تفسير سورة هود

المنتخب في تفسير القرآن الكريم
تفسير سورة سورة هود من كتاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم .
لمؤلفه المنتخب . المتوفي سنة 2008 هـ
سورة هود : هي سورة مكية تتكون من ١٢٣ آية، ابتدأت بالتنويه بالقرآن الكريم، وعبادة الله وحده، والإنذار، والتبشير، ثم بيان قدرة الله وربوبيته، وأحوال الناس في تلقيهم لنعمه ونقمه، ثم مقام القرآن، والتحدي به، وكفر الكافرين به غير عذر في كفرهم، وبيان ثواب المؤمنين.
ولقد قص سبحانه بعد ذلك قصص النبيين، ومجادلة أقوامهم لهم، وإنزال العذاب الدنيوي بالكافرين، ونجاة المؤمنين، فذكر سبحانه وتعالى قصة نوح بتفصيل أكثر مما كان في سورة يونس، ففيها بيان لعقلية الكافر وعناده، وبيان لإنزال المقت به، ومن بعد قصة نوح ذكر سبحانه قصة قوم عاد مع نبي الله هود، ببيان يوضح عقلية الكفر، وما نزل بالكافرين مع قوة بأسهم وشدتهم.
ثم ذكر بمثل ذلك من البيان قصة نبي الله صالح مع قوم ثمود، ثم قصة نبي الله وخليله إبراهيم، ثم قصة نبي الله لوط، ثم قصة نبي الله شعيب.
ثم ذكر سبحانه وتعالى العبر في هذا القصص الحق، وختمها سبحانه بدعوة المؤمنين إلى العمل وانتظار الثواب، ثم ذكر علم الله سبحانه وتعالى الكامل ووجوب التوكل عليه.

١- الر... حروف ابتدأت بها السورة للإشارة إلى أن القرآن معجز، مع أنه مكون من الحروف التي ينطقون بها، وللتنبيه إلى الإصغاء عند تلاوة القرآن الكريم إلى أنه كتاب ذو شأن عظيم، أُنزلت آياته محكمة لا باطل فيها ولا شبهة، ونظمت بأسلوب لا خلل فيه، واضحة بينة، ثم فصلت أحكامها. وللكتاب مع شرفه في ذاته شرف أنه من عند الله الذي يعلم كل شيء، ويضع الأمور في مواضعها سبحانه.
٢- أرشد به الناس - أيها النبي - وقلْ لهم : لا تعبدوا إلا الله، إنني مُرْسَلٌ منه لأنذركم بعذابه إن كفرتم، وأُبشّركم بثوابه إن آمنتم وأطعتم.
٣- وتضرّعوا إلى الله داعين أن يغفر لكم ذنوبكم، ثم ارجعوا إليه بإخلاص العبادة وعمل الصالحات، فَيُمتعكم متاعاً حسناً في الدنيا إلى أن تنتهي آجالكم المقدّرة لكم فيها، ويُعطى في الآخرة كل صاحب عمل صالح فاضل ثواب عمله وفضله. وإن تنصرفوا عمّا أدعوكم إليه، تعرضتم للعذاب، فإني أخاف عليكم هذا العذاب في يوم كبير يحشر فيه الناس جميعاً، ويكون فيه الهول الأكبر.
٤- إلى الله - وحده - مرجعكم في الدنيا، ويوم القيامة حين يبعثكم من قبوركم ليجازيكم على أعمالكم، وهو قادر على كل شيء، لأنه كامل القدرة لا يعجز عن شيء من الأشياء.
٥- إن الناس يطوون صدورهم كاتمين لما يجول فيها، مجتهدين في كتمانهم، زاعمين أن عاقبة ذلك أن تستخفي خلجات صدورهم عن الله ! ألا فليعلم هؤلاء أنهم إن آووا إلى فراشهم لابسين لباس النوم، فاستتروا بظلام الليل والنوم وطي ما في الصدور، فإن الله عليم بهم، في سرهم وعلنهم، لأنه يعلم ما يصاحب الصدور ويطوى فيها.
٦- ولْيعْلم هؤلاء أن قدرة الله ونعمه وعلمه شاملة لكل شيء، فلا توجد دابة تتحرك في الأرض إلا وقد تكَفَّل الله سبحانه برزقها المناسب لها في مختلف البيئات تفضلاً منه، ويعلم مكان استقرارها في حال حياتها، والمكان الذي تودع فيه بعد موتها.. كل شيء من ذلك مسجل عنده سبحانه في كتاب موضح لأحوال ما فيه.
٧- والله خلق السماوات والأرض وما فيهما في ستة أيام، ومن قبل ذلك لم يكن الوجود أكثر من عالم الماء، ومن فوقه عرش الله. وقد خلق الله هذا الكون ليظهر بالاختبار أحوالكم - أيها الناس - ليظهر منكم من يقبل على الله بالطاعة والأعمال الحسنة، ومن يُعرض عن ذلك.. ومع هذه القدرة الخالقة إن قلت لهم مؤكداً : أنهم سيبعثون من قبورهم، وأنهم خلقوا ليموتوا ويُبعثوا، سارعوا إلى الرد عليك مؤكدين أن هذا الذي جئتهم به لا حقيقة له، وما هو إلا كالسحر الواضح الذي يلعب بالعقول.
٨- ولئن اقْتضت حكمتنا تأخير عذاب كفرهم في الدنيا إلى وقت مُحدد عندنا هو يوم القيامة، ليقولون مستهزئين : ما الذي يمنعه عنا الآن ؟ فليأت به إن كان صادقاً في وعيده. ألا فليعلم هؤلاء أن العذاب آتٍ حتماً، وأنه لا خلاص لهم منه حين يأتيهم، وأنه سيحيط بهم بسبب استهزائهم واستهتارهم.
٩- وإن من طبيعة الإنسان أن تستغرق نفسه الحالُ التي يكون عليها، فإذا أعطيناه بعض النعم رحمة منا كالصحة والسعة في الرزق، ثم نزعنا بعد ذلك هذه النعمة لحكمة منا، أسرفَ في يأسه من عودة هذه النعمة إليه، وأسرف في كفره بالنعم الأخرى التي لا يزال يتمتع بها.
١٠- وإننا لو أعطينا الإنسان نعمة بعد ضر لحق به، فإنه يقول : ذهب ما كان يسوؤني ولن يعود ويحملُه ذلك على شدة الفرح بمتاع الدنيا، وعلى المبالغة في التفاخر على الغير، فينشغل قلبه عن شكر ربه، هذا هو شأن غالب بني الإنسان : مضطرب بين اليأس والتفاخر.
١١- ولا يخلو من هذا العيب إلا الذين صبروا عند الشدائد، وعملوا الصالحات في السرَّاء والضرَّاء. هؤلاء لهم مغفرة من الذنوب وأجر كبير على أعمالهم الصالحة.
١٢- لا تحاول - أيها النبي - إرضاء المشركين لأنهم لا يؤمنون، وعساك إن حاولت إرضاءهم أن تترك تلاوة بعض ما يوحى إليك مما يشق سماعه عليهم، كاحتقار بعض آلهتهم، خوفاً من قبح ردهم واستهزائهم، وعسى أن تحس بالضيق وأنت تتلوه، لأنهم يطلبون أن ينزل الله عليك كنزاً تنعم به كالملوك، أو يجئ معك مَلَك يخبرنهم بصدقك، فلا تبال - أيها النبي - بعنادهم، فما أنت إلا منذر ومحذِّر من عقاب الله من يخالف أمره، وقد فعلت فأرِحْ نفسك منهم. واعلم أن الله على كل شيء رقيب ومهيمن، وسيفعل بهم ما يستحقون.
١٣- إن القرآن فيه الآية الدالة على صدقك، فإن قالوا : إنه ألَّفه من عنده أو افتراه على الله، فقل لهم : إن كان هذا القرآن من عند بشر، أمكن للبشر أن يأتوا بمثله، وأنتم فصحاء البشر. فأتوا بعشر سور مثله مُختَلَقَات، واستعينوا بما يمكنكم الاستعانة به من الإنس والجن، إن كنتم صادقين في دعواكم أنه كلام بشر.
١٤- فإن عجزتم، وعجز من استعنتم بهم فأتوا بمثله ولو مُفْترىً، فاعلموا أن هذا القرآن ما أنزل إلا مقترناً بعلم الله، فلا يعلم علمه أحد، واعْلموا أنه لا إله إلا الله فلا يعمل عمله أحد. فأسلموا بعد قيام هذه الحُجة عليكم، إن كنتم طالبين للحق.
١٥- من كان يطلب الحياة الدنيا، والتَّمتع بلذاتها وزينتها، نعطهم ثمرات أعمالهم وافية لا ينقص منها شيء.
١٦- هؤلاء الذين قصروا هممهم على الدنيا، ليس لهم في الآخرة إلا عذاب النار، وبَطَل نفع ما صنعوه في الدنيا لأنه لم يكن للآخرة فيه نصيب، وهو في نفسه باطل أيضاً، لأن العمل الذي لا يفيد السعادة الدائمة كأنه لم يكن.
١٧- أفَمَنْ كان يسير في حياته على بصيرة وهداية من ربه، ويطلب الحق مخلصاً، معه شاهد بالصدق من الله وهو القرآن، وشاهد من قبله وهو كتاب موسى الذي أنزله الله قدوة يتبع ما جاء به، ورحمة لمتبعيه، كمن يسير في حياته على ضلال وعماية، فلا يهتم إلا بمتاع الدنيا وزينتها ؟ ! أولئك الأولون هم الذين أنار الله بصائرهم، يؤمنون بالنبي والكتاب الذي أنزل عليه. ومن يكفر به ممن تألبوا على الحق وتحزّبوا ضده، فالنار موعده يوم القيامة. فلا تكن - أيها النبي - في شك من هذا القرآن، إنه الحق النازل من عند ربك، لا يأتيه الباطل، ولكن أكثر الناس تضلّهم الشهوات، فلا يؤمنون بما يجب الإيمان به.
١٨- وليس أحد أكثر ظلماً لنفسه وبُعداً عن الحق من الذين يختلقون الكذب وينسبونه إلى الله. إن هؤلاء سيعرضون يوم القيامة على ربهم ليحاسبهم على ما عملوا من سوء، فيقول الأشهاد من الملائكة والأنبياء وغيرهم : هؤلاء هم الذين ارتكبوا أفظع الجرم والظلم بالنسبة لخالقهم. إن لعنة الله ستقع عليهم لأنهم ظالمون.
١٩- هؤلاء الذين يصرفون الناس عن دين الله ويمنعونهم - وهو سبيله المستقيم - ويطلبون أن تكون هذه السبيل موافقة لشهواتهم وأهوائهم، فتكون معوجة، وهم بالآخرة - وما فيها من ثواب المؤمن وعقاب الكافر - كافرون.
٢٠- أولئك الكافرون، لم تكن لهم قوة تُعجز الله عن أخذهم بالعذاب في الدنيا، ولم يكن لهم نُصراء يمنعون عنهم عذابه لو شاء أن يعجل لهم العذاب، وإن العذاب سيقع عليهم في الآخرة أضعاف ما كان سيقع عليهم في الدنيا، لو أراد الله أن يقع، لأنهم كرهوا أن يسمعوا القرآن، ويبصروا آيات الله في الكون، كأنهم لم يكونوا يستطيعون أن يسمعوا أو يبصروا.
٢١- أولئك الكافرون لم يربحوا بعبادة غير الله شيئاً. بل خسروا أنفسهم وغاب عنهم في الآخرة ما كانوا يفترون من أكاذيب ودعاوى باطلة، وما كانوا يختلقون من الآلهة الباطلة، ويزعمون أنهم ينفعونهم أو يشفعون لهم، فإن يوم القيامة هو يوم الحقائق التي لا زيف فيها ولا افتراء.
٢٢- حقاً، إنهم في الآخرة أشد الناس خُسراناً.
٢٣- إن الذين آمنوا بالله ورسله، وعملوا الأعمال الصالحة، وخضعت قلوبهم واطمأنت إلى قضاء ربها، هؤلاء هم المستحقون لدخول الجنة والخُلْد فيها.
٢٤- مثل الفريقين : المؤمنين والكافرين، كالأعمى الذي يسير على غير هدى، والأصم الذي لا يسمع ما يرشده إلى النجاة، وكقوى البصر الذي يرى طريق الخير والنجاة، وقوى السمع الذي يسمع كل ما ينفعه، هذان الفريقان لا يستويان في الحال والمآل. أفلا تتفكرون - أيها الناس - فيما بينكم من التباين والكفر، وفيما بين الباطل والحق من خلاف، فتبتعدوا عن طريق الضلال، وتسيروا في الطريق المستقيم ؟
٢٥- وكما أرسلناك إلى قومك لتنذرهم وتبشرهم، فقابلك فريق منهم بالعناد والجحود، أرسلنا نوحاً إلى قومه فقال لهم : إني محذر لكم من عذاب الله، مبين لكم طريق النجاة.
٢٦- قائلاً لهم : إني أطلب منكم ألا تعبدوا إلا الله، لأني أخاف عليكم - إن عبدتم غيره أو أشركتم معه سواه في العبادة - أن يحل عليكم يَوْمٌ عذابه ذو ألم شديد.
٢٧- قال الكبار من قومه : ما نرى إلا أنك بشر مثلنا، فليس فيك ما يجعل لك ميزة خاصة، وفضلاً يحملنا على الإيمان بأنك رسول من عند الله، وما نرى الذين اتبعوك من بيننا إلا الطبقة الدنيا منا، وما نرى لكم من فضل علينا. بل إنا نعتقد أنكم كاذبون فيما تزعمون.
٢٨- قال نوح : يا قوم، أخبروني - إن كنت مؤيَّداً بحُجة واضحة من ربى، وأعطاني برحمته النبوة والرسالة، فحَجَب نورها عنكم، وعمَّاها عليكم اغتراركُم بالجاه والمال - فهل يصح أن نلزمكم بالحُجة والإيمان بها مضطرين كارهين ؟.
٢٩- ويا قوم، لا أطلب منكم على تبليغ رسالة ربى مالا، وإنما أطلب جزائي من الله، وما أنا بطارد الذين آمنوا بربهم عن مجلسي ومعاشرتي، لمجرد احتقاركم لهم. لأنهم سيلاقون ربهم يوم القيامة، فيشكونني إليه إن طردتهم لفقرهم، ولكنى أراكم قوماً تجهلون ما يصح أن يتفاضل به الخلق عند الله. أهو الغنى والجاه، كما تزعمون ؟ أم اتّباع الحق وعمل الخير ؟.
٣٠- ويا قوم، لا أحد يستطيع منع عقاب الله عنى إن طردتهم، وهم المؤمنون به، أهَلْ بعد هذا تصرون على جهلكم، فلا تتذكرون أن لهم رباً ينتقم لهم ؟.
٣١- ولا أقول لكم، لأني رسول، إن عندي خزائن رزق الله أتصرف فيها كما أشاء، فأجعل من يتبعني غنياً ! ولا أقول : إني أعلم الغيب، فأخبركم بما اختص به علم الله، بحيث لا يعلمه أحد من العباد !، ولا أقول : إني ملك حتى تردوا على بقولكم : ما ذاك إلا بشر، ولا أقول عن الذين تحتقرونهم إن الله لن يؤتيهم خيراً إرضاء لرغباتكم، لأن الله - وحده - هو الذي يعلم ما في أنفسهم من إخلاص. إني إذا قلت لهم ما تحبونه، أكون من زمرة الظالمين لأنفسهم ولغيرهم. د
٣٢- قالوا : يا نوح قد جادلتنا لنؤمن بك فأكثرت جدالنا، حتى مَلِلْنا، ولم نعد نتحمل منك كلاماً، فأتنا بهذا العذاب الذي تهددنا به، إن كنت صادقاً في أن الله يعذبنا إذا لم نؤمن بك.
٣٣- قال نوح : هذا أمر بيد الله - وحده - فهو الذي يأتيكم بما يشاء حسب حكمته، ولستم بمفلتين من عذابه إذا جاء، لأنه سبحانه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
٣٤- ولا ينفعكم نصحي لمجرد إرادتي الخير لكم، إن كان الله يريد أن تضلوا لعلمه وتقديره فساد قلوبكم حتى صارت لا تقبل حقاً، وهو سبحانه ربكم، وسيرجعكم إليه يوم القيامة، ويجازيكم على ما كنتم تعملونه.
٣٥- إن هذا القَصصَ الصادق، ماذا يكون موقف المشركين منه ؟ أيقولون افتراه ؟ وإن قالوا ذلك، فقل - أيها الرسول - إن كنت افتريته على الله كما تزعمون، فهو جرم عظيم، علىَّ وحدي إثمه، وإذا كنت صادقاً، فأنتم المجرمون وأنا برئ من آثار جرمكم.
٣٦- وأوحى الله إلى نوح : أنه لن يصدّقك ويذعن للحق من قومك أحد بعد الآن - غير من سبق منه الإيمان قبل ذلك - فلا تحزن يا نوح بسبب ما كانوا يفعلونه معك من تكذيبك وإيذائك ؛ لأننا سننتقم منهم قريباً.
٣٧- وقلنا له : اصنع الفلك لننجيك عليها بعنايتنا، وتحت رعايتنا، ولا تخاطبني في شأن هؤلاء الظالمين لأنني استجبت دعاءك، وأمرت بإهلاكهم غرقاً١.
١ انظر التعليق العلمي على الآية: ٢٧ من سورة "المؤمنون"..
٣٨- وشرع نوح في عمل الفلك، وكلما مرَّ عليه قادة الكفر من قومه استهزأوا به، لجهلهم ولعدم معرفة الغرض الذي يقصده، قال نوح : إن تسخروا منا لجهلكم بصدق وعد الله، فإنا أيضاً سنسخر منكم كما تسخرون منا.
٣٩- فسوف تعلمون من منا الذي سيأتيه عذاب يُذله في الدنيا، ويحل عليه في الآخرة عذاب دائم خالد.
٤٠- حتى إذا جاء وقت أمرنا بإهلاكهم، جاء الماء بقوة فائراً ذا رغوة، كالماء الذي يغلى فوق النار، قلنا لنوح : احْمل معك في السفينة من كل نوع من أنواع الحيوانات ذكراً وأنثى، واحْمل فيها أيضاً أهل بيتك جميعاً، إلا من سبق عليه حكمنا بإهلاكه، واحْمل فيها أيضاً من آمن من قومك، ولم يكونوا إلا عدداً قليلاً.
٤١- وقال نوح للذين آمنوا من قومه - بعد أن أعدّ الفلك - : اركبوا فيها متيمنين بذكر اسم الله تعالى، وقت إجرائها، وفي وقت رسوها، وعند النزول فيها والخروج منها، وأرجو مغفرة الله على ما فرط منكم، ورحمته بكم، فإن المغفرة والرحمة من شأنه سبحانه وتعالى.
٤٢- ونزلوا في السفينة، فصارت تجرى بهم سائرة في موج يعلو ويرتفع، حتى يصير كالجبال في علوها، وفي ابتداء سيرها تذكر نوح ابنه بعاطفة الأبوة، وقد كان في معزل عن دعوة أبيه فناداه : اركب معنا يا بُني ولا تكن مع الجاحدين بدين الله تعالى.
٤٣- لم يطع الولد أباه الشفيق، وقال : سأتخذ مأوى لي مكاناً يمنعني من الماء، فقال الأب العالم بقضاء الله في شأن العصاة : يا بُني لا يوجد ما يمنع من حكم الله تعالى بالإغراق للظالمين، وغاب الولد عن أبيه الناصح بالموج المرتفع ؛ فكان مع المغرقين الهالكين الجاحدين.
٤٤- وبعد أن هلك الجاحدون بالإغراق، جاء أمر الله التكويني، فقيل بحكم التكوين : ابْلَعي ماءك أيتها الأرض، وامتنعي عن إنزال الماء أيتها السماء، فذهب الماء من الأرض، ولم تمد بشيء من السماء، وانتهي حكم الله بالإهلاك واستوت الفلك، ووقفت عند الجبل المسمى بالجودي، وقضى الله بإبعاد الظالمين عن رحمته، فقيل : هلاكاً للقوم الظالمين بسبب ظلمهم.
٤٥- ثارت الشفقة في قلب نوح على ابنه، فنادى رَبَّه ضارعاً مشفقاً فقال : يا خالقي ومنشئي، إن ابني قطعة منى، وهو من أهلي. وقد وعدت أن تنجى أهلي، وإن وعدك حق ثابت واقع، وأنت أعدل الحاكمين، لأنك أعلمهم، ولأنك أكثر حكمة من كل ذوى الحكم.
٤٦- قال الله سبحانه : إن ابنك ليس من أهلك، إذ أنه بكفره وسيره مع الكافرين قد انقطعت الولاية بينك وبينه، وقد عمل أعمالا غير صالحة، فلم يصر منك، فلا تطلب ما لا تعلم : أهو صواب أم خطأ ؟ ولا تَسِرْ وراء شفقتك وإني أرشدك إلى الحق لكيلا تكون من الجاهلين الذين تنسيهم الشفقة الحقائق الثابتة.
٤٧- قال نوح : يا خالقي ومتولي أمري ألجأ إليك فلا أسألك من بعد ما لا أعلم الحق فيه، واغفر لى ما قلته بدافع شفقتي، وإن لم تتفضل علىَّ بمغفرتك، وترحمني برحمتك، كنت في عداد الخاسرين.
٤٨- قيل بلسان الوحي : يا نوح، انزل على الأرض من سفينة النجاة سالماً آمناً، بسلام من الله تعالى وأَمْنٍ منه، وبركات من الله عليك وعلى الذين معك، الذين سيكونون أمماً مختلفة من بعدك، وسينال بركة الإيمان والإذعان بعضهم، وبعضهم سيكونون أمما يستمتعون بالدنيا وينالون متعها غير مذعنين للحق، ثم يصيبهم يوم القيامة عذاب مؤلم شديد.
٤٩- تلك القصة التي قصصناها عليك - أيها النبي - عن نوح وقومه، من أخبار الغيب التي لا يعلمها إلا الله، ما كنت تعلمها أنت ولا قومك على هذا الوجه من الدقة والتفصيل من قبل هذا الوحي، فاصبر على إيذاء قومك كما صبر الأنبياء قبلك، فإن عاقبتك الفوز مثل عاقبتهم، والعاقبة الطيبة دائماً للذين يتقون عذاب الله بالإيمان وعمل الصالحات.
٥٠- ولقد أرسلنا إلى قوم عَادٍ الأولى أخاً لهم من قبيلتهم هو ( هود ) فقال لهم : يا قوم اعبدوا الله - وحده - إذ ليس لكم مَنْ يستحق العبادة غيره - وما أنتم إلا كاذبون في ادّعائكم أن لله شركاء في استحقاقهم للعبادة ليكونوا شفعاء لكم عند الله١.
١ انظر التعليق العلمي على الآية: ٦٥ من سورة الأعراف..
٥١- يا قوم، لا أطلب منكم على النصح مكافأة من جاه أو سلطان أو مال، وإنما أجرى على الله الذي خلقني، ولا يصح أن تستولي عليكم الغفلة فلا تعقلون ما ينفعكم وما يضركم.
٥٢- ويا قوم، اطلبوا من خالقكم أن يغفر لكم ما سلف من ذنوبكم، ثم ارجعوا إليه. إنكم إن فعلتم ذلك يُرْسِل المطر عليكم متتابعاً، فتكثر خيراتكم، ويزدكم قوة إلى قوتكم التي تغترون بها، ولا تعرضوا عما أدعوكم إليه، مصممين على الإجرام الذي يرديكم في الهلاك.
٥٣- قالوا : يا هود ما جئتنا بحُجة واضحة على صحة ما تدعونا إليه، وما نحن بتاركي عبادة آلهتنا لمجرد قولك، أنتركها وما نحن لك بمصدقين.
٥٤- ما نقول في موقفك منا : إلا أن بعض آلهتنا مَسَّتْكَ بِشَر، فصرت تهذى بهذا الكلام، قال مُصِراً على إيمانه متحدياً : أقول، وأشهد الله على ما أقول، وأشهدكم عليه : إني بريء من داء الشرك الذي أنتم فيه، فأنتم المرضى.
٥٥- ولا أبالى بكم ولا بآلهتكم التي تدَّعون أنها مسَّتني بسوء، فتعاونوا أنتم وآلهتكم على الكيد لي، ثم لا تؤخرون عقابي لحظة، إن استطعتم.
٥٦- إنني اعتمدت على الله، وهو مالك أمري وأمركم، لا يعجزه شيء عن رد كيدكم، وهو القادر على كل شيء. فما من دابة إلا وهو مالك أمرها ومتصرف فيها، فلا يعجزه حفظي من أذاكم، ولا إهلاككم، إن أفعال ربى تجرى على طريق الحق والعدل في ملكه، فينصر المؤمنين المصلحين، ويخذل الكافرين المفسدين.
٥٧- فإن تُعرضوا عن دعوتي لم يضرني إعراضكم، والعاقبة السيئة عليكم، فقد أبلغتكم ما أرسلني الله به إليكم، وليس علىّ إلا البلاغ، والله يهلككم ويجئ بقوم آخرين يخلفونكم في دياركم وأموالكم، وأنتم لا تضرونه بإعراضكم عن عبادته، إن ربى مهيمن على كل شيء، مطلع عليه، فما تخفي عليه أعمالكم، ولا يغفل عن مؤاخذتكم.
٥٨- ولما جاء أمرنا بإهلاك عَادٍ نجّينا هُوداً، والذين آمنوا معه، من عذاب الريح العاتية التي أهلكتهم، ونجيناهم من عذاب شديد كبير في الدنيا والآخرة، وذلك بسبب رحمتنا لهم بتوفيقهم للإيمان.
٥٩- تلك عاد أنْكروا الحُجج الواضحة، وعصوا رُسل الله جميعاً، بعصيانهم رسوله إليهم، وطاعتهم لأمر كل طاغية شديد العناد من رؤسائهم وكبرائهم.
٦٠- فاستحقوا من الله والملائكة والناس أجمعين لعنة تلحقهم في الدنيا، ولعنة تتبعهم يوم القيامة، ألا فلينتبه كل من علم خبر عاد. أن عاداً جحدوا نعمة خالقهم عليهم، ولم يشكروها بالإيمان به وحده، فأصبحوا جديرين بطردهم من رحمة الله، وإنزال الهلاك الشديد بهم، ألا فهلاكاً لهم لتكذيبهم هودا.
٦١- وقد أرسلنا إلى ثمود واحداً منهم، تربطه بهم صلة النسب والمودة، وهو صالح، فقال لهم : يا قوم اعبدوا الله - وحده - ليس لكم من يستحق العبادة غيره، هو خلقكم من الأرض ومكَّنكم من عمارتها، واستثمار ما فيها والانتفاع بخيرها.. فادْعوه أن يغفر لكم ما سلف من ذنوبكم، ثم ارجعوا إليه بالندم على معصيته والإقبال على طاعته كلما وقعتم في ذنب. إنّ ربى قريب الرحمة مجيب الدعاء لمن يستغفره ويدعوه.
٦٢- قالوا : يا صالح قد كنت بيننا موضع الرجاء والمحبة والتقدير من نفوسنا، قبل هذا الذي تدعونا إليه، أتطلب منا أن نترك عبادة ما كان يعبد آباؤنا وما ألفناه وألفوه ؟ إنَّا لفي شك من دعوتك إلى عبادة الله - وحده فهذا مثير للرّيب، وسوء الظن فيك، وفيما تدعو إليه.
٦٣- قال : يا قوم : خبِّروني إن كنت على بصيرة نيِّرة وبيِّنة مما أدعوكم إليه مُؤيداً بحجة من ربى، وأعطاني ربى رحمة لي ولكم، وهي النبوة والرسالة، فكيف أخالف أمره وأعصيه بعدم تبليغ رسالته، استجابة لكم ؟ ومن ينصرني ويعينني على دفع عذابه إن عصيته ؟ إنكم لا تستطيعون نصرتي ودفع عذابه عنى، فما تزيدونني غير الضياع والوقوع في الخسران إن أطعتكم وعصيت ربى وربكم.
٦٤- ويا قوم، هذه ناقة الله جعلها لكم علامة تشهد على صدقي فيما أبلغه لكم، لأنها على غير ما تألفون من أمثالها، فاتركوها تأكل في أرض الله لأنها ناقته، والأرض أرضه، ولا تنالوها بسوء يؤذيها، فإنكم إن فعلتم ذلك يأخذكم من الله عذاب قريب.
٦٥- فلم يسمعوا نصحه، ولم يستجيبوا له، وبلغ بهم الكبرياء والاستهانة بتهديده أن قتلوا الناقة، فقال لهم : تمتعوا بحياتكم في داركم ثلاثة أيام، ثم يأتيكم بعدها عذاب الله، ذلك وعده الحق الذي لا يتخلف، ولا يقع عليه تكذيب.
٦٦- فلما جاء عذابنا نجّينا صالحاً والذين آمنوا معه من الهلاك برحمة خاصة منا، ونجيناهم من مهانة وفضيحة يوم هلاك ثمود. إن ربك - أيها النبي - هو القوى الغالب، فاطمئن إلى قوته وعزته وعونه ونصره.
٦٧- وأخذت الصيحة ثمود بعنفها ورجفتها وصاعقتها، لأنهم ظلموا أنفسهم بالكفر والعدوان، فأصبحوا في ديارهم هامدين، راقدين على وجوههم، ميتين لا حراك بهم.
٦٨- وانتهي أمرهم، وزالت آثارهم من ديارهم، كأنهم لم يقيموا فيها، ونطق حالهم بما يجب أن يتنبه له ويعتبر به كل عاقل، ويعلم أن ثَمودَ جحدوا بآيات من خلقهم، وبسبب ذلك كان الهلاك والبُعد عن رحمة الله.
٦٩- ولقد أرسلنا الملائكة إلى إبراهيم ببشارته هو وزوجته بمولود. قالوا يحيُّونه : سلاماً قال يرد تحيتهم : سلام. وأسرع فلم يمكث أن حضر إليهم بعجل مشوي سمين ليأكلوا منه.
٧٠- فلما رأى أيديهم لا تبلغه ولا تمتد إليه، كما هو معروف عن الضيوف أنكر أنهم ضيوف، وأحس أنهم ملائكة، وأضمر الخوف أن يكون مجيئهم لأمر أنكره الله عليه، أو لتعذيب قومه. قالوا - وقد عرفوا أثر الخوف في نفسه - : لا تخف إنا أرسلنا لهلاك قوم لوط.
٧١- وكانت امرأته قائمة تسمع كلامهم في مكان قريب منهم، فضحكت لسرورها لنجاة لوط ابن أخي زوجها، فبشرناها على ألْسِنَة الملائكة بأنها ستلد من إبراهيم زوجها ولداً يسمى إسحاق، وسيعيش ولدها، وسيكون لها منه بعد إسحاق يعقوب.
٧٢- صاحت متعجبة وقالت : يا عجبا ! أألدُ وأنا عجوز، وهذا زوجي ترونه شيخاً كبيراً ولا يولد لمثله ؟ إن هذا الذي أسمعه والله شيء عجيب، إذ كيف يولد لهرِمَيْن مثلى ومثل زوجي ؟.
٧٣- قالت الملائكة لها : أتعجبين من أن يولد لكما على كبركما، وهو من أمر الله الذي لا يعجزه شيء ؟ تلك رحمة الله ونعمه الكثيرة عليكم - أهل بيت النبوة - فليس بعجيب أن يهب لكم ما لا يهب لغيركم، إنه فاعل ما يستوجب الحمد، عظيم كثير الإحسان والكرم والعطاء.
٧٤- فلما ذهب عن إبراهيم الخوف، وسمع البشارة السارة بالولد، أخذه الإشفاق، وأخذ يجادل رسلنا في هلاك قوم لوط.
٧٥- إن إبراهيم لكثير الحلم، لا يحب تعجيل العقاب، كثير التأوه والتوجع من السوء الذي يصيب غيره، تائب راجع إلى الله بما يحبه ويرضاه، فَرِقته ورحمته ورأفته حملته على المجادلة رجاء أن يرفع الله عذابه عن قوم لوط وأن يتوبوا وينيبوا إليه.
٧٦- قالت الملائكة : يا إبراهيم أعرض عن هذا الجدال والتماس الرحمة لهؤلاء القوم، إنه قد جاء أمر ربك بهلاكهم، وأنهم لا بد آتيهم عذاب نافذ غير مردود بجدل أو غير جدل.
٧٧- ولما جاءت الملائكة - رُسلنا - إلى لوط في صورة شُبانٍ حِسَان، تألم واستاء، وأحس بضعفه عن حمايتهم، وضيقه بهم، لخوفه عليهم من فساد قومه، وقال : هذا يوم شديد المكاره والآلام.
٧٨- وعلم قومه بهم، فجاءوا مسرعين إليه، ومن قبل ذلك كانوا يرتكبون الفواحش، ويقترفون السيئات، قال لهم لوط : يا قوم هؤلاء بناتي، تزوّجوا بهن، فذلك أطهر لكم من ارتكاب الفواحش مع الذكور، فخافوا الله وصونوا أنفسكم من عقابه، ولا تفضحوني وتهينوني بالاعتداء على ضيفي، أليس فيكم رجل سديد الرأي، رشيد العقل، يردكم عن الغيّ ويكفكم عن السوء ؟.
٧٩- قالوا : لقد علمتَ يا لوط إنه ليس لنا في بناتك أَيّ حق في نكاحهن أو رغبة فيهن، وإنك دون شك تعلم ما نريد من مجيئنا وإسراعنا إليك.
٨٠- قال لوط : لو أن لي قوة أو ركناً قوياً اعتمدت عليه، لكان موقفي منكم غير هذا، ولدفعتكم عن ضيفي ومنعتكم من السيئات.
٨١- قالت الملائكة، وقد ظهرت على حقيقتها : يا لوط، لا تخف ولا تحزن إنا رسل ربك، لا بَشر كما بدا لك ولقومك، ولن يصل هؤلاء إليك بِشَرٍ يسوءك أو ضر يصيبك، فسر أنت وأهلك في بعض أوقات الليل، إذا دخل جزء كبير منه، واخْرج بهم من هذه القرية، ولا يلتفت أحد منكم خلفه، لكيلا يرى هول العذاب فيصاب بشر منه، لكن امرأتك التي خانتك فلا تكن من الخارجين معك، إنه لا بد مصيبها ما قُدّر أن يصيب هؤلاء.. إن موعد هلاكهم الصبح، وهو موعد قريب، فلا تخف.
٨٢- فلما جاء وقت العذاب الذي قدرناه وقضينا به، جعلنا عالي القرية التي كان يعيش فيها قوم لوط سافلها، فقلبناها، وأمطرنا عليهم في أثناء ذلك حجارة من طين حمى بالنار حتى تحجَّر.
٨٣- كانت تقع عليهم متتابعة منتظمة معلنة العذاب من عند ربك - أيها النبي - وليست بعيدة عن الظالمين من قومك.
٨٤- ولقد أرسلنا إلى قوم مدين١ أخاهم في النسب والمودة والتراحم شُعيبا، قال لهم : يا قوم اعبدوا الله - وحده - ليس لكم من يستحق العبادة غيره، ولا تنقصوا المكيال والميزان حين تبيعون لغيركم ما يُكال ويُوزن، إني أراكم يرجى منكم الخير، بالشكر والطاعة لله، وإعطاء الناس حقوقهم كاملة، وإني أخاف عليكم إذا لم تشكروا خيره وتطيعوا أمره، أن يحل بكم عذاب يوم لا تستطيعون أن تفلتوا من أهواله، لأنها تحيط بالمعذبين فيها فلا يجدون سبيلا إلى الخلاص منها.
١ هاتان الآيتان نص على اعتبار نقص المكيال والميزان جريمة، وهذا يقتضي أنها معاقب عليها شرعا، والعقاب بالتعزير، ويقابل هذا في التشريعات الوضعية ما يسمى جريمة تزوير المكيال أو الميزان التي حدد القانون الوضعي عقوبة لها، وهذا من القرآن الكريم وسيلة من وسائل حماية المال. أرض مدين واقعة بين شمال الحجاز وجنوب الشام، وكان فيها مكان كثيف الأشجار يسمى الأيكة، وقد أرسل اله عليهم عقابا شديدا بسبب عصيانهم..
٨٥- ويا قوم أدُّوا المكِيل والموزون مما تبيعونه وافياً على وجْه العدل والتسوية، ولا تنقصوا الناس حقهم في أشيائهم، ولا تجوروا وتفسدوا في الأرض بسرقة أموالهم، أو الإغارة عليهم، أو قطع الطريق على العابرين منهم، تتخذون الفساد وسيلة للكسب الحرام.
٨٦- ما يبقى لكم من المال الحلال الذي تفضَّل به الله عليكم، خير لكم من المال الذي تجمعونه من حرام، إن كنتم تؤمنون بالله وتجتنبون ما حرمه عليكم فحاسبوا أنفسكم، وراقبوا ربكم، لست عليكم رقيباً أحصى أعمالكم وأحاسبكم عليها.
٨٧- قالوا ساخرين مستهزئين : يا شعيب، أصلاتك هي التي تأمرك أن تحملنا على ترك ما كان يعبد آباؤنا من الأصنام، وعلى أن نمتنع عن التصرف في أموالنا كما نريد مما نرى فيه مصلحتنا ؟ إن ذلك غاية السَّفه والطيش. ولا يتفق مع ما نعرفه عنك من العقل وسداد الرأي، فأنت المعروف بكثرة الحلم والرشد.
٨٨- قال : يا قوم : أخبروني إن كنت على حُجة واضحة ويقين من ربى، ورزقني رزقاً حسناً تفضلا منه، أيصح لي أن أكتم ما أمرني بتبليغه لكم، من ترك عبادة الأصنام، وطلب إيفاء الكيل والميزان، وترك الفساد في الأرض ؟ وأنا لا أريد أن أتجه إلى فعل ما أنهاكم عنه من ذلك، ما أريد بموعظتي ونصيحتي وأمْري ونهيي إلا الإصلاح قدر طاقتي وجهدي واستطاعتي، وما كنت موفّقاً لإصابة الحق إلا بمعونة الله وتأييده وتسديده، عليه - وحده - أعتمد، وإليه - وحده - أرجع.
٨٩- ويا قوم لا يحملنكم الخلاف بيني وبينكم على العناد والإصرار على الكفر، فيصيبكم ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح، وما عهد قوم لوط ومكانهم وهلاكهم ببعيد عنكم، فاعتبروا بهم حتى لا يصيبكم ما أصابهم.
٩٠- واطلبوا من الله أن يغفر لكم ذنوبكم، ثم ارجعوا إليه نادمين مستغفرين كلما وقع الذنب منكم، إن ربى كثير الرحمة محب ودود، يغفر للتائبين ويحب الأوَّابين.
٩١- قالوا : يا شعيب ما نعقل كثيراً مما تقوله لنا، ونؤكد لك أننا نراك بيننا ضعيفاً لا قدرة لك على الدفاع، وعلى الإقناع، إن أردنا بك ما تكره، ولولا مجاملتنا لعشيرتك، لأنها على ديننا، لقتلناك رجماً بالحجارة، وما أنت علينا بعزيز حتى نجلَّك ونحترمك ونكرمك ونصونك عن القتل بالرجم، وإنما هي المجاملة لعشيرتك تمنعنا عن قتلك.
٩٢- قال : يا قوم، أعشيرتي أحق بالمجاملة من الله، فذكرتموها ونسيتموه، وجاملتموني واتخذتموه كالشيء المنبوذ وراء الظهر ؟ إن ربى محيط علمه بكل ما تعملون، فلا يخفي عليه شيء من أعمالكم، وسيحاسبكم عليها إن نسيتموه.
٩٣- ويا قوم اعملوا على ما أنتم قادرون عليه، وما تستطيعون عمله، إن لم تسمعوا نصحي إني مثابر على العمل بما يخالف عملكم، وسوف تعلمون مَنْ مِنا الذي يأتيه عذاب يفضحه ويذله، ومَن مِنا الذي هو كاذب : أأنا الذي أنذركم بالعذاب، أم أنتم الذين أنذرتموني بالإخراج من القرية ؟ وانتظروا ما سيحصل، إني معكم منتظر.
٩٤- ولما وقع أمرنا بعذابهم وهلاكهم، نجينا شعيباً والذين آمنوا معه من العذاب والهلاك، وكانت نجاتهم بسبب رحمة منا لهم، وأخذت الظالمين من أهل مدين الصيحة، والرجفة المهلكة، فأصبحوا في ديارهم هامدين، راقدين على وجوههم : لا حراك بهم١.
١ انظر التعليق العلمي على الآيتين: ٨٤، ٨٥ من هذه السورة..
٩٥- وانتهي أمرهم وزالت آثارهم، كأنهم لم يقيموا في ديارهم، ونطق حالهم بما يجب أن يتنبه له ويعتبر به كل عاقل، ألا هلاكاً لمدْين، وبُعداً من رحمة الله كما بَعدت ثمود من قبلهم١.
١ انظر التعليق العلمي على الآيتين: ٨٤، ٨٥ من هذه السورة..
٩٦- ولقد أرسلنا موسى مؤيَّداً بمعجزاتنا الدالة على صدقه، وبالبرهان المبين ذي السلطان القاهر على النفوس.
٩٧- أرسلناه إلى فرعون وكبار رجاله، فكفر به فرعون وأمر قومه أن يتبعوه في الكفر، فاتّبعوا أمر فرعون، وخالفوا أمر موسى، وما أمر فرعون بسديد حسن النتائج حتى يستحق أن يُتّبع.
٩٨- يتقدم قومه يوم القيامة ويقودهم كما قادهم في الدنيا، فيوردهم النار حتماً، يصْلَونها ويتجرعون غُصص عذابها، وقُبح هذا المورد الذي يشربون منه ماء حميماً ؛ ليطفئ ظمأهم، فيقطّع أمعاءهم.
٩٩- وهم في هذه الدنيا قد تبعتهم لعنة من الله والملائكة والناس، ويوم القيامة تتبعهم كذلك اللعنة، لأنها عطاؤهم، وإنه لعطاء قبيح يثير الشعور بالذنب، ويقال فيه : بئس هذا العطاء المعطى لهؤلاء.
١٠٠- ذلك القَصَص - أيها النبي - هو بعض أخبار القرى التي أهلكناها، نقصُّها عليك لتعظ بها قومك، وتطمئن إلى نصر الله لك، بعض هذه القرى كالزرع القائم على ساقه، ليشهدوا بما حصل، وبعضها عَافي الأثر، كالزّرع الذي حصد.
١٠١- وما ظلمناهم بإهلاكهم، ولكنهم ظلموا أنفسهم بالكفر وعبادة غير الله والفساد في الأرض، فما استطاعت أن ترد عنهم الهلاك آلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله، ولا نفعتهم بشيء لما جاء أمر ربك - أيها النبي - وما زادهم إصرارهم على عبادة الأوثان إلا الهلاك والضياع.
١٠٢- ومثل هذا الأخْذ الشديد، الذي أخذ به ربك - أيها النبي - قومَ نوح وعاد وثمود وغيرهم، أخذُه الشديد إذا شاء أن يأخذ القرى وأهلها ظالمون بالكفر والفساد، إنّ أخذه قوى مؤلم شديد على الظالمين.
١٠٣- إن في ذلك القَصَص لموعظة يعتبر بها من أيقن بالبعث وخاف عذاب يوم الآخرة، ذلك يوم مجموع للحساب فيه الناس، وذلك يوم مشهود يراه الملائكة والناس.
١٠٤- وما نؤخّره إلا لمدة قليلة حددناها، ومهما طالت في نظر الناس فهي قليلة عند الله.
١٠٥- يوم يأتي هَوْلُه لا يستطيع إنسان أن يتكلم إلا بإذن الله، فمن الناس شقي بما يعانى من ألوان الشدة، وهو الكافر، ومنهم سعيد بما ينتظره من نعيم الآخرة، وهو المؤمن.
١٠٦- فأما الذين شقوا ففي النار مآلهم، لهم فيها تنفس مصحوب بآلام مزعجة، عند خروج الهواء من صدورهم، وعند دخوله فيها.
١٠٧- خالدين في النار ما دامت السماوات والأرض، لا يخرجون منها إلا في الوقت الذي يشاء الله إخراجهم فيه، ليعذبهم بنوع آخر من العذاب، وإن ربك أيها - النبي - فعّال لما يريد فعله، لا يمنعه أحد عنه.
١٠٨- وأما الذين رَزقهم الله السعادة فيدخلون الجنة خالدين فيها من أول لحظة، بعد انتهاء موقف الحساب إلى ما لا نهاية، إلا الفريق الذي يشاء الله تأخيره عن دخول الجنة مع السابقين، وهم عصاة المؤمنين، الذين يتأخرون في النار بمقدار توقيع الجزاء عليهم، ثم يخرجون منها إلى الجنة، ويعطى ربك هؤلاء السعداء في الجنة عطاء عظيماً مستديماً، غير منقوص ولا مقطوع.
١٠٩- وإذا كان أمر الأمم المشركة الظالمة في الدنيا ثم في الآخرة، هو ما قصصنا عليك - أيها النبي - فلا يكن عندك أدنى شك في مصير عبّاد الأوثان من قومك، إن استمروا على ضلالهم، لأنهم كالسابقين من آبائهم، الذين قصصنا عليك قصصهم من قبل، كلهم مشركون، وإنا لموفّون هؤلاء الكفرة استحقاقهم من العذاب كاملا على قدر جرائمهم، لا يُنقَصون منه شيئاً.
١١٠- ونؤكد لك - أيها النبي - أننا أعطينا موسى التوراة، فاختلف قومه من بعده في تفسيرها ومعناها، حسب أهوائهم وشهواتهم، كل يريد إخضاعها لشهواته، فتقرقوا شيعا، وابتعد الكثير منهم عن الحق الذي جاءتهم به، ولولا وعد من الله سابق بتأخير عذابهم إلى يوم القيامة، لحل بهم في دنياهم قضاء اللَّه وحكمه بإهلاك المبطلين ونجاة المحقين، كما حل بغيرهم من الأمم التي جاءتهم بها، بعد اختلاف أسلافهم في فهمها وتحريفهم لها، مما جعل إدراك الحقائق منها أمرا عسيرا. وإن هؤلاء الذين ورثوا التوراة لفي حيرة وبعدٍ عن الحقيقة.
١١١- إن كل فريق من هؤلاء سيوفيهم ربك حتما جزاء أعمالهم، إنه سبحانه خبير بهم، محيط بدقائق ما يعملون من خير أو شر، ويجازى كلاً منهم حسب عمله.
١١٢- وإذا كان هذا هو حال الأمم التي جاءها كتاب من اللَّه فاختلفت فيه وخرجت عليه، فداوم أنت ومن معك من المؤمنين على التزام الطريق المستقيم كما أمرك الله، ولا تجاوزوا حدود الاعتدال بتقصير أو إهمال ومغالاة في تكليف أنفسكم ما لا تطيقون. إنه سبحانه محيط علمه بكل ما تعملون فيجازيكم عليه.
١١٣- ولا تميلوا أدنى ميل إلى أعداء الله وأعدائكم الذين ظلموا أنفسهم وتجاوزوا حدود الله، ولا تُعَوِّلوا عليهم أو تستحسنوا طريقهم، فتستحقوا بسبب هذا الميل عذاب النار، ولا تجدوا أحداً يدفعه عنكم، ثم تكون عاقبتكم أنكم لا تُنصرون على أعدائكم بخذلان الله لكم، ولركونكم إلى عدوه.
١١٤- وأدِّ الصلاة - أيها النبي - على أتم وجه في طرفي النهار، وفي أوقات متفرقة من الليل، فإنها تطهر النفوس فتتغلب على نزعة الشر، وتمحو آثار السيئات التي قَلّما يخلو منها البشر، ذلك الذي أُمِرت به - أيها النبي - من الإرشاد للخير عظة ينتفع بها المستعدون لقبولها، الذين يذكرون ربهم ولا ينسونه.
١١٥- واصبر - أيها النبي - على مشاق ما أمرناك به، وأحسِنْ تنفيذه، يعطك الله أجراً عظيماً، لأنه لا يضيع عنده أجر المحسنين لأعمالهم.
١١٦- كان يجب أن يكون من تلك الأمم السابقة - التي أهلكناها بسبب ظلمها - جماعة منهم لهم كلمة مسموعة، وفضل من دين وعقل، ينهون غيرهم عن الفساد في الأرض، فيحفظوهم من العذاب الذي حل بهم، ولم يكن هذا، لكن الذي حدث أنه كان فيهم قليل من المؤمنين لم يُسمع لهم رأى ولا توجيه، فأنجاهم الله مع رسلهم، في الوقت الذي أصرَّ فيه الظالمون المعاندون على ما تعوَّدوه من قبل من حياة الترف والفساد، فحال ذلك بينهم وبين الانتفاع بدعوة الحق والخير، وكانوا في إيثارهم لهذا الطريق غارقين في الذنوب والسيئات، فأهلكهم الله تنفيذاً لسنّته في خلقه.
١١٧- وما كان من سنة الله، ولا من عدله في خلقه، أن يظلم أمة من الأمم فيهلكها وهي متمسكة بالحق، ملتزمة للفضائل، عاملة على ما يصلح أمرها وأمر غيرها.
١١٨- ولو شاء ربك - أيها النبي - لجعل الناس على دين واحد، مطيعين الله بطبيعة خلقتهم، كالملائكة، ولكان العالم غير هذا العالم، ولكنه سبحانه لم يشأ ذلك، بل تركهم مختارين، فلا يزالون مختلفين في كل شيء، حتى في أصول العقائد، كالإيمان بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر، مما لا يجوز الخلاف فيه، تبعاً لميولهم وشهواتهم وتفكيرهم، يتعصب كل فريق لرأيه، وما وجد عليه آباءه.
١١٩- لكن الذين رحمهم الله لسلامة فِطَرِهم، فإنهم اتفقوا على حُكم الله فيهم، فآمنوا بجميع رسله وكتبه واليوم الآخر. ولهذه المشيئة التي اقتضتها حكمته تعالى في نظام هذا العالم، خلقهم الله سبحانه مستعدين لهذا الثواب والعقاب، وبهذا يتحقق وعد ربك بأنه لا بد من أن يملأ جهنم من أتباع إبليس من الجن والناس.
١٢٠- ونقص عليك - أيها النبي - من كل نوع من أخبار الرسل السابقة مع أممهم ما نُقَوِّى به قلبك على القيام بمشاق الرسالة، وقد جاءك في هذه الأنباء بيان الحق الذي تدعو إليه، مثلما دعا إليه السابقون من الرسل، من توحيد الله والبُعْد عما يغضبه، كما جاءك فيها ما فيه عظة وعبرة ينتفع بها المؤمنون، فيزدادون إيماناً، والمستعدون للإيمان فيسارعون إليه.
١٢١- وقل - أيها النبي - للذين يصرون على العناد والكفر : ابْذلوا أقصى ما في قدرتكم من محاربة الإسلام وإيذاء المؤمنين به، فإننا ماضون في طريقنا ثابتون على عملنا.
١٢٢- وانتظروا ما تترقبونه لنا، إننا كذلك منتظرون وعد الله لنا بنجاح الدعوة والانتصار على أعدائها.
١٢٣- ولله - وحده - علم كل غيب في السماوات والأرض، فيعلم ما سيحل بكم، وما يكون لنا، وإليه وحده يرجع تصريف كل أمر من الأمور، وإذا كان الأمر كذلك، فاعبد - ربك وحده - وتوكل عليه، ولا تخش أحداً سواه، وما ربك بغافل عما تعملون جميعاً - أيها المؤمنون والكافرون - وسيجازى كلا بما يستحقه في الدنيا والآخرة.
Icon