مكية إلا قوله تعالى :﴿ إن الحسنات يذهبن السيئات ﴾ ؛ نزلت في نبهان التمار بالمدينة، وهي مائة وثلاث وعشرون آية. ووجه المناسبة لما قبلها : قوله تعالى :﴿ واتبع ما يوحى إليك ﴾ [ يونس : ١٠٩ ] ؛ وهو كتاب أحكمت آياته.
ﰡ
﴿ الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴾ * ﴿ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ﴾ * ﴿ وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ﴾ * ﴿ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ * ﴿ أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾
قلت :( كتاب ) : خبر، أي : هذا كتاب. و( أحكمت ) : صفة. و( من لدن ) : خبر ثان، أو خبر " كتاب " إن جعل مبتدأ، أو صفة له، إن كان خبراً. و( أَلاَّ تعبدوا ) :" أن " مفسرة، أو مصدرية في موضع مفعول لأجله، أو بدل من الآيات أو مستأنف. و( أن استغفروا ) : عطف عليه.
يقول الحق جل جلاله : أيها الرسول المصطفى، هذا الذي تقرؤه ﴿ كتابٌ أحكمت آياته ﴾ ؛ أتقنت، ونظمت نظماً محكماً، لا يعتريه خلل من جهة اللفظ ولا المعنى، أو أحكمت من النسخ بشريعة أخرى، أو أحكمت بالحُجج والبراهين، أو جعلت حكيمة ؛ لأنها مشتملة على أمهات الحكم العلمية. ﴿ ثم فُصَّلتْ ﴾ ؛ بُينت لاشتمالها على بيان العقائد والأحكام والمواعظ والأخبار. أو فصلت سورة سورة ؛ ليسهل حفظها. وفُصلت بالإنزال نجماً نجماً، في أزمنة مختلفة. أو فُصل فيها لُخص ما يحتاج إليه من الأحكام. و( ثم ) : للتفاوت في الحكم ؛ لأن الأحكام صفة ذاتية، والتفصيل إنما هو بحسب من يفصل له. نزل ذلك في الكتاب ﴿ من لَّدنْ حكيمٍ خبيرٍ ﴾، ولذلك كان محكماً مفصلاً بالغاً في ذلك الغاية ؛ لأن الحكيم الخبير لا يخفى عليه ما يخل بنظم الكلام.
قائلاً ذلك الكتاب : ألا تعبدوا معه غيره. وقال في القوت :﴿ كتاب أحكمت آياته ﴾ يعني : بالتوحيد، ﴿ ثم فصلت ﴾ أي : بالوعد والوعيد. ثم قال :﴿ من لدن حكيم ﴾ أي : بالإحكام للأحكام، ﴿ خبير ﴾ بالتفصيل للحلال والحرام.
قال ابن جزي :﴿ استغفروا ربكم ﴾ مما تقدم من الشرك والمعاصي، ثم ارجعوا إليه بالطاعة والاستقامة. ه. وقال الواحدي :﴿ استغفروا ربكم ﴾ من ذنوبكم السابقة، ﴿ ثم توبوا إليه ﴾ من المستأنفة متى وقعت. ه. ﴿ يمتعكم متاعاً حسناً ﴾ ؛ يحييكم حياة طيبة بالأرزاق والنعم والخيرات، فتعيشوا في أمن ودعة. ﴿ إلى أجل مسمَّى ﴾ ؛ تمام أجلكم، فلا يستأصلكم بالعذاب، أو يمتعكم بالرجاء فيه والرضا بقضائه ؛ لأن الكافر قد يمتع بالأرزاق في الدنيا ؛ استدراجاً، ﴿ ويُؤتِ ﴾ في الآخرة ﴿ كلَّ ذي فضلٍ ﴾ ؛ عمل صالحاً، ﴿ فضله ﴾ أي : جزاء فضله، فيُوفي ثوابه عمله، أو يعطي كل ذي فضل في دينه جزاء فضله في الدنيا والآخرة. وهو وعد للمؤمن التائب بخير الدارين.
﴿ وإن تَولَّوا ﴾ أي : وإن تتولوا عما أمرتكم به، ﴿ فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير ﴾ ؛ يوم القيامة، أو يوم الشدة بالقحط والجوع، وقد نزل بهم حتى أكلوا الجيف. أو يوم بدر.
﴿ ألا أنهم يَثْنُونَ صدورَهم ﴾ ؛ يلوونها عن الحق وينحرفون عنه، أو يعطفونها على الكفر وعداوة النبي صلى الله عليه وسلم، أو يولون ظهورهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لئلا يروه من شدة البغض والعداوة، ﴿ ليستخفوا منه ﴾ أي : من الرسول عليه الصلاة والسلام أو : من الله بسرهم، فلا يطلع رسوله والمؤمنين عليه. قيل : إنها نزلت في طائفة من المشركين، قالوا : إن أرخينا ستورنا، واستغشينا ثيابنا، وطوينا صدورنا على عداوة محمد صلى الله عليه وسلم كيف يعلم ذلك ؟ والحاصل : أن الإثناء إن كان عن الحق فالضمير في :( منه )، يعود على الله، وإن كان عن النبي صلى الله عليه وسلم فالضمير يعود عليه ؛ وفي البخاري عن ابن عباس : أنها نزلت فيمن كان يستحي أن يتخَلّى أو يجامع فيفضي إلى السماء.
وقوله :﴿ ألا حين يستغشون ثيابهم ﴾ : يحتمل أن يكون عند النوم، فيكون الإثناء عن الحق، أو عن الله، أو عند مواجهة الرسول، فيكون الإثناء عن رؤيته عليه الصلاة والسلام، أو عن سماع القرآن. قال تعالى :﴿ يعلم ما يسرون ﴾ في قلوبهم، ﴿ وما يعلنون ﴾ بأفواههم فقد استوى في علمه سرهم وعلانيتهم، فكيف يخفى عليه أمرهم واستخفاؤهم منه ؟ ﴿ إنه عليم بذات الصدور ﴾ أي : بالأسرار صاحبة الصدور، أو بحقائق الصدور وما احتوت عليه.
﴿ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ وما من دابةٍ في الأرض ﴾ أي : كل ما يدب عليها ؛ عاقلاً أو غيره، ﴿ إلا على الله رزقُها ﴾ ؛ غذاؤها ومعاشها ؛ لتكلفه إياه بذلك ؛ تفضلاً وإحساناً. وإنما أتى بعلى التي تقتضي الوجوب ؛ تحقيقاً لوصوله، وتهييجاً على التوكل وقطع الوساوس فيه، ﴿ ويعلمُ مستقرها ومستودعها ﴾ ؛ أماكنها في الحياة والممات، أو الأصلاب والأرحام. أو : مستقرها في الأرض بعد وجودها، ومستودعها : موادها قبل إيجادها. أو بالعكس : مستقرها : موادها في العلم قبل الظهور، ومستودعها إقامتها في الدنيا بعد الوجود. ﴿ كلٌّ ﴾ واحد من الدواب على اختلاف أجناسها وأصنافها ﴿ في كتاب مبين ﴾ ؛ مذكور في اللوح المحفوظ، أو في العلم القديم المبين للأشياء، قال البيضاوي : وكأنه أريد بالآية كونه عالماً بالمعلومات كلها، وبما بعدها بيان كونه قادراً على الممكنات بأسرها، تقريراً للتوحيد ولما سبق من الوعد والوعيد. ه.
الإشارة : هم الرزق، وخوف الخلق، من أمراض القلوب، ولا ينقطعان عن العبد حتى يكاشف بعلم الغيوب وهو التوحيد الخاص ؛ أعني : الرسوخ في الشهود والعيان. وإنما يضر العبدَ ما كان ساكناً، وأما الخواطر التي تلمع وتذهب، فلا تضر ؛ لأن الإنسان خلق ضعيفاً.
واعلم أن الرزق على قسمين : رزق الأرواح، ورزق الأشباح. فرزق الأرواح معنوي، وهو : قوت الروح من المعرفة وعلم اليقين. ورزق الأشباح حسي، وهو : الطعام والشراب. وقد تكفل الله بالأمرين معاً، وأمر بالتسبب فيهما، قياماً برسم الحكمة. فالتكفل حقيقة، والتسبب شريعة، فالعامة اشتغلوا بالتسبب في الرزق الحسي والبحث عنه، ولم يعبأوا بالرزق المعنوي، ولا عرفوه ؛ من شدة إعراضهم عنه، مع أنهم لو فقدوا الرزق المعنوي لماتت أرواحهم. والخاصة اشتغلوا بالتسبب في الرزق المعنوي والبحث عنه، ولم يعبأوا بالرزق الحسي من شدة إعراضهم عنه، مع أنهم لو فقدوا الرزق الحسي لهلكت أشباحهم. وخاصة الخاصة يتسببون في الرزق الحسي والمعنوي، وليس هم مع إرادتهم في واحد منهما، وإنما هم أبداً مع إرادة مولاهم راتِعين أبداً، حيث دفعتهم إرادة سيدهم في الحسي أو في المعنوي من غير تبرم ولا التفات لغيره، كما قال القائل :
أرَانِي كالآلات وَهو مُحَرَّكي | أَنَا قَلَمٌ والاقتِدارُ أصَابِعُ |
قوله تعالى :﴿ ويعلم مُستقرها ومُستودعها ﴾ أي : يعلم مستقرها في العلم، ومستودعها في العمل، أو مستقرها في الحال، ومستودعها في المقام، أو مستقرها في الفناء، ومستودعها في البقاء، أو مستقرها في التلوين ومستودعها في التمكين، أو مستقرها في عالم الأشباح، ومستودعها في عالم الأرواح. وأنشدوا :
كُلُّ شَيْءٍ سَمِعْتَهُ أو تَرَاه | فَهوَ للقبضتين يُشيرُ |
ضع قميصي عن العيون ترى ما | غاب عنك فقد أتاك البشير |
﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَآءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ وهو الذي خلق السماوات والأرض ﴾ وما بينهما وما فيهما ﴿ في ﴾ مقدار ﴿ ستة أيام ﴾ من أيام الدنيا، أو خلق العالم العلوي والسفلي في مقدار ذلك. وجمع السماوات دون الأرض ؛ لاختلاف العلويات بالأصل والذات دون السفليات. ﴿ وكان عرشه على الماء ﴾ قيل : لم يكن بينهما حائل، وكان موضوعاً على متن الماء. واستدل به على إمكان الخلاء، وعلى أن الماء أول حادث بعد العرش من أجرام هذا العالم. وقيل : كان الماء على متن الريح. والله أعلم بذلك. قاله البيضاوي.
قلت : الخلاء هو الفضاء الخارج عن دائرة الأكوان. وهو عند المتكلمين من جملة الممكنات، ووجه الاستدلال من الآية على إمكانه : أن العرش والماء لما كانا محصورين لزم أن يكون ما خرج عنهما خلاء، وكل ما سوى الله فهو ممكن. وعند الصوفية : هو أسرار الذات الأزلية الجبروتية، كما أن الأكوان هي أنوار الصفات الملكوتية، ولا شيء معه، ﴿ سبحانه وتعالى عما يشركون ﴾. ونقل بعض أهل التاريخ : أن الله تعالى خلق بعد العرش ياقوتة صفراء، ذكروا من عظمتها وسعتها، ثم نظر إليها، فذابت من هيبته، فصارت ماء، فكان العرش مرتفعاً فوقها، ثم اضطرب ذلك الماء، فعلته زبدة، خلق منها الأرض، ثم ارتفع من الماء دخان خلق منه السماوات. ه.
خلق ذلك ﴿ لِيبلُوكم أيُّكم أحسن عملاً ﴾ أي : ليختبركمْ اختباراً تقوم به الحجة عليكم، ﴿ أيكم أحسن عملاً ﴾ بالزهد في هذا العالم الفاني، وتعلق الهمه بالعالم الباقي قال البيضاوي : أي : يعاملكم معاملة المبتلى لأحوالكم، كيف تعملون ؟ فإن جملة ذلك أسباب ومواد لوجودكم ومعاشكم، وما تحتاج إليه أعمالكم، ودلائل وأمارات تستدلون بها وتستنبطون منها. ثم قال : فالمراد بالعمل ما يعم عمل القلب والجوارح. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم :" أيكم أحسن عقلاً وأروع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله ". والمعنى : أكمل علماً وعملاً. ه.
قال المحشي : ويتجه كون المعنى : أيكم أكثر شكراً لله على تمهيد تلك المنافع والمصالح. والشكر يشمل الطاعات القلبية والبدنية. ويحتمل أنه كآية :﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾ [ الذاريات : ٥٦ ]. وأن بقاء الدنيا وخلقها إنما هو للتكليف، فإذا لم يبق في الأرض من يعبد الله انقضت الدنيا، وجاءت الساعة، كما تقتضيه الأحاديث الصحاح والمتبادر ما قدمناه، وحاصله : أنه خلق الأشياء من أجل ابن آدم، ولتدله على خالقه فيجني بها ثمار معرفته تعالى، ويعترف بشكره، وإفراد عبادته. وقد جاء :" خلقت الأشياء من أجلك وخلقتك من أجلي ".
قلت : فيكون المعنى : هو الذي أظهر الوجود من عرشه إلى فرشه، ليختبركم أيكم أحسن عملاً بالاشتغال بالله، والعكوف في حضرته دون الوقوف مع ظاهر الكون، والاشتغال بحسه، مع كونه خُلق من أجله.
ثم قال : وقوله تعالى :﴿ لئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت. . . ﴾ الآية، هو : تنبيه على أن إنكار الكفار للبعث بعد إقرارهم بأن الله تعالى خالق العالم، الذي هو أعظم من البعث، تناقض منهم ؛ لأن إقرارهم بقدرته على الأكبر، ثم إنكارهم لما هو أيسر تناقض. ه. أي : ولئن ذكرت لهم البعث بعد الموت لقالوا ما هذا إلا سحر ظاهر. أي : ما البعث أو القول به، أو القرآن المتضمن لذكره إلا كالسحر في الخديعة أو البطلان. وقرأ حمزة ساحر أي : القائل بهذا. والله تعالى أعلم.
الإشارة : في صحيح البخاري قال صلى الله عليه وسلم :" كَانَ اللَّهُ ولا شَيء مَعه، وكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ " ١ الحديث. فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الحق جل جلاله كان في أزله لا شيء معه، ثم أظهر الأشياء من نوره بنوره لنوره، فهو الآن على ما كان عليه. وعن أبي رَزِينٍ : قلنا : يا رَسُولَ الله ! أَيْنَ كَانَ ربُّنَا قَبْل أنْ يَخْلُقَ خَلقَهُ ؟ قال :" كَان في عَمَاءٍ ما فَوْقَه هَوَاءٌ، ومَا تَحْتَهُ هَوَاءٌ، وخَلَق عَرشَه عَلَى المَاءِ " ٢. والعماء هو : الخفاء، قال تعالى :﴿ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأَنبَآءُ ﴾ [ القصص : ٦٦ ]، أي : خفيت. ويقال للسحاب عماء ؛ لأنه يخفى ما فيه. وقال الششتري : في المقاليد : كان في عمّى، ما فوقه هَوَاء، وما تحته هواء. هي الوحدة المُصْمتة الصّمدية، البحر الطامس الذي هو الأزل والأبد، فلم يكن موجود غير الوجود هو هو. ه.
والحاصل : أن الحق جل جلاله كان في سابق أزله ذاتاً مقدسة، لطيفة خفيفة عن العقول، نورانية متصفة بصفات الكمال، ليس معها رسوم ولا أشكال، ثم أظهر الحق تعالى قبضة من نوره حسية معنوية ؛ إذ لا ظهور للمعنى إلا بالحس، فقال لها : كوني محمداً، فمن جهة حسها محصورة، ومن جهة معناها لا نهاية لها، متصلة ببحر المعاني الأزلي، الذي برزت منه، وما نسبتها من ذلك البحر من جهة حسها إلا كخردلة في الهواء. وقد أشار ابن الفارض إلى وصف هذه الخمرة الأزلية وهو تفسير للعماء المذكور قبلُ فقال :
صفاءٌ ولا ماءٌ، ولُطفٌ ولاَ هواً | ونورٌ ولا نارٌ، وروحٌ ولا جِسمٌ |
تَقَدَّمَ كلَّ الكائنات حديثُها | قديماً ولا شكلٌ هناك، ولا رَسْم |
وقامت بها الأشياءُ ثمَّ لحكمَةِ | بها احتَجَبَت عن كلّ من لا له فَهْمُ |
هو العَرْشُ الكُرسِيُّ والمَنْظَرُ البهي | هو السِّدرةُ التي إِليهَا المَرَاجعُ |
هُوَ المُوجِدُ الأَشْيَاءِ وهوَ وُجُودُهَا | وعَيْنُ ذَوَاتِ الكُلّ وهْوَ الجَوَامعُ |
فَأوْصَافُهُ والاسْمُ والأثَرُ الذي | هُو الكَونُ عَيْنُ الذَّات والله جَامِعُ |
وإن لَمْ تَرَ الهِلال فَسَلَّمْ | لأُناسٍ رَأوْهُ بالأبْصارِ |
٢ أخرجه الترمذي في تفسير سورة ١١، باب١..
﴿ وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ ﴾
قلت :( يوم ) : معمول لخبر ليس، وهو دليل جواز تقديمه إن كان ظرفاً.
﴿ يقول الحق جل جلاله :﴾ ﴿ ولئن أخَّرنا عنهم العذابَ ﴾ الموعود في الدنيا، أو في الآخرة، ﴿ إلى أمة ﴾ أي : أوقات معدودة قلائل، ﴿ ليقولن ﴾ ؛ استهزاء :﴿ ما يحْسبُه ﴾ ؟ أي : ما يمنعه من الوقوع الآن ؟ ﴿ ألا يوم يأتيهم ﴾ وينزل بهم كيوم بدر، أو يوم القيامة ﴿ ليس مصروفاً عنهم ﴾ ليس مدفوعاً عنهم حين ينزل بهم، ﴿ وحاقَ ﴾ ؛ نزل وأحاط ﴿ بهم ما كانوا به يستهزئون ﴾، وضع الماضي الاستقبال ؛ تحقيقاً للوقوع، ومبالغة في التهديد.
الإشارة : إمهال العاصي ليس بإهمال له ؛ فإن الله تعالى يمهل ولا يهمل. فإمهاله إما استدراج، أو انتظار لتوبته، فليبادر العبد بالتوبة قبل الفوات، وبالعمل الصالح قبل الممات. فما أبعد ما فات، وما أقرب ما هو آت، وبالله التوفيق.
﴿ وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ ﴾ * ﴿ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّيا إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ ﴾ * ﴿ إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَائِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾
قلت :( ولئن ) : شرط وقسم، ذكر جواب القسم، واستغنى به عن جواب الشرط.
يقول الحق جل جلاله :﴿ ولئن أذقنا الإنسان منا رحمةً ﴾ أي : أعطيناه نعمة يجد لذتها. ﴿ ثم نزعناها منه ﴾ أي : سلبنا تلك النعمة منه ﴿ إنه ليؤوسٌ ﴾ ؛ قنوط، حيث قلَّ رجاؤه من فضل الله ؛ لقلة صبره، وعدم ثقته بربه، ﴿ كفور ﴾ : مبالغ في كفران ما سلف له من النعم، كأنه لم ير نعمة قط.
حُكي أن سيدنا موسى عليه السلام قال : يا رب دلني على عمل إذا عملته رضيت عني. قال : إنك لا تطيق ذلك، فخر ساجداً متضرعاً، فقال : يا ابن عمران ؛ إن رضاي في رضائك بقضائي. هـ. وقال ابن عباس رضي الله عنه أول شيء كتبه الله في اللوح المحفوظ : أنا الله لا إله إلا أنا، محمد رسولي، فمن استسلم لقضائي، وصبر على بلائي، وشكر نعمائي، كتبته صديقاً، وبعثته مع الصديقين، ومن لم يستسلم لقضائي، ولم يصبر على بلائي، ولم يشكر نعمائي، فليتخذ رباً سوائي. هـ. ورُوي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : ثلاث من رزقهن خير الدنيا والآخرة : الرضا بالقضاء، والصبر على الأذى، والدعاء في الرخاء. هـ.
حُكي أن سيدنا موسى عليه السلام قال : يا رب دلني على عمل إذا عملته رضيت عني. قال : إنك لا تطيق ذلك، فخر ساجداً متضرعاً، فقال : يا ابن عمران ؛ إن رضاي في رضائك بقضائي. هـ. وقال ابن عباس رضي الله عنه أول شيء كتبه الله في اللوح المحفوظ : أنا الله لا إله إلا أنا، محمد رسولي، فمن استسلم لقضائي، وصبر على بلائي، وشكر نعمائي، كتبته صديقاً، وبعثته مع الصديقين، ومن لم يستسلم لقضائي، ولم يصبر على بلائي، ولم يشكر نعمائي، فليتخذ رباً سوائي. هـ. ورُوي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : ثلاث من رزقهن خير الدنيا والآخرة : الرضا بالقضاء، والصبر على الأذى، والدعاء في الرخاء. هـ.
حُكي أن سيدنا موسى عليه السلام قال : يا رب دلني على عمل إذا عملته رضيت عني. قال : إنك لا تطيق ذلك، فخر ساجداً متضرعاً، فقال : يا ابن عمران ؛ إن رضاي في رضائك بقضائي. هـ. وقال ابن عباس رضي الله عنه أول شيء كتبه الله في اللوح المحفوظ : أنا الله لا إله إلا أنا، محمد رسولي، فمن استسلم لقضائي، وصبر على بلائي، وشكر نعمائي، كتبته صديقاً، وبعثته مع الصديقين، ومن لم يستسلم لقضائي، ولم يصبر على بلائي، ولم يشكر نعمائي، فليتخذ رباً سوائي. هـ. ورُوي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : ثلاث من رزقهن خير الدنيا والآخرة : الرضا بالقضاء، والصبر على الأذى، والدعاء في الرخاء. هـ.
﴿ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾ * ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ * ﴿ فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَآ أُنزِلِ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ ﴾
يقول الحق جل جلاله : لنبيه صلى الله عليه وسلم :﴿ فلعلك تارك بعضَ ما يُوحى إليك ﴾، فلا تبلغه وهو ما فيه تشديد على المشركين، مخافة ردهم واستهزائهم به. ولا يلزم من توقع الشيء وقوعه. فالعصمة مانعة من ذلك. فالرسول عليه الصلاة والسلام لم يترك شيئاً من الوحي إلا بغله، ولكن الحق تعالى شجعه وحرضه على التبليغ في المستقبل. ولو قوبل بالإنكار.
ثم قال له :﴿ وضائق به صدرُكَ ﴾ ؛ أي : ولعله يعرض لك في بعض الأحيان ضيق في صدرك، فلا تتلوه عليهم مخافة ﴿ أن يقولوا لولا أُنزل عليه كنز ﴾ ينفقه للاستتباع كالملوك، أو يستغني به عن طلب المعاش، ﴿ أو جاء معه ملكٌ ﴾ يشهد له، والقصد تسليته صلى الله عليه وسلم عن قولهم، حتى يُبلغ الرسالة ولا يبالي بهم. وإنما قال :﴿ ضائق ﴾ ؛ ليدل على اتساع صدره صلى الله عليه وسلم، وقلة ضيقه في الحال. ﴿ إنما أنت نذير ﴾ ليس عليك إلا الإنذار بما أوحي إليك، ولا عليك ردوا أو اقترحوا، فلا يضيق صدرك بذلك. ﴿ والله على كل شيء وكيل ﴾ فتوكل عليه، فإنه عالم بحالهم ومجازيهم على أقوالهم وأفعالهم.
قال البيضاوي : وجمع الضمير ؛ إما لتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم، أو لأن المؤمنين كانوا يتحدونهم، فكان أمر الرسول عليه الصلاة والسلام متناولاً لهم من حيث إنه يجب اتباعه عليهم في كل أمر إلا خصه الدليل. أو للتنبيه على أن التحدي مما يوجب رسوخ إيمانهم وقوة يقينهم. ولذلك رتب عليه قوله :﴿ فاعلموا أنما أُنزل بعلم الله ﴾ ؛ ملتبساً بما لا يعلمه إلا الله، لأن العالم والقادر بما لا يعلم ولا يقدر عليه غيره. ﴿ وأن لا إله إلا هو ﴾ ؛ لظهور عجز آلهتهم. ﴿ فهل أنتم مسلمون ﴾ ؟ ثابتون على الإسلام، راسخون مخلصون فيه، إذا تحقق عندكم إعجازه مطلقاً.
ويجوز أن يكون الكل خطاباً للمشركين، والضمير في ﴿ يستجيبوا ﴾ لمن استطعتم، أي : فإن لم يستجيبوا لكم، أي : من استعنتم به على المعارضة لعجزهم، وقد عرفتم من أنفسكم القصور عن المعارضة، ﴿ فاعلموا ﴾ أنه نظم لا يعلمه إلا الله وأنه منزل من عنده، وأن ما دعاكم إليه من التوحيد حق، فهل أنتم داخلون في الإسلام بعد قيام الحجة القاطعة ؟ وفي مثل هذا الاستفهام إيجاب بليغ ؛ لما فيه معنى الطلب، والتنبيه على قيام الموجب، وزوال العذر. ه.
وقال في الوجيز : فإن لم يستجيبوا لكم ؛ من تدعون إلى المعاونة، ولا تهيأ لكم المعارضة، فقد قامت عليكم الحجة، ﴿ فاعلموا أنما أنزل بعلم الله ﴾ أي : أنزل والله عالم بإنزاله، وعالم أنه من عنده، ﴿ فهل أنتم مسلمون ﴾ ؟ استفهام، معناه الأمر، كقوله
﴿ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ ﴾ [ المائدة : ٩١ ]. ه.
﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ ﴾ * ﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾
قلت :" ما صنعوا فيها " : الضمير يعود على الدنيا، والظرف يتعلق بصنعوا. أو يعود على الآخرة، ويتعلق الظرف بحبط، أي : حبط في الآخرة ما صنعوا من الأعمال في الدنيا.
يقول الحق جل جلاله :﴿ من كان يريد ﴾ بعمله ﴿ الحياةَ الدنيا وزينتَها ﴾، فكان إحسانه وبره رياء وسمعَة، ﴿ نُوفّ إليهم أعمالَهم فيها ﴾ أي : نوصل إليهم جزاء أعمالهم في الدنيا، من الصحة والرئاسة، وسعة الأرزاق، وينالُون ما قصدوا من حمد الناس، وإحسانهم وبرهم، ﴿ وهم فيها لا يُبخسون ﴾ لا يُنقصون شيئاً من أجورهم، فيحتمل : أن تكون الآية نزلت في أهل الرياء من المؤمنين الذين يراؤون بأعمالهم ؛ كما ورد في حديث الغازي والغني القارئ المرائين، وأنهم أول من تُسعر بهم جهنم ويحتمل أن تكون نزلت في الكفار، وهو أليق بقوله :﴿ أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النارُ ﴾.
قلت : ومن كان الله همه كفاه هَم الدارين. فطالبُ الدنيا أسير، وطالب الآخرة أجير وطالب الحق أمير. فارفع همتك أيها العبد عن دار الفانية، وعلق قلبك بالدار الباقية، ثم ارفعها إلى شهود الذات العالية، ولا تكن ممن قصرَ همته على هذه الدار فتكن ممن ليس له في الآخرة إلا النار. وحصّن أعمالك بالإخلاص، وإياك وملاحظة الناس ؛ فتبوأ بالخيبة والإفلاس، وبالله التوفيق.
﴿ أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النارُ ﴾ لأنهم استوفوا ما تقضيه صور أعمالهم الحسنة، وبقيت لهم أوزار العزائم السيئة. ﴿ وحَبِطََ ما صنعوا فيها ﴾ أي : في الدنيا فكل ما صنعوا في الدنيا من الإحسان حبط يوم القيامة ؛ لأنهم لم يريدوا به وجه الله. والعمدة في انتظار ثواب الأعمال هو الإخلاص، ﴿ وباطلٌ ما كانوا يعملون ﴾ ؛ لأنه لم تتوفر فيه شروط الصحة التي من جملتها الإخلاص.
قلت : ومن كان الله همه كفاه هَم الدارين. فطالبُ الدنيا أسير، وطالب الآخرة أجير وطالب الحق أمير. فارفع همتك أيها العبد عن دار الفانية، وعلق قلبك بالدار الباقية، ثم ارفعها إلى شهود الذات العالية، ولا تكن ممن قصرَ همته على هذه الدار فتكن ممن ليس له في الآخرة إلا النار. وحصّن أعمالك بالإخلاص، وإياك وملاحظة الناس ؛ فتبوأ بالخيبة والإفلاس، وبالله التوفيق.
﴿ أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾
قلت :( أفمن كان ) : مبتدأ، والخبر محذوف، أي : كمن كان يريد الدنيا وزينتها.
يقول الحق جل جلاله :﴿ أفمن كان على بينةٍ ﴾، طريقة واضحة ﴿ من ربه ﴾ وهو النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون، كمن ليس كذلك، ممن همه الدنيا ؟ ! والمراد بالبينة : ما أدرك صحتَه العقلُ والذوقُ، أي : على برهان واضح من ربه، وهو الدليل العقلي ؛ والأمر الجلي. أو برهان من الله يدله على الحق والصواب فيما يأتيه ويذره، ﴿ ويتلُوه ﴾ ؛ ويتبع ذلك البرهان الذي هو دليل العقل، ﴿ شاهدٌ منه ﴾ أي : من الله يشهد بصحته، وهو : القرآن، لأنه مصباح البصيرة والقلب ؛ فهو يشهد بصحة ما أدركه العقل من البرهان.
﴿ ومن قبله ﴾ أي : من قبل القرآن، ﴿ كتابُ موسى ﴾ يعني : التوراة، فإنها أيضاً متلوة شاهدة بما عليه الرسول ومن تبعه من البينة الواضحة. أو البينة : القرآن، والشاهد : جبريل عليه السلام، أو عَلِيٌّ كرم الله وجهه، أو الإنجيل، وهو حسن، لقوله :﴿ ومن قبله كتابُ موسى ﴾ ؛ فإن التوراة قبل الإنجيل. قال ابن عطية : وهنا اعتراض ؛ وهو أن الضمير قي " قبله " عائداً على القرآن، فَلِمَ لَمْ يذكر الإنجيل وهو قبله وبينه وبين كتاب موسى ؟ فالانفصال عنه : أنه خَصَّ التوراة بالذكر ؛ لأن الملّتين متفقتان على أنها من عند الله، والإنجيل قد خالف فيها. فكان الاستشهاد بما تقوم به الحجة على الكتابين أولى. وهذا كقول الجن :﴿ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى ﴾
[ الأحقاف : ٣٠ ]. وقول النجاشي :" إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة "، . ه. وإذا فسرنا الشاهد بالإنجيل سقط الاعتراض.
ثم وصف التوراة بقوله :﴿ إماماً ﴾. أي : مؤتماً به في الدين، لأجله، ﴿ ورحمةً ﴾ على المنزل عليهم. ﴿ أولئك ﴾ أي : من كان على بينة من ربه، ﴿ يُؤمنون به ﴾ أي : بالقرآن، ﴿ ومن يكفرْ به من الأحزاب ﴾ : كأهل مكة، ومن تحزب منهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ﴿ فالنارُ موعده ﴾ يدخلها لا محالة، ﴿ فلا تكُ في مريةٍ ﴾ ؛ شك ﴿ منه ﴾ أي : من ذلك الموعد، أو القرآن، ﴿ إنه الحقُ من ربك ﴾ الثابت وقوعه، ﴿ ولكن أكثرَ الناس لا يؤمنون ﴾ ؛ لقلة نظرهم، وإخلال فكرتهم.
الإشارة : لا يكون العبد على بينة من ربه حتى يتحقق فيه أمران، أولهما : التوبة النصوح، والثاني : الزهد التام. فإذا تحقق فيه الأمران كان بينة من ربه. وهي درجات ؛ أولها : بينة ناشئة عن صحيح النظر ولاعتبار، وهي لقوم نظروا في الحجج والبراهين العقلية والدلائل السمعية، فأدركوا وجود الحق من طريق الإيمان بالغيب، وهم : أهل الدليل والبرهان. وثانيها : بينة ناشئة عن الرياضات والمجاهدات والاعتزال في الخلوات، فخرقت لهم العوائد الحسيات فرأوا كرامات وخوارق عادات، فأدركوا وجود الحق على وجه التحقيق والبيان، مع رقة الحجاب والوقوف بالباب. وهم : العُبّاد، والزهاد، والصالحون من أهل الجد والاجتهاد. وثالثها : بينة ناشئة عن الذوق والوجدان، والمكاشفة والعيان، وهي لقوم دخلوا في تربية المشايخ، فتأدبوا وتهذبوا، وشربوا خمرة غيبتهم عن حسهم ورسمهم ؛ فغابوا عن الأكوان بشهود المكون. فهم يستدلون بالله على غيره. قَدَّّسُوا الحق أن يحتاج إلى دليل، وهؤلاء هم الأفراد وخواص العباد، وإليهم أشار الشاعر بقوله :
الطُّرقُ شَتَّى وطَريقُ الحَقِّ مُقفِرَةٌ | والسَّالكون طَريق الحقّ أَفرادُ |
لا يُعرفُون ولا تُدرَى مَسالِكُهم | فهم على مَهَلٍ يَمشُونَ قُصّادُ |
والنَّاسُ في غفلَةٍ عَمَّا يَراد بِهِم | فَجُلُّهم عَن سَبِيل الحَقِّ رُقَّادُ |
والحاصل : أن البينة أمر باطني، وهي : المعرفة، إما بالبرهان، أو بالعيان، والشاهد الذي يتلو هو العلم الظاهر، فيتفق ما أدركه العقل أو الذوق مع ما أفاده النقل، فتتفق الحقيقة مع الشريعة. كلِّ في محله، الباطن منور بالحقائق، والظاهر مُؤيد بالشرائع. وهذا غاية المطلوب والمرغوب. رزقنا الله من ذلك الحظ الأوفر بمنِّه وكرمه.
﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ * ﴿ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ﴾ * ﴿ أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ ﴾ * ﴿ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾ * ﴿ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ ﴾ * ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ * ﴿ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ ومن أظلمُ ﴾ أي : لا أحد أظلم ﴿ ممن افترى على الله كذباً ﴾ ؛ بأن أسند إليه ما لم يقله، وكذب بما أنزله، أو نسب لله ما لا يليق بجلاله. ﴿ أولئك يُعرضون على ربهم ﴾ يوم القيامة، بأن يحسُبوا في الموفق، وتعرض عليهم أعمالهم على رؤوس الأشهاد، ﴿ ويقول الأشهادُ ﴾ من الملائكة والنبيين، أو كل من شهد الموقف :﴿ هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين ﴾ وهو تهويل عظيم لما يحيق بهم حينئذٍ، لظلمهم بالكذب على الله، ورد الناس عن طريق الله.
﴿ مَثَلُ الفريقين ﴾ المتقدمين ؛ فريق الكافر وفريق المؤمن :﴿ كالأعمى والأصمّ والبصير والسميع ﴾، فمثل الكافر كمن جمع بين العمى والصمم، ومثل المؤمن كمن جمع بين السمع والبصر. فالواو لعطف الصفات، ويجوز أن يكون شبه الكافر بمن هو أعمى فقط، وبمن هو أصم فقط والمؤمن بضدهما، فهو تمثيل للكافرين بمثالين، قاله ابن جزي. وقال البيضاوي : يجوز أن يراد به تشبيه الكافر بالأعمى ؛ لتعاميه عن آيات الله، وبالأصم لتصاممه عن استماع كلام الله، وتأبيه عن تدبره معانيه. أو تشبيه المؤمن بالسميع والبصير ؛ لأن أمره بالضد، فيكون كل منهما مشّبهاً باثنين باعتبار وصفين. أو تشبيه الكافر بالجامع بين العمى والصمم، والمؤمن بالجامع بين ضديهما، والعاطف لعطف الصفة على الصفة، كقوله : فالأيب الصَّابُح فالغانم، فهذا من بيان اللف والطباق. ه. ﴿ هل يستويان ﴾ : هل يستوي الفريقان ؟ ﴿ مثلاً ﴾ ؛ أي : جهة التمثيل، بل لا استواء بينهما، ﴿ أفلا تذكرون ﴾ ؛ تتعظون بضرب الأمثال فترجعون عن غيكم.
﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنَّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴾ * ﴿ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ ﴾ * ﴿ فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ﴾
قلت : من قرأ : إني ؛ بالكسر، فعلى إرادة القول، ومن قرأ بالفتح، فعلى إسقاط الخافض، أي : بأني.
يقول الحق جل جلاله :﴿ ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه ﴾ فقال لهم :﴿ إني لكم ﴾، أو بأني لكم ﴿ نذير مبينٌ ﴾ أي : بين ظاهر، أو أبين لكم موجبات العذاب، ووجه الخلاص منه، قائلاً :﴿ ألا تعبدوا إلا الله ﴾.
﴿ فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نَراك إلا بشراً مثلنا ﴾ ؛ لا مزية لك علينا تخصك بالنبوءة ووجوب الطاعة، ﴿ وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلُنا ﴾ ؛ أخساؤنا وسُقَّاطنا ؛ جمع أرذل. ﴿ بادِيَ الرأي ﴾ ؛ من أول الرأي من غير تفكر ولا تدبر، أي : اتبعك هؤلاء بادي الرأي من غير ترو. أو ظاهراً رأيهم خفيفاً عقلهم، وإنما استرذلوهم، لأجل فقرهم، جهلاً منهم، واعتقاداً أن الشرف هو المال والجاه. وليس الأمر كذلك. بل الشرف إنما هو بالإيمان والطاعة، ومعرفة الحق. وقيل : إنهم كانوا حاكة وحجامين. وقيل : أراذل في أفعالهم، لقوله :﴿ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُون ﴾ [ الشعراء : ١١٢ ]، ثم قالوا :﴿ وما نَرى لكم ﴾ أي : لك ولمتبعيك ﴿ علينا من فضلٍ ﴾ يؤهلكم للنبوءة، واستحقاق المتابعة. ﴿ بل نظنكم كاذبين ﴾ ؛ أنت في دعوى النبوءة، وهم في دعوى العلم بصدقك. فغلب المخاطب على الغائبين.
﴿ قَالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيا وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ﴾
قلت :" أنلزمكموها " : يصح في الضمير الثاني الوصل والفصل ؛ لتقدم الأخص.
يقول الحق جل جلاله :﴿ قال ﴾ نوح لقومه :﴿ يا قوم أرأيتم ﴾ : أخبروني، ﴿ إن كنت على بينة من ربي ﴾ ؛ على طريقة واضحة من عند ربي، أو حجة واضحة شاهدة بصحة دعواي، ﴿ وآتاني رحمة من عنده ﴾ النبوة، ﴿ فعميت ﴾ ؛ خفيت ﴿ عليكم ﴾ فلم تهتدوا إليها، ﴿ أنلزمكموها ﴾ ؛ أنكرهكم على الاهتداء بها ﴿ وأنتم لها كارهون ﴾ لا تختارونها ولا تتأملون فيها. ولم يؤمر بالجهاد، بل تركهم حتى نزل بهم العذاب.
الإشارة : طريقة أهل التذكير الذين هم على بينة من ربهم أنهم يُذكرون الناس، ولا يكرهون أحداً على الدخول في طريقهم، إذا عميت عليهم، والله تعالى أعلم.
﴿ وَيا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُمْ مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ ﴾ * ﴿ وَيا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ﴾
يقول الحق جل جلاله : حاكياً عن نوح عليه السلام :﴿ ويا قوم لا أسألكم عليه ﴾ ؛ على التبليغ المفهوم من السياق، ﴿ مالاً ﴾ : جُعلاً أنتفع به، ﴿ وإن أجري إلا على الله ﴾ ؛ فإنه المأمول منه. ثم طلبوا منه طرد الضعفاء ليجالسوه، فقال لهم :﴿ وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم ﴾ فيخاصموني إن طردتهم، أو : إنهم ملاقوه فيفوزون بقربه، فكيف أطردهم ؟ ﴿ ولكني أراكم قوماً تجهلون ﴾ لقاء ربكم، أو بأقدارهم، أو تسفهون عليهم فتدعُوهم أرذال، أو قوماً جُهالاً استحكم فيكم الجهل وشختم فيه، فلا ينفع فيكم الوعظ والتذكير.
قلت : هذا إن كان له تشوف وتطلع بذلك، بحيث لو لم يعط لم يُعلم، أو لم يُذكر. وأما إن كان يعلم ويذكر لله، ثم يتصدق عليه لله، فلا بأس به إن شاء الله. وما زالت الأشياخ والأولياء يقبضون زيارات الفقراء، وكل من يأتيهم ويذكرونهم ويعرفونهم بالله، لأن ذلك ربح للمعطي وتقريب له، وما ربح الناس إلا من فلسهم ونفسهم ؛ بذلوها لله، فأغناهم الله. وقد تقدم عند قوله :﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً... ﴾ [ التوبة : ١٠٣ ] بعض الكلام على هذا المعنى، والله تعالى أعلم.
قلت : هذا إن كان له تشوف وتطلع بذلك، بحيث لو لم يعط لم يُعلم، أو لم يُذكر. وأما إن كان يعلم ويذكر لله، ثم يتصدق عليه لله، فلا بأس به إن شاء الله. وما زالت الأشياخ والأولياء يقبضون زيارات الفقراء، وكل من يأتيهم ويذكرونهم ويعرفونهم بالله، لأن ذلك ربح للمعطي وتقريب له، وما ربح الناس إلا من فلسهم ونفسهم ؛ بذلوها لله، فأغناهم الله. وقد تقدم عند قوله :﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً... ﴾ [ التوبة : ١٠٣ ] بعض الكلام على هذا المعنى، والله تعالى أعلم.
﴿ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِيا أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ﴾
يقول الحق جل جلاله : قال نوح لقومه :﴿ ولا أقول لكم عندي خزائنُ الله ﴾ حتى أنفق منها متى شئت، فأستغني عن مباشرة الأسباب، بل ما أنا إلا بشر، أو لا أدعي ما ليس لي فتنكروا قولي، أي : لا أفوه لكم، ولا أتعاطى غير ما ألهمني الله له، فلست أقول : عندي خزائن الله، أي : القوة التي توجد بها الأشياء بعد عدمها. أو : عندي خزائن الله التي ينزل منها الأشياء، كالريح والمياه ونحوها، كما قال تعالى :﴿ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ ﴾ [ الحجر : ٢١ ] فتبرأ عليه السلام من هذه الدعوى.
ثم قال :﴿ ولا أعلمُ الغيبَ ﴾ أي : ولا أقول : إني أعلم الغيب، فأعلم من أصحابي ما يسترونه عني في نفوسهم، فسبيلي قبول ما ظهر منهم. أو : لا أعلم أنهم اتبعوني في بادي الرأي عن غير بصيرة وعقد قلب ﴿ ولا أقولُ إني ملكٌ ﴾ حتى تقولوا : ما نزال إلا بشراً مثلنا. ﴿ ولا أقول للذين تزدري أعينُكم ﴾ أي : تحتقرهم. من زريت على الرجل : قصرت به. قلبت تاؤه دالاً ؛ لتجانس الزاي للتاء، والمراد بهم ضعفاء المؤمنين، أي : لا أقول في شأن من احتقرتموهم، لفقرهم :﴿ لن يُؤتهم الله خيراً ﴾ ؛ فإنَّ ما أعد الله لهم في الآخرة خير مما آتاكم في الدنيا. ﴿ والله أعلم بما في أنفسكم ﴾ من خير أو غيره، ﴿ إني إِذاً ﴾ أي : إن قلتُ شيئاً من ذلك، ﴿ لَمِنَ الظالمين ﴾.
قال البيضاوي : وإسناده إلى الأعين ؛ للمبالغة، والتنبيه على أنهم استرذلوهم بادي الرأي من غير روية، مما عاينوه من رثاثة حالهم، وقلة منالهم، دون تأمل في معانيهم وكمالاتهم. وقال أيضاً : وإنما استرذلوهم لفقرهم ؛ لأنهم لمَّا لم يعلموا إلا ظاهراً من الحياة الدنيا كان الأحظ بها أشرف عندهم، والمحروم منها أرذل. ه.
الإشارة : لا يشترط في وجود الخصوصية ظهور الكرامة ؛ فقد تظهر الكرامة على من لم تكمل له الاستقامة، فلا يشترط فيه الاطلاع على خزائن الغيوب، وإنما يشترط فيه التطهير من نقائص العيوب، لا يشترط فيه الإنفاق من الغيب، وإنما يشترط فيه الثقة بما ضمن له في الغيب. والله تعالى أعلم.
﴿ قَالُواْ يا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ * ﴿ قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِن شَآءَ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ ﴾ * ﴿ وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ قالوا يا نوحُ قد جادلتنا ﴾ : خاصمتنا ﴿ فأكثرت جِدالنا ﴾ : خصامنا ومخاطبتنا، ﴿ فأتِنا بما تَعِدُنا ﴾ من العذاب، ﴿ إن كنتَ من الصادقين ﴾ في الدعوى والوعيد، فإن مناظرتك ووعظك لا يؤثر فينا.
﴿ ولا ينفعكم نُصحي إن أردتُ أن أنصح لكم ﴾، وأراد الله ﴿ أن يُغويكم ﴾، فإن النصح مع سابق الشقاء عنت. وهذا جواب لما أوهموا من أن جداله كلام لا طائل تحته، وهو دليل على أن إرادة الله تعالى يصح تعلقها بالإغواء، وأن خلاف مراد الله تعالى محال. ولذلك قيل : مراد الله من خلقه ما هم عليه. ثم قال :﴿ هو ربُكمْ ﴾ ؛ خالقكم والمتصرف فيكم وفق إرادته. ﴿ وإليه تُرجعون ﴾ فيجازيكم على أعمالكم.
﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِياءٌ مِّمَّا تُجْرَمُونَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ أمْ يقولون ﴾ ؛ أي : كفار قريش : هذا الذي يقرؤه محمد علينا، ويقصه من خبر مَن قبلنا ﴿ افتراه ﴾ من عنده. ﴿ قل ﴾ لهم :﴿ إن افتريتُه ﴾ ؛ تقديراً ﴿ فعليَّ إجرامي ﴾ ؛ أي : وباله عليَّ دونكم، ﴿ وأنا بريء مما تُجرمون ﴾ ؛ مما ترتكبون من الإجرام بتكذيبكم وكفركم.
الإشارة : ينبغي لمن قوبل بالتكذيب والإنكار أن يكتفي بعلم الله، ويقول لمن كذبه ما قال نبيه صلى الله عليه وسلم لمن كذبه :﴿ إن افتريته فعلي إجرامي. . . ﴾ الآية. وفي الحِكَم :" متى آلمك عدم إقبال الناس عليك، أو توجههم بالذم إليك، فارجع إلى علم الله فيك، فإن كان لا يقنعك علمه فمصيبتك بعدم قناعتك بعلمه أشد من مصيبتك بوجود الأذى منهم ".
قال الشيخ زروق رضي الله عنه : وذلك لأن عدم قناعتك بعلمه يُصيبك في قلبك ودينك، وأذاهم يُصيبك في عرضك وبدنك ودنياك، وأيضاً : أذاهم يردك إليه، فهو فائدتك، وعدم القناعة بعلمه يردك إليهم، فهو مصيبة توجب ثلاثاً، هي علامة عدم القناعة بعلمه : أولها : التصنع والمراءاة، والثاني : طلب رضاهم بما أمكن في جميع الحالات. الثالث : إظهار علمه وعمله وحاله، ليعلموا برتبته.
والقناعة بعلمه علامتها ثلاث : أولها قصد الإخلاص في كلٍّ، بحيث لا يبالي أين رآه الخلق، وكيف رأوه. الثاني : طلب رضاه بالعمل بطاعته، وترك ما لا يرضيه، رضوا بذلك أو سخطوا. الثالث : الاكتفاء بعلمه فيما يجري عليه من حكمه وحكمته، قال إبراهيم التيمي رضي الله عنه لبعض أصحابه : ما يقول الناس فِيّ ؟ فقال : يقولون إنه مرائي، فقال : الآن طاب العمل. قال بشر الحافي : اكتفى والله بعلم الله. فلم يحب أن يدخل مع علم الله غيره، وقال أيضاً : سكون النفس لقبول المدح لها أشد عليها من المعاصي. وقال أحمد بن أبي الحواري رضي الله عنه : من أحب أن يعرف بشيء من الخير، أو يُذكر به، فقد أشرك مع الله في عبادته ؛ لأن من عمل على المحبة لا يحب أن يرى عمله غير محبوبه.
وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه : لا تنشر علمك، ليصدقك الناس، وانشر علمك ليصدقك الله. وإن كان لام العلة موجوداً، فَعِلَّةٌ تكون بينك وبين الله من حيث أمرك، خير لك من عِلَّة تكون بينك وبين الناس، من حيث نهاك. ولعِلَّةٌ تردك إلى الله خير لك من علة تقطعك عن الله. ه. المراد منه.
﴿ وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ﴾ * ﴿ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ ﴾ * ﴿ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ ﴾ * ﴿ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ وأوحي إلى نوح أنه لم يؤمن من قومك ﴾ بعد هذا ﴿ إلا من قد آمن ﴾ قبل، وكان هذا الوحي بعد أن مكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله تعالى : فكان الرجل منهم يأتيه بابنه، ويقول : يا بُني لا تصدق هذا الشيخ، فهكذا عَهد إليَّ أبي وجَدّي. فلما نزل الوحي وأيس من إيمانهم دعا عليهم. وقال :﴿ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً ﴾ [ نوح : ٢٦ ]. قال له تعالى :﴿ فلا تبْتئسْ ﴾ : تحزن وتغتم ﴿ بما كانوا يفعلون ﴾ من التكذيب والإيذاء، أقنطه أولاً من إيمانهم، ونهاه أن يغتم لأجلهم.
ثم إن نوحاً عليه السلام لما تحقق هلاك قومه، رق عليهم، فَهَمَّ أن يُراجع الله في شأنهم، فقال له تعالى :﴿ ولا تخاطبني ﴾ ؛ ولا تراجعني ﴿ في الذين ظلموا ﴾، ولا تدع باستدفاع العذاب عنهم ؛ ﴿ إنهم مُغرقون ﴾ : محكوم عليهم بالغرق لا محالة. فلا سبيل إلى كفه.
﴿ حَتَّى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ ﴾
قلت :( حتى ) : غاية لقوله :( ويصنع الفلك )، أو ابتدائية. و( اثنين ) مفعول باحمل، و( أهلك ) : عطف عليه.
يقول الحق جل جلاله :﴿ حتى إذا جاء أمرُنا ﴾ بغرقهم، أو أمرنا للأرض بالفوران وللسحاب بالإرسال، ﴿ وفار التنورُ ﴾ ؛ نبع الماء منه وارتفع كالقدر تفور. والتنور : تنور الخبز، ابتدأ منه النبوع، على خرق العادة، أرادت ابنته أن تسجره ففار الماء في النار، رُوي أنه كان تنور آدم، خلص إلى نوح فكان يوقد فيه، وقيل : كان في الكوفة في موضع مسجدها. وقيل : في الهند، وقيل : التنور : وجه الأرض. قاله ابن عباس.
فلما فار بالماء ﴿ قلنا احْمِلْ فيها ﴾ ؛ في السفينة، ﴿ من كل زوجين اثنين ﴾ ؛ من كل نوح من الحيوان ؛ ذكراُ وأنثى رُوي أن نوحاً عليه السلام وقف على باب السفينة، وحشر إليه الوحوش، فكان الذكر يقع في يمينه، والأنثى في شماله، وهو يُدخل في السفينة. وآخر ما دخل الحمار، فتمسك الشيطان بذنبه ؛ فزجره نوح فلم ينعق، فدخل معه، فجلس عند مؤخر السفينة. ورُوي أن نوحاً عليه السلام آذاه نتن الزبل والعذرة، فأوحى الله إليه : أن امسح على ذنب الفيل، فخرج من أنفه خنزير وخنزيرة، فكفياه أمر ذلك الأذى. ورُوي أن الفأر آذى الناس فأوحى الله إليه : أن امسح على جبهة الأسد ففعل، فعطس فخرج منه هرٌّ وهرَّة. فكفياه أمر الفأر. انظر ابن عطية.
﴿ و ﴾ احمل أيضاً ﴿ أهْلكَ ﴾ أي : امرأتك وبنيك ونساءهم، ﴿ إلا من سبقَ عليه القولُ ﴾ : أنه من المغرقين يريد : ابنه كنعان وأمه وَاعِلة، فإنهما كانا كافرين. ﴿ و ﴾ احمل ﴿ من آمن ﴾ بك. قال تعالى :﴿ وما آمن معه إلا قليلٌ ﴾، قيل : كانوا تسعةَ وسبعين : زوجته المسلمة، وبنوه الثلاثة : حام وسام ويافث، ونساؤهم، واثنان وسبعون رجلاً وامرأة من غيرهم. وفي بعض الآثار : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" سام أبو العرب، ويافث أبو الروم، وحام أبو الحبش " ١. قاله ابن عطية : وسيأتي خلافه في سورة الصافات. وهو الراجح. وقال البيضاوي : رُوي أن نوحاً عليه السلام اتخذ السفينة في سنتين، وكان طولها ثلاثمائة ذراع، وعرضها خمسين، وسمكها ثلاثين. وجعل لها ثلاثة بطون. فحمل في أسفلها الدواب والوحش، وفي وسطها الإنس، وفي أعلاها الطير. ه. والله تعالى أعلم.
الإشارة : حتى إذا جاء أمرنا بكمال الطهارة من العيوب، وفار تنور القلب بعلم الغيوب وجرت سفينة الفكرة في بحار التوحيد، وأسرار التفريد، قلنا : احمل فيها من كل زوجين اثنين ؛ علم الشريعة والحقيقة، وعلم الحكمة القدرة، وعلم الحس والمعنى، وعلم الأشباح والأرواح، وعلم الملك والملكوت. وتحمل من تمسك بها من أهل المحبة والوداد، إلا من سبق عليه القول بالمكث في مقام البعاد، وتحمل من آمن بخصوصيتها من العباد، فتقربه من مسلك التوفيق والتسديد، حين يمن الحق تعالى عليها بالقرب من أهل المحبة والوداد. وبالله التوفيق.
﴿ وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرياهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ * ﴿ وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبَ مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ ﴾ * ﴿ قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَآءِ قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ﴾
قلت :( مَجْريها ومرساها ) : مشتقان من الجري والإرسال، أي : الثبوت، وهما إما ظرفان زمانيان، أو مكانيان، وإما مصدران، والعامل فيهما : ما في ( بسم الله ) من معنى الفعل. وإعراب " بسم الله " : إما حال مقدرة من الضمير في " اركبوا "، أي : اركبوا متبركين بسم الله، أو قائلين : بسم الله، وقت إجرائها وإرسائها. أو ( مجراها ومرساها ) : مبتدأ، و( بسم الله ) : خبر : فيوقف على ( فيها ) ؛ أي : إجراؤها وإرساؤها حاصل بسم الله.
يقول الحق جل جلاله : وقال نوح لمن كان معه :﴿ اركبوا ﴾ في السفينة وسيروا فيها. رُوي أنهم ركبوا أول يوم من رجب، وقيل : يوم العاشر منه، واستوت على الجودي يوم عاشوراء، ﴿ بسم الله مَجْريها ومُرْساها ﴾ أي : متبركين بسم الله وقت إجرائها، أو قائلين بسم الله وقت إجرائها وإرسائها، رُوي : أنه عليه السلام كان إذا أراد أن يجري السفينة قال : بسم الله، فتجري، وإن أراد أن يوقفها قال : بسم الله، فتوقف. ﴿ أن ربي لغفور رحيم ﴾، فلولا مغفرته لما فرط منكم، ورحمته إياكم، لَما أنجاكم. فركبوا مسلمين وساروا.
وآخرون حال بينهم الموج، فكانوا من المغرقين، فالتبس الأمر عليهم، فقالوا بالحلول والاتحاد، أو نفي الحكمة والأحكام. وهذا في حق من ركب بلا رئيس ماهر، وإلا رده إلى سفينة النجاة، وهي : التمسك بالشريعة المحمدية في الظاهر، والتحقق بالحقيقة الأصلية. وبالله التوفيق.
﴿ ونادى نوحٌ ابنَه ﴾، كان كنعان. وقيل : كان لغير رشدة، وهو خطأ ؛ لأن الأنبياء عُصمت من أن تزني أزواجهم. والمراد بالخيانة في قوله ﴿ فَخَانَتَاهُمَا ﴾ [ التحريم : ١٠ ]. في الدين. ﴿ وكان في معزلٍ ﴾ ؛ في ناحية، عزل نفسه فيها عن أبيه، أو عن دينه، فقال له أبوه :﴿ يا بُنيَّ اركب معنا ﴾ في السفينة، ﴿ ولا تكن مع الكافرين ﴾ في الدين أو في الاعتزال عنا، وكان يظنه مؤمناً، لإخفاء كفره.
وآخرون حال بينهم الموج، فكانوا من المغرقين، فالتبس الأمر عليهم، فقالوا بالحلول والاتحاد، أو نفي الحكمة والأحكام. وهذا في حق من ركب بلا رئيس ماهر، وإلا رده إلى سفينة النجاة، وهي : التمسك بالشريعة المحمدية في الظاهر، والتحقق بالحقيقة الأصلية. وبالله التوفيق.
﴿ وحال بينهما الموجُ ﴾ ؛ بين نوح وابنه، ﴿ فكان من المغرَقين ﴾ ؛ فصار من المهلكين بالماء. رُوي أنه صنع بيتاً من زجاج، وحمل معه طعامه وشرابه، وصعد على وجه الماء فسلط الله عليه البول حتى غرق في بوله، والله تعالى أعلم بشأنه.
وآخرون حال بينهم الموج، فكانوا من المغرقين، فالتبس الأمر عليهم، فقالوا بالحلول والاتحاد، أو نفي الحكمة والأحكام. وهذا في حق من ركب بلا رئيس ماهر، وإلا رده إلى سفينة النجاة، وهي : التمسك بالشريعة المحمدية في الظاهر، والتحقق بالحقيقة الأصلية. وبالله التوفيق.
﴿ وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي مَآءَكِ وَيا سَمَآءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَآءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾
قلت :( بعداً ) : منصوب على المصدر، أي : أبعَدوا بعداً.
يقول الحق جل جلاله :﴿ وقيل ﴾ أي : قال الله :﴿ يا أرضُ ابلعي ماءك ﴾ الذي خرج منك، فانفتحت أفواهاً، فرجع إليها ما خرج منها، ﴿ ويا سماءُ أَقلعي ﴾ : أمسكي عن الإمطار. رُوي أنها أمطرت من كل موضع. فبقي ما نزل منها بحاراً على وجه الأرض.
قال البيضاوي : نوديا بما ينادى به أولو العلم، وأُمرا بما يؤمرون به، تمثيلاً لكمال قدرته، وانقيادهما لما يشاء تكوينه فيهما، بالأمر المطاع، الذي يأمر المنقاد لحكمه، المبادر إلى امتثال أمره، مهابة من عظمته، وخشية من أليم عقابه. والبلع : النشف، والإقلاع : الإمساك. ه.
﴿ وغيض الماءُ ﴾ ؛ نقص ولم ينشف ما خرج منها، ﴿ وقُضِيَ الأمرُ ﴾ : وأنجز ما وعد من إهلاك الكافرين، وإنجاء المؤمنين، ﴿ واستوتْ ﴾ : استقرت السفينة ﴿ على الجُودي ﴾ ؛ جبل بالموصل. وقيل : بالشام. وتقدم أنه نزل يوم عاشوراء، فصامه شكراً. وبقي ستة أشهر على الماء. ﴿ وقيل بُعداً للقوم الظالمين ﴾ ؛ هلاكاً لهم. يقال بعد، إذا بعد بعداً بعيداً، بحيث لا يرجى عوده، ثم استعير للهلاك. وخص بدعاء السوء.
والآية كما ترى في غاية الفصاحة ؛ لفخامة لفظها وحسن نظمها، والدلالة على كنه الحال مع الإيجاز الخالي عن الإخلال. وإيراد الأخبار على البناء للمفعول دلالة على تعظيم الفاعل، وأنه متعين في نفسه، مستغن عن ذكره، إذ لا يذهب الوهم إلى غيره ؛ للعلم به، فإن مثل هذه الأفعال لا يقدر عليها سوى الواحد القهار. قاله البيضاوي.
فإن قلت : قد عم الغرق الدنيا كلها، مع أن دعوة نوح عليه السلام لم تكن عامة، وقد قال تعالى :﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ﴾ [ الإسراء : ١٥ ] ؟ فالجواب : أن الكفر قد كان عم الموجودين في ذلك الزمان، مع تمكنهم من النظر والاستدلال على الصانع وتوحيده، ومع قدرتهم على الإتيان إلى نوح في أمر الشرائع، فقصروا في الجهتين. وأيضاً : لم تكن الأرض كلها معمورة بالناس، فكل من كان موجوداً سمع بدعوة نوح فجحدها. والله تعالى أعلم. وانظر ابن عطية عند قوله :﴿ واصنعِ الفلك ﴾. والله تعالى أعلم.
الإشارة : إذا توالت على القلب الواردات الإلهية السماوية، والأحوال النفسانية المزعجة، خيف على العقل الاختطاف والاصطلام، فقيل : يا أرض النفس ابلعي ماءك واسكني، ويا سماء الواردات أقلعي، وغيض الماء، أي : نقص هيجان الحال، وقضي الأمر بالاعتدال، واستوت سفينة الفكرة على جبل العقل، فحاز الشرف والكمال ؛ لكونه برزخاً بين بحرين، يعطي الحقيقة حقها والشريعة حقها، فيعطي كل ذي حق حقه، ويوفى كل ذي قسط قسطه. وقيل : بُعداً لمن تخلف عن هذا المقام، وظلم نفسه بإلقائها في سجن الهوى وغيهب الظلام. والله تعالى أعلم.
﴿ وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ﴾ * ﴿ قَالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ * ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ ﴾
قلت :( وإنَّ وعدك ) : عطف على ( إن ابني ). و( أنت أحكم ) : حال من الكاف.
يقول الحق جل جلاله :﴿ ونادى نوحٌ ربَّه ﴾ بعد تعميم الغرق، أي : أراد النداء بدليل عطف قوله :﴿ فقال ربِّ إنَّ ابني من أهلي ﴾، فإنه هو النداء، أو تكون فصيحة، جواباً عن مقدر، كأن قائلاً قال : ماذا قال في ندائه ؟ فقال : إن ابني من أهلي وقد وعدتني أن تنجيني وأهلي، ﴿ وإن وعَدَكَ الحقُّ ﴾ لا يتطرقه الخلف، فما باله غرِق ؟ ﴿ وأنت أحكمُ الحاكمين ﴾ ؛ لأنك أعلمهم وأعدلهم، فلم أعرف وجه حكمك عليه بالغرق. أو لأنك أكثر حكمة من ذوي الحكم، فلم أفهم حكمة غرقه.
﴿ قال ﴾ تعالى :﴿ يا نوح إنه ليس من أهلك ﴾ ؛ لأنه خالفك في الدين، ولا ولاية بين الكافر والمؤمن، ﴿ إنه عملٌ غير صالح ﴾ أي : ذو عمل فاسد. جعل ذاته نفس العمل ؛ مبالغةً. وقرأ الكسائي ويعقوب :( عَمِلَ ) بلفظ الماضي. أي : عمل عملاً فاسداً. استحق به البعد عنك. أو : إنه أي سؤالك عملٌ غير صالح. ويقوي هذا قراءة ابن مسعود :" إنه عمل غير صالح أن تسألني ما ليس لك به علم، وقراءة الجماعة :﴿ فلا تسألن ما ليس لك به علمٌ ﴾ أصواب هو أم لا، حتى تقف على كنهه. وإنما سمي نداءه سؤالاً ؛ لتضمنه معنى السؤال، بذكر الوعد واستنجازه واستفسار المانع.
ثم وعظه بقوله :﴿ إني أعظُكَ أن تكون من الجاهلين ﴾ أي : إني أعظك ؛ كراهة أن تكون من الجاهلين الذين يسألون ما لا يوافق القدر. وقد استثنيته بقولي :﴿ إلا من سبق عليه القول ﴾. وليس فيه وصفه بالجهل، بل وعظه لئلا يقع فيه، والحامل له على السؤال، مع أنه استثنى له ؛ غلبة الشفقة على الولد ؛ مع كونه لم يتحقق أنه ممن سبق عليه القول.
﴿ قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ * ﴿ تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾
قلت :" تلك " : مبتدأ. و " من أنباء " : خبر. و " نُوحيها " : خبر ثان، و " ما كنت تعلمها " : خبر ثالث، أو حال من الهاء، أي : حال كونها مجهولة عندك وعند قومك.
يقول الحق جل جلاله :﴿ قيل يا نوحُ اهبط ﴾ من السفينة إلى عمارة الأرض ﴿ بسلامٍ منّا ﴾، أي : متلبساً بسلامة من المكاره، من جهة حفظنا ورعايتنا. أو مسلماً عليك. ﴿ وبركات عليك ﴾ ؛ وزيادات في نسلك حتى تصير آدماً ثانياً، فالبركة هي : الخير النامي. أو : مباركاً عليك، ﴿ وعلى أمم ممن معكَ ﴾ أي : هم الذين معك، أو ناشئة ممن معك، فقد تشعبت الأمم ممن معه من ذريته. والمراد : المؤمنون، بدليل قوله :﴿ وأمم سنُمتعهم ﴾ في الدنيا، ونوسع عليهم فيها، ﴿ ثم يمسُّهُم منا عذابٌ أليم ﴾ في الآخرة، وهم الكفار ممن نشأ من ذريته. وقيل : هم قوم هود وصالح ولوط وشعيب، والعذاب : ما نزل بهم في الدنيا.
﴿ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ ﴾ * ﴿ يا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ * ﴿ وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ ﴾
قلت :" أخاهم " : عطف على نوح في قوله :( ولقد أرسلنا نوحاً )، و( هوداً ) : بدل.
يقول الحق جل جلاله :﴿ و ﴾ أرسلنا ﴿ إلى ﴾ قبيلة ﴿ عادٍ أخاهم هوداً قال يا قوم اعبدوا الله ﴾ وحده، ﴿ ما لكم من إله غيرُهُ ﴾ يستحق أن يعبد، ﴿ إن أنتم إلا مُفترون ﴾ على الله، باتخاذ الأوثان آلهة.
وقال الورتجبي : استغفروا من النظر إلى غيري، وتوبوا إليَّ من نفوسكم، ورؤية طاعتكم وأعواضها، يرسل سماء القدم على قلوبكم مدرار أنوار تجليها، ويزدكم، أي : يزد قوة أرواحكم في طيرانها. انظر تمامه.
وقال الورتجبي : استغفروا من النظر إلى غيري، وتوبوا إليَّ من نفوسكم، ورؤية طاعتكم وأعواضها، يرسل سماء القدم على قلوبكم مدرار أنوار تجليها، ويزدكم، أي : يزد قوة أرواحكم في طيرانها. انظر تمامه.
وقال ابن جزي : وفي الآية دليل على أن التوبة والاستغفار سبب لنزول المطر. رُوي : أن عاداً كان المطر قد حُبس عنهم ثلاث سنين، فأمرهم بالتوبة والاستغفار، ووعدهم على ذلك بالمطر. ه. ﴿ ولا تتولَّوا ﴾ : ولا تُعرضوا عما أدعوكم إليه، ﴿ مجرمين ﴾ ؛ مصرين على إجرامكم.
وقال الورتجبي : استغفروا من النظر إلى غيري، وتوبوا إليَّ من نفوسكم، ورؤية طاعتكم وأعواضها، يرسل سماء القدم على قلوبكم مدرار أنوار تجليها، ويزدكم، أي : يزد قوة أرواحكم في طيرانها. انظر تمامه.
﴿ قَالُواْ يا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ * ﴿ إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُواءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِياءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ﴾ * ﴿ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ ﴾ * ﴿ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ * ﴿ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ﴾
قلت :( إن نقول إلا اعتراك ) : الاستثناء مفرغ، و " اعتراك " : مقول لقول محذوف، أي : ما نقول إلا قولنا اعتراك.
يقول الحق جل جلاله : قالوا يا هود ما جئتنا ببينة ؛ بمعجزة واضحة تدل على صدق دعواك، وهذا كذب منهم وجحود ؛ لفرط عنادهم وعدم اعتدادهم بما جاءهم من المعجزات. وفي الحديث :" ما مِنْ نَبي إلاَّ أُوتي من المعجزات ما مثلُهُ آمنَ عَليه البشَرُ، وإَنَّما كَانَ الذِي أُوتيتُه وحياً أُوحي إلي، فأرجُوا أن أكُون أكثرهم تَابِعاً يوم القِيَامةِ " ١. كما في الصحيح. ويحتمل أن يريدوا : ما جئتنا بآية تضطر إلى الإيمان بك، وإن كان قد أتاهم بآية نظرية. ولم يذكر في القرآن معجزة معينة لهود عليه السلام، مع الاعتقاد أنه لم يخل من معجزة ؛ لما في الحديث.
ثم قالوا :﴿ وما نحن بتاركي آلهتنا ﴾ ؛ بتاركي عبادتهم ﴿ عن قولك ﴾ أي : بسبب قولك أو صادرين عن قولك، ﴿ وما نحن لك بمؤمنين ﴾ أبداً، وهو إقناط له عن الإجابة والتصديق.
﴿ إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ﴾، وأنتم دواب مقهورون تحت قبضة الحق، ﴿ إن ربي على صراط مستقيم ﴾ ؛ لا ينتقم إلا من أهل الانتقام، " من عاد لي ولياً فقد آذنته بالحرب "، فإن ذكرهم بالله ودلهم على الطريق، فكذبوه وأعرضوا عنه، قال : عسى أن يذهب بكم، ويستخلف قوماً غيركم، يكونون متوجهين إليه أكثر منكم، ولا تضرونه شيئاً. وبالله التوفيق.
﴿ قال ﴾ هود عليه السلام :﴿ إني أُشهد الله ﴾ على براءتي من شرككم، ﴿ واشهدوا أني بريء مما تُشركون من دونه فكيدوني ﴾.
﴿ إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ﴾، وأنتم دواب مقهورون تحت قبضة الحق، ﴿ إن ربي على صراط مستقيم ﴾ ؛ لا ينتقم إلا من أهل الانتقام، " من عاد لي ولياً فقد آذنته بالحرب "، فإن ذكرهم بالله ودلهم على الطريق، فكذبوه وأعرضوا عنه، قال : عسى أن يذهب بكم، ويستخلف قوماً غيركم، يكونون متوجهين إليه أكثر منكم، ولا تضرونه شيئاً. وبالله التوفيق.
﴿ إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ﴾، وأنتم دواب مقهورون تحت قبضة الحق، ﴿ إن ربي على صراط مستقيم ﴾ ؛ لا ينتقم إلا من أهل الانتقام، " من عاد لي ولياً فقد آذنته بالحرب "، فإن ذكرهم بالله ودلهم على الطريق، فكذبوه وأعرضوا عنه، قال : عسى أن يذهب بكم، ويستخلف قوماً غيركم، يكونون متوجهين إليه أكثر منكم، ولا تضرونه شيئاً. وبالله التوفيق.
ولذلك عقبه بقوله :﴿ إني توكلتُ على الله ربي وربكم ﴾، فهو تقرير له. والمعنى : أنكم وإن بذلتم غاية وسعكم لم تضروني ؛ فإني متوكل على الله، واثق بكلاءته، وهو مالكي ومالككم، لا يحيق بي ما لم يُرده، ولا تقدرون على ما لم يُقدره.
ثم برهن عليه بقوله :﴿ ما من دابة إلا هو آخذٌ بناصيتها ﴾ : إلا وهو مالك لها، قادرٌ عليها، يصرفها على ما يريد بها. والأخذ بالنواصي تمثيل لذلك. قاله البيضاوي. وقال ابن جزي : أي : هي في قبضته وتحت قهره، وهذه الجملة تعليل لقوة توكله على الله، وعدم مبالاته بالخلق. ه. ﴿ إن ربي على صراط مستقيم ﴾ أي : إنه على الحق والعدل، ولا يضيع عنده معتصم ولا يفوته ظالم. وقال في القوت : أخبر عن عدله في محله، وقيام حكمته، وأنه وإن كان آخذاً بنواصي العباد في الخير والشر، والنفع والضر ؛ لاقتداره، فإن ذلك مستقيم في عدله، وصواب من حكمه.
﴿ إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ﴾، وأنتم دواب مقهورون تحت قبضة الحق، ﴿ إن ربي على صراط مستقيم ﴾ ؛ لا ينتقم إلا من أهل الانتقام، " من عاد لي ولياً فقد آذنته بالحرب "، فإن ذكرهم بالله ودلهم على الطريق، فكذبوه وأعرضوا عنه، قال : عسى أن يذهب بكم، ويستخلف قوماً غيركم، يكونون متوجهين إليه أكثر منكم، ولا تضرونه شيئاً. وبالله التوفيق.
﴿ إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ﴾، وأنتم دواب مقهورون تحت قبضة الحق، ﴿ إن ربي على صراط مستقيم ﴾ ؛ لا ينتقم إلا من أهل الانتقام، " من عاد لي ولياً فقد آذنته بالحرب "، فإن ذكرهم بالله ودلهم على الطريق، فكذبوه وأعرضوا عنه، قال : عسى أن يذهب بكم، ويستخلف قوماً غيركم، يكونون متوجهين إليه أكثر منكم، ولا تضرونه شيئاً. وبالله التوفيق.
﴿ وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ﴾ * ﴿ وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ﴾ * ﴿ وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ ﴾
قلت : إنما قال هنا وفي قصة شعيب :( ولما )، بالواو، وفي قصة صالح ولوط :( فلما )، بالفاء ؛ لأن قصة صالح ولوط ذكرهما بعد الوعيد، في الفاء التي تقتضي التسبب، كما تقول : وعدته فما جاء الوعيد كان. . الخ، بخلاف قصة هود وشعيب لم يتقدم ذلك فيهما، فعطف بالواو، قاله الزمخشري.
يقول الحق جل جلاله :﴿ ولما جاء أمرُنا ﴾ : عذابنا، أو أمرنا بالعذاب، ﴿ نجينا هوداً والذين آمنوا معه برحمة منا ﴾، وكانوا أربعة آلاف، ﴿ ونجيناكم من عذابٍ غليظ ﴾، وهو ريح السموم، وكانت تدخل أنوف الكفرة وتخرج من أدبارهم فتقطع أمعاءهم. والتكرير ؛ لبيان ما نجاهم منه، وإعلاماً بأنه عذاب غليظ، وتعديداً للنعمة في نجاتهم. ويحتمل أن يريد بالنجاة الأولى : من عذاب الدنيا، وهو الريح الذي نزل بقومهم، وبالنجاة الثانية : عذاب الآخرة، وهو العذاب الغليظ، ولذلك عطفه على النجاة الأولى التي أراد بها النجاة من الريح.
قال في الإحياء : ولخصوص المحبين مخاوف في مقام المحبة، ليست لغيرهم، وبعض مخاوفهم أشد من بعض، فأولها : خوف الإعراض، وأشد منه : خوف الحجاب، وأشد منه خوف الإبعاد، وهذا المعنى من سورة هود هو الذي شيب سيد المحبين، أنه سمع :( ألا بُعداً لعاد )، ( ألا بُعداً لمدين )، وإنما تعظم هيبةُ البُعد وخوْفُه في قلب من ألف القرب وذاقه، وتنعَّم به. ثم قال : ثم خوف الوقوف وسلب المزيد، فإنا قَدَّمنا : أن درجات القرب لا نهاية لها. هـ.
قال في الإحياء : ولخصوص المحبين مخاوف في مقام المحبة، ليست لغيرهم، وبعض مخاوفهم أشد من بعض، فأولها : خوف الإعراض، وأشد منه : خوف الحجاب، وأشد منه خوف الإبعاد، وهذا المعنى من سورة هود هو الذي شيب سيد المحبين، أنه سمع :( ألا بُعداً لعاد )، ( ألا بُعداً لمدين )، وإنما تعظم هيبةُ البُعد وخوْفُه في قلب من ألف القرب وذاقه، وتنعَّم به. ثم قال : ثم خوف الوقوف وسلب المزيد، فإنا قَدَّمنا : أن درجات القرب لا نهاية لها. هـ.
﴿ ألا إن عاداً كفروا ربَّهم ﴾ ؛ جحدوه، أو كفروا نعمه. وفيه تشنيع لكفرهم وتهويل لأمرهم، بالإتيان بحرف التنبيه، وتكرار اسم عاد ؛ ﴿ ألا بعداً لعادٍ ﴾ أي : هلاكاً لهم، دعا عليهم بالهلاك بعد أن هلكوا ؛ للدلالة على أنهم كانوا مستحقين له، مستوجبين لما نزل بهم ؛ بسبب ما حكي عنهم. وإنما كرر " ألا " وأعاد ذكرهم ؛ تفظيعاً لأمرهم، وحثاً على الاعتبار بحالهم. ثم بيَّنهم بقوله :﴿ قوم هود ﴾. فهو عطف بيان لعاد، وفائدته : تمييزهم عن عاد الثانية التي هي عاد إرم، والإيمان إلى استحقاقهم للبعد، بما جرى بينهم وبينه. قاله البيضاوي.
قال في الإحياء : ولخصوص المحبين مخاوف في مقام المحبة، ليست لغيرهم، وبعض مخاوفهم أشد من بعض، فأولها : خوف الإعراض، وأشد منه : خوف الحجاب، وأشد منه خوف الإبعاد، وهذا المعنى من سورة هود هو الذي شيب سيد المحبين، أنه سمع :( ألا بُعداً لعاد )، ( ألا بُعداً لمدين )، وإنما تعظم هيبةُ البُعد وخوْفُه في قلب من ألف القرب وذاقه، وتنعَّم به. ثم قال : ثم خوف الوقوف وسلب المزيد، فإنا قَدَّمنا : أن درجات القرب لا نهاية لها. هـ.
﴿ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ ﴾ * ﴿ قَالُواْ يا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَآ أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ ﴾ * ﴿ قَالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ ﴾
قلت : قال الشطيبي : صالح : هو ابن عبيد بن عابرَ بن أرْفَخْشد بن سام بن نوح. وثمود هم أولاد ثمود بن عوص بن عاد بن إرم بن سام بن نوح. ه. وفيه نظر ؛ فقد ذكر البيضاوي في سورة الأعراف أن بين صالح ونوح تسعة أجداد، فانظره.
يقول الحق جل جلاله :﴿ و ﴾ أرسلنا ﴿ إلى ثمودَ أخاهم صالحاً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيرُه هو أنشأكم من الأرض ﴾ كونكم من الأرض ؛ لأنه خلق آدم منها، والنطف التي هي مواد نسله أصلها منها، ﴿ واستعمركم ﴾ ؛ عمركم ﴿ فيها ﴾ وجعلكم تعمرونها بعد من مضى قبلكم، ثم تتركونها لغيركم. أو استبقاكم فيها مدة أعماركم، ثم ترحلون عنها. ﴿ فاستغفروه ثم توبوا إليه، أن ربي قريبٌ ﴾ من كل شيء ﴿ مجيبٌ ﴾ لمن دعاه.
وقوله تعالى :﴿ قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجواً قبل هذا ﴾ : يؤخذ من الآية : أن شُعاع الخصوصية، وآثارها، تظهر على العبد قبل شروق أنوارها، وهو جار في خصوص النبوة والولاية، فلا تظهر على العبد في الغالب حتى يتقدمها آثار وأنوار، من مجاهدة أو أنس، أو اضطرار أو انكسار، أو عِرْق طيب. والله تعالى أعلم. وكل من واجهه منهم تكذيب أو إنكار يقول :﴿ أرأيتم إن كنتُ على بينة من ربي... ﴾ الآية. وبالله التوفيق.
وقوله تعالى :﴿ قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجواً قبل هذا ﴾ : يؤخذ من الآية : أن شُعاع الخصوصية، وآثارها، تظهر على العبد قبل شروق أنوارها، وهو جار في خصوص النبوة والولاية، فلا تظهر على العبد في الغالب حتى يتقدمها آثار وأنوار، من مجاهدة أو أنس، أو اضطرار أو انكسار، أو عِرْق طيب. والله تعالى أعلم. وكل من واجهه منهم تكذيب أو إنكار يقول :﴿ أرأيتم إن كنتُ على بينة من ربي... ﴾ الآية. وبالله التوفيق.
وقوله تعالى :﴿ قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجواً قبل هذا ﴾ : يؤخذ من الآية : أن شُعاع الخصوصية، وآثارها، تظهر على العبد قبل شروق أنوارها، وهو جار في خصوص النبوة والولاية، فلا تظهر على العبد في الغالب حتى يتقدمها آثار وأنوار، من مجاهدة أو أنس، أو اضطرار أو انكسار، أو عِرْق طيب. والله تعالى أعلم. وكل من واجهه منهم تكذيب أو إنكار يقول :﴿ أرأيتم إن كنتُ على بينة من ربي... ﴾ الآية. وبالله التوفيق.
﴿ وَيا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِيا أَرْضِ اللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُواءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ ﴾ * ﴿ فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذالِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ﴾ * ﴿ فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ﴾ * ﴿ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾ * ﴿ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ ﴾
قلت :" آية " : نصبت على الحال، والعامل فيها : معنى الإشارة. و( لكم ) : حال منها، تقدمت عليها لتنكيرها.
يقول الحق جل جلاله : قال صالح لقومه بعد ظهور آية الناقة، وقد تقدم في الأعراف قصتها :﴿ هذه ناقةُ الله لكم آيةً ﴾ تدل على صدقي، ﴿ فذرُوها تأكل في أرض الله ﴾ ؛ أي : ترعى نباتها وتشرب ماءها، ﴿ ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذابٌ قريب ﴾ : عاجل، لا يتأخر عن مسكم لها بالسوء إلا ثلاثة أيام.
وابْن، أَو اعربْ ما كَإِذْ قَدْ أُجرِيا | واختَرْ بنَا متَلُو فعْل بُنيا |
وقَبل فعْل معرب أو مُبْتَدا | أعربْ، ومنْ بَنَى فَلَنْ يُفنَّدا |
قال تعالى : فنجينا ﴿ صالحاً ﴾ ومن معه ﴿ برحمة منا ﴾ ؛ ونجيناهم ﴿ من خِزْي يومئذٍ ﴾ وهو : هلاكهم بالصيحة، أو من هوان يوم القيامة، ﴿ إن ربك هو القوي العزيز ﴾ ؛ القادر على كل شيء، الغالب عليه.
﴿ كأن لم يغنوا ﴾ : يعيشوا، أو يقيموا ﴿ فيها ﴾ ساعة، ﴿ ألا إن ثمودَ كفروا ربهم ﴾ ؛ جحدوه، ﴿ أَلا بُعْداً لثمود ﴾ ؛ هلاكاً وسحقاً لهم.
﴿ وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ﴾ * ﴿ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ ﴾ * ﴿ وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ﴾ * ﴿ قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ ﴾ * ﴿ قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ ﴾
قلت :" سلاماً " : منصوب على المصدر، أي : سلمنا سلاماً. ويجوز نصبه بقالوا ؛ لتضمنه معنى ذكروا. ( قال سلام ) : إما خبر، أي : أمرنا سلام، أو جواب سلام، وإما مبتدأ، أي : عليكم سلام. وكسر السين : لغة، وإنما رفع جوابه ليدل على ثبوت سلامه ؛ فيكون قد حياهم بأحسن مما حيوه به. ( فما لبث أن جاء ) ؛. " ما " : نافية و " أن جاء " : فاعل " لبث ". ونكر وأنكر بمعنى واحد.
يقول الحق جل جلاله :﴿ ولقد جاءت رسُلنا إبراهيمَ ﴾، وهم الملائكة، وقيل : ثلاثة جبريل وميكائيل وإسرافيل. وقيل : تسعة جاؤوه ﴿ بالبُشرى ﴾ ؛ بالولد. فلما دخلوا عليه ﴿ قالوا سلاماً ﴾ أي : سلمنا عليك سلاماً، أو ذكروا سلاماً، ﴿ قال سلام ﴾ أي : عليكم سلام، ﴿ فما لبثَ ﴾ أي : أبطأ، ﴿ أن جاء بعجل حَنيذ ﴾ ؛ مشوي بالرضف، أي : بالحجر المحمي. وقيل : حنيذ بمعنى يقطر ودكه. كقوله :﴿ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ﴾ [ الذاريات : ٢٦ ]، فامتنعوا من أكله.
﴿ فلما رأى أيديَهم لا تصل إليه ﴾ ؛ لا يمدون إليه أيديهم، ﴿ نَكرهم ﴾ أي : أنكر ذلك منهم، ﴿ وأوجس ﴾ : أدرك، أو أضمر ﴿ منهم خفيةً ﴾ أي : خوفاً، خاف أن يريدوا به مكروهاً ؛ لامتناعهم من طعامه، وكان من عادتهم إذا مس من يطرقهم طعامهم أمنوه، وإلا خافوه.
والظاهر أنه أحسن بأنهم ملائكة ونكرهم ؛ لأنه تخوف أن يكون نزولهم لأمر أنكره الله عليه فأمنوه، وقالوا :﴿ لا تخفْ إنا ﴾ ملائكة ﴿ أرسلنا إلى قوم لوطٍ ﴾ لنعذبهم، وإنما لم نأكل طعامك ؛ لأنا لا نأكل الطعام.
قال تعالى :﴿ فبشرناها بإسحاقَ ومن وراء إسحاق يعقوبَ ﴾ ولد ولدها. وتوجيه البشارة إليها ؛ لأنه من نسلها، ولأنها كانت عقيمة حريصة على الولد.
﴿ قالت يا ويلتا ﴾ ؛ يا عجباً، وأصله في الشر، فأطلق على كل أمر فظيع. وقرئ بالياء على الأصل، أي : يا ويلتي ﴿ أألدُ وأنا عجوزٌ ﴾ ابنة تسعين، أو تسع وتسعين ﴿ وهذا بَعْلِي ﴾ : زوجي، وأصله : القائم بالأمر، ﴿ شيخاً ﴾ ؛ ابن مائة أو مائة وعشرين سنة، ﴿ إنَّ هذا لشيء عجيب ﴾ يتعجب منه ؛ لكونه نشأ الولد من هرمين.
وهو استغرب من حيث العادة، لا من حيث القدرة، ولذلك قالوا :﴿ أتعجبينَ من أمر الله ﴾ ؛ منكرين عليها، فإن خوارق العادات باعتبار أهل بيت النبوة، ومهبط الوحي ومظهر المعجزات. وتخصيصهم بمزيد النعم والكرامات ليس ببدع، ولذلك قالوا :﴿ رحمةُ الله وبركاته عليكم أهل البيت ﴾ أي : بيت إبراهيم، فلا تستغرب ما يظهر منهم من خوارق العادات، لاسيما من نشأت وشابت في ملاحظة الآيات، ﴿ إنه ﴾ تعالى ﴿ حميدٌ ﴾ ؛ فاعل ما يستوجب به الحمد، أو محمود على كل حال ﴿ مجيد ﴾ ؛ كثير الخير والإحسان. أو ممجَّد بمعنى العلو والشرف التام. قال ابن عطية هنا : إن في الآية دليلاً على أن الذبيح إسماعيل لا إسحاق. وفيه نظر. وسيأتي في سورة الصافات ما هو الحق، إن شاء الله تعالى.
﴿ فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَآءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ ﴾ * ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ ﴾ * ﴿ يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَآ إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبَّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ﴾
قلت :" لما " : حرف وجود لوجود، تفتقر للشرط والجواب. فشرطها :" ذهب "، وجوابها : محذوف أي : جعل يجادلنا. والتأوه : التفجع والتأسف، ومنه قول الشاعر١ :
إِذا ما قمتُ أرحَلُهَا بليلٍ | تأوّهُ آهةَ الرجل الحزين |
وفي الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" لما أُسري بي رأيت رجلاً في الحضرة يتذمر، فقلت لجبريل : من هذا ؟ فقال : أخوك موسى يَتَذَمَّرُ عَلَى ربهِ ـ أي : يجترئ عليه انبساط ـ فقلت : وهل يليق له ذلك ؟ فقال : يعرفه ؛ فيتحمل عنه ". ثم قال : ولا يجوز الانبساط إلا لمن كان على وصفهم. هـ. قال في الصحاح : يَتَذَمَّرُ على فلان : إذا تَنَكَّرَ له وأَوعَدَهُ. قاله المحشي.
والحاصل أن إبراهيم عليه السلام حملته الشفقة والرحمة، حتى صدر، منه ما صدر مع خلته واصطفائيته، فالشفقة والرحمة من شأن الصالحين والعارفين المقربين، غير أن العارفين بالله مع مراد مولاهم، يشفقون على عباد الله، ما لم يتعين مراد الله، فالله أرحم بعباده من غيره. ولذلك قال لخليله، لما تعين قضاؤه :﴿ يا إبراهيم أعرض عن هذا ﴾. فالشفقة التي تؤدي إلى معارضة القدر لا تليق بأهل الأقدار، وفي الحكم " ما ترك من الجهل شيئاً من أراد أن يحدث في الوقت غير ما أظهره الله ". ولهذا قالوا : الشفقة لا تليق بالأولياء.
قال جعفر الصادق ـ رحمه الله ـ : ست خصال لا تحس بستة رجال : لا يحسن الطمع في العلماء، ولا العجلة في الأمراء، ولا الشح في الأغنياء، ولا الكبر في الفقراء، ولا الشفقة في المشايخ، ولا اللؤم في ذوي الأحساب. وقولنا : الشفقة لا تليق بالأولياء، يعني إذا تعين مراد الله، أو إذا ظهرت المصلحة في عدمها، كأمر الشيخ المريد بما تموت به نفسه، فإذا كان الشيخ يحن على الفقراء في هذا المعنى لا تكمل تربيته. والله تعالى أعلم.
وفي الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" لما أُسري بي رأيت رجلاً في الحضرة يتذمر، فقلت لجبريل : من هذا ؟ فقال : أخوك موسى يَتَذَمَّرُ عَلَى ربهِ ـ أي : يجترئ عليه انبساط ـ فقلت : وهل يليق له ذلك ؟ فقال : يعرفه ؛ فيتحمل عنه ". ثم قال : ولا يجوز الانبساط إلا لمن كان على وصفهم. هـ. قال في الصحاح : يَتَذَمَّرُ على فلان : إذا تَنَكَّرَ له وأَوعَدَهُ. قاله المحشي.
والحاصل أن إبراهيم عليه السلام حملته الشفقة والرحمة، حتى صدر، منه ما صدر مع خلته واصطفائيته، فالشفقة والرحمة من شأن الصالحين والعارفين المقربين، غير أن العارفين بالله مع مراد مولاهم، يشفقون على عباد الله، ما لم يتعين مراد الله، فالله أرحم بعباده من غيره. ولذلك قال لخليله، لما تعين قضاؤه :﴿ يا إبراهيم أعرض عن هذا ﴾. فالشفقة التي تؤدي إلى معارضة القدر لا تليق بأهل الأقدار، وفي الحكم " ما ترك من الجهل شيئاً من أراد أن يحدث في الوقت غير ما أظهره الله ". ولهذا قالوا : الشفقة لا تليق بالأولياء.
قال جعفر الصادق ـ رحمه الله ـ : ست خصال لا تحس بستة رجال : لا يحسن الطمع في العلماء، ولا العجلة في الأمراء، ولا الشح في الأغنياء، ولا الكبر في الفقراء، ولا الشفقة في المشايخ، ولا اللؤم في ذوي الأحساب. وقولنا : الشفقة لا تليق بالأولياء، يعني إذا تعين مراد الله، أو إذا ظهرت المصلحة في عدمها، كأمر الشيخ المريد بما تموت به نفسه، فإذا كان الشيخ يحن على الفقراء في هذا المعنى لا تكمل تربيته. والله تعالى أعلم.
وفي الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" لما أُسري بي رأيت رجلاً في الحضرة يتذمر، فقلت لجبريل : من هذا ؟ فقال : أخوك موسى يَتَذَمَّرُ عَلَى ربهِ ـ أي : يجترئ عليه انبساط ـ فقلت : وهل يليق له ذلك ؟ فقال : يعرفه ؛ فيتحمل عنه ". ثم قال : ولا يجوز الانبساط إلا لمن كان على وصفهم. هـ. قال في الصحاح : يَتَذَمَّرُ على فلان : إذا تَنَكَّرَ له وأَوعَدَهُ. قاله المحشي.
والحاصل أن إبراهيم عليه السلام حملته الشفقة والرحمة، حتى صدر، منه ما صدر مع خلته واصطفائيته، فالشفقة والرحمة من شأن الصالحين والعارفين المقربين، غير أن العارفين بالله مع مراد مولاهم، يشفقون على عباد الله، ما لم يتعين مراد الله، فالله أرحم بعباده من غيره. ولذلك قال لخليله، لما تعين قضاؤه :﴿ يا إبراهيم أعرض عن هذا ﴾. فالشفقة التي تؤدي إلى معارضة القدر لا تليق بأهل الأقدار، وفي الحكم " ما ترك من الجهل شيئاً من أراد أن يحدث في الوقت غير ما أظهره الله ". ولهذا قالوا : الشفقة لا تليق بالأولياء.
قال جعفر الصادق ـ رحمه الله ـ : ست خصال لا تحس بستة رجال : لا يحسن الطمع في العلماء، ولا العجلة في الأمراء، ولا الشح في الأغنياء، ولا الكبر في الفقراء، ولا الشفقة في المشايخ، ولا اللؤم في ذوي الأحساب. وقولنا : الشفقة لا تليق بالأولياء، يعني إذا تعين مراد الله، أو إذا ظهرت المصلحة في عدمها، كأمر الشيخ المريد بما تموت به نفسه، فإذا كان الشيخ يحن على الفقراء في هذا المعنى لا تكمل تربيته. والله تعالى أعلم.
﴿ وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ ﴾ * ﴿ وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللًّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ ﴾ * ﴿ قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ ﴾ * ﴿ قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِيا إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ﴾ * ﴿ قَالُواْ يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الْلَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ﴾ * ﴿ فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ ﴾ * ﴿ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ﴾
قلت :( سيء ) : مبني للمفعول، صلة : سَوِئ، نُقلت حركة الواو إلى السين بعد ذهاب حركتها، ثم قلبت الواو ياء. و( ذرعاً ) : تمييز محول عن الفاعل، أي : ضاق ذرعه، وهو كناية عن شدة الانقباض عن مدافعة الأمر المكروه، وعجزه عن مقاومته. و( لو أن لي بكم قوة ) : إما للتمني فلا جواب له، أو محذوف، أي : لدفعت.
يقول الحق جلاله :﴿ ولما جاءت رسلُنا ﴾، وهم الملائكة المتقدمون، ﴿ لوطاً سِيءَ بهم ﴾ ساءه مجيئهم ؛ لأنهم أتوه في صورة غلمان حسان الوجوه، فظن أنهم بشر، فخاف عليهم من قومه أن يقصدوهم للفاحشة، ولا يقدر على مدافعتهم، ﴿ وضاقَ بهم ذرعاً ﴾ أي : ضاق صدره بهم، ﴿ وقال هذا يومٌ عصيبٌ ﴾ : شديد من عصبه : إذا شده، ورُوي أن الله تعالى قال لهم : لا تهلكوا قومه حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات، فلما مشى معهم منطلقاً بهم إلى منزله، قال لهم : أما بلغكم أمر هذه القرية ؟ قالوا : وما أمرهم ؟ قال : أشهد بالله أنها شرُّ قرية في الأرض عملاً. قال ذلك أربع مرات. فدخلوا منزله، ولم يعلم بذلك أحد، فخرجت امرأته فأخبرتهم.
﴿ قال يا قوم هؤلاء بناتي ﴾ تزوجوهن، وكانوا يطلبونهن قبل، فلا يجيبهم لخبثهم، وعدم كفاءتهم، لا لحرمة المسلمات على الكفار، فإنه شرع طارئ ؛ قال ابن جزي : وإنما قال لهم ذلك ؛ ليقي أضيافه ببناته. قيل : إن اسم بناته، الواحدة : ريثا، والأخرى : غوثاً. ه. ولم يذكر الثالثة، فعرضهن عليهم، وقال :﴿ هنَّ أطهرُ لكم ﴾ ؛ أحل لكم، أو أقل فحشاً، كقولك : الميتة أطيب من المغضوب، ﴿ فاتقوا الله ﴾ بترك الفواحش، ﴿ ولا تُحزون ﴾ ؛ لا تفضحوني ﴿ في ضيفي ﴾ ؛ في شأنهم، فإن افتضاح ضيف الرجل خزي له. ﴿ أليس منكم رجلٌ رشيدٌ ﴾ ؛ عاقل يهتدي إلى الحق ويرعوي عن القبيح.
رُوي أنه أغلق بابه دون أضيافه، وأخذ يجادلهم من وراء الباب، فتسوروا الجدار، فلما رأت الملائكة ما على لوط من الكرب، ﴿ قالوا يا لوطُ إنا رُسلُ ربك لن يصلُوا إليك ﴾ : لن يصلوا إلى إضرارك بإضرارنا، فهو عليك ودَعْنا وإياهم. فخلاهم، فلما دخلوا ضرب. جبريل عليه السلام بجناحيه وجوههم، فطمس أعينهم، وأعمالهم، فخرجوا يقولون : النجاء ؛ النجاء في بيت لوط سحرة، فقالت الملائكة للوط عليه السلام :﴿ فأسرٍ بأهلك ﴾ ؛ سِر بهم ﴿ بقطع من الليل ﴾ : بطائفة منه، ﴿ ولا يلتفت منكم أحدٌ ﴾ : لا يتخلف، أو لا ينظر إلى ورائة ؛ لئلا يرى ما يهوله. والنهي في المعنى يتوجه إلى لوط، وإن كان في اللفظ مسنداً إلى أحد.
﴿ إلا امرأتك ﴾، اسمها : واهلة، أي : فلا تسر بها، أو : ولا ينظر أحد منكم إلى ورائه إلا امرأتك ؛ فإنها تنظر. رُوي أنها خرجت معه، فلما سمعت صوات العذاب التفتت وقالت : يا قوماه ؛ فأدركها حجر فقتلها، ولذلك قال :﴿ أنه مُصيبُها ما أصابهم ﴾ من العذاب، ﴿ إن موعدَهُم ﴾ وقت ﴿ الصُّبحُ ﴾ في نزول العذاب بهم، فاستبطأ لوط وقتَ الصبح، وقال : هلا عُذبواْ الآن ؟ فقالوا :﴿ أليس الصبح بقريب ﴾.
﴿ وأمطرنا عليهم ﴾ ؛ على المدائن، أي : أهلها، أو على ما حولها. رُوي أنه من كان منهم خارجَ المدائن أصابته الحجارة من السماء، وأما من كان في المدائن، فهلك لمّا قلبت. فأرسلنا عليهم :﴿ حجارةً من سجيل ﴾ : من طين طبخ بالنار، أو من طين متحجر كقوله :﴿ حِجَارَةً مِّن طِينٍ ﴾ [ الذاريات : ٣٣ ]، وأصلها : سنكِين، ثم عرب، وقيل : إنه من أسجله إذا أرسله، أي : من مثل الشيء المرسل، وقيل : أصله من سجين، أي جهنم، ثم أبدلت نونه لاماً، ﴿ منضود ﴾ : مضموم بعضه فوق بعض، معداً لعذابهم، أو متتابع يتبع بعضه بعضاً في الإرسال، كقطر الأمطار.
قال ابن جزي : الضمير للحجارة، والمراد بالظالمين : كفار قريش، فهذا تهديد لهم، أي : ليس الرمي بالحجارة ببعيد منهم ؛ لأجل كفرهم، وقيل : الضمير للمدائن، أي : ليس مدائنهم ببعيد منهم ؛ أفلا يعتبرون بها. كقوله :﴿ وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ ﴾ [ الفرقان : ٤٠ ]. وقيل : الظالمين على العموم. ه. وقال البيضاوي : وعنه عليه الصلاة والسلام :«أَنَّهُ سَأَلَ جِبريل، فَقَال يَعني : ظَالِمي أُمتِكَ، مَا مِنْ ظَالمٍ منهم ؛ إِلاَّ هوَ معرض لحَجَرٍ يَسقُط مَنْ سَاعَةٍ إلى ساعة »ه.
﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ ﴾ * ﴿ وَيا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾ * ﴿ بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ﴾
قلت :«مفسدين » : حال مؤكده لمعنى عاملها، وهو :«لا تعثوا ». وفائدة ذكره : إخراج ما يُقصد به الإصلاح، كما فعله الخضر عليه السلام.
يقول الحق جل جلاله :﴿ و ﴾ أرسلنا ﴿ إلى مَدْيَنَ أخاهم شعيباً ﴾، أراد أولاد مدين بن إبراهيم عليه السلام أو أهل مدين، وهي بلدهُ، فسميت باسمه، ﴿ قال يا قوم اعبدوا الله ﴾ وحده ؛ ﴿ ما لكم من إله غيره ولا تَنقُضوا المكيالَ والميزان ﴾، وكانوا مطففين. أمرهم أولاً بالتوحيد ؛ فإنه رأس الأمر، ثم نهاهم عما اعتادوا من : البخس المنافي للعدل، المخل بحكمة المعاوضة، ثم قال لهم :﴿ إني أراكم بخيرٍ ﴾ ؛ بسعة كرخص الأسعار، وكثرة الأرزاق، فينبغي أن تشكروا عليها، وتتعففوا بها عن البخس، لا أن تنقضوا الناس حقوقهم، أو بسعة ونعمة، فلا تزيلوها بما أنتم عليه ؛ فإن من لم يشكر النعم فقد تعرض لزوالها، ﴿ وإني أخاف عليكم عذابَ يوم محيط ﴾ ؛ يوم القيامة، فإنه محيط بكل ظالم، أو عذاب الاستئصال في الدنيا، ووصف اليوم بالإحاطة، وهي صفة العذاب ؛ لاشتماله عليه.
والمقامات التي ينزل فيها المريد : التوبة، الخوف، الرجاءُ، والورع، والزهد، والتوكل، والصبر، والرضى، والتسليم، والمحبة، والمراقبة، والمشاهدة بالفناء ثم البقاء، أو الإسلام، ثم الإيمان، ثم الإحسان. فلا ينتقل من مقام إلى ما بعده حتى يحقق المقام الذي هو فيه، ذوقاً وحالاً. وقيل : يجوز أن ينتقل إلى ما بعده إذا كان ذا قريحة فتحقق له ما قبله. والله تعالى أعلم. وطريق الشاذلية مختصرة، تطوي عن المريد هذه المقامات، فينزل في أول قدم في مقام الإحسان، شعر أم لا، ثم يحصل الفناء ثم البقاء، إن وجد شيخاً كاملاً تربى على يد شيخ كامل، وإلا فلا.
وقول الجنيد رضي الله عنه :( عمل خفي )، اعلم أن الخفاء على ثلاثة أقسام : خفاء عوام الصالحين، وهو : إخفاء الأعمال عن الناس مخافة الرياء. وخفاء المريدين، وهو : الإخفاء عن ملاحظة الخلق ومراقبتهم، ولو كانوا بين أظهرهم، فإخفاؤهم قلبي لا قالبي. وخفاء العارفين الواصلين، وهو : الإخفاء عن رؤية النفس، فهم يغيبون عن أنفسهم ووجودهم، في حال أعمالهم، فليس لهم عن نفوسهم إخبار، ولا مع غير الله قرار. والله تعالى أعلم.
﴿ ولا تبخسوا الناسَ أشياءهم ﴾ لا تنقصوهم حقهم، وهو تعميم بعد تخصيص، فإنه أعم من أن يكون في الميزان والمكيال وفي غيره، وكذا قوله :﴿ ولا تَعْثَوا في الأرض مفسدين ﴾ ؛ فإن العثو وهو الفساد يعم تنقيص الحقوق وغيره من أنواع الفساد. وقيل : المراد بالبخس : المكس، كأخذ العشور في المعاملات، والعثو : السرقة وقطع الطريق والغارة، وأكد بقوله :﴿ مفسدين ﴾ وفائدته : إخراج ما يقصد به الإصلاح، كما فعل الخضر عليه السلام، وقيل : معناه : مفسدين أمر دينكم ومصالح آخرتكم. قاله البيضاوي.
والمقامات التي ينزل فيها المريد : التوبة، الخوف، الرجاءُ، والورع، والزهد، والتوكل، والصبر، والرضى، والتسليم، والمحبة، والمراقبة، والمشاهدة بالفناء ثم البقاء، أو الإسلام، ثم الإيمان، ثم الإحسان. فلا ينتقل من مقام إلى ما بعده حتى يحقق المقام الذي هو فيه، ذوقاً وحالاً. وقيل : يجوز أن ينتقل إلى ما بعده إذا كان ذا قريحة فتحقق له ما قبله. والله تعالى أعلم. وطريق الشاذلية مختصرة، تطوي عن المريد هذه المقامات، فينزل في أول قدم في مقام الإحسان، شعر أم لا، ثم يحصل الفناء ثم البقاء، إن وجد شيخاً كاملاً تربى على يد شيخ كامل، وإلا فلا.
وقول الجنيد رضي الله عنه :( عمل خفي )، اعلم أن الخفاء على ثلاثة أقسام : خفاء عوام الصالحين، وهو : إخفاء الأعمال عن الناس مخافة الرياء. وخفاء المريدين، وهو : الإخفاء عن ملاحظة الخلق ومراقبتهم، ولو كانوا بين أظهرهم، فإخفاؤهم قلبي لا قالبي. وخفاء العارفين الواصلين، وهو : الإخفاء عن رؤية النفس، فهم يغيبون عن أنفسهم ووجودهم، في حال أعمالهم، فليس لهم عن نفوسهم إخبار، ولا مع غير الله قرار. والله تعالى أعلم.
والمقامات التي ينزل فيها المريد : التوبة، الخوف، الرجاءُ، والورع، والزهد، والتوكل، والصبر، والرضى، والتسليم، والمحبة، والمراقبة، والمشاهدة بالفناء ثم البقاء، أو الإسلام، ثم الإيمان، ثم الإحسان. فلا ينتقل من مقام إلى ما بعده حتى يحقق المقام الذي هو فيه، ذوقاً وحالاً. وقيل : يجوز أن ينتقل إلى ما بعده إذا كان ذا قريحة فتحقق له ما قبله. والله تعالى أعلم. وطريق الشاذلية مختصرة، تطوي عن المريد هذه المقامات، فينزل في أول قدم في مقام الإحسان، شعر أم لا، ثم يحصل الفناء ثم البقاء، إن وجد شيخاً كاملاً تربى على يد شيخ كامل، وإلا فلا.
وقول الجنيد رضي الله عنه :( عمل خفي )، اعلم أن الخفاء على ثلاثة أقسام : خفاء عوام الصالحين، وهو : إخفاء الأعمال عن الناس مخافة الرياء. وخفاء المريدين، وهو : الإخفاء عن ملاحظة الخلق ومراقبتهم، ولو كانوا بين أظهرهم، فإخفاؤهم قلبي لا قالبي. وخفاء العارفين الواصلين، وهو : الإخفاء عن رؤية النفس، فهم يغيبون عن أنفسهم ووجودهم، في حال أعمالهم، فليس لهم عن نفوسهم إخبار، ولا مع غير الله قرار. والله تعالى أعلم.
﴿ قَالُواْ يا شُعَيْبُ أَصَلواتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ﴾
قلت :«تأمرك أن نترك » : على حذف مضاف، أي : تأمرك بتكليف أن نترك ؛ لأن الرجل لا يُؤمر بفعل غيره. و( أن نفعل ) : عطف على ( ما ) ؛ أي : أو نترك فعلنا في أموالنا ما نشاء.
يقول الحق جل جلاله :﴿ قالوا يا شعيب أصلواتك ﴾ التي تُكثر منها هي التي ﴿ تأمرك ﴾ أن تأمرنا ﴿ أن نترك ما يعبد آباؤنا ﴾ من الأصنام، وندخل معك في دينك المحدث، أجابوا به ما أمرهم به من التوحيد بقوله :﴿ ما لكم من إله غيره ﴾، على وجه التهكم والاستهزاء بصلواته. وكان كثير الصلاة، ولذلك جمعوها وخصوها بالذكر. وقرأ الأخوان وحفص بالإفراد المراد به الجنس.
ثم أجابوه عن نهيهم عن التطفيف وأمرهم بالإيفاء، فقالوا :﴿ أو ﴾ نترك ﴿ أن نفعل في أموالنا ما نشاء ﴾ من البخس وغيره ؟ وقيل : كانوا يقطعون الدراهم والدنانير، فنهاهم عن ذلك. . ﴿ إنك لأنت الحليم الرشيد ﴾، تهكموا به وقصدوا وصفه بضده، من خفة العقل والسفه ؛ لأن العاقل عندهم هو الحرص على جمع الدنيا وتوفيرها، وهو الحمق عند العقلاء، أو إنك موسوم بالحلم والرشد ؛ فلا ينبغي لك أن تنهانا عن تنمية أموالنا والتصرف فيها. والله تعالى أعلم.
الإشارة : الإنكار على من أمر بالخروج عن العوائد والتقلل من الدنيا من طبع أهل الكفر والجهل، وكذلك رميه بالحمق والسفه. فلا تجد الناس اليوم يعظمون إلا من أقرهم على توفير دنياهم ورئاستهم. والتكاثر منها، وأما من زهدهم فيها وأمرهم بالقناعة، فإنهم يرفضونه، ويحمقونه. وهذا طبع من طبع الأمم الخالية، الجاهلة بالله، وبما أمر به، وفي الحديث :" لَتَتبعُنَّ سَننَ مَن قَبلِكُم شِبراً بِشبر، وذرَاعاً بِذرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلْوا جُحْرَ ضَبٍّ لدخَلتُمُوه ". وبالله التوفيق.
﴿ قَالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِيا إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾ * ﴿ وَيا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ ﴾ * ﴿ وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوااْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ﴾
قلت : جواب " إن كنت " : محذوف، أي : فهل ينبغي أن أخون في وحيه وأخالفه في أمره.
يقول الحق جل جلاله :﴿ قال ﴾ شعيب لقومه :﴿ يا قوم أرأيتم إن كنتم على بينةٍ من ربي ﴾، وهي النبوة والعلم والحكمة، ﴿ ورزقني منه ﴾ ؛ من عنده، وبإعانته، بلا كد في تحصيله، ﴿ رزقاً حسناً ﴾ : حلالاً، إشارة إلى من آتاه من المال الحلال. فهل يسع لِي بعد هذا الإنعام، الجامع للسعادات الروحانية والجسمانية، أن أخون في وحيه، وأخالفه في أمره ونهيه، حتى لا أنهاكم عن عبادة الأوثان، والكف عن العصيان، والأنبياء لا يبعثون إلا بذلك، وهذا منه اعتذار لما أنكروا عليه من الأمر بالخروج عن عوائدهم، وترك ما ألفوه من دينهم الفاسد، أي : كيف أترك ما أمرني به ربي من تبليغ وحيه، وأنا على بينة منه، وقد أغناني الله عنكم وعن غيركم. ولذلك قال إثره :﴿ وما أريدُ أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ﴾ أي : وما أريد أن آتي ما أنهاكم عنه ؛ لأَستبد به دونكم، فتتهموني إن أردت الاستبداد به. يقال : خالفني فلان إلى كذا : إذا قصده، وأنت مول عنه، وخالفني عنه : إذا ولى عنه وأنت قاصده. ﴿ إن أريدُ إلا صلاحَ ما استطعت ﴾ أي : ما أريد إلا أن أصلحكم بأمري لكم بالمعروف، ونهيي لكم عن المنكر جهد استطاعتي.
قال البيضاوي : ولهذه الأجوبة الثلاثة على هذا النسق شأن، وهو التنبيه على أن العاقل يجب أن يراعي في كل ما يأتيه ويذره أحد حقوق ثلاثة : أهمها وأعلاها : حق الله تعالى. وثانيها : حق النفس، وثالثها : حق الناس. ه. قلت : فحق الله : كونه على بينة من ربه، وحق النفس : تمكينه من الرزق الحسَن. وحق الناس : نصحهم من غير طمع، ولا حظ.
ثم قال :﴿ وما توفيقي إلا بالله ﴾ ؛ وما توفيقي لإجابة الحق، والصواب إلا بهدايته ومعونته، ﴿ عليه توكلتُ ﴾ ؛ فإنه القادر على كل شيء، وما عداه عاجز بل معدوم، ساقط عن درجة الاعتبار. وفيه إشارة إلى محض التوحيد، الذي هو أقصى مراتب العلم بالله. ﴿ وإليه أُنيب ﴾ ؛ أرجع في جميع أموري.
الأولى : فتح البصيرة، ونفوذ العزيمة، وتنوير القلب بمعرفة الله، حتى يكون على بينة من ربه.
الثانية : تيسير الرزق الحلال، من غير تعب ولا مشقة، يستعين به على طاعة ربه، ويقوم به بمؤنة أمره.
الثالثة : السعي في إصلاح عباد الله وإرشادهم، ودعاؤهم إلى الله من غير طمع ولا حرف، ويكون حاله يصحح مقاله، فلا يترك ما أمر به، ولا يفعل ما نهى عنه.
الرابعة : الاعتماد على الله والرجوع إليه في توفيقه وتسديده، وفي أمر دنياه ودينه، بحيث لا يرجو إلا الله، ولا يخاف إلا منه.
الخامسة : الحذر والتحذير من مخالفة ما جاءت به الرسل من عند الله، والتمسك بما أمروا به من طاعة الله، والاعتذار بمن هلك قبله ممن خالف أمر الله.
السادسة : تحقيق التوبة والانكسار، والإكثار من الذكر والاستغفار. فذلك سبب المودة من الكريم الغفار. ولأجل هذه الخطبة سُمي شعيب خطيب الأنبياء. والله تعالى أعلم.
الأولى : فتح البصيرة، ونفوذ العزيمة، وتنوير القلب بمعرفة الله، حتى يكون على بينة من ربه.
الثانية : تيسير الرزق الحلال، من غير تعب ولا مشقة، يستعين به على طاعة ربه، ويقوم به بمؤنة أمره.
الثالثة : السعي في إصلاح عباد الله وإرشادهم، ودعاؤهم إلى الله من غير طمع ولا حرف، ويكون حاله يصحح مقاله، فلا يترك ما أمر به، ولا يفعل ما نهى عنه.
الرابعة : الاعتماد على الله والرجوع إليه في توفيقه وتسديده، وفي أمر دنياه ودينه، بحيث لا يرجو إلا الله، ولا يخاف إلا منه.
الخامسة : الحذر والتحذير من مخالفة ما جاءت به الرسل من عند الله، والتمسك بما أمروا به من طاعة الله، والاعتذار بمن هلك قبله ممن خالف أمر الله.
السادسة : تحقيق التوبة والانكسار، والإكثار من الذكر والاستغفار. فذلك سبب المودة من الكريم الغفار. ولأجل هذه الخطبة سُمي شعيب خطيب الأنبياء. والله تعالى أعلم.
الأولى : فتح البصيرة، ونفوذ العزيمة، وتنوير القلب بمعرفة الله، حتى يكون على بينة من ربه.
الثانية : تيسير الرزق الحلال، من غير تعب ولا مشقة، يستعين به على طاعة ربه، ويقوم به بمؤنة أمره.
الثالثة : السعي في إصلاح عباد الله وإرشادهم، ودعاؤهم إلى الله من غير طمع ولا حرف، ويكون حاله يصحح مقاله، فلا يترك ما أمر به، ولا يفعل ما نهى عنه.
الرابعة : الاعتماد على الله والرجوع إليه في توفيقه وتسديده، وفي أمر دنياه ودينه، بحيث لا يرجو إلا الله، ولا يخاف إلا منه.
الخامسة : الحذر والتحذير من مخالفة ما جاءت به الرسل من عند الله، والتمسك بما أمروا به من طاعة الله، والاعتذار بمن هلك قبله ممن خالف أمر الله.
السادسة : تحقيق التوبة والانكسار، والإكثار من الذكر والاستغفار. فذلك سبب المودة من الكريم الغفار. ولأجل هذه الخطبة سُمي شعيب خطيب الأنبياء. والله تعالى أعلم.
﴿ قَالُواْ يا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ ﴾ * ﴿ قَالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴾ * ﴿ وَيا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُواْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ قالوا يا شعيبُ ما نفقه ﴾ ؛ ما نفهم ﴿ كثيراً مما تقول ﴾ من أمر التوحيد، وترك التبخيس، وما ذكرت من الدليل عليها ؛ وذلك لانهماكهم في الهوى، وقصور عقلهم وعدم تفكرهم. وقيل : قالوا ذلك استهانة بكلامه، أو لأنهم لم يلقوا إليه أذهانهم لشدة نفرتهم. ثم قالوا :﴿ وإنا لنراك فينا ضعيفاً ﴾ ؛ لا قوة لك تمتنع بها منا إن أردنا بك سوءاً، أو : نراك ناحل البدن، أو : ضرير البصر. وضعفه ابن عطية. ﴿ ولولا رهطُك ﴾ أي : قومك، الذين هم باقُون على ما ملتنا، وكونهم في عزة عندنا، ﴿ لرجَمْنَاكَ ﴾ : لقتلناك بالحجارة. أو بأصعب وجه، ﴿ وما أنت علينا بعزيز ﴾ ؛ فتمنعنا عزتك من رجمك.
قال البيضاوي : وهذا ديدن السفيه المحجوج، يقابل الحجج والآيات بالسب والتهديد. وفي إيلاء ضميره حرف النفي تنبيه على أن الكلام فيه لا في ثبوت العزة، وأن المانع لهم من إيذائه عزة قومه. ولذلك قال :﴿ يا قوم أرَهْطِي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءَكم ظِهْرياً ﴾.
﴿ إن ربي بما تعملون محيط ﴾ فلا يخفى عليه شيء منها، فيجازي عليها بتمامها.
﴿ ويا قوم اعملوا على مكانتكم ﴾ : على حالتكم من تمكنكم في الدنيا، وعزتكم فيها، ﴿ إني عامل ﴾ على حالي، ﴿ سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ﴾، يُهينه في الدنيا والآخرة، ﴿ و ﴾ سوف تعلمون ﴿ من هو كاذب ﴾ مني ومنكم، ﴿ وارتقبوا ﴾ ؛ وانتظروا ما أقول لكم، ﴿ إني معكم رقيب ﴾ : مرتقب لذلك. وهو فعيل بمعنى فاعل، كالصريح والرفيع. والله تعالى أعلم.
﴿ وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾ * ﴿ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ ولما جاء أمرنُا ﴾ : عذابنا لقوم شعيب، ﴿ نجينا شعيباً والذين آمنوا معه برحمة منا ﴾، لا بعمل استحقوا به ذلك ؛ إذ كل من عنده، ﴿ وأخذت الذين ظلموا الصيحةُ ﴾ قيل : صاح بهم جبريل فهلكوا، ﴿ فأصبحوا في ديارهم جاثمين ﴾ : ميتين. وأصل الجثوم : اللزوم في المكان.
قال قتادة : بعث الله شعيباً إلى أمتين : أصحاب الأيكة، وأصحاب مدين، فأهلك أصحاب الأيكة بالظلة، على ما يأتي، وأما أهل مدين فصاح بهم جبريل صيحة ؛ فهلكوا أجمعين. قيل : وآمن بشعيب من الفئتين : تسعمائة إنسان. وكان أهل الأيكة أهل غيطة وشجر، وكان شجرهم الدَّوْم٢ وهو شجر المُقْل.
٢ الدوم: شجر يشبه النخلة..
﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ﴾ * ﴿ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ﴾ * ﴿ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ﴾ * ﴿ وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ ولقد أرسلنا موسى بآياتنا ﴾ ؛ بمعجزاتنا الدالة على صدقه، ﴿ وسلطان مبين ﴾ ؛ وتسلط ظاهر على فرعون، أو برهان بيِّن على نبوته. قال البيضاوي : والفرق بينهما : أن الآية تعم الأمارة والدليل القاطع، والسلطان يخص بالقاطع، والمبين يخص بما فيه جلاء. ه
عن المرءِ لا تسأل وسَلْ عن قرينه | فكلُّ قرينٍ بالمُقارَنِ يَقْتَدي |
عن المرءِ لا تسأل وسَلْ عن قرينه | فكلُّ قرينٍ بالمُقارَنِ يَقْتَدي |
عن المرءِ لا تسأل وسَلْ عن قرينه | فكلُّ قرينٍ بالمُقارَنِ يَقْتَدي |
عن المرءِ لا تسأل وسَلْ عن قرينه | فكلُّ قرينٍ بالمُقارَنِ يَقْتَدي |
﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ ﴾ * ﴿ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَاكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ لَّمَّا جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ ﴾ * ﴿ وَكَذالِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ * ﴿ إِنَّ فِي ذالِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذالِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ ﴾ * ﴿ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ ﴾
قلت :( ذلك ) : مبتدأ. و( من أنباء ) : خبر، و( نقصه ) : خبر ثان. وجملة :( منها قائم وحصيد ) : استئنافية لا حالية ؛ لعدم الرابط.
يقول الحق جل جلاله :﴿ ذلك ﴾ النبأ الذي أخبرناك به في هذه السورة، هو ﴿ من أنباء القرى ﴾ الماضية المهلَكة، ﴿ نقصه عليك ﴾، ونخبرك به ؛ تهديداً لأمتك وتسلية لك. ﴿ منها ﴾ ما هو ﴿ قائم ﴾ البناء باقي الأثر، ﴿ و ﴾ منها ﴿ حصيد ﴾ أي : محصود عافي الأثر، كالزرع المحصود. أو : منها ما هو ساكن بقوم آخرين، قائم العمارة بغير من هلك، ومنها ما هو دارس عفى أثره، واندرست أطلالُه.
﴿ ذلك ﴾ أي : يوم القيامة الذي وقع التخويف به، ﴿ يوم مجموعٌ له الناسُ ﴾ : محشورون إليه أينما كانوا. وعبَّر باسم المفعول دون الفعل ؛ للدلالة على الثبوت والاستقرار، ليكون أبلغ ؛ لأن " مجموع " أبلغ من " يجمع ". ﴿ وذلك يوم مشهود ﴾ أي : تشهده أهل السماوات وأهل الأرض ؛ لفصل القضاء، ويحضره الأولون والآخرون، لاقتضاء الثواب والعقاب. فاليوم مشهود فيه، فحذف الظرف اتساعاً. .
﴿ يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ﴾ * ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ﴾ * ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ﴾ * ﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ﴾
قلت :( يوم يأتي ) : العامل في الظرف :" لا تكلم "، أو : اذكر، مضمر. والضمير في " يأتي " : يعود على اليوم. وقال الزمخشري : يعود على " الله " ؛ لعود الضمير عليه في قوله :( إلا بإذنه )، وضمير " منهم " على أهل الموقف المفهوم من قوله :( لا تكلم نفس ).
يقول الحق جل جلاله :﴿ يوم يأتي ﴾ ذلك اليوم المشهود، وهو : يوم الجزاء ﴿ لا تكلم ﴾ ؛ لا تتكلم ﴿ نفس ﴾ بما ينفع وينجي في جواب أو شفاعة ﴿ إلا بإذنه ﴾ تعالى، وهذا كقوله :
﴿ لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَان ﴾ [ النبأ : ٣٨ ]، وهذا موقف، وقوله :﴿ هَذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ﴾ [ المرسلات : ٣٥ ٣٨ ]، في موقف آخر. والمأذون فيه هي الجوابات الحقية، أو الشفاعات المرضية، والممنوع منه هي الأعذار الباطلة.
ثم قسّم أهل الموقف، فقال :﴿ فمنهم شقي ﴾ وجبت له النار بمقتضى الوعيد ؛ لكفره وعصيانه. ﴿ و ﴾ منهم ﴿ سعيد ﴾ وجبت له الجنة بمقتضى الوعد ؛ لإيمانه وطاعته.
قال في نوادر الأصول : الشقاوة : فراق العبد من الله، والسعادة اندساسه إليه. هـ. وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه في حزبه الكبير : والسعيد من أغنيته عن السؤال منك، والشقي حقاً من حرمته مع كثرة السؤال لك.
قال شيخ شيوخنا ـ سيدي عبد الرحمان الفاسي ـ في حاشيته عليه : ومدار السعادة : الجمع على الله والغيبة عمن سواه، فيفنى العبد عن وجوده، ويبقى بربه، فيشغله استغراقه في شهوده عن الشعور بغيريته، وينمحي عنه أمل شيء يرجى، أو خوف شيء يُتقى، فليس له عن سوى الحق إخبار، ولا مع غيره قرار. وعندما حل بهذه الحضرة، وظفر بقُرة عينه، وحياة روحه، وسر حياته، لا يتصور منه سُول، ولا فوات مأمول، " أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون، فإذا شهدته كانت الأكوان معك "، " اشْتَاقَتْ الجَنَّةُ إِلى عَليِّ وعَمَّارٍ وسَلمَانَ وصهيب وبلال " كما في الأثر. نعم، إن رد إليه تصور منه الدعاء على وجه العبودية، وأداء الأمر وإظهار الفاقة، لا على وجه الاقتضاء والسببية. " جل حكم الأزل أن ينضاف إلى الأسباب والعلل ".
ثم قال : وعلى ما تقرر في السعادة، فالشقاوة : احتجاب العبد بوجوده عن شهوده، فلا يَنفَكُّ عن أمل، ولا عن خوف عطب. فيستحثه الطبع للسؤال جلباً أو دفعاً. وهو في ذلك في شقاء، سواء أعطى أو منع ؛ لفقده قرةَ عينه وراحة قلبه، لأسْره في طبعه، ومكابدة أمره وهلعه. كما قال تعالى :﴿ إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً ( ١٩ ) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً ( ٢٠ ) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً ( ٢١ ) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ( ٢٢ ) ﴾ [ المعارج : ١٩ـ ٢٢ ]، فلم يستثن من كد الطبع ومكابدته غير أهل الصلاة الدائمة، وهم أهل الوجهة لله، المواجَهين بعناية الله، المتحققين بذكر الله. وقد وَرَدَ :" هُمُ القَوْم لاَ يَشْفَى جَلِيسُهُم " فضلاً عنهم. وعلى الجملة : فالمراد بالسعادة والشقاوة في كلامه ـ أي الشاذلي ـ الباطنة لا الظاهرة، والقلبية لا القالبية. وإن كان قد تطلق على ذلك أيضاً، لكن لكل مقام مقال. وقد قال تعالى :﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى ﴾ [ طه : ١٢٣ ].
قال في نوادر الأصول : تَابعُ القرآن قد أجير من شقاء العيش في الدنيا ؛ لراحة قلبه من غموم الدنيا وظلماتها، وسَيره في الأمور بقلبه في راحة ؛ لأنه منشرحُ الصدر واسعه، وبدنه في راحة ؛ لأنه ميسر عليه أمور الدنيا، تُهيأ له في يسر ؛ لضمان الله، واكتنافه له. وكذا يجار في الآخرة من شقاء العيش في سجون النيران. أعاذنا الله من ذلك. هـ.
قال في نوادر الأصول : الشقاوة : فراق العبد من الله، والسعادة اندساسه إليه. هـ. وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه في حزبه الكبير : والسعيد من أغنيته عن السؤال منك، والشقي حقاً من حرمته مع كثرة السؤال لك.
قال شيخ شيوخنا ـ سيدي عبد الرحمان الفاسي ـ في حاشيته عليه : ومدار السعادة : الجمع على الله والغيبة عمن سواه، فيفنى العبد عن وجوده، ويبقى بربه، فيشغله استغراقه في شهوده عن الشعور بغيريته، وينمحي عنه أمل شيء يرجى، أو خوف شيء يُتقى، فليس له عن سوى الحق إخبار، ولا مع غيره قرار. وعندما حل بهذه الحضرة، وظفر بقُرة عينه، وحياة روحه، وسر حياته، لا يتصور منه سُول، ولا فوات مأمول، " أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون، فإذا شهدته كانت الأكوان معك "، " اشْتَاقَتْ الجَنَّةُ إِلى عَليِّ وعَمَّارٍ وسَلمَانَ وصهيب وبلال " كما في الأثر. نعم، إن رد إليه تصور منه الدعاء على وجه العبودية، وأداء الأمر وإظهار الفاقة، لا على وجه الاقتضاء والسببية. " جل حكم الأزل أن ينضاف إلى الأسباب والعلل ".
ثم قال : وعلى ما تقرر في السعادة، فالشقاوة : احتجاب العبد بوجوده عن شهوده، فلا يَنفَكُّ عن أمل، ولا عن خوف عطب. فيستحثه الطبع للسؤال جلباً أو دفعاً. وهو في ذلك في شقاء، سواء أعطى أو منع ؛ لفقده قرةَ عينه وراحة قلبه، لأسْره في طبعه، ومكابدة أمره وهلعه. كما قال تعالى :﴿ إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً ( ١٩ ) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً ( ٢٠ ) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً ( ٢١ ) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ( ٢٢ ) ﴾ [ المعارج : ١٩ـ ٢٢ ]، فلم يستثن من كد الطبع ومكابدته غير أهل الصلاة الدائمة، وهم أهل الوجهة لله، المواجَهين بعناية الله، المتحققين بذكر الله. وقد وَرَدَ :" هُمُ القَوْم لاَ يَشْفَى جَلِيسُهُم " فضلاً عنهم. وعلى الجملة : فالمراد بالسعادة والشقاوة في كلامه ـ أي الشاذلي ـ الباطنة لا الظاهرة، والقلبية لا القالبية. وإن كان قد تطلق على ذلك أيضاً، لكن لكل مقام مقال. وقد قال تعالى :﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى ﴾ [ طه : ١٢٣ ].
قال في نوادر الأصول : تَابعُ القرآن قد أجير من شقاء العيش في الدنيا ؛ لراحة قلبه من غموم الدنيا وظلماتها، وسَيره في الأمور بقلبه في راحة ؛ لأنه منشرحُ الصدر واسعه، وبدنه في راحة ؛ لأنه ميسر عليه أمور الدنيا، تُهيأ له في يسر ؛ لضمان الله، واكتنافه له. وكذا يجار في الآخرة من شقاء العيش في سجون النيران. أعاذنا الله من ذلك. هـ.
وقوله :﴿ إلا ما شاء ربك ﴾، للناس هنا كلام واختلاف. وأحسن ما قيل فيه ؛ ما ذكره البقاعي، قال : والذي ظهر لي والله أعلم أنه لما تكرر الجزم بالخلود في الدارين، وأن الشرك لا يغفر، والإيمان موجب للجنة، فكان ربما يُظن أنه لا يمكن غير ذلك، كما ظنه المعتزلة، لاسيما إذا تأمل القطع في مثل قوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ﴾ [ النساء : ٤٨ ]، مع تقييد غيره بالمشيئة في قوله :﴿ وَيَغفِر مَا دُونَ ذََلِكَ لِمَن يَشَآءُ ﴾ جاء هذا الاستثناء معلماً أن الأمر فيه إلى الله كغيره من الأمور، له أن يفعل في كلها ما يشاء، وإن جُزم القوم فيه، لكنه لا يقع غير ما أخبره به، وهذا كما تقول : اسكن هذه الدار عمرك ألا ما شاء زيد، وقد لا يشاء زيد شيئاً. فكما أن التعليق بدوام السماوات والأرض غير مراد الظاهر، كذلك الاستثناء فلا يشاء الله قطع الخلود لأحد من الفريقين، وسوقه هكذا أدل على القدرة وأعظم في تقليد المنة. ه.
وقال الجلال السيوطي، في " البدور السافرة في أمور الآخرة " : اعلم أن للعلماء في هذا الاستثناء أقوالاً، أشبهها بالصواب : أنه ليس باستثناء، وإنما " إلا ". بمعنى " سوى " كما تقول : لي عليك ألف درهم إلا ألفان، التي لي عليك، أي : سوى الألفين، والمعنى : خالدين فيها قدر مدة السماوات والأرض في الدنيا سوى ما شاء ربك من الزيادة عليها، فلا منتهى له. وذلك عبارة عن الخلود. والنكتة في تقديم ذكر مدة السماوات والأرض : التقريب إلى الأذهان بذكر المعهود أولاً. ثم أردفه بما لا إحاطة للدهر به، والجري على عادة العرب في قولهم في الإخبار عن دوام الشيء وتأبيده : لا آتيك ما دامت السماوات والأرض. ه. ومثله لابن عطية. قال : ويؤيده هذا التأويل قوله بعدُ :﴿ عطاء غير مَجذُوذ ﴾ أي : غير مقطوع، وهذا قول الفراء، فإنه يقدر الاستثناء المنقطع بسوى، وسيبويه بلكن. ه. وقال الورتجبي : قال ابن عطاء :﴿ إلا ما شاء ربك ﴾ من الزوائد لأهل الجنة من الثواب. ومن الزوائد لأهل النار من العقاب. ه. ﴿ إن ربك فعال لما يريد ﴾ من غير حجر ولا اعتراض.
قال في نوادر الأصول : الشقاوة : فراق العبد من الله، والسعادة اندساسه إليه. هـ. وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه في حزبه الكبير : والسعيد من أغنيته عن السؤال منك، والشقي حقاً من حرمته مع كثرة السؤال لك.
قال شيخ شيوخنا ـ سيدي عبد الرحمان الفاسي ـ في حاشيته عليه : ومدار السعادة : الجمع على الله والغيبة عمن سواه، فيفنى العبد عن وجوده، ويبقى بربه، فيشغله استغراقه في شهوده عن الشعور بغيريته، وينمحي عنه أمل شيء يرجى، أو خوف شيء يُتقى، فليس له عن سوى الحق إخبار، ولا مع غيره قرار. وعندما حل بهذه الحضرة، وظفر بقُرة عينه، وحياة روحه، وسر حياته، لا يتصور منه سُول، ولا فوات مأمول، " أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون، فإذا شهدته كانت الأكوان معك "، " اشْتَاقَتْ الجَنَّةُ إِلى عَليِّ وعَمَّارٍ وسَلمَانَ وصهيب وبلال " كما في الأثر. نعم، إن رد إليه تصور منه الدعاء على وجه العبودية، وأداء الأمر وإظهار الفاقة، لا على وجه الاقتضاء والسببية. " جل حكم الأزل أن ينضاف إلى الأسباب والعلل ".
ثم قال : وعلى ما تقرر في السعادة، فالشقاوة : احتجاب العبد بوجوده عن شهوده، فلا يَنفَكُّ عن أمل، ولا عن خوف عطب. فيستحثه الطبع للسؤال جلباً أو دفعاً. وهو في ذلك في شقاء، سواء أعطى أو منع ؛ لفقده قرةَ عينه وراحة قلبه، لأسْره في طبعه، ومكابدة أمره وهلعه. كما قال تعالى :﴿ إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً ( ١٩ ) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً ( ٢٠ ) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً ( ٢١ ) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ( ٢٢ ) ﴾ [ المعارج : ١٩ـ ٢٢ ]، فلم يستثن من كد الطبع ومكابدته غير أهل الصلاة الدائمة، وهم أهل الوجهة لله، المواجَهين بعناية الله، المتحققين بذكر الله. وقد وَرَدَ :" هُمُ القَوْم لاَ يَشْفَى جَلِيسُهُم " فضلاً عنهم. وعلى الجملة : فالمراد بالسعادة والشقاوة في كلامه ـ أي الشاذلي ـ الباطنة لا الظاهرة، والقلبية لا القالبية. وإن كان قد تطلق على ذلك أيضاً، لكن لكل مقام مقال. وقد قال تعالى :﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى ﴾ [ طه : ١٢٣ ].
قال في نوادر الأصول : تَابعُ القرآن قد أجير من شقاء العيش في الدنيا ؛ لراحة قلبه من غموم الدنيا وظلماتها، وسَيره في الأمور بقلبه في راحة ؛ لأنه منشرحُ الصدر واسعه، وبدنه في راحة ؛ لأنه ميسر عليه أمور الدنيا، تُهيأ له في يسر ؛ لضمان الله، واكتنافه له. وكذا يجار في الآخرة من شقاء العيش في سجون النيران. أعاذنا الله من ذلك. هـ.
قال في نوادر الأصول : الشقاوة : فراق العبد من الله، والسعادة اندساسه إليه. هـ. وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه في حزبه الكبير : والسعيد من أغنيته عن السؤال منك، والشقي حقاً من حرمته مع كثرة السؤال لك.
قال شيخ شيوخنا ـ سيدي عبد الرحمان الفاسي ـ في حاشيته عليه : ومدار السعادة : الجمع على الله والغيبة عمن سواه، فيفنى العبد عن وجوده، ويبقى بربه، فيشغله استغراقه في شهوده عن الشعور بغيريته، وينمحي عنه أمل شيء يرجى، أو خوف شيء يُتقى، فليس له عن سوى الحق إخبار، ولا مع غيره قرار. وعندما حل بهذه الحضرة، وظفر بقُرة عينه، وحياة روحه، وسر حياته، لا يتصور منه سُول، ولا فوات مأمول، " أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون، فإذا شهدته كانت الأكوان معك "، " اشْتَاقَتْ الجَنَّةُ إِلى عَليِّ وعَمَّارٍ وسَلمَانَ وصهيب وبلال " كما في الأثر. نعم، إن رد إليه تصور منه الدعاء على وجه العبودية، وأداء الأمر وإظهار الفاقة، لا على وجه الاقتضاء والسببية. " جل حكم الأزل أن ينضاف إلى الأسباب والعلل ".
ثم قال : وعلى ما تقرر في السعادة، فالشقاوة : احتجاب العبد بوجوده عن شهوده، فلا يَنفَكُّ عن أمل، ولا عن خوف عطب. فيستحثه الطبع للسؤال جلباً أو دفعاً. وهو في ذلك في شقاء، سواء أعطى أو منع ؛ لفقده قرةَ عينه وراحة قلبه، لأسْره في طبعه، ومكابدة أمره وهلعه. كما قال تعالى :﴿ إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً ( ١٩ ) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً ( ٢٠ ) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً ( ٢١ ) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ( ٢٢ ) ﴾ [ المعارج : ١٩ـ ٢٢ ]، فلم يستثن من كد الطبع ومكابدته غير أهل الصلاة الدائمة، وهم أهل الوجهة لله، المواجَهين بعناية الله، المتحققين بذكر الله. وقد وَرَدَ :" هُمُ القَوْم لاَ يَشْفَى جَلِيسُهُم " فضلاً عنهم. وعلى الجملة : فالمراد بالسعادة والشقاوة في كلامه ـ أي الشاذلي ـ الباطنة لا الظاهرة، والقلبية لا القالبية. وإن كان قد تطلق على ذلك أيضاً، لكن لكل مقام مقال. وقد قال تعالى :﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى ﴾ [ طه : ١٢٣ ].
قال في نوادر الأصول : تَابعُ القرآن قد أجير من شقاء العيش في الدنيا ؛ لراحة قلبه من غموم الدنيا وظلماتها، وسَيره في الأمور بقلبه في راحة ؛ لأنه منشرحُ الصدر واسعه، وبدنه في راحة ؛ لأنه ميسر عليه أمور الدنيا، تُهيأ له في يسر ؛ لضمان الله، واكتنافه له. وكذا يجار في الآخرة من شقاء العيش في سجون النيران. أعاذنا الله من ذلك. هـ.
﴿ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ فلا تك ﴾ يا محمد ﴿ في مرية ﴾. في شك ﴿ مما يعبد هؤلاء ﴾ المشركون، أي : لا تشك في فساد ما هم فيه، بعد ما أنزل عليك من حال الناس، وتبيين ما لأهل السعادة الموحدين، مما لأهل الشقاء المشركين، ﴿ ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبلُ ﴾، وهو تعليل للنهي، أي : ما يعبدون عبادةً إلا كعبادة آبائهم. أو ما يعبدون شيئاً إلا مثل ما عبد آباؤهم من الأوثان ؛ تقليداً من غير برهان، وقد بلغك ما لحق آبائهم من العذاب فسيلحقهم مثل ذلك ؛ لاتفاقهم في سبب الهلاك. ﴿ وإنا لموفوهم نصيبهم ﴾ حظهم من العذاب، كآبائهم، ﴿ غير منقوص ﴾ من نصيبهم شيء. فالتوفية لا تقتضي التمام، تقول : وفيته حقه، وتريد وفاء بعضه. والله تعالى أعلم.
الإشارة : فلا تكن أيها العارف في مرية مما يعبد هؤلاء العوام، من جمع الدنيا، والتكاثر منها، وصرف الهمة إلى تحصيلها، واستعمال الفكر في أسباب جمعها، وانهماك النفس في حظوظها وشهواتها. ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل، ممن سلك هذا المسلك الذميم، وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص بانحطاط درجتهم عن درجة المقربين. قال بعض الحكماء : دار الدنيا كأحلام المنام، وسرورها كظل الغمام، وأحدثها كصوائب السهام، وشهواتها : كمشرب الشمام، وفتنتها كأمواج الطوام. ه.
﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ ﴾ * ﴿ وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾
قلت :﴿ وإنَّ كلاًّ لما ليوفينهم ﴾ : إن : مخففة عاملة، والتنوين في ( كُلا ) عوض عن المضاف. و " ما " : موصولة، واللام : لام الابتداء، و﴿ ليوفينهم ﴾ : جواب لقسم محذوف، وجملة القسم وجوابه : صلة " ما "، أي : وإن كل الفريقين للذين، والله ليوفينهم ربك أعمالهم. ومن قرأ :" لمَّا " ؛ بالتشديد، فعلى أن ( إن ) نافية، و " لما " بمعنى إلا، وقيل : غير هذا.
يقول الحق جل جلاله :﴿ ولقد آتينا موسى الكتاب ﴾ : التوراة، ﴿ فاختُلف فيه ﴾ ؛ فآمن به قوم وكفر به قوم، كما اختلف هؤلاء في القرآن، ﴿ ولولا كلمة سبقت من ربك ﴾ وهي : كلمة الإنظار إلى يوم القيامة، ﴿ لقُضي بينهم ﴾ بإنزال ما يستحقه المبطل من الهلاك، ونجاة المحق. ﴿ وإنهم ﴾ أي : قوم موسى، أو كفار قومك، ﴿ لفي شك منه ﴾ أي : التوراة، أو من القرآن، ﴿ مريب ﴾ : موقع في الريبة.
﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ * ﴿ وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ ﴾ * ﴿ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ الْلَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذالِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ﴾ * ﴿ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾
قلت :( ومن تاب ) : عطف على فاعل ( استقم ) ؛ للفصل.
يقول الحق جل جلاله :﴿ فاستقمْ ﴾ يا محمد ﴿ كما أُمرت ﴾، ﴿ و ﴾ ليستقم ﴿ من تابَ معك ﴾ من الكفر وآمن بك. وهي شاملة للاستقامة في العقائد، كالتوسط بين التشبيه والتعطيل، بحيث يبقى العقل مصوناً من الطرفين، وفي الأعمال ؛ من تبليغ الوحي، وبيان الشرائع كما أنزل، والقيام بوظائف العبادات من غير تفريط ولا إفراط. وهي في غاية العسر. ولذلك قال عليه الصلاة والسلام :" شَيَّبَتنِي هُود " ١ قاله البيضاوي.
قال المحشي الفاسي : واللائق أن إشفاقه عليه الصلاة والسلام من أجل أمته لا من أجل نفسه ؛ لأجل نفسه ؛ لأجل عصمته، وإنما أشفق عليهم لتوعد اللعن لهم بقوله :
﴿ لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [ الأعراف : ١٦ ]. ه. قلت : ولا يعبد أن يكون أشفق عليه الصلاة والسلام من صعوبة استقامته التي تليق به، فبقدر ما يعلو المقام يطلب بزيادة الأدب، وبقدر ما يشتد القرب يتوجه العتاب. ولذلك كان الحق تعالى يعاتبه على ما لا يعاتب عليه غيره. وقد قالوا : حسنات الأبرار سيئات المقربين. وقد تقدم كلام الإحياء في قوله :﴿ أَلا بُعداً لِعَادٍ ﴾٢ [ هود : ٦٠ ].
ثم قال تعالى :﴿ ولا تَطْغَوا ﴾ ؛ ولا تخرجوا عما حد لكم، ﴿ إنه بما تعملون بصير ﴾، فيجازيكم على النقير والقطمير، وهو تهديد لمن لم يستقم، وتعليل للأمر والنهي.
فإذا تطهر القلب من هذه العيوب اتصف بأضدادها من الكمالات : كالتواضع لله، والخشوع بين يديه، والتعظيم لأمره، والحفظ لحدوده، والتذلل لربوبيته، والإخلاص في عبوديته، والرضى بقضائه، ورؤية المنة له في منعه وعطائه. ويتصف فيما بين خلقه بالرأفة والرحمة، واللين والرفق، وسعة الصدر والحِلم، والاحتمال والصيانة، والنزاهة والأمانة، والثقة والتأني، والوقار، والسخاء والجود، والحياء، والبشاشة والنصيحة. إلى غير ذلك من الكمالات.
وأما استقامة الأرواح والأسرار، فتحصل بعدم الوقوف مع شيء سوى الله تعالى، وعدم الالتفات إلى غيره حالاً كان أو مقاماً أو كرامة، أو غير ذلك : كما قال الششتري رضي الله عنه :
فلا تلْتَفِت في السَّير غيراً، وكلُّ ما | سوى الله غيرٌ، فاتخذ ذِكرَه حِصنا |
وكلُّ مقامٍ لا تُقمْ فيهِ إنّه | حجابٌ، فجد السَّير واستَنجد العونا |
ومهما ترى كلًّ المراتِبِ تجْتَلِي | عليكَ فحلْ عنها، فعَن مثلها حُلنا |
ليس لي في غَير ذاتِكَ مَطلبٌ | فلا صورةُ تُجلى ولا طُرفة تُجنا |
٢ انظر تفسير الآيات ٥٨-٦٠ من سورة هود..
﴿ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا ﴾ : لا تميلوا إليهم أدنى ميل ؛ فإن الركون : هو الميل اليسير، كالتزيي بزيهم، وتعظيم ذكرهم، وصحبتهم من غير تذكيرهم ووعظهم. ﴿ فتمسَّكم النارُ ﴾ ؛ لركونهم إليهم. قال الأوزاعي : ما من شيء أبغض إلى الله تعالى من عَالِم يَزورُ عَاملاً. ه. وقال سفيان : في جهنم وادٍ لا يسكنه إلا القراء الزائرون للملوك. ه. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من دَعَا لِظَالٍمٍ بالبَقَاءِ أي بأن قال : بارك الله في عمرك فَقَدْ أَحَبَّ أَنْ يُعْصَى الله في أرضهِ " وسئل سفيان عن ظالم أشرف على الهلاك في برية، هل يسقى شربة ماء ؟ فقال : لا. فقيل له : يموت ؟ ! فقال : دعه يموت. ه. وهذا إغراق ولعله في الكافر المحارب، والله أعلم.
قال البيضاوي : وإذا كان الركون إلى من وجد منه ما يسمى ظلماً موجباً للنار، فما ظنك بالركون إلى الظالمين الموسومين بالظلم، ثم الميل إليهم، ثم بالظلم نفسه، والانهماك فيه. ولعل الآية أبلغ ما يتصور في النهي عن الظلم والتهديد عليه. وخطاب الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين بها ؛ للتثبيت على الاستقامة التي هي العدل ؛ فإن الزوال عنها بالميل إلى أحد طرفي إفراط أو تفريط، ظلم على نفسه أو غيره، بل ظلم في نفسه. ه.
﴿ وما لكم من دون الله من أولياء ﴾ ؛ من أنصار يمنعون العذاب عنكم، ﴿ ثم لا تُنصرون ﴾ : ثم لا ينصركم الله إن سبق في حكمه أنه يعذبكم.
فإذا تطهر القلب من هذه العيوب اتصف بأضدادها من الكمالات : كالتواضع لله، والخشوع بين يديه، والتعظيم لأمره، والحفظ لحدوده، والتذلل لربوبيته، والإخلاص في عبوديته، والرضى بقضائه، ورؤية المنة له في منعه وعطائه. ويتصف فيما بين خلقه بالرأفة والرحمة، واللين والرفق، وسعة الصدر والحِلم، والاحتمال والصيانة، والنزاهة والأمانة، والثقة والتأني، والوقار، والسخاء والجود، والحياء، والبشاشة والنصيحة. إلى غير ذلك من الكمالات.
وأما استقامة الأرواح والأسرار، فتحصل بعدم الوقوف مع شيء سوى الله تعالى، وعدم الالتفات إلى غيره حالاً كان أو مقاماً أو كرامة، أو غير ذلك : كما قال الششتري رضي الله عنه :
فلا تلْتَفِت في السَّير غيراً، وكلُّ ما | سوى الله غيرٌ، فاتخذ ذِكرَه حِصنا |
وكلُّ مقامٍ لا تُقمْ فيهِ إنّه | حجابٌ، فجد السَّير واستَنجد العونا |
ومهما ترى كلًّ المراتِبِ تجْتَلِي | عليكَ فحلْ عنها، فعَن مثلها حُلنا |
ليس لي في غَير ذاتِكَ مَطلبٌ | فلا صورةُ تُجلى ولا طُرفة تُجنا |
ولمَّا كان الركون إلى الظلم، أو إلى من تلبس به فتنة، وهي تكفرها الصلاة، كما في الحديث، أمر بها أثره، فقال :﴿ وأقم الصَّلاةَ طرفي النهار ﴾ غدوة وعشية، ﴿ وزلُفاً من الليل ﴾ ؛ ساعات منه قريبة من النهار. والمراد بالصلاة المأمور بها : الصلوات الخمس. فالطرف الأول : الصبح، والطرف الثاني : الظهر والعصر، والزلف من الليل : المغرب والعشاء، ﴿ إن الحسنات يُذهبن السيئات ﴾ ؛ يكفر بها قال ابن عطية : لفظ الآية عام في الحسنات خاص في السيئات ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم :" ما اجتنَبت الكَبَائِرُ "، ثم قال : وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" الجُمُعَةُ إلى الجُمعَةِ كفَّارَة، والصَّلوَاتُ الخَمسُ، وَرَمَضانُ إِلى رَمَضانَ كفارة لِمَا بينَهُما ما اجتُنِبت الكبائر " ١ انظر تمامه في الحاشية.
قال ابن جزي : رُوي أن رجلاً قََبّل امرأة، قلتُ : هو نبهان التمار، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم وصلَّى معه الصلاة، فنزلت الآية، فقال صلى الله عليه وسلم :" أين السائل ؟ " فقال : ها أنا ذا، فقال :" قد غَفَرَ اللَّهُ لَكَ بِصَلاتِكَ مَعَنا ". فقال الرجل : أَلِيَ خاصَّةً، أو للمسلمين عامة ؟ فقال :" للمسلمين عَامَّةً " ٢. والآية على هذا مدنية. وقيل : إن الآية كانت قبل ذلك، وذكرها النبي صلى الله عليه وسلم للرجل مستدلاً بها. والآية على هذا مكية كسائر السورة، وإنما تُذهب الحسناتُ عند الجمهور الصغائر إذا اجتنبت الكبائر. ه. قلت : وقيل : تكفر مطلقاً ؛ اجتُنِبَت الكبائر أم لا، وهو الظاهر، لأنه إذا حصل اجتناب الكبائر كفرت بلا سبب ؛ لقوله تعالى :﴿ إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ. . . ﴾ [ النساء : ٣١ ] الآية. وقوله عليه الصلاة والسلام :" ما اجتنبت الكبائر ". معناه : أن الصلوات والجمعة مكفرة لما عدا الكبائر.
والحاصل : أن من اجتنب الكبائر كفرت عنه الصغائر بلا سبب ؛ لنص الآية. ومن ارتكب الكبائر والصغائر وصلى، كفرت الصغائر دون الكبائر، وبهذا تتفق الآية مع الحديث. والله تعالى أعلم.
قال ابن عطية في قوله تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى. . . ﴾ [ التوبة : ١١١ ] الآية : الشهادة ماحية لكل ذنب إلا لمظالم العباد. وقد روي :" أن الله يتحمل عن الشهيد مظالم العباد، ويجازيهم عنه ". ختم الله لنا بالحسنى. انتهى.
﴿ ذلك ﴾ أي : ما تقدم من وعظ ووعد ووعيد، وأمر الاستقامة، أو القرآن كله، ﴿ ذكرى للذاكرين ﴾ : عظة للمتقين. وخص الذاكرين، لمزيد انتفاعهم بالوعظ، لصقالة قلوبهم. وفي الخبر :" لكل شيء مصقلة، ومصقلة القلوب ذكر الله ".
فإذا تطهر القلب من هذه العيوب اتصف بأضدادها من الكمالات : كالتواضع لله، والخشوع بين يديه، والتعظيم لأمره، والحفظ لحدوده، والتذلل لربوبيته، والإخلاص في عبوديته، والرضى بقضائه، ورؤية المنة له في منعه وعطائه. ويتصف فيما بين خلقه بالرأفة والرحمة، واللين والرفق، وسعة الصدر والحِلم، والاحتمال والصيانة، والنزاهة والأمانة، والثقة والتأني، والوقار، والسخاء والجود، والحياء، والبشاشة والنصيحة. إلى غير ذلك من الكمالات.
وأما استقامة الأرواح والأسرار، فتحصل بعدم الوقوف مع شيء سوى الله تعالى، وعدم الالتفات إلى غيره حالاً كان أو مقاماً أو كرامة، أو غير ذلك : كما قال الششتري رضي الله عنه :
فلا تلْتَفِت في السَّير غيراً، وكلُّ ما | سوى الله غيرٌ، فاتخذ ذِكرَه حِصنا |
وكلُّ مقامٍ لا تُقمْ فيهِ إنّه | حجابٌ، فجد السَّير واستَنجد العونا |
ومهما ترى كلًّ المراتِبِ تجْتَلِي | عليكَ فحلْ عنها، فعَن مثلها حُلنا |
ليس لي في غَير ذاتِكَ مَطلبٌ | فلا صورةُ تُجلى ولا طُرفة تُجنا |
٢ أخرجه مسلم في التوبة حديث ٤٣..
فإذا تطهر القلب من هذه العيوب اتصف بأضدادها من الكمالات : كالتواضع لله، والخشوع بين يديه، والتعظيم لأمره، والحفظ لحدوده، والتذلل لربوبيته، والإخلاص في عبوديته، والرضى بقضائه، ورؤية المنة له في منعه وعطائه. ويتصف فيما بين خلقه بالرأفة والرحمة، واللين والرفق، وسعة الصدر والحِلم، والاحتمال والصيانة، والنزاهة والأمانة، والثقة والتأني، والوقار، والسخاء والجود، والحياء، والبشاشة والنصيحة. إلى غير ذلك من الكمالات.
وأما استقامة الأرواح والأسرار، فتحصل بعدم الوقوف مع شيء سوى الله تعالى، وعدم الالتفات إلى غيره حالاً كان أو مقاماً أو كرامة، أو غير ذلك : كما قال الششتري رضي الله عنه :
فلا تلْتَفِت في السَّير غيراً، وكلُّ ما | سوى الله غيرٌ، فاتخذ ذِكرَه حِصنا |
وكلُّ مقامٍ لا تُقمْ فيهِ إنّه | حجابٌ، فجد السَّير واستَنجد العونا |
ومهما ترى كلًّ المراتِبِ تجْتَلِي | عليكَ فحلْ عنها، فعَن مثلها حُلنا |
ليس لي في غَير ذاتِكَ مَطلبٌ | فلا صورةُ تُجلى ولا طُرفة تُجنا |
﴿ فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ ﴾ * ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴾
قلت :( لولا ) : تحضيضية، ويقترن بها هنا معنى التفجع والتأسف، كقوله :﴿ يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ ﴾ [ يس : ٣٠ ] و " إلا قليلاً " : منقطع، ولا يصح اتصاله، إلا إذا جعل استثناء من النفي اللازم للتحضيض. أي : ما كان في القرون الماضية أولو بقية إلا قليل. يقال : فلان من بقية القوم، أي : خيارهم، وإنما قيل فيه " بقية " ؛ لأن الشرائع والدول تقوى أولاً ثم تضعف. فمن ثبت في وقت الضعف على ما كان في أوله، فهو بقية الصدر الأول. قاله ابن عطية.
يقول الحق جل جلاله :﴿ فلولا ﴾ فهلا ﴿ كان من القرون من قبلكم ﴾ ؛ كقوم نوح وعاد وثمود ومن تقدم ذكرهم، ﴿ أولوا بقية ﴾ من الرأي، والعقل يُنكرون عليهم، أي : فهلا وجد فيهم من فيه بقية من العقل والحزم والثبوت، ﴿ ينهون عن الفساد في الأرض ﴾، لكن قليلاً ممن أنجينا منهم كانوا كذلك، فأنكروا على أهل الفساد، واعتزلوهم في دينهم ؛ فأنجيناهم. وفي هذا تحريض على النهي عن المنكر والأمر بالمعروف، وأنه سبب النجاة في الدارين. ﴿ واتَّبع الذين ظلموا ما أُترفوا فيه ﴾ : ما أنعموا فيه من الشهوات، واهتموا بتحصيل أسبابها، وأعرضوا عما وراء ذلك، ﴿ وكانوا مجرمين ﴾ كافرين. قال البيضاوي : كأنه أراد أن يُبين ما كان السبب لاستئصال الأمم الماضية : وهو : فشو الظلم فيهم، واتباع الهوى، وترك النهي عن المنكرات مع الكفر. ه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" والذي نفس محمد بيده لئن شئتم لأُقسمن لكم : إنَّ أحَبَّ عباد اللَّهِ إلى الله الذين يُحببون الله إلى عباده، ويحببون عباد الله إلى الله، ويمشون في الأرض بالنصيحة " أما كونهم يحببون الله إلى عباده، فلأنهم يَذكرون لهم آلاءه وإحسانه وبره. والنفسُ تحب بالطبع من أحسن إليها. وأما كونهم يحببون عباد الله إلى الله ؛ فلأنهم يردونهم عن غيهم وحظوظهم، التي تبعدهم عن ربهم. فإذا رجعوا إليه أحبهم.
وسئل ذو النون المصري رضي الله عنه عن وصف الأبدال، فقال : سألتَ عن دياجي الظلام ؛ لأَكشفُ لك عنهم، وهم قوم ذكروا الله بقلوبهم، تعظيماً لربهم ؛ لمعرفتهم بجلاله، فهم حجج الله تعالى على خلقه، ألبسهم الله ـ تعالى ـ النور الساطع من محبته، ورفع لهم أعلام الهداية إلى مواصلته، وأقامهم مقام الأبطال لإرادته، وأفرغ عليهم من مخافته، وطهَّر أبدانهم بمراقبته، وطيبهم بطيب أهل معاملته، وكساهم حُللاً من نسج مودته، ووضع على رؤوسهم تيجان مبرته، ثم أودع القلوب من ذخائر الغيوب، فهي متعلقة بمواصلته، فهممهم إليه ثائرة، وأعينهم بالغيب ناظرة، قد أقامهم على باب النظر من رؤية، وأجلسهم على كراسي أطباء أهل معرفته، ثم قال لهم : إن أتاكم عليلٌ مَنْ فقدي فداووه، أو مريض من فراقي فعالجوه، أو خائف مني فانصروه، أو آمن مني فحذِّروه، أو راغب في مواصلتي فمنُّوه، أو راحل نحوي فزودوه، أو جبان في متاجرتي فشجعوه، أو آيسٌ من فضلي فرجّوه، أو راج لإحساني فبشروه، أو حسن الظن بي فباسطوه، أو محب لي فواصلوه، أو معظم لقدرتي فعظموه، أو مسيء بعد إحساني فعاتبوه، أو مسترشد فأرشدوه. هـ.
﴿ وما كان ربك ليُهلك القرى بظلم ﴾ أي : متلبساً بظلم، ﴿ وأهلُها مصلحون ﴾، فيعذبهم بلا جرم، أي : ما كان ليعذبهم ظالماً لهم بلا سبب. أو ما كان ليهلك القرى بشرك وأهلها مصلحون فيما بينهم، لا يضمون إلى شركهم فساداً وبغياً، وذلك لفرط رحمته ومسامحته في حقوقه. ومن ذلك قدَّم الفقهاءُ، عند تزاحم الحقوق، وحقوقَ العباد، وقال بعضهم :[ الذنوب ثلاثة : ذنب لا يغفره الله، وهو الشرك، وذنب لا يعبأ الله به، وهو ما كان بينه وبين عباده، وذنب لا يتركه الله، وهو حقوق عباده ]. وقالوا : قد يبقى المُلك مع الشرك ولا يبقى مع الظلم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" والذي نفس محمد بيده لئن شئتم لأُقسمن لكم : إنَّ أحَبَّ عباد اللَّهِ إلى الله الذين يُحببون الله إلى عباده، ويحببون عباد الله إلى الله، ويمشون في الأرض بالنصيحة " أما كونهم يحببون الله إلى عباده، فلأنهم يَذكرون لهم آلاءه وإحسانه وبره. والنفسُ تحب بالطبع من أحسن إليها. وأما كونهم يحببون عباد الله إلى الله ؛ فلأنهم يردونهم عن غيهم وحظوظهم، التي تبعدهم عن ربهم. فإذا رجعوا إليه أحبهم.
وسئل ذو النون المصري رضي الله عنه عن وصف الأبدال، فقال : سألتَ عن دياجي الظلام ؛ لأَكشفُ لك عنهم، وهم قوم ذكروا الله بقلوبهم، تعظيماً لربهم ؛ لمعرفتهم بجلاله، فهم حجج الله تعالى على خلقه، ألبسهم الله ـ تعالى ـ النور الساطع من محبته، ورفع لهم أعلام الهداية إلى مواصلته، وأقامهم مقام الأبطال لإرادته، وأفرغ عليهم من مخافته، وطهَّر أبدانهم بمراقبته، وطيبهم بطيب أهل معاملته، وكساهم حُللاً من نسج مودته، ووضع على رؤوسهم تيجان مبرته، ثم أودع القلوب من ذخائر الغيوب، فهي متعلقة بمواصلته، فهممهم إليه ثائرة، وأعينهم بالغيب ناظرة، قد أقامهم على باب النظر من رؤية، وأجلسهم على كراسي أطباء أهل معرفته، ثم قال لهم : إن أتاكم عليلٌ مَنْ فقدي فداووه، أو مريض من فراقي فعالجوه، أو خائف مني فانصروه، أو آمن مني فحذِّروه، أو راغب في مواصلتي فمنُّوه، أو راحل نحوي فزودوه، أو جبان في متاجرتي فشجعوه، أو آيسٌ من فضلي فرجّوه، أو راج لإحساني فبشروه، أو حسن الظن بي فباسطوه، أو محب لي فواصلوه، أو معظم لقدرتي فعظموه، أو مسيء بعد إحساني فعاتبوه، أو مسترشد فأرشدوه. هـ.
﴿ وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ﴾ * ﴿ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذالِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ ولو شاء ربك لجعل الناسَ أمةً واحدة ﴾، متفقين على الإيمان أو الكفران، لكن مقتضى الحكمة وجود الاختلاف ؛ ليظهر مقتضيات الأسماء في عالم الشهادة ؛ فاسمه : الرحيم والكريم يقتضي وجود من يستحق الكرم والرحمة، وهم : أهل الإيمان. واسمه : المنتقم والقهار يقتضي وجود من يستحق الانتقام والقهرية، وهم أهل الكفر والعصيان. قال البيضاوي : وفيه دليل ظاهر على أن الأمر غير الإرادة، وأنه تعالى لم يرد الإيمان من كل أحد، وأن ما أراد يجب وقوعه. ه.
﴿ ولا يزالون مختلفين ﴾ ؛ بعضهم على الحق، وهم أهل الرحمة والكرم ؛ وبعضهم على الباطل، وهم أهل القهرية والانتقام. أو مختلفين في الأديان والملل والمذاهب.
مَذاهبُ الناس على اختلاف | ومذاهب القوم على ائتلاف |
﴿ إلا من رَّحِمَ ربك ﴾ ؛ إلا ناساً هداهم الله من فضله، فاتفقوا على ما هو أصل الدين والعمدة فيه، كالتوحيد والإيمان بجميع الرسل وبما جاؤوا به، وهم المؤمنون.
وقوله :﴿ ولذلك خلقهم ﴾ ؛ إن كان الضمير للناس، فالإشارة إلى الاختلاف، واللام للعاقبة، أي : ولتكون عاقبتهم الاختلاف خلقهم، وإن كان الضمير يعود على " من "، فالإشارة إلى الرحمة، أي : إلا من رحم ربك وللرحمة خلقه. ﴿ وتمت كلمة ربك ﴾ الأزلية على ما سبق له الشقاء، أي : نفذ قضاؤه ووعيده في أهل الشقاء، أو هي قوله للملائكة :﴿ لأَملأَنِّ جهنم من الجَنَّة والناس أجمعين ﴾ ؛ أي من أهل العصيان منهما، لا من جميعهما.
مَذاهبُ الناس على اختلاف | ومذاهب القوم على ائتلاف |
﴿ وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَآءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾
قلت :" وكُلاً " مفعول " نقص "، و " ما نثبت به " : بدل، أو " ما " مفعول " نَقُصُّ "، و " كلا " : مصدر. أي : ونقص.
علك كُلاً من الاقتصاص ما نثبت به فؤادك.
يقول الحق جل جلاله : وكل نبأ ﴿ نقص عليك ﴾ من أخبار الرسل، ونخبرك به ﴿ ما نثبت به فؤادك ﴾، ليزيدك يقيناُ وطمأنينة، وثباتاً بما تسمع من أخبارهم، وما جرى لهم مع قومهم، وما لقوا من الأذى منهم، فتتسلى بهم، وتثبت على أداء الرسالة، واحتمال أذى الكفار. ﴿ وجاءك في هذه ﴾ السورة، أو الأنباء المقتصة عليك، ﴿ الحق ﴾ أي : ما هو حق، ﴿ وموعظة وذكرى للمؤمنين ﴾ فيتحملون، ويصبرون لما يواجههم من الأذى والإنكار.
الإشارة : ذكر أحوال الصالحين، وسيرهم وكراماتهم ؛ جند من جنود القلب، وذكر أشعارهم ومواجيدهم جند من جنود الروح، وقد ورد : أن عند ذكرهم تنزل الرحمة، أي : رحمة القلوب باليقين والطمأنينة. والله تعالى أعلم.
﴿ وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ ﴾ * ﴿ وَانْتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ ﴾ * ﴿ وَللَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم ﴾ : حالهم، ﴿ إنا عاملون ﴾ على حالنا.