تفسير سورة المزّمّل

اللباب
تفسير سورة سورة المزمل من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
سورة المزمل
مكية في قول الحسن رضي الله عنه وعكرمة وعطاء وجابر، وقال ابن عباس وقتادة : إلا آيتين منها :﴿ واصبر على ما يقولون ﴾، والتي تليها١ [ الآية : ١٠، ١١ ]، ذكره الماوردي وغيره.
وقال الثعلبي :﴿ إن ربك يعلم أنك تقوم ﴾[ المزمل : ١٠، ١١ ]، إلى آخر السورة، فإنه نزل بالمدينة٢. وهي سبع وعشرون آية، ومائتان وخمس وثمانون كلمة، وثماني مائة وثمانية وثلاثون حرفا.
١ ذكره الماوردي في "تفسيره" (٦/١٢٤)..
٢ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/٢٢)..

وقال الثعلبي: ﴿إن الله ربك يعلم أنك تقوم﴾ [المزمل: ١٠، ١١] إلى آخر السورة، فإنه نزل بالمدينة. وهي سبع وعشرون آية، ومائتان وخمس وثمانون كلمة، وثماني مائة وثمانية وثلاثون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: ﴿يا أيها المزمل﴾، أصله «المُتزمِّلُ» فأدغمت التاء في الزاي، يقال: تزمَّل يتزمل تزملاً، فإذا أريد الإدغام: اجتلبت همزة الوصل، وبهذا الأصل قرأ أبي بن كعب.
وقرأ عكرمة: «المُزمِّل» - بتخفيف الزاي وتشديد الميم - اسم فاعل، وعلى هذا فيكون فيه وجهان:
أحدهما: أن أصله «المُزتمِل» بوزن «مفتعل» فأبدلت التاء ميماً وأدغمت، قاله أبو البقاء، وهو ضعيف.
والثاني: أنه اسم فاعل من «زمل» مشدداً، وعلى هذا، فيكون المفعول محذوفاً، أي: المزمل جسمه. وقرىء كذلك إلا أنه بفتح الميم اسم مفعول منه أي: «المُلفَّفُ،
449
والتزمل: التلفف، يقال: تزمل زيد بكساء، أي: الفت به؛ وقال ذو الرُّمَّة: [الطويل]
٤٩١٨ - وكَائِنْ تَخطَّت نَاقتِي مِنْ مفَازةٍ ومِنْ نَائِمٍ عَنْ ليْلِهَا مُتزمِّلِ
وقال امرؤ القيس: [الطويل]
٤٩١٩ - كَأنَّ ثَبِيراً فِي أفَانينِ ودقِهِ كَبِيرُ أنَاسٍ في بجَادٍ مُزمَّلِ
وهو كقراءة بعضهم المتقدمة

فصل في بيان لمن الخطاب في الآية


هذا خطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وفيه ثلاثةُ أقوالٍ:
الأول: قال عكرمة: ﴿يا أيها المزمل﴾ بالنبوة المتزمل بالرسالة، وعنه: يا أيها الذي زمل هذا الأمر، أي: حمله ثم فتر، وكان يقرأ: ﴿يا أيها المزمل﴾ - بتخفيف الزاي وفتح الميم وتشديدها، على حذف المفعول، وكذلك:» المدثر «، والمعنى: المزمل نفسه والمدثر نفسه، والذي زمله غيره.
الثاني: قال ابن عباس: يا أيها المزمل بالقرآن.
الثالث: قال قتادة: يا أيها المزمل بثيابه.
قال النخعيُّ: كان متزملاً بقطيفة عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها بمرط طوله أربعة عشر ذراعاً نصفه عليّ، وأنا نائمة ونصفه على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو يصلي، والله ما كان خزاً ولا قزاً ولا مرعزاء ولا إبريسم ولا صوفاً، كان سداه شعراً ولحمته وبراً، ذكره الثعلبي.
قال القرطبيُّ:»
وهذا القول من عائشة يدل على أنَّ السورة مدنية، فإنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يبنِ بها إلاَّ بالمدينة، والقول بأنها مكية لا يصح «.
450
وقال الضحاكُ: تزمل لمنامه.
وقيل: بلغه من المشركين سوء قول فيه، فاشتد عليه فتزمل، وتدثر، فنزل: ﴿يا أيها المزمل﴾ ﴿يا أيها المدثر﴾.
وقيل: كان هذا في ابتداء أمر ما أوحي إليه فإنه لما سمع صوت الملك، ونظر إليه أخذته الرعدة، فأتى أهله، وقال: زمِّلوني، دثِّرُونِي.
روي معناه عن ابن عباس، قال: أول ما جاءه جبريل خافه، وظن أن به مساً من الجنِّ، فناداه، فرجل من الجبل مرتعداً وقال: زمِّلُوني، زمِّلُونِي.
وقال الكلبيُّ: إنما تزمل النبي بثيابه ليتهيأ للصلاة، وهو اختيار الفراءِ.
وقيل: إنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان نائماً بالليل متزملاً في قطيفة فنودي بما يهجر تلك الحالة، فقيل له: ﴿يا أيها المزمل﴾ قم واشتغل بالعبودية.
وقيل: معناه يا من تحمل أمراً عظيماً، والزمل: الحمل.
قال البغويُّ: قال الحكماء: كان هذا الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أول الوحي قبل تبليغ الرسالة، ثم خوطب بعد بالنبي، والرسول.

فصل في نفي كون «المزمل» اسماً للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ


قال السهيليُّ: ليس المزمل باسم من أسماء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما ذهب إليه بعض الناس، وعدوه في أسمائه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإنما «المُزمِّلُ» اسم مشتق من حالته التي كان عليها حين الخطاب، وكذلك كان المُدثِّرُ.
وفي خطابه بهذا الاسم فائدتان: إحداهما: الملاطفة، فإن العرب إذا قصدت ملاطفة المخاطب وترك المعاتبة، سموه باسم مشتق من حالته التي هو عليها «لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - حين غاضب فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - فأتاه وهو نائم وقد لصق جنبه بالتراب، فقال له:» قُمْ أبَا تُرابٍ «، إشعاراً له بأنه غير عاتب عليه، وملاطفة له وإشعاراً بترك العتب، [وملاطفاً له وكذلك قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لحذيفة: قم يا نومان ملاطفة له، وإشعاراً بترك العتب والتأنيب]- وكان نائماً - فقول الله تعالى لمحمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: ﴿يا أيها المزمل قُمِ﴾ فيه تأنيس له، وملاطفة ليستشعر أنه غير عاتب عليه.
والفائدة الثانية: التنبيه لكل متزمل راقد ليله ليتنبه إلى قيام الليل، وذكر الله تعالى فيه لأن الاسم المشتق من الفعل يشترك فيه مع المخاطب كل من عمل ذلك العمل، واتصف بتلك الصفة.
451
قوله: ﴿قُمِ الليل﴾. العامة: على كسر الميم لالتقاء الساكنين.
وأبو السمال: بضمها، إتباعاً لحركة القاف.
وقرىء: بفتحها طلباً للخفة.
قال أبو الفتح: الغرض: الهرب من التقاء الساكنين، فبأيِّ حركة تحرك الأول حصل الغرض.
قال شهاب الدين:» إلا أن الأصل: الكسر، لدليل ذكره النحويون، و «الليل» ظرف للقيام وإن استغرقه الحدث الواقع فيه، هذا قول البصريين، وأما الكوفيون فيجعلون هذا النوع مفعولاً به «.
قال القرطبي:»
وهو من الأفعال القاصرة الغير متعدية إلى مفعول، فأما ظرف المكان والزمان فسائغ فيه، إلا أن ظرف المكان لا يتعدى إليه إلا بواسطة، لا تقول: «قمت الدار» حتى تقول: «قُمْتُ وسَط الدَّارِ، وخارج الدارِ»، وقد قيل هنا: إن «قم» معناه: صل، عبر به هنا واستعير له حتى صار عرفاً بكثرة الاستعمال «.

فصل في حد الليل


الليل: حده من غروب الشمس إلى طلوع الفجر وقد تقدم بيانه في البقرة.
قال القرطبيُّ:»
واختلف هل كان قيامه فرضاً أو نفلاً؟ والدلائل تقوي أن قيامه كان فرضاً لأن الندب لا يقع على بعض الليل دون بعض لأن قيامه ليس مخصوصاً بوقت دون وقتٍ «.
واختلف هل كان فرضاً على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وحده، أو عليه وعلى من كان قبله من الأنبياء، أو عليه وعلى أمته، ثلاثة أقوالٍ:
الأول: قول سعيد بن جبيرٍ لتوجه الخطاب إليه.
الثاني: قول ابن عباسٍ، قال: كان قيامُ الليل فريضة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والأنبياء قبله.
الثالث: قول عائشة وابن عباس أيضاً وهو الصحيح أنه كان فرضاً عليه وعلى أمته، لما روى «مسلم»
:«أن سعد بن هشام بن عامر قال لعائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: أنبئيني عن قيام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالت: ألست تقرأ: ﴿يا أيها المزمل﴾ قلت: بلى، قالت: فإن الله - عَزَّ
452
وَجَلَّ - افترض قيام الليل في أول هذه السورة، فقام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأصحابه حولاً، وأمسك الله - عَزَّ وَجَلَّ - خاتمتها اثني عشر شهراً في السماء، حتى أنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ - في آخر السورة التخفيف، فصار قيام الليل تطوعاً بعد أن كان فريضة».
وروى وكيع، ويعلى ابن عباس قال: لما نزلت: ﴿يا أيها المزمل﴾ كانوا يقومون نحواً من قيامهم في شهر رمضان حتى نزل آخرها، وكان بين نزول أولها وآخرها نحو من سنة.
وقال سعيد بن جبير: مكث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأصحابه عشر سنين يقومون الليل، فنزلت بعد عشر سنين ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَيِ الليل وَنِصْفَهُ﴾ [المزمل: ٢٠] فخفف الله عنهم.
وقيل: كان قيام الليل واجباً، ثم نسخ بالصلوات الخمس.
وقيل: عسر عليهم تمييز القدر الواجب فقاموا الليل كلَّه فشق ذلك عليهم فنسخ بقوله في آخرها ﴿فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن﴾ [المزمل: ٢٠] وكان بين الوجوب ونسخه سنة.
وقيل: نسخ التقدير بمكة وبقي التهجد، حتى نسخ بالمدينة.
وقيل: لم يجب التهجد قط لقوله ﴿وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ﴾ [الإسراء: ٧٩]، ولأنه لو وجب عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لوجب على أمته لقوله تعالى ﴿واتبعوه﴾ [الأعراف: ١٥٨]، والنسخ على خلاف الأصل، ولأنه فرض تعيين المقدار أي المكلف وذلك ينافي الوجوب.
قوله: ﴿إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً﴾. للناس في هذا كلام كثير، واستدلال على جواز استثناء الأكثر، والنصف، واعتراضات وأجوبة.
قال شهاب الدين: وها أنا أكذر ذلك محرراً له بعون الله تعالى: اعلم أن في هذه الآية ثمانية أوجه:
453
أحدها: أن «نِصْفهُ» بدل من «اللَّيْلِ» بدل بعض من كل، و «إلاَّ قَليْلاً» استثناء من النصف، كأنه قيل: [قُم أقل من نصف الليل، والضمير في «مِنْهُ» و «عليه» عائد على النصف، والمعنى: التخيير بين أمرين: بين أن يقوم أقل من نصف الليل على البت]، وبين أن يختار أحد الأمرين وهما النقصان من النصف، والزيادة عليه، قاله الزمخشريُّ.
وناقشه أبو حيَّان: «بأنه يلزم منه تكرار اللفظ، ويصير التقدير: قم نصف الليل إلا قليلاً من نصف الليل، قال: وهذا تركيب ينزه القرآن عنه».
قال شهاب الدين: والوجه في إشكال، لكن لا من هذه الحيثية، فإن الأمر فيها سهل بل لمعنى آخر - سأذكره إن شاء الله تعالى قريباً -، وجعل أبو البقاء هذا الوجه مرجوحاً فإنه قال: والثاني: هو بدل من «قليلاً» - يعني النصف - قال: وهو أشبه بظاهر الآية لأنه قال: «أو انقُصْ مِنْهُ»، «أو زِدْ عليْهِ»، والهاء فيهما للنصف، فلو كان الاستثناء من النصف لصار التقدير: قم نصف الليل إلا قليلاً، أو انقص منه قليلاً، والقليل المستثنى غير مقدر فالنقصان منه لا يعقل.
قال شهاب الدين: «والجواب عنه: أن بعضهم قد عين هذا القليل، فعن الكلبي، ومقاتل: هو الثلث فلم يكن القليل غير مقدر، ثم إن في قوله تناقضاً فإنه قال:» والقليل المستثنى غير مقدر فالنقصان منه لا يعقل «، فأعاد الضمير على القليل، وفي الأول أعاده على النصف، ولقائل أن يقول: قد ينقدح هذا الوجه بإشكال قوي، وهو أنه يلزم منه تكرار المعنى الواحد، وذلك أن قوله: قُمْ نصف الليل إلا قليلاً، بمعنى أنقص من نصف الليل، لأن ذلك القليل، هو بمعنى النقصان وأنت إذا قلت:» قم نصف الليل إلا القليل من النصف، وقم نصف الليل، أو انقص من النصف «وجدتهما بمعنى واحد، وفيه دقة فتأمله، ولم يذكر الحوفيُّ غير هذا الوجه المتقدم، وقد عرف ما فيه، وممن ذهب إليه أيضاً الزجاجُ فإنه قال:» نِصفَهُ «بدل من» الليل «و» إلاَّ قَلِيلاً «استثناء من النصف، والضمير في» مِنْهُ «و» عَليْهِ «عائد للنصف، والمعنى: قُم نصف الليل، أو انقص من النصف قليلاً إلى الثلث، أو زد عليه إلى الثلثين، فكأنه قال: قم ثلثي الليل، أو نصفه، أو ثلثه».
قال شهاب الدين: «والتقديرات التي يبرزونها ظاهرة حسنة إلا أن التركيب لا يساعد عليها لما عرفت من الإشكال المذكور آنفاً».
الثاني: أن يكون «نِصفَهُ» بدلاً من «قَلِيْلاً» وإليه ذهب الزمخشري وأبو البقاء، وابن عطية.
454
قال الزمخشريُّ: «وإن شئت جعلت» نِصفَهُ «بدلاً من» قَلِيْلاً «وكان تخييراً بين ثلاث: بين قيام النصف بتمامه، وبين قيام الناقص منه، وبين قيام الزائد عليه، وإنَّما وصف النصف بالقلة بالنسبة إلى الكل».
وهذا هو الذي جعله أبو البقاء أشبه من جعله بدلاً من «اللَّيْلِ» كما تقدم.
إلا أن أبا حيان اعترض هذا، فقال: «وإذا كان» نِصفَهُ «بدلاً من» إلاَّ قليلاً «، فالضميرُ في» نصفهُ «إما أن يعود على المبدل منه، أو على المستثنى منه، وهو» الليْل «لا جائزٍ أن يعود على المبدل منه؛ لأنه يصير استثناء مجهول من مجهول، إذ التقدير: إلا قليلاً نصف القليل، وهذا لا يصح له معنى ألبتَّة، وإن عاد الضمير إلى» اللَّيْلِ «فلا فائدة في الاستثناء من» الليْلِ «، إذ كان يكون أخصر، وأفصح، وأبعد عن الإلباس: قم الليل نصفه، وقد أبطلنا قول من قال:» إلاَّ قَليلاً «استثناء من البدل، وهو» نِصْفَهُ «وأنَّ التقدير: قم الليل نصفه إلا قليلاً منه، أي من النصف، وأيضاً ففي دعوى أن» نِصفَهُ «بدل من» إلاَّ قَلِيلاً «، والضمير في» نِصْفَهُ «عائد على» الليْلِ «، إطلاق القليل على النصف، ويلزم أيضاً أن يصير التقدير: إلا نصفه فلا تقمه، أو انقص من النصف الذي لا تقومه، وهذا معنى لا يصلح، وليس المراد من الآية قطعاً».
قال شهاب الدين: يقول بجواز عوده على كل منهما، ولا يلزم محذور، أما ما ذكره من أنه يكون استثناء مجهول من مجهول فممنوع، بل هو استثناء معلوم من معلوم، لأنا بينا أن القليل قدر معين وهو الثلث، والليل ليس بمجهول، وأيضاً فاستثناء المبهم قد ورد، قال الله تعالى: ﴿مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ﴾ [النساء: ٦٦]، وقال تعالى: ﴿فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ﴾ [البقرة: ٢٤٩]، وكان حقه أن يقول: لأنه بدل مجهول من مجهول، وأما ما ذكره من أنه «أخصر منه، وأوضح» كيت وكيت، أما الأخصر، فمسلم وأما أنه يلبس، فممنوع، وإنما عدل عن اللفظ الذي ذكره لأنه أبلغ، وبهذا الوجه استدل من قال: يجوز استثناء النصفِ، والأكثر، [ووجه الدلالة على الأول أنه جعل قليلاً مستثنى من الليل ثم فسَّر ذلك القليل بالنصف، فكأنه قيل قم الليل إلا نصفه] ووجه الدلالة على الثاني: أنه عطف «أوْ زِدْ عليْهِ» على «انْقُصْ مِنْهُ»، فيكون قد استثنى الزائد على النصف، لأن الضمير في «مِنْهُ» وفي «عَليْهِ» عائد على النصف وهو استدلال ضعيف لأن الكثرة إنَّما جاءت بالعطف، وهو نظير أن يقول: له عندي عشرةٌ إلا خمسة درهماً درهماً، فالزيادة على النصف بطريق العطف، لا بطريق أن الاستثناء أخرج الأكبر بنفسه.
الثالث: إن «نِصفَهُ» بدل من «الليل» [أيضاً كما تقدَّم في الوجه الأول، إلا أن
455
الضمير في «مِنْهُ» و «عَليْهِ» عائد على الأقل من النصف،] وإليه ذهب الزمشخريُّ، فإنه قال: «وإن شئت قلت: لما كان معنى ﴿قُمِ الليل إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ﴾ إذا أبدلت النصف من الليل يكون المعنى: قم أقل من نصف الليل، فيرجع الضمير في» مِنْهُ «و» عَليْهِ «، إلى الأقل من النصف، فكأنه قيل: قم أقل من نصف الليل، أو قم أنقص من ذلك الأقل، أو أزيد منه قليلاً، فيكون التخيير فيما وراء النصف بينه وبين الثلث».
الرابع: أن يكون «نِصفَهُ» بدلاً من «قَلِيْلاً» كما تقدم؛ إلا أنك تجعل القليل الثاني ربع الليلِ، وقد أوضح الزمخشري هذا أيضاً، فقال: «ويجوز إذا أبدلت» نِصْفَهُ «من» قَلِيْلاً «وفسرته به أن تجعل» قَلِيلاً «الثاني بمعنى نصف النصف بمعنى الربع، كأنه قيل: أو انقص منه قليلاً نصفه، وتجعل المزيد على هذا القليل أعني الربع نصف الربع، كأنه قيل: أو زد عليه قليلاً نصفه، ويجوز أن تجعل الزيادة لكونها مطلقة تتمة الثلث، فيكون تخييراً بين النصف، والثلث، والربع» انتهى.
واختار ابن الخطيب هذا الوجه مع الوجه الثاني: فقال: وقد أكثر الناس في هذه الآية، وفيها وجهان ملخصان:
أحدهما: أن القليل في قوله: «إِلاَّ قَليْلاً»، هو الثلث، لأن قوله تعالى في آخر السورة: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَيِ الليل وَنِصْفَهُ﴾، يقتضي أن أكثر المقادير الواجبة هو الثلثان، فيكون قيامُ الثلث جائزاً، وهو قوله: ﴿إلاَّ قَلِيلاً﴾ فكأنه قيل: قم ثلثي الليل، ثم قال: «نِصْفَهُ» فمعناه: أو قم نصفه، من باب قولهم: «جالس الحسن، أو ابن سيرين» على الإباحة، فحذف العاطف، فالتقدير: قم الثلثين، أو قم النصف، أو انقص من النصف، أو زد عليه، فعلى هذا يكون الثلثان أقصى الزيادة، والثلث أقصى النقصان، فيكون الواجب هو الثلث، والزائد عليه مندوباً، فإن قيل: فيلزم على قراءة الخفض في «نصفه» و «ثلثه» أن يكون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ترك من الواجب الأدنى، لأنه تعالى قال: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَيِ الليل وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ﴾ فيكون المعنى أنك تقوم أقل من الثلثين، وأقل من النصف وأقل من الثلث، فإذا كان الثلث واجباً كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تاركاً للواجب؟
قلنا: المقدر للشيء قد ينقص منه لعدم انضباطه لأنه باجتهاد فربما أخطأ، فهو كقوله تعالى: ﴿عَلِمَ أَن لَّنْ تُحْصُوهُ﴾ [المزمل: ٢٠].
الثاني: أن «نِصْفَهُ» تفسير ل «قَلِيْلاً» لأن النصف قليل بالنسبة إلى الكل لأن المكلف بالنصف لا يخرج عن العهدة بيقين، إلا بزيادة شيء قليل عليه فيصير في الحقيقة نصفاً وشيئاً، فيكون الباقي بعد ذلك أقل من النصف، فالمعنى: قم نصف الليل، أو انقص منه
456
نصفه، وهو الربع، أو زد عليه نصفه، وهو الربع، فيصير المجموع ثلاثة أرباع، فيكون مخيراً بين أن يقوم تمام النصف، أو ربع الليل، أوثلاثة أرباعه، وحينئذ يزول الإشكال بالكلية، لأن الربع أقل من الثلث، وذلك أن قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَيِ الليل وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ﴾ يدل على أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يقم ثلثي الليل، ولا نصفه ولا ثلثه، لأن الواجب لما كان هو الربع فقط، لم يلزم ترك قيام الثلث.
الوجه الخامس: أن يكون ﴿إِلاَّ قَلِيلاً﴾ استثناء من القيام، فيجعل «الليْل» اسم جنس، ثم قال: ﴿إِلاَّ قَلِيلاً﴾، أي: إلا الليالي التي تُخِلّ فيها، أي تترك في قيامها القدر البين ونحوه، وهذا النظر يحسن مع القول بالندب، قاله ابن عطية، احتمالاً من عنده وهذا خلافُ الظاهرِ، وهو تأويل بعيد.
السادس: قال الأخفش: الأصل قم الليل إلا قليلاً أو نصفه، قال: كقولك: «أعطه درهماً درهمين ثلاثة».
وهذا ضعيف جداً، لأن فيه حذف حرف العطفِ، وهو ممنوعٌ، لم يردْ منه إلا شيء شاذ ممكن تأويله، كقولهم: «أكَلتُ لحْماً سَمَكاً تَمْراً».
وقول الآخر: [الخفيف]
٤٩٢٠ - كَيْفَ أصْبحْتَ كيْفَ أمْسيْتَ ممَّا يَنْزِعُ الوُدَّ في فُؤادِ الكَريمِ
أي: «لحماً وسمكاً وتمراً»، وكذا: كيف أصبحت، وكيف أمسيت، وقد خرج الناس هذا على بدل النداء.
السابع: قال التبريزي: الأمر بالقيام، والتخيير في الزيادة، والنقصان وقع على الثلثين في آخر الليل، لأن الثلث الأول وقت العتمة، والاسثتناء وارد على المأمورية، فكأنه قال: قم ثلثي الليل إلا قليلاً أي ما دون نصفه «أو زِدْ عليْهِ»، أي على الثلثين، فكان التخيير في الزيادة، والنقصان واقعاً على الثلثين، وهذا كلام غريب لا يظهر من هذا التركيب.
الثامن: أن «نِصْفَهُ» منصوب على إضمار فعل، أي: قم نصفه، حكاه مكي عن غيره، فإنه قال: «نِصْفَهُ» بدل من «الليْلِ».
وقيل: «انتصب على إضمار: قم نصفه».
قال شهاب الدين: «وهذا في التحقيق، وهو وجه البدل الذي ذكره أولاً، لأن البدل على نية تكرار العامل».
457

فصل في نسخ الأمر بقيام الليل


اختلفوا في الناسخ للأمر بقيام الليل، فعن ابن عباس وعائشة: أن الناسخ قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَيِ الليل﴾ إلى آخرها، وقيل: قوله تعالى: ﴿عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ﴾ وعن ابن عباس أيضاً: أنه منسوخ بقوله ﴿عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مرضى﴾، وعن عائشة أيضاً، والشافعي وابن كيسان: هو منسوخ بالصلوات الخمس، وقيل: الناسخ قوله تعالى: ﴿فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ﴾.
قال أبو عبد الرحمن السلمي: لما نزلت ﴿يا أيها المزمل﴾ قاموا حتى ورمت أقدامهم وسوقهم ثم نزل قوله تعالى: ﴿فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ﴾.
قال بعض العلماء: وهو فرض نسخ به فرض كان على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خاصة لفضله كما قال تعالى: ﴿وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ﴾.
قال القرطبيُّ: «والقول الأول يعم جميع هذه الأقوال، وقد قال تعالى: ﴿وَأَقِيمُواْ الصلاة﴾ [البقرة: ٤٣]. فدخل فيها قول من قال: إن الناسخِ الصلوات الخمس، وذهب الحسن وابن سيرين إلى أن صلاة الليل كانت فريضة على كلِّ مسلمٍ، ولو على قدر حلب شاة، وعن الحسن أيضاً أنه قال في هذه الآية: الحمد لله تطوع بعد الفريضة، وهو الصحيح - إن شاء الله تعالى - لما جاء في قيامه من الترغيب، والفضل في القرآن، والسنة».
قالت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: «كنت أجعل للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حصيراً يصلي عليه من الليل، فتسامع الناس به فلما رأى جماعتهم كره ذلك، وخشي أن يكتب عليهم قيام الليل، فدخل البيت كالمغضب، فجعلوا يتحنحون، ويتفلون، فخرج إليهم فقال:» أيُّهَا النَّاسُ تكلَّفُوا مِن العمل ما تُطيقُونَ، فإنَّ اللَّه لا يمَلُّ من الثواب حتَّى تَملُّوا من العملِ، وإنَّ خَيْرَ العمَلِ أدومهُ، وإنْ قَلَّ «، فنزلت ﴿يا أيها المزمل﴾، فكتب عليهم، وأنزل بمنزلة الفريضة حتى إن كان أحدهم ليربط الحبل، فيتعلق به، فمكثوا ثمانية أشهرٍ، فنزل قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَيِ الليل﴾، فردهم الله إلى الفريضة، ووضع عنهم قيام الليل، إلا ما تطوعوا به.
قال القرطبيُّ: ومعنى حديث عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها ثابت في الصحيح، إلى
458
قوله:» وإنْ قَلَّ «وباقيه يدل على أن قوله تعالى ﴿يا أيها المزمل﴾ نزل بالمدينة، وأنهم مكثوا ثمانية أشهرٍ يقومون، وقد تقدم عنها في» صحيح مسلم «حولاً.
وحكى الماورديُّ عنها قولاً ثالثاً: وهو ستة عشر شهراً لم يذكر غيره عنها، وذكر عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أنه كان بين أول»
المُزمِّل «وآخرها سنة، قال: فأما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقد كان فرضاً عليه، وقيل في نسخه عنه قولان:
أحدهما: أنه كان فرضاً عليه إلى أن مات.
والثاني: أنه نسخ عنه كما نسخ عن أمته، وفي مدة فرضه إلى أن نسخ قولان:
أحدهما: المدة المفروضة على أمته في القولين الماضيين، يريد قول ابن عباس حولاً، وقول عائشة ستة عشر شهراً.
الثاني:»
أنها عشر سنين إلى أن خفف عنه بالنسخ «.
قوله: ﴿وَرَتِّلِ القرآن تَرْتِيلاً﴾، أي: لا تعجل في قراءة القرآنِ بل اقرأه على مهل وهينة، وبينه تبييناً مع تدبر المعاني.
قال المبرد: أصله من قولهم: «ثغر رتل ورتل»
بفتح العين وكسرها إذا كان حسن التنضيد، ورتلت الكلام ترتيلاً، إذا جملت فيه، ويقال: ثغر رتل إذا كان بين الثنايا افتراق قليل.
فقوله تعالى: ﴿تَرْتِيلاً﴾ تأكيد في إيجاب الأمر به، وأنه مما لا بد منه للقارىء.
روى الحسن: «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مر برجل يقرأ آية ويبكي، فقال:» أَمْ تَسمعُوا إلى قولِ اللَّهِ تعالى: ﴿وَرَتِّلِ القرآن تَرْتِيلاً﴾، هذا الترتيل «.
وروى»
أبو داود «عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» يُؤتَى بِقَارِىء القُرآنِ يَوْم القِيامةِ، فيُوقَفُ فِي أول دَرجِ الجنَّةِ، ويقال له: اقْرَأ وارْقَ ورتلْ كَمَا كُنْتَ تُرتِّلُ في الدُّنيا فإنَّ منزلتك عِنْدَ آخِرِ آية تقرؤها «.
459
قوله :﴿ قُمِ الليل ﴾. العامة : على كسر الميم لالتقاء الساكنين.
وأبو السمال١ : بضمها، إتباعاً لحركة القاف.
وقرئ٢ : بفتحها طلباً للخفة.
قال أبو الفتح : الغرض : الهرب من التقاء الساكنين، فبأيِّ حركة تحرك الأول حصل الغرض.
قال شهاب الدين٣ :" إلا أن الأصل : الكسر، لدليل ذكره النحويون، و «الليل » ظرف للقيام وإن استغرقه الحدث الواقع فيه، هذا قول البصريين، وأما الكوفيون فيجعلون هذا النوع مفعولاً به ".
قال القرطبي٤ :" وهو من الأفعال القاصرة الغير متعدية إلى مفعول، فأما ظرف المكان والزمان فسائغ فيه، إلا أن ظرف المكان لا يتعدى إليه إلا بواسطة، لا تقول :«قمت الدار » حتى تقول :«قُمْتُ وسَط الدَّارِ، وخارج الدارِ »، وقد قيل هنا : إن «قم » معناه : صل، عبر به هنا واستعير له حتى صار عرفاً بكثرة الاستعمال ".

فصل في حد الليل


الليل : حده من غروب الشمس إلى طلوع الفجر وقد تقدم بيانه في البقرة.
قال القرطبيُّ٥ :" واختلف هل كان قيامه فرضاً أو نفلاً ؟ والدلائل تقوي أن قيامه كان فرضاً لأن الندب لا يقع على بعض الليل دون بعض لأن قيامه ليس مخصوصاً بوقت دون وقتٍ ".
واختلف هل كان فرضاً على النبي صلى الله عليه وسلم وحده، أو عليه وعلى من كان قبله من الأنبياء، أو عليه وعلى أمته، ثلاثة أقوالٍ :
الأول : قول سعيد بن جبيرٍ لتوجه الخطاب إليه.
الثاني : قول ابن عباسٍ، قال : كان قيامُ الليل فريضة على النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله.
الثالث : قول عائشة وابن عباس أيضاً وهو الصحيح أنه كان فرضاً عليه وعلى أمته، لما روى «مسلم » :«أن سعد بن هشام بن عامر قال لعائشة رضي الله عنها : أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : ألست تقرأ :﴿ يا أيها المزمل ﴾ قلت : بلى، قالت : فإن الله - عز وجل - افترض قيام الليل في أول هذه السورة، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولاً، وأمسك الله - عز وجل - خاتمتها اثني عشر شهراً في السماء، حتى أنزل الله - عز وجل - في آخر السورة التخفيف، فصار قيام الليل تطوعاً بعد أن كان فريضة »٦.
وروى وكيع، ويعلى ابن عباس قال : لما نزلت :﴿ يا أيها المزمل ﴾ كانوا يقومون نحواً من قيامهم في شهر رمضان حتى نزل آخرها، وكان بين نزول أولها وآخرها نحو من سنة٧.
وقال سعيد بن جبير : مكث النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عشر سنين يقومون الليل، فنزلت بعد عشر سنين ﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَيِ الليل وَنِصْفَهُ ﴾[ المزمل : ٢٠ ] فخفف الله عنهم٨.
وقيل : كان قيام الليل واجباً، ثم نسخ بالصلوات الخمس.
وقيل : عسر عليهم تمييز القدر الواجب فقاموا الليل كلَّه فشق ذلك عليهم فنسخ بقوله في آخرها ﴿ فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن ﴾ وكان بين الوجوب ونسخه سنة.
وقيل : نسخ التقدير بمكة وبقي التهجد، حتى نسخ بالمدينة.
وقيل : لم يجب التهجد قط لقوله ﴿ وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ ﴾[ الإسراء : ٧٩ ]، ولأنه لو وجب عليه صلى الله عليه وسلم لوجب على أمته لقوله تعالى ﴿ فاتبعوه ﴾[ الأعراف : ١٥٨ ]، والنسخ على خلاف الأصل، ولأنه فرض تعيين المقدار أي المكلف وذلك ينافي الوجوب.
١ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٣٨٧، والبحر المحيط ٨/٣٥٣، والدر المصون ٦/٤٠١..
٢ ينظر: الكشاف ٤/٦٣٦، والبحر المحيط ٨/٣٥٣، والدر المصون ٦/٤٠١..
٣ الدر المصون ٦/٤٠١..
٤ الجامع لأحكام القرآن ١٩/٢٣..
٥ السابق ١٩/٢٤..
٦ أخرجه مسلم (١/٢٥٢-٥١٣) صلاة المسافرين: باب جامع صلاة الليل حديث رقم (١٣٩/٧٤٦)..
٧ أخرجه الحاكم (٢/٥٠٥) من طريق داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس
وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٤١) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن نصر والطبراني.
وقد أخرجه أبو داود (١/١٤٦) كتاب الصلاة: باب: نسخ قيام الليل والتيسير فيه حديث (١٣٠٥) من طريق سماك الحنفي عن ابن عباس بنحوه..

٨ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٢٧٩) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٤١) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم..
قوله :﴿ إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً ﴾. للناس في هذا كلام كثير، واستدلال على جواز استثناء الأكثر، والنصف، واعتراضات وأجوبة.
قال شهاب الدين١ : وها أنا أكذر ذلك محرراً له بعون الله تعالى : اعلم أن في هذه الآية ثمانية أوجه :
أحدها : أن «نِصْفهُ » بدل من «اللَّيْلِ » بدل بعض من كل، و «إلاَّ قَليْلاً » استثناء من النصف، كأنه قيل :[ قُم أقل من نصف الليل، والضمير في «مِنْهُ » و «عليه » عائد على النصف، والمعنى : التخيير بين أمرين : بين أن يقوم أقل من نصف الليل على البت ]٢، وبين أن يختار أحد الأمرين وهما النقصان من النصف، والزيادة عليه، قاله الزمخشريُّ.
وناقشه أبو حيَّان :«بأنه يلزم منه تكرار اللفظ، ويصير التقدير : قم نصف الليل إلا قليلاً من نصف الليل، قال : وهذا تركيب ينزه القرآن عنه ».
قال شهاب الدين٣ : والوجه في إشكال، لكن لا من هذه الحيثية، فإن الأمر فيها سهل بل لمعنى آخر - سأذكره إن شاء الله تعالى قريباً -، وجعل أبو البقاء هذا الوجه مرجوحاً فإنه قال : والثاني : هو بدل من «قليلاً » - يعني النصف - قال : وهو أشبه بظاهر الآية لأنه قال :«أو انقُصْ مِنْهُ »،
١ ينظر: الدر المصون ٦/٤٠١..
٢ سقط من أ..
٣ الدر المصون ٦/٤٠٢..
«أو زِدْ عليْهِ »، والهاء فيهما للنصف، فلو كان الاستثناء من النصف لصار التقدير : قم نصف الليل إلا قليلاً، أو انقص منه قليلاً، والقليل المستثنى غير مقدر فالنقصان منه لا يعقل.
قال شهاب الدين :«والجواب عنه : أن بعضهم قد عين هذا القليل، فعن الكلبي، ومقاتل : هو الثلث فلم يكن القليل غير مقدر، ثم إن في قوله تناقضاً فإنه قال :" والقليل المستثنى غير مقدر فالنقصان منه لا يعقل "، فأعاد الضمير على القليل، وفي الأول أعاده على النصف، ولقائل أن يقول : قد ينقدح هذا الوجه بإشكال قوي، وهو أنه يلزم منه تكرار المعنى الواحد، وذلك أن قوله : قُمْ نصف الليل إلا قليلاً، بمعنى أنقص من نصف الليل، لأن ذلك القليل، هو بمعنى النقصان وأنت إذا قلت :" قم نصف الليل إلا القليل من النصف، وقم نصف الليل، أو انقص من النصف " وجدتهما بمعنى واحد، وفيه دقة فتأمله، ولم يذكر الحوفيُّ غير هذا الوجه المتقدم، وقد عرف ما فيه، وممن ذهب إليه أيضاً الزجاجُ فإنه قال :" نِصفَهُ " بدل من " الليل " و " إلاَّ قَلِيلاً " استثناء من النصف، والضمير في " مِنْهُ " و " عَليْهِ " عائد للنصف، والمعنى : قُم نصف الليل، أو انقص من النصف قليلاً إلى الثلث، أو زد عليه إلى الثلثين، فكأنه قال : قم ثلثي الليل، أو نصفه، أو ثلثه ».
قال شهاب الدين :«والتقديرات التي يبرزونها ظاهرة حسنة إلا أن التركيب لا يساعد عليها لما عرفت من الإشكال المذكور آنفاً ».
الثاني : أن يكون «نِصفَهُ » بدلاً من «قَلِيْلاً » وإليه ذهب الزمخشري وأبو البقاء، وابن عطية.
قال الزمخشريُّ :«وإن شئت جعلت " نِصفَهُ " بدلاً من " قَلِيْلاً " وكان تخييراً بين ثلاث : بين قيام النصف بتمامه، وبين قيام الناقص منه، وبين قيام الزائد عليه، وإنَّما وصف النصف بالقلة بالنسبة إلى الكل ».
وهذا هو الذي جعله أبو البقاء أشبه من جعله بدلاً من «اللَّيْلِ » كما تقدم.
إلا أن أبا حيان اعترض هذا، فقال١ :«وإذا كان " نِصفَهُ " بدلاً من " إلاَّ قليلاً "، فالضميرُ في " نصفهُ " إما أن يعود على المبدل منه، أو على المستثنى منه، وهو " الليْل " لا جائزٍ أن يعود على المبدل منه ؛ لأنه يصير استثناء مجهول من مجهول، إذ التقدير : إلا قليلاً نصف القليل، وهذا لا يصح له معنى ألبتَّة، وإن عاد الضمير إلى " اللَّيْلِ " فلا فائدة في الاستثناء من " الليْلِ "، إذ كان يكون أخصر، وأفصح، وأبعد عن الإلباس : قم الليل نصفه، وقد أبطلنا قول من قال :" إلاَّ قَليلاً " استثناء من البدل، وهو " نِصْفَهُ " وأنَّ التقدير : قم الليل نصفه إلا قليلاً منه، أي من النصف، وأيضاً ففي دعوى أن " نِصفَهُ " بدل من " إلاَّ قَلِيلاً "، والضمير في " نِصْفَهُ " عائد على " الليْلِ "، إطلاق القليل على النصف، ويلزم أيضاً أن يصير التقدير : إلا نصفه فلا تقمه، أو انقص من النصف الذي لا تقومه، وهذا معنى لا يصلح، وليس المراد من الآية قطعاً ».
قال شهاب الدين٢ : يقول بجواز عوده على كل منهما، ولا يلزم محذور، أما ما ذكره من أنه يكون استثناء مجهول من مجهول فممنوع، بل هو استثناء معلوم من معلوم ؛ لأنا بينا أن القليل قدر معين وهو الثلث، والليل ليس بمجهول، وأيضاً فاستثناء المبهم قد ورد، قال الله تعالى :﴿ مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ ﴾[ النساء : ٦٦ ]، وقال تعالى :﴿ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ ﴾[ البقرة : ٢٤٩ ]، وكان حقه أن يقول : لأنه بدل مجهول من مجهول، وأما ما ذكره من أنه «أخصر منه، وأوضح » كيت وكيت، أما الأخصر، فمسلم وأما أنه يلبس، فممنوع، وإنما عدل عن اللفظ الذي ذكره لأنه أبلغ، وبهذا الوجه استدل من قال : يجوز استثناء النصفِ، والأكثر، [ ووجه الدلالة على الأول أنه جعل قليلاً مستثنى من الليل ثم فسَّر ذلك القليل بالنصف، فكأنه قيل قم الليل إلا نصفه ]٣ ووجه الدلالة على الثاني : أنه عطف «أوْ زِدْ عليْهِ » على «انْقُصْ مِنْهُ »، فيكون قد استثنى الزائد على النصف، لأن الضمير في «مِنْهُ » وفي «عَليْهِ » عائد على النصف وهو استدلال ضعيف لأن الكثرة إنَّما جاءت بالعطف، وهو نظير أن يقول : له عندي عشرةٌ إلا خمسة درهماً درهماً، فالزيادة على النصف بطريق العطف، لا بطريق أن الاستثناء أخرج الأكبر بنفسه.
الثالث : إن «نِصفَهُ » بدل من «الليل » [ أيضاً كما تقدَّم في الوجه الأول، إلا أن الضمير في «مِنْهُ » و «عَليْهِ » عائد على الأقل من النصف، ] ٤ وإليه ذهب الزمشخريُّ، فإنه قال :«وإن شئت قلت : لما كان معنى ﴿ قُمِ الليل إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ ﴾ إذا أبدلت النصف من الليل يكون المعنى : قم أقل من نصف الليل، فيرجع الضمير في " مِنْهُ " و " عَليْهِ "، إلى الأقل من النصف، فكأنه قيل : قم أقل من نصف الليل، أو قم أنقص من ذلك الأقل، أو أزيد منه قليلاً، فيكون التخيير فيما وراء النصف بينه وبين الثلث ».
الرابع : أن يكون «نِصفَهُ » بدلاً من «قَلِيْلاً » كما تقدم ؛ إلا أنك تجعل القليل الثاني ربع الليلِ، وقد أوضح الزمخشري هذا أيضاً، فقال :«ويجوز إذا أبدلت " نِصْفَهُ " من " قَلِيْلاً " وفسرته به أن تجعل " قَلِيلاً " الثاني بمعنى نصف النصف بمعنى الربع، كأنه قيل : أو انقص منه قليلاً نصفه، وتجعل المزيد على هذا القليل أعني الربع نصف الربع، كأنه قيل : أو زد عليه قليلاً نصفه، ويجوز أن تجعل الزيادة لكونها مطلقة تتمة الثلث، فيكون تخييراً بين النصف، والثلث، والربع » انتهى.
واختار ابن الخطيب هذا الوجه مع الوجه الثاني : فقال٥ : وقد أكثر الناس في هذه الآية، وفيها وجهان ملخصان :
أحدهما : أن القليل في قوله :«إِلاَّ قَليْلاً »، هو الثلث، لأن قوله تعالى في آخر السورة :﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَيِ الليل وَنِصْفَهُ ﴾، يقتضي أن أكثر المقادير الواجبة هو الثلثان، فيكون قيامُ الثلث جائزاً، وهو قوله :﴿ إلاَّ قَلِيلاً ﴾ فكأنه قيل : قم ثلثي الليل، ثم قال :«نِصْفَهُ » فمعناه : أو قم نصفه، من باب قولهم :«جالس الحسن، أو ابن سيرين » على الإباحة، فحذف العاطف، فالتقدير : قم الثلثين، أو قم النصف، أو انقص من النصف، أو زد عليه، فعلى هذا يكون الثلثان أقصى الزيادة، والثلث أقصى النقصان، فيكون الواجب هو الثلث، والزائد عليه مندوباً، فإن قيل : فيلزم على قراءة الخفض في «نصفه » و «ثلثه » أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم ترك من الواجب الأدنى، لأنه تعالى قال :﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَيِ الليل وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ ﴾ فيكون المعنى أنك تقوم أقل من الثلثين، وأقل من النصف وأقل من الثلث، فإذا كان الثلث واجباً كان النبي صلى الله عليه وسلم تاركاً للواجب ؟
قلنا : المقدر للشيء قد ينقص منه لعدم انضباطه لأنه باجتهاد فربما أخطأ، فهو كقوله تعالى :﴿ عَلِمَ أَن لَّنْ تُحْصُوهُ ﴾[ المزمل : ٢٠ ].
الثاني : أن «نِصْفَهُ » تفسير ل «قَلِيْلاً » لأن النصف قليل بالنسبة إلى الكل لأن المكلف بالنصف لا يخرج عن العهدة بيقين، إلا بزيادة شيء قليل عليه فيصير في الحقيقة نصفاً وشيئاً، فيكون الباقي بعد ذلك أقل من النصف، فالمعنى : قم نصف الليل، أو انقص منه نصفه، وهو الربع، أو زد عليه نصفه، وهو الربع، فيصير المجموع ثلاثة أرباع، فيكون مخيراً بين أن يقوم تمام النصف، أو ربع الليل، أو ثلاثة أرباعه، وحينئذ يزول الإشكال بالكلية، لأن الربع أقل من الثلث، وذلك أن قوله تعالى :﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَيِ الليل وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ ﴾ يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يقم ثلثي الليل، ولا نصفه ولا ثلثه، لأن الواجب لما كان هو الربع فقط، لم يلزم ترك قيام الثلث.
الوجه الخامس : أن يكون ﴿ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ استثناء من القيام، فيجعل «الليْل » اسم جنس، ثم قال :﴿ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾، أي : إلا الليالي التي تُخِلّ فيها، أي تترك في قيامها القدر البين ونحوه، وهذا النظر يحسن مع القول بالندب، قاله ابن عطية، احتمالاً من عنده وهذا خلافُ الظاهرِ، وهو تأويل بعيد.
السادس : قال الأخفش : الأصل قم الليل إلا قليلاً أو نصفه، قال : كقولك :«أعطه درهماً درهمين ثلاثة ».
وهذا ضعيف جداً، لأن فيه حذف حرف العطفِ، وهو ممنوعٌ، لم يردْ منه إلا شيء شاذ ممكن تأويله، كقولهم :«أكَلتُ لحْماً سَمَكاً تَمْراً ».
وقول الآخر :[ الخفيف ]
٤٩٢٠ - كَيْفَ أصْبحْتَ كيْفَ أمْسيْتَ ممَّا*** يَنْزِعُ الوُدَّ في فُؤادِ الكَريمِ٦
أي :«لحماً وسمكاً وتمراً »، وكذا : كيف أصبحت، وكيف أمسيت، وقد خرج الناس هذا على بدل النداء.
السابع : قال التبريزي : الأمر بالقيام، والتخيير في الزيادة، والنقصان وقع على الثلثين في آخر الليل، لأن الثلث الأول وقت العتمة، والاستثناء وارد على المأمورية، فكأنه قال : قم ثلثي الليل إلا قليلاً أي ما دون نصفه «أو زِدْ عليْهِ »، أي على الثلثين، فكان التخيير في الزيادة، والنقصان واقعاً على الثلثين، وهذا كلام غريب لا يظهر من هذا التركيب.
الثامن : أن «نِصْفَهُ » منصوب على إضمار فعل، أي : قم نصفه، حكاه مكي عن غيره، فإنه قال :«نِصْفَهُ » بدل من «الليْلِ ».
وقيل :«انتصب على إضمار : قم نصفه ».
قال شهاب الدين٧ :«وهذا في التحقيق، وهو وجه البدل الذي ذكره أولاً، لأن البدل على نية تكرار العامل ».

فصل في نسخ الأمر بقيام الليل


اختلفوا في الناسخ للأمر بقيام الليل، فعن ابن عباس وعائشة : أن الناسخ قوله تعالى :﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَيِ الليل ﴾ إلى آخرها، وقيل : قوله تعالى :﴿ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ ﴾ وعن ابن عباس أيضاً : أنه منسوخ بقوله ﴿ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مرضى ﴾٨، وعن عائشة أيضاً، والشافعي وابن كيسان : هو منسوخ بالصلوات الخمس٩، وقيل : الناسخ قوله تعالى :﴿ فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ﴾.
قال أبو عبد الرحمن السلمي : لما نزلت ﴿ يا أيها المزمل ﴾ قاموا حتى ورمت أقدامهم وسوقهم ثم نزل قوله تعالى :﴿ فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ﴾١٠.
قال بعض العلماء : وهو فرض نسخ به فرض كان على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة لفضله كما قال تعالى :﴿ وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ ﴾.
قال القرطبيُّ١١ :«والقول الأول يعم جميع هذه الأقوال، وقد قال تعالى :﴿ وَأَقِيمُواْ الصلاة ﴾[ البقرة : ٤٣ ]. فدخل فيها قول من قال : إن الناسخِ الصلوات الخمس، وذهب الحسن وابن سيرين إلى أن صلاة الليل كانت فريضة على كلِّ مسلمٍ، ولو على قدر حلب شاة، وعن الحسن أيضاً أنه قال في هذه الآية : الحمد لله تطوع بعد الفريضة، وهو الصحيح - إن شاء الله تعالى - لما جاء في قيامه من الترغيب، والفضل في القرآن، والسنة ».
قالت عائشة رضي الله عنها :«كنت أجعل للنبي صلى الله عليه وسلم حصيراً يصلي عليه من الليل، فتس
١ البحر المحيط ٨/٣١٦..
٢ ينظر: الدر المصون ٦/٤٠٢..
٣ سقط من ب..
٤ سقط من أ..
٥ الفخر الرازي ٣٠/١٥٢..
٦ تقدم..
٧ ينظر: الدر المصون ٦/٤٠٤..
٨ سيأتي تخريجه..
٩ ذكره الماوردي في "تفسيره" (٦/١٢٥)..
١٠ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٢٨٠) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٤١) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر ومحمد بن نصر..
١١ ينظر: الجامع لأحكام القرآن ١٩/٢٥..
قوله: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً﴾، الجملة من قوله: «إنَّا سَنُلقي» مستأنفة.
وقال الزمخشريُّ: «وهذه الآية اعتراض» ثم قال: «وأراد بهذا الاعتراض أن ما كلفه من قيام الليل من جملة التكاليف الثقيلة الصعبة التي ورد بها القرآن، لأن الليل وقت السبات، والراحة، والهدوء فلا بد لمن أحياه من مضادة لطيفة، ومجاهدة لنفسه» انتهى.
يعني بالاعتراض من حيثُ المعنى، لا من حيث الصناعة، وذلك أن قوله: ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ الليل هِيَ أَشَدُّ وَطْأً﴾ مطابق لقوله: «قُمِ الليْل»، فكأنه شابه الاعتراض من حيث دخوله بين هذين المناسبتين.

فصل في معنى الآية


المعنى: سنلقي عليك بافتراض صلاة الليل «قَوْلاً ثَقيْلاً» يثقل حمله، لأن الليل للمنام فمن أجر بقيام أكثره، لم يتهيأ له ذلك إلا بحمل مشقة شديدة على النفس، ومجاهدة الشيطان فهو أمر يثقل على العبد.
وقيل: المعنى سنوحي إليك القرآن وهو ثقيل يثقل العمل بشرائعه قال قتادة: ثقيل - والله - فرائضه وحدوده. وقال مجاهد: حلاله وحرامه.
وقال الحسن: العمل به.
وقال أبو العالية: ثقيل بالوعد، والوعيد، والحلال والحرام.
وقال محمد بن كعب: «ثقيل على المنافقين لأنه يهتك أسرارهم، ويبطل أديانهم».
وقيل: على الكفار لما فيه من الاحتجاج عليهم، والبيان لضلالتهم وسب آلهتهم.
وقال السديُّ: ثقيل بمعنى كريم، مأخوذ من قولهم: فلان ثقيل عليَّ، أي يكرم عليّ.
وقال الفراءُ: «ثَقِيْلاً» أي: رزيناً.
460
وقال الحسن بن الفضل: ثقيل لا يحمله إلا قلب مؤيد بالتوفيق ونفس مزينة بالتوحيد.
وقال ابن زيد: هو ثقيل مبارك في الدنيا يثقل في الميزان يوم القيامة.
وقيل: ثقيل: أي ثابت كثبوت الثقيل في محله، ومعناه أنه ثابت الإعجاز لا يزول إعجازه أبداً.
[وقيل: ثقيل: بمعنى أن العقل الواحد لا يفي بإدراك فوائده، ومعانيه بالكلية، فالمتكلمون غاصوا في بحار معقولاته، والفقهاء بحثوا في أحكامه، وكذا أهل اللغة، والنحو، وأرباب المعاني، ثم لا يزال كل متأخر يفوز منه بفوائد ما وصل إليها المتقدمون فعلمنا أن الإنسان الواحد لا يقوى على الاشتغال بحمله، فصار كالجبل الثقيل الذي يعجز الخلق عن حمله].
وقيل: هو الوحي، كما جاء في الخبر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته، وضعت جرانها - يعني صدرها - على الأرض فما تستطيع أن تتحرك، حتى يُسَرَّى عنه «.
وقال القشيري: القول الثقيل هنا: هو قول:»
لا إلهَ إلاَّ اللَّهُ «، لأنه ورد في الخبر:» لا إلهَ إلاَّ اللَّهُ خَفيفَةٌ على اللِّسانِ ثَقِيلةٌ في المِيزَانِ «.
قوله: ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ الليل﴾.
في الناشئة أوجه:
أحدها: أنها صفة لمحذوف، أي: النفس الناشئة بالليل التي تنشأ من مضجعها للعبادة، أي تنهض وترفع من «نشأت السحابة»
إذا ارتفعت، ونشأ من مكانه ونشر إذا نهض، قال: [الطويل]
٤٩٢١ - نَشَأنَا إلى خُوصِ بَرَى نيَّهَا السُّرَى وألصَقَ مِنْهَا مُشرِفَاتِ القَماحِدِ
الثاني: أنها مصدر بمعنى قيام الليلِ، على أنها مصدر من «نشأ» إذا قام ونهض، فيكون كالعافية والعاقبة، قالهما الزمخشري.
الثالث: أنها بلغة الحبشةِ نشأ الرجل، أي: قام من الليل.
قال أبو حيان: فعلى هذا هي جمع ناشىء، أي: قائم، يعني: أنها صفة لشيء يفهم الجمع، أي: طائفة، أو فرقة نائشة، وإلا ف «فاعل» لا يجمع على «فاعلة».
قال القرطبي: «قال ابن مسعود:» الحبشة « [يقولون: نشأ، أي قام. فلعله أراد
461
أن الكلمة عربية، ولكنها شائعة في كلام الحبشة] غالبة عليهم، وإلاَّ فليس في القرآن ما ليس من لغة العرب».
الرابع: ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ الليل﴾ : ساعاته، وأوقاته؛ لأنها تنشأ شيئاً بعد شيء.
قال القرطبيُّ: «لأنها تنشأ أولاً فأولاً، يقال: نشأ الشيء ينشأ إذا ابتدأ، وأقبل شيئاً بعد شيء فهو ناشىء، وأنشأه اللهُ فنشىء، فالمعنى: ساعات الليل الناشئة، فاكتفى بالوصف عن الاسم فالتأنيث للفظ الساعة، لأن كل ساعة تحدث».
وقيدها الحسن وابن عبَّاسٍ: بما كان بعد العشاء، إن كان قبلها فليس بناشئة، وخصصتها عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها بأن تكون بعد النوم، فلو لم يتقدَّمها نوم لم تكن ناشئة.
قوله: ﴿هِيَ أَشَدُّ وَطْأً﴾.
قرأ أبو عمرو وابن عامرٍ: بكسر الواو، وفتح الطاء بعدها ألف، والباقون: بفتح الواو وسكون الطاء.
وقرأ قتادة وشبل عن أهل مكة: «وِطْأً»، بكسر الواو وسكون الطاء.
وظاهر كلام أبي البقاء أنه قرىء بفتح الواو مع المد، فإنه قال: «وِطْأ» بكسر الواو بمعنى مواطأة «، وبفتحها اسم للمصدر، ووطأ على» فعل «وهو مصدر وطىء، والوطاء: مصدره» وِطَاء «ك» قِتَال «مصدر» قَاتلَ «، والمعنى: أنها أشد مُواطأة، أي: يواطىء قلبها لسانها إن أردت النفس، ويواطىء قلب النائم فيها لسانه إن أردت القيام، أو العبادة، أو الساعات، أو أشد موافقة لما يراد من الخشوع والإخلاص.
والوطء - بالفتح والكسر -: على معنى أشد ثبات قدم، وأبعد من الزلل وأثقل وأغلظ من صلاة النهار على المصلي من قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -:»
اللَّهُمَّ اشدُدْ وطْأتكَ على مُضَر «وعلى كل تقدير: فانتصابه على التمييز.
قوله: ﴿وَأَقْوَمُ قِيلاً﴾.
462
حكى الزمخشريُّ: أن أنساً قرأ:» وأصوب قِيْلاً «فقيل: له: يا أبا حمزة إنما هي» وأقْوَمُ «، فقال: إن أقوم، وأصوب وأهيأ، واحد، وأنَّ أبا السرار الغنوي كان يقرأ: ﴿فَحَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ﴾ [الإسراء: ٢٥]- بالحاء المهملة - فقيل له: هي بالجيم فقال: جَاسوا وحاسوا واحد.
قال شهاب الدين: «وغرضه من هاتين الحكايتين، جواز قراءة القرآن بالمعنى، وليس في هذا دليل؛ لأنه تفسيرُ معنى، وأيضاً، فالذي بين أيدينا قرآن متواتر، وهذه الحكاية آحاد، وقد تقدم أن أبا الدرداء كان يُقْرِىءُ رجلاً، ﴿إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم طَعَامُ الأثيم﴾ [الدخان: ٤٣ - ٤٤]، فجعل الرجل يقول: طعام اليتيم، فلما تبرم منه قال: طعام الفاجر يا هذا، فاستدل به على ذلك من يرى جوازه، وليس فيه دليل، لأن مقصود أبي الدرداء بيان المعنى فجاء بلفط مبين»
.
قال الأنباري: وذهب بعض الزائغين إلى أن من قال: إن من قرأ بحرف يوافق معنى حرف من القرآنِ، فهو مصيب إذا لم يخالف ولم يأت بغير ما أراد الله، واحتجوا بقول أنس هذا، وهذا قول لا يعرج عليه، ولا يلتفت إلى قائله، لأنه لو قرىء بألفاظ القرآن إذا قاربت معانيها، واشتملت على غايتها لجازأن يقرأ في موضع ﴿الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين﴾ الشكر للباري ملك المخلوقين، ويتسع الأمر في هذا، حتى يبطل لفظ جميع القرآن، ويكون التالي له مفترياً على الله - تعالى - كاذباً على رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولا حجة لهم في قول ابن مسعود: «نَزلَ القرآنُ على سَبْعَةِ أحْرُفٍ، إنما هو كقول أحدكم: تعلم، وتعال، وأقبل» ؛ لأن هذا الحديث يوجب أن القراءات المنقولة بالأسانيد الصحاح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا اختلفت ألفاظها، واتفقت معانيها، كان ذلك فيها بمنزلة الخلاف في «هَلُمَّ»، وتعال، وأقبل «، فأما ما لم يقرأ به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأصحابه، وتابعوهم، فإن من أورد حرفاً منه في القرآن بهت، ومال، وخرج عن مذهب الصواب، وحديثهم الذي جعلوه قاعدتهم في هذه الضلالة لا يصححه أهل العلم. انتهى.

فصل في فضل صلاة الليل


بيَّن تعالى في هذه الآية فضل صلاةِ الليل على صلاة النَّهار، وأن الاستكثار من صلاة الليل بالقراءة فيها ما أمكن أعظم للأجر، وأجلب للثواب، كان علي بن الحسين يصلي بين المغرب، والعشاء، ويقول: هذه ناشئة الليل.
وقال عطاء وعكرمة: هو بدوام الليل. قال في الصحاح:»
ناشئة الليل «أول ساعاته.
463
وقال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: هي الليل كلهُ، لأنه ينشأ بعد النهار، وهو اختيار مالك.
قال ابن العربي:» وهو الذي يعطيه اللفظ ويقتضيه اللغة «.
وقالت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها وابن عباس - أيضاً - ومجاهد: إنما الناشئة القيام بالليل بعد النوم، ومن قال قبل النوم فما قام ناشئة.
وقال يمان وابن كيسان: هو القيام من آخر الليل.
وأما قوله: ﴿أَشَدُّ وَطْأً﴾، أي: أثقل على المصلي من ساعات النهار، لأن الليل وقت منام وراحة فإذا قام إلى صلاة الليل، فقد تحمل المشقة العظيمة، هذا على قراءة كسر الواو، وفتح الطاء، وأما على قراءة المد: فهو مصدر «واطَأتْ وِطاءً ومُواطَأةً»
، أي: وافقت على الأمر من الوفاق، تقول: فلان مواطىء اسمه اسمي، أي: موافقه، فالمعنى أشد موافقة بين القلب، والبصر، والسمع واللسان لانقطاع الأصوات، والحركات، قاله مجاهد وابن مليكة وغيرهما، قال تعالى: ﴿ليواطؤوا عدَّةَ ما حرم الله﴾ [التوبة: ٣٧]، أي: ليوافقوا، وقيل: أشدّ مهاداً للتصرف في التفكر والتدبر.
وقيل: أشد ثباتاً من النهار، فإن الليل يخلو فيه الإنسان بما يعمله فيكون ذلك أثبت للعمل، والوطء: الثبات، تقول: وطئتُ الأرض بقدمي.
وقوله: ﴿وَأَقْوَمُ قِيلاً﴾ أي: القراءة بالليل أقوم منها بالنهار، أي: أشد استقامة واستمراراً على الصواب، لأن الأصوات هادئة، والدنيا ساكنة، فلا يضطرب على المصلي ما يقرأه.
وقال قتادة ومجاهد: أصوب للقراءة وأثبت للقول؛ لأنه زمان التفهم.
وقيل: أشد استقامة لفراغ البال بالليل.
وقيل: أعجل إجابة للدعاء، حكاه ابن شجرة.
وقال عكرمة: عبادة الليل أتم نشاطاً وأتم إخلاصاً، وأكثر بركة.
قوله: ﴿إِنَّ لَكَ فِي النهار سَبْحَاً طَوِيلاً﴾.
464
قرأ العامة: بالحاء المهملة، وهو مصدر «سَبح»، وهو استعارة للتصرف في الحوائج من السباحة في الماء، وهي البعد فيه.
وقال القرطبيُّ: السَّبْحُ «الجري، والدوران، ومنه السباحة في الماء لتقلبه بيديه ورجليه، وفرس سابح» شديد الجري «. قال امرؤ القيس: [الطويل]
٤٩٢٢ - مِسَحٍّ إذَا السَّابحَاتُ عَلى الوَنَى أثَرْنَ غُبَاراً بالكَديدِ المُركَّلِ
وقيل: السبح: الفراغ، أي: إن لك فراغاً للحاجات بالنهار.
وعن ابن عباس وعطاء:»
سَبْحاً طَويْلاً «يعني فراغاً طويلاً يعني لنومك، وراحتك فاجعل ناشئة الليل لعبادتك. وقرأ يحيى بن يعمر، وعكرمة وابن أبي عبلة:» سَبْخاً «بالخاء المعجمة.
واختلفوا في تفسيرها: فقال الزمخشريُّ:»
استعارة من سبخ الصوف، وهو نفشه، ونشر أجزائه لانتشار الهمِّ، وتفريق القلب بالشواغل «.
وقيل: التسبيخ، التخفيف، حكى الأصمعيُّ:»
سبخ الله عنك الحمى، أي: خففها عنك «.
قال الشاعر: [الطويل]
٤٩٢٣ - فَسَبِّخْ عليْكَ الهَمَّ واعْلَمْ بأنَّهُ إذَا قدَّر الرَّحمنُ شَيْئاً فكَائِنُ
أي: خفف، ومنه»
قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لعائشةَ، وقد دعت على سارق ردائها: «لا تُسبِّخِي بدُعَائكِ عليْهِ»، أي: لا تخففي إثمه.
وقيل: التسبيخ: المد، يقال: سبخي قُطنكِ، أي: مديه، والسبيخة: قطعة من القطن، والجمع: سبائخ؛ قال الأخطل يصف صائداً وكلاباً: [البسيط]
465
وقال أبو الفضل الرازي: «قرأ ابن يعمر وعكرمة:» سَبْخاً «- بالخاء المعجمة - وقالا: معناه نوماً، أي: ينام بالنهار؛ ليستعين به على قيام الليل، وقد تحتمل هذه القراءة غير هذا المعنى، لكنهما فسراها: فلا تجاوز عنه».
قال شهاب الدين: «في هذا نظرٌ، لأنهما غاية ما في الباب انهما نقلا هذه القراءة، وظهر لهما تفسيرها بما ذكر، ولا يلزم من ذلك أنه لا يجوز غير ما ذكر من تفسير اللفظة».
وقال ثعلب: السَّبْخُ - بالخاء المعجمة - التردد والاضطراب، والسبح: السكون «.
ومنه قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:»
الحُمَّى من فَيْحِ جَهنَّمَ فَسبِّحُوهَا بالمَاء «، أي فسكِّنُوهَا بالمَاءِ.
وقال أبو عمرو: السَّبْخُ: النوم والفراغ، فعلى هذا يكون من الأضداد، ويكون بمعنى السبح بالحاء المهملة.
قوله: ﴿واذكر اسم رَبِّكَ﴾، أي: ادعه بأسمائه الحسنى ليحصل لك مع الصلاة محمود العاقبة.
وقيل: اقصد بعملك وجه ربِّك.
وقال سهل: اقرأ باسم الله الرحمن الرحيم في ابتداء صلاتِك توصلك بركة قراءتها إلى ربك وتقطعك عما سواه.
وقيل: اذكر اسم ربِّك في وعده، ووعيده؛ لتتوفّر على طاعته وتعدل عن معصيته.
وقال الكلبي: صلِّ لربِّك، أي: بالنهار.
قال القرطبيُّ: وهذا حسن، لأنه لما ذكر الليل ذكر النهار، إذ هو قسيمه، وقد قال تعالى: ﴿وَهُوَ الذي جَعَلَ الليل والنهار خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ﴾ [الفرقان: ٦٢].
قوله: ﴿وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً﴾، هذا مصدر على غير المصدر، وهو واقع موقع التبتل، لأن مصدر»
تفعَّل «» تفعُّل «نحو» تصرَّف تصرُّفاً، وتكرَّم تكرُّماً «، وأما» التفعيل «فمصدر» فعَّل «نحو» صرَّف تصريفاً؛ كقول الآخر: [الرجز]
٤٩٢٤ - فَأرْسلُوهُنَّ يُذْرينَ التُّرابَ كمَا يُذْرِي سَبائِخَ قُطْنٍ نَدْفُ أوْتَارِ
٤٩٢٥ - وقَدْ تَطَوَّيْتَ انْطواءَ الحِضْبِ فأوقع «الانفعال» موقع «التفعل».
قال الزمخشريُّ: لأنَّ معنى «تبتَّل» بتل نفسه، فجيء به على معناه مراعاةً لحق الفواصل.
466
والبَتْلُ: الانقطاع، ومنه امرأة بتول، أي: انقطعت من النكاح، وبتلت الحبل: قطعته.
قال الليثُ: التبتل: تمييز الشيء من الشيء، وقالوا: طَلْقةٌ بَتْلةٌ، يعنون انقطاعها عن صاحبها، فالتبتُّل: ترك النكاح والزهد فيه، ومنه سمي الراهب متبتلاً لانقطاعه عن النكاح؛ قال امرؤ القيس: [الطويل]
٤٩٢٦ - تُضِيءُ الظَّلامَ بِالعشَاءِ كأنَّها مَنارةُ مُمْسَى رَاهبٍ مُتبتِّلِ
ومنه الحديث: أنه نهى عن التبتل، وقال: «يَا مَعْشَرَ الشَّبابِ، من اسْتَطَاعَ مِنْكمُ البَاءَةَ فَليتَزوَّجْ» والمراد به في الآية الكريمة: الانقطاع إلى عبادة الله تعالى دون ترك النكاح.
والتبتل في الأصل: الانقطاع عن الناس، والجماعات، وقيل: إن أصله عند العرب التفرد. قاله ابن عرفة.
قال ابن العربي: «هذا فيما مضي، وأما اليوم، وقد مرجت عهود الناس، وخفت أماناتهم، واستولى الحرام على الحطام، فالعزلة خير من الخلطة، والعُزبة أفضل من التأهل، ولكن معنى الآية: وانقطع عن الأوثان، والأصنام، وعن عبادة غير الله.
وكذلك قال مجاهد: معناه: أخلص له العبادة، ولم يرد التبتل، فصار التبتُّلُ مأموراً به في القرآن، مَنْهِيّاً عنه في السنَّةِ، ومتعلق الأمر غير متعلق النهي فلا يتناقضان، وإنما بعث ليبينَ للناس ما نزل إليهم، والتبتل المأمور به: الانقطاع إلى الله بإخلاص كما قال تعالى:
﴿وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين﴾ [البينة: ٥]، والتبتل المنهي عنه: سلوك مسلك النصارى في ترك النكاحِ، والترهب في الصوامع، لكن عند فساد الزمان يكون خير مال المسلمِ غنماً يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن «.
قوله: ﴿رَّبُّ المشرق والمغرب﴾.
قرأ الأخوان وأبو بكر وابن عامرٍ: بجر»
ربِّ «على النعت ل» ربِّك «، أو البدل منه، أو البيان له.
وقال الزمخشري: وعن ابن عباس: على القسم بإضمار حرف القسمِ، كقولك:»
والله لأفعلنَّ «وجوابه» لا إله إلاَّ هُو «، كما تقول:» والله لا أحد في الدار سوى زيد «.
467
قال أبو حيَّان: لعل هذا التخريج لا يصح عن ابن عباس، لأن فيه إضمار الجار، ولا يجيزه البصريون إلاَّ مع لفظ الجلالةِ المعظمة خاصة، ولأن الجملة المنفية في جواب القسم إذا كانت اسمية فإنما تنفى ب» مَا «، وحدها، فلا تنفى ب» لا «إلا الجملة المصدرة بمضارع كثيراً، أو بماض في معناه قليلاً.
نحو قول الشاعر: [البسيط]
٤٩٢٧ - رِدُوا فَواللَّهِ لا زُرْنَاكُمُ أبَداً مَا دَامَ في مائنَا وِرْد لِوُرَّادِ
والزمخشري أورد ذلك على سبيل التجويزِ، والتسليم، والذي ذكره النحويون هو نفيها ب»
مَا «؛ كقوله: [الطويل]
٤٩٢٨ - لَعمْرُكَ ما سَعْدٌ بخُلَّةِ آثمٍ ولا نَأنَإٍ يَوْمَ الحِفَاظِ ولا حَصِرْ
قال شهاب الدين:»
قد أطلق ابن مالك أن الجملة المنفية سواء كانت اسمية، أم فعليه تنفى ب «ما»، أو «لا»، أو «إن» بمعنى: «ما»، وهذا هو الظاهر «.
وباقي السبعة: ترفعه، على الابتداء وخبره الجملة من قوله»
لا إله إلا الله «، أو على خبر ابتداء مضمر، أي:» هُو ربُّ «، وهذا أحسن لارتباط الكلام بعضه ببعض.
وقرأ زيد بن علي:»
ربَّ «بالنصب على المدح.
وقرأ العامة:»
المشْرِق والمَغْرِب «موحدين.
وعبد الله وابن عباس:»
المشَارِق والمغَارِب «.
ويجوز أن ينصب»
ربَّ «في قراءة زيد من وجهين:
أحدهما: أنه بدل من»
اسم ربِّك «، أو بيان له، أو نعت له، قاله أبو البقاء، وهذا يجيء على أن الاسم هو المسمى.
والثاني: أنه منصوب على الاشتغال بفعل مقدر، أي: فاتخذ ربَّ المشرق فاتخذه، وما بينهما اعتراض.
والمعنى: أن من علم أنه رب المشارق، والمغارب انقطع بعمله إليه»
واتَّخذهُ وَكِيْلاً «، أي: قائماً وقيل: كفيلاً بما وعدك.
468
﴿ إِنَّ نَاشِئَةَ الليل هِيَ أَشَدُّ وَطْأً ﴾

فصل في معنى الآية


المعنى : سنلقي عليك بافتراض صلاة الليل «قَوْلاً ثَقيْلاً » يثقل حمله، لأن الليل للمنام فمن أجر بقيام أكثره، لم يتهيأ له ذلك إلا بحمل مشقة شديدة على النفس، ومجاهدة الشيطان فهو أمر يثقل على العبد.
وقيل : المعنى سنوحي إليك القرآن وهو ثقيل يثقل العمل بشرائعه قال قتادة : ثقيل - والله - فرائضه وحدوده١.
وقال مجاهد : حلاله وحرامه٢.
وقال الحسن : العمل به٣.
وقال أبو العالية : ثقيل بالوعد، والوعيد، والحلال والحرام٤.
وقال محمد بن كعب :«ثقيل على المنافقين لأنه يهتك أسرارهم، ويبطل أديانهم »٥.
وقيل : على الكفار لما فيه من الاحتجاج عليهم والبيان لضلالتهم وسب آلهتهم.
وقال السديُّ : ثقيل بمعنى كريم، مأخوذ من قولهم : فلان ثقيل عليَّ، أي يكرم عليّ٦.
وقال الفراءُ :«ثَقِيْلاً » أي : رزيناً.
وقال الحسن بن الفضل : ثقيل لا يحمله إلا قلب مؤيد بالتوفيق ونفس مزينة بالتوحيد٧.
وقال ابن زيد : هو ثقيل مبارك كما ثقل في الدنيا يثقل في الميزان يوم القيامة٨.
وقيل : ثقيل : أي ثابت كثبوت الثقيل في محله، ومعناه أنه ثابت الإعجاز لا يزول إعجازه أبداً.
[ وقيل : ثقيل : بمعنى أن العقل الواحد لا يفي بإدراك فوائده، ومعانيه بالكلية، فالمتكلمون غاصوا في بحار معقولاته، والفقهاء بحثوا في أحكامه، وكذا أهل اللغة، والنحو، وأرباب المعاني، ثم لا يزال كل متأخر يفوز منه بفوائد ما وصل إليها المتقدمون فعلمنا أن الإنسان الواحد لا يقوى على الاشتغال بحمله، فصار كالجبل الثقيل الذي يعجز الخلق عن حمله ]٩.
وقيل : هو الوحي، كما جاء في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته، وضعت جرانها - يعني صدرها - على الأرض فما تستطيع أن تتحرك، حتى يُسَرَّى عنه ".
وقال القشيري : القول الثقيل هنا : هو قول :" لا إلهَ إلاَّ اللَّهُ "، لأنه ورد في الخبر :" لا إلهَ إلاَّ اللَّهُ خَفيفَةٌ على اللِّسانِ ثَقِيلةٌ في المِيزَانِ ".
قوله :﴿ إِنَّ نَاشِئَةَ الليل ﴾. في الناشئة أوجه :
أحدها : أنها صفة لمحذوف، أي : النفس الناشئة بالليل التي تنشأ من مضجعها للعبادة، أي تنهض وترفع من «نشأت السحابة » إذا ارتفعت، ونشأ من مكانه ونشر إذا نهض، قال :[ الطويل ]
٤٩٢١ - نَشَأنَا إلى خُوصِ بَرَى نيَّهَا السُّرَى***وألصَقَ مِنْهَا مُشرِفَاتِ القَماحِدِ١٠
الثاني : أنها مصدر بمعنى قيام الليلِ، على أنها مصدر من «نشأ » إذا قام ونهض، فيكون كالعافية والعاقبة، قالهما الزمخشري.
الثالث : أنها بلغة الحبشةِ نشأ الرجل، أي : قام من الليل.
قال أبو حيان١١ : فعلى هذا هي جمع ناشئ، أي : قائم، يعني : أنها صفة لشيء يفهم الجمع، أي : طائفة، أو فرقة ناشئة، وإلا ف «فاعل » لا يجمع على «فاعلة ».
قال القرطبي١٢ :«قال ابن مسعود :" الحبشة " [ يقولون : نشأ، أي قام. فلعله أراد أن الكلمة عربية، ولكنها شائعة في كلام الحبشة ] غالبة عليهم، وإلاَّ فليس في القرآن ما ليس من لغة العرب ».
الرابع :﴿ إِنَّ نَاشِئَةَ الليل ﴾ : ساعاته، وأوقاته ؛ لأنها تنشأ شيئاً بعد شيء.
قال القرطبيُّ١٣ :«لأنها تنشأ أولاً فأولاً، يقال : نشأ الشيء ينشأ إذا ابتدأ، وأقبل شيئاً بعد شيء فهو ناشئ، وأنشأه اللهُ فنشىء، فالمعنى : ساعات الليل الناشئة، فاكتفى بالوصف عن الاسم فالتأنيث للفظ الساعة، لأن كل ساعة تحدث ».
وقيدها الحسن وابن عبَّاسٍ : بما كان بعد العشاء، إن كان قبلها فليس بناشئة١٤، وخصصتها عائشة رضي الله عنها بأن تكون بعد١٥ النوم، فلو لم يتقدَّمها نوم لم تكن ناشئة١٦.
قوله :﴿ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً ﴾.
قرأ أبو عمرو وابن عامرٍ١٧ : بكسر الواو، وفتح الطاء بعدها ألف، والباقون : بفتح الواو وسكون الطاء.
وقرأ قتادة وشبل١٨ عن أهل مكة :«وِطْأً »، بكسر الواو وسكون الطاء.
وظاهر كلام أبي البقاء يؤذن أنه قرئ بفتح الواو مع المد، فإنه قال :«وِطْأ » بكسر الواو بمعنى مواطأة، وبفتحها اسم للمصدر، ووطأ على " فعل " وهو مصدر وطئ، والوطاء : مصدره " وِطَاء " ك " قِتَال " مصدر " قَاتلَ "، والمعنى : أنها أشد مُواطأة، أي : يواطىء قلبها لسانها إن أردت النفس، ويواطىء قلب النائم فيها لسانه إن أردت القيام، أو العبادة، أو الساعات، أو أشد موافقة لما يراد من الخشوع والإخلاص.
والوطء - بالفتح والكسر - : على معنى أشد ثبات قدم، وأبعد من الزلل وأثقل وأغلظ من صلاة النهار على المصلي من قوله - عليه الصلاة والسلام - :" اللَّهُمَّ اشدُدْ وطْأتكَ على مُضَر ". وعلى كل تقدير : فانتصابه على التمييز.
قوله :﴿ وَأَقْوَمُ قِيلاً ﴾.
حكى الزمخشريُّ : أن أنساً قرأ١٩ :" وأصوب قِيْلاً " فقيل : له : يا أبا حمزة إنما هي " وأقْوَمُ "، فقال : إن أقوم، وأصوب وأهيأ، واحد، وأنَّ أبا السرار الغنوي كان يقرأ :﴿ فَحَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ ﴾[ الإسراء : ٢٥ ] - بالحاء المهملة - فقيل له : هي بالجيم فقال : جَاسوا وحاسوا واحد.
قال شهاب الدين٢٠ :«وغرضه من هاتين الحكايتين، جواز قراءة القرآن بالمعنى، وليس في هذا دليل ؛ لأنه تفسيرُ معنى، وأيضاً، فالذي بين أيدينا قرآن متواتر، وهذه الحكاية آحاد، وقد تقدم أن أبا الدرداء كان يُقْرِىءُ رجلاً، ﴿ إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم طَعَامُ الأثيم ﴾[ الدخان : ٤٣ ]، فجعل الرجل يقول : طعام اليتيم، فلما تبرم منه قال : طعام الفاجر يا هذا، فاستدل به على ذلك من يرى جوازه، وليس فيه دليل، لأن مقصود أبي الدرداء بيان المعنى فجاء بلفظ مبين ».
قال الأنباري : وذهب بعض الزائغين إلى أن من قال : إن من قرأ بحرف يوافق معنى حرف من القرآنِ، فهو مصيب إذا لم يخالف ولم يأت بغير ما أراد الله، واحتجوا بقول أنس هذا، وهذا قول لا يعرج عليه، ولا يلتفت إلى قائله، لأنه لو قرئ بألفاظ القرآن إذا قاربت معانيها، واشتملت على غايتها لجاز أن يقرأ في موضع ﴿ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين ﴾ الشكر للباري ملك المخلوقين، ويتسع الأمر في هذا، حتى يبطل لفظ جميع القرآن، ويكون التالي له مفترياً على الله - تعالى - كاذباً على رسوله صلى الله عليه وسلم ولا حجة لهم في قول ابن مسعود :«نَزلَ القرآنُ على سَبْعَةِ أحْرُفٍ، إنما هو كقول أحدكم : تعلم، وتعال، وأقبل » ؛ لأن هذا الحديث يوجب أن القراءات المنقولة بالأسانيد الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا اختلفت ألفاظها، واتفقت معانيها، كان ذلك فيها بمنزلة الخلاف في " هَلُمَّ، وتعال، وأقبل "، فأما ما لم يقرأ به النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتابعوهم، فإن من أورد حرفاً منه في القرآن بهت، ومال، وخرج عن مذهب الصواب، وحديثهم الذي جعلوه قاعدتهم في هذه الضلالة لا يصححه أهل العلم. انتهى.

فصل في فضل صلاة الليل


بيَّن تعالى في هذه الآية فضل صلاةِ الليل على صلاة النَّهار، وأن الاستكثار من صلاة الليل بالقراءة فيها ما أمكن أعظم للأجر، وأجلب للثواب، كان علي بن الحسين يصلي بين المغرب، والعشاء، ويقول : هذه ناشئة الليل.
وقال عطاء وعكرمة : هو بدوام الليل٢١. قال في الصحاح٢٢ :" ناشئة الليل " أول ساعاته.
وقال ابن عباس ومجاهد وغيرهما : هي الليل كلهُ، لأنه ينشأ بعد النهار٢٣، وهو اختيار مالك.
قال ابن العربي :" وهو الذي يعطيه اللفظ ويقتضيه اللغة ".
وقالت عائشة رضي الله عنها وابن عباس - أيضاً - ومجاهد : إنما الناشئة القيام بالليل بعد النوم، ومن قال قبل النوم فما قام ناشئة٢٤.
وقال يمان وابن كيسان : هو القيام من آخر الليل.
وأما قوله :﴿ أَشَدُّ وَطْأً ﴾، أي : أثقل على المصلي من ساعات النهار، لأن الليل وقت منام وراحة فإذا قام إلى صلاة الليل، فقد تحمل المشقة العظيمة، هذا على قراءة كسر الواو، وفتح الطاء، وأما على قراءة المد : فهو مصدر «واطَأتْ وِطاءً ومُواطَأةً »، أي : وافقت على الأمر من الوفاق، تقول : فلان مواطئ اسمه اسمي، أي : موافقه، فالمعنى أشد موافقة بين القلب، والبصر، والسمع واللسان لانقطاع الأصوات، والحركات، قاله مجاهد وابن مليكة وغيرهما، قال تعالى :﴿ ليواطؤوا عدَّةَ ما حرم الله ﴾[ التوبة : ٣٧ ]، أي : ليوافقوا، وقيل : أشدّ مهاداً للتصرف في التفكر والتدبر.
وقيل : أشد ثباتاً من النهار، فإن الليل يخلو فيه الإنسان بما يعمله فيكون ذلك أثبت للعمل، والوطء : الثبات، تقول : وطئتُ الأرض بقدمي.
وقوله :﴿ وَأَقْوَمُ قِيلاً ﴾ أي : القراءة بالليل أقوم منها بالنهار، أي : أشد استقامة واستمراراً على الصواب، لأن الأصوات هادئة، والدنيا ساكنة، فلا يضطرب على المصلي ما يقرأه.
وقال قتادة ومجاهد : أصوب للقراءة وأثبت للقول ؛ لأنه زمان التفهم٢٥.
وقيل : أشد استقامة لفراغ البال بالليل.
وقيل : أعجل إجابة للدعاء، حكاه ابن شجرة.
وقال عكرمة : عبادة الليل أتم نشاطاً وأتم إخلاصاً، وأكثر بركة٢٦.
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٢٨١) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٤٣) وعزاه إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن نصر..
٢ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/٢٦) عن مجاهد..
٣ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٤٣) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن نصر..
٤ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/٢٦)..
٥ ينظر: المصدر السابق..
٦ ينظر: المصدر السابق..
٧ ينظر: المصدر السابق..
٨ ينظر: المصدر السابق..
٩ سقط من أ..
١٠ ينظر: الكشاف ٤/٦٣٨، والبحر ٨/٣٥٤، والدر المصون ٦/٤٠٤، وروح المعاني ٢٩/١٣١..
١١ ينظر: البحر المحيط ٨/٣٦٢..
١٢ الجامع لأحكام القرآن ١٩/٢٧..
١٣ السابق..
١٤ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٢٨٣) عن ابن مجلز وقتادة.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٤٤) عن قتادة وعزاه إلى عبد بن حميد.
وذكره عن أبي مجلز وعزاه إلى عبد بن حميد وابن نصر..

١٥ في أ: قبل..
١٦ ينظر: تفسير القرطبي (١٩/٢٨)..
١٧ ينظر: السبعة ٦٥٨، والحجة ٦/٣٣٥، وإعراب القراءات ٢/٤٠٥، وحجة القراءات ٤٣٠..
١٨ ينظر: البحر المحيط ٨/٣٥٥، والدر المصون ٦/٤٠٤..
١٩ ينظر: الكشاف ٤/٦٣٩، والمحرر الوجيز ٥/٣٨٨، والدر المصون ٦/٤٠٤..
٢٠ الدر المصون ٦/٤٠٤..
٢١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٢٨٢) عن عكرمة..
٢٢ ينظر: الصحاح ١/٧٨..
٢٣ أخرجه الطبري (١٢/٢٨٢) عن ابن عباس ومجاهد وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٤٤) عن ابن عباس وعزاه إلى عبد بن حميد وابن نصر..
٢٤ تقدم..
٢٥ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٢٨٣) عن قتادة.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٤٥) وعزاه إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن نصر..

٢٦ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/٢٨) عن عكرمة..
قوله :﴿ إِنَّ لَكَ فِي النهار سَبْحَاً طَوِيلاً ﴾.
قرأ العامة : بالحاء المهملة، وهو مصدر «سَبح »، وهو استعارة للتصرف في الحوائج من السباحة في الماء، وهي البعد فيه.
وقال القرطبيُّ١ :" السَّبْحُ " الجري، والدوران، ومنه السباحة في الماء لتقلبه بيديه ورجليه، وفرس سابح " شديد الجري ".
قال امرؤ القيس :[ الطويل ]
٤٩٢٢ - مِسَحٍّ إذَا ما السَّابحَاتُ عَلى الوَنَى***أثَرْنَ غُبَاراً بالكَديدِ المُركَّلِ٢
وقيل : السبح : الفراغ، أي : إن لك فراغاً للحاجات بالنهار.
وعن ابن عباس وعطاء :" سَبْحاً طَويْلاً " يعني فراغاً طويلاً يعني لنومك، وراحتك فاجعل ناشئة الليل لعبادتك٣.
وقرأ يحيى بن يعمر٤، وعكرمة وابن أبي عبلة :" سَبْخاً " بالخاء المعجمة.
واختلفوا في تفسيرها : فقال الزمخشريُّ :" استعارة من سبخ الصوف، وهو نفشه، ونشر أجزائه لانتشار الهمِّ، وتفريق القلب بالشواغل ".
وقيل : التسبيخ، التخفيف، حكى الأصمعيُّ :" سبخ الله عنك الحمى، أي : خففها عنك ".
قال الشاعر :[ الطويل ]
٤٩٢٣ - فَسَبِّخْ عليْكَ الهَمَّ واعْلَمْ بأنَّهُ*** إذَا قدَّر الرَّحمنُ شَيْئاً فكَائِنُ٥
أي : خفف، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشةَ، وقد دعت على سارق ردائها :«لا تُسبِّخِي بدُعَائكِ عليْهِ »، أي : لا تخففي إثمه٦.
وقيل : التسبيخ : المد، يقال : سبخي قُطنكِ، أي : مديه، والسبيخة : قطعة من القطن، والجمع : سبائخ ؛ قال الأخطل يصف صائداً وكلاباً :[ البسيط ]
٤٩٢٤- فَأرْسلُوهُنَّ يُذْرينَ التُّرابَ كمَا*** يُذْرِي سَبائِخَ قُطْنٍ نَدْفُ أوْتَارِ٧
وقال أبو الفضل الرازي :«قرأ ابن يعمر وعكرمة :" سَبْخاً " - بالخاء المعجمة - وقالا : معناه نوماً، أي : ينام بالنهار ؛ ليستعين به على قيام الليل، وقد تحتمل هذه القراءة غير هذا المعنى، لكنهما فسراها : فلا تجاوز عنه ».
قال شهاب الدين٨ :«في هذا نظرٌ، لأنهما غاية ما في الباب أنهما نقلا هذه القراءة، وظهر لهما تفسيرها بما ذكر، ولا يلزم من ذلك أنه لا يجوز غير ما ذكر من تفسير اللفظة ».
وقال ثعلب :" السَّبْخُ - بالخاء المعجمة - التردد والاضطراب، والسبح : السكون ".
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم :" الحُمَّى من فَيْحِ جَهنَّمَ فَسبِّحُوهَا بالمَاء "، أي فسكِّنُوهَا بالمَاءِ٩.
وقال أبو عمرو : السَّبْخُ : النوم والفراغ، فعلى هذا يكون من الأضداد، ويكون بمعنى السبح بالحاء المهملة.
١ الجامع لأحكام القرآن ١٩/٢٩..
٢ ينظر: ديوانه (٢٠) والقرطبي ١٩/٢٩..
٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٢٨٥) عن ابن عباس ومجاهد وقتادة.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٤٥) عن ابن عباس وعزاه إلى عبد بن حميد وابن نصر وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم في "الكنى"..

٤ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٣٨٨، والبحر المحيط ٨/٣٥٥، والدر المصون ٦/٤٠٥..
٥ ينظر: اللسان (سبخ)، والقرطبي ١٩/٢٩، والبحر ٨/٣٥٥، والدر المصون ٦/٤٠٥، وروح المعاني ٢٩/١٣٢..
٦ أخرجه أبو داود (١/٤٧٠) كتاب الصلاة: باب الدعاء رقم (١٤٩٧) وفي كتاب الأدب: باب فيمن دعا على من ظلم رقم (٤٩٠٩) والبغوي في شرح السنة (٣/١٣٩) من حديث عائشة..
٧ ينظر: ديوانه (١٤٠) واللسان (سبخ)، والبحر ٨/٣٥٥، والقرطبي ١٩/٢٩، والدر المصون ٦/٤٠٥، وروح المعاني ٢٩/١٣٢..
٨ ينظر: الدر المصون ٦/٤٠٥..
٩ تقدم..
قوله :﴿ واذكر اسم رَبِّكَ ﴾، أي : ادعه بأسمائه الحسنى ليحصل لك مع الصلاة محمود العاقبة.
وقيل : اقصد بعملك وجه ربِّك.
وقال سهل : اقرأ باسم الله الرحمن الرحيم في ابتداء صلاتِك توصلك بركة قراءتها إلى ربك وتقطعك عما سواه.
وقيل : اذكر اسم ربِّك في وعده، ووعيده ؛ لتتوفّر على طاعته وتعدل عن معصيته.
وقال الكلبي : صلِّ لربِّك، أي : بالنهار.
قال القرطبيُّ١ : وهذا حسن، لأنه لما ذكر الليل ذكر النهار، إذ هو قسيمه، وقد قال تعالى :﴿ وَهُوَ الذي جَعَلَ الليل والنهار خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ ﴾ [ الفرقان : ٦٢ ].
قوله :﴿ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ﴾، هذا مصدر على غير المصدر، وهو واقع موقع التبتل، لأن مصدر " تفعَّل " " تفعُّل " نحو " تصرَّف تصرُّفاً، وتكرَّم تكرُّماً "، وأما " التفعيل " فمصدر " فعَّل " نحو " صرَّف تصريفاً " ؛ كقول الآخر :[ الرجز ]
٤٩٢٥ - وقَدْ تَطَوَّيْتَ انْطواءَ الحِضْبِ٢ ***. . .
فأوقع «الانفعال » موقع «التفعل ».
قال الزمخشريُّ : لأنَّ معنى «تبتَّل » بتل نفسه، فجيء به على معناه مراعاةً لحق الفواصل.
والبَتْلُ : الانقطاع، ومنه امرأة بتول، أي : انقطعت من النكاح، وبتلت الحبل : قطعته.
قال الليثُ : التبتل : تمييز الشيء من الشيء، وقالوا : طَلْقةٌ بَتْلةٌ، يعنون انقطاعها عن صاحبها، فالتبتُّل : ترك النكاح والزهد فيه، ومنه سمي الراهب متبتلاً لانقطاعه عن النكاح ؛ قال امرؤ القيس :[ الطويل ]
٤٩٢٦ - تُضِيءُ الظَّلامَ بِالعشَاءِ كأنَّها*** مَنارةُ مُمْسَى رَاهبٍ مُتبتِّلِ٣
ومنه الحديث : أنه نهى عن التبتل، وقال :«يَا مَعْشَرَ الشَّبابِ، من اسْتَطَاعَ مِنْكمُ البَاءَةَ فَليتَزوَّجْ »٤ والمراد به في الآية الكريمة : الانقطاع إلى عبادة الله تعالى دون ترك النكاح.
والتبتل في الأصل : الانقطاع عن الناس، والجماعات، وقيل : إن أصله عند العرب التفرد. قاله ابن عرفة.
قال ابن العربي :«هذا فيما مضي، وأما اليوم، وقد مرجت عهود الناس، وخفت أماناتهم، واستولى الحرام على الحطام، فالعزلة خير من الخلطة، والعُزبة أفضل من التأهل، ولكن معنى الآية : وانقطع عن الأوثان، والأصنام، وعن عبادة غير الله.
وكذلك قال مجاهد : معناه : أخلص له العبادة، ولم يرد التبتل، فصار التبتُّلُ مأموراً به في القرآن، مَنْهِيّاً عنه في السنَّةِ، ومتعلق الأمر غير متعلق النهي فلا يتناقضان، وإنما بعث ليبينَ للناس ما نزل إليهم، والتبتل المأمور به : الانقطاع إلى الله بإخلاص كما قال تعالى :﴿ وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين ﴾، والتبتل المنهي عنه : سلوك مسلك النصارى في ترك النكاحِ، والترهب في الصوامع، لكن عند فساد الزمان يكون خير مال المسلمِ غنماً يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن ".
١ الجامع لأحكام القرآن ١٩/٣٠..
٢ تقدم..
٣ ينظر: ديوانه (١٧٤) وشرح المعلقات للزوزني (٢٤)، والقرطبي ١٩/٣٠، والبحر ٨/٣٥٢، والدر المصون ٦/٤٠٦..
٤ تقدم..
قوله :﴿ رَّبُّ المشرق والمغرب ﴾.
قرأ الأخوان وأبو بكر١ وابن عامرٍ : بجر " ربِّ " على النعت ل " ربِّك "، أو البدل منه، أو البيان له.
وقال الزمخشري : وعن ابن عباس : على القسم بإضمار حرف القسمِ، كقولك :" والله لأفعلنَّ " وجوابه " لا إله إلاَّ هُو "، كما تقول :" والله لا أحد في الدار سوى زيد ".
قال أبو حيَّان٢ : لعل هذا التخريج لا يصح عن ابن عباس، لأن فيه إضمار الجار، ولا يجيزه البصريون إلاَّ مع لفظ الجلالةِ المعظمة خاصة، ولأن الجملة المنفية في جواب القسم إذا كانت اسمية فإنما تنفى ب " مَا "، وحدها، فلا تنفى ب " لا " إلا الجملة المصدرة بمضارع كثيراً، أو بماض في معناه قليلاً.
نحو قول الشاعر :[ البسيط ]
٤٩٢٧ - رِدُوا فَواللَّهِ لا زُرْنَاكُمُ أبَداً*** مَا دَامَ في مائنَا وِرْد لِوُرَّادِ٣
والزمخشري أورد ذلك على سبيل التجويزِ، والتسليم، والذي ذكره النحويون هو نفيها ب " مَا " ؛ كقوله :[ الطويل ]
٤٩٢٨ - لَعمْرُكَ ما سَعْدٌ بخُلَّةِ آثمٍ***ولا نَأنَإٍ يَوْمَ الحِفَاظِ ولا حَصِرْ٤
قال شهاب الدين٥ :" قد أطلق ابن مالك أن الجملة المنفية سواء كانت اسمية، أم فعليه تنفى ب «ما »، أو «لا »، أو «إن » بمعنى :«ما »، وهذا هو الظاهر ".
وباقي السبعة : ترفعه، على الابتداء وخبره الجملة من قوله " لا إله إلا الله "، أو على خبر ابتداء مضمر، أي :" هُو ربُّ "، وهذا أحسن لارتباط الكلام بعضه ببعض.
وقرأ زيد٦ بن علي :" ربَّ " بالنصب على المدح.
وقرأ العامة :" المشْرِق والمَغْرِب " موحدين.
وعبد الله وابن عباس :" المشَارِق والمغَارِب " ٧.
ويجوز أن ينصب " ربَّ " في قراءة زيد من وجهين :
أحدهما : أنه بدل من " اسم ربِّك "، أو بيان له، أو نعت له، قاله أبو البقاء، وهذا يجيء على أن الاسم هو المسمى.
والثاني : أنه منصوب على الاشتغال بفعل مقدر، أي : فاتخذ ربَّ المشرق فاتخذه، وما بينهما اعتراض.
والمعنى : أن من علم أنه رب المشارق، والمغارب انقطع بعمله إليه " واتَّخذهُ وَكِيْلاً "، أي : قائماً وقيل : كفيلاً بما وعدك.
١ ينظر: السبعة ٦٥٨، والحجة ٦/٣٣٦، وإعراب القراءات ٢/٤٠٧، وحجة القراءات ٧٣١..
٢ البحر المحيط ٨/٣٦٤..
٣ ينظر: الهمع ٢/٤١، والبحر ٨/٣٥٦، والدر المصون ٦/٤٠٦..
٤ البيت لامرئ القيس. ينظر: ديوانه (٧٤)، والبحر ٨/٣٥٧، والدر المصون ٦/٤٠٦..
٥ الدر المصون ٦/٤٠٦..
٦ ينظر: البحر المحيط ٨/٣٥٥، والدر المصون ٦/٤٠٦..
٧ ينظر: الكشاف ٤/٦٤٠، والمحرر الوجيز ٥/٣٥٥، والبحر المحيط ٨/٣٥٥..
قوله: ﴿واصبر على مَا يَقُولُونَ﴾، أي: من الأذى، والسب، والاستهزاء، ولا تجزع من قولهم، ولا تمتنع من دعائهم، وفوض الأمر إليّ، فإني إذا كنت وكيلاً لك، أقوم بإصلاح أمرك أحسن من قيامك بأمور نفسك ﴿واهجرهم هَجْراً جَمِيلاً﴾، الهجر: ترك المخالطةِ، أي: لا تتعرض لهم، ولا تشتغل بمكافأتهم فإن ذلك ترك للدعاء إلى الله تعالى، وكان هذا قبل الأمر بالقتال، ثم أمر بعد ذلك بقتالهم.
قال قتادة وغيره، نسختها آية القتال.
وقال أبو الدرداء: إنا لنكشر في وجوه [أقوام] ونضحك إليهم وإن قلوبنا لتلعنهم.
قال ابن الخطيب: وقيل وهو الأصح إنّها محكمة.
قوله: ﴿وَذَرْنِي والمكذبين﴾. يجوز نصب «المُكذِّبِيْنَ» على المعية، وهو الظاهر، ويجوز على النسق وهو أوفق للصناعة.
والمعنى: ارض بي لعقابهم، نزلت في صناديد قريش ورؤساء مكة من المستهزئين.
وقال مقاتل: نزلت في المطعمين يوم بدر، وهم عشرة تقدم ذكرهم في الأنفال.
وقال يحيى بن سلام: إنهم بنو المغيرة.
وقال سعيد بن جبير: أخبرت أنهم اثنا عشرة رجلاً، «أولي النعمة» أي: أولي الغنى، والترفه واللذة في الدنيا ﴿وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً﴾ يعني إلى مدة آجالهم، قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -: لما نزلت هذه الآية لم يكن إلا يسيراً حتى وقعت وقعة بدر.
وقيل: «ومَهِّلهُمْ قَلِيلاً» مدة الدنيا.
قوله: «أوْلِي النَّعمَةِ»، نعت للمكذبين. و «النعمة» - بالفتح -: التنعم، وبالكسر، الإنعام، وبالضم: المسرَّةُ، يقال: نِعْمة ونُعْمة عين.
469
وقوله: «قَلِيلاً»، نعت لمصدر، أي: تمهيلاً، أو لظرف زمان محذوف، أي: زماناً قليلاً.
قوله: ﴿إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً﴾، جمع نكل، وفيه قولان:
أشهرهما: أنه القيد.
وقيل: الغل؛ وقالت الخنساء: [المتقارب].
٤٩٢٩ - دَعَاكَ فقطَّعْتَ أنْكالَهُ وقَدْ كُنَّ مِنْ قَبْلُ لا تُقطَعُ
قال الحسن ومجاهد وغيرهما: الأنكال: القيود، واحدها: نكل، وهو ما منع الإنسان من الحركة، وقيل: سمي نكلاً، لأنه ينكل به.
قال الشعبي: أترون أن الله جعل الأنكال في أرجل أهل النار خشية أن يهربوا - لا والله - ولكنهم إذا أراد أن يرتفعوا اشتعلت بهم.
وقال الكلبيُّ: الأنكال: الأغلال.
وقال مقاتل: الأنكال: أنواع العذاب الشديد.
وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ النَّكلَ على النَّكلِ» - قال الجوهريُّ: بالتحريك - قيل: وما النكل؟ قال: «الرجل القوي المجرب على الفرس القوي المجرب» - ذكره الماورديُّ، قال: ومن ذلك سمي القَيْدُ نِكلاً لقوته وكذلك الغُلّ وكل عذاب قوي.
قال ابن الأثير: «النَّكَلُ - بالتحريك - من التنكيل، وهو المنع، والتنحية عما يريد يقال: رجل نَكَلٌ ونِكْلٌ، كشبه وشبهٌ، أي: ينكل به أعداؤه، وقد نكل الأمر ينكل، ونكل ينكل: إذا امتنع، ومنه النكول في اليمين وهو الامتناع منها وترك الإقدام عليها».
والجحيم: النار المؤجَّجَةُ.
﴿وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ﴾. «الغُصَّةُ» : الشجى، وهو ما ينشب في الحلق فلا ينساغ، ويقال: «غَصِصتُ» - بالكسر - فأتت غَاصٌّ وغصَّان، قال: [الرمل]
470
٤٩٣٠ - لَو بِغيْرِ المَاءِ حَلْقِي شَرِقٌ كُنْتُ كالغَصَّانِ بالمَاءِ اعتِصَارِي
والمعنى: طعاماً غير سائغ يأخذ بالحلق، لا هو نازل، ولا هو خارج وهو كالغسلين، والزَّقُّوم والضريع. قاله ابن عباس. وعنه أيضاً: أنه شوك يدخل الحلق فلا ينزل ولا يخرج.
وقال الزجاجُ: أي: طعامهم الضريع، وهو شوك كالعوسج.
وقال مجاهد: هو كالزقوم.
والغصة: الشجى، وهو ما ينشب في الحلق من عظم، أو غيره، وجمعها: غُصَص، والغَصَصُ - بالفتح - مصدر قولك «غَصِصْتَ» يا رجل تَغُصُّ، فأنت غاصٌّ بالطعام وغصَّان وأغْصصتُهُ أنا، والمنزل غاص بالقوم أي ممتلىء بهم «.
ومعنى الآية: أن لدينا في الآخرة ما يضادّ تنعمهم في الدنيا، وهذه هي الأمور الأربعة: الأنكال، والجحيم، والطعام الذي يغص به، والعذاب الأليم، والمراد به: سائرُ أنواع العذابِ.
قوله: ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الأرض والجبال﴾. أي: تتحرك، وفي نصب»
يوم «أوجه:
أحدها: أنه منصوب ب»
ذرني «، وفيه بعد.
والثاني: أنه منصوب بنزع الخافض أي: هذه العقوبة في يوم ترجف.
الثالث: أنه منصوب بالاستقرار المتعلق به»
لَديْنَا «.
والرابع: أنه صفة ل»
عَذاباً «فيتعلق بمحذوف، أي عذاباً واقعاً يوم ترجف.
الخامس: أنه منصوب ب»
ألِيْم «.
والعامة:»
تَرجُف «- بفتح التاء، وضم الجيم - مبنياً للفاعل.
وزيد بن علي: مبنياً للمفعول، من أرجفها: والرجفة: الزلزلة والزعزعة الشديدة.
471
قوله: ﴿وَكَانَتِ الجبال﴾، أي: وتكون الجبال ﴿كَثِيباً مَّهِيلاً﴾، الكثيب: الرمل المجتمع.
قال حسان: [الوافر]
٤٩٣١ - عَرفْتُ دِيَارَ زَينَب بالكَثِيبِ كخَطِّ الوحْي في الورَقِ القَشِيبِ
والجمع في القلة:» أكْثِبَةٌ «، وفي الكثرة:» كثبان «و» كُثُب «ك» رَغيف وأرغِفَة، ورُغْفَان ورُغُف «.
قال ذو الرمة: [الطويل]
٤٩٣٢ - فَقلْتُ لهَا:
لا إنَّ أهْلِي لَجيرةٌ لأكْثِبَةِ الدَّهْنَا جَمِيعاً ومَالِيَا
قال الزمخشري: من كثبت الشيء إذا جمعته، ومنه الكثبة من اللبن؛ قالت الضائنة: أجَزُّ جُفالاً، وأحلبُ كُثَباً عُجَالاً.
[والمهيل: أصله»
مهيول «ك» مضروب «استثقلت الضمة على الياء] فنقلت إلى الساكن قبلها، وهو الهاء فالتقى ساكنان، فاختلف النحاة في العمل في ذلك: فسيبويه، وأتباعه حذفوا الواو، وكانت أولى بالحذف، لأنها زائدة، وإن كانت القاعدة إنما تحذف لالتقاء الساكنين الأول، ثم كسروا الهاء لتصح الياء، ووزنه حينئذ» مفعل «.
والكسائي والفراء والأخفش: حذفوا الياء، لأن القاعدة في التقاء الساكنين: إذا احتيج إلى حذف أحدهما حذف الأول، وكان ينبغي على قولهم أن يقال فيه:»
مهول «إلا أنهم كسروا الهاء لأجل الياء التي كانت فقلبت الواو ياء، ووزنه حينئذ» مفعول «على الأصل، و» مفيل «بعد القلب.
قال مكي: «وقَدْ أجَازوا كلهم أن يأتي على أصله في الكلام، فتقول: مهيول ومبيوع»
، وما أشبه ذلك من ذوات الياء، فإن كان من ذوات الواو لم يجز أن يأتي على أصله عند البصريين، وأجازه الكوفيون، نحو: مقوول، ومصووغ.
وأجازوا كلهم: مهول ومبوع، على لغة من قال: بوع المتاع، وقول القول، ويكون الاختلاف في المحذوف منه على ما تقدم.
قال شهاب الدين: «التمام في» مبيوع، ومهيول «وبابه، لغة تميم، والحذف لغة سائر العرب».
472
ويقال: هلتُ التراب أهيله هيلاً، فهو مهيل فيه.
وفيه لغة: أهلتُه - رباعيّاً - إهالةً فهو مُهال، نحو أبعته إباعة فهو مباع. والمهيل من هال تحته القدم أي انصب أي هلت التراب أي طرحته.
وقال القرطبيُّ: والمَهِيلُ: الذي يمر تحت الأرجل، قال الضحاك والكلبي: المهيل: الذي إذا وطئته بالقدم زل من تحتها، فإذا أخذت أسفله انهال.
وقال ابن عباس: «مهيلاً» أي: رملاً سائلاً متناثراً.
قال القرطبيُّ: وأصله مَهْيُول، وهو «مفعُول» من قولك: هلت التراب عليه أهيلة إهالة وهيلاً، إذا صببته.
يقال: مَهِيل ومَهْيُول، ومَكِيل ومكيول، ومَدِين ومديُون ومَعِين ومَعْيُون.
قال الشاعر: [الكامل]
٤٩٣٣ - قَدْ كَانَ قَومُكَ يَحسبُونكَ سيِّداً وإخَالُ أنَّكَ سيِّدٌ مَعيُونُ
وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - حين شكوا إليه الجدوبة: «» أتكِيْلُون أمْ تَهِيْلُون «؟ قالوا: نهيل. قال:» كِيلُوا طَعامَكُم يُبارِكْ لَكُمُ الله فِيْهِ «».
473
قوله :﴿ وَذَرْنِي والمكذبين ﴾. يجوز نصب «المُكذِّبِيْنَ » على المعية، وهو الظاهر، ويجوز على النسق وهو أوفق للصناعة.
والمعنى : ارض بي لعقابهم، نزلت في صناديد قريش ورؤساء مكة من المستهزئين.
وقال مقاتل : نزلت في المطعمين يوم بدر، وهم عشرة١ تقدم ذكرهم في الأنفال.
وقال يحيى بن سلام : إنهم بنو المغيرة.
وقال سعيد بن جبير : أخبرت أنهم اثنا عشرة رجلاً٢، «أولي النعمة » أي : أولي الغنى، والترفه واللذة في الدنيا ﴿ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً ﴾ يعني إلى مدة آجالهم، قالت عائشة - رضي الله عنها - : لما نزلت هذه الآية لم يكن إلا يسيراً حتى وقعت وقعة بدر٣.
وقيل :«ومَهِّلهُمْ قَلِيلاً » مدة الدنيا.
قوله :«أوْلِي النَّعمَةِ »، نعت للمكذبين. و «النعمة » - بالفتح - : التنعم، وبالكسر، الإنعام، وبالضم : المسرَّةُ، يقال : نِعْمة ونُعْمة عين.
وقوله :«قَلِيلاً »، نعت لمصدر، أي : تمهيلاً، أو لظرف زمان محذوف، أي : زماناً قليلاً.
١ ينظر: القرطبي (١٩/٣١)..
٢ ينظر: المصدر السابق..
٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٢٨٨) وأبو يعلى (٨/٥٦) رقم (٤٥٧٨).
وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (٧/١٣٠) وقال: رواه أبو يعلى وفيه جعفر بن مهران وعبد الله بن محمد بن عقيل وفيهما ضعف وقد وثقا..

قوله :﴿ إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً ﴾، جمع نكل، وفيه قولان :
أشهرهما : أنه القيد.
وقيل : الغل ؛ وقالت الخنساء :[ المتقارب ].
٤٩٢٩ - دَعَاكَ فقطَّعْتَ أنْكالَهُ*** وقَدْ كُنَّ مِنْ قَبْلُ لا تُقطَعُ١
قال الحسن ومجاهد وغيرهما : الأنكال : القيود٢، واحدها : نكل، وهو ما منع الإنسان من الحركة، وقيل : سمي نكلاً، لأنه ينكل به.
قال الشعبي : أترون أن الله جعل الأنكال في أرجل أهل النار خشية أن يهربوا - لا والله - ولكنهم إذا أراد أن يرتفعوا اشتعلت بهم٣.
وقال الكلبيُّ : الأنكال : الأغلال.
وقال مقاتل : الأنكال : أنواع العذاب الشديد٤.
وقال عليه الصلاة والسلام :«إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ النَّكلَ على النَّكلِ »٥ - قال الجوهريُّ : بالتحريك - قيل : وما النكل ؟ قال :«الرجل القوي المجرب على الفرس القوي المجرب » - ذكره الماورديُّ، قال : ومن ذلك سمي القَيْدُ نِكلاً لقوته وكذلك الغُلّ وكل عذاب قوي.
قال ابن الأثير :«النَّكَلُ - بالتحريك - من التنكيل، وهو المنع، والتنحية عما يريد يقال : رجل نَكَلٌ ونِكْلٌ، كشبه وشبهٌ، أي : ينكل به أعداؤه، وقد نكل الأمر ينكل، ونكل ينكل : إذا امتنع، ومنه النكول في اليمين وهو الامتناع منها وترك الإقدام عليها ».
والجحيم : النار المؤجَّجَةُ.
١ رواية الديوان:
دعاك فهتكت أغلاله***وقد ظن قبلك لا تقطع
ينظر: ديوانها (٦٧)، والقرطبي ١٩/٣١، والبحر ٨/٣٥٦، والدر المصون ٦/٤٠٧..

٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٢٨٨) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٤٦) وزاد نسبته إلى أحمد في "الزهد" وعبد بن حميد وابن المنذر..
٣ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/٣١)..
٤ ينظر: المصدر السابق..
٥ ذكره الماوردي في "تفسيره" (٦/١٣٠) وتبعه القرطبي (١٩/٣١)..
﴿ وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ ﴾. «الغُصَّةُ » : الشجى، وهو ما ينشب في الحلق فلا ينساغ، ويقال :«غَصِصتُ » - بالكسر - فأتت غَاصٌّ وغصَّان، قال :[ الرمل ]
٤٩٣٠ - لَو بِغيْرِ المَاءِ حَلْقِي شَرِقٌ***كُنْتُ كالغَصَّانِ بالمَاءِ اعتِصَارِي١
والمعنى : طعاماً غير سائغ يأخذ بالحلق، لا هو نازل، ولا هو خارج وهو كالغسلين، والزَّقُّوم والضريع. قاله ابن عباس. وعنه أيضاً : أنه شوك يدخل الحلق فلا ينزل ولا يخرج٢.
وقال الزجاجُ : أي : طعامهم الضريع، وهو شوك كالعوسج.
وقال مجاهد : هو كالزقوم٣.
والغصة : الشجى، وهو ما ينشب في الحلق من عظم، أو غيره، وجمعها : غُصَص، والغَصَصُ - بالفتح - مصدر قولك :" غَصِصْتَ يا رجل تَغُصُّ، فأنت غاصٌّ بالطعام وغصَّان وأغْصصتُهُ أنا، والمنزل غاص بالقوم أي ممتلئ بهم ".
ومعنى الآية : أن لدينا في الآخرة ما يضادّ تنعمهم في الدنيا، وهذه هي الأمور الأربعة : الأنكال، والجحيم، والطعام الذي يغص به، والعذاب الأليم، والمراد به : سائرُ أنواع العذابِ.
١ تقدم..
٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٢٨٩) والحاكم (٢/٥٠٥-٥٠٦) من طريق شبيب عن عكرمة عن ابن عباس.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ورده الذهبي بقوله: قلت: شبيب ضعفوه.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٤٦) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن أبي الدنيا في "صفة النار" وعبد الله في "زوائد الزهد" وابن المنذر والبيهقي في "البعث"..

٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٢٨٩) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٤٦) وعزاه إلى عبد بن حميد..
قوله :﴿ يَوْمَ تَرْجُفُ الأرض والجبال ﴾. أي : تتحرك، وفي نصب " يوم " أوجه :
أحدها : أنه منصوب ب " ذرني "، وفيه بعد.
والثاني : أنه منصوب بنزع الخافض أي : هذه العقوبة في يوم ترجف.
الثالث : أنه منصوب بالاستقرار المتعلق به " لَديْنَا ".
والرابع : أنه صفة ل " عَذاباً " فيتعلق بمحذوف، أي عذاباً واقعاً يوم ترجف.
الخامس : أنه منصوب ب " ألِيْم ".
والعامة :" تَرجُف " - بفتح التاء، وضم الجيم - مبنياً للفاعل.
وزيد بن علي١ : مبنياً للمفعول، من أرجفها : والرجفة : الزلزلة والزعزعة الشديدة.
قوله :﴿ وَكَانَتِ الجبال ﴾، أي : وتكون الجبال ﴿ كَثِيباً مَّهِيلاً ﴾، الكثيب : الرمل المجتمع.
قال حسان :[ الوافر ]
٤٩٣١ - عَرفْتُ دِيَارَ زَينَب بالكَثِيبِ***كخَطِّ الوحْي في الورَقِ القَشِيبِ٢
والجمع في القلة :" أكْثِبَةٌ "، وفي الكثرة :" كثبان " و " كُثُب " ك " رَغيف وأرغِفَة، ورُغْفَان ورُغُف ".
قال ذو الرمة :[ الطويل ]
٤٩٣٢ - فَقلْتُ لهَا : لا إنَّ أهْلِي لَجيرةٌ***لأكْثِبَةِ الدَّهْنَا جَمِيعاً ومَالِيَا٣
قال الزمخشري : من كثبت الشيء إذا جمعته، ومنه الكثبة من اللبن ؛ قالت الضائنة : أجَزُّ جُفالاً، وأحلبُ كُثَباً عُجَالاً.
[ والمهيل : أصله " مهيول " ك " مضروب " استثقلت الضمة على الياء ]٤ فنقلت إلى الساكن قبلها، وهو الهاء فالتقى ساكنان، فاختلف النحاة في العمل في ذلك : فسيبويه، وأتباعه حذفوا الواو، وكانت أولى بالحذف، لأنها زائدة، وإن كانت القاعدة إنما تحذف لالتقاء الساكنين الأول، ثم كسروا الهاء لتصح الياء، ووزنه حينئذ " مفعل ".
والكسائي والفراء والأخفش : حذفوا الياء، لأن القاعدة في التقاء الساكنين : إذا احتيج إلى حذف أحدهما حذف الأول، وكان ينبغي على قولهم أن يقال فيه :" مهول " إلا أنهم كسروا الهاء لأجل الياء التي كانت فقلبت الواو ياء، ووزنه حينئذ " مفعول " على الأصل، و " مفيل " بعد القلب.
قال مكي :«وقَدْ أجَازوا كلهم أن يأتي على أصله في الكلام، فتقول : مهيول ومبيوع »، وما أشبه ذلك من ذوات الياء، فإن كان من ذوات الواو لم يجز أن يأتي على أصله عند البصريين، وأجازه الكوفيون، نحو : مقوول، ومصووغ.
وأجازوا كلهم : مهول ومبوع، على لغة من قال : بوع المتاع، وقول القول، ويكون الاختلاف في المحذوف منه على ما تقدم.
قال شهاب الدين٥ :«التمام في " مبيوع، ومهيول " وبابه، لغة تميم، والحذف لغة سائر العرب ».
ويقال : هلتُ التراب أهيله هيلاً، فهو مهيل فيه.
وفيه لغة : أهلتُه - رباعيّاً - إهالةً فهو مُهال، نحو أبعته إباعة فهو مباع. والمهيل من هال تحته القدم أي انصب أي هلت التراب أي طرحته.
وقال القرطبيُّ٦ : والمَهِيلُ : الذي يمر تحت الأرجل، قال الضحاك والكلبي : المهيل : الذي إذا وطئته بالقدم زل من تحتها، فإذا أخذت أسفله انهال.
وقال ابن عباس :«مهيلاً » أي : رملاً سائلاً متناثراً٧.
قال القرطبيُّ٨ : وأصله مَهْيُول، وهو «مفعُول » من قولك : هلت التراب عليه أهيلة إهالة وهيلاً، إذا صببته.
يقال : مَهِيل ومَهْيُول، ومَكِيل ومكيول، ومَدِين ومديُون ومَعِين ومَعْيُون.
قال الشاعر :[ الكامل ]
٤٩٣٣ - قَدْ كَانَ قَومُكَ يَحسبُونكَ سيِّداً***وإخَالُ أنَّكَ سيِّدٌ مَعيُونُ٩
وقال - عليه الصلاة والسلام - حين شكوا إليه الجدوبة :" أتكِيْلُون أمْ تَهِيْلُون " ؟ قالوا : نهيل. قال :" كِيلُوا طَعامَكُم يُبارِكْ لَكُمُ الله فِيْهِ " ١٠.
١ ينظر البحر المحيط ٨/٣٥٦، والدر المصون ٦/٤٠٧..
٢ ينظر: ديوانه ص ١٣٤، وفيه "الرق القشيب" بدل "الورق القشيب" شرح الشواهد الكبرى ٤/٧٧، القرطبي ١٩/٣٢..
٣ ينظر: ديوانه ص ٧٣٢، وشرح شواهد المغني ١/١٣٩، واللسان (دهن) ورصف المباني ص ٩٤، ومغني اللبيب ١/٤٨، والبحر ٨/٣٥٢، والدر المصون ٦/٤٠٨..
٤ سقط من أ..
٥ ينظر: الدر المصون ٦/٤٠٧..
٦ الجامع لأحكام القرآن ١٩/٣٢..
٧ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٢٩٠) عن ابن عباس وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٤٦) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم..
٨ ينظر: الجامع لأحكام القرآن ١٩/٣٢..
٩ تقدم..
١٠ أخرجه البخاري (٤/٢٤٥) كتاب البيوع: باب ما يستحب من الكيل حديث (٢١٢٨) وابن ماجه (٢٢٣١، ٢٢٣٢) وأحمد (٤/١٣١) والبغوي في "شرح السنة" (٦/١٠٣) من حديث المقدام بن معد يكرب..
واعلم أنه تعالى لما خوف المكذبين أولي النَّعمةِ بأهوال يوم القيامة خوفهم بعد ذلك بأهوال الدنيا، فقال:
﴿إِنَّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولاً﴾ يريد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أرسله إلى قريش ﴿كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً﴾ وهو موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وهذا تهديد لأهل مكة بالأخذ الوبيل.
473
قال مقاتل: وإنما ذكر موسى وفرعون دون سائر الرسل لأن أهل «مكة» ازدروا محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ واستخفوا به؛ لأنه ولد فيهم كما أن فرعون ازدرى بموسى؛ لأنه ربَّاه، ونشأ فيما بينهم كما قال تعالى: ﴿أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا﴾ [الشعراء: ١٨].
وذكر ابن الخطيب هذا السؤال والجواب وليس بالقوي لأن إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ولد، ونشأ فيما بين قوم نمرود، وكان «آزَر» وزير نمرود على ما ذكره المفسرون، وكذلك القول في نوح وهود وصالح ولوط، لقوله تعالى في قصة كل واحد منهم لفظة «أخاهم» لأنه من القبيلة التي بعث إليها.
قوله: ﴿فعصى فِرْعَوْنُ الرسول﴾، إنما عرفه لتقدم ذكره، وهذه «أل» العهدية، والعرب إذا قدمت اسماً ثم حكت عنه ثانياً، أتوا به معرفاً ب «أل»، أو أتوا بضميره لئلا يلتبس بغيره نحو «رأيت رجلاً فأكرمتُ الرجل، أو فأكرمته»، ولو قلت: «فأكرمت رجلاً» لتوهم أنه غير الأول وسيأتي تحقيق هذا عند قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً﴾ [الشرح: ٦] وقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «لَنْ يغْلِبَ عسرٌ يُسرين».
قال المهدوي هنا: ودخلت الألف واللام في «الرسول» لتقدم ذكره، ولذلك اختير في أول الكتب «سَلامٌ عَليْكُم»، وفي آخرها «السَّلام عليْكُم».
قوله: ﴿فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً﴾، أي: شديداً، وضرب وبيل، وعذاب وبيل، أي: شديد.
قاله ابن عباس ومجاهد، ومنه: «مطر وابل»، أي: شديد، قاله الأخفش.
وقال الزَّجاجُ: أي: ثقيلاً غليظاً، ومنه قيل للمطر وابل. وقيل: مهلكاً، قال: [الكامل]
٤٩٣٤ - أكَلْتِ بَنِيكِ أكْل الضَّبِّ حتَّى وجَدْتِ مرارة الكَلأ الوَبيلِ
واستوبل فلان كذا: أي: لم يحمد عاقبته، وماء وبيل، أي: وخيم غير مريء وكلأ مستوبل، وطعام وبيل ومستوبل إذا لم يُمرأ ولم يستمرأ؛ قال زهير: [الطويل]
٤٩٣٥ - فَقضَّوا مَنايَا بَينَهُمْ ثُمَّ أصْدَرُوا إلى كَلأٍ مُستوبَلٍ مُتوخمِ
وقالت الخنساء: [الوافر]
474
٤٩٣٦ - لَقَدْ أكَلتْ بجِيلةُ يَوْمَ لاقَتْ فَوارِسَ مالِكٍ أكْلاً وبِيلا
والوبيل أيضاً: العصا الضخمة؛ قال: [الطويل]
٤٩٣٧ - لَوْ أصْبَحَ فِي يُمْنَى يَديَّ رِقامُهَا وفِي كفِّيَ الأخْرَى وبِيلاً نُحَاذِرُهْ
وكذلك: «الوبل» بكسر الباء، و «الوبل» أيضاً: الحزمة من الحطب وكذلك «الوبيل».
قال طرفة: [الطويل]
٤٩٣٨ -................................. عَقِيلةُ شَيْخٍ كالوَبِيلِ يَلنْدَدِ

فصل في الاستدلال بالآية على «القياس»


قال ابن الخطيب: هذه الآية يمكن الاستدلال بها على إثبات القياس، لأن الكلام إنما ينتظم لو قسنا إحدى الصورتين على الأخرى.
فإن قيل هنا: هب أن القياس في هذه الصورة حجة، فلم قلتم: إنه في سائر الصور حجة، حينئذ يحتاج إلى سائر القياسات على هذا القياسِ، فيكون ذلك إثباتاً للقياس بالقياس؟.
قلنا: لا نثبت سائر القياسات بالقياس على هذه الصورة، وإلا لزم المحذور الذي ذكرتم بل وجه التمسك أن نقول: لولا أنه تمهد عندهم أن الشيئين اللذين يشتركان في مناط الحكم ظنّاً يجب اشتراكهما في الحكم، وإلا لما أورد هذا الكلام في هذه الصورة وذلك لأن احتمال الفرق المرجوح قائم هنا، فإنَّ لقائلٍ أن يقول: لعلهم إنما استوجبوا الأخذ الوبيل بخصوصية حال العصيان في تلك الصورة وتلك الخصوصية غير موجودة - هاهنا -، ثم إنه تعالى مع قيام هذا الاحتمال جزم بالتسوية في الحكم [فهذا الجزم لا بد وأن يقال إنه كان مسبوقاً بتقدير أنه متى وقع اشتراك في المناط الظاهر وجزم الاشتراك في الحكم]، وإن الفرق المرجوح من أن ذلك المرجوح لخصوص تلك الواقعةِ لا عبرة به لم يكن لهذا الكلام كثير فائدة، ولا معنى لقولنا القياس حجة إلا لهذا.

فصل في معنى شهادة الرسول عليهم


قال ابن الخطيب: ومعنى كون الرسول شاهداً عليهم من وجهين:
475
الأول: أنه شاهد عليهم يوم القيامة بكفرهم، وتكذيبهم.
الثاني: أن المراد بكونه شاهداً كونه مبيناً للحق في الدنيا ومبيناً لبطلان ما هم عليه من الفكر، لأن الشاهد بشهادته يبين الحق، ولذلك وصفت بأنها بينة، ولا يمتنع أن يوصف صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بذلك من حيث إنه يبين الحق.
قال ابن الخطيب: وهذا بعيد، لأن الله تعالى قال: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس﴾ [البقرة: ١٤٣] أي: عُدُولاً خياراً، ويكون الرسول عليكم شهيداً، فبين أنه شاهد عليهم في المستقبل لأن حمله الشهادة في الآخرة حقيقة، وحمله على البيان مجاز، والحقيقة أولى من المجاز.
قوله: ﴿فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الولدان شِيباً﴾.
«يوماً» إما منصوب ب «تَتَّقُونَ» على سبيل المفعول به تجوزاً.
وقال الزمخشري: «يوماً مفعول به، أي: فكيف تتقون أنفسكم يوم القيامة وهَوْلَهُ إن بقيتم على الكفر».
وناقشه أبو حيان فقال: «وتتقون مضارع» اتقى «و» اتقى «ليس بمعنى» وقى «حتى يفسره به و» اتقى «يتعدى إلى واحد و» وقى «يتعدى إلى اثنين، قال تعالى: ﴿وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ [الطور: ١٨] ولذلك قدره الزمخشريُّ: تقون أنفسكم لكنه ليس» تتقون «بمعنى» تقون «، فلا يعدى تعديته» انتهى.
ويجوز أن ينتصب على الظرف، أي: فكيف لكم بالتقوى يوم القيامة، إن كفرتم في الدنيا. قاله الزمخشري.
ويجوز أن ينتصب مفعولاً ب «كفرتم» إن جعل «كفَرْتُمْ» بمعنى «جَحدتُمْ» أي: فكيف تتقون الله وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة.
ولا يجوز أن ينتصب ظرفاً لأنهم لا يكفرون ذلك اليوم بل يؤمنون لا محالة.
ويجوز أن ينتصب على إسقاط الجار، أي: كفرتم بيوم القيامة.

فصل في المراد بالآية


قال القرطبيُّ: وهذا تقريع وتوبيخ، أي: كيف تتقون العذاب إن كفرتم، وفيه تقديم وتأخير، أي: كيف تتقون يوماً يجعل الولدان شيباً إن كفرتم، وكذا قراءة عبد الله وعطية.
476
قال الحسن: بأي صلاة تتقون العذاب؟ بأي صوم تتقون العذاب؟ وفيه إضمار، أي: كيف تتقون عذاب يوم القيامة.
وقال قتادة: والله ما يتقى من كفر ذلك اليوم بشيء، و «يَوْماً» مفعول ب «تتقون» على هذه القراءة وليس بظرف، وإن قدر الكفر بمعنى الجحود كان اليوم مفعول «كفرتم»، وقال بعض المفسرين: وقف التمام على قوله «كَفرْتُمْ» والابتداء «يَوْماً» يذهب إلى أن «اليوم» مفعول «يَجْعَلُ» والفعل لله - عَزَّ وَجَلَّ - كأنه قال: يجعل الله الولدان شيباً في يوم.
قال ابن الأنباري: وهذا لا يصح؛ لأن اليوم هو الذي يفعل هذا من شدة هوله.
وقال المهدوي: والضمير في «يَجْعلُ» يجوز أن يكون لله - عَزَّ وَجَلَّ - ويجوز أن يكون لليوم، وإذا كان لليوم، صلح أن تكون صفة له، ولا يصلح ذلك إذا كان الضمير لله - عَزَّ وَجَلَّ - إلا مع تقدير حذف، كأنه قيل: يوماً يجعل الله الولدان فيه شيباً «.
وقال ابن الأنباري: ومنهم من نصب»
اليوم «ب» كَفرْتُمْ «، وهذا قبيح؛ لأن اليوم إذا علق ب» كفرتم «احتاج إلى صفة، أي: كفرتم بيوم، فإن احتج محتج بأن الصفة قد تحذف، وينصب ما بعدها، احتججنا عليه بقراءة عبد الله: ﴿فَكيْفَ تتَّقُونَ يَوْماً﴾.
قال القرطبيُّ:»
هذه القراءة ليست بمتواترة، وإنما جاءت على وجه التفسير، وإذا كان الكفر بمعنى الجحود ف «يوم» مفعول صريح من غير صفة، ولا حذفها، أي: فكيف تتقون الله، وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة، والجزاء «.
والعامة: على تنوين»
يَوْماً «، وجعل الجملة بعده نعتاً له، والعائد محذوف، أي: جعل الولدان فيه. قاله أب البقاء، ولم يتعرض للفاعل في» يَجْعلُ «، وهو على هذا ضمير الباري تعالى، أي: يوماً يجعل الله فيه، وأحسن من هذا أن يجعل العائد مضمراً في» يَجْعَلُ «هو فاعله، وتكون نسبة الجعل إلى اليوم من باب المبالغة، أي: نفس اليوم يجعل الولدان شيباً.
وقرأ زيد بن علي: «يَوْمَ يَجْعَلُ»
بإضافة الظرف للجملة، والفاعل على هذا هو ضمير الباري - تعالى - والجعل - هنا - بمعنى التصيير، ف «شيباً» مفعول ثان.
477
وقرأ أبو السمال: «فكيف تتَّقُون» بكسر النون على الإضافة.
والولدان: الصبيان.
وقال السديُّ: هم أولاد الزنا.
وقيل: أولاد المشركين، والعموم أصح أي يوم يشيب فيه الصغير من غير كبر، وذلك حين يقال لآدم: يا آدَمُ قَمْ فابْعَثْ بعثاً للنارِ. قال القشيريُّ: هم أهل الجنة، يُغيِّرُ اللَّهُ أحوالهم، وأوصافهم على ما يريد.
وقيل: هذا ضرب مثل لشدة ذلك اليوم، وهو مجاز لأن يوم القيامة لا يكون فيه ولدان، لكن معناه: أن هيبة ذلك اليوم بحال لو كان فيه هناك صبي لشاب رأسه من الهيبة، ويقال: هذا وقت الفزع قبل أن ينفخ في الصور نفخة الصعقِ. والله أعلم.
و «شيباً» : جمع «أشْيَب»، وأصل الشين الضم فكسرت لتصح الياء، نحو: أحْمَر حُمْرٌ؛ قال الشاعر: [البسيط]
٤٩٣٩ - مِنَّا الذِي هُوَ مَا إنْ طَرَّ شَارِبُهُ والعَانِسُونَ ومنَّا المُرْدُ والشِّيبُ
وقال آخر: [الطويل]
٤٩٤٠ -.............................. لَعِبْنَ بِنَا شِيباً، وشَيَّبْنَنَا مُرْدَا
قال الزمخشريُّ: وفي بعض الكتب أن رجلاً أمسى فاحم الشعر كحنكِ الغراب، فأصبح وهو أبيض الرأس واللحية كالثغامة، فقال: رأيت القيامة والجنة والنار في المنام، ورأيت الناس يقادون في السلاسل إلى النار، فمن هول ذلك أصبحت كما ترون.
ويجوز أن يوصف اليوم بالطول فإن الأطفال يبلغون فيه أوان الشيخوخة والشيب.
قال ابن الخطيب: إن الله تعالى ذكر من هول ذلك اليوم أمرين:
الأول: جعل الولدان شيباً وفيه وجهان:
الأول: أنه مثلٌ في الشدة، يقال في اليوم الشديد: يوم يشيِّبُ نواصي الأطفال، والأصل فيه أن الهموم، والأحزان إذا تفاقمت على الإنسان، أسرع فيه الشيبُ لأن
478
كثرة الهموم؛ توجب انكسار الروح إلى داخل القلب، وذلك الانكسار يوجب انطفاء الحرارة الغريزية، وضعفها يوجب بقاء الأجزاء الغذائية غير تامة النضج، وذلك يوجب استيلاء البلغم على الأخلاط، وذلك يوجب ابيضاض الشعر، فلما رأوا أن حصول الشيب من لوازم كثرة الهموم جعلوا الشيب كناية عن الشدة والهموم، وليس المراد أن هول ذلك اليوم يجعل الولدان شيباً حقيقة لأن إيصال الألم أو الخوف إلى الأطفال غير جائز يوم القيامة.
الثاني: ما تقدم من طول اليوم وأن الأطفال يبلغون فيه أوان الشيخوخة، والشيب.
قوله: ﴿السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ﴾. صفة أخرى، أي: متشققة بسبب هوله وشدته، فتكون الباء سببية، وجوز الزمخشريُّ أن تكون للاستعانة، فإنه قال: والباء في «به» مثلها في قولك: «فطرت العود بالقدُومِ فانفَطرَ بِهِ».
وقال القرطبيُّ: ومعنى «به»، أي: فيه، أي: في ذلك اليوم لهوله، هذا أحسن ما قيل فيه، ويقال: مثقلة به إثقالاً يؤدي إلى انفطارها لعظمته عليها، وخشيته من وقوعها، كقوله تعالى: ﴿ثَقُلَتْ فِي السماوات والأرض﴾ [الأعراف: ١٨٧]، وقيل: «به» ؛ أي: له، أي: لذلك اليوم، يقال: فعلت كذا بحرمتك، أو لحرمتك، والباء واللام وفي متقاربه في مثل هذا الموضع، قال الله تعالى: ﴿وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة﴾ [الأنبياء: ٤٧]، أي: في يوم القيامة، وقيل: «به» أي بالأمر، أي: السماء منفطر بما يجعل الولدان شيباً.
وقيل: السَّماءُ منفطر بالله، أي: بأمره. وإنما لم تؤنث الصفة لوجوه منها:
قال أبو عمرو بن العلاء: لأنها بمعنى السقفِ تقول: هذا سماء البيت، قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا السمآء سَقْفاً مَّحْفُوظاً﴾ [الأنبياء: ٣٢].
ومنها: أنها على النسب، أي: ذات انفطار، نحو: امرأة مرضع وحائض، أي: ذات إرضاع، وذات حيض.
ومنها أنها تذكر، وتؤنث؛ أنشد الفراء: [الوافر]
٤٩٤١ - فَلوْ رَفَعَ السَماءُ إليْه قَوماً لخُضْنَا بالسَّماءِ وبالسَّحَابِ
ومنها: اسم الجنس، يفرق بينه وبين واحده بالتاء، فيقال: سماة، وقد تقدم أن اسم الجنس يذكر ويؤنث.
ولهذا قال أبو علي الفارسي: هو كقوله: ﴿جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ﴾ [القمر: ٧] و ﴿الشجر الأخضر﴾ [يس: ٨٠] و ﴿أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ﴾ [القمر: ٢٠] يعني: فجاء على أحد الجائزين.
479
وقيل: لأن تأنيثها ليس بحقيقي، وما كان كذلك جاز تذكيره وتأنيثه؛ قال الشاعر: [البسيط]
٤٩٤٢ -............................ والعَيْنُ بالإثْمِدِ الحَارِيِّ مَكحُولُ
قوله: ﴿كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً﴾، يجوز أن يكون الضميرُ لله تعالى، وإن لم يجر له ذكر للعلم به، فيكون المصدر مضافاً لفاعله، ويجوز أن يكون لليوم، فيكون مضافاً لمفعوله والفاعل وهو «اللَّهُ» مقدر.

فصل في المراد بالوعد


قال المفسرون: كان وعده بالقيامة والحساب والجزاء مفعولاً كائناً لا محالة ولا شك فيه ولا خلاف، وقال مقاتل: كان وعده بأن يظهره دينه على الدين كله.
قوله: ﴿إِنَّ هذه تَذْكِرَةٌ﴾، أي: هذه السورة والآيات عظة، وقيل: آيات القرآن إذ هو كالسورة الواحدة ﴿فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً﴾ ؛ لأن هذه الآيات مشتملة على أنواع الهداية، والإرشاد، فمن شاء أن يؤمن، ويتخذ بذلك إلى ربِّه سبيلاً، أي: طريقاً إلى رضاه، ورحمته فليرغب، فقد أمكن له؛ لأنه أظهر له الحجج، والدلائل.
قيل: نسخت بآية السيف، وكذلك قوله تعالى: ﴿فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ﴾.
قال الكلبيُّ: والأشبه أنه غير منسوخٍ.
قوله تعالى: ﴿إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرؤا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرءوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم﴾
480
قوله :﴿ فعصى فِرْعَوْنُ الرسول ﴾، إنما عرفه لتقدم ذكره، وهذه «أل » العهدية، والعرب إذا قدمت اسماً ثم حكت عنه ثانياً، أتوا به معرفاً ب «أل »، أو أتوا بضميره لئلا يلتبس بغيره نحو «رأيت رجلاً فأكرمتُ الرجل، أو فأكرمته »، ولو قلت :«فأكرمت رجلاً » لتوهم أنه غير الأول وسيأتي تحقيق هذا عند قوله تعالى :﴿ فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً ﴾[ الشرح : ٦ ] وقوله - عليه الصلاة والسلام - :«لَنْ يغْلِبَ عسرٌ يُسرين »١.
قال المهدوي هنا : ودخلت الألف واللام في «الرسول » لتقدم ذكره، ولذلك اختير في أول الكتب «سَلامٌ عَليْكُم »، وفي آخرها «السَّلام عليْكُم ».
قوله :﴿ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً ﴾، أي : شديداً، وضرب وبيل، وعذاب وبيل، أي : شديد.
قاله ابن عباس ومجاهد، ومنه :«مطر وابل »، أي : شديد٢، قاله الأخفش.
وقال الزَّجاجُ : أي : ثقيلاً غليظاً، ومنه قيل للمطر وابل. وقيل : مهلكاً، قال :[ الكامل ]
٤٩٣٤ - أكَلْتِ بَنِيكِ أكْل الضَّبِّ حتَّى*** وجَدْتِ مرارة الكَلأ الوَبيلِ٣
واستوبل فلان كذا : أي : لم يحمد عاقبته، وماء وبيل، أي : وخيم غير مريء وكلأ مستوبل، وطعام وبيل ومستوبل إذا لم يُمرأ ولم يستمرأ ؛ قال زهير :[ الطويل ]
٤٩٣٥ - فَقضَّوا مَنايَا بَينَهُمْ ثُمَّ أصْدَرُوا*** إلى كَلأٍ مُستوبَلٍ مُتوخمِ٤
وقالت الخنساء :[ الوافر ]
٤٩٣٦ - لَقَدْ أكَلتْ بجِيلةُ يَوْمَ لاقَتْ*** فَوارِسَ مالِكٍ أكْلاً وبِيلا٥
والوبيل أيضاً : العصا الضخمة ؛ قال :[ الطويل ]
٤٩٣٧ - لَوْ أصْبَحَ فِي يُمْنَى يَديَّ رِقامُهَا***وفِي كفِّيَ الأخْرَى وبِيلاً نُحَاذِرُهْ٦
وكذلك :«الوبل » بكسر الباء، و «الوبل » أيضاً : الحزمة من الحطب وكذلك «الوبيل ».
قال طرفة :[ الطويل ]
٤٩٣٨ -. . . *** عَقِيلةُ شَيْخٍ كالوَبِيلِ يَلنْدَدِ٧

فصل في الاستدلال بالآية على «القياس »


قال ابن الخطيب٨ : هذه الآية يمكن الاستدلال بها على إثبات القياس، لأن الكلام إنما ينتظم لو قسنا إحدى الصورتين على الأخرى.
فإن قيل هنا : هب أن القياس في هذه الصورة حجة، فلم قلتم : إنه في سائر الصور حجة، حينئذ يحتاج إلى سائر القياسات على هذا القياسِ، فيكون ذلك إثباتاً للقياس بالقياس ؟.
قلنا : لا نثبت سائر القياسات بالقياس على هذه الصورة، وإلا لزم المحذور الذي ذكرتم بل وجه التمسك أن نقول : لولا أنه تمهد عندهم أن الشيئين اللذين يشتركان في مناط الحكم ظنّاً يجب اشتراكهما في الحكم، وإلا لما أورد هذا الكلام في هذه الصورة وذلك لأن احتمال الفرق المرجوح قائم هنا، فإنَّ لقائلٍ أن يقول : لعلهم إنما استوجبوا الأخذ الوبيل بخصوصية حال العصيان في تلك الصورة وتلك الخصوصية غير موجودة - هاهنا -، ثم إنه تعالى مع قيام هذا الاحتمال جزم بالتسوية في الحكم [ فهذا الجزم لا بد وأن يقال إنه كان مسبوقاً بتقدير أنه متى وقع اشتراك في المناط الظاهر وجزم الاشتراك في الحكم ]، وإن الفرق المرجوح من أن ذلك المرجوح لخصوص تلك الواقعةِ لا عبرة به لم يكن لهذا الكلام كثير فائدة، ولا معنى لقولنا القياس حجة إلا لهذا.

فصل في معنى شهادة الرسول عليهم


قال ابن الخطيب٩ : ومعنى كون الرسول شاهداً عليهم من وجهين :
الأول : أنه شاهد عليهم يوم القيامة بكفرهم، وتكذيبهم.
الثاني : أن المراد بكونه شاهداً كونه مبيناً للحق في الدنيا ومبيناً لبطلان ما هم عليه من الفكر، لأن الشاهد بشهادته يبين الحق، ولذلك وصفت بأنها بينة، ولا يمتنع أن يوصف صلى الله عليه وسلم بذلك من حيث إنه يبين الحق.
قال ابن الخطيب١٠ : وهذا بعيد، لأن الله تعالى قال :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى الناس ﴾[ البقرة : ١٤٣ ] أي : عُدُولاً خياراً، ويكون الرسول عليكم شهيداً، فبين أنه شاهد عليهم في المستقبل لأن حمله الشهادة في الآخرة حقيقة، وحمله على البيان مجاز، والحقيقة أولى من المجاز.
١ سيأتي تخريجه في "سورة الشرح"..
٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٢٩٠) عن ابن عباس ومجاهد.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور"(٦/٤٤٦) عن ابن عباس وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم..

٣ قائله هو العملس بن عقيل. ينظر الحيوان ٤٩١٦، والمعاني الكبير ص ٦٤٢، والأغاني ١٢/٢٧١، وشرح شواهد المغني ٢/٧٨٣، ومغني اللبيب ٢/٣٦٦، والقرطبي ١٩/٣٣..
٤ ينظر: شرح ديوان زهير ص (٢٤)، واللسان (وخم) والقرطبي ١٩/٣٣..
٥ ينظر: القرطبي ١٩/٣٣..
٦ ينظر: اللسان (وبل) والقرطبي ١٩/٣٣..
٧ يروى يلندد مكان المبدد.
ينظر: ديوان طرفة ص ٣٨، واللسان (وبل) والقرطبي ١٩/٣٣..

٨ ينظر: الفخر الرازي ٣٠/١٦١..
٩ السابق..
١٠ السابق ٣٠/١٦٢..
قوله :﴿ فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الولدان شِيباً ﴾.
«يوماً » إما منصوب ب «تَتَّقُونَ » على سبيل المفعول به تجوزاً.
وقال الزمخشري :«يوماً مفعول به، أي : فكيف تتقون أنفسكم يوم القيامة وهَوْلَهُ إن بقيتم على الكفر ».
وناقشه أبو حيان فقال١ :«وتتقون مضارع " اتقى " و " اتقى " ليس بمعنى " وقى " حتى يفسره به و " اتقى " يتعدى إلى واحد و " وقى " يتعدى إلى اثنين، قال تعالى :﴿ وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ﴾[ الطور : ١٨ ] ولذلك قدره الزمخشريُّ : تقون أنفسكم لكنه ليس " تتقون " بمعنى " تقون "، فلا يعدى تعديته » انتهى.
ويجوز أن ينتصب على الظرف، أي : فكيف لكم بالتقوى يوم القيامة، إن كفرتم في الدنيا. قاله الزمخشري.
ويجوز أن ينتصب مفعولاً ب «كفرتم » إن جعل «كفَرْتُمْ » بمعنى «جَحدتُمْ » أي : فكيف تتقون الله وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة.
ولا يجوز أن ينتصب ظرفاً لأنهم لا يكفرون ذلك اليوم بل يؤمنون لا محالة.
ويجوز أن ينتصب على إسقاط الجار، أي : كفرتم بيوم القيامة.

فصل في المراد بالآية


قال القرطبيُّ٢ : وهذا تقريع وتوبيخ، أي : كيف تتقون العذاب إن كفرتم، وفيه تقديم وتأخير، أي : كيف تتقون يوماً يجعل الولدان شيباً إن كفرتم، وكذا قراءة٣ عبد الله وعطية.
قال الحسن : بأي صلاة تتقون العذاب ؟ بأي صوم تتقون العذاب ؟٤ وفيه إضمار، أي : كيف تتقون عذاب يوم القيامة.
وقال قتادة : والله ما يتقى من كفر ذلك اليوم بشيء٥، و «يَوْماً » مفعول ب «تتقون » على هذه القراءة وليس بظرف، وإن قدر الكفر بمعنى الجحود كان اليوم مفعول «كفرتم »، وقال بعض المفسرين : وقف التمام على قوله «كَفرْتُمْ » والابتداء «يَوْماً » يذهب إلى أن «اليوم » مفعول «يَجْعَلُ » والفعل لله - عز وجل - كأنه قال : يجعل الله الولدان شيباً في يوم.
قال ابن الأنباري : وهذا لا يصح ؛ لأن اليوم هو الذي يفعل هذا من شدة هوله.
وقال المهدوي : والضمير في «يَجْعلُ » يجوز أن يكون لله - عز وجل - ويجوز أن يكون لليوم، وإذا كان لليوم، صلح أن تكون صفة له، ولا يصلح ذلك إذا كان الضمير لله - عز وجل - إلا مع تقدير حذف، كأنه قيل : يوماً يجعل الله الولدان فيه شيباً.
وقال ابن الأنباري : ومنهم من نصب " اليوم " ب " كَفرْتُمْ "، وهذا قبيح ؛ لأن اليوم إذا علق ب " كفرتم " احتاج إلى صفة، أي : كفرتم بيوم، فإن احتج محتج بأن الصفة قد تحذف، وينصب ما بعدها، احتججنا عليه بقراءة عبد الله٦ :﴿ فَكيْفَ تتَّقُونَ يَوْماً ﴾.
قال القرطبيُّ٧ :" هذه القراءة ليست بمتواترة، وإنما جاءت على وجه التفسير، وإذا كان الكفر بمعنى الجحود ف «يوم » مفعول صريح من غير صفة، ولا حذفها، أي : فكيف تتقون الله، وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة، والجزاء ".
والعامة : على تنوين " يَوْماً "، وجعل الجملة بعده نعتاً له، والعائد محذوف، أي : جعل الولدان فيه. قاله أبو البقاء، ولم يتعرض للفاعل في " يَجْعلُ "، وهو على هذا ضمير الباري تعالى، أي : يوماً يجعل الله فيه، وأحسن من هذا أن يجعل العائد مضمراً في " يَجْعَلُ " هو فاعله، وتكون نسبة الجعل إلى اليوم من باب المبالغة، أي : نفس اليوم يجعل الولدان شيباً.
وقرأ زيد٨ بن علي :«يَوْمَ يَجْعَلُ » بإضافة الظرف للجملة، والفاعل على هذا هو ضمير الباري - تعالى - والجعل - هنا - بمعنى التصيير، ف «شيباً » مفعول ثان.
وقرأ أبو السمال٩ :«فكيف تتَّقُون » بكسر النون على الإضافة.
والولدان : الصبيان.
وقال السديُّ : هم أولاد الزنا١٠.
وقيل : أولاد المشركين، والعموم أصح أي يوم يشيب فيه الصغير من غير كبر، وذلك حين يقال لآدم : يا آدَمُ قَمْ فابْعَثْ بعثاً للنارِ. قال القشيريُّ : هم أهل الجنة، يُغيِّرُ اللَّهُ أحوالهم، وأوصافهم على ما يريد.
وقيل : هذا ضرب مثل لشدة ذلك اليوم، وهو مجاز لأن يوم القيامة لا يكون فيه ولدان، لكن معناه : أن هيبة ذلك اليوم بحال لو كان فيه هناك صبي لشاب رأسه من الهيبة، ويقال : هذا وقت الفزع قبل أن ينفخ في الصور نفخة الصعقِ. والله أعلم.
و «شيباً » : جمع «أشْيَب »، وأصل الشين الضم فكسرت لتصح الياء، نحو : أحْمَر حُمْرٌ ؛ قال الشاعر :[ البسيط ]
٤٩٣٩ - مِنَّا الذِي هُوَ مَا إنْ طَرَّ شَارِبُهُ***والعَانِسُونَ ومنَّا المُرْدُ والشِّيبُ١١
وقال آخر :[ الطويل ]
٤٩٤٠ -. . . *** لَعِبْنَ بِنَا شِيباً، وشَيَّبْنَنَا مُرْدَا١٢
قال الزمخشريُّ : وفي بعض الكتب أن رجلاً أمسى فاحم الشعر كحنكِ الغراب، فأصبح وهو أبيض الرأس واللحية كالثغامة، فقال : رأيت القيامة والجنة والنار في المنام، ورأيت الناس يقادون في السلاسل إلى النار، فمن هول ذلك أصبحت كما ترون.
ويجوز أن يوصف اليوم بالطول فإن الأطفال يبلغون فيه أوان الشيخوخة والشيب.
قال ابن الخطيب١٣ : إن الله تعالى ذكر من هول ذلك اليوم أمرين :
الأول : جعل الولدان شيباً وفيه وجهان :
الأول : أنه مثلٌ في الشدة، يقال في اليوم الشديد : يوم يشيِّبُ نواصي الأطفال، والأصل فيه أن الهموم، والأحزان إذا تفاقمت١٤ على الإنسان، أسرع فيه الشيبُ لأن كثرة الهموم ؛ توجب انكسار الروح إلى داخل القلب، وذلك الانكسار يوجب انطفاء الحرارة الغريزية، وضعفها يوجب بقاء الأجزاء الغذائية غير تامة النضج، وذلك يوجب استيلاء البلغم على الأخلاط، وذلك يوجب ابيضاض الشعر، فلما رأوا أن حصول الشيب من لوازم كثرة الهموم جعلوا الشيب كناية عن الشدة والهموم، وليس المراد أن هول ذلك اليوم يجعل الولدان شيباً حقيقة لأن إيصال الألم أو الخوف إلى الأطفال غير جائز يوم القيامة.
الثاني : ما تقدم من طول اليوم وأن الأطفال يبلغون فيه أوان الشيخوخة، والشيب.
١ البحر المحيط ٨/٣٦٥..
٢ ينظر: الجامع لأحكام القرآن ١٩/٣٣..
٣ ينظر: السابق..
٤ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٤٧) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر..
٥ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٢٩١) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٤٤٧) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وعبد بن حمبد وابن المنذر..
٦ ينظر: الجامع لأحكام القرآن ١٩/٣٤..
٧ ينظر: الجامع لأحكام القرآن ١٩/٣٤..
٨ ينظر: الدر المصون ٦/٤٠٨..
٩ ينظر: القرطبي ١٩/٣٤..
١٠ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/٣٤) عن السدي..
١١ نسب البيت لأبي قيس بن رفاعة، كما نسب إلى أبي قيس بن الأسلت.
ينظر إصلاح المنطق ص ٣٤١، والدرر ١/١٣١، وشرح شواهد المغني ص٧١٦، والمقاصد النحوية ١/١٦٧، وأمالي القالي ٢/٦٧، وسر صناعة الإعراب ص ٦٨٤، وشرح الأشموني ١/٣٥، والأزهية ٩٧، ومغني اللبيب ص ٣٠٤، وهمع الهوامع ١/٤٥، وابن الشجري ٢٣٨١..

١٢ تقدم..
١٣ ينظر: الفخر الرازي ٣٠/١٦٢..
١٤ في أ: تعاظمت..
قوله :﴿ السَّمَاءُ مُنفَطِرٌ بِهِ ﴾. صفة أخرى، أي : متشققة بسبب هوله وشدته، فتكون الباء سببية، وجوز الزمخشريُّ أن تكون للاستعانة، فإنه قال : والباء في «به » مثلها في قولك :«فطرت العود بالقدُومِ فانفَطرَ بِهِ ».
وقال القرطبيُّ١ : ومعنى «به »، أي : فيه، أي : في ذلك اليوم لهوله، هذا أحسن ما قيل فيه، ويقال : مثقلة به إثقالاً يؤدي إلى انفطارها لعظمته عليها، وخشيته من وقوعها، كقوله تعالى :﴿ ثَقُلَتْ فِي السماوات والأرض ﴾ [ الأعراف : ١٨٧ ]، وقيل :«به » ؛ أي : له، أي : لذلك اليوم، يقال : فعلت كذا بحرمتك، أو لحرمتك، والباء واللام وفي متقاربة في مثل هذا الموضع، قال الله تعالى :﴿ وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة ﴾[ الأنبياء : ٤٧ ]، أي : في يوم القيامة، وقيل :«به » أي بالأمر، أي : السماء منفطر بما يجعل الولدان شيباً.
وقيل : السَّماءُ منفطر بالله، أي : بأمره. وإنما لم تؤنث الصفة لوجوه منها :
قال أبو عمرو بن العلاء : لأنها بمعنى السقفِ تقول : هذا سماء البيت، قال تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا السماء سَقْفاً مَّحْفُوظاً ﴾[ الأنبياء : ٣٢ ].
ومنها : أنها على النسب، أي : ذات انفطار، نحو : امرأة مرضع وحائض، أي : ذات إرضاع، وذات حيض.
ومنها أنها تذكر، وتؤنث ؛ أنشد الفراء :[ الوافر ]
٤٩٤١ - فَلوْ رَفَعَ السَماءُ إليْه قَوماً*** لخُضْنَا بالسَّماءِ وبالسَّحَابِ٢
ومنها : اسم الجنس، يفرق بينه وبين واحده بالتاء، فيقال : سماة، وقد تقدم أن اسم الجنس يذكر ويؤنث.
ولهذا قال أبو علي الفارسي : هو كقوله :﴿ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ ﴾ [ القمر : ٧ ] و ﴿ الشجر الأخضر ﴾ [ يس : ٨٠ ] و ﴿ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ ﴾ [ القمر : ٢٠ ] يعني : فجاء على أحد الجائزين.
وقيل : لأن تأنيثها ليس بحقيقي، وما كان كذلك جاز تذكيره وتأنيثه ؛ قال الشاعر :[ البسيط ]
٤٩٤٢ -. . . *** والعَيْنُ بالإثْمِدِ الحَارِيِّ مَكحُولُ٣
قوله :﴿ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً ﴾، يجوز أن يكون الضميرُ لله تعالى، وإن لم يجر له ذكر للعلم به، فيكون المصدر مضافاً لفاعله، ويجوز أن يكون لليوم، فيكون مضافاً لمفعوله والفاعل وهو «اللَّهُ » مقدر.

فصل في المراد بالوعد


قال المفسرون : كان وعده بالقيامة والحساب والجزاء مفعولاً كائناً لا محالة ولا شك فيه ولا خلاف، وقال مقاتل : كان وعده بأن يظهره دينه على الدين كله٤.
١ الجامع لأحكام القرآن ١٩/٤٣..
٢ تقدم..
٣ عجز بيت للطفيل الغنوي وصدره:
إذ هي أحوى من الربعي حاجبه ***...
ينظر ديوانه ص ٥٥، والإنصاف ٧٧٥١٢، وشرح أبيات سيبويه ١/١٨٧، وشرح شواهد الإيضاح ص ٣٤٢، والكتاب ٤٦١٢، واللسان (صرخد)، وسر صناعة الإعراب ٢/٩٦٦، وشرح المفصل ١/١٨..

٤ ذكره الماوردي في "تفسيره" (٦/١٣١) وينظر المصدر السابق..
قوله :﴿ إِنَّ هذه تَذْكِرَةٌ ﴾، أي : هذه السورة والآيات عظة، وقيل : آيات القرآن إذ هو كالسورة الواحدة ﴿ فَمَن شَاءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً ﴾ ؛ لأن هذه الآيات مشتملة على أنواع الهداية، والإرشاد، فمن شاء أن يؤمن، ويتخذ بذلك إلى ربِّه سبيلاً، أي : طريقاً إلى رضاه، ورحمته فليرغب، فقد أمكن له ؛ لأنه أظهر له الحجج، والدلائل.
قيل : نسخت بآية السيف، وكذلك قوله تعالى :﴿ فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ ﴾.
قال الكلبيُّ : والأشبه أنه غير منسوخٍ.
قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَيِ الليل﴾.
العامة: على ضم «اللام» من «ثلثي» وهو الأصل، كالربع والسدس.
480
وقرأ هشام: بإسكانها تخفيفاً.
قوله: ﴿وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ﴾، قرأ الكوفيون وابن كثير: بنصبهما، والباقون، بجرهما.
وفي الجر إشكال يأتي إن شاء الله تعالى.
فالنصبُ: نسق على «أدْنَى» ؛ لأنه بمعنى وقت أدنى، أي: أقرب، استعير الدنو لقرب المسافة في الزمان، وهذا مطابق لما في أول السورة من التقسيم، وذلك أنه إذا قام أدنى من ثلثي الليل، فقد صدق عليه أنه قام الليل إلا قليلاً، لأن الزمان لم يقم فيه، فيكون الثلث، وشيئاً من الثلثين، فيصدق عليه قوله: «إلاَّ قَلِيلاً».
وأما قوله: «ونصفهُ» فهو مطابق لقوله: «ولا نِصْفهُ»، وأما قوله: «وثُلثهُ» فإنَّ قوله: ﴿أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً﴾ قد ينتهى النقص في القليل إلى أن يكون الوقت ثلثي الليل، وأما قوله: ﴿أَو زِدْ عَلَيْهِ﴾ فإنَّه إذا زاد على النصف قليلاً كان الوقت أقل من الثلثين. فيكون قد طابق أدنى من ثلثي الليل، ويكون قوله تعالى: ﴿نِّصْفَهُ أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً﴾ شرطاً لمبهم ما دل عليه قوله: ﴿قُمِ الليل إِلاَّ قَلِيلاً﴾، وعلى قراءة النصب: فسر الحسن «تحصُوهُ» بمعنى تطيقوه، وأما قراءة الجر: فمعناها أنه قيام مختلف مرة أدنى من الثلثين، ومرة أدنى من الثلث وذلك لتعذر معرفة البشر بمقدار الزمان مع عذر النوم، وقد أوضح هذا كله الزمخشري، فقال: وقرىء: «نصفه وثلثه» بالنصب، على أنك تقوم أقل من الثلثين، وتقوم النصف والثلث، وهو مطابق لما مر فيه أول السورة في التخيير بين قيام النصف بتمامه، وبين قيام الناقص وهو الثلث، وبين قيام الزائد عليه وهو الأدنى من الثلثين.
وقرىء بالجر أي تقوم أقل من الثلثين وأقل من النصف والثلث، وهو مطابق للتخيير بين النصف، وهو أدنى من الثلثين، والثلث، وهو أدنى من النصف، والربع وهو أدنى من الثلث، وهو الوجه الأخير، انتهى.
يعني بالوجه الأخير ما قدمه أول السورة من التأويلات. وقال أبو عبد الله الفارسي: وفي قراءة النصب إشكال إلا أن يقدر نصفه تارة، وثلثه تارة، وأقل من النصف، والثلث تارة، فيصح المعنى.

فصل في بيان أن هذه الآية تفسير للقيام في أول السورة


قال القرطبي: هذه الآية تفسير لقوله تعالى: ﴿إِلاَّ قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً﴾ أو زد عليه - كما تقدم - وهي الناسخة لفريضة قيام الليل كما تقدم، ومعنى قوله تعالى: «تَقُومُ» أي: تصلي، و «أدْنَى»، أي: أقل.
481
وقرأ ابن السميقع وأبو حيوة وهشام عن أهل الشام: «ثلثي» بإسكان اللام، و «نصفه وثلثه» بالخفض: قراءة العامة - كما تقدم -، عطفاً على «ثلثي» والمعنى: تقوم أدنى من ثلثي الليل، ومن نصفه، وثلثه، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم، لقوله تعالى: ﴿عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ﴾ فكيف تقيمون نصفه أو ثلثيه، وهو لا تحصونه؟! وأما قراءة النصف عطفاً على «أدنى»، والتقدير: تقوم أدنى من ثلثيه وتقوم نصفه وثلثه. قال الفراءُ: وهو أشبه بالصوابِ؛ لأنه قال: أقلّ من الثلثين، ثم ذكر نفس القلة لا أقل من القلة.
قال القشيريُّ: وعلى هذه القراءة يحتمل أنهم كانوا يصيبون الثلث والنصف لخفة القيام عليهم بذلك القدر، وكانوا يزيدون، وفي الزيادة إصابة المقصود، فأما الثلثان فكان يثقل عليهم قيامه فلا يصيبونه، وينقصون منه، ويحتمل أنهم أمروا بالقيام نصف الليل، ورخص لهم في الزيادة والنقصان، وكانوا ينتهون في الزيادة إلى قريب من الثلثين، وفي النصف إلى قريب من الثلث، ويحتمل أنَّهُم قدر لهم النصف وأنقص إلى الثلث، والزيادة إلى الثلثين، وكان فيهم من يفي بذلك، وفيهم من يترك ذلك إلى أن نسخ عنهم، وقيل: إنَّما فرض عليهم الربع، وكانوا ينقصون من الربع.
قال القرطبيُّ: «وهَذَا تَحكُّمٌ».
قوله: ﴿وَطَآئِفَةٌ مِّنَ الذين مَعَكَ﴾. رفع بالعطف على الضمير في «تقُومُ»، وجوز ذلك الفصل بالظرف، وما عطف عليه.
قوله: ﴿والله يُقَدِّرُ الليل﴾.
قال الزمخشريُّ: «تقديم اسم الله - عَزَّ وَجَلَّ - مبتدأ مبنياً عليه» يقدر «هو الدال على معنى الاختصاص بالتقدير».
ونازعه أبو حيَّان في ذلك، وقال: «لو قيل: زيدٌ يحفظ القرآن، لم يدل ذلك على اختصاصه».
وقيل: الاختصاص في الآية مفهوم من السياق، والمعنى: ليعلم مقادير الليل، والنهار على حقائقها، وأنتم تعلمون بالتحري، والاجتهاد الذي يقع فيه الخطأ.
قوله: ﴿عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ﴾، «أنْ لَنْ» و «أنْ سَيكُون» كلاهما مخففة من الثقيلة والفاصل للنفي، وحرف التنفيس.
والمعنى: علم أن لن تطيقُوا معرفة حقائق ذلك، والقيام به، أي: أن الله هو الذي يعلم مقادير الليل والنهار على حقيقته.
482
وقيل: المعنى: لن تطيقوا قيام الليل، والأصح الأول، لأن قيام الليل ما فرض كله قط.
قال مقاتل وغيره: لما نزل ﴿قُمِ الليل إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ﴾ [المزمل: ٢ - ٤] شق ذلك عليهم، وكان الرجل لا يدري متى نصف الليل، من ثلثه، فيقوم حتى يصبح مخافة أن يخطىء، وانتفخت أقدامهم، وانتقعت ألوانهم، فخفف الله عليهم، وقال: ﴿عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ﴾، أي: علم أنكم إن زدتم ثقل عليكم، واحتجتم إلى تكليف ما ليس فرضاً، وإن نقصتم شق معرفة ذلك عليكم.
قوله: ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ﴾، أي: فعاد عليكم بالعفو، وهذا يدل على أنه كان فيهم من ترك بعض ما أمر به.
وقيل: «فتَابَ علَيْكمْ» من فرض القيام أو عن عجزكم، وأصل التوبة الرجوع - كما تقدم - فالمعنى: رجع لكم من تثقيل إلى تخفيف، ومن عسر إلى إيسار، وإنما أمروا بحفظ الأوقات بالتحري، فخفف عنهم ذلك التحري.
وقيل: معنى قوله: ﴿والله يُقَدِّرُ الليل والنهار﴾، أي: يخلقهما مقدرين، كقوله تعالى: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً﴾ [الفرقان: ٢].
قال ابنُ العربي: تقدير الخلقة لا يتعلق به حكم وإنما يربط الله به ما يشاء من وظائف التكليف. قوله: ﴿فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن﴾.
قيل: المراد نفس القراءةِ، أي: فاقرأوا فيما تصلون به بالليل ما خف عليكم.
قال السديُّ: مائة آية.
وقال الحسنُ: من قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجه القرآن.
وقال كعبٌ: من قرأ في ليلةٍ مائة آيةٍ كتب من القانتين.
وقال سعيد بن جبير: خمسون آية.
قال القرطبي: قول كعب أصح، «لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -:» مَنْ قَامَ بِعشْرِ
483
آيَاتٍ لمْ يُكتَبْ مِنَ الغَافِلِينَ، ومَنْ قَامَ بِمائَةِ آيةٍ كُتِبَ مِنَ القَانِتيْنَ، ومَنْ قَامَ بألفِ آيةٍ كُتِبَ من المُقنطرينَ «خرجه أبو داود الطيالسي.
وروى أنس بن مالك قال:»
سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «مَنْ قَرَأ خَمْسينَ آيةً فِي يَومٍ أوْ فِي ليْلةٍ لَمْ يُكتَبْ مَنَ الغَافليْنَ، ومَنْ قَرَأ مِائةَ آيةٍ كُتِبَ مِنَ القَانِتينَ، ومَنْ قَرَأ مائَتَي آيةٍ لَمْ يُحَاجِّهِ القرآنُ إلى يَوْمِ القيامة، ومن قرأ خَمْسمائةِ آيةٍ كُتِبَ لَهُ قِنطارٌ مِنَ الأجْرِ».
فقوله: «مَنَ المقُنَطرِيْنَ»، أي: أعطي قنطاراً من الأجر.
وجاء في الحديث: «أن القنطار: ألف ومائتا أوقية، والأوقية خير مما بين السماء والأرض».
وقال أبو عبيدة: القناطيرُ، واحدها قنطار، ولا تجد العرب تعرف وزنه، ولا واحد للقنطار من لفظه.
وقال ثعلب: المعمول عليه عند العربِ أنه أربعة آلافِ دينارٍ، فإذا قالوا: قناطير مقنطرة فهي اثنا عشر ألف دينار.
وقيل: إن القنطار: ملء جلد ثور ذهباً.
وقيل: ثمانون ألفاً.
وقيل: هي جملة كثيرة مجهولة من المال، نقله ابن الأثير.
وقيل: المعنى: ﴿فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن﴾، أي: فصلوا ما تيسر عليكم، والصلاة تسمى قرآناً، قال تعالى: ﴿وَقُرْآنَ الفجر إِنَّ قُرْآنَ الفجر كَانَ مَشْهُوداً﴾ [الإسراء: ٧٨]، أي: صلاة الفجر.
قال ابن العربي: «والأول أصح، لأنه أخبر عن الصلاة وإليها يرجع القول».
قال القرطبيُّ: «الأول أصح حملاً للخطاب على ظاهر اللفظ، والقول الثاني مجاز لأنه من تسمية الشيءِ ببعض ما هو من أعماله».

فصل في بيان أن الآية ناسخة


قال بعض العلماءِ: قوله تعالى ﴿فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن﴾ نسخ قيام الليل ونصفه،
484
والنقصان من النصف، والزيادة عليه، ثم يحتمل قول الله - عَزَّ وَجَلَّ - ﴿فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ﴾ معنيين:
أحدهما: أن يكون فرضاً ثانياً لأنه أزيل به فرض غيره.
والآخر: أن يكون فرضاً منسوخاً أزيل بغيره كما أزيل به غيره، وذلك بقول الله - تعالى -: ﴿وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ﴾ [الإسراء: ٧٩]، فاحتمل قوله تعالى: ﴿وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ﴾ [الإسراء: ٧٩] أي: تتهجد بغير الذي فرض عليك مما تيسر منه.
قال الشافعيُّ: فكان الواجب طلب الاستدلال بالسنة على أحد المعنيين فوجدنا سنّة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تدل على أن لا واجب من الصلاة إلا الخمس.

فصل في أن النسخ هنا خاص بالأمة


قال القشيريُّ: والمشهورُ أنَّ نسخ قيامِ الليل كان في حق الأمةِ، وبقيت الفريضةُ في حق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقيل: إنما النسخ: التقدير بمقدار، وبقي أصل الوجوب كقوله تعالى: ﴿فَمَا استيسر مِنَ الهدي﴾ [البقرة: ١٩٦]، فالهدي لا بد منه، كذلك لا بد من الصلاة في الليل ولكن فوض تقديره إلى اختيار المصلي، وعلىهذا فقال قوم: فرض قيام الليل بالقليل باق، وهو مذهب الحسنِ.
قال الشافعيُّ: بل نسخ بالكلية، فلا تجب صلاة الليل أصلاً، ولعل الفريضة التي بقيت في حق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هي هذه، وهو قيامه، ومقداره مفوض إلى خيرته، وإذا ثبت أن القيام ليس فرضاً، فقوله تعالى: ﴿فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ﴾، معناه: اقرأوا إن تيسر عليكم ذلك وصلوا إن شئتم.
وقال قوم: إنَّ النسخ بالكلية تقرر في حق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أيضاً، فما كانت صلاة الليل واجبة عليه، وقوله: ﴿نَافِلَةً لَكَ﴾ محمول على حقيقة النفل، ومن قال: نسخ المقدار وبقي أصل وجوب قيام الليل لم ينسخ، فهذا النسخ الثاني وقع ببيان مواقيت الصلاة كقوله تعالى: ﴿أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس إلى غَسَقِ الليل﴾ [الإسراء: ٧٨] الآية، وقوله تعالى: ﴿فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ﴾ [الروم: ١٧] الآية، ما في الخبر من أن الزيادة على الصلوات الخمس تطوع.
وقيل: وقع النسخ بقوله تعالى: ﴿وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ﴾، والخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وللأمة كما أن فرضية الصلاة، وإن خوطب بها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في قوله: ﴿يا أيها المزمل قُمِ الليل﴾ [المزمل: ١ - ٢] فهي عامة له ولغيره.
وقد قيل: إن فريضة قيام الليل امتدت إلى ما بعد الهجرةِ، ونسخت بالمدينة لقوله
485
تعالى: ﴿عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مرضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرض يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ الله وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله﴾، وإنما فرض القتال بالمدينة، فعلى هذا بيان المواقيت جرى بمكة، فقيام الليل نسخ بقوله: ﴿وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ﴾ [الإسراء: ٧٩].
وقال ابن عباس: لما قدم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المدينة نسخ قول الله - عَزَّ وَجَلَّ -: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ﴾، وجوب قيام الليل

فصل في علة تخفيف قيام الليل


قوله: ﴿عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مرضى﴾ بيَّن سبحانه علة تخفيف قيام الليل، فإن الخلق منهم المريض، ويشق عليه قيام الليل، ويشق عليه أن تفوته الصلاة، والمسافر في التجارات قد لا يطيق قيام الليل، والمجاهد كذلك، فخفَّف الله عن الكل لأجل هؤلاء.
وقال ابن الخطيب: لمَّا علم الله تعالى أعذار هؤلاء، يعني المريض، والمسافر، والمجاهد، فلو لم يناموا بالليل لتوالت عليهم أسباب المشقة، وهذا السبب ما كان موجوداً في حق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما قال تعالى: ﴿إِنَّ لَكَ فِي النهار سَبْحَاً طَوِيلاً﴾ [المزمل: ٧] فلا جرم لم ينسخ وجوب التهجد في حقه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
و «أن» في قوله: «أنْ سيَكونُ» مخففة من الثقيلة، أي: علم أنه سيكون.
قوله: «وآخَرُونَ» عطف على «مَرْضَى»، أي: علم أن سيوجد منكم قوم مرضى، وقوم آخرون مسافرون، ف «يَضْربُونَ» نعت ل «آخَرُونَ» وكذلك «يَبْتَغُونَ»، ويجوز أن يكون «يبتغون» حالاً من فاعل «يَضْرِبُونَ»، و «آخَرُونَ» عطف على «آخَرُونَ» و «يُقَاتلُونَ» صفته.

فصل في بيان أن الكسب الحلال كالجهاد


سوى الله تعالى في هذه الآية بين درجة المجاهدين، والملتمسين للمال الحلال للنفقة على نفسه، وعياله، والإحسان، فكان هذا دليلاً على أن كسب المال بمنزلة الجهاد؛ لأنّ جمعه من الجهاد في سبيل الله.
قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «» مَا مِنْ جَالبٍ يَجلبُ طَعاماً مِنْ بَلدٍ إلى بَلدٍ، فيَبيعُهُ بِسْعرٍ يَومِهِ إلاَّ كانتْ مَنزِلتُهُ عنْدَ اللَّهِ تعالى مَنْزلةَ الشُّهداءِ «ثُمَّ قَرَأ رسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ﴿وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرض يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ الله وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله﴾ ».
486
وقال ابن مسعود: أيما رجل جلب شيئاً إلى مدينة من مدائن المسلمين صابراً محتسباً، فباعه بسعر يومه كان له عند الله منزلة الشهداء، وقرأ: ﴿وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرض يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ الله وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله﴾.
وقال ابن عمر: ما خلق الله موتة أموتها بعد الموت في سبيل الله أحب إليَّ من الموت بين شعبتي رحْلي، أبتغي من فضل الله، ضارباً في الأرض.
وقال طاووس: الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله.
قوله: ﴿فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ﴾، أي: صلُّوا ما أمكن فأوجب الله تعالى من صلاة الليل، ما تيسَّر، ثم نسخ ذلك بإيجاب الصلوات الخمس على ما تقدم.
وقال عبد الله بن عمرو: «قال لي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» يَا عَبْدَ اللَّه، لا تكُنْ مِثْلَ فُلانِ كَانَ يقُومُ اللَّيْلَ، فتركَ قِيامَ اللَّيْلِ «
، ولو كان فرضاً ما أقره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولا أخبر بمثل هذا الخبر عنه، بل كان يذمه غاية الذم.

فصل في القدر الذي يقرأ به في صلاته


إذا ثبت أنَّ قيام الليل ليس بفرض، وأن قوله ﴿فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن﴾، ﴿فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ﴾ محمول على ظاهره من القراءة في الصلاة، فاختلف العلماء في قدر ما يلزمه أن يقرأ به في الصلاة.
فقال مالك والشافعيُّ: فاتحة الكتاب لا يجوز العدول عنها ولا الاقتصار على بعضها، وقدره أبو حنيفة بآية واحدة من أي القرآن كانت، وعنه ثلاث آياتٍ لأنها أقل سورة، وقيل المراد به قراءة القرآن في غير الصلاة.
قال الماورديُّ: فعلى هذا القول يكون مطلق الأمر محمولاً على الوجوب ليقف بقراءته على إعجازه وما فيه من دلائل التوحيد، وبعث الرسل، ولا يلزمه إذا قرأه وعرف إعجازه، ودلائل التوحيد أن يحفظه؛ لأن حفظ القرآن من القرب المستحبة دون الواجبة والأكثرون على أنه للاستحباب، لأنه لو وجب علينا قراءته لوجب حفظه. وفي قدر الواجب أقوال:
الأول: قال الضحاكُ: جميع القرآن، لأن الله تعالى يسره على عباده.
الثاني: قال جويبر: ثلث القرآن.
487
الثالث: قال السديُّ: مائتا آية.
الرابع: قال ابن عباسٍ: مائة آية.
الخامس: قال أبو خالد الكناني: ثلاث آياتٍ كأقصر سورة.
قوله ﴿وَأَقِيمُواْ الصلاة﴾، يعني الخمس المفروضة، وهي الخمس لوقتها، ﴿وَآتُواْ الزكاة﴾ الواجبة في أموالكم.
قاله عكرمة وقتادة، وقال الحارث العكلي: صدقة الفطر، لأن زكاة الأموال وجبت بعد ذلك، وقيل: صدقة التطوع.
وقيل: كل فعل خير.
وقال ابن عباسٍ: طاعة الله الإخلاص.
قوله: ﴿وَأَقْرِضُواُ الله قَرْضاً حَسَناً﴾. القرض الحسن ما أريد به وجه الله تعالى خالصاً من المال الطيب وقال زيد بن أسلم: القرض الحسن، النفقة على الأهل، وقيل: صلةُ الرَّحمِ، وقرى الضيف، وقال عمر بن الخطاب: هو النفقة في سبيل الله.
قوله: ﴿وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ الله﴾ تقدم بيانه في سورة «البقرة».
قوله: ﴿هُوَ خَيْراً﴾، العامة على نصب الخير مفعولاً ثانياً، و «هُوَ» إما تأكيد للمفعول الأول، أو فصل.
وجوَّز أبو البقاء: أن يكون بدلاً، وهو غلط، لأنه كان يلزم أن يطابق ما قبله في الإعراب فيقال: إياه.
وقرأ أبو السمال وابن السميقع: «خير» على أن يكون «هو» مبتدأ، و «خير» خبره، والجملة مفعول ثان ل «تَجِدُوه».
قال أبو زيد: هي لغة تميم، يرفعون ما بعد الفصل.
وأنشد سيبويه: [الطويل]
٤٩٤٣ - تَحِنُّ إلى لَيْلَى وأنْتَ تَرَكْتَها وكُنْتَ عَليْهَا بالمَلا أنْتَ أقْدَرُ
والقَوَافِي مرفوعةٌ، ويروى: «أقدرا» بالنصب.
488
[وقال الزمخشريُّ: وهو فصل]، وجاز، وإن لم يقع بين معرفتين، لأن «أفعل من» أشبه في امتناعه من حرف التعريف، المعرفة.
قال شهاب الدين: «هذا هو المشهورُ، وبعضهم يجوزه في غير أفعل من النكرات».
وقال القرطبي: «ونصب» خيراً، وأعظم «على المفعول الثاني: ل» تَجِدُوهُ «و» هُوَ «فصل عند البصريين، وعماد عند الكوفيين، لا محلَّ له من الإعراب، و» أجْراً «تمييز».

فصل في معنى الآية


المعنى: ﴿وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ الله هُوَ خَيْراً﴾ من الذي تؤخرونه إلى الوصية عند الموت. قاله ابن عباس.
وقال الزجاجُ: ﴿خير لكم من متاع الدنيا﴾.
قوله: ﴿وَأَعْظَمَ أَجْراً﴾، قال أبو هريرة: يعني الجنَّة، ويحتمل أن يكون «أعظم أجْراً» لإعطائه بالحسنة عشراً ﴿واستغفروا الله﴾ أي سلوه المغفرة لذنوبكم ﴿إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ لما كان عل التوبة رحيم لكم بعدها، قاله سعيد بن جبير وقيل: غفور لمن لم يصرّ على الذنوب.
وقال مقاتل: غفور لجميع الذنوب لأن قوله «غَفُورٌ» يتناول التائب والمصر، بدليل أنه يصح استثناء كل واحد منهما وحده، والاستثناء حكمه إخراج ما لولاه لدخل.
وأيضاً: غفران التائب واجب عند الخصم فلا يحصل المدح بأداء الواجبِ، والغرض من الآية تقرير المدح فوجب حمله على الكل تحقيقاً للمدح.
روى الثعلبي عن أبيِّ بن كعب قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ سُوْرَةَ يا أيُّهَا المُزَّمِّل رُفِعَ عنهُ العُسْرُ في الدُّنيَا والآخِرَةِ»، والله أعلم.
489
سورة المدثر
490
Icon