذه المسألة وفروعها وما قيل فيها، وهل هذا مختص بالاسم أو يجري في الفعل خلاف مشهور قلّ من يَضْبِطُهُ.
قوله: «إِنَاهُ» قرأ العامة «إِنَاهُ» مفرداً أي نضجه، يُقَالُ: أنَى الطَّعامُ إنّى، نحوُ: قَلاَهُ قلّى، أي غير منتظرين إِدْرَاكَهُ وَوَقْتَ نُضْجِه ويقال: أنَى الحميمُ إذا انتهى حُرُّهُ، وأنَى أَنْ يَفْعَلَ كَذَا أي حان إِنَى بكسر الهمزة مقصورةً؛ وقرأ الأعمش «آناءه» جمعاً على أفْعَالٍ، فأبدلت الهمزة الثانية ألفاً والياء همزة لتطرفها بعد ألف زائدة فصار في اللفظ «كآناء» من قوله: «وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ» وإن كان المعنى مختلفاً، قال البَغَويُّ: إذا فتحت الهمزة مَدَدْتَ فقلت: الآناء وفيه لغتان أَنَى يأْنِي، وآنَ يَئِينُ مثل: حَانَ يَحِين.
قوله: ﴿وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فادخلوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ﴾ أكلتم «فَانْتَشِرُوا» تفرقوا واخرجوا من منزله.

فصل


قال ابن الخطيب قوله: ﴿إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ﴾ إِما أن يكون فيه تقديم وتأخير تقديره «وَلاَ تَدْخُلُوا إلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ» فلا يكون منعاً من الدخول في غير وقت
581
الطعام بغير الإذن وإما أن لا يكون فيه تقديم وتأخير فكيون معنى: ولا تدخلوا إلا أيؤذن لكم إلى طعام فيكون الإذن مشروطاً بكونه إلى طعام فإن لم يؤنذن إلى طعام فلا يجوز الدخول فلو أذن لواحد في الدخول لاستماع كلام لا لأكل طعام لا يجوز فنقول المراد هو الثاني ليعم النهي عن الدّخول، وأما كونه لا يجوز إلا بإذن إلى طعام فلما تقدم في سبب النزول أن الخطاب مع قوم كانوا يَتَحَيَّنُونَ حين الطعام ويدخلون من غير إذن فمنعوا من الدخول في وقتهم بغير إذن، والأولى أن يقال المراد هو الثاني لأن التقديمَ والتأخيرَ خلافُ الأصل. وقوله: «إلى طعام» من باب التخصيص بالذكر فلا يدل على نفي ما عداه لا سيما إذا علم أن غيره مثله فإن من جازَ دخول بيته بإذنه إلى طعامه، جاز دخوله إلى غير طعامه فإن غير الطعام يمكن وجوده مع الطعام فإن من الجائز أن يتكلم معه وقت ما يدعوه إلى الطعام ويَسْتَعِينُه في حوائجه ويعلمه ممِا عنده من العلوم مع زيادة الطعام فإن رضي بالكل فرضاه بالبعض أقرب إلى العقل فيصير من باب: ﴿فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا﴾ [الإسراء: ٢٣] وقوله: ﴿غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ﴾ أي لا تنظروا وقت الطعام فإنه ربما لا يَتَهَيَّأ.

فصل


لا يشترط في الإذن التصريح به بل إذا حصل العلم بالرضا جاز الدخول ولهذا قال: «إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ» من غير بيان فاعل فالآذن إن كان الله أو النبي أو العقل المؤيد بالدليل جاز والنقل دال عليه حيث قال: ﴿أَوْ صَدِيقِكُمْ﴾ [النور: ٦١] فلو جاء الرجل وعلم أنّ لا مانع في البيت من يكشف أو بحضور غير محرم أو علم خلو الدار من الأهل وهي محتاجة إلى إطفاء حريق فيها أو غير ذلك جاز الدخول وفي معنى البيت موضع مباح اختاره شخص لعبادته او اشتغاله بشغل فيأتيه أحد ويطيل المكث عنده.
قوله: ﴿وَلاَ مُسْتَأنِسِينَ﴾ يجوز أن يكون منصوباً عطفاً على «غَيْر» أي لا
582
تدخلوها غَيْرَ ناظِرينَ ولا مُسْتَأْنسين والمعنى ولا طالبين الأُنسَ لِلْحَديث، وكانوا يجلسون بعد الطعام يتحدثون طويلاً فَنُهُوا عن ذلك.
قوله: «لِحَدِيثٍ» يحتمل أن تكون لام العلة أي مستأنسين لأجل أن يحدث بعضكم بعضاً وأن تكون المقوية للعامل لأنه قرع أي ولا مستأنسين حديثَ أَهْل البَيْت أو غيرهم.
قوله: «إنَّ ذَلَكُمْ» أي إن انتظارَكم واسْئنَاسكم فأشير إِليهما إِشارة الواحد كقوله ﴿عَوَانٌ بَيْنَ ذلك﴾ [البقرة: ٦٨] أي إن المذكور.
قوله: «فيستحيي منكم» قرىء «لا يَسْتَحِي» بياء واحدة، والأخرى محذوفة، واختلف فيها هل هي الأولى أو الثانية وتقدم ذلك في البقرة، وأنها رواية عن ابن كثير وهي لغة تميم يقولون اسْتَحَى يَسْتَحِي مثل: اسْتَقَى يستقي.
قوله: ﴿والله لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الحق﴾ أن لا يترك تأديبكم وهذا إشارة إِلى أنّ ذلك حق وأدب، ثم ذكر أدباً آخر فقال: ﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فاسألوهن مِن وَرَآءِ حِجَابٍ﴾ أي من وراء سِتْر، فبعد آية الحجاب لم يكن لأحد أن ينظر إلى امرأةٍ من نساء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُنْتقِبة كانت أو غير مُنْتَقِبة ﴿ذلكم أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ﴾ من الريب لأن العين روزنة القلب فإذا لم تر العين لا يشتهي القلب، فأما وإن رأت العين فقد يشتهي القلب وقد لا يشتهي، فالقلب عند عدم الرؤية أطهر وعدم الفتنة حينئذ أظهر.
قوله: ﴿وَلاَ أَن تنكحوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً﴾ نزلت في رجلٍ من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: لئن قُبِضَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأنكحن عائشةَ. قال مقاتل بنه سليمان: هو طلحة ابن عُبَيْد الله فأخبر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ - أن ذلك مُحَرَّم وقال: ﴿إِنَّ ذلكم كَانَ عِندَ الله عَظِيماً﴾. وروى مَعْمَرٌ عن الزهري أن العالية بنتَ ظبيان التي طلق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تزوجت رجلاً وولدت له وذلك قبل تحريم أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على الناس.
583
قوله: ﴿إِن تُبْدُواْ شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ﴾ الآية نزلت فيمن أضمر نِكَاحَ عائشةَ بعد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقيل: قال رجل من الصحابة ما بالنا نمنع الدخول على بنات أعمامنا فنزلت هذه الآية، ولما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأقارب ونحن أيضاً نكلمهن من وراء حجاب فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ - ﴿لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ في آبَآئِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآئِهِنَّ وَلاَ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآءِ أَخَوَاتِهِنَّ﴾ أي لا إثم عليهنّ في ترك الاحتجاب عن هؤلاء «وَلاَ نِسَائِهِنَّ» قيل: أراد به نساء المُسْلمات حتى لا يجوز للكتبيات الدخول عليهن.
وقيل: هو عام في المسلمات والكتبيات وإنَّمَا قال: «وَلاَ نِسَائِهِنَّ» لأنهن من أجناسهن، وقد الآباء لأن اطلاعهم على بناتهم أكثر، وكيف وهم رأوا جميع بدن البنات في حال صغرهن ثم الأبناء ثم الإخوة وذلك ظاهر، إنما الكلام في بني الإخوة حيث قدمهم الله عليه على بنات الأخواتِ لأن بني الأخوات آباؤهم في بني الإخوة حيث قدمهم الله عليه على بنات الأخواتِ لأن بين الأخوات آباؤهم ليس المحارم خالات أبنائهم وبني الإخوة آباؤهم محارم أيضاً، ففي بني الأخوات مفسدة ما وهي أن الابن ربما يحكي خالته عند أبيه وهو ليس بمحرم ولا كذلك بنوة الإخوة. فإن قيل: لم يذكر الله تعالى من المحارم الأعمام والأخوال ولم يقل: ولا أعمامهن ولا أخوالهن؟.
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن ذلك معلوم من بني الإخوة وبني الأخوات لأن من علم أن بني الأخ للعمّات محام علم أن بنات الأخ عند آبائهم وهم غير محارم وكذلك الحال في ابن الخال.
قوله: ﴿وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ﴾ ذكر هذا بعد الكل، فإن المفسدة في التكشف لهم ظاهرة، واختلفوا في عبد المرأة هل يكون محرماً لها فقيل يكون لها لقوله: ﴿وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ﴾، وقيل: المراد من كان دون البلوغ.
قوله: «واتَّقِينَ» عطف على محذوف أي امْتَثِلْنَ ما أُمرْتُنِ بِهِ واتَّقِينَ اللَّهَ أن يراكنّ غير هؤلاء، وقوله: ﴿إِنَّ الله كَانَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً﴾ في غاية الحسن في هذا
584
الموضع لأن ما سبق إشارة إلى جواز الخلوة بهم والتكشف لهم فقال إن الله شاهد عند اختلاء بعضكم ببعض فخلوتكم مثل ملئكم بشهادة الله فاتقوا الله فإنه شهيد على أعمال العباد.
قوله: ﴿إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي﴾ العامة على نصب «الملائكة» نَسَقاً على اسم «إن» و «يُصَلُّونَ» هل هو خبر عن «اللَّه وملائكته» أو عن «الملائكة» فقط، وخبر الجلالة محذوف لتغاير الصلاتين خلاف. وقرأ ابن عباس وُرَويت عن أبي عمرو: وَمَلاَئِكَتُهُ رفعاً فيحتمل أنْ يكون عطفاً على محل اسم «إِنَّ» عند بعضهم، وأن يكون مبتدأ والخبر محذوف وهو مذهب البصريين، وقد تقدم فيه بحث نحو: زَيْدٌ ضَارِبٌ وعَمْرٌو أي ضَارِبٌ فِي الأَرْضِ.

فصل


لما أمر بالاستئذان وعدم النظر إلى نسائه احتراماً له كمل بيان حرمته وذلك أن حالاته منحصرة في حالتين حالة خلوة فذكر ما يدل على احترامه في تلك الحالة بقوله: ﴿لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي﴾ وحالة بكونه في ملأ والملأ إما الملأ الأعلى وإما الملأ الأدنى أما احترامه في الملأ الأعلى فإن الله وملائكته يصلون عليه، وأما احترامه في الملأ الأدنى فقوله: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً﴾.

فصل


قال ابن عباس: أراد أنّ الله يرحم النبي والملائكة يدعون له، وعن ابن عباس
585
أيضاً: يصلون يزكون، قويل: الصلاة من الله الرحمة، ومن الملائكة الاستغفار. وقال أبو العالية: صلاة الله ثناؤه عليه عند الملائكة وصلاة الملائكة الدعاء، روى عبد الرحمن بنُ أَبي لَيْلَى قال: «لَقِيَنِي كعْب بن عُجْرَةَ فقال: ألا أُهْدِي لك هديّة سمعتُها من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقلت بلى فأهدها إليَّ قال: قلنا يا رسول الله قد علمنا كيف نسلم فكيف نصلي عليك؟ قال:» قولوا اللَّهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبْرَاهيم إنك حميد مجيد «وروى أبو حُمَيْد السَّاعِدِيّ» أنهم قالوا يا رسول الله: كيف نصلي عليك؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قولوا: اللَّهم صلِّ على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد «وروى ابن مسعود قال:» قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِي يَوْمَ القِيَامَةِ أَكْثَرهُمْ عَلَيَّ صَلاَةَ» وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال:» مَنْ صَلأَّى عَلَيَّ وَاحِدةً صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْراً «، وروى عبد الله بن أبي طلحة عن أبيه عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -» أنه جاء ذات يوم والبِشْرُ في وجهه فقال: «إِنِّي جَاءَنِي جبريلُ فقال: أَمَا يُرْضِيكَ يا محمد أن لا يُصَلِّي عَلَيْكَ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِكَ إِلاَّ صَلَّيْتُ عَلَيْهِ عَشْراً وَلاَ يُسَلِّمُ عَلَيْكَ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِكَ إِلاَّ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ عَشْراً» وروى عامر بن ربيعة «أنه سمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقول» مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاَةً صَلَّت المَلاَئِكَةُ عَلَيْهِ مَا صَلَّى عَلَيَّ فليقلّ العَبْدُ مِنْ ذَلِكَ أوْ لِيُكْثِرُ «وروى عبد الله بن مسعود قال:» قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «إنَّ لِلَّه مَلاَئِكَةً سَيَّاحِينَ في الأَرْضِ يُبَلِّغُونَ عَنْ أُمَّتِي السَّلاَمَ»

فصل


دلت الآية على وجوب الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأن الأمر للوجوب ولا تجب
586
في غير التشهد فتجب في التشهد وكذلك قوله: «وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً» أمر فيجب السلام ولم يجب في غير الصلاة فيجب فيها وهو قولنا في التشهد: السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ، وذكر في السلام المصدر للتأكيد، ولم يُؤكد الصلاة لأنها كانت مؤكدة بقوله: ﴿إن الله وملائكته يصلون على النبي﴾.
فإن قيل: إذا صلى الله وملائكته عليه فأي حاجة به إلى صلاتنا؟
فالجواب: أن الصلاة عليه ليس لحاجة إليها وإلا فلا حاجة إلى صلاة الملائكة مع صلاة الله عليه، وإنما هو إظهاره وتعظيمه (كما أن الله تعالى) وجب علينا ذكر نفسه ولا حاجة له إليه وإنما هو لإظهاره وتعظيمه منا شفقة علينا ليثيبنا عليه ولهذا قال عليه (الصلاة و) السلام: «ومن صلى علي واحدة صلى الله عليه عشراً»
قوله (تعالى) :﴿إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله﴾ فيه أوجه أي يقولون فيه ما صورته أذى وإن كان تعالى لا يلحقه ضرر ذلك حيث وصفوه بما لا يليق بجلاله من اتخاذ الأنداد ونسبة الولد والزوجة إليه، قال ابن عباس هم اليهود والنصارى والمشركون، قال عليه (الصلاة و) السلام «يقول الله تعالى:» شَتَمَنِي عَبْدِي يَقُولُ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً وَأَنَا الأَحَدُ الصَّمَدُ لَمْ أَلِدُ وَلَم أَولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لِي كفواً أَحَدٌ «، وقال عليه (الصلاة و) السلام» قال الله تعالى: يُؤذِيني ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهرَ وأَنَا الدَّهرُ بِيدِي الأَمْرُ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ والنَّهَارَ «، وقيل: يؤذون الله: يلحدون في أسمائه وصفاته، وقال عكرمة: هم أصحاب التصاوير، روى أبو هريرة قال:» سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقول: «قال الله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ يَخْلُقُ كَخَلْقِي فليخلقوا ذَرَّةً أَوْ لِيَخْلُقُوا حَبَّةً أَوْ شَعِيرَةً»
587
ويحتمل أن يكون على حذف مضاف أي أولياء الله كقوله: ﴿واسأل القرية﴾ [يوسف: ٨٢] أي أهل القرية قال عليه (الصلاة و) السلام: «قال الله تعالى:» مَنْ عَادَى لِي وَلِيّاً فَقَدْ آذَنْتُهُ بالحَرْبِ «وقال:» مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيَّاً فَقَدْ بَارَزَنِي بِالمُحَارَبَةِ «ومعنى الأذى هو مخالفة أمر الله وارتكاب معاصيه وذكره على ما يتعارفه الناس بينهم والله عَزَّ وَجَلَّ منزه عن أن يلحقه أذى من أحد، وقال بعضهم أتى بالجلالة تعظيماً، والمراد يؤذون رسولي كقوله: ﴿إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله﴾ [الفتح: ١٠] وأما إيذاء الرسول فقال ابن عباس: هو أنه شُجَّ في وجهه وكُسِرت رُبَاعِيّتُه، وقيل: ساحر شاعر معلم مجنون، ثم قال: ﴿لَعَنَهُمُ الله فِي الدنيا والآخرة﴾ واللعن الطرد، وهذا إشارة إلى بعد لا رجاء للقرب معه، لأن البعيد في الدنيا يرجو القرب في الآخرة فإذا خاب في الآخرة فقد خاب وخسر. ثم إنه تعالى لم يحصر جزاءه في الإبعاد بل أوعده بالعذاب المهين فقال:» وَأَعَدَّ لَهُمْ «وهذا يفيد التأكيد؛ لأن السيد إذا عذب عبده حالة الغضب من غير إعداد يكون دون ما أعد له قيداً وغلاًّ.
قوله: ﴿والذين يُؤْذُونَ المؤمنين والمؤمنات بِغَيْرِ مَا اكتسبوا﴾ أي من غير ما عملوا ما أوجب أذاهم، وقال مجاهد: يقعون فيهم ويرمونهم بغير كلام، وقيل: إن من جُلِدَ مائة على شرب الخمر أو حُدَّ أربعين على لعب النَّرْد فقد أوذي بغير ما اكتسب.
قوله: «فَقَد احْتَمَلُوا»
خبر «والذين» ودخلت الفاء لشبه الموصول بالشرط.
وقوله: ﴿بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِينا﴾ قال مقاتل: نزلت في علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - كانوا يؤذونه ويسمعونه وقيل: نزلت في شأن عائشة، وقال الضحاك والكلبي: نزلت في الزّناة (الذين) كانوا يتشمون في طريق المدينة يتبعون النساء إذا برزن بالليل لقضاء حوائجهن فيغمزون المرأة فإِن سكتت اتبعوها وإن زجرتهم انتهوا عنها ولم يكونوا
588
يطلبون إلا الإماء ولكن كانوا لا يعرفون الحرة من اَمَةِ؛ لأن زي الكل كان واحداً يخرجن في دِرْع وخمار الحرة والأمة فشكَوا ذلك إلى أزواجهن فذكروا ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فنزلت هذه الآية: ﴿والذين يُؤْذُونَ المؤمنين والمؤمنات﴾ الآية، ثم نهى الحرائر أن يتشبهن بالإِماء فقال - عَزَّ وَجَلَّ - ﴿يا أيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ المؤمنين يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ﴾.
فإن قيل: البهتان هو الزور، وهو لا يكون إلا في القول، والإيذاء قد يكون بغير القول، فمن آذى مؤمناً بالضرب أو أخذ ماله لا يكون قد احتمل بهتاناً؟
فالجواب: أن المراد: والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بالقول لأن الله تعالى أراد أظهار شرف المؤمنين لأنه لما ذكر أن من آذى الله ورسوله لعن، وإيذاء الله أن ينكر وجوده أو يشرك به من لا يبصر لا يسمع وذلك قول فذكر إيذاء المؤمنين بالقول وعلى هذا خص إيذاء القول بالذكر لأنه أعم؛ لأنه الإنسان لا يقدر أن يؤذي الله بما يؤلمه من ضرب أو أخذ مال ويؤذيه بالقول وكذا الغائب لا يمكن إيذاؤه بالفعل ويمكن إيذاؤه بالقول بأن يقول فيه ما يصل إليه فيتأذى، ووجه آخر في الجواب بأن يقال: قوله بعد ذلك: وإثْماً مُبِيناً، كأنه استدرك فكان قوله احتمل بهتاناً إن كان بالقول، وَإِثْماً مبيناً ما كان الإيذاء.
قوله: «يُدْنِينَ» كقوله ﴿قُل لِّعِبَادِيَ... الذين آمَنُواْ يُقِيمُواْ..﴾ [إبراهيم: ٣١] و «مِنْ» للتَّبْعِيض، و «الجَلاَبِيبُ» جمع «الجِلْبَابِ» وهو المَلاَءَةُ التي تشتمل بها المرأة فوق الدرع والخمار، قال ابن عباس و (أبو) عبيدة من نساء المؤمنين أن يغطين رؤوسهن ووجوههنّ بالجلابيب إلا عينا واحدة ليعلم أنهن حرائر. وقوله: " ذلك أدنى " أي إدناء الجلابيب أقرب إلى عِرْفَانِهِنَّ أي أدنى أن يعرفن أنهن حرائر «فَلاَ يُؤْذَيْنَ» لا يتعرض لهن، ويمكن أن يقال: المراد يعرفن أنهن لا يَزْنينَ لأن من تستر وجهها مع أنه ليس بعورة لا يطمع فيها أنها تكشف عورتها فيُعْرَفْنَ أنهنَّ مستوراتٌ لا يمكن طلب الزنا منهن. {وَكَانَ الله
589
غَفُوراً رَّحِيماً} قال أنس: مرت بعمر بن الخطاب جارية مقنَّعة فعلاها بالدرَّة، وقال: يا لَكَاعِ أتتشبّهين بالحَرَائِرِ أَلْقِي القِنَاعَ.
قوله: ﴿لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ﴾ لما ذكر حال المشركين الذي يؤذون الله ورسوله والمجاهر الذي يؤذي المؤمنين ذكر حال المُسِرِّ الذي لا يظهر الحق ويظهر الباطل وهو المنافق ولما كان المذكور من قبلُ أقواماً ثلاثةً نظر إلى أمورِ ثلاثة وهم المُؤْذُونَ لله والمُؤْذُونَ للرسول، والمؤذون للمؤمنين ذكر للمسرين ثلاثة نظراً إلى اعتبار أمور ثلاثة:
أحدها: المنافق الذي يؤذي الله سرّاً.
والثاني: الذي في قلبه مرض وهو الذي يؤذي المؤمن باتباع نِسَائِهِ.
والثالث: المرجف الذي يؤذي النبي عليه (الصلاة و) السلام بالإرجاف بقوله: غُلِبَ محمد، وسيخرج من المدينة وسيؤخذ، وهؤلاء وإِنْ كانوا قوماً واحداً إلاَّ أنَّ لهم ثلاث اعتبارات وهذا لقوله تعالى: ﴿إِنَّ المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات﴾ حيث ذكر أصنافاً عشرة وكلهم يوجد في واحد بالشخص لكنه كثير الاعتبار فقال: ﴿لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المنافقون﴾ أي عن نفاقهم ﴿والذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ﴾ يعني الزناة، ﴿والمرجفون فِي المدينة﴾ بالكذب وذلك أن ناساً منهم كانوا إذا خرجت سرايا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُوقِعُونَ في الناس أنهم قتلوا وهزموا ويقولون قد أتاكم العدو ونحوه، وقال الكلبي: كانوا يحبون أن تشيع الفاحشةُ في الذين آمنوا وَيفْشُو الأخبار.
قوله: «لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ» أي لنُحَرِّشَنَّكَ وَلنُسَلِّطَنَّكَ عليهم لِتُخْرِجَهُمْ من المدينة ﴿ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ﴾ لا يساكنونك فيها أي في المدينة «إلاَّ قَلِيلاً» حتى يخرجوا منها، وقيل: لنسلطنهم عليهم بقتلهم ونخرجهم من المدينة.
قوله: «الاَّ قَلِيلاً» أي إِلاَّ زماناً قليلاً، أو إلا جوَاراً قليلاً، وقيل: «قليلاً» نصب على الحال من فاعل «يجاورونك» أي إِلا أَقِلاَّءَ أَذِلاَّء بمعنى قَلِيلِينَ، وقيل: قيلاً منصوب على الاستثناء أي لا يجاور إلا القليل منهم على أذل حال وأقله.
قوله: «مَلْعُونِينَ» حال من فاعل «يُجَاوِرُونَكَ» قاله ابن عطية، والزمخشري
590
وأبو البقاء، قال ابن عطية لأنه بمعنى مُنَتَفَوْنَ منها مَلْعُونينَ، وقال الزمخشري: دخل حرف الاستثناء على الحال والظرف معاً كما مر في قوله: ﴿إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ غَيْرَ﴾ وتقدم بحث أبي حيان معه، وهو عائد هنا، وجوز الزمخشري أن ينتصب على الشَّتْم؛ وجوز ابن عطية أن يكون بدلاً من «قليلاً» على أنه حال كما تقدم تقريره، ويجوز أن يكون «ملعونين» نعتاً، ل «قليلاً» على أنه منصوب على الاستثناء من واو «يجاورونك» كما تقدم تقريره، أي لا يُجَاوِرُكَ مِنْهُمْ أَحَدٌ قَلِيلاً ملعوناً، ويجوز أن يكون منصوباً «بأُخِذُوا» الذي هو جواب الشرط نحو: خَيْراً إِنْ تَأْتِنِي تُصِبْ، وقد منع الزمخشري من ذلك فقال: ولا يصح أن يَنْتَصِبَ «بأخذ» لأن ما بعد كلمة الشرط لا يعمل فيها قبلها، وهذا منه مشيء على الجَارَّةِ، وقوله ما بعد كلمة الشرط يشتمل فعل الشرط والجواب، فأما الجواب فتقدم حكمه وأما الشرط فأجاز الكسائيّ أيضاً تقديم معموله على الأداة، نحو: «زَيْداً إنْ تَضْرِبْ أُهِنْكَ» فتلخص في المسألة ثلاثة مذاهب المنع مطلقاً، الجواز مطلقاً، التفصيل يجوز تقديم معمولي الجواب، ولا يجوز تقديم معمولي الشرط وهو رأي الفراء.
قوله: «وَقُتِّلُوا» العامة على التشديد، وقرىء بالتخفيف. وهذه يردها مجيء المصدر على التفعيل إلا أن يقال: جاء على غير مصدره، وقوله: «سُنَّةَ اللَّهِ» تقدم نظيرها.
591
قوله: «مَلْعُونينَ» مطرودين من باب الله وبابك، وإذا خرجوا لا يَنْفَكُّونَ عن الذلة ولا يجدون ملجأً بل أينما يكونون يؤخذون ويقتلون، وهذا ليس بِدْعاً بل هو سنة جارية وعادة مستمرة تفعل بالمكذبين ﴿وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً﴾ أي ليست هذه السنة مثل الحكم الذي يتبدل وينسخ فإن النسخ يكون في الأقوال أما الأفعال إذا وقعت والأخبار لا تنسخ.
قوله: ﴿يَسْأَلُكَ الناس عَنِ الساعة قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله﴾ لما بين حالهم في الدنيا أنهم يُلْعَنُونَ ويُهَانُونَ ويُقْتَلُونَ أراد أن يبين حالهم في الآخرة، فذكرهم بالقيامة وما يكون لهم فيها فقال: ﴿يَسْأَلُكَ الناس عَنِ الساعة قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله﴾ أي إن وقت القيامة علمه عند الله لا يبين لهم فإِن الله أخفاها لحكمةٍ وهي امتناع المكلف عن الاجتراء وخوفهم منها في كل وقت.
قوله: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة﴾ الظاهر أن «لعل» تعلق كما تعلق التمني و «قريباً» خبر كان على حذف موصوف أي شيئاً قريباً، وقيل: التقدير: قيام الساعة فروعيت «الساعة» في تأنيث «يكون» ورُوعِيَ المضاف المحذوف في تذكير «قريباً» وقيل: «قريباً» أكثر استعماله استعمال الظرف فهو هنا ظرف في موضع الخبر. وقال ابن الخَطِيب: فَعِيلٌ يستوي فيه المذكَّر والمؤنث قال تعالى: ﴿إِنَّ رَحْمَةَ الله قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين﴾ [الأعراف: ٥٦] أي لعلَّ الساعةَ تكون قريبةً.

فصل


المعنى أي شيء يعلمك أمر الساعة ومتى يكون قياماه أي أنت لا تعرفه لعل الساعة تكون قريباً. وهذا إشارة إلى التخويف، ثم قال: ﴿إِنَّ الله لَعَنَ الكافرين وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً﴾ أي كما أنهم ملعونون في الدنيا عندكم فكذلك هم يلعنون عند الله وأعد لهم سعيراً كما قال: ﴿لَعَنَهُمُ الله فِي الدنيا والآخرة وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً﴾ مطيلين المكث فيها مستمرين، وقوله «فِيهَا» أي في السعير لأنها مؤنثة، أو لأنه في معنى «جهنم» ﴿لاَّ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً﴾ حال ثانية، أو من «خَالِدِينَ» لا يجدون ولياً ولا نصيراً أي لا صديق يشفع لهم، ولا ناصر يدفع عنهم.
قوله: «يَوْمَ» معمول «لِخالدين» أو لمحذوف، أو «لنصير» أو «لاذْكُرْ» أو لِ «يقولون» بعده، وقرأ العامة تُقَلأَّبُ - مبنيّاً للمفعول (و) وُجُوهُهُمْ رفع على ما لم
592
يسم فاعله، وقرأ الحسن وعيسى والرؤاسي - بفتح التاء - أي تَتَقَلَّب (و) وُجُوهُهُمُ فاعل به، وأبو حيوة نُقَلِّبُ بالنون أي نحن (و) وُجُوهَهُمْ بالنصب. وعيسى تُقَلّب - بضم التاء وكسر اللام - أي السعيرُ أو الملائكةُ وُجُوهَهُمْ بالنصب على المفعول به «يَقُولُون» حال و «يَا لَيْتَنَا» مَحْكيّ.
قوله: ﴿تقلب وجوههم في النار﴾ ظهراً لبطن كانا يسحبون لعيها يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولَ في الدنيا.
قوله: «سَادَتَنا» قرأ ابنُ عامر في آخرينَ بالجمع بالألف والتاء، قال البغوي على جَمْع الجَمْع، والباقون «سَادَتَنا» على أنه جمع تكسير غير مجموع بألف وتاء، ثم «سادة» يجوز أن يكون جمعاً لسيّد ولكن لا ينقاص لأن «فيْعلاً» لا يجمع على «فَعَلَةٍ» وسادة فعلة، إذ الأصل سَوَدَةٌ، ويجوز أن يكون جمعاً لسائد نحو: فَاجِر وفَجَرَةٍ وكَافِر وكَفَرَةٍ، وهو أقرب إلى القياس مما قبله، وابن عامر جمع هذا ثانياً بالألف والتاء وهو غير مقيس أيضاً نحو: بُيُوتَات، وجَمَالاَتٍ.

فصل


لما بين أنه لا شفيع لهم يدفع عنهم العذاب بين أن بعض أعضائه أيضاً لا يدفع العذاب عن البعض بخلاف عذاب الدنيا فإن الإنسان يدفع عن وجهه الضربة اتِّقاءً بيده فإن من يقصد رأسه ووجهه يجعل يده جُنَّة لوجهه ووقاية له يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسول في الدنيا فيندمون حيث لا تنفعهم الندامة ثم يقولون ﴿رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا﴾ أي
593
قوله :﴿ إِن تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ ﴾ الآية نزلت١ فيمن أضمر نِكَاحَ عائشةَ بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقيل : قال رجل من الصحابة ما بالنا نمنع الدخول على بنات أعمامنا فنزلت هذه الآية٢،
١ المرجع السابق وانظر: تفسير الخازن ٥/٢٧٣ المسمى لباب التنزيل..
٢ المرجع السابق وانظر: تفسير الخازن ٥/٢٧٣ المسمى لباب التنزيل..
ولما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأقارب ونحن أيضاً نكلمهن من وراء حجاب فأنزل الله - عز وجل - ﴿ لاَ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ في آبَائِهِنَّ وَلاَ أَبْنَائِهِنَّ وَلاَ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ ﴾ أي لا إثم عليهنّ في ترك الاحتجاب عن هؤلاء١ «وَلاَ نِسَائِهِنَّ » قيل : أراد به نساء المُسْلمات حتى لا يجوز للكتابيات الدخول عليهن٢.
وقيل : هو عام في المسلمات والكتابيات٣ وإنَّمَا قال :«وَلاَ نِسَائِهِنَّ » لأنهن من أجناسهن، وقدم الآباء لأن اطلاعهم على بناتهم أكثر، وكيف وهم رأوا جميع بدن البنات في حال صغرهن ثم الأبناء ثم الإخوة وذلك ظاهر، إنما الكلام في بني الإخوة حيث قدمهم الله عليه على بنات الأخواتِ لأن بني الأخوات آباؤهم ليس المحارم خالات٤ أبنائهم وبني الإخوة آباؤهم محارم أيضاً، ففي بني الأخوات مفسدة ما وهي أن الابن ربما يحكي خالته عند أبيه وهو ليس بمحرم ولا كذلك بنوة الإخوة. فإن قيل : لم يذكر الله تعالى من المحارم الأعمام والأخوال ولم يقل : ولا أعمامهن ولا أخوالهن ؟.
فالجواب من وجهين :
أحدهما : أن ذلك معلوم من بني الإخوة وبني الأخوات لأن من علم أن بني الأخ للعمّات محارم علم أن بنات الأخ عند آبائهم وهم غير محارم وكذلك الحال في ابن٥ الخال.
قوله :﴿ وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ ﴾ ذكر هذا بعد الكل، فإن المفسدة في التكشف لهم ظاهرة٦، واختلفوا في عبد المرأة هل يكون محرماً لها فقيل يكون لها لقوله :﴿ وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ ﴾، وقيل : المراد من كان دون البلوغ٧.
قوله :«واتَّقِينَ » عطف على محذوف أي امْتَثِلْنَ ما أُمرْتُنِ بِهِ واتَّقِينَ اللَّهَ٨ أن يراكنّ غير هؤلاء٩، وقوله :﴿ إِنَّ الله كَانَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً ﴾ في غاية الحسن في هذا الموضع لأن ما سبق إشارة إلى جواز الخلوة بهم والتكشف لهم فقال إن الله شاهد عند اختلاء بعضكم ببعض فخلوتكم مثل ملئكم بشهادة الله تعالى فاتقوا١٠ الله فإنه شهيد على أعمال العباد.
١ زاد المسير ٦/٤١٧..
٢ الخازن والبغوي ٥/٢٧٣..
٣ الخازن والبغوي ٥/٢٧٣..
٤ في تفسير الفخر: "إنما هم أزواج خالات أبنائهم"..
٥ في "ب" والرازي: "أمر الخال"..
٦ وانظر هذا كله في التفسير الكبير للفخر الرازي ٢٥/٢٢٦..
٧ ذكره الخازن في لباب التأويل والبغوي في معالم التنزيل ٥/٢٧٤ وابن الجوزي في زاد المسير ٦/٤١٨..
٨ قاله السمين في الدر ٤/٤٠٦..
٩ قاله البغوي في معالم التنزيل ٥/٢٧٤..
١٠ قاله الفخر الرازي ٢٥/٢٢٧..
قوله :﴿ إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي ﴾ العامة على نصب «الملائكة » نَسَقاً على اسم «إن » و «يُصَلُّونَ » هل هو خبر عن «اللَّه وملائكته » أو عن «الملائكة » فقط، وخبر الجلالة محذوف لتغاير الصلاتين خلاف١. وقرأ ابن عباس وُرَويت٢ عن أبي عمرو : وَمَلاَئِكَتُهُ رفعاً٣ فيحتمل أنْ يكون عطفاً على محل اسم «إِنَّ » عند بعضهم٤، وأن يكون مبتدأ والخبر محذوف وهو مذهب البصريين٥، وقد تقدم فيه بحث نحو : زَيْدٌ ضَارِبٌ وعَمْرٌو أي ضَارِبٌ فِي الأَرْضِ.

فصل :


لما أمر٦ بالاستئذان وعدم النظر إلى نسائه احتراماً له كمل بيان حرمته وذلك أن حالاته منحصرة في حالتين حالة خلوة فذكر ما يدل على احترامه في تلك الحالة بقوله :﴿ لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ ﴾ وحالة بكونه في ملأ والملأ إما الملأ الأعلى وإما الملأ الأدنى أما احترامه في الملأ الأعلى فإن الله وملائكته يصلون عليه، وأما احترامه في الملأ الأدنى فقوله :﴿ يا أيها الذين آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾.

فصل :


قال ابن عباس : أراد أنّ الله يرحم النبي والملائكة يدعون له، وعن ابن عباس أيضاً : يصلون يزكون، وقيل : الصلاة من الله الرحمة، ومن الملائكة الاستغفار٧. وقال أبو العالية : صلاة الله ثناؤه عليه عند الملائكة وصلاة الملائكة الدعاء٨، روى عبد الرحمن بنُ أَبي لَيْلَى قال :«لَقِيَنِي كعْب بن عُجْرَةَ فقال : ألا أُهْدِي لك هديّة سمعتُها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت بلى فأهدها إليَّ قال : قلنا يا رسول الله قد علمنا كيف نسلم فكيف نصلي عليك ؟ قال :«قولوا اللَّهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبْرَاهيم إنك حميد مجيد »٩ وروى أبو حُمَيْد السَّاعِدِيّ «أنهم قالوا يا رسول الله : كيف نصلي عليك ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قولوا : اللَّهم صلِّ على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد »١٠ وروى ابن مسعود قال :«قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :«إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِي يَوْمَ القِيَامَةِ أَكْثَرهُمْ عَلَيَّ صَلاَةً »١١. وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :«مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدةً صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْراً »١٢، وروى عبد الله بن أبي طلحة عن أبيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أنه جاء ذات يوم والبِشْرُ في وجهه فقال :«إِنِّي جَاءَنِي جبريلُ فقال : أَمَا يُرْضِيكَ يا محمد أن لا يُصَلِّي عَلَيْكَ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِكَ إِلاَّ صَلَّيْتُ عَلَيْهِ عَشْراً وَلاَ يُسَلِّمُ عَلَيْكَ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِكَ إِلاَّ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ عَشْراً »١٣ وروى عامر بن ربيعة١٤ «أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم – يقول «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاَةً صَلَّت المَلاَئِكَةُ عَلَيْهِ مَا صَلَّى عَلَيَّ فليقلّ العَبْدُ مِنْ ذَلِكَ أوْ لِيُكْثِرُ »١٥ وروى عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :«إنَّ لِلَّه مَلاَئِكَةً سَيَّاحِينَ في الأَرْضِ يُبَلِّغُونَ عَنْ أُمَّتِي السَّلاَمَ »١٦.

فصل :


دلت الآية على وجوب١٧ الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن الأمر للوجوب ولا تجب في غير التشهد فتجب في التشهد وكذلك قوله :«وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً » أمر فيجب السلام ولم يجب في غير الصلاة فيجب فيها وهو قولنا في التشهد : السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ، وذكر في السلام المصدر للتأكيد، ولم يُؤكد الصلاة لأنها كانت مؤكدة بقوله :﴿ إن الله وملائكته يصلون على النبي ﴾.
فإن قيل : إذا صلى الله وملائكته عليه فأي حاجة به إلى صلاتنا ؟.
فالجواب : أن الصلاة عليه ليس لحاجة١٨ إليها وإلا فلا حاجة إلى صلاة الملائكة مع صلاة الله عليه، وإنما هو إظهاره وتعظيمه ( كما أن الله تعالى )١٩ وجب علينا ذكر نفسه ولا حاجة له إليه وإنما هو لإظهاره وتعظيمه منا شفقة علينا ليثيبنا عليه ولهذا قال عليه ( الصلاة٢٠ و ) السلام :«ومن صلى علي واحدة صلى الله عليه عشراً ».
١ تقدم عند قوله تعالى: ﴿هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور﴾ من الآية ٤٣ من نفس السورة..
٢ هو محمد بن المتوكل أبو عبد الله اللؤلؤي رُوَيْس المقرئ، قرأ على يعقوب الحَضْرَمِيّ تصدر للإقراء قرأ عليه محمد بن هارون التمار وأبو عبد الله الزبيري مات بالبصرة سنة ٢٣٨ هـ، انظر: معرفة القراء الكبار للذهبي ١/٢١٦ وغاية النهاية ٢/٢٣٤ و ٢٣٥..
٣ لم ترد هذه القراءة مروية عن أبي عمرو في السبع أو العشر المتواترة كما لم ترد عن طريق الأربع الشواذ فوق العشرة وعلى ذلك فهي غير متواترة انظر: مختصر ابن خالويه ١٢٠ والكشاف ٣/٢٧٢..
٤ وهو ما يسمى بالعطف على المحل وهو القسم الثاني من أقسام العطف وقوله "عند بعضهم" أي بعض البصريين لأن للعطف على المحل شروطاً ثلاثة معروفة من بينها وجوب المُحْرِز- أي الطالب لذلك المحل والطالب لرفع لفظ الجلالة- وهو الله- هو الابتداء والابتداء هو التجرد والتجرد قد زال بدخول "إنَّ" ولكن الكوفيين أجازوا تلك المسألة وشبيهتها لأنهم لم يشترطوا المُحْرز، ولأن "أن" لم تعمل عندهم في الخبر شيئاً بل هو مرفوع بما كان مرفوعاً به قبل دخولها..
٥ لأنهم يشترطون في العطف على المحل وجود المحرز كما قلت..
٦ تفسير الرازي ٢٥/٢٢٧..
٧ معالم التنزيل للبغوي ٥/٢٧٤..
٨ زاد المسير ٦/٣٩٨..
٩ السابق..
١٠ رواه البخاري ٣/١٧٨ والإمام مالك في الموطأ باب السفر برقم ٦٦ ومسند الإمام أحمد ١/٦٣ و ٣/٤٧ و ٤/١١٨ و ٢٤١ و ٢٤٣ و ٢٤٤ و ٥/٢٧٤ و ٢٧٤ و ٤٢٤..
١١ الحديث في الترمذي ١/٣٢ الوتر "باب ما جاء في فضل الصلاة على النبي"..
١٢ نقله البغوي في معالم التنزيل ٥/٢٧٥ والجامع في أحكام القرآن للقرطبي ١٤/٢٣٥..
١٣ المرجعان السابقان القرطبي ١٤/٢٣٧ والبغوي ٥/٢٧٥ وانظر الخازن ٥/٢٧٥ وفي القرطبي "والبُشْرَى في وجهه" بدل "البِشْر"..
١٤ ابن كعب بن مالك العنزي أسلم قديماً، وهاجر إلى الحبشة، وإلى المدينة وشهد بدراً والمشاهد له اثنان وعشرون حديثاً مات سنة ٣٣ هـ انظر: خلاصة الكمال ٨٤..
١٥ البغوي ٥/٢٧٥..
١٦ القرطبي ١٤/٢٢٧..
١٧ وهو قول محمد بن المواز، وابن العربي والدارقطني فيما ذكر القرطبي، والذي عليه الجم الغفير والجمهور الكثير أن ذلك من سنن الصلاة ومستحباتها كالإمام مالك وسفيان الثوري وأهل المدينة وأهل الكوفة..
١٨ في تفسير الفخر الرازي "لحاجته إليها"..
١٩ ما بين القوسين ساقط من "ب"..
٢٠ سقط من "ب"..
قوله ( تعالى١ ) :﴿ إِنَّ٢ الذين يُؤْذُونَ الله ﴾ فيه أوجه أي يقولون فيه ما صورته أذى وإن كان تعالى لا يلحقه ضرر ذلك حيث وصفوه بما لا يليق بجلاله من اتخاذ الأنداد ونسبة الولد والزوجة٣ إليه، قال ابن عباس هم اليهود والنصارى والمشركون٤، قال عليه ( الصلاة٥ و ) السلام يقول الله تعالى :«شَتَمَنِي عَبْدِي يَقُولُ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً وَأَنَا الأَحَدُ الصَّمَدُ لَمْ أَلِدُ وَلَم أَولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لِي كفواً أَحَدٌ »٦، وقال عليه ( الصلاة٧ و ) السلام قال الله تعالى :«يُؤذِيني ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهرَ وأَنَا الدَّهرُ بِيدِي الأَمْرُ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ والنَّهَارَ »٨، وقيل : يؤذون الله : يلحدون في أسمائه وصفاته٩، وقال عكرمة : هم أصحاب التصاوير١٠، روى أبو هريرة قال :«سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول :«قال الله تعالى : وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ يَخْلُقُ كَخَلْقِي فليخلقوا ذَرَّةً أَوْ لِيَخْلُقُوا حَبَّةً أَوْ شَعِيرَةً »١١.
ويحتمل أن يكون على حذف مضاف أي أولياء الله كقوله :﴿ واسأل القرية ﴾ [ يوسف : ٨٢ ] أي أهل القرية١٢ قال عليه ( الصلاة١٣ و ) السلام : قال الله تعالى :«مَنْ عَادَى لِي وَلِيّاً فَقَدْ آذَنْتُهُ بالحَرْبِ » وقال :«مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيَّاً فَقَدْ بَارَزَنِي بِالمُحَارَبَةِ »١٤. ومعنى الأذى هو مخالفة أمر الله وارتكاب معاصيه وذكره على ما يتعارفه الناس بينهم والله عز وجل منزه عن أن يلحقه أذى من أحد، وقال بعضهم أتى بالجلالة تعظيماً، والمراد يؤذون رسولي كقوله :﴿ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله ﴾ [ الفتح : ١٠ ] وأما إيذاء الرسول فقال ابن عباس : هو أنه شُجَّ في وجهه وكُسِرت رُبَاعِيّتُه، وقيل : ساحر شاعر معلم مجنون١٥، ثم قال :﴿ لَعَنَهُمُ الله فِي الدنيا والآخرة ﴾ واللعن الطرد، وهذا إشارة إلى بعد لا رجاء للقرب معه، لأن البعيد في الدنيا يرجو القرب في الآخرة فإذا خاب في الآخرة فقد خاب وخسر. ثم إنه تعالى لم يحصر جزاءه في الإبعاد بل أوعده بالعذاب المهين فقال :«وَأَعَدَّ لَهُمْ » وهذا يفيد التأكيد ؛ لأن السيد إذا عذب عبده حالة الغضب من غير إعداد يكون دون ما أعد له قيداً وغلاًّ١٦.
١ سقط من "ب"..
٢ انظر: تفسير الفخر الرازي ٢٥/٢٢٨..
٣ في "ب" والزوجية بياء النسبة..
٤ ذكر هذا المعنى البغوي والخازن عنه بدون سند انظر تفسيريهما ٥/٢٧٥ وزاد المسير لابن الجوزي ٦/٤٢٠، ومعنى آذى الله: وصفه بما هو منزه عنه وعصيانه ولعنهم بالدنيا: بالقتل والجلاء وفي الآخرة بالنار..
٥ زيادة من "ب"..
٦ أورده البغوي والخازن في تفسيريهما مروياً عن أبي هريرة رضي الله عنه- عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ورواه البخاري بصيغة كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك..
٧ زيادة من "ب"..
٨ الحديث أورده البخاري مروياً عن أبي هريرة ٣/١٨٧ وكذلك أورده مسلم في صحيحه باب الألفاظ وفي مسند الإمام أحمد ٣/٢٣٨ و ٣٧٢..
٩ نقله البغوي في تفسيره ٥/٢٧٦..
١٠ المرجع السابق وانظر: القرطبي ١٤/٢٣٨..
١١ في صحيح البخاري ٤/٤٤ باب اللباس وانظر: مسند الإمام أحمد ٢/٢٣٢ و ٢٥٩ و ٣٩١ و ٤٥١ و ٥٢٧..
١٢ هذا هو الوجه الثاني في معنى قوله: "إن الله" فقوله: "ويحتمل أن يكون على حذف مضاف" معطوف على قوله" أي يقولون فيه ما صورته أذى وإن كان تعالى لا يلحقه ضرر ذلك" وانظر: البحر المحيط لأبي حيان ٧/٢٤٩، والدر المصون ٤/٤٠٢ والكشاف ٣/٢٧٣ و ٢٧٤..
١٣ سقط من "أ"..
١٤ ذكر الأول البخاري في صحيحه باب الرقاق وانظر الاثنين في الخازن والبغوي بدون سند ٥/٢٧٦..
١٥ زاد المسير ٦/٤٢٠ والبغوي والخازن ٥/٢٧٦..
١٦ قاله الفخر الرازي في تفسيره ٢٥/٢٢٨..
قوله :﴿ والذين يُؤْذُونَ المؤمنين والمؤمنات بِغَيْرِ مَا اكتسبوا ﴾ أي من غير ما عملوا ما أوجب أذاهم، وقال مجاهد : يقعون فيهم ويرمونهم بغير كلام١، وقيل : إن من جُلِدَ مائة على شرب الخمر أو حُدَّ أربعين على لعب النَّرْد فقد أوذي بغير ما اكتسب٢.
قوله :«فَقَد احْتَمَلُوا » خبر «والذين » ودخلت الفاء لشبه الموصول بالشرط٣.
وقوله :﴿ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً ﴾ قال مقاتل٤ : نزلت في علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كانوا يؤذونه ويسمعونه٥ وقيل : نزلت في شأن عائشة، وقال الضحاك والكلبي : نزلت في الزّناة ( الذين )٦ كانوا يتمشون في طريق المدينة يتبعون النساء إذا برزن بالليل لقضاء حوائجهن فيغمزون المرأة فإِن سكتت اتبعوها وإن زجرتهم انتهوا عنها ولم يكونوا يطلبون إلا الإماء ولكن كانوا لا يعرفون الحرة من الأَمَةِ ؛ لأن زي الكل كان واحداً يخرجن في دِرْع وخمار الحرة والأمة فشكَوا ذلك إلى أزواجهن فذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت هذه الآية٧ :﴿ والذين يُؤْذُونَ المؤمنين والمؤمنات ﴾ الآية،
١ أو جرم قاله الخازن والبغوي في المرجعين السابقين..
٢ هذا هو رأي الفخر ٢٥/٢٢٨ و ٢٢٩..
٣ في أن الشرط يجيء جوابه بالفاء فإنها لا تأتي إلا إذا كان الجواب جملة اسمية أو جملة فعلية فعلها طلبي أو جملة مصدرية بالسين وسوف أو بقد كما هنا، وانظر: الدر المصون للسمين الحلبي ٤/٤٠٢..
٤ تفسير الخازن والبغوي ٥/٢٧٦..
٥ في تفسير البغوي: "ويشتمونه"..
٦ سقطت من "ب"..
٧ المرجعان السابقان..
ثم نهى الحرائر أن يتشبهن بالإِماء فقال - عز وجل - ﴿ يا أيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ المؤمنين يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ﴾.
فإن قيل : البهتان١ هو الزور، وهو لا يكون إلا في القول، والإيذاء قد يكون بغير القول، فمن آذى مؤمناً بالضرب أو أخذ ماله لا يكون قد احتمل٢ بهتاناً ؟.
فالجواب : أن المراد : والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بالقول لأن الله تعالى أراد إظهار شرف المؤمنين لأنه لما ذكر أن من آذى الله ورسوله لعن، وإيذاء الله أن ينكر وجوده أو يشرك به من لا يبصر لا يسمع وذلك قول فذكر إيذاء المؤمنين بالقول وعلى هذا خص إيذاء القول بالذكر لأنه أعم ؛ لأنه الإنسان لا يقدر أن يؤذي الله بما يؤلمه من ضرب أو أخذ مال ويؤذيه بالقول وكذا الغائب لا يمكن إيذاؤه بالفعل ويمكن إيذاؤه بالقول بأن يقول فيه ما يصل إليه فيتأذى، ووجه آخر في الجواب بأن يقال : قوله بعد ذلك : وإثْماً مُبِيناً، كأنه استدرك فكان قوله احتمل بهتاناً إن كان بالقول، وَإِثْماً مبيناً ما كان الإيذاء٣.
قوله :«يُدْنِينَ » كقوله ﴿ قُل لِعِبَادِيَ الذين آمَنُوا يُقِيمُوا٤ و «مِنْ » للتَّبْعِيض، و «الجَلاَبِيبُ » جمع «الجِلْبَابِ » وهو المَلاَءَةُ التي تشتمل بها المرأة فوق الدرع والخمار، قال ابن عباس و ( أبو )٥ عبيدة من نساء المؤمنين أن يغطين رؤوسهن ووجوههنّ بالجلابيب إلا عيناً واحدة ليعلم أنهن حرائر٦. وقوله :﴿ ذلك أدنى ﴾ أي إدناء الجلابيب أقْرَبُ إلى عِرْفَانِهِنَّ٧ أي أدنى أن يعرفن أنهن حرائر٨ «فَلاَ يُؤْذَيْنَ » لا يتعرض لهن، ويمكن أن يقال : المراد يعرفن أنهن لا يَزْنينَ لأن من تستر وجهها مع أنه ليس بعورة لا يطمع فيها أنها تكشف عورتها فيُعْرَفْنَ أنهنَّ مستوراتٌ لا يمكن طلب الزنا منهن٩. ﴿ وَكَانَ الله غَفُوراً رَحِيماً ﴾ قال أنس : مرت بعمر بن الخطاب جارية مقنَّعة فعلاها بالدرَّة، وقال : يا لَكَاعِ أتتشبّهين بالحَرَائِرِ أَلْقِي القِنَاعَ١٠.
١ انظر: تفسير الإمام فخر الدين الرازي ٢٥/٢٢٩..
٢ في "ب" فقد بزيادة الفاء..
٣ انظر: تفسير الرازي ٢٥/٢٣٠..
٤ في أنه خبر يراد به الأمر والآية ٣١. وقد خرج الأمر مَخْرَجَ الخبر إيماءً إلى جلل الأمر..
٥ زيادة يقتضيها العرف فقد سقطت من كلتا النسختين..
٦ انظر: معالم التنزيل للبغوي ٥/٢٧٦ و ٢٧٧..
٧ قاله السمين في الدر٤/٤٠٢..
٨ فلا يتبعن وانظر: البغوي ٥/٢٧٧ والرازي ٢٥/٢٣٠..
٩ هذا رأي الإمام الفخر الرازي انظره فيما سبق..
١٠ تفسير الخازن والبغوي ٥/٢٧٧ وفي تفسير الخازن: "متنقبة" والبغوي فيه: "متقنعة"..
قوله :﴿ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ﴾ لما ذكر حال المشركين الذي يؤذون الله ورسوله والمجاهر الذي يؤذي المؤمنين ذكر حال المُسِرِّ الذي لا يظهر الحق ويظهر الباطل وهو المنافق ولما كان المذكور من قبلُ أقواماً ثلاثةً نظر إلى أمورِ ثلاثة وهم المُؤْذُونَ لله والمُؤْذُونَ للرسول، والمؤذون للمؤمنين ذكر للمسرين ثلاثة نظراً إلى اعتبار أمور ثلاثة :
أحدها : المنافق الذي يؤذي الله سرّاً.
والثاني : الذي في قلبه مرض وهو الذي يؤذي المؤمن باتباع نِسَائِهِ.
والثالث : المرجف الذي يؤذي النبي عليه ( الصلاة١ و ) السلام بالإرجاف بقوله : غُلِبَ محمد، وسيخرج من المدينة وسيؤخذ، وهؤلاء وإِنْ كانوا قوماً واحداً إلاَّ أنَّ لهم ثلاث اعتبارات وهذا لقوله تعالى :﴿ إِنَّ المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات ﴾ حيث ذكر أصنافاً عشرة وكلهم يوجد في واحد بالشخص لكنه كثير الاعتبار٢ فقال :﴿ لَئِن لَمْ يَنْتَهِ المنافقون ﴾ أي عن نفاقهم ﴿ والذين فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ﴾ يعني الزناة، ﴿ والمرجفون فِي المدينة ﴾ بالكذب وذلك أن ناساً منهم كانوا إذا خرجت سرايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُوقِعُونَ في الناس أنهم قتلوا وهزموا ويقولون قد أتاكم العدو ونحوه، وقال الكلبي : كانوا يحبون أن تشيع الفاحشةُ في الذين آمنوا وَيفْشُو الأخبار٣.
قوله :«لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ » أي لنُحَرِّشَنَّكَ٤ وَلنُسَلِّطَنَّكَ عليهم لِتُخْرِجَهُمْ من المدينة ﴿ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا ﴾ لا يساكنونك فيها أي في المدينة «إلاَّ قَلِيلاً » حتى يخرجوا منها، وقيل : لنسلطنهم٥ عليهم بقتلهم ونخرجهم من المدينة.
قوله :«إلاَّ قَلِيلاً » أي إِلاَّ زماناً قليلاً، أو إلا جوَاراً قليلاً، وقيل :«قليلاً » نصب على الحال من فاعل «يجاورونك » أي إِلا أَقِلاَّءَ أَذِلاَّء بمعنى قَلِيلِينَ، وقيل : قليلاً منصوب على الاستثناء أي لا يجاورك إلا القليل منهم على أذل حال وأقله٦.
١ زيادة من "ب" على "أ"..
٢ تفسير الرازي ٢٥/٢٣١..
٣ قاله البغوي في معالم التنزيل ٥/٢٧٧..
٤ قاله ابن قتيبة في غريب القرآن ٣٥٢ وقد قال: "أي لَنُسَلِّطَنَكَّ عليهم ونولعنك بهم" وانظر: البغوي ٥/٢٧٧..
٥ في البغوي لنسلطنك وهو الظاهر..
٦ الدر المصون ٤/٤٠٣ والبحر المحيط ٧/٢٥١..
قوله :«مَلْعُونِينَ » حال من فاعل «يُجَاوِرُونَكَ » قاله ابن عطية١، والزمخشري٢ وأبو البقاء٣، قال ابن عطية لأنه بمعنى مُنَتَفَوْنَ منها مَلْعُونينَ٤، وقال الزمخشري : دخل حرف الاستثناء على الحال والظرف معاً كما مر في قوله :﴿ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ غَيْرِ ﴾٥ وتقدم بحث أبي حيان معه، وهو عائد هنا٦، وجوز الزمخشري أن ينتصب على الشَّتْم٧ ؛ وجوز ابن عطية أن يكون بدلاً من٨ «قليلاً » على أنه حال كما تقدم تقريره٩، ويجوز أن يكون «ملعونين » نعتاً، ل «قليلاً » على أنه منصوب على الاستثناء من واو «يجاورونك » كما تقدم تقريره، أي لا يُجَاوِرُكَ مِنْهُمْ أَحَدٌ قَلِيلاً ملعوناً، ويجوز أن يكون منصوباً «بأُخِذُوا » الذي هو جواب الشرط، وهذا عند الكسائي والفراء فإنهما يجيزان تقدم معمول الجواب على أداة الشرط نحو : خَيْراً إِنْ تَأْتِنِي تُصِبْ، وقد منع الزمخشري من ذلك فقال : ولا يصح أن يَنْتَصِبَ «بأخذ » لأن ما بعد كلمة الشرط لا يعمل فيها قبلها١٠، وهذا منه مشي على الجَارَّةِ، وقوله ما بعد كلمة الشرط يشمل فعل الشرط والجواب، فأما الجواب فتقدم حكمه وأما الشرط فأجاز الكسائيّ أيضاً تقديم معموله على الأداة، نحو :«زَيْداً إنْ تَضْرِبْ أُهِنْكَ »١١ فتلخص في المسألة ثلاثة مذاهب المنع مطلقاً، الجواز مطلقاً، التفصيل يجوز تقديم معمولي الجواب، ولا يجوز تقديم معمولي الشرط وهو رأي الفراء.
قوله :«وَقُتِّلُوا » العامة على التشديد، وقرئ بالتخفيف١٢. وهذه يردها مجيء المصدر على التفعيل إلا أن يقال : جاء على غير مصدره١٣، وقوله :«سُنَّةَ اللَّهِ » تقدم نظيرها.
قوله١ :«مَلْعُونينَ » مطرودين من باب الله وبابك، وإذا خرجوا لا يَنْفَكُّونَ عن الذلة ولا يجدون ملجأً بل أينما يكونون يؤخذون ويقتلون، وهذا ليس بِدْعاً بل هو سنة جارية وعادة مستمرة تفعل بالمكذبين ﴿ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً ﴾ أي ليست هذه السنة مثل الحكم الذي يتبدل وينسخ فإن النسخ يكون في الأقوال أما الأفعال إذا وقعت والأخبار لا تنسخ.
١ المرجع الأخير السابق..
٢ الكشاف ٣/٢٧٤ و ٢٧٥..
٣ التبيان ١٠٦٠..
٤ في البحر ٧/٢٥١ قال: -أي ابن عطية- "كأنه قال: ينتفون من المدينة ملعونين"..
٥ الكشاف ٣/٢٧٥..
٦ فقد قال أبو حيان بأنه لا يقع بعد "إلا" في الاستثناء إلا المستثنى منه أو صفته ولا يجوز في ما عدا هذا عند الجمهور، وقد أجاز ذلك الكسائي والأخفش وأجازوا: ما قام القوم إلا يوم الجمعة ضاحكينَ وقد تعرضت لتلك القضية بالتفصيل عند الآية "٥٣" من تلك السورة..
٧ الكشاف ٣/٢٧٤..
٨ نقله عنه أبو حيان في بحره ٧/٢٥١..
٩ وممن قال بحاليته أيضاً مكي في مشكل إعراب القرآن وقد أجاز النصب على الذم والشتم أيضاً كالزمخشري، انظر: المشكل ٢/٢٠٢ وقال بهذين القولين أيضاً ابن الأنباري في بيانه ٢/٢٧٢ و ٢٧٣..
١٠ انظر: الكشاف ٣/٢٧٥..
١١ هذا انطباع من المؤلف يشبه انطباع أبي حيان والسمين في كل من البحر والدر وانظر: البحر ٧/٢٥١ والدر ٤/٤٠٣..
١٢ نقل هذه القراءة أبو حيان في البحر ٧/٢٥١ وقد جعلها صاحب شواذ القرآن عربية ولم يثبتها قراءة انظر: الشواذ ١٩٥..
١٣ البحر المحيط ٧/٢٥١ والدر المصون ٤/٤٠٤..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦١:قوله :«مَلْعُونِينَ » حال من فاعل «يُجَاوِرُونَكَ » قاله ابن عطية١، والزمخشري٢ وأبو البقاء٣، قال ابن عطية لأنه بمعنى مُنَتَفَوْنَ منها مَلْعُونينَ٤، وقال الزمخشري : دخل حرف الاستثناء على الحال والظرف معاً كما مر في قوله :﴿ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ غَيْرِ ﴾٥ وتقدم بحث أبي حيان معه، وهو عائد هنا٦، وجوز الزمخشري أن ينتصب على الشَّتْم٧ ؛ وجوز ابن عطية أن يكون بدلاً من٨ «قليلاً » على أنه حال كما تقدم تقريره٩، ويجوز أن يكون «ملعونين » نعتاً، ل «قليلاً » على أنه منصوب على الاستثناء من واو «يجاورونك » كما تقدم تقريره، أي لا يُجَاوِرُكَ مِنْهُمْ أَحَدٌ قَلِيلاً ملعوناً، ويجوز أن يكون منصوباً «بأُخِذُوا » الذي هو جواب الشرط، وهذا عند الكسائي والفراء فإنهما يجيزان تقدم معمول الجواب على أداة الشرط نحو : خَيْراً إِنْ تَأْتِنِي تُصِبْ، وقد منع الزمخشري من ذلك فقال : ولا يصح أن يَنْتَصِبَ «بأخذ » لأن ما بعد كلمة الشرط لا يعمل فيها قبلها١٠، وهذا منه مشي على الجَارَّةِ، وقوله ما بعد كلمة الشرط يشمل فعل الشرط والجواب، فأما الجواب فتقدم حكمه وأما الشرط فأجاز الكسائيّ أيضاً تقديم معموله على الأداة، نحو :«زَيْداً إنْ تَضْرِبْ أُهِنْكَ »١١ فتلخص في المسألة ثلاثة مذاهب المنع مطلقاً، الجواز مطلقاً، التفصيل يجوز تقديم معمولي الجواب، ولا يجوز تقديم معمولي الشرط وهو رأي الفراء.
قوله :«وَقُتِّلُوا » العامة على التشديد، وقرئ بالتخفيف١٢. وهذه يردها مجيء المصدر على التفعيل إلا أن يقال : جاء على غير مصدره١٣، وقوله :«سُنَّةَ اللَّهِ » تقدم نظيرها.
قوله١ :«مَلْعُونينَ » مطرودين من باب الله وبابك، وإذا خرجوا لا يَنْفَكُّونَ عن الذلة ولا يجدون ملجأً بل أينما يكونون يؤخذون ويقتلون، وهذا ليس بِدْعاً بل هو سنة جارية وعادة مستمرة تفعل بالمكذبين ﴿ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً ﴾ أي ليست هذه السنة مثل الحكم الذي يتبدل وينسخ فإن النسخ يكون في الأقوال أما الأفعال إذا وقعت والأخبار لا تنسخ.
١ المرجع الأخير السابق..
٢ الكشاف ٣/٢٧٤ و ٢٧٥..
٣ التبيان ١٠٦٠..
٤ في البحر ٧/٢٥١ قال: -أي ابن عطية- "كأنه قال: ينتفون من المدينة ملعونين"..
٥ الكشاف ٣/٢٧٥..
٦ فقد قال أبو حيان بأنه لا يقع بعد "إلا" في الاستثناء إلا المستثنى منه أو صفته ولا يجوز في ما عدا هذا عند الجمهور، وقد أجاز ذلك الكسائي والأخفش وأجازوا: ما قام القوم إلا يوم الجمعة ضاحكينَ وقد تعرضت لتلك القضية بالتفصيل عند الآية "٥٣" من تلك السورة..
٧ الكشاف ٣/٢٧٤..
٨ نقله عنه أبو حيان في بحره ٧/٢٥١..
٩ وممن قال بحاليته أيضاً مكي في مشكل إعراب القرآن وقد أجاز النصب على الذم والشتم أيضاً كالزمخشري، انظر: المشكل ٢/٢٠٢ وقال بهذين القولين أيضاً ابن الأنباري في بيانه ٢/٢٧٢ و ٢٧٣..
١٠ انظر: الكشاف ٣/٢٧٥..
١١ هذا انطباع من المؤلف يشبه انطباع أبي حيان والسمين في كل من البحر والدر وانظر: البحر ٧/٢٥١ والدر ٤/٤٠٣..
١٢ نقل هذه القراءة أبو حيان في البحر ٧/٢٥١ وقد جعلها صاحب شواذ القرآن عربية ولم يثبتها قراءة انظر: الشواذ ١٩٥..
١٣ البحر المحيط ٧/٢٥١ والدر المصون ٤/٤٠٤..

قوله :﴿ يَسْأَلُكَ الناس عَنِ الساعة قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله ﴾ لما بين حالهم في الدنيا أنهم يُلْعَنُونَ ويُهَانُونَ ويُقْتَلُونَ أراد أن يبين حالهم في الآخرة، فذكرهم بالقيامة وما يكون لهم فيها فقال :﴿ يَسْأَلُكَ الناس عَنِ الساعة قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله ﴾ أي إن وقت القيامة علمه عند الله لا يبين لهم فإِن الله أخفاها لحكمةٍ وهي امتناع المكلف عن الاجتراء وخوفهم منها في كل وقت.
قوله :﴿ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة ﴾ الظاهر أن «لعل » تعلق كما تعلق التمني و «قريباً » خبر كان على حذف موصوف أي شيئاً قريباً، وقيل : التقدير : قيام الساعة فروعيت «الساعة » في تأنيث «يكون » ورُوعِيَ المضاف المحذوف في تذكير «قريباً » وقيل :«قريباً » أكثر استعماله استعمال الظرف فهو هنا ظرف في موضع الخبر١. وقال ابن الخَطِيب : فَعِيلٌ يستوي فيه المذكَّر والمؤنث قال تعالى :﴿ إِنَّ رَحْمَةَ الله قَرِيبٌ مِنَ المحسنين ﴾ [ الأعراف : ٥٦ ] أي لعلَّ الساعةَ تكون قريبةً.

فصل :


المعنى أي شيء يعلمك أمر الساعة ومتى يكون قيامها أي أنت لا تعرفه لعل الساعة تكون قريباً. وهذا إشارة إلى التخويف،
١ المرجعان السابقان..
ثم قال :﴿ إِنَّ الله لَعَنَ الكافرين وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً ﴾ أي كما أنهم ملعونون في الدنيا عندكم فكذلك هم يلعنون عند الله وأعد لهم سعيراً كما قال :﴿ لَعَنَهُمُ الله فِي الدنيا والآخرة وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً ﴾
﴿ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ﴾ مطيلين المكث فيها مستمرين، وقوله «فِيهَا » أي في السعير لأنها مؤنثة، أو لأنه في معنى «جهنم »١ ﴿ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً ﴾ حال ثانية٢، أو من «خَالِدِينَ » لا يجدون ولياً ولا نصيراً أي لا صديق يشفع لهم، ولا ناصر يدفع عنهم.
قوله :«يَوْمَ » معمول «لِخالدين »١ أو لمحذوف، أو «لنصير » أو «لأذكر » أو لِ «يقولون » بعده٢، وقرأ العامة تُقَلَّبُ - مبنيّاً للمفعول ( و ) وُجُوهُهُمْ رفع على ما لم يسم فاعله، وقرأ الحسن وعيسى والرؤاسي٣ - بفتح التاء - أي تَتَقَلَّب ( و ) وُجُوهُهُمُ فاعل به٤، وأبو حيوة نُقَلِّبُ بالنون أي نحن ( و ) وُجُوهَهُمْ بالنصب٥. وعيسى٦ ٧ تُقَلّب - بضم التاء وكسر اللام - أي السعيرُ أو الملائكةُ وُجُوهَهُمْ بالنصب على المفعول به «يَقُولُون » حال٨ و «يَا لَيْتَنَا » مَحْكيّ.
قوله٩ :﴿ تقلب وجوههم في النار ﴾ ظهراً لبطن كانوا يسحبون عليها يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولَ في الدنيا.
١ وهو قوله: ﴿خالدين فيها﴾ الآية ٦٥ من السورة الحالية..
٢ المرجع السابق وقد اقتصر أبو البقاء في التبيان على ثلاثة أوجه فقال في ١٠٦١ يجوز أن يكون ظرفاً لـ "لا يجدون" أو "نصيراً" أو "ليقولون"..
٣ هو محمد بن الحسن الرؤاسي أبو جعفر كان من أكابر المدرسة الكوفية وله اختيار في القراءة ينسب إليه، توفي سنة ١٨٧ هـ انظر: غاية النهاية ٢/١١٦..
٤ أورد هذه القراءة الفراء في معانيه ٢/٣٥٠ فقد قال: "ولو قرئت: "نُقَلِّبُ وتُقَلَّبُ" كانا وجهين" وانظر: مختصر ابن خالويه ١٢٠ والبحر المحيط ٧/٢٥٢ والكشاف ٣/٢٧٥ بدون نسبة فيه..
٥ أوردها ابن خالويه في المختصر ١٢٠..
٦ هو عيسى بن عمر الكوفي..
٧ المحتسب ٢/١٨٤ والتبيان ١٠٦١..
٨ من "الوجوه" ويضعف أن يكون حالاً من الضمير المجرور لأنه مضاف إليه انظر: التبيان ١٠٦١ والدر المصون ٤/٤٠٤..
٩ في "ب" فصل بدل قوله..
قوله :«سَادَتَنا » قرأ ابنُ عامر في آخرينَ بالجمع بالألف والتاء، قال البغوي على جَمْع الجَمْع١، والباقون «سَادَتَنا » على أنه جمع تكسير غير مجموع بألف وتاء٢، ثم «سادة » يجوز أن يكون جمعاً لسيّد ولكن لا ينقاس لأن «فيْعلاً »٣ لا يجمع على «فَعَلَةٍ » وسادة فعلة، إذ الأصل سَوَدَةٌ، ويجوز أن يكون جمعاً لسائد نحو : فَاجِر وفَجَرَةٍ وكَافِر وكَفَرَةٍ، وهو أقرب إلى القياس مما قبله، وابن عامر جمع هذا ثانياً بالألف والتاء وهو غير مقيس أيضاً نحو : بُيُوتَات، وجَمَالاَتٍ٤.

فصل :


لما بين أنه لا شفيع لهم يدفع عنهم العذاب بين أن بعض أعضائه أيضاً لا يدفع العذاب عن البعض بخلاف عذاب الدنيا فإن الإنسان يدفع عن وجهه الضربة اتِّقاءً بيده فإن من يقصد رأسه ووجهه يجعل يده جُنَّة لوجهه ووقاية له يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسول في الدنيا فيندمون حيث لا تنفعهم الندامة
ثم يقولون ﴿ رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا ﴾ أي أطعنا السادة بدل طاعة الله وطاعة الرسول «فأَضَلُّونَا السَّبِيلاً ».
١ انظر: معالم التنزيل له ٥/٢٧٧..
٢ قراءة ابن عامر غير قراءة سبعية متواترة وانظر: الإتحاف ٣٥٦ والسبعة ٥٢٣ ومعاني القرآن للفراء ٢/٥٠ والقرطبي ١٤/٢٤٩..
٣ في "ب" (فعيل) وهو خطأ فالمقصود "فيعل" لأن سيد على وزن فيعل فالأصل سيْود..
٤ قاله شهاب الدين السمين في الدر ٤/٤٠٥..
﴿ ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيراً ﴾٥ قرأ عاصم «كبيراً » - بالباء الموحدة - والباقون بالمثلثة وتقدم معناهما في البقرة٦، والمراد بضعفين من العذاب أي ضِعْفَيْ عَذَابِ غَيْرِهِمْ.
أطعنا السادة بدل طاعة الله وطاعة الرسول «فأَضَلُّونَا السَّبِيلاً». ﴿فَأَضَلُّونَا السبيلا﴾ قرأ عاصم «كبيراً - بالباء الموحدة - والباقون بالمثلثة وتقدم معناهما في البقرة، والمراد بضعفين من العذاب أي ضِعْفَيْ عَذَابِ غَيْرِهِمْ.
قوله
تعالى
: ﴿يا
أيها
الذين آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين آذَوْاْ موسى﴾
الآية لما بين أن من يؤذي الله ورسوله يُلعن ويعذب، وكان ذلك إشارة إلى أن الإيذاء كفر أرشد المؤمنين إلى الامتناع من الإيذاء الذي هو دونه وهو لا يروث كفراً وهو من لم يرض بقسمة النبي عليه (الصلاة و) السلام وبحكمه (بالفَيءِ لِبَعْض) فقال: لا تكونوا كالذين آذوا موسى قال بعضهم: إيذاؤهم لموسى بنسبة عيب في بَدَنِهِ، وقيل: إن قارون قال لامرأة: قولي إِن موسى قد وقع في فاحشةٍ والإيذاء المذكور في القرآن كاف وهو قولهم: ﴿فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلاا﴾ [المائدة: ٢٤] وقولهم: ﴿لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ﴾ [البقرة: ٦١] إلى غير ذلك فقال للمؤمنين: لا تكونوا أمثالهم إذا طلبكم الرسول للقتال لا تقولوا اذهب أنت وربك فقاتلا وإذا أمركم الرسول بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وقوله: ﴿فَبرَّأَهُ الله مِمَّا قَالُواْ﴾ على الأول ظاهر لأنه أبرز جسمه لقومه فرأوه وعلموا فساد اعتقادهم ونطقت المرأة بالحق وأمر ملائكته حتى عبروا بهارون عليهم فرأوه غير مجروح فعلموا براءة موسى - عليه الصلاة واسلام - عن ما رموه بهوعلى الثاني فبرأه الله مما قالوا أي أخرجه عن عهدة ما طلبوا بإِعطائه البعض إياهم وإظهاره عدم جواز البعض وقطع حُجَجهم ثم ضرب عليهم الذّلَّةُ والسمكنة وغضب عليهم.
قوله: «عِنْد اللَّهِ»
العامة على «عند» الظرفية المجازية، وابن مسعود والأعمش وأبو حَيْوة «عبداً» مِن العبودية «لله» جار ومجرور وهي حسنة قال ابن خالويه
594
صَلَّيْت خلف ابن شُنْبُوذ في رمضان فسمعته يقرأ بقراءة ابن مسعود هذه قال شهاب الدين: وكان مولعاً بِنَقْل الشاذة، ومَا في «مِمَّا قَالُوا» إمَّا مصدرية، وإما بمعنى الذي، «وَجِيهاً» كريماً ذَا جاهٍ، يقال وَجُهَ الرَّجُلُ يَوْجهُ وَجَاهَة فَهُوَ وَجيهٌ إذا كَانَ ذَا جَاهٍ وقَدْرٍ. قال ابن عباس: كان خَظِيّاً عند الله لا يَسْأَلُ شيئاً إلاّ أعطاه وقال الحسن: اكن مستجاب الدعوة، وقيل: كان محبباً مقبولاً، واختلفوا فيما أُوذِيَ به موسى فروى أبُو هُرَيْرَةَ قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «إنّ موسى كان رجلاً حَيِياً سَتْراً لا يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ استحياء منه فَآذَاهُ مَنْ آذَاهُ من بني إسرائيل فقال: ما يستتر هذا التَّسَتُّر إلا من عيب بجلده إما بَرَص، وإما أدرة، وإمّا آفةٍ، وإن اللَّهَ أراد أن يُبْرِئَهُ مما قالوا فخلا يوماً وحده فخلع فوضَع يثابَهُ على حجر ثم اغْتَسَلَ فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها وإن الحجر إدا بثوبه فأخذ موسى عصاه وطلب الحَجَر فجعل يقولُ ثوبي حَجَرٌ، ثوبي حجر حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عُرْيَاناً أحْسَنَ ما خلق الله وَأَبْرَأَةُ مِمَّا يَقُولُونَ وقام الحجر فأخذ ثوبه واستتر وطفق بالحجر يضربه بعصاه فواللَّه إن بالحجر لنَدْباً من أثر ضربه ثلاثاً أو أربعاً أو خَمْساً
وقيل: لما مات هارون في التيه ادَّعوا على موسى أنه قتله فأمر الله الملائكة حتى مروا به على بني إسرائيل فعرفوا أنه لم يقتله ولم يروا ببدنه جرحاً، وقال أبو العالية: إن قارون استأجر امرأة لتقذف موسى بنفسها على رأس الملأ فعصمه الله وبرأ موسى وأهْلَكَ قَارُون، ورَوَى أبُو وَائلٍ قال: سمعت
595
عبد الله قال: «قسم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَسْماً فقال رجل إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فأخبرته فغضب حتى رأيت الغضب في وجهه ثم قال» يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى أَوذِيَ بأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ «
قوله: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً﴾. قال ابن عباس: صواباً، وقال قتادة عدلاً، وقال الحسن: صِدْقاً، وقيل: مستقيماً، وقال عكرمة: هو قول لا إله إلا الله ﴿يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾، قال ابن عباس: يتقبل حسناتكم، وقال مقاتل: يزكي أعمالكم ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً﴾ ؛ لأن النجاة من العذاب تعظيم بعظم العذاب فإن من أراد أن يضرب عبده سوطاً ثم نجا منه لا يقال: فاز فوزاً عظيماً، ويحتمل أنه أراد بالفوز العظيم الثواب الكبير الدائم الأبديّ.
قوله: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال﴾ وهذا إما حقيقة وإما تمثيل وتخييل. وأراد بالأمانة الطاعة والفرائض التي فرضها الله على عباده عرضها على السموات والأرض والجبال على أنهم إن أدوها أثابهم وإن ضَيَّعُوهَا عذبهم، قاله ابن عباس. وقال ابن مسعود: الأمانة أداءُ الصَّلَوَاتِ وإيتاءُ الزكاة وصَوْمُ رَمَضَانَ وحَجُّ البيت وصدقُ الحديث وقضاءُ الدِّيْنِ والعدلُ في المِكيال والميزانِ وأشدُّ من هذا كلَّه الودائعُ. وقال مجاهد: الأمانة الفرائض وحدود الدين. وقال أبو العالية: ما أُمِرُوا به ونهوا عنه، وقال زيد بن أسلم: هي الصوم والغسل من الجنابة وما يخفى من الشرائع. وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: أول ما خلق الله من الإنسان فرجه وقال: هذه أمانة اسْتَوْدَعْتُكَها فالفرج أمانة والأذنُ أمانة والعينُ أمانة واليدُ أمانة والرِّجْلُ أمانة ولا إيمان لمن لا أمانة لَهُ، وقيل: هي أمانات الناس والوفاء بالعهود فحق كل مؤمن أن لا يغشَّ مؤمناً ولا معاهداً في شيء قليلٍ ولا كثير. وهذه رواية الضَّحاك عن ابن عباس وجماعة من التابعين، وأكثر السلف أن الله عرض هذه الأمانة على السمواتِ والأرض
596
والجبال فقال لهن: أَتَحْمِلْنَ هذِه الأَمَانَةَ بما فيها؟ قُلْنَ: وما فيها؟ قال: إن أَحْسَنْتُنَّ جُوزيتُنَّ وإنْ عَصَيْتُنَّ عُوقِبْتُنَّ فقلن: لا يا رب نحن مسخّرات لأمرك لا نريد ثواباً ولا عقاباً وقُلْنَ ذَلِكَ خَوْفاً وخشية وتعظيماً لله خوفاً أن لا يقوم بها لا معصية ومخالفة وكان العرض عليهن تخييراً لا إلزاماً ولو الزمهن لم يمتَنِعْنَ من حملها والجمادات فيها خاشعة لله - عَزَّ وَجَلَّ - ساجدة له كما قال تعالى للسموات والأرض.
﴿ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ﴾ [فصلت: ١١] وقال في الحجارة: ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المآء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله﴾ [البقرة: ٧٤]، وقال: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدوآب... ﴾ [الحج: ١٨] الآية. وقال بعضهم: ركَّب الله (عَزَّ وَجَلَّ) فيهن العقل والفهم حين عرض الأمانة عليهن حتى عقلْنَ الخطاب وأجبن بما أجبن. وقيل: المراد من العرض على السموات والأرض هو العرض على أهل السموات عرضها على من فيها من الملائكة وقيل: المراد المقابلة أي قابلنا الأمانة مع السموات فرجحت الأمانةُ وهي الدين والأول أصح، وهو قول أكثر العلماء.
قوله: «فأبين» أتى بضمير هذه كضمير الإناث لأن جمع التكسير غير العاقل يجوز فيه ذلك وإن كان مذكراً وإنما ذكرنا ذلك لئلا يتوهم أنه قد غلب المؤنث - وهو السموات - على المذكر وهو البجال. واعلم أنه لم يكن إباؤهن كإباء إبليس في قوله تعالى: ﴿أبى أَن يَكُونَ مَعَ الساجدين﴾ [الحجر: ٣١] ؛ لأن السجود هناك كان فرضاً وههنا الأمانة كانت عرضاً والإباء هناك كان استكباراً وههنا استصغاراً لقوله تعالى: «وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا» أي خفن من الأمانة أن لا يؤدينها فيلحقهن العقاب «وحَمَلَهَا الإِنْسَانُ» يعني آدم عليه السلام فقال يا آدم: إني عرضت الأمانة على أهل السموات والأرض والجبال فلم تُطِقْهَا فهل أنت آخذها بما فيها؟ فقال يا رب: وما فيها؟ قال: إن أحْسَنْتَ جُوزيت وإنْ أَسَأْتَ عوقبتَ فتحملها آدم عليه السلام. فقال الله تعالى أما إذْ تحمّلتها فسأعنيك أجْعَلُ لبصرك حجاباً فإذا خشيت فاغلق وأجْعَلُ لفرجك ستراً فإذا خشيت فلا تكشفه على ما حرمت عليك قال مجاهد: فما كان بين أن تحملها وبين أن أخرج من الجنة إلا مقدارَ ما بين الظهر إلى العصر ﴿إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾ قال ابن عباس: ظلوماً لنفسه جهولاً بأمر الله وما احتمل من الأمنانة وقال مقاتل: ظلوماً لنفسه جهولاً بعاقبة ما تحمل. وذكر الزجاج وغيره نم أهل المعاني في قوله: «وَحَمَلَهَا الإنْسَان» قولاً، فقالوا: إن الله
597
ائْتَمَنَ آدم وأولاده على شيء وائتمن أهل السماوات والأرض والجبال على شيء فالأمانة في حق بني آدم ما ذكرنا من الطاعة والقيام بالفرائض والأمانة في حق السموات والأرض هي الخضوع والطاعة لما خلقهم له، ﴿فَأَبَيْنَ أنْ يحملنها﴾ أي أدين الأمانة يقال فلان لم يتحمل الأمانة أي يخون فيها «وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ» أي خان فيها، ويقال: فلان حمل الأمانة أي أثم فيها بالخيانة قال تعالى:
﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ﴾ [العنكبوت: ١٣]، ﴿إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾ حكي عن الحسن على هذا التأويل أنه قال: «وحملها الإنسان» يعني الكافر والمنافق حمل الأمانة أي خان، والأول قول السلف.
قوله: «لِيُعَذِّبَ» متعلق بقوله: «وحَمَلَهَا» فقيل: هي لام الصيرورة لأنه لم يحملها لذلك، وقيل: لام العلة على المجاز لما كانت نتيجة حمله ذلك جعلت كالعلة الباعثة.

فصل


قال مقاتل: ﴿لِّيُعَذِّبَ الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات﴾ بما خانوا الأمانة ونقضوا الميثاق. ثم قال: ﴿وَيَتُوبَ الله عَلَى المؤمنين والمؤمنات﴾، قرأ الأعمش برفع «ويتوب» على الاسئناف أي يهديهم ويرحمهم بما أدوا من الأمانة، وقال ابن قتيبة عرضنا الأمانة ليظهر نفاقُ المنافق وشرك المشرك فيعذبهما الله ويظهر إيمان المؤمن فيتوب الله عليه أي يعود عليه بالرحمة والمغفرة إن حصل منه تقصير في الطاعات، وعطف المشرك على المنافق ولم يُعِدْ اسمه تعالى فلم يقل: «ويُعَذِّبَ اللَّهُ المُشْرِكين» وعند التوبة أعاد اسمه وقال: ﴿ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات﴾ ولو قال: يتوب على المؤمنين والمؤمنات كان المعنى حاصلاً ولكنه أراد تفضيل المؤمن على
598
المنافق فجعله كالكلام المستأنف ويجب هناك ذكر الفاعل فقال «ويتوب الله» ثم قال: ﴿وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً﴾ لما ذكر في الإنسان وصفين الظلوم والجهول ذكر من أوصافه وصفين فقال: ﴿وكان الله غفوراً رحيماً﴾ أي كان غفوراً للظالم رحيماً على الجهول.
روى الثَّعْلَبِيُّ عن أبي أُمَامَةَ عن أبيِّ بن كعب قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الأَحْزَاب وَعَلَّمَهَا أَهْلَهُ وَمَا مَلَكَتْ يمِينُه أُعْطِيَ الأَمَانَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ»
599

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة سبأ
3
قوله :﴿ يا أيها الذين آمَنُوا اتقوا الله وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ﴾. قال ابن عباس : صواباً، وقال قتادة عدلاً، وقال الحسن : صِدْقاً، وقيل : مستقيماً، وقال عكرمة : هو قول لا إله إلا الله١
١ أورد هذه الأقوال المرجعان السابقان والقرطبيُّ ١٤/٢٥٣ وزاد المسير ٦/٤٢٧ وغريب القرآن لابن قتيبة فسره بالقصد تفسيره ٣٥٢..
﴿ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ﴾، قال ابن عباس : يتقبل حسناتكم، وقال مقاتل : يزكي أعمالكم١ ﴿ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾ ؛ لأن النجاة من العذاب تعظيم بعظم العذاب فإن من أراد أن يضرب عبده سوطاً ثم نجا منه لا يقال : فاز فوزاً عظيماً، ويحتمل أنه أراد بالفوز العظيم الثواب الكبير الدائم الأبديّ٢.
١ قاله ابن الجوزي في الزاد ٦/٤٢٧ والبغوي في معالم التنزيل ٥/٢٧٩..
٢ هذا قول الفخر الرازي في تفسيره ٢٥/٢٣٤..
قوله :﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السموات والأرض والجبال ﴾ وهذا إما حقيقة وإما تمثيل وتخييل. وأراد بالأمانة الطاعة والفرائض التي فرضها الله على عباده عرضها على السموات والأرض والجبال على أنهم إن أدوها أثابهم وإن ضَيَّعُوهَا عذبهم، قاله ابن عباس١. وقال ابن مسعود : الأمانة أداءُ الصَّلَوَاتِ وإيتاءُ الزكاة وصَوْمُ رَمَضَانَ وحَجُّ البيت وصدقُ الحديث وقضاءُ الدَّيْنِ والعدلُ في المِكيال والميزانِ وأشدُّ من هذا كلَّه الودائعُ٢. وقال مجاهد : الأمانة٣ الفرائض وحدود الدين. وقال أبو العالية : ما أُمِرُوا به ونهوا عنه٤، وقال زيد بن أسلم : هي الصوم والغسل من الجنابة وما يخفى من الشرائع٥. وقال عبد الله بن عمرو بن العاص : أول ما خلق الله من الإنسان فرجه وقال : هذه أمانة اسْتَوْدَعْتُكَها فالفرج أمانة والأذنُ أمانة والعينُ أمانة واليدُ أمانة والرِّجْلُ أمانة ولا إيمان لمن لا أمانة لَهُ، وقيل : هي أمانات الناس والوفاء بالعهود فحق كل مؤمن أن لا يغشَّ مؤمناً ولا معاهداً في شيء قليلٍ ولا كثير. وهذه رواية الضَّحاك عن ابن عباس وجماعة من التابعين٦، وأكثر السلف أن الله عرض هذه الأمانة على السمواتِ والأرض والجبال فقال لهن : أَتَحْمِلْنَ هذِه الأَمَانَةَ بما فيها ؟ قُلْنَ : وما فيها ؟ قال : إن أَحْسَنْتُنَّ جُوزيتُنَّ وإنْ عَصَيْتُنَّ عُوقِبْتُنَّ فقلن : لا يا رب نحن مسخّرات لأمرك لا نريد ثواباً ولا عقاباً٧ وقُلْنَ ذَلِكَ خَوْفاً وخشية وتعظيماً لله خوفاً أن لا يقوموا بها لا معصية ومخالفة وكان العرض عليهن تخييراً لا إلزاماً ولو ألزمهن لم يمتَنِعْنَ من حملها والجمادات فيها خاشعة لله - عز وجل - ساجدة له كما قال تعالى للسموات والأرض :﴿ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ﴾ [ فصلت : ١١ ] وقال في الحجارة :﴿ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله ﴾ [ البقرة : ٧٤ ]، وقال :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السموات وَمَن فِي الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب. . . ﴾ [ الحج : ١٨ ] الآية. وقال بعضهم : ركَّب الله ( عز وجل )٨ فيهن العقل والفهم حين عرض الأمانة عليهن حتى عقلْنَ الخطاب وأجبن بما أجبن. وقيل : المراد من العرض على السموات والأرض هو العرض على أهل السموات عرضها على من فيها من الملائكة وقيل : المراد المقابلة أي قابلنا الأمانة مع السموات فرجحت الأمانةُ وهي الدين والأول أصح٩، وهو قول أكثر العلماء.
قوله :«فأبين » أتى بضمير هذه كضمير الإناث لأن جمع التكسير غير العاقل يجوز فيه ذلك وإن كان مذكراً وإنما ذكرنا ذلك لئلا يتوهم أنه قد غلب المؤنث - وهو السموات - على المذكر وهو الجبال١٠. واعلم أنه لم يكن إباؤهن كإباء إبليس في قوله تعالى :﴿ أبى أَن يَكُونَ مَعَ الساجدين ﴾ [ الحجر : ٣١ ] ؛ لأن السجود هناك كان فرضاً وههنا الأمانة كانت عرضاً والإباء هناك كان استكباراً وههنا استصغاراً لقوله تعالى :«وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا »١١ أي خفن من الأمانة أن لا يؤدينها فيلحقهن العقاب «وحَمَلَهَا الإِنْسَانُ » يعني آدم عليه السلام فقال يا آدم : إني عرضت الأمانة على أهل السموات والأرض والجبال فلم تُطِقْهَا فهل أنت آخذها بما فيها ؟ فقال يا رب : وما فيها ؟ قال : إن أحْسَنْتَ جُوزيت وإنْ أَسَأْتَ عوقبتَ فتحملها آدم عليه السلام. فقال الله تعالى أما إذْ تحمّلتها فسأعينك أجْعَلُ لبصرك حجاباً فإذا خشيت فأغلق وأجْعَلُ لفرجك ستراً فإذا خشيت فلا تكشفه على ما حرمت١٢ عليك قال مجاهد١٣ : فما كان بين أن تحملها وبين أن أخرج من الجنة إلا مقدارَ ما بين الظهر إلى العصر ﴿ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ﴾ قال ابن عباس : ظلوماً لنفسه جهولاً بأمر الله وما احتمل من الأمانة١٤ وقال مقاتل : ظلوماً لنفسه جهولاً بعاقبة ما تحمل١٥. وذكر الزجاج١٦ وغيره من أهل المعاني في قوله :«وَحَمَلَهَا الإنْسَان » قولاً، فقالوا : إن الله ائْتَمَنَ آدم وأولاده على شيء وائتمن أهل السماوات والأرض والجبال على شيء فالأمانة في حق بني آدم ما ذكرنا من الطاعة والقيام بالفرائض والأمانة في حق السموات والأرض هي الخضوع والطاعة لما خلقهم له، ﴿ فَأَبَيْنَ أنْ يحملنها ﴾ أي أدين الأمانة يقال فلان لم يتحمل الأمانة أي يخون فيها «وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ » أي خان فيها، ويقال : فلان حمل الأمانة أي أثم فيها بالخيانة قال تعالى :
﴿ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ ﴾، ﴿ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ﴾ حكي عن الحسن على هذا التأويل أنه قال :«وحملها الإنسان » يعني الكافر والمنافق حمل الأمانة أي خان، والأول قول السلف١٧.
١ وهي رواية ابن أبي طلحة عنه المرجعان السابقان..
٢ الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ١٤/٢٥٤..
٣ البغوي ٥/٢٧٩..
٤ السابق والخازن ٥/٢٧٩ وهذا رأي أبي الدرداء السابقان والقرطبي ١٤/٢٥٤..
٥ المراجع السابقة..
٦ البغوي والخازن ٥/٢٧٩..
٧ وهي رواية مَعْمَر عن الحسن البَصْري رحمه الله، انظر القرطبي ١٤/٢٥٤..
٨ سقط من "ب"..
٩ قاله الخازن والبغوي ٥/٢٧٩ و ٢٨٠..
١٠ قاله السمين في الدر ٤/٤٠٦..
١١ قاله الرازي ٢٥/٢٣٥..
١٢ معالم التنزيل والخازن ٥/٢٨٠..
١٣ السابقان..
١٤ زاد المسير ٦/٤٢٩..
١٥ البغوي ٥/٢٨٠..
١٦ معاني القرآن وإعرابه ٤/٢٣٨..
١٧ ذكره البغوي في معالم التنزيل ٥/٢٨٠ و ٢٨١..
قوله :«لِيُعَذِّبَ » متعلق بقوله :«وحَمَلَهَا » فقيل : هي لام الصيرورة لأنه لم يحملها لذلك١، وقيل : لام العلة على المجاز لما كانت نتيجة حمله ذلك جعلت كالعلة٢ الباعثة.

فصل :


قال مقاتل :﴿ لِيُعَذِّبَ الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ﴾ بما خانوا الأمانة ونقضوا الميثاق٣. ثم قال :﴿ وَيَتُوبَ الله عَلَى المؤمنين والمؤمنات ﴾، قرأ الأعمش برفع «ويتوب »٤ على الاستئناف أي يهديهم ويرحمهم بما أدوا من الأمانة، وقال ابن قتيبة٥ عرضنا الأمانة ليظهر نفاقُ المنافق وشرك المشرك فيعذبهما الله ويظهر إيمان المؤمن فيتوب الله عليه أي يعود عليه بالرحمة والمغفرة إن حصل منه تقصير٦ في الطاعات، وعطف المشرك على المنافق ولم يُعِدْ اسمه تعالى فلم يقل :«ويُعَذِّبَ اللَّهُ المُشْرِكين » وعند التوبة أعاد اسمه وقال :﴿ ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات ﴾ ولو قال : يتوب على المؤمنين والمؤمنات كان المعنى حاصلاً ولكنه أراد تفضيل المؤمن على المنافق فجعله كالكلام المستأنف ويجب هناك ذكر الفاعل فقال «ويتوب الله »٧ ثم قال :﴿ وَكَانَ الله غَفُوراً رَحِيماً ﴾ لما ذكر في الإنسان وصفين الظلوم والجهول ذكر من أوصافه وصفين فقال :﴿ وكان الله غفوراً رحيماً ﴾ أي كان غفوراً للظالم رحيماً على الجهول.
١ هذا يشبه قول أبي حيان في البحر المحيط ٧/٢٥٤: "لأنه لم يحملها لأن يعذب لكنه حملها فآل الأمر إلى أن يعذب من نافق وأشرك ويتوب على من آمن". وانظر تفسير السمين ٤/٤٠٦. وهذه اللام هي التي نسميها لام العاقبة كقوله تعالى: ﴿فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً﴾..
٢ وهو قول الزمخشري في الكشاف ٣/٢٧٧ قال: واللام في ليعذب لام التعليل على طريق المجاز لأن التعذيب نتيجة حمل الأمانة كما أن التأديب في "ضربته للتأديب" نتيجة الضرب واللام متعلقة بـ "حَمَلَ" أو بـ "عَرَضْنَا"..
٣ ذكره البغوي في معالم التنزيل ٥/٢٨١..
٤ هذه قراءة من الأربع فوق العشرة المتواترة انظر: الإتحاف ٣٥٦ والقرطبي ١٤/٢٥٨ وقد نسبها للحسن. والكشاف ٣/٢٧٧ والبحر ٧/٢٥٤ ومختصر ابن خالويه ١١١..
٥ هو: عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري النحويّ اللغوي الكاتب كان رأساً في العربية واللغة والأخبار ثقة ديناً فاضلاً أخذ عن أبي إسحاق بن راهويه وأبي حاتم وعنه ابنه القاضي أحمد وابن دَرَسْتَوَيْهِ من مصنفاته: إعراب القرآن، معاني القرآن، غريب القرآن مات سنة ٣٦٧ انظر: بغية الوعاة ٢/٦٣..
٦ انظر: غريب القرآن له ٣٥٢ وتأويل مشكل القرآن أيضاً له ٢٣٨..
٧ قاله الفخر الرازي في تفسيره ٢٥/٢٣٧..
Icon