تفسير سورة سورة البلد من كتاب التفسير المظهري
.
لمؤلفه
المظهري
.
المتوفي سنة 1216 هـ
سورة البلد
مكية وهي عشرون آية
ﰡ
بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ أقسم بهذا البلد ﴾ يعني مكة.
﴿ وأنت حلّ بهذا البلد ٢ ﴾ الجملة حال من المقسم به أقسم الله سبحانه بمكة مقيدا بحلوله صلى الله عليه وسلم إظهارا لمزيد فضائلها بشرف المتمكن على فضل لها في نفسها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكة :( ما أطيبك من بلد وأحبك من بلد وأحبك إلى الله ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك ) رواه الترمذي عن ابن عباس، وقال : حديث حسن صحيح غريب إسنادا وكذا روى الترمذي وابن ماجه عن عبد الله بن عدي بلفظه ( والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت ) وقيل : معنى مستحل إخراجك فيه كما يستحل تعرض الصيد في غيرها والجملة معترضة لذم الكفار بهذا البلد فيستحلون إخراجك وقتلك فإن الله سبحانه أقسم بمكة إظهار التحريم ما وشرفها ثم قال وأنت مستحل في زعم الكفار بهذا البلد فيستحلون إخراجك وقتلك مع أنهم يحرمون قتل الصيد فيها، وقيل : معناه وأنت حلال إن تصنع فيه ما تريد من قتل وأسر ليس عليك ما على الناس فيه من الإثم فهو وعد بما أحل الله له مكة يوم الفتح حتى قاتل فيه وأمر بقتل عبد الله بن حنظل وهو متعلق بأستار الكعبة ومقيس بن خبابة وغيرهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة :( إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق الله السماوات والأرض فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة وإنه لن يحل القتال فيه لأحد قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها ولا يختلا خلاها ) الحديث متفق عليه.
﴿ ووالد ﴾ عطف على بلد والمراد آدم وإبراهيم عليه السلام أو أي والد كان ﴿ وما ولد ﴾ ذرية آدم عليه السلام أو الأنبياء من أولاد إبراهيم عليه السلام، أو محمد صلى الله عليه وسلم والتنكير للتعظيم وإيثار ما على من لمعنى التعجب كما في قوله :﴿ والله أعلم بما وضعت ﴾ وجواب القسم ﴿ لقد خلقنا الإنسان ﴾.
﴿ لقد خلقنا الإنسان ﴾ اللام للجنس أو للعهد على ما قيل أنها نزلت في أبي الأشد اسمه أسيد بن كلدة بن حجر، وكان شديدا قويا يصنع الأديم العكاظي تحت قدميه فيقول : من أزالني عنه فله كذا وكذا فلا يطاق أن ينزع من تحت قدميه إلا قطعا ويبقى موضع قدميه ﴿ في كبد ﴾ على تقدير كون المراد من الإنسان الجنس فالمراد من كبد النصب والمشقة كذا روى عن ابن عباس وقتادة قال عطاء عن ابن عباس في شدة حمله وولايته ورضاعته وفطامه ومعاشه وحياته وموته، وقال عمرو بن دينار منه نبات أسنانه قلت : وما ذكر من المكابد يشارك فيها الإنسان وغيره من الحيوانات فتخصيصه بالذكر لأجل عقله وشعوره فإن مشقة تحمل المكائد مع كمال الشعور أشد منها ما كان وعندي أن المراد بالمكائد حمل ميثاق الأمانة التي أبى عن تحملها السماوات والأرض والجبال وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا فإن أدى ما وجب فاز ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وإن تردى في مكائد الآخرة ليعذب الله المنافقين والمنافقات والكافرين والكافرات فعلى هذا النظير الآية في المعنى قوله تعالى :﴿ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ٥٦ ﴾ وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم على تحمل المكائد من قومه فيما وجد عليه من التبليغ وقال مقاتل بناء على نزول الآية في أبي الأشد أن معنى في كبد في قوة وشدة.
﴿ أيحسب ﴾ الضمير راجع إلى الإنسان والاستفهام للإنكار والتوبيخ فإن كان المراد بإنسان المعهود يعني أبي الأشد فظاهر أن الله سبحانه أنكر على اغتراره وبقوله وإن كان المراد به الجنس فالضمير راجع إليه باعتبار بعض أفراده وهو الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم في كبد منه أكثر من غيره وهو أبو الأشد، وقيل : الوليد بن المغيرة ﴿ أن لن يقدر ﴾ أن مخففة من المثقلة اسمها ضمير الشأن محذوف والجملة قائمة مقام المفعولين ليحسب ﴿ عليه أحد ﴾ نكرة موضع النفي للعموم كان أبو الأشد يزعم أن لا يقدر عليه ملائكة العذاب أو المراد به الأحد الصمد يعني أيحسب أبو الأشد أنه لا يقدر عليه الله تعالى خلقه بهذه القوة فلا ينتقم منه.
﴿ يقول ﴾ ذلك الإنسان حال من فاعل يحسب ومقولة القول ﴿ أهلكت مالا لُّبدا ﴾ أي كثر جمع لبدة وهي ما تلبد وكثر واجتمع لعله كان يذكر كثرة إنفاقه مفاخرة ورياء أو بعدما أنفق في معاداة النبي صلى الله عليه وسلم حتى يعترف بفضله كفار قريش أعدائه صلى الله عليه وسلم.
﴿ أيحسب أن لّم يره أحد ٧ ﴾ بل الله سبحانه يراه حين أنفق رياء وفي معاداة النبي صلى الله عليه وسلم فيسأل من أين اكتسبه وأين أنفقه رياء رياء في معاداة النبي صلى الله عليه وسلم فيسأل من أين اكتسبه وأين أنفقه فيجازيه وينتقم منه، كذا قال سعيد بن جبير وقتادة وقال الكلبي إنه كان كاذبا في افتخاره، وقوله أنفقت كذا وكذا لم يكن أنفق جميع ما قال وهذه الجملة بعد قوله أيحسب أن لن يقدر عليه أحد تأكيد التوبيخ والإنكار بمنزل النكير ثم عد الله سبحانه نعمه ليقره وليكون دليلا وتقريرا على كون الله سبحانه مقتدرا على انتقامه فقال ﴿ ألم نجعل له عينين ٨ ﴾.
﴿ ألم نجعل له عينين ٨ ﴾ يبصر بهما.
﴿ ولسانا ﴾ يتكلم به ﴿ وشفتين ﴾ ليستر بهما فاه ويستعين بهما على النطق والأكل والشرب النفخ، قال البغوي جاء في الحديث أن الله عز وجل يقول : ابن آدم إن نازعك لسانك فيما حرمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق وإن نازعك بصرك على ما حرمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق وإن نازعك فرجك على ما حرمت عليك فقد أعنتك بطبقتين فأطبق.
﴿ وهديناه النجدين ١٠ ﴾ يعني الثديين كذا روى محمد بن كعب عن ابن عباس وهو قول سعيد بن المسيب والضحاك، وقال أكثر المفسرين طريقي الخير والشر والحق والباطل والهدى والضلال يعني أظهرنا له الخير من الشر بإيجاد العقل فيه وإرسال الرسل فمن ضل واختار طريق الشر بعد ذلك فلا عذر له.
﴿ فلا اقتحم العقبة ١١ ﴾ قيل لا ها هنا ليس على معناها فإنها لا تدخل على الماضي إلا مكررا فهي بمعنى هلا والمعنى فهلا اقتحم العقبة بإنفاق ماله فيما يجوز به العقبة من الطاعات فيكون خيرا له من إنفاقه في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم والجملة معطوف يقال أهلكت مالا لبدأ، وقيل : ها هنا تكرار تقدير التعدد معنى العقبة فكان تقديره فلا فك رقبة ولا أطعم مسكينا ولا كان من الذين آمنوا فلا ها هنا بمعناها، والجملة معطوف على جواب القسم يعني لقد خلقنا الإنسان في كبد التكليفات فلا اقتحم ما كلف به وكان عليه الاقتحام وإتيان ما خلق لأجله أو معطوفة على مضمون ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين فلا اقتحم العقبة بإتيان الطاعات حتى يكون شكر النعم وصرفا للنعمة فيما ينبغي. والعقبة في الأصل الطريق في الجبل استعير ها هنا المشاق التكاليف واقتحامها الدخول فيها وهذا معنى قول قتادة، وقيل : اقتحامها التجاوز عنها والخروج من عهدة ما وجب عليه فإنه شبه ثقل الذنوب على مرتكبها واشتغال الذمة بالواجبات بالغفلة فإذا أعتق رقبة أو أطعم مسكينا بزكاة ماله كان كمن اقتحمها وجاوز عنها وروي عن ابن عمر أن هذه العقبة جبل في جهنم، وقال الحسن وقتادة عقبة شديدة في النار دون الجسر فاقتحموها بطاعة الله وقال مجاهد بطاعة الله وقال المجاهد والضحاك والكلبي هي الصراط على جهنم كحد السيف مسيرة ثلاثة آلاف سنة سهلا وصعودا وهبوطا وإن لجنبيه كلاليب وخطاطيف كأنها شوك السعدان فناج مسلم وناج مخدوش ومكدوس في النار منكوس فمنهم من يمر كالبرق ومنهم من يمر كالريح العاصف ومنهم من يمر كالفارس ومنهم من يمر كالراجل ومنهم من يزحف ومنهم كالزالون ومنهم من يكردس في النار فقال : ابن زيد يقول فهلا يسلك الطريق التي فيه النجاة ثم بين ما هي فقال ما أدراك ﴿ وما أدراك ما العقبة ١٢ ﴾.
قال المجاهد والضحاك والكلبي هي الصراط على جهنم كحد السيف مسيرة ثلاثة آلاف سنة سهلا وصعودا وهبوطا وإن لجنبيه كلاليب وخطاطيف كأنها شوك السعدان فناج مسلم وناج مخدوش ومكدوس في النار منكوس فمنهم من يمر كالبرق ومنهم من يمر كالريح العاصف ومنهم من يمر كالفارس ومنهم من يمر كالراجل ومنهم من يزحف ومنهم كالزالون ومنهم من يكردس في النار فقال : ابن زيد يقول فهلا يسلك الطريق التي فيه النجاة ثم بين ما هي فقال ما أدراك ﴿ وما أدراك ما العقبة ١٢ ﴾ فإنك لم تدر صعوبتها على النفس وكثرة ثوابها، وقال سفيان ابن عيينة كل شيء قال وما أدراك فإنه أخبر به ما قال وما يدريك فإنه لم يخبر به انتهى، فإن كان المراد بالعقبة الطاعات فلا حاجة إلى التقدير وإن كان المراد به ثقل الذنوب فالتقدير ما أدراك ما اقتحام العقبة والخروج عنها.
﴿ فكُّ رقبة ١٣ أو إطعام ﴾ قرأ ابن كثير وأبو عمر والكسائي فك بفتح الكاف على الماضي ورقبة بالنصب على المفعولية وأطعم بفتح الهمزة على الماضي بناء على أن بدل من اقتحم أو بيان له وما أدراك ما العقبة اعتراض والباقون بضم الكاف ورقبة بالجر على الإضافة وإطعام بالتنوين على المصدر بناء على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هي فك رقبة والمراد بفك الرقبة أعم من الإعتاق ومن أن يعين في ثمنها يريد عتقها أو يعين المكاتب أو معتق البعض في فك رقبتها. عن البراء بن عازب قال : جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : علمني عملا يدخلني الجنة ؟ قال :( لئن كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة أعتق النسمة وفك الرقبة، قال أوليسا واحدا قال :( لا عتق النسمة أن تفرد بعتقها وفك الرقبة أن تعين في ثمنها والمنحة الوكوف والفيء على ذي الرحم الظالم فإن لم تطق ذلك فأطعم الجائع واسق الظمآن وأمر بالمعروف وإنه عن المنكر فإن لم تطق ذلك فكف لسانك إلا من خير ) رواه البيهقي في شعب الإيمان، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( من أعتق رقبة مسلم أعتق الله بدل عضو منه عضوا من النار حتى فرجه بفرجه ) متفق عليه، وقال عكرمة قوله فك رقبة يعني من الذنوب بالتوبة.
﴿ فكُّ رقبة ١٣ أو إطعام ﴾ قرأ ابن كثير وأبو عمر والكسائي فك بفتح الكاف على الماضي ورقبة بالنصب على المفعولية وأطعم بفتح الهمزة على الماضي بناء على أن بدل من اقتحم أو بيان له وما أدراك ما العقبة اعتراض والباقون بضم الكاف ورقبة بالجر على الإضافة وإطعام بالتنوين على المصدر بناء على أنه خبر مبتدأ محذوف. ﴿ في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة ١٥ أو مسكينا ذا متربة ١٦ ﴾ المسغبة والمتربة والمقربة مفعلات من مسغب إذا جاع وقرب في النسب والتراب إذا أفقر أي التصق بالتراب بشدة الحاجة ووصف اليوم المسغبة مجازي والظرف متعلق بإطعام وانتصب على المفعولية يتيما ومسكينا.
﴿ في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة ١٥ أو مسكينا ذا متربة ١٦ ﴾ المسغبة والمتربة والمقربة مفعلات من مسغب إذا جاع وقرب في النسب والتراب إذا أفقر أي التصق بالتراب بشدة الحاجة ووصف اليوم المسغبة مجازي والظرف متعلق بإطعام وانتصب على المفعولية يتيما ومسكينا.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٥:﴿ في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة ١٥ أو مسكينا ذا متربة ١٦ ﴾ المسغبة والمتربة والمقربة مفعلات من مسغب إذا جاع وقرب في النسب والتراب إذا أفقر أي التصق بالتراب بشدة الحاجة ووصف اليوم المسغبة مجازي والظرف متعلق بإطعام وانتصب على المفعولية يتيما ومسكينا.
﴿ ثم كان من الذين آمنوا ﴾ عطف على اقتحم أو فك وعطفيه بثم لتباعد الإيمان عن العتق والإطعام بالرتبة واستقلاله واشتراط الطاعات به ﴿ وتواصوا بالصبر ﴾ عن المعاصي وعلى الطاعة والمصائب ﴿ وتواصوا بالمرحمة ﴾ عباد الله أو بموجبات رحمه الله.
﴿ أولئك ﴾ إشارة الموصوفين بتلك الأوصاف ﴿ أصحاب الميمنة ﴾ أي أصحاب اليمين والبركة في أنفسهم والجملة مستأنفة كأنه في جواب ما شأن من اقتحم.
﴿ والذين كفروا بآياتنا ﴾ الذي نصبنا دلائل على الحق من كتاب وحجة بالقرآن ﴿ هم أصحاب المشئمة ﴾ أي أصحاب الشمال أو الشؤم والتكرير ذكر المؤمنين بالإشارة والكفار بالضمير الشأن لا يخفى.
﴿ عليهم نار مؤصدة ٢٠ ﴾ مطبقة من أوصدت الباب إذا طبق أو أغلق، قرأ حفص وأبو عمرو حمزة وهناد في سورة الهمزة وهمزة إذا وقف أبدلها واوا والباقون بغير وحمزة وهما لغتان، والله تعالى أعلم.