ﰡ
ومثله ما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" بَشِّرْ أُمَّتِي بالسَّنَاءِ والتَّمْكِينِ في الأَرْضِ فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمَلاً للدُّنْيَا لم يَكُنْ لَه في الآخِرَةِ نَصِيبٌ ". وهذا يدل على أن ما سبيله أن لا يفعل إلا على وجه القربة لا يجوز أخذ الأجرة عليه ؛ لأن الأجرة من حظوظ الدنيا، فمتى أخذ عليه الأجرة فقد خرج من أن يكون قربة بمقتضى الكتاب والسنة.
وقيل في قوله :﴿ نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ ﴾ فيها وجهان، أحدهما : أن يصل الكافر رَحِماً أو يعطي سائلاً أو يرحم مضطراً أو نحو ذلك من أعمال البر فيجعل الله له جزاء عمله في الدنيا بتوسعة الرزق وقرة العين فيما خوّل ودفع مكاره الدنيا، رُوي ذلك عن مجاهد والضحاك. والوجه الثاني : من كان يريد الحياة الدنيا بالغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم للغنيمة دون ثواب الآخرة فإنه يستحق نصيبه وسهمه من المغنم، وهذا من صفة المنافقين. فإن كان التأويل هو الثاني فإنه يدل على أن الكافر إذا شهد القتال مع المسلمين استحق من الغنيمة نصيباً. وهذا يدل أيضاً على أنه جائز الاستعانة بالكفار في قتال غيرهم من الكفار، وكذلك قال أصحابنا إذا كانوا متى غلبوا كان حكم الإسلام هو الجاري عليهم دون حكم الكفر ومتى حضروا رضخ لهم ؛ وليس في الآية دلالة على أن الذي يستحقه الكافر بحضور القتال هو السهم أو الرّضخ.
وقوله :﴿ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ ﴾ أي يخيبكم من رحمته، يقال : غَوَى يَغْوي غَيّاً، ومنه :﴿ فسوف يلقون غيّاً ﴾ [ مريم : ٥٩ ] ؛ وقال الشاعر :
* فَمَنْ يَلْقَ خَيْراً يَحْمَدِ النَّاسُ أَمْرَهُ * ومَنْ يَغْوِ لا يَعْدَمْ على الغَيِّ لائِماً *
وحدثنا أبو عمر غلام ثعلب عن ثعلب عن ابن الأعرابي قال : يقال غَوَى الرجل يغوي غَيّاً إذا فسد عليه أمره أو فسد هو في نفسه، قال : ومنه قوله تعالى في قصة آدم :﴿ وعصى آدم ربه فغوى ﴾ [ طه : ١٢١ ] أي فسد عليه عيشه في الجنة. قال أبو بكر : وهذا يؤول إلى المعنى الأول ؛ وذلك أن الخيبة فيها فساد العيش، فقوله :﴿ يُغْوِيَكُمْ ﴾ يفسد عليكم عيشكم وأمركم بأن يخيبكم من رحمته.
قوله تعالى :﴿ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ﴾، قيل فيه : معناه ذو عمل غير صالح، فجاء على المبالغة في الصفة كما قالت الخنساء :
* تَرْتَعُ ما رَتَعَتْ حتَّى إذا ادَّكَرَتْ * فإنّما هي إِقْبَالٌ وإِدْبَارُ *
تعني : ذات إقبال وإدبار، أو مقبلة ومدبرة. ورُوي عن ابن عباس ومجاهد وإبراهيم قال :" سؤالك هذا عمل غير صالح ". وقرأ الكسائي :" إنه عَمِلَ غَيْرَ صَالح " على الفعل ونصب غير. ورُوي عن ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك أنه كان ابنه لصلبه ؛ لأنه قال تعالى :﴿ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ ﴾. وقال :﴿ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ﴾ يعني ليس من أهل دينك. ورُوي عن الحسن ومجاهد أنه لم يكن ابنه لصلبه وكان لغير رشدة ؛ وقال الحسن : وكان منافقاً يُظهر الإيمان ويُسِرُّ الكفر. وقيل : إنه كان ابن امرأته. وإنما كان نوح يدعوه إلى الركوب مع نَهْي الله عز وجل إياه أن يركب فيها كافر لأنه كان ينافق بإظهار الإيمان، وقيل إنه دعاه على شريطة الإيمان كأنه قال : آمِنْ وارْكَبْ معنا.
مطلب : تجب عمارة الأرض للزراعة والغراس والأبنية
وقوله :﴿ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ﴾ يعني : أمركم من عمارتها بما تحتاجون إليه. وفيه الدلالة على وجوب عمارة الأرض للزراعة والغِرَاس والأبنية.
ورُوي عن مجاهد :" معناه : أعمركم بأن جعلها لكم طول أعماركم "، وهذا كقول القائل :" أعْمَرْتُك داري هذه " يعني ملّكتك طول عمرك. وقال النبي صلى الله عليه وسلم :" مَنْ أُعْمِرَ عُمْرَى فَهِيَ لَهُ ولوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ ". والعُمْرَى هي العطية، إلا أن معناها راجع إلى تمليكه طول عمره، فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم العمرى والهبة وأبطل الشرط في تمليكه عمره لأنهم كانوا يعقدون ذلك على أنه بعد موته يرجع إلى الواهب.
قوله تعالى :﴿ وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ﴾. قال مجاهد وعطاء وقتادة والأعمش :" أي مختلفين في الأديان يهوديّ ونصرانيّ ومجوسيّ ونحو ذلك من اختلاف المذاهب الفاسدة ". ورُوي عن الحسن :" في الأرزاق والأحوال من تسخير بعضهم لبعض ".
قوله تعالى :﴿ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ﴾ إنما هو استثناء من المختلفين بالباطل بالإطلاق في الإيمان المؤدي إلى الثواب، فإنه ناجٍ من الاختلاف بالباطل.