تفسير سورة الطور

بيان المعاني
تفسير سورة سورة الطور من كتاب بيان المعاني المعروف بـبيان المعاني .
لمؤلفه ملا حويش . المتوفي سنة 1398 هـ

منسوخة قيل لا وجه له، لأنها ختمت بما يدل على التهديد والوعيد وبدئت بما يدل على الإعراض في مناظرتهم، فلا يتعين فيها النسخ. وما قيل إن يوم الفتح هو يوم بدر أو يوم فتح مكة لا يتجه أيضا، لأن الإيمان فيهما مقبول والإمهال موجود، وقد نفى الله هذين فيه، فتعين أنه يوم القيامة يوم الجزاء الذي لا يقبل فيه شيء من ذلك ولا غيره. ولا يوجد في القرآن سورة مختومة بما ختمت به هذه السورة.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر يوم الجمعة (ألم تنزيل الكتاب) و (هل أتى على الإنسان). وأخرج الترمذي عن جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأ (ألم تنزيل الكتاب) و (تبارك الذي بيده الملك). وأخرج الترمذي عن طاوس قال: تفضلان عن كل سورة في القرآن سبعين حسنة. وأخرج بن مردويه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من قرأ (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) و (الم تَنْزِيلُ) السجدة بين المغرب والعشاء الأخيرة، فكأنما قام ليلة القدر. وأخرج الخرائطي في مكارم الأخلاق من طريق حاتم بن محمد عن طاوس أنه قال: ما على الأرض رجل يقرأ الم السجدة وتبارك الذي بيده الملك في ليلة إلا كتب له مثل أجر ليلة القدر. وجاء فيما أخرجه أبو عبيد وغيره أنها تأتي يوم القيامة لها جناحان تدافع عن قارئها، وتقول لا سبيل عليه. والأخبار بفضلها كثيرة، وكذلك في فضل تبارك. والله أعلم وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، والحمد لله رب العالمين.
تفسير سورة الطور عدد ٢٦- ٧٦- ٥٢
نزلت بمكة بعد سورة السجدة، وهي تسع وأربعون آية، وثلاثمائة واثنتا عشرة كلمة، وألف وخمسمائة حرفا. لا يوجد سورة مبدوءة بما بدئت به، ولا مثلها في عدد الآي.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قال تعالى: «وَالطُّورِ» ١ طور سيناء الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام، ويطلق لغة على كل جبل بانفراده،
381
أما إذا وصف فيتقيد بكل جبل ملتفة عليه الأشجار، وإنما أقسم الله به دون غيره لعظم ما وقع عليه منه جل شأنه لسيدنا موسى «وَكِتابٍ مَسْطُورٍ» ٢ هو التوراة والله أعلم بدلالة السياق والسباق، يؤيده قوله جل قوله «فِي رَقٍّ» وهو الأديم الذي يكتب عليه بفتح الراء وكسرها من الرقة ضد الصفاقة أي الوقاحة، ثم انه تجوز فيه عما يكتب فيه الكتّاب من ألواح وغيرها أو من الرقة وهي اللطافة، «مَنْشُورٍ» ٣ مبسوط مفتوح، وقيل هو عبارة عن صحائف الأعمال استدلالا بقوله تعالى (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) الآية ١٤ من سورة الإسراء ج ١، وقيل هو القرآن، والأول أولى وأنسب بالمعنى بمناسبة ذكر الطور، ولأن الكتاب الذي أنزل على موسى أنزل ألواحا مكتوبة مفتوحة، قال تعالى (وَأَلْقَى الْأَلْواحَ) الآية ١٥٠ من الأعراف في ج ١، ولأن القرآن لم ينزل على محمد مكتوبا تدبر. «وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ» الكائن في السماء السابعة، وسمي معمورا لكثرة زوّاره من الملائكة يعمرونه بالتسبيح والتهليل والتقديس، وجاء في حديث المعراج من إفراد مسلم عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم رأى البيت المعمور في السماء السابعة، قال فإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ويسمى الفراغ حرمته في السماء كحرمة الكعبة في الأرض وهو واقع فوقها بحيث لو سقط من قلبه حجر لسقط عليها، وهو تحت العرش كما روي عن علي كرم الله وجهه.
وقال بعض المفسرين إنه الكعبة وعمارته بالحجاج، والأول أولى لذكره صراحة بالحديثين الصحيحين، وشهرته في هذا الاسم دون الكعبة، وقال آخر إنه المسجد الأقصى المعمور بالأنبياء، وهو أضعف مما قبله، لأن هناك ثلاثة بيوت مقدسة:
البيت المعمور، وبيت العزة في سماء الدنيا الذي أنزل إليه القرآن جملة دفعة واحدة، والبيت الحرام بالأرض. وكل منها مشهور لا يغلب أحدها على الآخر. أما المسجد الأقصى فلم يطلق عليه لفظ بيت، لأن الله سماه المسجد الأقصى، وأطلق عليه لفظ القدس، وقد سمى الله الكعبة البيت الحرام «وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ» ٥ السماء العالية أو العرش، لأنه سقف الجنة كما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما، يؤيده الحديث المار ذكره في تفسير الآية ١٨ من سورة المؤمنين المارة. «وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ» ٦ الموقد المحمى.
382
مطلب من معجزات القرآن الإخبار عن طبقات الأرض، وعن النسبة المسماة ميكروب:
جاء في الحديث الشريف عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا يركب رجل البحر إلا غازيا أو معتمرا أو حاجا وان تحت البحر نارا وتحت النار بحرا. وورد أن البحر طباق جهنم. هذا وقد يظن من لا خبرة له في طبقات الأرض أنه لا يوجد بحر متوقد، مع أنه ثبت أخيرا أن جوف الكرة الأرضية فيه بحر يغلي كالمرجل، ومن انجرته تحصل الزلازل، ومن شظايا معادنه تحصل البراكين.
وهذا من معجزات القرآن العظيم وإخباره بالغيب، إذ لا يوجد إيّان نزوله من يعلم ذلك. ولعل هذا يظن أيضا أن الميكروب المكتشف أخيرا لم يشر الله تعالى إليه، كلا بل هو موجود، قال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها) الآية ١٠ من سورة الأحزاب ج ٣، وجاء في الخبر: اتقوا الغبار فإن فيه النسمة. وهل النسمة إلا الحشرة الصغيرة التي يسمونها ميكروبا، وهي من الجنود التي لم تر، المشار إليها في كتاب الله، وقد يكون في التراب، ولهذا قال صلّى الله عليه وسلم من أكل التراب فقد أعان على قتل نفسه. ولهذا ينبغي لمن يأكل الفواكه والخضراوات أن يغسلها جيدا حتى لا يبقى فيها تراب ما، لأنه لا يخلو عن النسمة أي الميكروب، وعليه فلا يظن أحد استحالة جنود لم ترها العيون، لأن الجراثيم الصغيرة التي لا ترى إلى بالمكبرات هي من جنود الله الفتاكة، وان الله تعالى يسوقها مع الرياح ويسلطها على من يشاء من خلقه، وخاصة الطاعون والهواء الأصفر والهيضة المسماة (كوليرا) والهيجان الذي يقتل فيه أقوى جبار في ساعة واحدة، أليس النمروذ أهلك ببعوضة وهو على ما كان عليه من الجبروت، ألا فلا يظن أحدا أن القرآن أغفل شيئا، كيف والله تعالى يقول (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) الآية ٣٨ من سورة الأنعام المارة، إلا أنه محتاج لفكر ثاقب وعقل كبير ووعي بالغ وقلب واع ودراسة طويلة، قال القائل:
383
وقال الآخر:
ومن طلب العلوم بغير درس سيدر كها إذا شاب الغراب
ألا لا تنال العلم إلا بستة سأنبيك عن مجموعها ببيان
ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة وإرشاد أستاذ وطول زمان
هذا وقد أقسم الله في هذه الأشياء لما فيها من عظيم قدرته وجواب القسم «إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ» ٧ بالمشركين والعاصين في الدنيا والآخرة على بعض وفي الآخرة على آخرين، على أن العصاة قد يعذبهم فيهما أو في أحدهما، وقد يعفو عنهم، ولا يسأل مما يفعل، وإذا وقع عذابه على أحد «ما لَهُ مِنْ دافِعٍ» ٨ يدفعه عنه أو يمنعه منه وعلامة وقوعه أول أيام الآخرة «يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً» ٩ تضطرب وتدور بشدة كدوران الرحى، ولكن بسرعة لا تدرك «وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً» ١٠ حثيثا فتزول عن أماكنها وتكون هباء منثورا، لأنها خلقت رواسي للأرض كي لا تتكفا بأهلها تكفؤ السفينة ولا تتحرك، وذلك لأجل عمارة الأرض أما وقد آذن الله بخرابها فلم يبق لها من حاجة، ليتم قوله تعالى (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) الآية ٤٨ من سورة إبراهيم المارة، قال جبير ابن مطعم: قدمت المدينة لأكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلم في أسارى بدر- أي بعد نزول هذه الآية بسنين كما ألمعنا إليه في الآية ١٧ من سورة السجدة المارة- فدفعت له وهو يصلي بأصحابه المغرب وصوته يخرج من المسجد، فسمعته يقرأ (والطور) إلى قوله (إن عذاب ربّك لواقع، ماله من دافع) فكأنما صدع قلبي حين سمعت، (ولم يكن أسلم يومئذ) فأسلمت خوفا من نزول العذاب، وما كنت أظن أن أقوم من مكاني حتى يقع بي العذاب. وهذا كقول عبد الله بن سلام حين سمع قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها) الآية ٤٧ من سورة النساء ج ٣، قال والله يا رسول الله ما كدت لأن أرجع فأومن قبل أن يطمس الله وجهي إلخ، فأسلم وحسن إسلامه كما سيأتي في تفسير هذه الآية.
قال تعالى «فَوَيْلٌ» هلاك وعذاب شديد وهوان وبلاء كبير «يَوْمَئِذٍ» يوم وقوعه «لِلْمُكَذِّبِينَ» ١١ بالله ورسوله وكتابه واليوم الآخر «الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ» ١٢ لاهون
مما يراد بهم في الدنيا وما هم قادمون إليه في الآخرة مشغولون بما لا يعنيهم «يَوْمَ يُدَعُّونَ» يدفعون بعنف «إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا» ١٣ دفعا عظيما وتقول لهم الملائكة «هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ» ١٤ الذين أخبروكم بها وتقولون لما يتلى عليكم من آيات الله لسحر وكهانة، أنظروا «أَفَسِحْرٌ هذا» المتلو عليكم كما زعتم «أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ» ١٥، أنه حق اليقين اليوم كما كنتم في الدنيا، لأن السحر لا يدوم، وهذا دائم مستمر. وبعد أن يعترفوا يقال لهم «اصْلَوْها» احترقوا في نار جهنم فمسّوا شدة حرها «فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا» على حد قوله تعالى (أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا) الآية ٢١ من سورة إبراهيم المارة، فإن صبركم وعدمه «سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» ١٦ لا محيص لكم عنه، قال تعالى «إِنَّ الْمُتَّقِينَ» للكفر والتكذيب في الدنيا يكونوا في الآخرة «فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ فاكِهِينَ» ١٧ متنعمين فيها «بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ» من الخيرات «وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ» ١٨ جزاء إيمانهم وتصديقهم، وتقول الملائكة لهم في ذلك اليوم «كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً» لا تخمة فيه ولا سقم «بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» ١٩ في الدنيا راجع الآية» ٣٢ من سورة النحل المارة، وللبحث صلة في الآية ٢٤ من الحاقة الآية، وتراهم أيها الرائي «مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ» موصولة بعضها ببعض «وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ» ٢٠ يتنقمون بهن زيادة على ذلك
«وَالَّذِينَ آمَنُوا» آتيناهم ذلك كله «وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ» أي الكبار منهم بإيمانهم أنفسهم والصغار بإيمان آبائهم «أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ» في الجنة تكرمة لهم لتقربهم أعينهم ويجمع لهم السرور كما كانوا في الدنيا يحبون الاجتماع بهم. الحكم الشرعي:
إن الولد الصغير يحكم بإيمانه إذا مات قبل بلوغه تبعا لأحد أبويه، لأنه يتبع أحسن الأبوين في الدين وأخسّهما في النجاسة، ويتبع أمه في الرق إلا أن تعنق فتكون حرة، قال:
385
يتبع الفرع في انتساب أباه والامّ في الرق والحربة
والزكاة الأخف والدين الأعلى والذي اشتد في جزاء ودية
وأخس الأصلين رجيا وذبحا ونكاحا والأكل والأضحية
قال تعالى «وَما أَلَتْناهُمْ» أنقصناهم «مِنْ» ثواب «عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ» في عمله «رَهِينٌ» ٢١ فنفس المؤمن مرهونة بعملها وتكافى بحسبه وأحسن، ونفس الكافر مرهونة بعملها وتجازى بحسبه فقط وما ربك بظلام، فلا يرهن أحد بعمل أحد. قال تعالى (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) الآية ١٦٤ من الأنعام المارة وفي سورة النجم ج ١ مثلها، وذكرنا فيها أن سعي للغير ينفع، وهو من خصائص هذه الأمة كما منفصله في الآية ٤٢ من سورة الرعد في ج ٣ إن شاء الله. قال تعالى «وَأَمْدَدْناهُمْ» زدناهم وأعطيناهم وأصل المدّ الجر ويجيء غالبا بمعنى الإمداد للشيء المحبوب، والمد للمكروه، الإمداد تأخير الأجل والإغاثة وتعزيز الجنود بجماعة أخرى، قال تعالى (أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) الآية ١٠ من سورة الأنفال ج ٣، أي زدناهم بعد تقديم ما يؤكل من الغذاء «بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ» ٢٢ للتلذذ من غير طلب واقتراح إكراما لهم «يَتَنازَعُونَ» يتجازبون ويتعاطون فيناول بعضهم بعضا «فِيها كَأْساً» زجاجة مملوءة بالشراب اللذيذ «لا لَغْوٌ» باطل ولا مالا يغي «فِيها» أي لا يتكلم شاربها بمكروه أثناء شربها كعادة أهل الدنيا عند شرابهم النجس المذهب للعقل، فإنهم يخلطون أثناء شربهم ويهرفون بما لا يعرفون، لأنها لا تذهب عقولهم فيحافظون على الآداب والأخلاق «وَلا تَأْثِيمٌ» ٢٣ فلا يقع منهم خلال شربها أو بعده ما يوجب الإثم بخلاف أهل الدنيا، فإنهم قد يتسابون ويقع منهم ما يؤثمون به، ويفعلون فعل اللئام، أما أهل الجنة فلا يقع منهم عند شربهم وبعده إلا ما يفعله الكرام من اللطف والعطف والمحبة «وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ» بتلك الكأس «غِلْمانٌ لَهُمْ» مملوكون بتمليك رب العالمين لا يشاركون أحدا في خدمتهم «كَأَنَّهُمْ» في حسنهم وجمالهم «لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ» ٢٤ في صدفة لم تمسه الأيدي باق على صفائه «وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ» ٢٥ بينهم، ثم بين تعالى تساءلهم فقال «قالُوا» بعضهم لبعض أثناء تذاكرهم «إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا» في دار الدنيا «مُشْفِقِينَ» ٢٦ خائفين من عذاب الله
386
لا ستقلالنا أعمالنا الصالحة «فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا» في الآخرة وأكرمنا في الجنة «وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ» ٢٧ الريح الشديدة الحرارة التي تدخل في مسام الإنسان وقيل إنها أحد أسماء جهنم، وقالوا «إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ» أن نحضر الآخرة «نَدْعُوهُ» ونعبده ولم نؤده حق عبادته «إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ» ٢٨ بعباده يحسن إليهم ويعطيهم أكثر مما يستحقون بمنه وفضله. وبعد أن بين ما يقع بين أهل الجنة ترغيبا للمؤمنين التفت إلى حبيبه وقال «فَذَكِّرْ» قومك يا محمد في هذا القرآن علهم يرجعون إلى ربهم فينعم عليهم بما ذكر بعضه للمؤمنين به، ولا تلتفت لما يقولونه فيك «فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ» التي أنعمها عليك من النبوة والرسالة والكتاب «بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ» ٢٩ كما يزعمون وينقولون، فأنت رسول الله حقا وأمينه على وحيه صدقا «أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ» ٣٠ حوادث الدهر فيهلك كما هلك من قبله من الشعراء،
كلا فلست ذلك و «قُلْ» لهم يا سيد الرسل «تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ» ٣١ المنتظرين أمر الله فيكم. واعلم أن المنون يطلق على الدهر وعلى الموت قال:
تربص بها ريب المنون لعلها تطلق يوما أو يموت خليلها
هذا على الأول، وعلى قول الثاني قول ذؤيب:
أمن المنون وريبه يتوجع والدهر ليس بمعتب من يجزع
قال تعالى «أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ» أي عقولهم إذ يظنون أنهم عقلاء والمثل السائر (كل بعقله راض أما بماله لا) والحال ليس لهم عقول سليمة، إذ لو كان لهم عقول سليمة لما أمرتهم «بِهذا» القول المتناقض من ساحر إلى شاعر إلى كاهن إلى غير ذلك «أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ» ٣٢ باغون خلوجون عن الاعتدال، قيل لعمرو بن العاص ما بال قومك لم يؤمنوا وقد نعتهم الله تعالى بالعقل؟ فقال تلك عقول كادها الله تعالى إذ لم يصحبها التوفيق، فلهذا لم ينتفعوا بها. على أن هذه الآية لم تدل على رجاحة عقولهم، لأنها واردة مورد الاستهزاء، بل تدل على عكس ذلك، لأن الله أزرى بعقولهم، إذ لم يميزوا بين الحق والباطل والصدق
387
والكذب والهدى والضلال، ويجوز أن يراد بأحلامهم أكابرهم ورؤساؤهم، لأن أحلام بمعنى أجسام، كلفظ أعلام فإنها تطلق على الجبل وعلى الرجل، قال ابن الفارض رحمه الله:
نشرت في موكب العشاق أعلامي وكان قبلي بلي بالحبّ أعلامي
وهم لفلة عقولهم سماهم أجساما تهكيبا بهم «أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ» اختلقه وهي كلمة لا تستعمل إلا في الكذب، كلا، لم يختلقة وهو الصادق المأمون «بَلْ لا يُؤْمِنُونَ» ٣٣ في هذا القرآن المنزل عليك أنفة وتجبرا.
مطلب الحجج العشر وعذاب القبر وبحث في قيام الليل والإخبار بالغيب وما يقال عند القيام من المجلس:
فإذا كان لقولهم من صحة «فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ» في حسن النظم ورشاقة اللفظ ولطافة البيان والأحكام والحدود والإخبار بالمغيبات وقصص الأمم السابقة «إِنْ كانُوا صادِقِينَ» ٣٤ بأنك اختلقته أو أنه شعر أو كهانة، لأنهم عرب مثلك يدعون الفصاحة والبلاغة، والتنكير يفيد التقليل أي ليأتوا بمطلق حديث يشابهه، وقد خسئوا لا يستيعون ولو اجتمعوا وتعاونوا وقد لزمتهم الحجة، راجع الآية ١٣ من سورة هود المارة، قل يا محمد «أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ» أراد بشيء هنا الخلق، إذ ربما يتوهم به أنه يدل على أنه لا يخلق شيء إلا من شيء، والمعنى أوجدوا بلا خالق، فإن قالوا لا، وقعت عليهم الحجة، وإن قالوا نعم فقل لا يجوز أن يوجد خلق بلا خالق، لأن تعلق الخلق بالخالق من ضروريات الاسم «أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ» ٣٥ لأنفسهم أم الله خلقهم، فإن قالوا نحن فقول باطل، لأن من لا وجود له كيف يخلق، وعلى فرض المحال فكلفهم أن يخلقوا ذبابة أو يخلّصوا منها ما تسلبهم، فإذا عجزوا ولا شك أنهم عاجزون فقد لزمتهم الحجة بأنهم مخلوقون لله، وعليهم أن يؤمنوا بخالقهم. وهذا إلزام ثان.
قال تعالى «أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» كلا، بل خلقها الخالق لهم، ولئن سألتهم ليقولن خلقها الله حتما «بَلْ لا يُوقِنُونَ» ٣٦ إيقانا حقيقيا بأنه خلقها، ولو أيقنوا لا لاعترفوا، ولكنهم يجحدون عنادا بسبب إعراضهم عن آيات الله
388
وعدم تدبرهم معانيها، وهذه حجة ثالثة لزمتهم فافحمتهم. قال تعالى «أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ» من الرزق والمطر والعافية فيمنعونه عن أناس ويفيضونه على آخرين كما يفعل الله «أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ» ٣٧ على شيء من ذلك فيقدرون أن يفعلوا ما يشاءون فيغتون هذا، ويفقرون هذا، ويمرضون هذا، ويشفون هذا، كلا ما عندهم شيء من ذلك البتة، وليس لهم سلطة على شيء منه أصلا وفسر بعضهم الخزائن بالنبوة وآخرون بالعلم، والمسيطرين بالأرباب القهارين والجبارين المتسلطين، وهو كما ترى، وهذا إلزام رابع ألقمهم الحجر. قال تعالى «أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ» مرقي إلى السماء «يَسْتَمِعُونَ فِيهِ» كلام الله، وفيه هنا بمعنى عليه، لأن حروف الجر يخلف بعضها بعضا، لأن السلّم يستمع عليه لا فيه، أي هل أنهم يرقون فيسترقون السمع خبر السماء فيعلمون أن محمدا يموت قبلهم، وأنهم يظفرون بالعافية فيتمسكون بما هم عليه، فإن كان لزعمهم هذا من أصل «فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ» الذي سمع ذلك ونقله إليهم «بِسُلْطانٍ مُبِينٍ» ٣٨ يدل على صحة سماعه، وإذ لم يأتوا ولن يأتوا فادعاؤهم كاذب، وتربصهم هواء، وهذا إلزام خامس داحض تربصهم به ومحسئهم. قال تعالى «أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ» ٣٩ وهذا إنكار عليهم لاختيارهم الأحسن لأنفسهم، وجعلهم ما يكرهون لربهم، أي من ابن عرفوا ذلك فهم كاذبون من جهتين من هذه ومن إعزائهم الملائكة لله بأنهم بناته، تعالى عن ذلك، قال تعالى (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) الآية ٢٠ من سورة لزخرف المارة، أي كلا، لم يشهدوا خلقهم، فلزمتهم الحجة السادسة «أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً» على إرشادك ونصحك لهم «فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ» ٤٠ لا يقدرون على تأديته لك، كلا لا شيء من ذلك، وإذا كنت لا تطلب منهم شيئا على تعليمهم فيكون عدم اتباعهم لك لخيرهم أمرا مذموما (والغرم أن يلتزم الإنسان ما ليس عليه)، ولذلك يزهدون باتباعه، وهذه الحجة السابغة التي أخرستهم.
«أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ» اللوح المحفوظ الذي فيه ما غاب عن الخلق علمه «فَهُمْ يَكْتُبُونَ» ٤١ منه ما فيه حتى يقولوا لا نبعث ولا نعذّب ولا نحاسب، كلا ليس عندهم ذلك وهذه حجة ثامنة داحضة لأقوالهم لا بعث ولا حساب ولا عقاب «أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً»
389
برسولنا فيجتمعون في ندوتهم ويتدابرون ما يمكرون به ليتخلصوا منه، وقد أرسل رحمة إليهم مع أنهم لا يقدرون على شيء لأنا نحول دونه ونمنعهم منه ونقول «فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ» ٤٢ الذين يعود عليهم مكرهم، وهذا من الإخبار بالغيب، لأن مذاكرتهم بشأن المكر به في دار الندوة وقعت بعد نزول هذه الآيات قبل الهجرة، وقد أخبره الله تعالى بما حاكوه بينهم فيها بوقته كما سيأتي، ولذلك ترك داره وذهب إلى الغار وأمر عليا أن ينام مكانه فيها، وهذه حجة تاسعة قامعة ما يريدون به، قال تعالى «أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ» يعتمدون عليه في الشدائد، كلا لا إله إلا الله لهم ولغيرهم «سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ» ٤٣ به من أوثان لا تضر ولا تنفع، تنزهت ذاته المقدسة وتبرأت عن ذلك، وهذه تتمة الحجج العشر الواضحات، أفحمهم الله تعالى بها على لسان رسوله فلو كانوا موفقين لأذعنوا إليها واهتدوا بها ولا نوا، ولكن من سبق في علم الله شقاؤه فلن يرى الهدى، بل يزد قاوة وعتوا، وفضلا عن أن كلا من هذه الحجج الدامغة كافية للردع ففي كل منها توبيخ وتبكيت وتقريع، ولكن لا تغني النذر والآيات لمن ختم الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم فهم لا يهتدون أبدا. قال تعالى «وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا» لشدة عنادهم وقوة عتوهم، هذا «سَحابٌ مَرْكُومٌ» ٤٤ بعضه على بعض، وهذا جواب لقولهم (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً) الآية ٩٢ من سورة الإسراء في ج ١، وإذا تبين لك يا سيد الرسل حالهم هذا «فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ» ٤٥ يمرتون قصفا على حين غفلة لأنهم لا بد لهم من الموت ولو بقوا إلى النفخة الأولى التي يصعق فيها كل حي على الأرض وفي السماء عدا من استثنى الله وذلك يوم الموت حتف الأنف والموت بالصعق «يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً» من الله تعالى «وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ» ٤٦ من قبل شركائهم ولا غيرهم. قال تعالى «وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ» قبل صعقهم سينالهم في الدنيا كالقحط والأسر والجلاء والقتل، وهذه الآية أيضا من الإخبار بالغيب إذ وقع بعض ذلك في بعضهم وكله في كلهم وأشده يوم بدر فما بعده، وكان بينه وبين نزول هذه
390
الآية سنتان، وقال بعض المفسرين أن دون هنا بمعنى وراء، وعليه يراد بالعذاب عذاب القبر، لأنه يكون وراء الموت وهو خلاف الظاهر، وتقدم ما فيه في الآية ٢٥ من سورة نوح عليه السلام المارة «وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» ٤٧ أنا سنزل فيهم عذابا قبل موتهم ولا بعده، وفي هذه الآية إشارة إلى أن فيهم من يتوقع ذلك بالفراسة، ومنهم من يعتقد صدقه فيتحقق ما يوعدهم به، ومنهم من يسمع ما وقع للأنبياء السابقين مع أممهم، فيعترفون أن محمدا رسول الله حقا، وأن ما يخبر به لا شك واقع، ولكنهم عنادا يصرون على الكفر وعتوا يكذبون.
قال تعالى «وَاصْبِرْ» يا حبيبي «لِحُكْمِ رَبِّكَ» وأمهلهم على ما تراه من المشقة إلى الوقت المقدر لإعلاء كلمتك عليهم «فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا» ومرأى منا لا تخفى علينا حركاتك وسكناتك، وإنا نكلؤك مما يراد بك، فلا نمكنهم أن يصلوا إليك بسوء أو يوصلوا إليك ما تكره، ومن كان بنظر الحي الذي لا يموت لا يخاف أحدا أبدا، وصلّ يا أكمل الرسل «وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ» ٤٨ من مقامك ومجلسك وللصلاة، أخرج الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من جلس مجلسا فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، إلا كان كفارة لما بينهما.
وأخرج أبو داود والنسائي عن عاصم بن حميد قال: سألت عائشة بأي شيء كان يفتتح رسول الله صلّى الله عليه وسلم قيام الليل؟ فقالت سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك، كان إذا قام كبّر عشرا، وسبح عشرا، وعلل عشرا، واستغفر عشرا، وقال اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني وعافني، وكان يتعوذ من ضيق المقام يوم القيامة.
وأخرج الترمذي عن عائشة قالت: كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة قال سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك. قال تعالى «وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ» أيضا في صلاتي المغرب والعشاء وصلاة التهجد «وَإِدْبارَ النُّجُومِ» ٤٩ بعد وقت السحر إذ فيه تدبر النجوم أي يغيب ضوءها بنور الفجر عن الأبصار فقط، لأنها لا تغيب أصلا، وإنما تخفى على أناس وتظهر لآخرين، وفي القول في غيابها تجوز باعتبار المكان والقطر، وباعتبار ما نرى. روى البخاري
391
Icon