تفسير سورة هود

زاد المسير
تفسير سورة سورة هود من كتاب زاد المسير في علم التفسير المعروف بـزاد المسير .
لمؤلفه ابن الجوزي . المتوفي سنة 597 هـ
سورة هود

فصل في نزولها


روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس أنها مكية كلها، وبه قال الحسن، وعكرمة، ومجاهد، وجابر بن زيد، وقتادة. وروي عن ابن عباس أنه قال : هي مكية، إلا آية، وهي قوله :﴿ أَقِمِ الصلاة طرفي النَّهَارِ ﴾ [ هود : ١١٤ ]، وعن قتادة نحوه. وقال مقاتل : هي مكية كلها، إلا قوله :﴿ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ ﴾ [ هود : ١٢ ] وقوله :﴿ أُوْلَئِكَ يؤمنون بِهِ ﴾ [ هود : ١٧ ] وقوله :﴿ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيّئَاتِ ﴾ [ هود : ١١٤ ].
وروى أبو بكر الصديق رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله، عجل إليك الشيب، قال :( شيبتني هود وأخواتها : الحاقة، والواقعة، وعم يتساءلون، وهل أتاك حديث الغاشية ).

سورة هود
(فصل في نزولها:) روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس أنها مكّية كلّها، وبه قال الحسن، وعكرمة، ومجاهد، وجابر بن زيد، وقتادة. وروي عن ابن عباس أنه قال: هي مكّية، إلّا آية، وهي قوله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ «١»، وعن قتادة نحوه. وقال مقاتل: هي مكّية كلّها، إلّا قوله:
فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ «٢» وقوله: أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ «٣» وقوله: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ «٤». وروى أبو بكر الصّديق رضي الله عنه قال:
(٧٨٨) قلت: يا رسول الله، عجل إليك الشّيب، قال: «شيّبتني هود وأخواتها: الحاقّة، والواقعة، وعمّ يتساءلون، وهل أتاك حديث الغاشية».

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة هود (١١) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١)
فأما آلر فقد ذكرنا تفسيرها في سورة يونس.
صحيح، أخرجه الترمذي ٣٢٩٧، والحاكم ٢/ ٣٤٤- ٤٧٦، والبزار في «البحر الزخار» ١/ ١٧٠ من حديث ابن عباس عن أبي بكر به وإسناده صحيح. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وكذا صححه الألباني في صحيح الترمذي ٣/ ١١٣. وهو كما قالوا. وأخرجه أبو يعلى ١٠٧ عن عكرمة عن أبي بكر وهذا منقطع لكن الحجة بما قبله. وله شاهد من حديث أنس: أخرجه البزار ٩٢ «البحر الزخار» ولفظه «قلت: يا رسول الله عجل إليك الشيب، قال: شيبتني هود وأخواتها، والواقعة، والحاقة، عم يتساءلون، وهل أتاك حديث الغاشية». وله شاهد من حديث أبي سعيد الخدري قال: «قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله! أسرع إليك الشيب، قال: شيبتني هود وأخواتها: الواقعة، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت» أخرجه البيهقي في «الدلائل» ١/ ٣٥٨ وفيه عطية العوفي واه. وله شاهد من حديث سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «شيبتني هود وأخواتها: الواقعة والحاقة، وإذا الشمس كورت». أخرجه الطبراني ٥٨٠٤، وقال الهيثمي في «المجمع» ١١٠٧٥: فيه سعيد بن سلام العطار، كذاب. وله شاهد من حديث أبي جحيفة قال:
قالوا: يا رسول الله قد شبت، قال: «شيبتني هود وأخواتها». أخرجه الترمذي في «الشمائل» ٤١، وأبو يعلى ٨٨٠، والبغوي ٤٠٧١. وانظر «تفسير الشوكاني» ١٢٢٠ و ١٢٣٠ بتخريجنا.
__________
(١) سورة هود: ١١٤.
(٢) سورة هود: ١٢.
(٣) سورة هود: ١٧.
(٤) سورة هود: ١١٤.
قال الفرّاء: وكِتابٌ مرفوع بالهجاء الذي قبله، كأنك قلت: حروف الهجاء هذا القرآن، وإِن شئت رفعته باضمار: هذا كتاب، والكتاب: القرآن. وفي قوله: أُحْكِمَتْ آياتُهُ أربعة أقوال: أحدها:
أحكمت فلم تنسخ بكتاب كما نسخت الكتاب والشرائع، قاله ابن عباس، واختاره ابن قتيبة. والثاني:
أُحكمت بالأمر والنهي، قاله الحسن، وأبو العالية. والثالث: أُحكمت عن الباطل، أي: مُنعت، قاله قتادة، ومقاتل. والرابع: أُحكمت بمعنى جُمعت، قاله ابن زيد. فإن قيل: كيف عمَّ الآيات ها هنا بالإِحكام، وخص بعضها في قوله: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ «١» ؟ فعنه جوابان:
أحدهما: أن الإِحكام الذي عمَّ به ها هنا، غير الذي خَصَّ به هناك. وفي معنى الإِحكام العامّ خمسة أقوال، قد أسلفنا منها أربعة في قوله: أُحْكِمَتْ آياتُهُ. والخامس: أنه إِعجاز النظم والبلاغة وتضمين الحِكَم المعجزة. ومعنى الإِحكام الخاص: زوال اللَّبْس، واستواء السامعين في معرفة معنى الآية.
والجواب الثاني: أن الإِحكام في الموضعين بمعنى واحد. والمراد بقوله: أُحْكِمَتْ آياتُهُ:
أُحكم بعضها بالبيان الواضح ومنع الالتباس، فأُوقعَ العمومُ على معنى الخصوص، كما تقول العرب:
قد أكلتُ طعام زيد، يعنون: بعضَ طعامه، ويقولون: قُتلنا وربِّ الكعبة، يعنون: قُتل بعضنا، ذكر ذلك ابن الأنباري.
وفي قوله: ثُمَّ فُصِّلَتْ ستة أقوال: أحدها: فصِّلت بالحلال والحرام، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: فصِّلت بالثواب والعقاب، رواه جسر بن فرقد «٢» عن الحسن. والثالث: فصِّلت بالوعد والوعيد، رواه أبو بكر الهذلي عن الحسن أيضاً. والرابع: فصِّلت بمعنى فسِّرت، قاله مجاهد.
والخامس: أُنزلت شيئاً بعد شيء، ولم تنزل جملة، ذكره ابن قتيبة. والسادس: فصِّلت بجميع ما يُحتاج إِليه من الدلالة على التوحيد، وتثبيت نبوَّة الأنبياء، وإِقامة الشرائع، قاله الزجاج. قوله تعالى: مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ أي: من عنده.
[سورة هود (١١) : الآيات ٢ الى ٤]
أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤)
قوله تعالى: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قال الفراء. المعنى: فصِّلت آياته بأن لا تعبدوا إلّا الله وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا. «وأن» في موضع النصب بالقائك الخافض.
وقال الزجاج: المعنى: آمركم أن لا تعبدوا إلها غيره، وأن استغفروا.
قال مقاتل: والمراد بهذه العبادة: التّوحيد، والخطاب لكفّار مكّة.
(١) سورة آل عمران: ٨.
(٢) هو أبو جعفر جسر بن فرقد البصري، قال البخاري: ليس بذلك عندهم، وقال ابن معين: ليس بشيء. انظر «الميزان» ١/ ٣٩٨.
قوله تعالى: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ فيه قولان: أحدهما: أن الاستغفار والتوبة هاهنا من الشرك، قاله مقاتل. والثاني: استغفروه من الذنوب السالفة، ثم توبوا إِليه من المستأنفة متى وقعت.
وذُكر عن الفراء أنه قال: «ثم» ها هنا بمعنى الواو.
قوله تعالى: يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً قال ابن عباس: يتفضل عليكم بالرزق والسَّعَة. وقال ابن قتيبة:
يُعمِّركْم. وأصل الإِمتاع: الإِطالة، يقال: أمتع الله بك، ومتَّع الله بك، إِمتاعاً ومتاعاً، والشيء الطويل: ماتع، يقال: جبل ماتع، وقد متاع النهار: إِذا تطاول.
وفي المراد بالأجل المسمى قولان: أحدهما: أنه الموت، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وقتادة. والثاني: أنه يوم القيامة، قاله سعيد بن جبير.
قوله تعالى: وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ في هاء الكناية قولان:
أحدهما: أنها ترجع إلى الله تعالى. ثم في معنى الكلام قولان: أحدهما: ويؤت كل ذي فضل من حسنةٍ وخيرٍ فضله، وهو الجنة. والثاني: يؤتيه فضله من الهداية إِلى العمل الصالح.
والثاني: أنها ترجع إلى العبيد، فيكون المعنى: ويؤت كل من زاد في إِحسانه وطاعاته ثواب ذلك الفضل الذي زاده، فيفضِّله في الدنيا بالمنزلة الرفيعة، وفي الآخرة بالثواب الجزيل.
قوله تعالى: وَإِنْ تَوَلَّوْا أي: تُعرضوا عما أُمرتم به. وقرأ أبو عبد الرحمن السُّلَمي، وأبو مجلز، وأبو رجاء: «وإِن تُوَلُّوا» بضم التاء. فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ فيه إضمار «فقل». واليوم الكبير: يوم القيامة.
[سورة هود (١١) : آية ٥]
أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٥)
قوله تعالى: أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ، في سبب نزولها خمسة أقوال:
(٧٨٩) أحدها: أنها نزلت في الأخنس بن شريق، وكان يجالس رسول الله ﷺ ويحلف إِنه ليحبّه، ويضمر خلاف ما يُظهر له، فنزلت فيه هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
(٧٩٠) والثاني: أنها نزلت في ناس كانوا يستحيون أن يُفضوا إِلى السماء في الخلاء ومجامعة النساء، فنزلت فيهم هذه الآية، رواه محمد بن عباد عن ابن عباس.
(٧٩١) والثالث: أنها نزلت في بعض المنافقين، كان إذا مرّ برسول الله صلى الله عليه وسلم، ثنى صدره وظهره وطأطأ رأسه وغطى وجهه لئلّا يراه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قاله عبد الله بن شدّاد.
لا أصل له. عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح غير ثقة في ابن عباس وراويته الكلبي، وهو ممن يضع الحديث. ذكره البغوي في «تفسيره» ٢/ ٣٧٣، عن ابن عباس بدون إسناد. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٥٣٧ بدون إسناد.
صحيح. أخرجه البخاري ٤٦٨١ والطبري ١٧٩٦٥ من حديث محمد بن عباد عن ابن عباس.
ضعيف. أخرجه الطبري ١٧٩٥٢ و ١٧٩٥٣ و ١٧٩٥٤ عن عبد الله بن شداد بن الهاد به ورجاله ثقات إلا أنه مرسل ابن شداد تابعي والخبر واه.
357
(٧٩٢) والرابع: أن طائفة من المشركين قالوا: إِذا أغلقنا أبوابنا وأرخينا ستورنا واستغشينا ثيابنا وثنينا صدورنا على عداوة محمّد صلى الله عليه وسلم، كيف يعلم بنا؟ فأخبر الله عما كتموا، ذكره الزّجّاج.
(٧٩٣) والخامس: أنها نزلت في قوم كانوا لشدة عداوتهم رسول الله ﷺ إِذا سمعوا منه القرآن حنَوا صدورهم، ونكسوا رؤوسهم، وتغشوا ثيابهم ليبعد عنهم صوت رسول الله ﷺ ولا يدخل أسماعهم شيء من القرآن، ذكره ابن الأنباري.
قوله تعالى: يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ يقال: ثنيت الشيء: إِذا عطفته وطويته. وفي معنى الكلام خمسة أقوال: أحدها: يكتمون ما فيها من العداوة لمحمّد عليه السلام، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: يثنون صدورهم على الكفر، قاله مجاهد. والثالث: يحنونها لئلا يسمعوا كتاب الله، قاله قتادة. والرابع: يثنونها إِذا ناجى بعضهم بعضا في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله ابن زيد. والخامس: يثنونها حياءً من الله تعالى، وهو يخرَّج على ما حكينا عن ابن عباس.
قال ابن الأنباري: وكان ابن عباس يقرؤها «ألا إِنهم تَثْنَوْني صدورُهم» وفسرها أن ناساً كانوا يستحيون أن يُفضوا إِلى السماء في الخلاء ومجامعة النساء. فَتَثْنَوْنِي: تفْعَوْعِلُ، وهو فعل للصدور، معناه: المبالغة في تثنّي الصدور، كما تقول العرب: احلولى الشيء، يحلَولي: إِذا بالغوا في وصفه بالحلاوة، قال عنترة:
ألا قَاتَلَ اللهُ الطُّلُولَ البَوَالِيَا وقَاتَلَ ذِكْرَاكَ السنينَ الخَوَالِيَا «١»
وقَوْلَكَ لِلشَّيْءِ الَّذِي لاَ تَنَالُهُ إِذا ما هُوَ احْلَوْلَى ألا لَيْتَ ذا ليا
فعلى هذا القول، هو في حق المؤمنين، وعلى بقية الأقوال، هو في حق المنافقين. وقد خُرِّج من هذه الأقوال في معنى يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ قولان: أحدهما: أنه حقيقة في الصدور. والثاني: أنه كتمان ما فيها.
قوله تعالى: لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ في هاء مِنْهُ قولان: أحدهما: أنها ترجع إِلى الله تعالى.
والثاني: إلى رسوله صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ قال أبو عبيدة: العرب تدخل «ألا» توكيداً وإِيجاباً وتنبيهاً. قال ابن قتيبة: «يستغشون ثيابهم» : أي: يتغشَّونها ويستترون بها. قال قتادة:
أخفى ما يكون ابن آدم، إذا حتى ظهره، واستغشى ثيابه، وأضمر همَّه في نفسه. قال ابن الأنباري:
أعلم الله أنه يعلم سرائرهم كما يعلم مظهراتهم.
قوله تعالى: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ قد شرحناه في سورة آل عمران «٢».
لم أقف عليه بهذا اللفظ، ولعل ابن الأنباري استنبطه من الآية، ولم يروه عن أحد. والله أعلم.
ضعيف. أخرجه الطبري ١٧٩٦٢ و ١٧٩٦٣ عن قتادة مرسلا، مع اختلاف يسير فيه وهو ضعيف لإرساله.
__________
(١) في «القاموس» الطلول: الشاخص من آثار الدار، وشخص كل شيء.
(٢) سورة آل عمران: ١١٩.
358

[سورة هود (١١) : الآيات ٦ الى ٧]

وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧)
قوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ قال أبو عبيدة: «مِنْ» من حروف الزوائد، والمعنى: وما دابة، والدابة: اسم لكل حيوان يدبّ. وقوله تعالى: إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها قال العلماء: فضلاً منه لا وجوبا عليه. و «على» ها هنا بمعنى «مِنْ». وقد ذكرنا المستقر والمستودع في سورة الأنعام «١». قوله تعالى: كُلٌّ فِي كِتابٍ أي: ذلك عند الله في اللوح المحفوظ، هذا قول المفسرين. وقال الزجاج:
المعنى: ذلك ثابت في علم الله عزّ وجلّ.
قوله تعالى: وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ قال ابن عباس: عرشه: سريره، وكان الماء إِذْ كان العرش عليه على الريح. قال قتادة: ذلك قبل أن يخلق السّماوات والأرض.
قوله تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أي: ليختبركم الاختبار الذي يجازي عليه، فيثيب المعتبر بما يرى من آيات السّماوات والأرض. ويعاقب أهل العناد.
قوله تعالى: أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا فيه أربعة أقوال:
(٧٩٤) أحدها: «أيكم أحسن عقلا، وأورع عن محارم الله عزّ وجلّ، وأسرع في طاعة الله» رواه ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والثاني: أيكم أعمل بطاعة الله، قاله ابن عباس. والثالث: أيكم أتم عقلاً، قاله قتادة. والرابع:
أيكم أزهد في الدنيا، قاله الحسن وسفيان.
قوله تعالى: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ قال الزجاج: السحر باطل عندهم، فكأنهم قالوا: إِن هذا إِلا باطل بيِّن، فأعلمهم الله تعالى أنّ القدرة على خلق السّماوات والأرض تدلّ على بعث الموتى.
[سورة هود (١١) : آية ٨]
وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨)
قوله تعالى: وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ قال المفسرون: هؤلاء كفار مكة، والمراد بالأمَّة المعدودة: الأجل المعلوم، والمعنى: إلى مجيء أمة وانقراض أخرى قبلها. لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ وإِنما قالوا ذلك تكذيبا واستهزاءً. قوله تعالى: أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ وقال: لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ. وقال بعضهم: لا يُصرف عنهم العذاب إِذا أتاهم. وقال آخرون: إذا أخذتهم سيوف رسول الله ﷺ لم تغمد
باطل. أخرجه الطبري ١٨٠٠٣ من حديث ابن عمر، ومداره على داود بن المجبر، وهو متهم بوضع كتاب «فضل العقل»، راجع ترجمته في «الميزان». وهذا الحديث ذكر فيه العقل كما ترى.
__________
(١) سورة الأنعام: ٦٧.
عنهم حتى يباد أهل الكفر وتعلوَ كلمة الإِخلاص. قوله تعالى: وَحاقَ بِهِمْ قال أبو عبيدة: نزل بهم وأصابهم. وفي قوله: ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ قولان: أحدهما: أنه الرسول ﷺ والكتاب، قاله أبو صالح عن ابن عباس، فيكون المعنى: حاق بهم جزاء استهزائهم. والثاني: أنه العذاب، كانوا يستهزئون بقولهم: ما يَحْبِسُهُ، وهذا قول مقاتل.
[سورة هود (١١) : آية ٩]
وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (٩)
قوله تعالى: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها نزلت في الوليد بن المغيرة. قاله ابن عباس.
والثاني: في عبد الله بن أبي أمية المخزومي، ذكره الواحدي والثالث: أن الإنسان ها هنا اسم جنس، والمعنى: ولئن أذقنا الناس، قاله الزجاج. والمراد بالرحمة: النعمة، من العافية، والمال، والولد. واليؤوس: القنوط، قال أبو عبيدة: هو فعول من يئستُ. قال مقاتل: إِنه ليؤوس عند الشدة من الخير، كفور لله في نعمه في الرّخاء.
[سورة هود (١١) : آية ١٠]
وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠)
قوله تعالى: وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ قال ابن عباس: صحة وسَعة في الرزق بَعْدَ ضَرَّاءَ بعد مرض وفقر. لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي يريد الضر والفقر. إِنَّهُ لَفَرِحٌ أي: بَطِرٌ. فَخُورٌ قال ابن عباس: يفاخر أوليائي بما أوسعت عليه.
فإن قيل: ما وجه عيب الإِنسان في قوله: ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي، وما وجه ذمه على الفرح، وقد وصف الله الشهداء فقال تعالى: فَرِحِينَ؟ فقد أجاب عنه ابن الأنباري، فقال: إِنما عابه بقوله:
ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي لأنه لم يعترف بنعمة الله ولم يحمَده على ما صُرف عنه. وإِنما ذمه بهذا الفرح لأنه يرجع إِلى معنى المرح والتكبُّر عن طاعة الله، قال الشاعر:
ولا يُنْسينيَ الحَدَثَانُ عِرْضِي ولا أُلقِي من الفَرَحِ الإِزارا «١»
يعني من المرح. وفرح الشهداءِ فرحٌ لا كِبْر فيه ولا خُيلاء، بل هو مقرون بالشكر فهو مستحسن.
[سورة هود (١١) : آية ١١]
إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١١)
قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا قال الفراء: هذا الاستثناء من الانسان، لأنه في معنى الناس، كقوله: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا «٢». وقال الزجاج: هذا استثناء ليس من الأول، والمعنى: لكنِ الذين صبروا. قال ابن عباس: الوصف الأول للكافر، والذين صبروا أصحاب محمد عليه السلام.
(١) البيت لابن أحمر. وفي «اللسان» حدثان الدهر وحوادثه: نوبه وما يحدث منه.
(٢) سورة العصر: ٢- ٣.

[سورة هود (١١) : آية ١٢]

فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢)
قوله تعالى: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ. سبب نزولها.
(٧٩٥) أن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ «١» فهمّ النبيّ ﷺ أن لا يُسمعهم عيب آلهتهم رجاء أن يتَّبعوه، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل.
وفي معنى الآية قولان: أحدهما: فلعلك تارك تبليغ بعض ما يوحى إِليك من أمر الآلهة، وضائق بما كُلّفتَه من ذلك صدرُك، خشية أن يقولوا. لولا أُنزل عليه كنز. والثاني: فلعلك لِعظيم ما يرد على قلبك من تخليطهم تتوهَّمُ أنهم يُزيلونك عن بعض ما أنت عليه من أمر ربك. فأما الضائق، فهو بمعنى الضيِّق. قال الزجاج: ومعنى أَنْ يَقُولُوا: كراهية أن يقولوا. وإِنما عليك أن تنذرهم بما يُوحى إِليك، وليس عليك أن تأتيهم باقتراحهم من الآيات.
قوله تعالى: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ فيه قولان: أحدهما: أنه الحافظ. والثاني: الشهيد، وقد ذكرناه في سورة آل عمران «٢».
[سورة هود (١١) : الآيات ١٣ الى ١٤]
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٣) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤)
قوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ «أم» بمعنى «بل»، و «افتراه» أتى به من قِبَل نفسه. قُلْ فَأْتُوا أنتم في معارضتي بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ في البلاغة مُفْتَرَياتٍ بزعمكم ودعواكم وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِلى المعاونة على المعارضة إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في قولكم: «افتراه». فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ أي يجيبوكم إِلى المعارضة فقد قامت الحجة عليهم لكم. فإن قيل: كيف وحَّد القول في قوله:
«قل فأتوا» ثم جمع في قوله: «فإن لم يستجيبوا لكم» ؟ فعنه جوابان: أحدهما: أنّ الخطاب للنبيّ ﷺ وحده في الموضعين، فيكون الخطاب له بقوله «لكم» تعظيماً، لأن خطاب الواحد بلفظ الجميع تعظيم، هذا قول المفسرين. والثاني: أنه وحَّد في الأول لخطاب النبيّ صلى الله عليه وسلم. وجمع في الثاني لمخاطبة النبيّ ﷺ وأصحابه، قاله ابن الأنباري.
قوله تعالى: فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ فيه قولان:
أحدهما: أنزله وهو عالم بانزاله، وعالم بأنه حق من عنده.
والثاني: أنزله بما أخبر فيه من الغيب، ودلَّ على ما سيكون وما سلف، ذكرهما الزّجّاج.
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ابن سليمان إذا أطلق، وهو ممن يضع الحديث، فهذا خبر لا شيء.
__________
(١) سورة يونس: ١٥.
(٢) عند الآية: ١٧٣. [.....]
قوله تعالى: وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي: واعلموا ذلك. فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ استفهام بمعنى الأمر. وفيمن خوطب به قولان: أحدهما: أهل مكة، ومعنى إِسلامهم: إِخلاصهم لله العبادة، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أنهم أصحاب رسول الله ﷺ قاله مجاهد.
[سورة هود (١١) : الآيات ١٥ الى ١٦]
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٦)
قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال:
أحدها: أنها عامة في جميع الخلق، وهو قول الأكثرين. والثاني: أنها في أهل القبلة، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: أنها في اليهود والنصارى، قاله أنس. والرابع: أنها في أهل الرياء، قاله مجاهد. وروى عطاء عن ابن عباس: من كان يريد عاجل الدنيا ولا يؤمن بالبعث والجزاء. وقال غيره:
إِنما هي في الكافر، لأن المؤمن يريد الدنيا والآخرة.
قوله تعالى: نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ أي: أجور أعمالهم فِيها. قال سعيد بن جبير: أُعطوا ثواب ما عملوا من خير في الدنيا. وقال مجاهد: مَنْ عمل عملاً من صِلة، أو صدقة، لا يريد به وجه الله، أعطاه الله ثواب ذلك في الدنيا، ويدرأ به عنه في الدنيا.
قوله تعالى: وَهُمْ فِيها قال ابن عباس: أي في الدنيا لا يُبْخَسُونَ أي لا يُنقصون من أعمالهم في الدنيا شيئاً أُولئِكَ الَّذِينَ عملوا لغير الله لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا أي ما عملوا في الدنيا من حسنة وَباطِلٌ ما كانُوا لغير الله سبحانه يَعْمَلُونَ.
(فصل:) وذكر قوم من المفسرين، منهم مقاتل، أن هذه الآية اقتضت أن من أراد الدنيا بعمله، أعطي فيها ثواب عمله من الرزق والخير، ثم نُسخ ذلك بقوله: عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ «١»، وهذا لا يصح، لأنه لا يوفّي إِلا لمن يريد.
[سورة هود (١١) : الآيات ١٧ الى ١٨]
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١٧) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨)
قوله تعالى: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ في المراد أربعة أقوال: أحدها: أنها الدين، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله الضحاك. والثالث: القرآن، قاله ابن زيد.
والرابع: البيان، قاله مقاتل. وفي المشار إليه ب «مَنْ» قولان: أحدهما: أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس والجمهور. والثاني: أنهم المسلمون، وهو يخرَّج على قول الضحاك. وفي قوله تعالى:
(١) سورة الإسراء: ١٨.
362
وَيَتْلُوهُ قولان: أحدهما: يتبعه. والثاني: يقرؤه. وفي هاء «يتلوه» قولان: أحدهما: أنها ترجع إِلى النبيّ صلى الله عليه وسلم. والثاني: إِلى القرآن، وقد سبق ذكره في قوله: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ «١». وفي المراد بالشاهد ثمانية أقوال «٢» : أحدها: أنه جبريل، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة، وإِبراهيم في آخرين. والثاني: أنه لسان رسول الله ﷺ الذي كان يتلو القرآن، قاله علي بن أبي طالب، والحسن، وقتادة في آخرين. والثالث: أنه علي بن أبي طالب. و «يتلوه» بمعنى يتبعه، رواه جماعة عن علي بن أبي طالب «٣»، وبه قال محمد بن علي، وزيد بن عليّ. والرابع: أنه رسول لله ﷺ هو شاهد من الله عزّ وجلّ. قاله الحسين بن علي عليه السلام. والخامس: أنه ملَك يحفظه ويسدده، قاله مجاهد. والسادس: أنه الإِنجيل يتلو القرآن بالتصديق، وإِن كان قد أنزل قبله، لأنّ النبيّ ﷺ بشَّرت به التوراة، قاله الفراء. والسابع: أنه القرآن ونظمه وإِعجازه، قاله الحسين بن الفضل. والثامن: أنه صورة رسول الله ﷺ ووجهه ومخايله، لأن كل عاقل نظر إِليه علم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي هاء «منه» ثلاثة أقوال. أحدها: أنها ترجع إِلى الله تعالى. والثاني: إِلى النبي صلى الله عليه وسلم. والثالث: إِلى البيِّنة.
قوله تعالى: وَمِنْ قَبْلِهِ في هذه الهاء ثلاثة أقوال: أحدها: أنها ترجع إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، قاله مجاهد. والثاني: إِلى القرآن، قاله ابن زيد. والثالث: إِلى الإِنجيل، أي: ومن قبل الإِنجيل كِتابُ مُوسى يتبع محمداً بالتصديق له، ذكره ابن الأنباري. قال الزجاج: والمعنى: وكان من قبل هذا كتاب موسى دليلاً على أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيكون «كتاب موسى» عطفا على قوله تعالى: وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ أي: ويتلوه كتاب موسى عليه السّلام، لأنّ موسى وعيسى عليهما السّلام بشّرا بالنبيّ ﷺ في التوراة والإِنجيل. ونصب «إِماما» على الحال.
فإن قيل: كيف تتلوه التوراة، وهي قبله؟ قيل: لما بشَّرت به، كانت كأنها تالية له، لأنها تبعته بالتصديق له. وقال ابن الأنباري: «كتاب موسى» مفعول في المعنى، لأن جبريل تلاه على موسى عليه السّلام، فارتفع الكتاب، وهو مفعول بمضمر بعده، تأويله: ومن قبله كتاب موسى كذاك، أي: تلاه جبريل أيضاً، كما تقول العرب: أكرمت أخاك وأبوك، فيرفعون الأب، وهو مكرَم على الاستئناف،
(١) سورة هود: ١٣.
(٢) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» : ٢/ ٥٤٢ وقوله: وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ، أي وجاءه شاهد من الله، وهو ما أوحاه إلى الأنبياء من الشرائع المطهرة المكملة المعظمة المختتمة بشريعة محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. ولهذا قال ابن عباس، ومجاهد وعكرمة، وأبو العالية والضحاك وإبراهيم النخعي، والسدي، وغير واحد في قوله تعالى: وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ: إنه جبريل عليه السلام. وعن علي، والحسن، وقتادة: وهو محمد صلى الله عليه وسلم- وكلاهما قريب في المعنى، لأن كلا من جبريل ومحمد صلوات الله عليهما بلغ رسالة الله تعالى، فجبريل إلى محمد، ومحمد إلى الأمة. وقيل: هو علي وهو ضعيف لا يثبت له قائل. والأول والثاني هو الحق، وذلك أن المؤمن عنده من الفطرة بما يشهد للشريعة من حيث الجملة، والتفاصيل تؤخذ من الشريعة، والفطرة تصدقها وتؤمن بها ولهذا قال تعالى: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وهو القرآن، بلغه جبريل إلى النبي ﷺ وبلغه النبي محمد إلى أمته.
(٣) باطل، لا يصح تخصيص علي بذلك من بين الصحابة، وهو من بدع التأويل وكونه ورد عن علي، فقد أخرجه الطبري ١٨٠٦٢، وفيه جابر بن يزيد الجعفي، وهو متهم بالكذب، كذبه أبو حنيفة وغيره.
363
بمعنى: وأبوك مكرَم أيضاً. قال: وذهب قوم إِلى أن كتاب موسى فاعل، لأنه تلا محمداً بالتصديق كما تلاه الإِنجيل.
(فصل:) فتلخيص الآية: أفمن كان على بيِّنة من ربه كمن لم يكن؟ قال الزجاج: ترك المضادَّ له، لأن في ما بعده دليلاً عليه، وهو قوله: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ»
. وقال ابن قتيبة: لما ذكر قبل هذه الآية قوما ركنوا إِلى الدنيا، جاء بهذه الآية، وتقدير الكلام: أفمن كانت هذه حاله كمن يريد الدنيا؟ فاكتفى من الجواب بما تقدم، إِذ كان فيه دليل عليه. وقال ابن الأنباري: إِنما حُذف لانكشاف المعنى، والمحذوف المقدَّر كثير في القرآن والشعر، قال الشاعر:
فأُقْسِمُ لَوْ شيءٌ أتانا رسولُه سواكَ، وَلكِن لم نَجِدْ لكِ مَدْفعا «٢»
فإن قلنا: إِن المراد بمن كان على بيِّنة من ربه، رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمعنى الآية: ويتبع هذا النبيَّ شاهد، وهو جبريل عليه السلام «منه» أي: من الله. وقيل: «شاهد» هو علي بن أبي طالب عليه السّلام «٣»، «منه» أي: من النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقيل: «يتلوه» يعني القرآن، يتلوه جبريل، وهو شاهد لمحمّد ﷺ أن الذي يتلوه جاء من عند الله تعالى. وقيل: ويتلو رسول الله ﷺ القرآن وهو شاهد من الله تعالى.
وقيل: ويتلو لسان رسول الله ﷺ القرآنَ، فلسانه شاهد منه. وقيل: ويتبع محمداً شاهد له بالتصديق، وهو الإِنجيل من الله تعالى. وقيل: ويتبع هذا النبي شاهد من نفسه، وهو سَمْتُه وهديه الدالُّ على صدقه. وإِن قلنا: إِن المراد بمن كان على بيِّنة من ربه المسلمون، فالمعنى: أنهم يتبعون رسول الله ﷺ وهو البيِّنة، ويتبع هذا النبي شاهد له بصدقه.
قوله تعالى: إِماماً وَرَحْمَةً إِنما سماه إِماماً، لأنه كان يهتدى به، وَرَحْمَةً أي: وذا رحمة، وأراد بذلك التوراة، لأنها كانت إِماما وسبباً لرحمة من آمن بها.
قوله تعالى: أُولئِكَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه إِشارة إِلى أصحاب موسى. والثاني: إِلى أصحاب محمّد صلى الله عليه وسلم. والثالث: إِلى أهل الحق من أُمة موسى وعيسى ومحمد.
وفي هاء «به» ثلاثة أقوال: أحدها: أنها ترجع إِلى التوراة. والثاني: إِلى القرآن. والثالث: إلى محمّد صلى الله عليه وسلم. وفي المراد بالأحزاب هاهنا أربعة أقوال: أحدها: جميع الملل، قاله سعيد بن جبير.
والثاني: اليهود والنصارى، قاله قتادة. والثالث: قريش، قاله السدي. والرابع: بنو أُمية، وبنو المغيرة بن عبد الله المخزومي، وآل طلحة بن عبد العُزّى، قاله مقاتل.
قوله تعالى: فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ أي: إِليها مصيره، قال حسان بن ثابت:
أَوْرَدْتُمُوها حِيَاضَ «٤» المَوْتِ ضَاحِيَةً فالنّار موعدها والموت لاقيها
قوله تعالى: فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ قرأ الحسن، وقتادة «مُرية» بضم الميم أين وقع. وفي المكنّى
(١) سورة هود: ٢٤.
(٢) البيت لامرئ القيس كما في ديوانه: ٢٤٢.
(٣) تقدم أنه باطل، وأنه من بدع التأويل.
(٤) في «القاموس» حياض: جمع حوض: من حاضت المرأة، أو من حاض الماء: جمعه، وحوضا اتخذه.
364
عنه قولان: أحدهما: أنه الإِخبار بمصير الكافر به، فالمعنى: فلا تك في شك أن موعد المكذِّب به النار، وهذا قول ابن عباس. والثاني: أنه القرآن، فالمعنى: فلا تك في شك من أن القرآن من الله تعالى، قاله مقاتل. قال ابن عباس: والمراد بالناس هاهنا: أهل مكة.
قوله تعالى: أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ قال الزجاج: ذكر عرضهم توكيداً لحالهم في الانتقام منهم، وإِن كان غيرهم يعرض أيضاً. فأما «الأشهاد» ففيهم خمسة أقوال: أحدها: أنهم الرسل، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: الملائكة، قاله مجاهد وقتادة. والثالث: الخلائق، روي عن قتادة أيضاً. وقال مقاتل: «الأشهاد» الناس، كما يقال: على رؤوس الأشهاد، أي على رؤوس الناس.
والرابع: الملائكة والنّبيّون وأمّة محمّد ﷺ يشهدون على الناس، والجوارح تشهد على ابن آدم، قاله ابن زيد. والخامس: الأنبياء والمؤمنون، قاله الزجاج. قال ابن الأنباري: وفائدة إِخبار الأشهاد بما يعلمه الله تعظيم بالأمر المشهود عليه ودفع المجاحدة فيه.
[سورة هود (١١) : آية ١٩]
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (١٩)
قوله تعالى: الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قد تقدّم تفسيرها في سورة الأعراف «١».
قوله تعالى: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ قال الزجاج: ذُكرت «هم» ثانية على جهة التّوكيد لشأنهم في الكفر.
[سورة هود (١١) : الآيات ٢٠ الى ٢١]
أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (٢٠) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢١)
قوله تعالى: أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ قال ابن عباس: لم يُعجزوني أن آمر الأرض فتُخسف بهم. وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ أي: لا وليِّ لهم ممن يعبدون يمنعهم مني. وقال ابن الأنباري: لما كانت عادة العرب جارية بقولهم: لا وزَرَ لك مني ولا نَفَق، يعنون بالوزر: الجبل، والنفق: السرَبَ، وكلاهما يلجأ إِليه الخائف، أعلم الله تعالى أن هؤلاء الكافرين لا يسبقونه هرباً، ولا يجدون ما يحجز بينهم وبين عذابه من جميع ما يستر من الأرض ويُلجأ إِليه. قال: وقوله: مِنْ أَوْلِياءَ يقتضي محذوفاً، تلخيصه: من أولياءَ يمنعونهم من عذاب الله، فحذف هذا لشهرته. قوله تعالى:
يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ يعني الرؤساء الصادِّين عن سبيل الله، وذلك لإِضلالهم أتباعهم واقتداءِ غيرهم بهم. وقال الزجاج: لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ أي: في دار الدنيا، ولا لهم ولي يمنع من انتقام الله، ثم استأنف: يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ لعظم كفرهم بنبيه وبالبعث والنشور.
قوله تعالى: ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ فيمن عني بهذا قولان.
أحدهما: أنهم الكفار. ثم في معناه ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم لم يقدروا على استماع الخير،
(١) في الآية: ٤٥.
وإِبصار الحق، وفعل الطاعة، لأن الله تعالى حال بينهم وبين ذلك، هذا معنى قول ابن عباس، ومقاتل. والثاني: أن المعنى: يضاعف لهم العذاب بما كانوا يستطيعون السمع ولا يسمعونه، وبما كانوا يبصرون حُجج الله ولا يعتبرون بها، فحذف الباء، كما تقول العرب: لأجزينَّك ما عملت، وبما عملت، ذكره الفراء، وأنشد ابن الأنباري في الاحتجاج له:
نُغالي اللحمَ للأضياف نيِئا ونبذُله إِذا نضِجَ القُدورُ «١»
أراد: نغالي باللحم. والثالث: أنهم من شدة كفرهم وعداوتهم للنبيّ ﷺ ما كانوا يستطيعون السّمع ليفهموا ما يقول، قاله الزجاج.
والقول الثاني: أنهم الأصنام، فالمعنى ما كان للآلهة سمع ولا بصر، فلم تستطع لذلك السمع، ولم تكن تبصر. فعلى هذا، يرجع قوله: «ما كانوا» إِلى أوليائهم، وهي الأصنام، وهذا المعنى منقول عن ابن عباس أيضا.
[سورة هود (١١) : الآيات ٢٢ الى ٢٤]
لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٢٢) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٣) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٤)
قوله تعالى: لا جَرَمَ قال ابن عباس: يريد: حقاً إِنهم الأخسرون. وقال الفراء: لا جَرَمَ كلمة كانت في الأصل بمنزلة لا بد ولا محالة، فجرت على ذلك، وكثر استعمالهم إِياها حتى صارت بمنزلة «حقا»، ألا ترى أن العرب تقول: لا جرم لآتينَّك، لا جرم لقد أحسنت، وأصلها من جرمتُ، أي: كسبت الذنب. قال الزجاج: ومعنى لا جَرَمَ: «لا» نفي لما ظنوا أنه ينفعهم، كأن المعنى: لا ينفعهم ذلك جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون، أي كسب لهم ذلك الفعلُ الخسرانَ. وذكر ابن الأنباري أن «لا» رد على أهل الكفر فيما قدَّروه من اندفاع الشر عنهم في الآخرة، والمعنى: لا يندفع عنهم عذابي، ولا يجدون ولياً يصرف عنهم نقمتي، ثم ابتدأ مستأنفاً «جرم»، قال: وفيها قولان:
أحدهما: أنها بمعنى: كسب كفرهم وما قدَّروا من الباطل وقوعَ العذاب بهم. ف جَرَمَ فعل ماض، معناه: كسب، وفاعله مُضمر فيه من ذكر الكفر وتقرير الباطل. والثاني: أن معنى جرم: أحقَّ وصحَّحَ، وهو فعل ماض، وفاعله مضمر فيه، والمعنى: أحقَّ كفرُهم وقوعَ العذاب والخسران بهم، قال الشاعر:
ولقد طَعَنْتَ أبا عُيَيْنَةَ طعنةً جرمت فزارة بعدها أن يَغْضَبُوا «٢»
أراد: حقت الطعنةُ فزارة بالغضب. ومن العرب من يغيِّرُ لفظ «جرم» مع «لا» خاصة، فيقول بعضهم: «لا جُرْم»، ويقول آخرون: «لا جَرْ» باسقاط الميم، ويقال: «لاذا جرم» و «لاذا جر» بغير ميم، و «لا إِن ذا جرم» و «لا عن ذا جرم»، ومعنى اللغات كلها: حقا.
(١) ذكره ابن منظور في «اللسان»، مادة «غلا» ولم ينسبه لأحد.
ونغالي: من الغلاء، وهو نقيض الرخص، وغالى بالشيء: اشتراه بثمن غال.
(٢) ذكره ابن منظور في «اللسان» مادة «جرم» ونسبه لأبي أسماء بن الضريبة.
366
قوله تعالى: وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ فيه سبعة أقوال: أحدها: خافوا ربهم، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: أنابوا إلى ربهم، رواه العوفي عن ابن عباس. والثالث: ثابوا إِلى ربهم، قاله قتادة.
والرابع: اطمأنوا، قاله مجاهد. والخامس: أخلصوا، قاله مقاتل. والسادس: تخشَّعوا لربهم، قاله الفراء. والسابع: تواضعوا لربهم، قاله ابن قتيبة.
فإن قيل: لم أوثرت «إِلى» على اللام في قوله: وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ، والعادة جارية بأن يقال:
أخبتوا لربهم؟ فالجواب: أن المعنى: وَجَّهوا خوفَهم وخشوعهم وإِخلاصهم إِلى ربهم، واطمأنوا إِلى ربهم. قال الفراء: وربما جعلت العرب «إِلى» في موضع اللام، كقوله تعالى: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها «١»، وقوله تعالى: الَّذِي هَدانا لِهذا «٢». وقد يجوز في العربية: فلان يخبت إِلى الله، يريد:
يفعل ذلك موجهَه إِلى الله. قال بعض المفسرين: هذه الآية نازلة في أصحاب محمّد صلى الله عليه وسلم، وما قبلها نازل في المشركين. ثم ضرب للفريقين مثلا، فقال تعالى: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ قال مجاهد: الفريقان: المؤمن والكافر. فأما الأعمى والأصم فهو الكافر، وأما البصير والسميع فهو المؤمن. قال قتادة: الكافر عَمِيَ عن الحق وصُمَّ عنه، والمؤمن أبصرَ الحق وسمعَه ثم انتفع به. وقال أبو عبيدة: في الكلام ضمير، تقديره: مثل الفريقين كمثل الأعمى. وقال الزجاج: مثل الفريقين المسلِمَين كالبصير والسميع، ومثل فريق الكافرين كالأعمى والأصم، لأنهم في عداوتهم وتركهم للفهم بمنزلة من لا يسمع ولا يبصر.
قوله تعالى: هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا أي: هل يستويان في المشابهة؟
والمعنى: كما لا يستويان عندكم، كذلك لا يستوي المؤمن والكافر عند الله عزّ وجلّ وقال أبو عبيدة: «هل» هاهنا بمعنى الإِيجاب. لا بمعنى الاستفهام، والمعنى: لا يستويان. قال الفراء: وإِنما لم يقل: «يستوون» لأن الأعمى والأصم من صفةِ واحدٍ، والسميع والبصير من صفةِ واحدٍ، كقول القائل:
مررت بالعاقل واللبيب، وهو يعني واحداً قال الشاعر:
وما أدْرِي إذا يَمَّمْتُ أرضاً أُريدُ الخَيْرَ أيهما يليني «٣»
فقال: أيهما. وإِنما ذكر الخير وحده، لأن المعنى يُعرف، إِذ المبتغي للخير متَّقٍ للشر. وقال ابن الأنباري: الأعمى والأصم صفتان لكافر، والسميع والبصير صفتان لمؤمن، فرُدَّ الفعلُ إِلى الموصوفين بالأوصاف الأربعة، كما تقول: العاقل والعالم، والظالم والجاهل، حضرا مجلسي، فتثنِّي الخبر بعد ذكرك أربعة، لأن الموصوف بالعلم هو الموصوف بالعقل، وكذلك المنعوت بالجهل هو المنعوت بالظلم، فلما كان المنعوتان اثنين، رجع الخبر إِليهما، ولم يُلتفت إِلى تفريق الأوصاف، ألا ترى أنه يسوغ أن تقول: الأديب واللبيب والكريم والجميل قصدني، فتوحِّد الفعل بعد أوصاف لعلة أن الموصوف بهن واحد، ولا يمتنع عطف النعوت على النعوت بحروف العطف، والموصوفُ واحد، فقد قال تعالى: التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ ثم قال: الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ فلم يقتض دخولُ الواو وقوعَ خلاف بين الآمرين والناهين، وقد قيل: الآمر بالمعروف ناهٍ عن المنكر في حال أمره، وكان
(١) سورة الزلزال: ٥.
(٢) سورة الأعراف: ٤٣.
(٣) تقدم في سورة البقرة عند الآية: ١٨٠. [.....]
367
دخول الواو دلالة على الآمر بالمعروف، لأن الأمر بالمعروف لا ينفرد دون النهي عن المنكر، كما ينفرد الحامدون بالحمد دون السائحين، والسائحون بالسياحة دون الحامدين، ويدل أيضاً على أن العرب تنسق النعت على النعت والمنعوت واحد، كقول الشاعر يخاطب سعيد بن عمرو بن عثمان بن عفان:
يَظُنُّ سعيدٌ وابنُ عمروٍ بأننَّي إِذا سامَني ذلاً أكونُ به أرْضَى
فنسق ابن عمرو على سعيد، وهو سعيد.
[سورة هود (١١) : الآيات ٢٥ الى ٢٩]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (٢٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (٢٨) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٩)
قوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي «أني» بفتح الألف، والتقدير: أرسلناه بأني، وكأن الوجه بأنه لهم نذير، ولكنه على الرجوع من الإِخبار عن الغائب إِلى خطاب نوح لقومه. وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة «إِني» بكسر الألف، فحملوه على القول المضمر، والتقدير: فقال لهم: إِني لكم نذير.
قوله تعالى: ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا أي: إِنساناً مثلنا، لا فضل لك علينا. فأما الأراذل، فقال ابن عباس: هم السَّفَلة. وقال ابن قتيبة: هم جمع «أرذل»، يقال: رجل رَذْل، وقد رَذُل رذالة ورُذُولة.
ومعنى: الأراذل: الشرار.
قوله تعالى: بادِيَ الرَّأْيِ قرأ الأكثرون «بادِيَ» بغير همز. وقرأ أبو عمرو بالهمز بعد الدال.
وكلهم همز «الرأي» غير أبي عمرو. وللعلماء في معنى «بادي» إذا لم يُهمز ثلاثة أقوال:
أحدها: أن المعنى: ما نرى أتباعك إِلا سفلتنا وأرذالنا في بادي الرأي لكل ناظر، يعنون أن ما وصفناهم به من النقص لا يخفى على أحد فيخالفنا، هذا مذهب مقاتل في آخرين.
والثاني: أن المعنى أن هؤلاء القوم اتَّبعوك في ظاهر ما يُرى منهم، وطويَّتُهم على خلافك.
والثالث: أن المعنى: اتبعوك في ظاهر رأيهم، ولم يتدبروا ما قلتَ، ولو رجعوا إِلى التفكر لم يتبعوك، ذكر هذين القولين الزجاج. قال ابن الأنباري: وهذه الثلاثة الأقوال على قراءة من لم يهمز، لأنه مِن بدا، يبدو: إذا ظهر. فأمّا من همز «بادئ» فمعناه: ابتداء الرأي، أي: اتَّبعوك أول ما ابتدءوا ينظرون، ولو فكروا لم يعدلوا عن موافقتنا في تكذيبك.
قوله تعالى: وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: من فضل في الخلق، قاله ابن عباس. والثاني: في الملك والمال ونحو ذلك، قاله مقاتل. والثالث: ما فُضِّلتم باتِّباعكم نوحاً، ومخالفتكم لنا بفضيلة نتبعكم طلبا لها، ذكره أبو سليمان الدّمشقي.
قوله تعالى: بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ فيه قولان: أحدهما: نتيقنكم، قاله الكلبي. والثاني:
نحسبكم، قاله مقاتل.
قوله تعالى: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي أي: على يقين وبصيرة. قال ابن الأنباري: وقوله:
«إِن كنت» شرط لا يوجب شكّاً يلحقه، لكن الشك يلحق المخاطَبين من أهل الزيغ، فتقديره: إِن كنتُ على بينة من ربي عندكم. وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فيها قولان:
أحدهما: أنها النبوَّة، قاله ابن عباس. والثاني: الهداية، قاله مقاتل.
قوله تعالى: فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: «فَعَمِيَتْ» بتخفيف الميم وفتح العين. قال ابن قتيبة: والمعنى: عميتم عنها، يقال: عمي عليَّ هذا الأمر: إِذا لم أفهمه، وعميت عنه بمعنى. قال الفراء: وهذا مما حوَّلت العرب الفعل إِليه، وهو في الأصل لغيره، كقولهم: دخل الخاتم في يدي، والخف في رجلي، وإِنما الإِصبع تدخل في الخاتم، والرجل في الخف، واستجازوا ذلك إِذ كان المعنى معروفاً. وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: «فعُمِّيَتْ» بضم العين وتشديد الميم. قال ابن الأنباري: ومعنى ذلك: فعمّاها الله عليكم إِذ كنتم ممن حُكم عليه بالشقاء. وكذلك قرأ أُبَيّ بن كعب، والأعمش: «فعمّاها عليكم». وفي المشار إليها قولان: أحدهما: البيِّنة. والثاني: الرحمة.
قوله تعالى: أَنُلْزِمُكُمُوها أي: أنُلزمكم قبولها؟ وهذا استفهام معناه الإنكار، يقول: لا نقدر أن نُلزمكم من ذات أنفسنا. قال قتادة: والله لو استطاع نبيّ الله ﷺ لألزمها قومه، ولكن لم يملك ذلك «١». وقيل: كان مراد نوح عليه السلام ردَّ قولهم: وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فبيَّن فضله وفضل مَن آمن به بأنه على بيِّنة من ربه، وقد آتاه رحمةً من عنده، وسُلب المكذِّبون ذلك. قوله تعالى: لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي: على نصحي ودعائي إياكم مالاً فتتهموني. وقال ابن الأنباري: لما كانت الرحمة بمعنى الهدى والإِيمان، جاز تذكيرها. قوله تعالى: وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا قال ابن جريج: سألوه طردهم أنفة منهم، فقال: لا يجوز لي طردهم، إِذ كانوا يلقون الله فيجزيهم بايمانهم، ويأخذ لهم ممن ظلمهم وصغَّر شؤونهم. وفي قوله تعالى: وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ قولان:
أحدهما: تجهلون أن هذا الأمر من الله تعالى، قاله ابن عباس. والثاني: تجهلون لأمركم إِياي بطرد المؤمنين، قاله أبو سليمان.
[سورة هود (١١) : الآيات ٣٠ الى ٣٤]
وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣٠) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٣١) قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٣) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٣٤)
(١) أخرجه الطبري رحمه الله في «تفسيره» ١٨١٢١، عن قتادة قوله.
قوله تعالى: وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي أي: من يمنعني من عذاب الله إِن طردتهم.
قوله تعالى: وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ قال ابن الأنباري: أراد بالخزائن: عِلمَ الغيب المطوي عن الخلق، لأنهم قالوا له: إنما اتَّبعك هؤلاء في الظاهر وليسوا معك، فقال لهم: ليس عندي خزائن غيوب الله فأعلم ما تنطوي عليه الضمائر. وإِنما قيل للغيوب: خزائن، لغموضها عن الناس واستتارها عنهم. قال سفيان بن عيينة: إِنما آيات القرآن خزائن، فإذا دخلتَ خزانةً فاجتهد أن لا تخرج منها حتى تعرف ما فيها.
قوله تعالى: وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ قيل: إِنما قال لهم هذا، لأن أرضهم أجدبت، فسألوه: متى يجيء المطر؟ وقيل: بل سألوه: متى يجيء العذاب؟ فقال: ولا أعلم الغيب. وقوله عزّ وجلّ: وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ جواب لقولهم: ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا «١». وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ أي:
تحتقر وتستصغر المؤمنين. قال الزجاج: «تزدري» تستقل وتستخِس، يقال: زريت على الرجل: إِذا عبت عليه وخسست فعله، وأزريت به: إِذا قصرت به. وأصل تزدري: تزتري، إِلا أن هذه التاء تبدل بعد الزاي دالاً، لأن التاء من حروف الهمس، وحروف الهمس خفية، فالتاء بعد الزاي تخفى، فأبدلت منها الدال لجهرها.
قوله تعالى: لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً قال ابن عباس: إِيمانا. ومعنى الكلام: ليس لي أن أطَّلِع على ما في نفوسهم فأقطع عليهم بشيء، وليس لاحتقاركم إِياهم يبطل أجرهم. إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ إِن قلت هذا الذي تقدم ذكره، وقيل: إِن طردتهم.
قوله تعالى: قَدْ جادَلْتَنا قال الزجاج: الجدال: هو المبالغة في الخصومة والمناظرة، وهو مأخوذ من الجَدْل، وهو شدة الفتل، ويقال للصقر: أجدل، لأنه من أشدّ الطّير. ويقرأ «فأكثرت جدلنا». وقوله تعالى: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا قال ابن عباس: يعنون العذاب. إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ أنه يأتينا.
قوله تعالى: إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ أي: أنصحكم. وفي هذه الآية شرطان: فجواب الأول:
النصح، وجواب الثاني: النفع. قوله تعالى: إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ فيه ثلاثة أقوال: أحدها:
يُضلكم، قاله ابن عباس. والثاني: يُهلككم، حكاه ابن الأنباري. وقال: هو قول مرغوب عنه.
والثالث: يضلكم ويهلككم، قاله الزجاج. قوله تعالى: هُوَ رَبُّكُمْ أي: هو أولى بكم، يتصرف في ملكه كما يشاء وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ بعد الموت.
[سورة هود (١١) : آية ٣٥]
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (٣٥)
قوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ قال الزجاج: المعنى: أيقولون: افْتَراهُ؟ قال ابن قتيبة: الافتراء:
الاختلاق. فَعَلَيَّ إِجْرامِي أي: جرم ذلك الاختلاق إِن كنتُ فعلت. وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ في التكذيب. وقرأ أبو المتوكل، وابن السميفع: «فعليَّ أجرامي» بفتح الهمزة.
(١) سورة هود: ٢٧.

[سورة هود (١١) : آية ٣٦]

وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦)
قوله تعالى: وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ قال المفسرون: لما أوحي إِليه هذا، استجاز الدعاء عليهم، فقال: لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً «١». قوله تعالى: فَلا تَبْتَئِسْ قال ابن عباس ومجاهد: لا تحزن. وقال الفراء والزجاج: لا تستكن ولا تحزن. قال أبو صالح عن ابن عباس: فلا تحزن إِذا نزل بهم الغرق بِما كانُوا يَفْعَلُونَ.
[سورة هود (١١) : الآيات ٣٧ الى ٣٨]
وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (٣٨)
قوله تعالى: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ أي: واعمل السفينة. وفي قوله: بِأَعْيُنِنا ثلاثة أقوال: أحدها:
بمرأىً منا، قاله ابن عباس. والثاني: بحفظنا، قاله الربيع. والثالث: بعلمنا، قاله مقاتل. قال ابن الأنباري: إِنما جمع على مذهب العرب في إِيقاعها الجمع على الواحد، تقول: خرجنا إِلى البصرة في السفن، وإِنما جمع، لأن من عادة الملك أن يقول: أمرنا ونهينا. وفي قوله: وَوَحْيِنا قولان:
أحدهما: وأمرنا لك أن تصنعها. والثاني: وبتعليمنا إِياك كيف تصنعها. قوله تعالى: وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا فيه قولان: أحدهما: لا تسألني الصفح عنهم. والثاني: لا تخاطبني في إِمهالهم. وإِنما نهي عن الخطاب في ذلك صيانة له عن سؤال لا يجاب فيه.
(الإِشارة إِلى كيفية عمل السفينة) روى الضحاك عن ابن عباس قال: كان نوح يُضرب ثم يُلفُّ في لِبْدٍ فيُلقى في بيته، يُرَوْن أنه قد مات، ثم يخرج فيدعوهم. حتى إِذا يئس من إِيمان قومه، جاءه رجل ومعه ابنه وهو يتوكأ على عصاً، فقال: يا بني، انظر هذا الشيخ لا يغررك، قال: يا أبت أمكني من العصا، فأخذها فضربه ضربةً شجه مُوْضِحَةً، وسالت الدماء على وجهه، فقال: رب قد ترى ما يفعل بي عبادك، فان يكن لك فيهم حاجة فاهدهم، وإِلا فصبِّرني إِلى أن تحكم، فأوحى الله إِليه: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ إلى قوله تعالى: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ، قال: يا ربّ، وما الفلك؟ قال: بيت من خشب يجري على وجه الماء أُنجّي فيه أهل طاعتي، وأغرق أهل معصيتي، قال: يا ربّ، وأين الماء؟ قال: إِني على ما أشاء قدير، قال: يا ربّ، وأين الخشب؟ قال: اغرس الشجر، فغرس الساج عشرين سنة، وكفّ عن دعائهم، وكفُّوا عنه، إِلا أنهم يستهزئون به، فلما أدرك الشجر، أمره ربّه، فقطعه وجفّفه ولفّقه، فقال: يا ربّ، كيف أتخذ هذا البيت؟ قال: أجعله على ثلاث صور، رأسه كرأس الطّاوس، وجؤجؤه كجؤجؤ الطائر، وذنبه كذنب الديك، واجعلها مطبقة، وبعث الله إِليه جبريل يعلمه، وأوحى الله إِليه أن عجِّل عمل السفينة فقد اشتد غضبي على مَنْ عصاني، فاستأجر نجارين يعملون معه، وسام، وحام، ويافث، معه ينحتون السفينة، فجعل طولها ستمائة ذراع، وعرضها ثلاثمائة وثلاثين ذراعا، وعلوها ثلاثا
(١) سورة نوح: ٢٦.
وثلاثين، وفجَّرَ الله له عين القار تغلي غلياناً حتى طلاها. وعن ابن عباس قال: جعل لها ثلاثة بطون، فحمل في البطن الأول الوحوش والسباع والهوام، وفي الأوسط الدواب والأنعام، وركب هو ومن معه البطن الأعلى. وروي عن الحسن أنه قال: كانت سفينة نوح طولها ألف ذراع، ومائتا ذراع، وعرضها ستمائة ذراع. وقال قتادة: كانت فيما ذُكر لنا طولها ثلاثمائة ذراع، وعرضها خمسمائة ذراع، وطولها في السماء ثلاثون ذراعاً. وقال ابن جريج: كان طولها ثلاثمائة ذراع، وعرضها خمسين ومائة ذراع، وطولها في السماء ثلاثون ذراعا، وكان في أعلاها الطير، وفي وسطها الناس، وفي أسفلها السباع. وزعم مقاتل أنه عمل السفينة في أربعمائة سنة.
قوله تعالى: وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ فيه قولان: أحدهما: أنهم رأوه يبني السفينة وما رأوا سفينة قط، فكانوا يسخرون ويقولون: صرت بعد النبوَّة نجاراً؟ وهذا قول ابن إِسحاق.
والثاني: أنهم قالوا له: ما تصنع؟ فقال: أبني بيتا يمشي على الماء، فسخروا من قوله، وهذا قول مقاتل. وفي قوله: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ خمسة أقوال: أحدها: إِن تسخروا من قولنا فانا نسخر من غفلتكم. والثاني: إِن تسخروا من فعلنا عند بناء السفينة، فانا نسخر منكم عند الغرق، ذكره المفسرون. والثالث: إِن تسخروا منا في الدنيا، فانا نسخر منكم في الآخرة، قاله ابن جرير. والرابع:
إِن تستجهلونا، فانا نستجهلكم، قاله الزجاج. والخامس: إِن تسخروا منا، فانا نستنصر الله عليكم، فسمى هذا سخرية، ليتفق اللفظان كما بينا في قوله تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ «١»، هذا قول ابن الأنباري. قال ابن عباس: لم يكن في الأرض قبل الطوفان نهر ولا بحر، فلذلك سخروا منه، وإِنما مياه البحار بقيّة الطّوفان.
[سورة هود (١١) : آية ٣٩]
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٩)
قوله تعالى: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ هذا وعيد، ومعناه: فسوف تعلمون من هو أحق بالسخرية، ومن هو أحمد عاقبة. وقوله تعالى: مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ أي: يُذلُّه، وهو الغرق. وَيَحِلُّ عَلَيْهِ أي:
ويجب عليه عَذابٌ مُقِيمٌ في الآخرة.
[سورة هود (١١) : آية ٤٠]
حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (٤٠)
قوله تعالى: حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا فيه قولان: أحدهما: جاء أمرنا بعذابهم وإِهلاكهم. والثاني:
جاء عذابنا وهو الماء، ابتدأ بجنبات الأرض فدار حولها كالإِكليل، وجعل المطر ينزل من السماء كأفواه القرب، فجعلت الوحوش يطلبن وسط الأرض هربا من الماء حتى اجتمعن عند السفينة، فحينئذ حمل فيها من كل زوجين اثنين.
قوله تعالى: وَفارَ التَّنُّورُ الفور: الغليان والفوَّارة: ما يفور من القِدْر، قاله ابن فارس.
قال المصنف: وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي عن ابن دريد قال: التّنّور: اسم فارسيّ
(١) سورة البقرة: ١٥.
372
معرَّب لا تعرف له العرب اسماً غير هذا، فلذلك جاء في التنزيل، لأنهم خوطبوا بما عرفوا. وروي عن ابن عباس أنه قال: التنور، بكل لسان عربي وعجمي.
وفي المراد بهذا التنور ستة أقوال: أحدها: أنه اسم لوجه الأرض، رواه عكرمة عن علي عليه السلام. وروى الضحاك عن ابن عباس: التنور: وجه الأرض، قال: قيل له: إِذا رأيت الماءَ قد علا وجهَ الأرض، فاركب أنت وأصحابك، وهذا قول عكرمة، والزهري. والثاني: أنه تنوير الصبح، رواه أبو جحيفة عن عليّ رضي الله عنه. وقال ابن قتيبه: التنوير عند الصلاة. والثالث: أنه طلوع الفجر، روي عن علي أيضا، قال: «وفار التنور» : طلع الفجر. والرابع: أنه طلوع الشمس، وهو منقول عن علي أيضا. والخامس: أنه تنُّور أهله، روى العوفي عن ابن عباس قال: إِذا رأيت تنُّور أهلك يخرج منه الماء، فانه هلاك قومك. وروى أبو صالح عن ابن عباس: أنه تنُّور آدم عليه السلام، وهبه الله لنوح، وقيل له: إذا فار الماء منه، فاحمل ما أمرت به. وقال الحسن: كان تنوراً من حجارة، وهذا قول مجاهد، والفراء، ومقاتل. والسادس: أنه أعلى الأرض وأشرفها «١». قال ابن الأنباري: شُبهت أعالي الأرض وأماكنها المرتفعة لعلوها، بالتنانير.
واختلفوا في المكان الذي فار منه التنور على ثلاثة أقوال «٢» : أحدها: أنه فار من مسجد الكوفة، رواه حبّة العرني عن علي عليه السلام. وقال زِرُّ بن حُبَيش: فار التنور من زاوية مسجد الكوفة اليمنى.
وقال مجاهد: نبع الماء من التنور، فعلمت به امرأته فأخبرته، وكان ذلك بناحية الكوفة. وكان الشعبي يحلف بالله ما كان التنور إِلا بناحية الكوفة. والثاني: أنه فار بالهند، رواه عكرمة عن ابن عباس.
والثالث: أنه كان في أقصى دار نوح، وكانت بالشام في مكان يقال له: عين وردة، قاله مقاتل.
قوله تعالى: قُلْنَا احْمِلْ فِيها أي: في السفينة مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ. وروى حفص عن عاصم: «من كُلٍّ» بالتنوين. قال أبو علي: والمعنى: من كل شيء، ومن كل زوج زوجين، فحذف المضاف. وانتصاب «اثنين» على أنهما صفة لزوجين، وقد علم أن الزوجين اثنان، ولكنه توكيد. قال مجاهد: من كل صنف، ذكراً وأنثى. وقال ابن قتيبة: الزوج يكون واحداً، ويكون اثنين، وهو ها هنا واحد، ومعنى الآية: احمل من كل ذكر وأنثى اثنين. وقال الزجاج: المعنى: احمل زوجين اثنين من كل شىء، والزوج في كلام العرب يجوز أن يكون معه واحد، والاثنان يقال لهما: زوجان، يقال:
عندي زوجان من الطير، إِنما يريد ذكراً وأنثى فقط، وقال ابن الأنباري: إِنما قال «اثنين» فثنَّى الزوج، لأنه قصد قصْد الذكر والأنثى من الحيوان، وتقديره: من كل ذكر وأنثى. قوله تعالى: وَأَهْلَكَ أي:
وأحمل أهلك. قال المفسرون: أراد بأهله: عياله وولده. إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ أي: سبق عليه القول من الله بالإِهلاك. قال الضحاك: وهم امرأته وابنه كنعان.
(١) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» ٧/ ٤٠- ٤١: وأولى هذه الأقوال عندنا بتأويل قوله التَّنُّورُ قول من قال: هو التنور الذي يخبز فيه. لأن ذلك هو المعروف من كلام العرب وكلام الله لا يوجه إلا إلى الأغلب، الأشهر من معانيه عند العرب، إلا أن تقوم الحجة على شيء منه بخلاف ذلك، فيسلم لها. وذلك أنه جل ثناؤه إنما خاطبهم بما خاطبهم به لإفهامهم معنى ما خاطبهم به.
(٢) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٢/ ٥٤٨: وهذه أقوال غريبة. قلت: ليس لها مستند، فهي لا شيء.
373
قوله تعالى: وَمَنْ آمَنَ معناه: واحمل من آمن. وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ وفي عددهم ثمانية أقوال: أحدها: أنهم كانوا ثمانين رجلاً معهم أهلوهم، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثاني: أن نوحاً حمل معه ثمانين إِنساناً، وبنيه الثلاثة، وثلاث نسوة لبنيه، وامرأة نوح. رواه يوسف بن مهران عن ابن عباس. والثالث: كانوا ثمانين إِنساناً، قاله أبو صالح عن ابن عباس. وقال مقاتل كانوا أربعين رجلاً وأربعين امرأة. والرابع: كانوا أربعين، ذكره ابن جريج عن ابن عباس. والخامس: كانوا ثلاثين رجلاً، رواه أبو نهيك عن ابن عباس. والسادس: كانوا ثمانية، قال الحكم بن عتيبة: كان نوح وثلاثة بنيه وأربع كنائنه. قال قتادة: ذُكر لنا أنه لم ينج في السفينة إِلا نوح وامرأته «١» وثلاثة بنين له، ونساؤهم، فجماعتهم ثمانية، وهذا قول القرظي، وابن جريج. والسابع: كانوا سبعة، نوح، وثلاث كنائن له وثلاثة بنين، قاله الأعمش. والثامن: كانوا عشرة سوى نسائهم، قاله ابن إِسحاق. وروي عنه أنه قال: الذين نَجَوْا مع نوح بنوه الثلاثة، ونساؤهم ثلاث، وستة ممّن آمن به.
[سورة هود (١١) : آية ٤١]
وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١)
قوله تعالى: وَقالَ يعني نوحاً للذين أمر بحملهم ارْكَبُوا السفينة. قال ابن عباس: ركبوا فيها لعشر مضين من رجب، وخرجوا منها يوم عاشوراء. وقال ابن جريج: دفعت من عين وردة يوم الجمعة لعشر مضين من رجب، فأتت موضع البيت فطافت به أسبوعاً، وكان البيت قد رُفع في ذلك الوقت، ورست بباقردى «٢» على الجودي يوم عاشوراء. قال ابن عباس: قرض الفأر حبال السفينة، فشكا نوح ذلك، فأوحى الله تعالى إِليه، فمسح ذنب الأسد، فخرج سنَّوْرانِ، وكان في السفينة عَذِرة، فشكا ذلك إِلى ربه، فأوحى الله تعالى إِليه، فمسح ذنب الفيل، فخرج خنزيران فأكلا ذلك «٣». قوله تعالى: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: «مُجراها» بضم الميم. وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: «مَجراها» بفتح الميم، وكسر الراء. وكلّهم قرءوا بضم الميم من «مرساها»، إِلا أن ابن كثير، وأبا عمرو، وابن عامر، وحفصاً عن عاصم، كانوا يفتحون السين. ونافع، وأبو بكر عن عاصم، كانا يقرءانها بين الكسر والتفخيم. وكان حمزة، والكسائي، وخلف، يميلونها. وليس في هؤلاء أحد جعلها نعتاً لله، وإِنما جعل الوصفين نعتاً لله تعالى، الحسن، وقتادة، وحُميد الأعرج، وإِسماعيل بن مجالد عن عاصم، فقرؤوا «مجريها ومرسيها» بضم الميم، وبياءين صحيحتين، مثل مبديها ومنشيها. وقرأ ابن مسعود: «مجراها» بفتح
(١) قال ابن كثير رحمه الله ٢/ ٥٤٩: وهذا فيه نظر، بل الظاهر أنها هلكت لأنها كانت على دين قومها، فأصابها ما أصابهم، كما أصاب امرأة لوط ما أصاب قومها، والله أعلم.
(٢) ضبطه ياقوت بكسر القاف وفتح الدال، وهو موضع بالجزيرة بالقرب من جبل الجودي.
(٣) ذكره ابن كثير ٢/ ٥٤٨، عن ابن عباس رضي الله عنه، وقال: أثر غريب.
- قلت: أخرجه الطبري ١٨١٥٥ من طريق علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس، وإسناده واه، علي ضعيف، روى مناكير كثيرة، وكرره الطبري ١٨١٥٤ عن علي بن زيد عن يوسف به ليس فيه ذكر ابن عباس، وهو الصواب، وهو من الإسرائيليات المنكرة بلا ريب، بل هو من ترهاتهم وأساطيرهم، ولو لم يذكر المفسرون مثل هذا لكان أولى، والله أعلم.
الميم، وإِمالة الراء بعدها ألف، «ومرساها» برفع الميم، وإِمالة السين بعدها ألف. وقرأ أبو رزين، وأبو المتوكّل: «مجراها» بفتح الميم والراء، وبألف بعدها، ومرساها، برفع الميم وفتح السين، وبألف بعدها. وقرأ أبو الجوزاء، وابن يعمر: «مَجراها ومَرساها» بفتح الميم فيهما جميعاً، وفتح الراء والسين، وبألف بعدهما. وقرأ يحيى بن وثاب بفتح الميمين، إِلا أنه أمال الراء والسين فيهما. وقرأ أبو عمران الجوني، وابن جبير، برفع الميم فيهما، وفتح الراء والسين، وبألف بعدهما جميعاً. فمن قرأ بضم الميمين، جعله من أجرى وأرسى. ومن فتحهما، جعله مصدراً من جرى الشيء يجري مَجرى، ورسى يرسي مَرسى. قال الزّجّاج: قوله تعالى: بِسْمِ اللَّهِ أي: بالله، والمعنى: أنه أمرهم أن يسمُّوا في وقت جريها ووقت استقرارها. ومن قرأ بضم الميمين، فالمعنى: بالله إِجراؤها، وبالله إرساؤها. ومن فتحهما، فالمعنى: بالله يكون جريها، وبالله يقع إِرساؤها، أي: إِقرارها. وسمعت شيخنا أبا منصور اللغوي يقول: من ضم الميم في «مُجراها» أراد: أجراها اللهُ مجرىً، ومن فتحها، أراد: جرت مَجرى. وقال الضحاك: كان إِذا أراد أن تجري، قال: بسم الله، فجرت. وإذا أراد أن ترسي، قال:
بسم الله، فرست.
[سورة هود (١١) : الآيات ٤٢ الى ٤٣]
وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (٤٢) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (٤٣)
قوله تعالى: وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ شبهه بالجبال في عِظَمه وارتفاعه، ويقال: إِن الماء أرتفع على أطول جبل في الأرض أربعين ذراعاً، ويروي خمس عشرة ذراعاً. وذكر بعض المفسرين أنه ارتفع نحو السماء سبعين فرسخاً من الأرض. قوله تعالى: وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ لا يختلفون أنه كان كافراً. وفي اسمه قولان «١» : أحدهما: كنعان، وهو قول الأكثرين. والثاني: اسمه يام، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال عبيد بن عمير، وابن إِسحاق.
قوله تعالى: وَكانَ فِي مَعْزِلٍ المعزل: المكان المنقطع. ومعنى العزل: التنحية.
وفي معنى الكلام وجهان ذكرهما الزجاج:
أحدهما: في معزل من السفينة. والثاني: في معزل من دين أبيه.
قوله تعالى: يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائيّ «يا بني اركب» مضافة، بكسر الياء. وروى أبو بكر عن عاصم «يا بني» مفتوحة الياء هاهنا، وباقي القرآن مكسورة. وروى حفص عنه بالفتح في كلّ القرآن «يا بنيّ» إِذا كان واحداً. قال النحويون: الأصل في «بُنيّ» ثلاث ياءات، ياء التصغير، وياء بعدها هي لام الفعل، وياء بعد لام الفعل هي ياء الإضافة. فمن قرأ «يا بني» أراد: يا بنيي، فحذف ياء الاضافة، وترك الكسرة تدل عليها، كما
(١) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» : ٧/ ٥٥٠ هذا هو الابن الرابع واسمه يام، وكان كافرا.
- قلت: مستند تسميته أخبار الأقدمين، وهي غير حجة، وإنما يستأنس بها فقط.
يقال: يا غلام أقبل. ومن فتح الياء، أبدل من كسرة لام الفعل فتحة، استثقالاً لاجتماع الياءات مع الكسرة، فانقلبت ياء الإِضافة ألفاً، ثم حذفت الألف كما تحذف الياء، فبقيت الفتحة على حالها.
وقيل: إِن المعنى: يا بني آمن واركب معنا.
قوله تعالى: سَآوِي أي: سأصير وأرجع إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي أي: يمنعني مِنَ الْماءِ أي: من تغريق الماء. قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ فيه قولان: أحدهما: لا مانع اليوم من أمر الله، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: لا معصوم، ومثله: ماء دافق، أي: مدفوق، وسرٌّ كاتم، وليلٌ نائم، قاله ابن قتيبة. قوله تعالى: إِلَّا مَنْ رَحِمَ قال الزجاج: هذا استثناء ليس من الأول، والمعنى: لكن من رحم الله فانه معصوم. قال مقاتل: إِلا من رحم فركب السفينة.
قوله تعالى: وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ في المكنّى عنهما قولان: أحدهما: أنهما ابن نوح والجبل الذي زعم أنه يعصمه، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مجاهد. والثاني: نوح وابنه، قاله مقاتل.
[سورة هود (١١) : الآيات ٤٤ الى ٤٧]
وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٤) وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٤٦) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٤٧)
قوله تعالى: وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وقف قوم على ظاهر الآية، وقالوا: إِنما ابتلعت ما نبع منها، ولم تبتلع ماء السماء، فصار ذلك بحاراً وأنهاراً، وهو معنى قول ابن عباس. وذهب آخرون إِلى أن المراد: ابلعي ماءك الذي عليك، وهو ما نبع من الأرض ونزل من السماء، وذلك بعد أن غرق ما على وجه الأرض. قوله تعالى: وَيا سَماءُ أَقْلِعِي أي: أمسكي عن إِنزال الماء. قال ابن الأنباري: لما تقدم ذكر الماء، عُلم أن المعنى: أقلعي عن إِنزال الماء. قوله تعالى: وَغِيضَ الْماءُ أي: نقص. قال الزجاج: يقال: غاض الماء يغيض: إِذا غاب في الأرض. ويجوز إِشمام الضم في الغين.
قوله تعالى: وَقُضِيَ الْأَمْرُ قال ابن عباس: غرق مَنْ غرق، ونجا مَنْ نجا. وقال مجاهد:
«قضي الأمر» : هلاك قوم نوح. وقال ابن قتيبة: «وقضي الأمر» أي: فرغ منه. قال ابن الأنباري:
والمعنى: أُحكمتْ هلكة قوم نوح، فلما دلت القصة على ما يبيِّن هلكتهم، أغنى عن نعت الأمر.
قوله تعالى: وَاسْتَوَتْ يعني السفينة عَلَى الْجُودِيِّ وهو اسم جبل. وقرأ الأعمش، وابن أبي عبلة: «على الجودي» بسكون الياء. قال ابن الأنباري: وتشديد الياء في «الجوديّ» لأنها ياء النسبة، فهي كالياء في علوي، وهاشمي. وقد خففها بعض القراء. ومن العرب من يخفف ياء النسبة، فيسكنها في الرفع، والخفض، ويفتحها في النصب، فيقول: قام زيد العلوي، ورأيت زيداً العلوي. قال ابن عباس: دارت السفينة بالبيت أربعين يوماً، ثم وجهها الله إِلى الجودي فاستقرت عليه. واختلفوا أين هذا
376
الجبل على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه بالموصل، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الضحاك.
والثاني: بالجزيرة، قاله مجاهد، وقتادة. وقال مقاتل: هو بالجزيرة قريب من الموصل. والثالث: أنه بناحية آمِد، قاله الزجاج.
وفي علة استوائها عليه قولان: أحدهما: أنه لم يغرق، لأن الجبال تشامخت يومئذ وتطاولت، وتواضع هو فلم يغرق، فأرست عليه، قاله مجاهد. والثاني: أنه لما قلَّ الماء أَرْسَتْ عليه، فكان استواؤها عليه دلالة على قلة الماء.
قوله تعالى: وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قال ابن عباس: بُعداً من رحمة الله للقوم الكافرين. فان قيل: ما ذنب من أُغرق من البهائم والأطفال؟
فالجواب: أنَّ آجالهم حضرت، فأُميتوا بالغرق، قاله الضحاك، وابن جريج.
قوله تعالى: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي إِنما قال نوح هذا، لأن الله تعالى وعده نجاة أهله، فقال تعالى: وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ قال ابن عباس: أعدل العادلين. وقال ابن زيد: فأنت أحكم الحاكمين بالحق. واختلفوا في هذا الذي سأل فيه نوح على قولين:
أحدهما: أنه ابن نوح لصلبه، قاله ابن عباس، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والضحاك، والجمهور. والثاني: أنه ولد على فراشه لغير رِشدة ولم يكن ابنه «١».
روى ابن الأنباري باسناده عن الحسن أنه قال: لم يكن ابنَه، إِن امرأته فجرت. وعن الشعبي قال: لم يكن ابنه، إِن امرأته خانته، وعن مجاهد نحو ذلك. وقال ابن جريج: ناداه نوح وهو يحسب أنه ابنه، وكان وُلد على فراشه. فعلى القول الأول، يكون في معنى قوله تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ قولان: أحدهما: ليس من أهل دينك. والثاني: ليس من أهلك الذين وعدتك نجاتهم. قال ابن عباس:
ما بغت امرأة نبي قط، وإِنما المعنى: ليس من أهلك الذين وعدتك نجاتهم. وعلى القول الآخر:
الكلام على ظاهره، والأول أصح، لموافقته ظاهر القرآن، ولاجتماع الأكثرين عليه، وهو أولى من رمي زوجة نبيّ بفاحشة «٢».
(١) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٧/ ٥٥٢: وقد نص غير واحد من الأئمة على تخطئة من ذهب في تفسير هذا إلى أنه ليس بابنه، وإنما كان ابن زنية، ويحكى القول بأنه ليس بابنه وإنما كان ابن امرأته. عن مجاهد، والحسن، وعبيد بن عمر، وأبي جعفر الباقر، وابن جريج. واحتج بعضهم بقوله: إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ، بقوله: فَخانَتاهُما فممن قاله الحسن البصري، احتج بهاتين الآيتين. وبعضهم يقول: كان ابن امرأته وهذا يحتمل أن يكون أراد ما أراد الحسن، أو أراد أنه نسب إليه مجازا، لكونه كان ربيبا عنده والله أعلم. وقال ابن عباس، وغير واحد من السلف: ما زنت امرأة نبي قط قال: وقوله: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ، أي الذين وعدتك نجاتهم. وقول ابن عباس في هذا هو الحق الذي لا محيد عنه، فإنه الله سبحانه أغير من أن يمكن امرأة نبي من الفاحشة، ولهذا غضب الله على الذين رموا أم المؤمنين عائشة بنت الصديق زوج النبي ﷺ وأنكر على المؤمنين الذين تكلموا بهذا وأشاعوه.
(٢) قال الإمام الطبري رحمه الله ٧/ ٥٢: وأولى القولين بالصواب، قول من قال تأويل ذلك: إنه ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم، لأنه كان لدينك مخالفا، وبي كافرا وكان ابنه، لأن الله تعالى قد أخبر نبيه محمدا ﷺ أنه ابنه فقال: وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ، وليس في قوله: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ دلالة على أنه ليس بابنه.
إذ كان قوله: لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ محتملا من المعنى ما ذكرنا، ومحتملا: «إنه ليس من أهل دينك»، ثم يحذف «الدين» فيقال: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ، كما قيل: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها- يوسف: ٨٢.
377
قوله تعالى: إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة: «إِنه عملٌ» رفع منون «غيرُ صالح» برفع الراء، وفيه قولان: أحدهما: أنه يرجع إلى السؤال فيه، فالمعنى:
سؤالك إِياي فيه عمل غير صالح، قاله ابن عباس، وقتادة، وهذا ظاهر، لأنه قد تقدم السؤال فيه في قوله عزّ وجلّ: «رب إِن ابني من أهلي»، فرجعت الكناية إِليه. والثاني: أنه يرجع إِلى المسؤول فيه.
وفي هذا المعنى قولان: أحدهما: أنه لغير رِشدة، قاله الحسن. والثاني: أن المعنى: إِنه ذو عمل غير صالح، قاله الزجاج.
قال ابن الأنباري: من قال: هو لغير رِشدة، قال: المعنى: إِن أصل أبنك الذي تظن أنه أبنك عملٌ غير صالح. ومن قال: إِنه ذو عمل غير صالح، قال: حذف المضاف، وأقام العمل مقامه، كما تقول العرب: عبد الله إِقبال وإِدبار، أي: صاحب إِقبال وإِدبار. وقرأ الكسائي: «عَمِلَ» بكسر الميم وفتح اللام «غيرَ صالح» بفتح الراء، يشير إِلى أنه مشرك.
قوله تعالى: فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر: «فلا تسألنَّ» بفتح اللام، وتشديد النون، غير أن نافعاً، وابن عامر، كسرا النون، وفتحها ابن كثير، وحذفوا الياء في الوصل والوقف. وقرأ عاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، بسكون اللام وتخفيف النون، غير أن أبا عمرو، وأبا جعفر، أثبتا الياء في الوصل، وحذفاها في الوقف، ووقف عليها يعقوب بالياء، والباقون يحذفونها في الحالين. قال أبو علي: من كسر النون، فقد عدَّى السؤال إِلى مفعولين، أحدهما: اسم المتكلم، والآخر: الاسم الموصول، وحذفت النون المتصلة بياء المتكلم لاجتماع النونات. وأما إِثبات الياء في الوصل فهو الأصل، وحذفها أخف، والكسرة تدل عليها، وتُعلِمُ أن المفعول مراد في المعنى.
ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: أنه نسبته إِليه، وليس منه. والثاني: في إِدخاله إِياه في جملة أهله الذين وعده نجاتهم. والثالث: سؤاله في إِنجاء كافر من العذاب.
قوله تعالى: إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن تكون من الجاهلين في سؤالك مَنْ ليس مِنْ حزبك. والثاني: من الجاهلين بوعدي، لأني وعدت بانجاء المؤمنين.
والثالث: من الجاهلين بنسبك، لأنه ليس من أهلك.
[سورة هود (١١) : آية ٤٨]
قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٨)
قوله تعالى: يا نُوحُ اهْبِطْ قال ابن عباس: يريد: من السفينة إِلى الأرض بِسَلامٍ مِنَّا أي:
بسلامه. قوله تعالى: وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ قال المفسرون: البركات عليه أنه صار أباً للبشر جميعاً، لأن جميع الخلق من نسله وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ قال ابن عباس: يريد من ولدك. قال ابن الأنباري:
المعنى من ذراري من معك، والمراد المؤمنون من ذريته. ثم ذكر الكفار فقال عزّ وجلّ: وَأُمَمٌ أي من الذرية أيضاً، والمعنى: وفيمن نَصِفُ لك أُمم وفيمن نقصُّ عليك أمره أُمم سَنُمَتِّعُهُمْ أي في
الدنيا ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة. قال محمد بن كعب القرظي: لم يبق مؤمن ولا مؤمنة في أصلاب الرجال وأرحام النساء يومئذ إِلى أن تقوم الساعة إِلا وقد دخل في ذلك السلام والبركات، ولم يبق كافر إِلا دخل في ذلك المتاع والعذاب.
[سورة هود (١١) : الآيات ٤٩ الى ٥٣]
تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (٤٩) وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (٥٠) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (٥١) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (٥٢) قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣)
قوله تعالى: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ في المشار إليه ب «تلك» قولان: أحدهما: قصة نوح.
والثاني: آيات القرآن، والمعنى: تلك من أخبار ما غاب عنك وعن قومك.
فان قيل: كيف قال هاهنا: «تلك»، وفي مكان آخر «ذلك» ؟
فقد أجاب عنه ابن الأنباري، فقال: «تلك» إِشارة إِلى آيات القرآن، و «ذلك» إِشارة إِلى الخبر والحديث، وكلاهما معروف في اللغة الفصيحة، يقول الرجل: قد قدم فلان، فيقول سامعٌ قولَه: قد فرحت به، وقد سررت بها، فاذا ذكّر، عنى القدوم، وإِذا أنَّث، ذهب إِلى القَدْمَة.
قوله تعالى: مِنْ قَبْلِ هذا يعني القرآن. فَاصْبِرْ كما صبر نوح على أذى قومه إِنَّ الْعاقِبَةَ أي آخر الأمر بالظفر والتمكين لِلْمُتَّقِينَ أي لك ولقومك كما كان لمؤمني قوم نوح.
قوله تعالى: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ أي: ما أنتم إلّا في إِشراككم مع الله الأوثان. وما بعد هذا قد سبق تفسيره «١» إِلى قوله: يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وهذا أيضاً قد سبق تفسيره في سورة الأنعام «٢». والسبب في قوله لهم ذلك، أن الله حبس المطر عنهم ثلاث سنين وأعقم أرحام نسائهم، فوعدهم إِحياء بلادهم وبسط الرزق لهم إِن آمنوا.
قوله تعالى: وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الولد وولد الولد، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: يزدكم شدة إِلى شدتكم، قاله مجاهد، وابن زيد. والثالث: خِصباً إِلى خصبكم، قاله الضحاك.
قوله تعالى: وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ قال مقاتل: لا تُعرضوا عن التوحيد مشركين.
قوله تعالى: ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ أي: بحجة واضحة. وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا يعنون الأصنام عَنْ قَوْلِكَ أي: بقولك، و «الباء» و «عن» يتعاقبان.
(١) سورة يونس: ٧٢.
(٢) عند الآية: ٦١. [.....]

[سورة هود (١١) : الآيات ٥٤ الى ٥٦]

إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦)
قوله تعالى: إِنْ نَقُولُ أي: ما نقول في سبب مخالفتك إِيانا إِلا أن بعض آلهتنا أصابك بجنون لسبِّك إياها، فالذي تُظهر من عيبها لِما لحق عقلك من التغيير. قال ابن قتيبة: يقال: عراني كذا، واعتراني: إِذا ألمَّ بي. ومنه قيل لمن أتاك يطلب نائلك: عارٍ، ومنه قول النابغة:
أَتَيْتُكَ عَارِيَاً خَلَقاً ثيابي على خَوْفٍ تُظَنُّ بِيَ الظّنون «١»
قوله تعالى: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِلى آخر الآية. حرك ياء «إِنيَ» نافع.
ومعنى الآية: إِن كنتم تقولون: إِن الآلهة عاقبتني لطعني عليها، فاني على يقين من عيبها والبراءةِ منها، وها أنا ذا أزيد في الطعن عليها، فَكِيدُونِي جَمِيعاً أي: احتالوا أنتم وأوثانكم في ضرّي، ثم لا تمهلون.
قال الزجاج: وهذا من أعظم آيات الرسل، أن يكون الرسول وحدهَ وأُمتُه متعاونة عليه، فيقول لهم:
كيدوني، فلا يستطيع أحد منهم ضرَّه، وكذلك قال نوح لقومه: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ «٢». وقال محمّد صلى الله عليه وسلم: فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ «٣».
قوله تعالى: إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها قال أبو عبيدة: المعنى: أنها في قبضته ومِلكه وسلطانه.
فان قيل: لم خص الناصية؟ فالجواب: أن الناصية هي شعر مقدَّم الرأس، فاذا أخذت بها من شخص، فقد ملكت سائر بدنه، وذلَّ لك.
قوله تعالى: إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ قال مجاهد: على الحق. وقال غيره: في الكلام إِضمار، تقديره: إِن ربي يدل على صراط مستقيم.
فان قيل ما وجه المناسبة بين قوله: إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها وبين كونه عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ؟ فعنه جوابان «٤» : أحدهما: أنه لما أخبر أنه آخذ بنواصي الخلق، كان معناه: أنهم لا يخرجون عن قبضته، فأخبر أنه على طريق لا يعدل عنه هارب، ولا يخفي عليه مستتر. والثاني: أن المعنى: أنه وإِن كان قادرا عليهم، فهو لا يظلمهم، ولا يريد إلّا العدل، ذكرهما ابن الأنباري.
[سورة هود (١١) : آية ٥٧]
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٥٧)
(١) في «اللسان» : وثوب خلق: بال.
(٢) سورة يونس: ٧١.
(٣) سورة المرسلات: ٣٩.
(٤) قال ابن كثير رحمه الله ٢/ ٥٥٤: وقد تضمن هذا المقام حجة بالغة، ودلالة قاطعة على صدق ما جاءهم به، وبطلان ما هم عليه من عبادة الأصنام التي لا تنفع ولا تضر، بل هي جماد لا تسمع ولا تبصر ولا توالي ولا تعادي، وإنما يستحق إخلاص العبادة، الله وحده لا شريك له الذي بيده الملك، وله التصرف، وما من شيء إلا تحت ملكه وقهره وسلطانه، فلا إله إلا هو، ولا رب سواه.
قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فيه قولان: أحدهما: أنه فعل ماض، معناه: فان أعرضوا: فعلى هذا، في الآية إِضمار، تلخيصه: فان أعرضوا فقل لهم: قد أبلغتكم، هذا مذهب مقاتل في آخرين. والثاني:
أنه خطاب للحاضرين، وتقديره: فان تتولَّوا، فاستثقلوا الجمع بين تاءين متحركتين، فاقتُصر على إِحداهما، وأسقطت الأخرى، كما قال النابغة:
المرءُ يَهْوى أَنْ يَعْي شَ وطُوْلُ عَيْشٍ قدَ يَضُرُّهْ
تَفْنَى بَشَاَشُتُه ويَبْ قَى بَعْد حُلْوِ العَيْشِ مُرُّهْ
وتَصَرَّفُ الأيّامُ حت ى ما يَرَى شيئاً يَسُرُّهْ
أراد: وتتصرف الأيام، فأسقط إِحدى التاءين، ذكره ابن الأنباري.
قوله تعالى: وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ فيه وعيد لهم بالهلاك. إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ فيه قولان: أحدهما: حفيظ على أعمال العباد حتى يجازيَهم بها. والثاني: أن «على» بمعنى اللام، فالمعنى: لكل شيء حافظ، فهو يحفظني من أن تنالوني بسوء.
[سورة هود (١١) : آية ٥٨]
وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٨)
قوله تعالى: وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا فيه قولان: أحدهما: جاء عذابنا، قاله ابن عباس. والثاني: جاء أمرنا بهلاكهم. قوله تعالى: نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا فيه قولان: أحدهما: نجيناهم من العذاب بنعمتنا. والثاني: نجيناهم بأن هديناهم إِلى الإِيمان، وعصمناهم من الكفر، روي القولان عن ابن عباس. قوله تعالى: وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ أي: شديد، وهو ما استحقه قوم هود من عذاب الدنيا والآخرة.
[سورة هود (١١) : آية ٥٩]
وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩)
قوله تعالى: وَتِلْكَ عادٌ يعني القبيلة وَعَصَوْا رُسُلَهُ. لقائل أن يقول: إِنما أُرسل إِليهم هود وحده، فكيف ذُكر بلفظ الجمع؟
فالجواب من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه قد يذكر لفظ الجمع ويراد به الواحد، كقوله: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ والمراد به النبيّ ﷺ وحده. والثاني: أن من كذَّب رسولاً واحداً فقد كذَّب الكلَّ. والثالث: أن كل مرة ينذرهم فيها هي رسالة مجدَّدة وهو بها رسول.
قوله تعالى: وَاتَّبَعُوا أي: واتبع الأتباع أمر الرؤساء. والجبار: الذي طال وفات اليد.
وللعلماء في الجبار أربعة أقوال: أحدها: أنه الذي يقتل على الغضب ويعاقب على الغضب، قاله الكلبي. والثاني: أنه الذي يجبر الناس على ما يريد، قاله الزجاج. والثالث: أنه المسلَّط. والرابع: أنه العظيم في نفسه، المتكبّر على العباد، ذكرهما ابن الأنباري. والذي ذكرناه يجمع هذه الأقوال، وقد زدنا هذا شرحاً في (المائدة). وأما العنيد: فهو الذي لا يقبل الحق. قال ابن قتيبة: العَنود، والعنيد، والعاند: المعارض لك بالخلاف عليك.
[سورة هود (١١) : الآيات ٦٠ الى ٦٩]
وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (٦٠) وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (٦١) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٦٢) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (٦٣) وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (٦٤)
فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (٦٥) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٦٧) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (٦٨) وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩)
381
قوله تعالى: وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً أي: أُلحقوا لعنة تنصرف معهم. وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أي: وفي يوم القيامة لُعنوا أيضاً أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أي بربهم، فحذف الباء، وأنشدوا «١» :
أَمَرتُكَ الخيرَ فَافْعَلْ مَا أُمِرْتَ به قال الزجاج: قوله: «ألا» ابتداء وتنبيه، و «بُعدا» منصوب على معنى: أبعدهم الله فبعدوا بعداً، والمعنى: أبعدهم من رحمته.
قوله تعالى: هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ فيه قولان: أحدهما: خلقكم من آدم، وآدم خُلق من الأرض. والثاني: أنشأكم في الأرض.
وفي قوله: وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها ثلاثة أقوال: أحدها: أعمركم فيها، أي: جعلكم ساكنيها مدة أعماركم، ومنه العمرى، وهذا قول مجاهد. والثاني: أطال أعماركم، وكانت أعمارهم من ألف سنة إِلى ثلاثمائة، قاله الضحاك. والثالث: جعلكم عُمَّارها، قاله أبو عبيدة.
قوله تعالى: قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا فيه ثلاثة أقوال «٢» : أحدها: أنهم كانوا يرجونه للمملكة بعد ملكهم، لأنه كان ذا حسب وثروة، قاله كعب. والثاني: أنه كان يبغض أصنامهم ويعدل عن دينهم، وكانوا يرجون رجوعه إِلى دينهم، فلما أظهر إِنذارهم، انقطع رجاؤهم منه، وإِلى نحو هذا ذهب مقاتل. والثالث: أنهم كانوا يرجون خيره، فلما أنذرهم، زعموا أن رجاءهم لخيره قد انقطع، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ إِن قال قائل: لم قال ها هنا: «وإِننا» وقال في «إِبراهيم» :«وإِنا» ؟
فالجواب: أنهما لغتان من لغات قريش السبع التي نزل القرآن عليها. قال الفراء: من قال: «إِننا» أخرج
(١) هذا صدر بيت لعمرو بن معديكرب الزبيدي، كما في الكتاب: ١/ ١٧، وعجزه:
فقد تركتك ذا مال وذا نشبِ وفي «اللسان» نشب: من النشب وهو المال الأصيل من الناطق والصامت، والنّشب: المال والعقار.
(٢) قال ابن كثير رحمه الله ٢/ ٥٥٥: أي كنا نرجوك في عقلك قبل أن تقول ما قلت.
382
الحرف على أصله، لأن كناية المتكلمين «نا» فاجتمعت ثلاث نونات، نونا «إِن» والنون المضمومة إلى الألف ومن قال: «إنا» اسثقل الجمع بين ثلاث نونات، فأسقط الثالثة، وأبقى الأولتين وكذلك يقال:
إنّ وإٍنني، ولعلّي ولعلني، وليتي وليتني، قال الله تعالى في اللغة العليا: لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ «١»، وقال الشاعر في اللغة الأخرى:
أريني جواداً مات هَزْلاً لعلَّني أرى ما تَرَيْنَ أو بخيلاً مخلَّدا «٢»
وقال الله تعالى: يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ «٣»، وقال الشاعر:
كمُنيةِ جابرٍ إِذ قال ليتي أصادقه وأُتلفُ بعضَ مالي «٤»
فأما المريب، فهو الموقع للرّيبة والتّهمة. والرّحمة يراد بها ها هنا: النبوَّة.
قوله تعالى: فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ التخسير: النقصان. وفي معني الكلام قولان: أحدهما: فما تزيدونني غيرَ بَصَارَةٍ في خسارتكم، قاله ابن عباس. وقال الفراء: المعنى: فما تزيدونني غير تخسيرٍ لكم، أي: كلما اعتذرتم عندي بعذر فهو يزيدكم تخسيراً. وقال ابن الأعرابي: غير تخسير لكم، لا لي. وقال بعضهم: المعنى: فما تزيدونني بما قلتم إِلا نسبتي لكم إِلى الخسارة. والقول الثاني: فما تزيدونني غير الخسران إِن رجعتُ إِلى دينكم، وهذا معنى قول مقاتل. فان قيل: فظاهر هذا أنه كان خاسراً، فزادوه خساراً، فقد أسلفنا الجواب في قوله: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا «٥».
قوله تعالى: هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً قد شرحناها في سورة الأعراف «٦».
قوله تعالى: تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ أي: استمتعوا بحياتكم، وعبَّر عن الحياة بالتمتع، لأن الحيَّ يكون متمتِّعاً بالحواسِّ.
قوله تعالى: ثَلاثَةَ أَيَّامٍ قال المفسرون: لمَّا عُقرت الناقة صَعِدَ فصيلُها إِلى الجبل، ورغا ثلاث مرات، فقال صالح: لكل رغوة أجل يوم، ألا إِن اليوم الأول تصبح وجوهُكم مُصْفَرَّةً، واليوم الثاني مُحْمَرَّةً، واليوم الثالث مُسْوَدَّةً فلما أصبحوا في اليوم الأول، إِذا وجوههم مصفرة، فصاحوا وضجوا، وبَكَوْا، وعَرَفوا أنَّه العذاب، فلما أصبحوا في اليوم الثاني، إِذا وجوههم محمرة، فضجوا، وبكَوا، فلما أصبحوا في اليوم الثالث، إِذا وجوههم مسودة كأنما طليت بالقار، فصاحوا جميعاً: ألا قد حضركم العذاب فتكفَّنوا وألقَوْا أنفسهم بالأرض، لا يدرون من أين يأتيهم العذاب، فلما أصبحوا في اليوم الرابع، أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كلِّ صاعقة، فتقطَّعتْ قلوبُهم في صدورهم. وقال مقاتل:
حفروا لأنفسهم قبوراً، فلما ارتفعت الشمس من اليوم الرابع ولم يأتهم العذاب ظنوا أن الله قد رحمهم فخرجوا من قبورهم يدعو بعضهم بعضاً، إِذ نزل جبريل فقام فوق المدينة فسدّ ضوءَ الشمس فلما عاينوه
(١) غافر: ٣٦.
(٢) ذكره ابن منظور في «اللسان»، مادة «أنن»، وقال: هو لحطائط بن يعفر، ويقال: هو لدريد وقال الجوهري:
أنشد أبو زيد لحاتم قال: وهو الصحيح، قال: وقد وجدته في شعر معن بن أوس المزني.
(٣) سورة النساء: ٧٣.
(٤) ذكره ابن منظور في «اللسان» مادة «ليت» ونسبه لزيد الخيل.
(٥) سورة التوبة: ٤٧.
(٦) عند الآية: ٧٣.
383
دخلوا قبورهم فصاح بهم صيحة: موتوا عليكم لعنة الله، فخرجت أرواحهم وتزلزلت بيوتهم فوقعت على قبورهم.
قوله تعالى: ذلِكَ وَعْدٌ أي: العذاب غَيْرُ مَكْذُوبٍ أي: غير كذب.
قوله تعالى: وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر «يومِئِذٍ» بكسر الميم. وقرأ الكسائي بفتحها مع الإِضافة. قال مكي: من كسر الميم، أعرب وخفض، لإِضافة الخزي إِلى اليوم، ولم يَبْنِهِ ومن فتح، بنى اليوم على الفتح، لإِضافته إِلى غير متمكّن، وهو «إِذ». وقرأ ابن مسعود «ومن خزيٍ» بالتنوين، «يومَئذ» بفتح الميم. قال ابن الأنباري: هذه الواو في قوله «ومن خزي» معطوفة على محذوف، تقديره: نجيناهم من العذاب ومن خزي يومئذ. قال: ويجوز أن تكون دخلت لفعل مضمر، تأويله: نجينا صالحاً والذين آمنوا معه برحمة منا، ونجيناهم من خِزْي يومئذ. قال: وإِنما قال: «وأخذَ» لأن الصيحة محمولة على الصياح.
قوله تعالى: أَلا بُعْداً لِثَمُودَ اختلفوا في صرف «ثمود» وترك إِجرائه في خمسة مواضع: في (هود:) أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ، وفي (الفرقان) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ «١»، وفي (العنكبوت) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ «٢»، وفي (النجم) وَثَمُودَ فَما أَبْقى «٣». قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ونافع، وابن عامر بالتنوين في أربعة مواضع منها، وتركوا أَلا بُعْداً لِثَمُودَ فلم يصرفوه. وقرأ حمزة بترك صرف هذه الخمسة الأحرف، وصرفهنَّ الكسائي. واختلف عن عاصم، فروى حسين الجعفي عن أبي بكر عنه أنه أجرى الأربعة الأحرف مثل أبي عمرو وروى يحيى بن آدم أنه أجرى ثلاثة، في (هود) أَلا إِنَّ ثَمُودَ، وفي (الفرقان) و (العنكبوت). وروى حفص عنه أنه لم يجر شيئاً منها مثل حمزة.
واعلم أن ثموداً يراد به القبيلة تارة ويراد به الحي تارة. فإذا أريد به القبيلة لم يصرف، وإِذا أريد به الحي صرف. وما أخللنا به فقد سبق تفسيره إِلى قوله: وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ. والرسل ها هنا:
الملائكة. وفي عددهم ستة أقوال: أحدها: أنهم كانوا ثلاثة، جبريل، وميكائيل، وإِسرافيل، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير. وقال مقاتل: جبريل، وميكائيل، وملك الموت. والثاني: أنهم كانوا اثني عشر، روي عن ابن عباس أيضاً. والثالث: ثمانية، قاله محمد بن كعب. والرابع: تسعة، قاله الضحاك. والخامس: أحد عشر، قاله السدي. والسادس: أربعة، حكاه الماوردي. وفي هذه البشرى أربعة أقوال «٤» : أحدها: أنها البشرى بالولد، قاله الحسن، ومقاتل. والثاني: بهلاك قوم لوط، قاله
(١) سورة الفرقان: ٣٨.
(٢) سورة العنكبوت: ٣٨. [.....]
(٣) سورة النجم: ٥١.
(٤) قال ابن كثير رحمه الله ٢/ ٥٥٧: البشرى أي بولد لها يكون له ولد وعقب ونسل، فإنه يعقوب ولد إسحاق كما قال في آية البقرة: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا: نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ.
ومن ها هنا استدل من استدل بهذه الآية على أن الذبيح إنما هو إسماعيل وأنه يمتنع أن يكون هو إسحاق لأنه وقعت البشارة به، وأنه سيولد له يعقوب، فكيف يؤمر إبراهيم بذبحه وهو طفل صغير، ولم يولد له بعد يعقوب الموعود بوجوده، ووعد الله حق لا خلف فيه فيمتنع أن يؤمر بذبح هذا، والحالة هذه، فتعين أن يكون هو إسماعيل. وهذا من أحسن الاستدلال وأصحه وأبينه.
384
قتادة. والثالث: بنبوَّته، قاله عكرمة. والرابع: بأن محمّدا ﷺ يخرج من صلبه، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: قالُوا سَلاماً قال ابن الأنباري: انتصب بالقول، لأنه حرف مقول، والسلام الثاني مرفوع باضمار «عليكم». وقال الفراء: فيه وجهان:
أحدهما: أنه أضمر «عليكم» كما قال الشاعر:
فَقُلْنَا السَّلاَمُ فَاتَّقَتْ مِنْ أَمِيرِهَا فما كان إِلاَّ ومْؤُهَا بِالْحَواجِبِ «١»
والعرب تقول: التقينا فقلنا: سلام سلام.
والثاني: أن القوم سلَّموا، فقال حين أنكرهم هو: سلام، فمن أنتم؟ لإِنكاره إِياهم. وقرأ حمزة، والكسائي: «قال سِلْم»، وهو بمعنى: سلام، كما قالوا: حِلّ وحلال، وحِرم وحرام فعلى هذا، يكون معنى «سلِم» : سلام عليكم. قال أبو علي: فيكون معنى القراءتين واحداً وإِن اختلف اللفظان «٢». وقال الزجاج: من قرأ «سِلْم» فالمعنى: أمْرُنا سِلْم، أي: لا بأس علينا.
قوله تعالى: فَما لَبِثَ أي: ما أقام حتى جاء بعجل حنيذ، لأنه ظنهم أضيافاً، وكانت الملائكة قد جاءته في صورة الغلمان الوِضَاء.
وفي الحنيذ ستة أقوال «٣» : أحدها: أنه النضيج، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة. والثاني: أنه الذي يَقْطُر ماؤُه وَدَسمُه وقد شوي، قاله شمر بن عطية. والثالث: أنه ما حفرتَ الأرضَ ثم غممتَه، وهو من فعل أهل البادية معروف، وأصله محنوذ، فقيل: حنيذ، كما قيل: طبيخ للمطبوخ، وقتيل للمقتول. هذا قول الفراء. والرابع: أنه المشوي، قاله أبو عبيدة. والخامس: المشوي بالحجارة المحماة، قاله مقاتل وابن قتيبة. والسادس: السميط، ذكره الزجاج وقال: يقال إنه المشوي فقط، ويقال المشوي الذي يقطر، ويقال المشويّ بالحجارة.
[سورة هود (١١) : آية ٧٠]
فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠)
قوله تعالى: فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ يعنى الملائكة لا تَصِلُ إِلَيْهِ يعني العجل نَكِرَهُمْ أي:
أنكرهم. قال أبو عبيدة: نَكِرهم وأنكرهم واستنكرهم، سواء، قال الأعشى:
وَأَنْكَرَتْني وَمَا كانَ الَّذي نَكِرَتْ مِنَ الحَوَادِثِ إِلاَّ الشَّيْبَ والصَّلَعَا
قوله تعالى: وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً أي: أضمر في نفسه خوفاً. قال الفراء: وكانت سُنَّةً في زمانهم إِذا ورد عليهم القوم فأتوهم بالطعام فلم يمسُّوه، ظنوا أنهم عدوّ أو لصوص، فهنالك أوجس في
(١) ذكره ابن منظور في «اللسان» مادة «ومأ» ونسبه للقنانيّ. وعنده «فقلت» بدل «فقلنا».
(٢) كذلك قال الطبري رحمه الله ٧/ ٦٨: والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان متقاربتا المعنى، لأن «السلم» قد يكون بمعنى «السلام»، «والسلام» بمعنى «السلم» لأن التسليم لا يكاد يكون إلا بين أهل السلم دون الأعداء.
(٣) قال الطبري رحمه الله ٧/ ٦٩، بعد أن ذكر الأقوال: وهذه الأقوال التي ذكرناها عن أهل العربية وأهل التفسير متقاربات المعاني بعضها من بعض. اه.
نفسه خيفة، فرأوا ذلك في وجهه، فقالوا: لا تَخَفْ.
قوله تعالى: إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ قال الزجاج: أي: أُرسلنا بالعذاب إِليهم. قال ابن الأنباري: وإِنما أُضمر ذلك ها هنا، لقيام الدليل عليه بذكر الله تعالى له في سورة أخرى.
[سورة هود (١١) : الآيات ٧١ الى ٧٢]
وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (٧١) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢)
قوله تعالى: وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ واسمها سارة. واختلفوا أين كانت قائمة على ثلاثة أقوال:
أحدها: وراء الستر تسمع كلامهم، قاله وهب. والثاني: كانت قائمة تخدمهم، قاله مجاهد، والسدي. والثالث: كانت قائمة تصلي، قاله محمد بن إِسحاق.
وفي قوله: فَضَحِكَتْ ثلاثة أقوال «١» : أحدها: أن الضحك ها هنا بمعنى التعجب، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أن معنى «ضحكت» حاضت، قاله مجاهد وعكرمة. قال ابن قتيبة:
وهذا من قولهم: ضحكت الأرنب: إِذا حاضت فعلى هذا: يكون حيضها حينئذ تأكيدا للبشارة بالولد.
لأن من لا تحيض لا تحمل. وقال الفراء: لم نسمع من ثقة أن معنى (ضحكت) حاضت. قال ابن الأنباري: أنكر الفراء، وأبو عبيدة، وأبو عبيد، أن يكون «ضحكت» بمعنى حاضت وعرفه غيرهم. قال الشاعر:
تَضْحَكُ الضَّبْعُ لقَتْلى هُذَيْلٍ وَتَرَى الذِّئْبَ لها يَسْتَهِلُّ «٢»
قال بعض أهل اللغة: معناه: تحيض «٣».
والثالث: أنه الضحك المعروف، وهو قول الأكثرين.
وفي سبب ضحكها ستة أقوال: أحدها: أنها ضحكت من شدة خوف إِبراهيم من أضيافه، وقالت: من ماذا يخاف إِبراهيم، وإِنما هم ثلاثة، وهو في أهله وغلمانه؟! رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال مقاتل. والثاني: أنها ضحكت من بشارة الملائكة لإِبراهيم بالولد، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً، ووهب بن منبه فعلى هذا، إِنما ضحكت سروراً بالبشارة، ويكون في الآية تقديم وتأخير، المعنى: وامرأته قائمة فبشرناها فضحكت، وهو اختيار ابن قتيبة. والثالث: ضحكت من غفلة قوم لوط وقرب العذاب منهم، قاله قتادة. والرابع: ضحكت من إِمساك الأضياف عن الأكل، وقالت:
عجباً لأضيافنا، نخدمهم بأنفسنا، وهم لا يأكلون طعامنا! قاله السّدّيّ. والخامس: ضحكت سرورا
(١) قال أبو جعفر الطبري رحمه الله في «تفسيره» ٧/ ٧٢ وأولى الأقوال التي ذكرت في ذلك بالصواب، قول من قال: معنى قوله فَضَحِكَتْ، فعجبت من غفلة قوم لوط عما قد أحاط بهم من عذاب الله وغفلتهم عنه.
وإنما قلنا هذا القول أولى بالصواب، لأنه ذكر عقيب قولهم لإبراهيم: لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ فإذا كان ذلك كذلك، وكان لا وجه للضحك والتعجب من قولهم لإبراهيم: لا تَخَفْ، وكان الضحك والتعجب إنما هو من أمر قوم لوط.
(٢) ذكره ابن منظور في «اللسان» مادة «ضحك»، ونسبه إلى- تأبط شرا-.
(٣) وقال ابن منظور في «اللسان» مادة «ضحك» : كان ابن دريد يرد هذا ويقول: من شاهد الضباع عند حيضها فيعلم أنها تحيض؟، وإنما أراد الشاعر أنها تكشر لأكل اللحوم، وهذا سهو منه فجعل كشرها ضحكا.
بالأمن، لأنها خافت كخوف إِبراهيم، قاله الفراء. والسادس: أنها كانت قالت لإِبراهيم: اضمم إِليك ابن أخيك لوطاً، فانه سينزل العذاب بقومه، فلما جاءت الملائكة بعذابهم، ضحكت سروراً بموافقتها للصواب، ذكره ابن الأنباري.
قال المفسرون: قال جبريل لسارة: أَبْشِري أيتها الضاحكة بولد اسمه إِسحاق، وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ، فبشروها أنها تلد إِسحاق، وأنها تعيش إِلى أن ترى ولد الولد. وفي معنى الوراء قولان:
أحدهما: أنه بمعنى «بعد»، قاله أبو صالح عن ابن عباس، واختاره مقاتل، وابن قتيبة. والثاني: أن الوراء: ولد الولد، روي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال الشعبي، واختاره أبو عبيدة. فان قيل: كيف يكون يعقوب وراء إِسحاق وهو ولده لصلبه، وإِنما الوراء: ولد الولد؟ فقد أجاب عنه ابن الأنباري، فقال: المعنى: ومن وراء المنسوب إِلى إِسحاق يعقوب، لأنه قد كان الوراء لإِبراهيم من جهة إِسحاق، فلو قال: ومن الوراء يعقوب، لم يُعلم أهذا الوراء منسوب إِلى إِسحاق، أم إِلى إِسماعيل؟ فأضيف إِلى إِسحاق لينكشف المعنى ويزول اللبس. قال: ويجوز أن ينسب ولد إِبراهيم من غير إِسحاق إلى سارة على جهة المجاز، فكان تأويل الآية: من الوراء المنسوب إِلى سارة، وإلى إِبراهيم من جهة إِسحاق، يعقوب. ومن حمل الوراء على «بعد» لزم ظاهر العربية.
واختلف القراء في «يعقوب»، فقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «يعقوبُ» بالرفع. وقرأ ابن عامر، وحمزة، وحفص عن عاصم: يَعْقُوبَ بالنصب.
قال الزجاج: وفي رفع «يعقوب» وجهان: أحدهما: على الابتداء المؤخَّر، معناه التقديم والمعنى: ويعقوبُ يَحْدُثُ لها من وراء إِسحاق. والثاني: وثبت لها من وراء إِسحاق يعقوبُ.
ومن نصبه. حمله على المعنى، والمعنى: وهبنا لها إِسحاقَ، ووهبنا لها يعقوبَ.
قوله تعالى: يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ هذه الكلمة تقال عند الإِيذان بورود الأمر العظيم. ولم تُرِد بها الدعاء على نفسها، وإِنما هي كلمة تخفُّ على ألسنة النساء عند الأمر العجيب. وقولها: أَأَلِدُ استفهام تعجّب. قال الزّجّاج: وشَيْخاً منصوب على الحال. قال ابن الأنباري: إِنما أشارت بقولها هذا لتنبِّه على شيخوخيَّته. واختلفوا في سن إِبراهيم وسارة يومئذ على أربعة أقوال «١» : أحدها: أنه كان إِبراهيم ابن تسع وتسعين سنة، وسارة بنت ثمان وتسعين، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أنه كان إِبراهيم ابن مائة سنة، وسارة بنت تسع وتسعين، قاله مجاهد. والثالث: كان إِبراهيم ابن تسعين، وسارة مثله، قاله قتادة. والرابع: كان إِبراهيم ابن مائة وعشرين سنة، وسارة بنت تسعين، قاله عبيد بن عمير، وابن إسحاق.
[سورة هود (١١) : آية ٧٣]
قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (٧٣)
قوله تعالى: قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ أي: من قضائه وقدرته، وهو إِيجاد ولد من بين كبيرين.
قال السدي: قالت سارة لجبريل: ما آية ذلك؟ فأخذ بيده عوداً يابساً فلواه بين أصابعه فاهتزّ أخضر،
(١) قال الإمام الطبري رحمه الله ٧/ ٧٤: وقيل إنها كانت يومئذ ابنة تسع وتسعين سنة، وإبراهيم ابن مائة سنة.
فقالت: هو إِذن لله ذبيحٌ. قوله تعالى: رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ فيه وجهان: أحدهما: أنه من دعاء الملائكة لهم. والثاني: أنه إِخبار عن ثبوت ذلك لهم. ومن تلك البركات وجود أكثر الأنبياء والأسباط من إِبراهيم وسارة. والحميد بمعنى المحمود. فأما المجيد، فقال ابن قتيبة: المجيد. بمعنى الماجد، وهو الشريف. وقال أبو سليمان الخطابي: هو الواسع الكرم. وأصل المجد في كلامهم:
السَّعَة، يقال: رجل ماجد: إِذا كان سخياً واسع العطاء. وفي بعض الأمثال: في كل شجر نار، واستمجدَ المرْخُ والعَفَارُ «١»، أي: استكثرا منها.
[سورة هود (١١) : الآيات ٧٤ الى ٧٦]
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (٧٥) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (٧٦)
قوله تعالى: فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ يعني الفَزَع الذي أصابه حين امتنعوا من الأكل يُجادِلُنا فيه إِضمار أخذ وأقبل يجادلنا، والمراد: يجادل رسلنا.
قال المفسرون: لما قالوا له: إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ قال: أتهلكون قرية فيها مائة مؤمن؟
قالوا: لا. قال: أتهلكون قرية فيها خمسون مؤمناً؟ قالوا: لا. قال: أربعون؟ قالوا: لا فما زال ينقص حتى قال: فواحد؟ قالوا: لا. فقال حينئذ: إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها، هذا قول ابن إِسحاق. وقال غيره: قيل له: إِن كان فيهم خمسة لم نعذِّبْهم، فما كان فيهم سوى لوط وابنتيه. وقال سعيد بن جبير: قال لهم: أتهلكون قرية فيها أربعة عشر مؤمناً؟ قالوا: لا وكان إِبراهيم يَعُدُّهم أربعة عشر مع امرأة لوط، فسكتَ واطمأنَّتْ نفسه وإِنما كانوا ثلاثة عشر فأُهلكوا. قوله تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ قد فسرناه في (براءة) «٢». فعند ذلك قالت الرسل لإِبراهيم: يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا يعنون الجدال. إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ بعذابهم. وقيل: قد جاء عذاب ربك، فليس بمردود، لأنّ الله تعالى قد قضى به.
[سورة هود (١١) : الآيات ٧٧ الى ٨١]
وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (٧٩) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (٨٠) قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (٨١)
قوله تعالى: وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً قال المفسرون: خرجت الملائكة من عند إِبراهيم نحو قرية
(١) في «اللسان» مادة «عفر» المرخ والعفار: هما شجرتان فيهما نار ليس في غيرهما من الشجر ويسوّى من أغصانهما الزناد فيقتدح بها، وذكر المثل وقال: استمجد: استكثر.
(٢) في الآية: ١١٤.
388
لوط، فأَتَوْهَا عشاءً. وقال السدي عن أشياخه: أَتَوْهَا نصف النهار، فلما بلغوا نهر سدوم لقوا بنت لوط تستقي الماء لأهلها، فقالوا لها: يا جارية، هل من منزل؟ قالت: نعم، مكانَكم لا تدخلوا حتى آتيكم، فَرَقاً عليهم من قومها فأتت أباها، فقالت: يا أبتاه، أدرك فتياناً على باب المدينة ما رأيت وجوه قوم هي أحسن منهم، لا يأخذهم قومك فيفضحوهم وقد كان قومه نَهَوْهُ أن يضيف رجلاً فجاء بهم، ولم يعلم بهم أحد إِلا أهل بيت لوط فخرجت امرأته فأخبرت قومها، فجاؤوا يُهْرَعُونَ إِليه.
قوله تعالى: سِيءَ بِهِمْ فيه قولان: أحدهما: ساء ظنه بقومه، قاله ابن عباس. والثاني: ساءه مجيء الرسل، لأنه لم يعرفهم، وأشفق عليهم من قومه، قاله ابن جرير. قال الزجاج: وأصل «سيء بهم» سوئ بهم، من السوء، إِلا أن الواو أسكنت ونقلت كسرتها إِلى السين.
قوله تعالى: وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً قال ابن عباس: ضاق ذرعاً بأضيافه. قال الفراء: الأصل فيه:
وضاق ذرعه بهم، فنُقل الفعل عن الذرع إِلى ضمير لوط، ونُصب الذرع بتحول الفعل عنه، كما قال:
وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً «١» ومعناه: اشتعل شيب الرأس. قال الزجاج: يقال: ضاق فلان بأمره ذرعاً:
إذا لم يجد من المكروه في ذلك الأمر مخلصاً. وذكر ابن الأنباري فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناه:
وقع به مكروه عظيم لا يصل إِلى دفعه عن نفسه فالذرع كناية عن هذا المعنى. والثاني: أن معناه:
ضاق صبره وعظم المكروه عليه وأصله من: ذرع فلاناً القيءُ: إِذا غلبه وسبقه. والثالث: أن المعنى:
ضاق بهم وُسْعُه، فناب الذرع والذراع عن الوسع، لأن الذراع من اليد، والعرب تقول: ليس هذا في يدي، يعنون: ليس هذا في وُسْعِي ويدل على صحة هذا أنهم يجعلون الذراع في موضع الذرع، فيقولون: ضقت بهذا الأمر ذراعاً، قال الشاعر:
إِلَيْكَ إِلَيْكَ ضَاقَ بِهِم ذِرَاعَا
فأما العصيب، فقال أبو عبيدة: العصيب: الشديد الذي يعصب الناس بالشر، وأنشد:
يوم عصيب يعصب الأبطالا عَصْبَ القويِّ السَّلَمَ الطِّوالا
وقال أبو عبيد: يقال: يوم عصيب ويوم عصبصب: إِذا كان شديداً.
قوله تعالى: يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ قال ابن عباس، ومجاهد: «يهرعون» يسرعون. وقال الفراء، والكسائي: لا يكون الإِهراع إِلا إِسراعاً مع رِعدة. قال ابن قتيبة: الإِهراع شبيه بالرِعدة، يقال: أُهرع الرجل: إِذا أسرع، على لفظ ما لم يسم فاعله، كما يقال: أُرعد. قال ابن الأنباري: الإِهراع فعل واقع بالقوم وهو لَهم في المعنى، كما قالت العرب: قد أُولع الرجل بالأمر، فجعلوه مفعولاً، وهو صاحب الفعل، ومثله: أُرعد زيد، وسُهي عمرو من السهو، كل واحد من هذه الأفاعيل خرج الاسم معه مقدراً تقدير المفعول، وهو صاحب الفعل لا يُعرف له فاعل غيره. قال: وقال بعض النحويين: لا يجوز للفعل أن يُجعل فاعله مفعولاً، وهذه الأفعال المذكورة فاعلوها محذوفون، وتأويل «أولع زيد» : أولعه طبعه وجِبلَّته، و «أرعد الرجل» : أرعده غضبه، و «سهي عمرو» جعله ساهياً مالُه أو جهله، و «أُهرع» معناه: أهرعه خوفه ورعبه فلهذه العلة خرِّج هؤلاء الأسماء مخرج المفعول به. قال: وقال بعض
(١) سورة مريم: ٤.
389
اللغويين: لا يكون الإِهراع إِلا إِسراع المذعور الخائف لا يقال لكل مسرع: مهرع حتى ينضم إِلى إِسراعه جزع وذعر. قال المفسرون: سبب إِهراعهم، أن امرأة لوط أخبرتهم بالأضياف.
وَمِنْ قَبْلُ أي: ومن قبل مجيئهم إِلى لوط كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ يعني فعلهم المنكر. وفي قوله: هؤُلاءِ بَناتِي قولان:
أحدهما: أنهن بناته لصلبه، قاله ابن عباس. فإن قيل: كيف جمع، وإنّما كن اثنتين؟
فالجواب: أنه قد يقع الجمع على اثنين، كقوله: وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ.
والثاني: أنه عنى نساء أمته، لأن كل نبي أبو أمته، والمعنى: أنه عرض عليهم التزويج، أو أمرهم أن يكتفوا بنسائهم، وهذا مذهب مجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة، وابن جريج.
فإن قيل: كيف عرض تزويج المؤمنات على الكافرين؟ فعنه جوابان:
أحدهما: أنه قد كان يجوز ذلك في شريعته، وكان جائزاً في صدر الإِسلام حتى نسخ، قاله الحسن. والثاني: أنه عرض ذلك عليهم بشرط إِسلامهم، قاله الزجاج، ويؤكده أن عرضهن عليهم موقوف على عقد النكاح، فجاز أن يقف على شرط آخر.
قوله تعالى: هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ قال مقاتل: هن أحل من إِتيان الرجال.
قوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ فيه قولان: أحدهما: اتقوا عقوبته. والثاني: اتقوا معصيته.
قوله تعالى: وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي حرك ياء «ضيفي» أبو عمرو، ونافع. وفي معنى هذا الخزي ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الفضيحة، قاله ابن عباس. والثاني: الاستحياء، والمعنى: لا تفعلوا بأضيافي فعلاً يلزمني الاستحياء منه، لأن المضيف يلزمه الاستحياء من كل فعل يصل إِلى ضيفه. والعرب تقول:
قد خزي الرجل يخزى خِزاية: إذا استحيا، قال الشاعر:
مِنَ البِيْضِ لاَ تَخْزَي إِذا الرِّيْحُ أَلْصَقَتْ بها مِرْطَهَا أَوْ زَايَلَ الحَلْيُ جِيْدَهَا «١»
والثالث: أنه بمعنى الهلاك، لأن المعرة التي تقع بالمضيف في هذه الحال تُلزمه هلكة، ذكرهما ابن الأنباري. قال ابن قتيبة: والضّيف ها هنا: بمعنى الأضياف، والواحد يدل على الجميع، كما تقول: هؤلاء رسولي ووكيلي.
قوله تعالى: أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ في المراد بالرشيد قولان: أحدهما: المؤمن.
والثاني: الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، رويا عن ابن عباس.
قال ابن الأنباري: يجوز أن يكون الرشيد بمعنى المرشِد، فيكون المعنى: أليس منكم مرشِد يعظكم ويعرفكم قبيح ما تأتون؟ فيكون الرشيد من صفة الفاعل، كالعليم، والشهيد. ويجوز أن يكون الرشيد بمعنى المرشَد، فيكون المعنى: أليس منكم رجل قد أسعده الله بما منحه من الرشاد يصرفكم عن إِتيان هذه المعرَّة؟ فيجري رشيد مجرى مفعول، كالكتاب الحكيم بمعنى المحكم.
قوله تعالى: ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ فيه قولان: أحدهما: ما لنا فيهن حاجة، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: لسن لنا بأزواج فنستحقهن، قاله ابن إسحاق، وابن قتيبة.
(١) في «اللسان» المرط: كساء: من خز أو صوف أو كتان، وقيل هو الثوب الأخضر.
390
قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ قال عطاء: وإِنك لتعلم أنا نريد الرجال، لا النساء.
قوله تعالى: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أي: جماعة أقوى بهم عليكم. وقيل: أراد بالقوة البطش. أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ أي: أنضم إِلى عشيرة وشيعة تمنعني. وجواب «لو» محذوف على تقدير: لحُلْتُ بينكم وبين المعصية. قال أبو عبيدة: قوله تعالى: «آوي» من قولهم: أويت إِليك، فأنا آوي أُويّاً، والمعنى: صرت إِليك وانضممت. ومجاز الركن ها هنا: العشيرة العزيزة الكثيرة المنيعة، وأنشد «١» :
يأوى إِلى رُكْنٍ مِنَ الأَرْكَانِ في عدَدٍ طَيْسٍ ومجدٍ باني
والطَّيْس: الكثير، يقال: أتانا لبن طيس، وشراب طيس، أي: كثير.
واختلفوا أي وقت قال هذا لوط فروي عن ابن عباس أن لوطاً كان قد أغلق بابه والملائكة معه في الدار، وهو يناظرهم ويناشدهم وراء الباب، وهم يعالجون الباب ويرومون تسوّر الجدار فلما رأت الملائكة ما يلقى من الكرب، قالوا: يا لوط إِنا رسل ربك، فافتح الباب ودعنا وإِياهم ففتح الباب، فدخلوا، واستأذن جبريل ربه في عقوبتهم، فأذن له، فضرب بجناحه وجوههم فأعماهم، فانصرفوا يقولون: النجاءَ النجاءَ، فان في بيت لوط أسحر قوم في الأرض وجعلوا يقولون: يا لوط، كما أنت حتى تصبح، يوعدونه فقال لهم لوط: متى موعد هلاكهم؟ قالوا: الصبح، قال: لو أهلكتموهم الآن، فقالوا: أليس الصبح بقريب؟ وقال أبو صالح عن ابن عباس: إِنهم لما تواعدوه، قال في نفسه: ينطلق هؤلاء القوم غداً من عندي، وأبقى مع هؤلاء فيهلكوني، فقال: لو أن لي بكم قوة.
قلت: وإِنما يتوجه هذا إِذا قلنا: إِنه كان قبل علمه أنهم ملائكة. وقال قوم: إِنه إِنما قال هذا لما كسروا بابه وهجموا عليه. وقال آخرون: لما نهاهم عن أضيافه فأبَوْا قال هذا. وفي الجملة، ما أراد بالركن نصر الله وعونه، لأنه لم يخل من ذلك، وإِنما ذهب إِلى العشيرة والأسرة.
(٧٩٦) وروى أبو هريرة عن رسول الله ﷺ أنه قال: «رحم الله لوطاً، لقد كان يأوي إِلى ركن شديد، وما بعث الله نبياً بعده إِلا في ثروة من قومه».
قوله تعالى: لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ قال مقاتل: فيه إِضمار، تقديره: لن يصلوا إِليك بسوء، وذلك أنهم قالوا للوط: إِنا نرى معك رجالاً سحروا أبصارنا، فستعلم غداً ما تَلْقى أنت وأهلُك فقال له جبريل: إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ.
قوله تعالى: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ قرأ عاصم، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائيّ «فأسر»
صدره صحيح وعجزه حسن، أخرجه الترمذي ٣١١٦، وأحمد ٢/ ٣٣٢، والطبري ١٨٤١١، ١٨٤١٢ و ١٨٤١٣ و ١٨٤١٦ وابن حبان ٦٢٠٧ من طريق محمد بن عمرو. عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا.
وإسناده حسن لأجل محمد بن عمرو، فإنه صدوق، حسن الحديث.
وأخرجه من حديث أبي هريرة مرفوعا دون عجزه «وما بعث الله نبياً بعده إِلا في ثروة من قومه» البخاري ٣٣٧٢ و ٤٥٣٧، ومسلم ١٥١ و ٢٣٨ والترمذي ٣١١٦ وابن ماجة ٤٠٢٦ والطبري ١٨٤١٤ و ١٨٤١٥ و ١٨٤١٧، والبغوي في «شرح السنة» ٦٣، والطحاوي في «شرح مشكل الآثار» ٣٢٦.
__________
(١) ذكره الإمام الطبري رحمه الله ٧/ ٨٧، ولم ينسبه لقائل. [.....]
391
بإثبات الهمز في اللفظ من أسريت. وقرأ ابن كثير، ونافع «فاسر بأهلك» بغير همز من سريت، وهما لغتان. قال الزجاج: يقال: سريت، وأسريت: إِذا سرت ليلاً، قال الشاعر:
سريت بهم حتى تكلَّ مَطيُّهم وحتى الجيادُ ما يُقَدْنَ بأرسان «١»
وقال النابغة:
أَسْرَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْجَوْزَاءِ سَارِيَةٌ «٢» تُزجِي الشَّمَالُ عَلَيْهِ جَامِدَ الْبَرَدِ وقد رووه: سرت. فأما أهله، فقال مقاتل: هم امرأته وابنتاه، واسم ابنتيه: رُبْثا وزُعَرثا. وقال السدي: اسم الكبرى: ريَّة، واسم الصغرى: عروبة، والمراد بأهله: ابنتاه. فأما القِطْع، فهو بمعنى القطعة يقال: مضى قِطْع من الليل، أي: قطعة. قال ابن عباس: يريد به: آخر الليل. وقال ابن قتيبة:
«بقِطْع» أي: ببقية تبقى من آخره. وقال ابن الأنباري: ذكر القِطَع بمعنى القطعة مختص بالليل، ولا يقال: عندي قِطْع من الثوب، بمعنى: عندي قطعة.
قوله تعالى: وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ فيه قولان: أحدهما: أنه بمعنى: لا يتخلَّفْ منكم أحد، قاله أبو صالح عن ابن عباس، والثاني: أنه الالتفات المعروف، قاله مجاهد، ومقاتل.
قوله تعالى: إِلَّا امْرَأَتَكَ قرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بنصب التاء. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو، وابن جمّاز عن أبي جعفر برفع التاء. قال الزجاج: من قرأ بالنصب فالمعنى: فأسر بأهلك إِلا امرأتكَ. ومن قرأ بالرفع حمله على: «ولا يلتفتْ منكم أحد إِلا امرأتك». وإِنما أُمروا بترك الالتفات لئلا يَرَوْا عظيم ما ينزل بهم من العذاب. قال ابن الأنباري: وعلى قراءة الرفع يكون الاستثناء منقطعاً، معناه: لكن امرأتك فإنها تلتفت فيصيبها ما أصابهم فإذا كان استثناءً منقطعاً كان التفاتُها معصيةً لربها، لأنه ندب إِلى ترك الالتفات. قال قتادة: ذُكر لنا أنها كانت مع لوط حين خرج من القرية، فلما سمعت هَدّة العذاب التفتت فقالت: وا قوماه، فأصابها حجر فأهلكها، وهو قوله: إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ للعذاب الصُّبْحُ.
قوله تعالى: أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ قال المفسرون: قالت الملائكة: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ فقال:
أريد أعجل من ذلك، فقالوا له: أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ؟
[سورة هود (١١) : الآيات ٨٢ الى ٨٣]
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (٨٣)
قوله تعالى: فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أمرُ الله الملائكةَ بعذابهم. والثاني: أن الأمر بمعنى العذاب. والثالث: أنه بمعنى القضاء بعذابهم.
قوله تعالى: جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها الكناية تعود إِلى المؤتفكات، وهي قرى قوم لوط، وقد
(١) ذكره ابن منظور في «اللسان» مادة «مطا» ونسبه لامرئ القيس ١٥/ ٢٨٤.
والمطية: الناقة التي يركب مطاها، والمطيّة: البعير يمتطى ظهره، وجمعه: مطايا.
(٢) في اللسان السارية: السحابة التي تسري ليلا، وجمعها: السواري.
392
ذكرناها في سورة براءة «١»، ونحن نشير إلى قصة هلاكهم ها هنا.
قال ابن عباس: أمر جبريل لوطاً بالخروج، وقال: اخرج وأخرج غنمك وبقرك، فقال: كيف لي بذلك وقد أُغلقت أبواب المدينة؟ فبسط جناحه، فحمله وبنتيه وما لهم من شيء، فأخرجهم من المدينة، وسأل جبريل ربَّه، فقال: يا رب ولِّني هلاك هؤلاء القوم، فأوحى الله إِليه أن تولّ هلاكهم فلما أن بدا الصبح، غدا عليهم جبريل فاحتملها على جناحه، ثم صَعِدَ بها حتى خرج الطير في الهواء لا يدري أين يذهب، ثم كَفَأهَا عليهم، وسمعوا وَجْبَةً «٢» شديدة، فالتفتت امرأة لوط، فرماها جبريل بحجر فقتلها، ثم صَعِدَ حتى أشرف على الأرض، فجعل يتّبع مُسافِرَهم وَرعَاتهم ومَنْ تحوَّل عن القرية، فرماهم بالحجارة حتى قتلهم. وقال السدي: اقتلع جبريل الأرض من سبع أرضين، فاحتملها حتى بلغ بها إِلى أهل السماء الدنيا، حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم، ثم قلبها. وقال غيره: كانت خمس قرى، أعظمها سَدوم، وكان القوم أربعة آلاف ألف. وقيل: كان في كل قرية مائة ألف مقاتل، فلما رفعها إِلى السماء، لم ينكسر لهم إِناء ولم يسقط حتى قلبها عليهم. وقيل: نجت من الخمس واحدة لم تكن تعمل مثل عملهم. وانفرد سعيد بن جبير، فقال: إِن جبريل وميكائيل تولَّيا قلبها.
قوله تعالى: وَأَمْطَرْنا عَلَيْها في هاء الكناية قولان: أحدهما: أنها ترجع إِلى القرى. والثاني:
إِلى الأمة. وفي السّجّيل سبعة أقوال «٣» :
أحدها: أنها بالفارسية سَنْك وكِلْ، السنك: الحجر، والكل: الطين، هذا قول ابن عباس، وعكرمة، وسعيد بن جبير. وقال مجاهد: أولها حجر، وآخرها طين. وقال الضحاك: يعني الآجرّ.
قال ابن قتيبة: من ذهب إِلى هذا القول، اعتبره بقوله: حِجارَةً مِنْ طِينٍ يعنى الآجر. وحكى الفراء أنه طين قد طبخ حتى صار بمنزلة الرّحاء «٤». والثاني: أنه بحر معلَّق في الهواء بين السماء والأرض، ومنه نزلت الحجارة، قاله عكرمة. والثالث: أن السجيل: اسم السماء الدنيا، فالمعنى: حجارة من السماء الدنيا، قاله ابن زيد. والرابع: أنه الشديد من الحجارة الصلب، قاله أبو عبيدة، وأنشد لابن مقبل:
ضرباً تواصَتْ به الأبطالُ سِجِّينَا «٥» وردّ هذا القول ابن قتيبة، فقال: هذا بالنون، وذاك باللام، وإِنما هو في هذا البيت فعيل من سجنت، أي: حبست، كأنه يثبت صاحبه. والخامس: أن قوله: مِنْ سِجِّيلٍ كقولك: من سِجلّ، أي: مما كُتب لهم أن يعذَّبوا به، وهذا اختيار الزجاج. والسادس: أنه من أسجلته، أي: أرسلته، فكأنها مرسلة عليهم. والسابع: أنه من أسجلت: إِذا أعطيت، حكى القولين الزّجّاج.
(١) الآية: ٧٠.
(٢) في «اللسان» الوجبة: صوت الشيء يسقط فيسمع له كالهدّة.
(٣) قال الإمام الطبري رحمه الله ٧/ ٩٣: والصواب من القول في ذلك عندنا ما قاله المفسرون، وهو أنها حجارة من طين، وبذلك وصفها الله في كتابه في موضع، وذلك قوله: لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ سورة الذاريات: ٣٣- ٣٤.
(٤) وقع في نسخة: «الأرحاء»، وفي «اللسان» الرحاء من الرحا: الحجارة والصخرة العظيمة.
(٥) هو عجز بيت، وصدره في «اللسان» مادة «سجن» : ورجلة يضربون البيض عن عرض.
393
وفي قوله: مَنْضُودٍ ثلاثة أقوال: أحدها: يتبع بعضه بعضا، قاله ابن عباس. والثاني: أنه مصفوف، قاله عكرمة، وقتادة. والثالث: نضد بعضه على بعض، لأنه طين جُمع فجُعل حجارة، قاله الربيع بن أنس «١».
قوله تعالى: مُسَوَّمَةً قاله الزجاج: أي معلَّمة، أُخذ من السُّومة، وهي العلامة. وفي علامتها ستة أقوال: أحدها: بياض في حمرة، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال الحسن.
والثاني: أنها كانت مختومة، فالحجر أبيض وفيه نقطة سوداء، أو أسود وفيه نقطة بيضاء، رواه العوفي عن ابن عباس. والثالث: أنها المخططة بالسواد والحمرة، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والرابع: عليها نضح من حمرة فيها خطوط حمر على هيئة الجِزع، قاله عكرمة، وقتادة. والخامس: أنها كانت معلَّمة بعلامة يُعرف بها أنها ليست من حجارة الدنيا، قاله ابن جريج. والسادس: أنه كان على كل حجر منها اسم صاحبه، قاله الربيع. وحكي عن بعض من رأى تلك الحجارة أنه قال: كانت مثل رأس الإبل، ومثل مبارك الإِبل، ومثل قبضة الرجل.
وفي قوله تعالى: عِنْدَ رَبِّكَ أربعة أقوال: أحدها: أن المعنى: جاءت من عند ربك، قاله ابن عباس، ومقاتل. والثاني: عند ربك معدّة، قاله أبو بكر الهذليّ. والثالث: أن المعنى: هذا التسويم لزم هذه الحجارة عند الله إِيذاناً بنفاذ قدرته وشدة عذابه، قاله ابن الأنباري. والرابع: أن معنى قوله تعالى:
«عند ربك» : في خزائنه التي لا يُتصرَّف في شيء منها إِلا بإذنه.
قوله تعالى: وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ في المراد بالظّالمين ها هنا ثلاثة أقوال: أحدها: أن المراد بالظالمين هاهنا: كفار قريش، خوَّفهم الله بها، قاله الأكثرون. والثاني: أنه عام في كل ظالم قال قتادة: والله ما أجار الله منها ظالماً بعد قوم لوط، فاتقوا الله وكونوا منه على حذر. والثالث: أنهم قوم لوط، فالمعنى: وما هي من الظالمين، أي: من قوم لوط ببعيد، والمعنى: لم تكن لتُخطئهم، قاله الفرّاء.
[سورة هود (١١) : الآيات ٨٤ الى ٨٥]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥)
قوله تعالى: وَإِلى مَدْيَنَ قد فسّرناه في سورة الأعراف «٢». قوله تعالى: وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ أي: لا تطفّفوا وكانوا يطفِّفون مع كفرهم. قوله تعالى: إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ فيه قولان:
(١) قال الإمام الطبري رحمه الله ٧/ ٩٣: والصواب من القول في ذلك ما قاله الربيع بن أنس، وذلك أن قوله:
مَنْضُودٍ من نعت سِجِّيلٍ، لا من نعت ال حِجارَةً، وإنما أمطر القوم حجارة من طين صفة لذلك الطين أنه نضد بعضه إلى بعض، فصيّر حجارة، ولم يمطر الطين، فيكون موصوفا بأنه تتابع على القوم بمجيئه.
وأضاف الطبري: وإنما كان جائزا أن يكون على ما تأوّله هذا المتأول، لو كان التنزيل بالنصب «منضودة» فيكون من نعت «الحجارة» حينئذ.
(٢) الآية: ٨٥.
أحدهما: أنه رخص الأسعار، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد. والثاني: سَعَةُ المال، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال قتادة، وابن زيد. وقال الفراء: أموالكم كثيرة، وأسعاركم رخيصة، فأيّ حاجة بكم إلى سوء الكيل والوزن «١» ؟! قوله تعالى: وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه غلاء السعر، قاله ابن عباس. وقال مجاهد: القحط والجدب والغلاء. والثاني: العذاب في الدنيا، وهو الذي أصابهم، قاله مقاتل. والثالث: عذاب النار في الآخرة، ذكره الماوردي «٢».
قوله تعالى: أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ أي: أتمُّوا ذلك بالعدل. والإِيفاء: الإِتمام.
وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ بنقص المكيال والميزان.
[سورة هود (١١) : الآيات ٨٦ الى ٩٥]
بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦) قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (٨٨) وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (٩٠)
قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (٩١) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٩٢) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (٩٣) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٩٤) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (٩٥)
قوله تعالى: بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ فيه ثمانية أقوال «٣» : أحدها: ما أبقى الله بكم من الحلال بعد
(١) قال الإمام الطبري رحمه الله ٧/ ٩٧: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، ما أخبر الله عن شعيب أنه قال لقومه، وذلك قوله إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ يعني: بخير الدنيا. وقد يدخل في خير الدنيا المال وزينة الحياة الدنيا ورخص السعر، ولا دلالة على أنه بقيله ذلك بعض خيرات الدنيا دون بعض، فذلك على كل معاني خيرات الدنيا التي ذكر أهل العلم أنهم كانوا أوتوها.
(٢) في تفسيره: ٢/ ٤٩٥.
(٣) قال الإمام الطبري رحمه الله ٧/ ٩٨: يعني تعالى ذكره بقوله: بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ ما أبقاه الله لكم بعد أن توفوا الناس حقوقهم بالمكيال والميزان بالقسط، فأحله لكم من الذي يبقى لكم ببخسكم الناس من حقوقهم بالمكيال والميزان. ثم ذكر سبب اختياره لهذا التأويل فقال في ٧/ ١٠٠: وإنما اخترت في تأويل ذلك القول الذي اخترته لأن الله تعالى ذكره إنما تقدم إليهم بالنهي عن بخس الناس أشياءهم في المكيال والميزان، وإلى ترك التطفيف في الكيل والبخس في الميزان دعاهم شعيب، فتعقيب ذلك بالخبر عما لهم من الحظ في الوفاء.
في الدنيا والآخرة أولى، مع أن قوله بَقِيَّتُ إنما هي مصدر من قول القائل: «بقيت بقية من كذا»، فلا وجه لتوجيه معنى ذلك إلا إلى: بقية الله التي أبقاها لكم، مما لكم بعد وفائكم الناس حقوقهم، خير لكم من بقيتكم من الحرام الذي يبقى لكم من ظلمكم الناس، ببخسكم إياها في الكيل والوزن. اه.
395
إِيفاء الكيل والوزن، خير من البخس، قاله ابن عباس. والثاني: رزق الله خير لكم، روي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال سفيان. والثالث: طاعة الله خير لكم، قاله مجاهد، والزجاج. والرابع: حظُّكم من الله خير لكم، قاله قتادة. والخامس: رحمة الله خير لكم، قاله ابن زيد. والسادس: وصية الله خير لكم، قاله الربيع. والسابع: ثواب الله في الآخرة خير لكم، قاله مقاتل. والثامن: مراقبة الله خير لكم، ذكره الفراء. وقرأ الحسن البصري: «تقية الله خير لكم» بالتاء.
قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ شرطَ الإِيمان في كونه خيراً لهم، لأنهم إن كانوا مؤمنين بالله عزّ وجلّ، عرفوا صحّة ما يقول. وفي قوله عزّ وجلّ: وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ثلاثة أقوال: أحدها:
ما أُمرْتُ بقتالكم وإِكراهكم على الإِيمان. والثاني: ما أُمرتُ بمراقبتكم عند كيلكم لئلا تبخسوا.
والثالث: ما أحفظكم من عذاب الله إِن نالكم.
قوله تعالى: أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وحفص: «أصلاتك» على التوحيد. وفي المراد بصلواته ثلاثة أقوال: أحدها: دينة، قاله عطاء. والثاني: قراءته، قاله الأعمش.
والثالث: أنها الصلوات المعروفة. وكان شعيب كثيرَ الصلاة.
قوله تعالى: أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا قال الفراء: معنى الآية: أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا، أو أن نترك أن نفعل في أموالنا ما نشاء؟
وفي معنى الكلام على قراءة من قرأ بالنون قولان: أحدهما: أن فعلهم في أموالهم هو البخس والتطفيف، قاله ابن عباس فالمعنى: قد تراضينا فيما بيننا بذلك.
والثاني: أنهم كانوا يقطعون الدراهم والدنانير، فنهاهم عن ذلك، قاله ابن زيد. وقال القرظي:
عُذِّبوا في قطعهم الدراهم. قال ابن الأنباري: وقرأ الضحاك بن قيس الفهري: «ما تشاء» بالتاء، ونسق «أن تفعل» على «أن تترك»، واستغنى عن الإِضمار. قال سفيان الثوري: في معنى هذه القراءة أنه أمرهم بالزكاة فامتنعوا. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، والضحاك، وابن أبي عبلة: «أو أن تفعل في أموالنا ما تشاء» بالتاء فيهما «١» ومعنى هذه القراءة كمعنى قراءة الفهري.
وفي قوله تعالى: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ أربعة أقوال:
أحدها: أنهم قالوه استهزاءً به، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والفراء.
والثاني: أنهم قالوا له: إِنك لأنت السفيه الجاهل، فكنى بهذا عن ذلك، ذكره الزجاج.
والثالث: أنهم سبّوه بأنه ليس بحليم ولا رشيد، فأثنى الله عزّ وجلّ عليه فقال: بل إِنك لأنت الحليم الرشيد، لا كما قال لك الكافرون، حكاه أبو سليمان الدّمشقي عن أبي الحسن المصّيصي.
(١) قال الطبري رحمه الله ٧/ ١٠١: فمن قرأ ذلك كذلك، فلا مؤونة فيه، وكانت «أن» الثانية حينئذ معطوفة على «أن» الأولى.
396
والرابع: أنهم اعترفوا له بالحلم والرشد حقيقة، وقالوا: أنت حليم رشيد، فَلِمَ تنهانا أن نفعل في أموالنا ما نشاء؟ حكاه الماوردي، وذهب إِلى نحوه ابن كيسان.
قوله تعالى: إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي قد تقدّم تفسيره.
وفي قوله تعالى: وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الحلال قال ابن عباس:
وكان شعيب كثيرَ المال. والثاني: النبوَّة. والثالث: العلم والمعرفة.
قال الزّجّاج: وجواب الشرط ها هنا متروك، والمعنى: إِن كنت على بينة من ربي، أتبع الضلال؟
فترك الجواب، لعلم المخاطَبين بالمعنى، وقد مرَّ مثل هذا.
قوله تعالى: وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ قال قتادة: لم أكن لأنهاكم عن أمر ثم أرتكبه. وقال الزجاج: ما أقصد بخلافكم القصد إِلى ارتكابه.
قوله تعالى: إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ أي: ما أريد بما آمركم به إِلا إِصلاح أموركم بقدر طاقتي. وقدر طاقتي: إِبلاغكم لا إِجباركم.
قوله تعالى: وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ فتح تاء «توفيقي» أهل المدينة، وابن عامر. ومعنى الكلام: ما أصابتي الحق في محاولة صلاحكم إِلا بالله، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ أي: فوضت أمري، وذلك أنهم تواعدوه بقولهم: لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ، وَإِلَيْهِ أُنِيبُ أي: أرجع.
قوله تعالى: لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي حرك هذه الياء ابن كثير، وأبو عمرو، ونافع. قال الزجاج: لا تكسبنَّكم عداوتكم إِيايَ أن تعذَّبوا.
قوله تعالى: وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ فيه قولان: أحدهما: أنهم كانوا قريباً من مساكنهم.
والثاني: أنهم كانوا حديثي عهد بعذاب قوم لوط. قال الزجاج: كان إِهلاك قوم لوط أقرب الإِهلاكات التي عرفوها. قال ابن الأنباري: إِنما وحَّد بعيداً، لأنه أزاله عن صفة القوم، وجعله نعتاً مكان محذوف، تقديره: وما قوم لوط منكم بمكان بعيد.
قوله تعالى: إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ قد سبق معنى الرحيم. فأما الودود: فقال ابن الأنباري:
معناه: المحب لعباده، من قولهم: ودِدت الرجل أوَدُّه وُدّاً ووِدّاً، ويقال: وددت الرجل ودادا وودادة ووِدادة. وقال الخطابي: هو اسم مأخوذ من الوُدِّ وفيه وجهان:
أحدهما: أن يكون فعولاً في محل مفعول، كما قيل: رجل هيوب، بمعنى مهيب، وفرس رَكوب، بمعنى مركوب، فالله سبحانه مودود في قلوب أوليائه لما يتعرَّفونه من إِحسانه إليهم.
والوجه الآخر: أن يكون بمعنى الوادّ، أي أنه يودّ عباده الصالحين، بمعنى أنه يرضى عنهم بِتَقَبُّلِ أعمالهم ويكون معناه: أن يودّدهم إلى خلقه، كقوله عزّ وجلّ: سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا «١».
قوله تعالى: ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ قال ابن الأنباري: معناه: ما نفقه صحة كثير مما تقول، لأنهم كانوا يتديَّنون بغيره، ويجوز أن يكونوا لاستثقالهم ذلك كأنهم لا يفقهونه.
(١) سورة مريم: ٩٦. [.....]
397
قوله تعالى: وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً فيه أربعة أقوال: أحدها: ضريراً قال ابن عباس وابن جبير وقتادة: كان أعمى. قال الزجاج: ويقال إِن حِمير تسمي المكفوف ضعيفاً. والثاني: ذليلاً، قاله الحسن وأبو روق ومقاتل. وزعم أبو رَوْق أن الله لم يبعث نبياً أعمى ولا نبياً به زمانة. والثالث: ضعيف البصر، قاله سفيان. والرابع: عاجزاً عن التصرف في المكاسب، ذكره ابن الأنباري. قوله تعالى:
وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ قال الزجاج: لولا عشيرتك لقتلناك بالرّجم، والرّجم من سيّئ القتلات، وكان رهطه من أهل ملَّتهم، فلذلك أظهروا الميل إِليهم والإِكرام لهم. وذكر بعضهم أنّ الرّجم ها هنا بمعنى الشتم والأذى. قوله تعالى: وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ فيه قولان: أحدهما: بكريم. والثاني: بممتنع أن نقتلك.
قوله تعالى: أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وأسكن ياء «رهطي» أهل الكوفة، ويعقوب، والمعنى: أتراعون رهطي فيَّ، ولا تراعون الله فيَّ؟
قوله تعالى: وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ في هاء الكناية قولان: أحدهما: أنها ترجع إِلى الله تعالى، قاله الجمهور. قال الفراء: المعنى: رميتم بأمر الله وراء ظهوركم. قال الزجاج: والعرب تقول لكل من لا يعبأ بأمر: قد جعل فلان هذا الأمر بظهر، قال الشاعر «١» :
تميمَ بنَ قيس لا تكوننَّ حَاجَتي بظَهْرٍ فلا يَعْيَا عليَّ جَوَابُها
والثاني: أنها كناية عما جاء به شعيب، قاله مجاهد.
قوله تعالى: إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ أي: عالم بأعمالكم، فهو يجازيكم بها. وما بعد هذا قد سبق تفسيره «٢» إِلى قوله تعالى: سَوْفَ تَعْلَمُونَ. فإن قال قائل: كيف قال ها هنا: «سوف» وفي أخرى: «فسوف» «٣» ؟ فالجواب: أن كلا الأمرين حسن عند العرب، إِن أدخلوا الفاء، دلُّوا على اتصال ما بعد الكلام بما قبله، وإِن أسقطوها، بَنَوْا الكلام الأول على أنه قد تم، وما بعده مستأنف، كقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً «٤» والمعنى: فقالوا: أتتخذنا، بالفاء، فحذفت الفاء لتمام ما قبلها. قال امرؤ القيس:
فقالتْ يَمينَ الله ما لك حِيلةٌ وَمَا إِنْ أرَى عَنْكَ الغَوَاية تَنْجلي
خَرَجْتُ بِها أمْشي تَجُرّ وَرَاءَنا عَلى إِثرِنَا أذْيَالَ مِرطٍ مُرحَّلِ «٥»
قال ابن الأنباري: أراد: فخرجتُ، فأسقط الفاء لتمام ما قبلها. ويروى: فقمت بها أمشي.
قوله تعالى: وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ قال ابن عباس: ارتقبوا العذاب، فإني أرتقب الثواب. قوله تعالى: وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ. قال المفسرون: صاح بهم جبريل فماتوا في أمكنتهم. قال محمد بن كعب: عُذّب أهل مدين بثلاثة أصناف من العذاب، أخذتهم رجفة في ديارهم حتى خافوا أن تسقط عليهم، فخرجوا منها فأصابهم حرٌّ شديد، فبعث الله الظُلَّةَ، فتنادَوا: هلم إِلى الظل فدخلوا جميعاً في الظُلَّة، فصيح بهم صيحة واحدة فماتوا كلهم. قال ابن عباس: لم تعذّب أمّتان
(١) ذكره ابن منظور في «اللسان» مادة «ظهر» وعزاه إلى الفرزدق.
(٢) سورة الأنعام: ١٣٥.
(٣) سورة الأنعام: ١٣٥.
(٤) سورة البقرة: ٦٧.
(٥) المرحّل: ضرب من برود اليمن، سمي مرحّلا لأن عليه تصاوير رحل. ومرط مرحّل: إذا وخز فيه علم.
398
قط بعذاب واحد، إلا قوم شعيب وصالح، فأما قوم صالح، فأخذتهم الصيحة من تحتهم، وأما قوم شعيب، فأخذتهم من فوقهم، نشأت لهم سحابة كهيئة الظُلَّة فيها ريح بعد أن امتنعت الريح عنهم، فَأَتَوْها يستظلُّون تحتها فأحرقتهم.
قوله تعالى: كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ أي: كما هلكت ثمود. قال ابن قتيبة: يقال: بَعِدَ يَبْعَدُ: إِذا كان بُعْده هلكة وبَعُدَ يبعد: إذا نأى.
[سورة هود (١١) : الآيات ٩٦ الى ٩٧]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧)
قوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا قال الزجاج: بعلاماتنا التي تدل على صحة نبوته.
وَسُلْطانٍ مُبِينٍ أي: حجة بيِّنة. قوله تعالى: فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وهو ما أمرهم به من عبادته واتخاذه إِلهاً. وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ أي: مرشد إلى خير.
[سورة هود (١١) : آية ٩٨]
يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨)
قوله تعالى: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ قال الزجاج: يقال: قَدَمْت القوم أقدُمهم، قَدْماً وقُدوما:
إِذا تقدمتهم والمعنى: يقدمهم إِلى النار ويدل عليه قوله تعالى: فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ قال ابن عباس:
أوردهم بمعنى أدخلهم. وقال قتادة: يمضي بين أيديهم حتى يهجم بهم على النار. وقوله تعالى:
وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ قال المفسرون: الوِرد: الموضع الذي ترِده. وقال ابن الأنباري: الوِرد: مصدر معناه: الورود، تجعله العرب بمعنى الموضع المورود فتلخيص الحرف: وبئس المدخل المدخول النار.
[سورة هود (١١) : آية ٩٩]
وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (٩٩)
قوله تعالى: وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ. في هذه اللعنة قولان:
أحدهما: أنها في الدنيا الغرق، وفي الآخرة عذاب النار، هذا قول الكلبي، ومقاتل.
والثاني: أنها اللعنة في الدنيا من المؤمنين، وفي الآخرة من الملائكة، ذكره الماوردي «١».
قوله تعالى: بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ قال ابن قتيبة: الرفد: العطية يقول: اللعنة بئس العطية يقال: رفَدته أرفِده: إِذا أعطيته وأعنته. والمرفود: المعطى.
[سورة هود (١١) : آية ١٠٠]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠)
قوله تعالى: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى يعني ما تقدم من الخبر عن القرى المهلَكة. نَقُصُّهُ عَلَيْكَ أي: نخبرك به مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ قال قتادة: القائم: ما يرى مكانه، والحصيد: لا يرى أثره. وقال ابن قتيبة: القائم: الظاهر العين، والحصيد: الذي قد أبيد وحُصد. وقال الزجاج: القائم: ما بقيت حيطانه، والحصيد: الذي خُسِف به وما قد امَّحى أثره.
(١) في تفسيره: ٢/ ٥٠٢.

[سورة هود (١١) : آية ١٠١]

وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (١٠١)
قوله تعالى: وَما ظَلَمْناهُمْ أي: بالعذاب والإِهلاك. وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالكفر والمعاصي. فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ أي: فما نفعتهم ولا دفعت عنهم شيئاً لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ بالهلاك. وَما زادُوهُمْ يعني الآلهة غَيْرَ تَتْبِيبٍ وفيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه التخسير، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وقتادة، واختاره ابن قتيبة، والزجاج. والثاني: أنه الشر، قاله ابن زيد. والثالث: التدمير والإِهلاك، قاله أبو عبيدة.
فإن قيل: الآلهة جماد، فكيف قال: «زادوهم» ؟ فعنهْ جوابان: أحدهما: وما زادتهم عبادتها.
والثاني: أنها في القيامة تكون عونا عليهم فتزيدهم شرّا.
[سورة هود (١١) : الآيات ١٠٢ الى ١٠٤]
وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤)
قوله تعالى: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ أي: وكما ذُكر من إِهلاك الأمم وأخذهم بالعذاب أَخْذُ ربك.
إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ وصف القرى بالظلم، والمراد أهلها. وقال ابن عباس: الظّلم ها هنا:
بمعنى الكفر.
قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً يعني ما ذُكر من عذاب الأمم وأخْذِهم. والآية: العبرة والعظة.
ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ لأن الخلق يُحشرون فيه، ويَشهده البَرُّ والفاجر، وأهل السماء والأرض..
وَما نُؤَخِّرُهُ وروى زيد عن يعقوب، وأبو زيد عن المفضل «وما يؤخره بالياء» والمعنى: وما نؤخر ذلك اليوم إِلا لوقت معلوم لا يعلمه إلّا الله عزّ وجلّ.
[سورة هود (١١) : الآيات ١٠٥ الى ١٠٨]
يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٠٧) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨)
قوله تعالى: يَوْمَ يَأْتِ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي: «يوم يأتي» بياء في الوصل وحذفوها في الوقف غير أن ابن كثير كان يقف بالياء ويصل بالياء. وقرأ عاصم وابن عامر، وحمزة بغير ياء في الوصل والوقف. قال الزجاج: الذي يختاره النحويون «يوم يأتي» باثبات الياء، والذي في المصحف وعليه أكثر القراءات بكسر التاء، وهذيل تستعمل حذف هذه الياءات كثيراً. وقد حكى الخليل وسيبويه، أن العرب تقول: لا أدرِ، فتحذف الياء وتجتزئ بالكسرة، ويزعمون أن ذلك لكثرة الاستعمال. وقال الفراء: كل ياء ساكنة وما قبلها مكسور، أو واو ساكنة وما قبلها مضموم، فإن العرب
400
تحذفهما وتجتزئ بالكسرة من الياء وبالضمة من الواو، وأنشدني بعضهم «١» :
كفّاك كَفٌّ مَا تُلِيْقُ دِرْهَمَا جُوْدَاً وأُخْرى تُعْطِ بالسَّيفِ الدِّما
قال المفسرون: وقوله تعالى: يَوْمَ يَأْتِ يعني: يأتي ذلك اليوم، لا تكلَّم نفس إِلا بإذن الله، فكل الخلائق ساكتون، إِلا من أذن الله له في الكلام. وقيل: المراد بهذا الكلام الشفاعة.
قوله تعالى: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ قال ابن عباس: منهم من كُتبت عليه الشقاوة، ومنهم من كُتبت له السعادة.
قوله تعالى: لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن الزفير كزفير الحمار في الصدر، وهو أول ما ينهق، والشهيق كشهيق الحمار في الحلق، وهو آخر ما يفرغ من نهيقه، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الضحاك، ومقاتل، والفراء. وقال الزجاج: الزفير: شديد الأنين وقبيحه، والشهيق: الأنين الشديد المرتفع جداً، وهما من أصوات المكروبين. وزعم أهل اللغة من الكوفيين والبصريين أن الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمار في النهيق، والشهيق بمنزلة آخر صوته في النهيق.
والثاني: أن الزفير في الحلق، والشهيق في الصدور، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال أبو العالية، والربيع بن أنس، وفي رواية أخرى عن ابن عباس: الزفير: الصوت الشديد، والشهيق: الصوت الضعيف. وقال ابن فارس: الشهيق ضد الزفير، لأن الشهيق ردُّ النَّفَس، والزفير إِخراج النَّفَس. وقال غيره: الزفير: الشديد، مأخوذ من الزَّفْر، وهو الحَمل على الظهر لشدته والشهيق: النَّفَس الطويل الممتد، مأخوذ من قولهم: جبل شاهق، أي طويل.
والثالث: أن الزفير زفير الحمار، والشهيق شهيق البغال، قاله ابن السائب.
قوله تعالى: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ المعروف فيه قولان: أحدهما: أنها السّماوات المعروفة عندنا، والأرض المعروفة. قال ابن قتيبة، وابن الأنباري: للعرب في معنى الأبد الفاظ تقول: لا أفعل ذلك ما اختلف الليل والنهار، وما دامت السّماوات والأرض، وما اختلفت الجِرَّة والدِرَّة، وما أطّت الإِبل «٢»، في أشباه لهذا كثيرة، ظناً منهم أن هذه الأشياء لا تتغير، فخاطبهم الله بما يستعملون في كلامهم. والثاني: أنّها سماوات الجنة والنار وأرضهما.
قوله تعالى: إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ في الاستثناء المذكور في حق أهل النار سبعة أقوال «٣» :
(١) ذكره ابن منظور في «اللسان» مادة «ليق» ولم ينسبه لأحد.
(٢) في «اللسان» الجرّة: ما يخرجه البعير من بطنه ليمضغه ثم يبلعه. والدّرّة بالكسر: كثرة اللبن وسيلانه. وأطّت الإبل تئطّ أطيطا: أنّت تعبا أو حنينا.
(٣) قال الطبري رحمه الله ٧/ ١١٦: وأولى هذه الأقوال في تأويل هذه الآية بالصواب، القول الذي ذكرناه عن قتادة والضحاك: «من أن ذلك استثناء في أهل التوحيد من أهل الكبائر، أنه يدخلهم النار خالدين فيها أبدا إلا ما شاء من تركهم فيها أقل من ذلك، ثم يخرجهم فيدخلهم الجنة. وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصحة في ذلك، لأن الله جل ثناؤه أوعد أهل الشرك به الخلود في النار، وتظاهرت بذلك الأخبار عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أن الله يدخل قوما من أهل الإيمان به بذنوب أصابوها النار، ثم يخرجهم منها فيدخلهم الجنة، فغير جائز أن يكون ذلك استثناء في أهل التوحيد قبل دخولها، مع صحة الأخبار عن رسول الله ﷺ بما ذكرنا، وأنّا إن جعلناه استثناء في ذلك، كنا قد دخلنا في قول من يقول: «لا يدخل الجنة فاسق، ولا النار مؤمن»، وذلك خلاف مذاهب أهل العلم، وما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا فسد هذان الوجهان، فلا قول قال به القدوة من أهل العلم إلا الثالث. وانظر و «تفسير الشوكاني» ٢/ ٥٩٨.
401
أحدها: أن الاستثناء في حق الموحِّدين الذين يخرجون بالشفاعة، قاله ابن عباس، والضحاك.
والثاني: أنه استثناء لا يفعله، تقول: والله لأضربنَّك إِلا أن أرى غير ذلك، وعزيمتك على ضربه، ذكره الفراء، وهو معنى قول أبي صالح عن ابن عباس: «إِلا ما شاء ربك» قال: فقد شاء أن يخلَّدوا فيها. قال الزجاج: وفائدة هذا، أنه لو شاء أن يرحمهم لرحمهم، ولكنه أعلمنا أنهم خالدون أبداً. والثالث: أن المعنى: خالدين فيها أبداً، غير أن الله تعالى يأمر النار فتأكلهم وتفنيهم، ثم يجدد خلقهم، فيرجع الاستثناء إِلى تلك الحال، قاله ابن مسعود. والرابع: أن «إِلا» بمعنى «سوى» تقول: لو كان معنا رجل إِلا زيد، أي: سوى زيد فالمعنى: خالدين فيها مقدار دوام السّماوات والأرض سوى ما شاء ربك من الخلود والزيادة، وهذا اختيار الفراء. قال ابن قتيبة: ومثله في الكلام أن تقول: لأُسْكنَنَّك في هذه الدار حولاً إِلا ما شئتَ تريد: سوى ما شئتَ أن أزيدك. والخامس: أنهم إِذا حُشروا وبُعثوا، فهم في شروط القيامة فالاستثناء واقع في الخلود بمقدار موقفهم في الحساب، فالمعنى: خالدين فيها ما دامت السّماوات والأرض إِلا مقدار موقفهم للمحاسبة، ذكره الزجاج. وقال ابن كيسان: الاستثناء يعود إِلى مكثهم في الدنيا والبرزخ والوقوف للحساب قال ابن قتيبة: فالمعنى: خالدين في النار وخالدين في الجنة دوام السماء والأرض إِلا ما شاء ربك من تعميرهم في الدنيا قبل ذلك، فكأنه جعل دوام السماء والأرض بمعنى الأبد على ما كانت العرب تستعمل، وإن كانتا قد تتغيَّران. واستثنى المشيئة من دوامهما، لأن أهل الجنة والنار قد كانوا في وقت من أوقات دوام السماء والأرض في الدنيا، لا في الجنة، ولا في النار. والسادس: أن الاستثناء وقع على أن لهم فيها زفيراً وشهيقاً، إِلا ما شاء ربك من أنواع العذاب التي لم تُذكر وكذلك لأهل الجنة نعيم مما ذُكر، ولهم مما لم يُذكر ما شاء ربك، ذكره الزجاج أيضاً. والسابع: أنّ «إلّا» بمعنى «كما»، ومنه قوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ «١»، ذكره الثعلبي.
فأما الاستثناء في حق أهل الجنة، ففيه ستة أقوال: أحدها: أنه استثناء لا يفعله. والثاني: أن «إِلا» بمعنى «سوى». والثالث: أنه يرجع إِلى وقوفهم للحساب ولبثهم في القبور. والرابع: أنه بمعنى: إِلا ما شاء أن يزيدَهم من النعيم الذي لم يذكر. والخامس: أنّ «إلّا» بمعنى «كما» وهذه الأقوال قد سبق شرحها. والسادس: أن الاستثناء يرجع إِلى لبث من لبث في النار من الموحِّدين، ثم أُدخل الجنة، قاله ابن عباس، والضحاك، ومقاتل. قال ابن قتيبة: فيكون الاستثناء من الخلود مُكث أهل الذنوب من المسلمين في النار، فكأنه قال: إِلا ما شاء ربك من إِخراج المذنبين إِلى الجنة، وخالدين في الجنة إِلا ما شاء ربّك من إدخال المذنبين النار مدّة «٢».
(١) سورة النساء: ٢٢.
(٢) قال الإمام الطبري رحمه الله ٧/ ١١٨: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب: القول الذي ذكرته عن الضحاك وهو: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ، من قدر مكثهم في النار، من لدن دخولها إلى أن دخلوا الجنة، وتكون الآية معناها الخصوص، لأن الأشهر من كلام العرب في «إلا» توجيهها إلى معنى الاستثناء وإخراج معنى ما بعدها مما قبلها، إلا أن يكون معها دلالة تدل على خلاف ذلك، ولا دلالة في الكلام، أعني في قوله: إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ تدل على أن معناها غير معنى الاستثناء المفهوم في الكلام، فيوجه إليه.
402
واختلف القراء في «سعِدوا» فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم:
«سَعِدوا» بفتح السين. وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بضمها، وهما لغتان.
قوله تعالى: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ نُصب عطاء بما دل عليه الكلام، كأنه قال: أعطاهم النعيم عطاءً. والمجذوذ: المقطوع قال ابن قتيبة: يقال: جذذت، وجددت، وجذفت، وجدفت: إِذا قطعت.
[سورة هود (١١) : آية ١٠٩]
فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (١٠٩)
قوله تعالى: فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ أي: فلا تك يا محمد في شك مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ المشركون من الأصنام، أنه باطل وضلال، إنّما يقلّدون آباءهم، وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: ما قُدّر لهم من خير وشر، قاله ابن عباس. والثاني: نصيبهم من الرزق، قاله أبو العالية. والثالث: نصيبهم من العذاب، قاله ابن زيد. وقال بعضهم: لا ينقصهم من عذاب آبائهم.
[سورة هود (١١) : آية ١١٠]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠)
قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ يعني التوراة فَاخْتُلِفَ فِيهِ فمن مصدِّق به ومكذِّب كما فعل قومك بالقرآن. قال المفسرون: وهذه تعزية للنبيّ صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ قال ابن عباس: يريد: إِني أخَّرت أمتك إِلى يوم القيامة، ولولا ذلك لعجَّلت عقاب من كذبك. وقال ابن قتيبة: لولا نَظِرةٌ لهم إِلى يوم الدين لقُضي بينهم في الدنيا. وقال ابن جرير: سبقت من ربك أنه لا يعجِّل على خلقه بالعذاب، لقضي بين المصدِّق منهم والمكذِّب باهلاك المكذب وإِنجاء المصدق.
قوله تعالى: وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ أي: من القرآن مُرِيبٍ أي: موقع للريب.
[سورة هود (١١) : آية ١١١]
وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١١)
قوله تعالى: وَإِنَّ كُلًّا يشير إِلى جميع من قصَّ قصته في هذه السورة. وقال مقاتل: يعني به كفار هذه الأمة. وقيل: المعنى: وإِن كلاًّ لخلق أو بشر لَيُوَفِّيَنَّهُمْ. قرأ أبو عمرو، والكسائي «وإِنَّ» مشددة النون، «لما» خفيفة. واللام في «لما» لام التوكيد، دخلت على «ما» وهي خبر «إِنّ». واللام في «لَيوفينَّهم» اللام التي يُتلقَّى بها القَسم، والتقدير: والله ليوفينَّهم، ودخلت «ما» للفصل بين اللامين. قال
مكي بن أبي طالب: وقيل: إِن «ما» زائدة، لكن دخلت لتفصل بين اللامين اللَّذَيْن يتلقَّيان القسم وكلاهما مفتوح، ففُصل ب «ما» بينهما. وقرأ ابن كثير «وإِنْ» بالتخفيف، وكذلك «لما». قال سيبويه:
حدثنا من نثق به أنه سمع من العرب من يقول: إِنْ عَمْراً لمنطلق، فيخففون «إِنّ» ويُعملونها، وأنشد:
وَوَجْهٍ حَسَنِ النَّحرِ كأنْ ثَدْيَيْه حُقَّانِ
وقرأ نافع، وأبو بكر عن عاصم: «وإِن» خفيفة، «لمَّا» مشددة، والمعنى: وما كلاًّ إِلا وهذا كما تقول: سألتك لمَّا فعلت، وإِلاَّ فعلت، ومثله قوله: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ «١» وقرأ حمزة، وابن عامر، وحفص عن عاصم: «وإِنّ» بالتشديد، «لمّا» بالتشديد أيضاً. قال أبو علي: هذه قراءة مشكلة، لأنه كما لا يحسن: إِنَّ زيداً إِلا منطلق، كذلك لا يحسن تثقيل «إِنَّ» وتثقيل «لمّا». وحكي عن الكسائي أنه قال: لا أعرف وجه التثقيل في «لمّا»، ولم يُبعد فيما قال. وقال مكي بن أبي طالب: الأصل فيها «لَمِن ما» ثم أدغمت النون في الميم، فاجتمعت ثلاث ميمات في اللفظ، فحذفت الميم المكسورة والتقدير: وإِنَّ كلاًّ لمِن خَلْقٍ ليوفينَّهم. قال: وقيل: التقدير: «لَمَن ما» بفتح الميم في «مَن» فتكون «ما» زائدة، وتحذف إِحدى الميمات لتكرير الميم في اللفظ والتقدير: لَخلقٌ ليوفينَّهم، ومعنى الكلام:
ليوفّينّهم جزاء أعمالهم «٢».
[سورة هود (١١) : آية ١١٢]
فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢)
قوله تعالى: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ قال ابن عيينة: استقم على القرآن. وقال ابن قتيبة: امض على ما أمرت به. قوله تعالى: وَمَنْ تابَ مَعَكَ قال ابن عباس: من تاب معك من الشرك. قوله تعالى:
وَلا تَطْغَوْا فيه ثلاثة أقوال: أحدها: لا تطغوا في القرآن، فتحلّوا وتحرّموا ما لم آمركم به، قاله ابن عباس. والثاني: لا تعصوا ربكم ولا تخالفوه، قاله ابن زيد. والثالث: لا تخلطوا التوحيد بشك، قاله مقاتل.
[سورة هود (١١) : آية ١١٣]
وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (١١٣)
قوله تعالى: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا روى عبد الوارث عن أبي عمرو: «تَركُنوا» بفتح التاء وضم الكاف، وهي قراءة قتادة. وروى هارون عن أبي عمرو «تَركِنوا» بفتح التاء وكسر الكاف. وروى محبوب عن أبي عمرو: «تِركَنوا» بكسر التاء وفتح الكاف. وقرأ ابن أبي عبلة «تُركَنوا» بضم التاء وفتح الكاف على ما لم يُسم فاعله. وفي المراد بهذا الركون أربعة أقوال «٣» : أحدها: لا تميلوا إلى
(١) سورة الطارق: ٤.
(٢) قال الطبري رحمه الله ٧/ ١٢٢- ١٢٣: وأصح هذه القراءات مخرجا على كلام العرب المستفيض فيهم قراءة من قرأ: وَإِنَّ بتشديد نونها، كُلًّا لَمَّا بتخفيف- ما-، لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ بمعنى وإن كل هؤلاء الذين قصصنا عليك يا محمد قصصهم في هذه السور، ليوفينهم ربك أعمالهم بالصالح منها بالجزيل من الثواب، وبالطالح منها بالشديد من العقاب، فتكون «ما» بمعنى «من» واللام التي فيها جوابا ل «إنّ» واللام في قوله:
لَيُوَفِّيَنَّهُمْ لام قسم.
(٣) اختار ابن كثير في تفسيره ٢/ ٥٦٨ القول الأول. [.....]
المشركين، قاله ابن عباس. والثاني: لا تَرضوا أعمالهم، قاله أبو العالية. والثالث: لا تلحقوا بالمشركين، قاله قتادة. والرابع: لا تُداهنوا الظلمة، قاله السّدّيّ، وابن زيد.
وفي قوله تعالى: فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وجهان. أحدهما: فتصيبكم النار، قاله ابن عباس.
والثاني: فيتعدَّى إِليكم ظلمهم كما تتعدَّى النار إِلى إِحراق ما جاورها، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ أي ليس لكم أعوان يمنعونكم من العذاب.
[سورة هود (١١) : آية ١١٤]
وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤)
قوله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ.
(٧٩٧) أما سبب نزولها، فروى علقمة والأسود عن ابن مسعود أنّ رجلا قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إِني أخذت امرأة في البستان فقبَّلتها، وضممتُها إِليَّ، وباشرتُها، وفعلتُ بها كل شيء، غير أنّي لم أجامعها فسكت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ الآية، فدعا الرجل فقرأها عليه، فقال عمر: أهي له خاصَّة أم للناس كافَّة؟ قال: «لا، بل للناس كافة».
(٧٩٨) وفي رواية أخرى عن ابن مسعود: أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة، فأتى رسول الله، فذكر ذلك له، فنزلت هذه الآية، فقال الرجل: أليَ هذه الآية؟ فقال: «لمن عمل بها من أمتي».
(٧٩٩) وقال معاذ بن جبل: كنت قاعداً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل، فقال: يا رسول الله، ما تقول في رجل أصاب من امرأة ما لا يحل له، فلم يدَع شيئاً يصيبه الرجل من امرأته إِلا أصابه منها، غير أنه لم يجامعها؟ فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: «توضأ وضوءاً حسناً، ثم قم فصلِّ»، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فقال معاذ: أهي له خاصة، أم للمسلمين عامة؟ فقال: «بل هي للمسلمين عامة». واختلفوا في اسم هذا الرجل.
(٨٠٠) فقال أبو صالح عن ابن عباس: هو عمرو بن غزيّة الأنصاري، وفيه نزلت هذه الآية، كان
صحيح. أخرجه مسلم ٢٧٦٣- ٤٢، وأبو داود ٤٤٦٨، والترمذي ٣١١٢، والطبري ١٨٦٦٨، والبيهقي في «السنن» ٨/ ٢٤١ من طريق علقمة والأسود عن ابن مسعود به.
ولفظه عند مسلم: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، إني عالجت امرأة في أقصى المدينة، وإني أصبت منها ما دون أن أمسّها، فأنا هذا، فاقض فيّ ما شئت. فقال له عمر: لقد سترك الله، لو سترت نفسك. قال فلم يردّ النبي ﷺ شيئا. فقام الرجل فانطلق فأتبعه النبي عليه السلام رجلا دعاه، وتلا عليه هذه الآية: أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ، فقال رجل من القوم: يا نبي الله! هذا له خاصة؟ قال: «بل للناس كافة».
صحيح، أخرجه البخاري ٥٢٦ و ٤٦٨٧، ومسلم ٢٧٦٣- ٤٠- ٤١ والترمذي ٣١١٤، والنسائي في «الكبرى» ٧٣٢٦/ ٦، وابن ماجة ٤٢٥٤- ١٣٩٨، وابن خزيمة ٣١٢، والطبري ١٨٦٧٦، والطبراني ١٠٥٦٠، والبيهقي في «السنن» ٨/ ٢٤١.
صحيح. أخرجه الترمذي ٣١١٣ والطبري ١٨٦٩٥ من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل، ورجاله ثقات، إلا أنه منقطع بين ابن أبي ليلى، ومعاذ بن جبل، لكن المتن محفوظ بشواهده وطرقه.
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح غير ثقة في روايته عن ابن عباس، ثم هو من رواية
405
يبيع التمر، فأتته امرأة تبتاع منه تمراً، فأعجبته، فقال: إِن في البيت تمراً أجود من هذا، فانطلقي معي حتى أعطيك منه فذكر نحو حديث معاذ.
وقال مقاتل: هو أبو مقبل عامر بن قيس الأنصاري. وذكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب الحافظ أنه أبو اليسر كعب بن عمرو الأنصاري. وذكر في الذي قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم، أله خاصة؟ ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه أبو اليسر صاحب القصة. والثاني: معاذ بن جبل. والثالث: عمر بن الخطاب «١».
فأما التفسير، فقوله عزّ وجلّ: وَأَقِمِ الصَّلاةَ أي: أتم ركوعها وسجودها. فأما طرفا النهار، ففي الطرف الأول قولان: أحدهما: أنه صلاة الفجر، قاله الجمهور. والثاني: أنه الظهر، حكاه ابن جرير. وفي الطرف الثاني ثلاثة أقوال: أحدها: أنه صلاة المغرب، قاله ابن عباس، وابن زيد. والثاني:
العصر، قاله قتادة. وعن الحسن كالقولين. والثالث: الظهر، والعصر، قاله مجاهد، والقرظي. وعن الضحاك كالأقوال الثلاثة.
قوله تعالى: وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ وقرأ أبو جعفر، وشيبة «وزلفا» بضم اللام. قال أبو عبيدة:
الزُلَف: الساعات، واحدها: زُلْفَة، أي: ساعة ومنزلة وقربة، ومنه سميت المزدلفة، قال العجّاج:
ناجٍ طواه الأينُ مما أوجفا طَيَّ اللَّيَالي زُلَفاً فزُلَفا
سَماوَةَ الهِلاَل حَتَّى احْقَوْقَفَا «٢» قال ابن قتيبة: ومنه يقال: أزلفني كذا عندك، أي: أدناني والمزالف: المنازل والدَّرَج، وكذلك الزُّلَف. وفيها للمفسرين قولان: أحدهما: أنها صلاة العتمة، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وعوف عن الحسن، وابن أبي نجيح عن مجاهد، وبه قال ابن زيد.
والثاني: أنها صلاة المغرب والعشاء، روي عن ابن عباس أيضاً، ورواه يونس عن الحسن، ومنصور عن مجاهد، وبه قال قتادة، ومقاتل، والزجاج.
قوله تعالى: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ في المراد بالحسنات قولان: أحدهما: أنها الصلوات الخمس، قاله ابن مسعود، وابن عباس، وابن المسيب، ومسروق، ومجاهد، والقرظي، والضحاك، والمقاتلان: ابن سليمان، وابن حيان. والثاني: أنها سبحان الله، ولا إِله إِلا الله، والله أكبر، رواه منصور عن مجاهد. والأول أصح، لأن الجمهور عليه. وفيه حديث مسند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
الكلبي عنه، كما في «فتح الباري» ٣٥٦١٨، وعزاه الحافظ لابن مردويه، والكلبي يضع الحديث وأصل الخبر محفوظ، لكن تفرّد بذكر الصحابي بأنه عمرو بن غزية، فهذا واه.
وأخرجه الترمذي ٣١١٥ والطبري ١٨٦٩٧ و ١٨٦٩٨ والطبراني ٣٧١ من حديث أبي اليسر، وإسناده ضعيف لضعف قيس بن الربيع، وفي هذا الحديث هو أبو اليسر راوي الحديث. وانظر التعليق الآتي.
__________
(١) انظر تعليق الحافظ في الفتح ٨/ ٣٥٦- ٣٥٧ على هذه الأحاديث واسم الرجل، والقائل للنبي صلى الله عليه وسلم: أله خاصة.
(٢) في «اللسان» احقوقف الهلال: اعوجّ.
406
(٨٠١) رواه عثمان بن عفان عن رسول الله ﷺ أنه توضأ، وقال: «من توضأ وضوئي هذا، ثم صلى الظهر، غُفر له ما كان بينها وبين صلاة الصبح، ومن صلى العصر، غفر له ما بينها وبين صلاة الظهر، ومن صلى المغرب، غفر له ما بينها وبين صلاة العصر، ثم صلى العشاء، غُفر له ما بينها وبين صلاة المغرب، ثم لعله أن يبيت ليلته يتمرَّغ، ثم إِن قام فتوضأ وصلى الصبح، غُفر له ما بينه وبين صلاة العشاء، وهن الحسنات يذهبن السّيئات».
فأمّا السّيئات المذكورة ها هنا، فقال المفسرون: هي الصغائر من الذنوب.
(٨٠٢) وقد روى معاذ بن جبل، قال: قلت: يا رسول الله، أوصني قال: «اتق الله حيثما كنت»، قال: قلت: زدني قال: أتبع السيئة الحسنة تمحها»، قلت: زدني قال: «خالِقِ الناس بخُلُق حسن».
قوله تعالى: ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ في المشار إِليه ب ذلِكَ ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه القرآن. والثاني: إِقام الصلاة. والثالث: جميع ما تقدم من الوصية بالاستقامة، والنهي عن الطغيان، وترك الميل إِلى الظالمين، والقيام بالصلاة.
وفي المراد بالذكرى قولان: أحدهما: أنه بمعنى التّوبة. والثاني: بمعنى العظة.
[سورة هود (١١) : آية ١١٥]
وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١١٥)
قوله تعالى: وَاصْبِرْ فيما أُمر بالصبر عليه قولان:
أحدهما: لما يلقاه من أذى قومه. والثاني: الصلاة.
وفي المراد بالمحسنين ثلاثة أقوال: أحدها: المصلُّون، قاله ابن عباس. والثاني: المخلصون،
ضعيف الإسناد والمتن: أخرجه أحمد ١/ ٧١ والطبري ١٨٦٧٥ و ١٨٦٧٦ و ١٨٦٧٧ من طريق زهرة بن معبد عن الحارث مولى عثمان بن عفان عن عثمان به. وإسناده ضعيف لجهالة الحارث هذا، حيث لم يرو عنه سوى زهرة ولم يوثقه سوى ابن حبان وهو على قاعدته في توثيق المجاهيل. والهيثمي يعتمد توثيق ابن حبان فقال في «المجمع» ١/ ٢٩٧: رجاله رجال الصحيح سوى الحارث، وهو ثقة؟! - قلت: والحديث في الصحيحين، ولفظه عند البخاري: عن حمران مولى عثمان بن عفان أنه رأى عثمان دعا بوضوء فأفرغ على يديه من إنائه فغسلهما ثلاث مرات، ثم أدخل يمينه في الوضوء، ثم تمضمض واستنشق واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاثا، ويديه إلى المرفقين ثلاثا، ثم مسح برأسه، ثم غسل كل رجل ثلاثا، ثم قال:
رأيت النبي ﷺ يتوضأ نحو وضوئي هذا وقال: «من توضأ نحو وضوئي هذا وصلى ركعتين لا يحدّث فيهما نفسه، غفر الله له ما تقدم من ذنبه». وأخرجه البخاري ١٥٩ ومسلم ٢٢٦ وأحمد ١/ ٧١.
حسن. أخرجه الترمذي بإثر حديث ١٩٨٧ وأحمد ٥/ ٢٢٨ والطبراني ٢٠/ ٢٩٧- ٢٩٨ وفي «الصغير» ٥٣٠ من طريق ميمون بن أبي شبيب عن معاذ به. وإسناده ضعيف، رجاله ثقات، لكن فيه إرسال بين ميمون ومعاذ.
وورد من حديث أبي ذر: أخرجه الترمذي ١٩٨٧ والدارمي ٢٧٩٤ وأحمد ٥/ ١٥٣- ١٥٨ والحاكم ١/ ٥٤ والقضاعي ٦٥٢ من طريق ميمون عن أبي ذر به، وإسناده لا بأس به، وهو حسن إن كان سمعه ميمون من أبي ذر، ففي سماعه من أبي ذر وأمثاله اختلاف. وصححه الحاكم على شرط الشيخين! ووافقه الذهبي! مع أن البخاري ما روى لميمون، وقد روى له مسلم في «المقدمة». وقال الترمذي: حسن صحيح. وانظر «صحيح الجامع» ٩٧.
قاله مقاتل. والثالث: أنهم المحسنون في أعمالهم، قاله أبو سليمان.
[سورة هود (١١) : آية ١١٦]
فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦)
قوله تعالى: فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ قال ابن عباس، والفراء: المعنى: فلم يكن. وقال ابن قتيبة: المعنى: فهلاَّ كان من القرون من قبلكم أولو بقية. وروى ابن جماز عن أبي جعفر «أولو بِقْيَةٍ» بكسر الباء وسكون القاف وتخفيف الياء. وفي معنى «أولو بقيَّة» ثلاثة أقوال: أحدها: أولو دين، قاله ابن عباس. قال ابن قتيبة: يقال: قوم لهم بقية، وفيهم بقية: إِذا كانت بهم مُسكة وفيهم خير. والثاني:
أولو تمييز. والثالث: أولو طاعة، ذكرهما الزجاج، وقال: إِذا قلت: فلان فيه بقية، فمعناه: فيه فضل.
قوله تعالى: إِلَّا قَلِيلًا استثناء منقطع، أي: لكنّ قليلاً ممن أنجينا منهم ممن نهى عن الفساد. قال مقاتل: لم يكن من القرون من ينهى عن المعاصي والشرك إِلا قليلاً ممن أنجينا من العذاب مع الرسل.
قوله تعالى: وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ أي: اتبعوا مع ظلمهم ما أُترفوا فيه مع استدامة نعيمهم، فلم يقبلوا ما ينقص من ترفهم. قال الفراء: آثروا اللذات على أمر الآخرة. قال: ويقال: اتبعوا ذنوبهم السيئة إلى النار.
[سورة هود (١١) : آية ١١٧]
وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (١١٧)
قوله تعالى: وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ فيه قولان: أحدهما: بغير جرم، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: بشرك، ذكره ابن جرير، وأبو سليمان. وفي قوله: وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ ثلاثة أقوال: أحدها: ينتصف بعضهم من بعض، رواه قيس بن أبي حازم عن جرير. قال أبو جعفر الطبري: فيكون المعنى: لا يهلكهم إِذا تناصفوا وإِن كانوا مشركين، وإِنما يهلكهم إِذا تظالموا.
والثاني: مصلحون لأعمالهم، متمسكون بالطاعة، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: مؤمنون، قاله مقاتل.
[سورة هود (١١) : الآيات ١١٨ الى ١١٩]
وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١١٩)
قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً قال ابن عباس: لو شاء أن يجعلهم كلَّهم مسلمين لفعل. قوله تعالى: وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ في المشار إِليهم قولان «١» : أحدهما: أنهم أهل
(١) قال الطبري رحمه الله ٧/ ١٣٩: وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك «ولا يزال الناس مختلفين في أديانهم وأهوائهم على أديان وملل وأهواء شتى إلا من رحم ربك، فآمن بالله وصدّق رسله فإنهم لا يختلفون في توحيد الله، وتصديق رسله وما جاءهم من عند الله» وإنما قلت ذلك أولى بالصواب، لأن الله جل ثناؤه أتبع ذلك قوله: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ففي ذلك دليل واضح أن الذي قبله من ذكر خبره عن اختلاف الناس، إنما هو عن اختلاف مذموم يوجب لهم النار، ولو كان خبرا عن اختلافهم في الرزق، لم يعقب ذلك بالخبر عن عقابهم.
الحق وأهل الباطل، رواه الضحاك عن ابن عباس فيكون المعنى: إِن هؤلاء يخالفون هؤلاء. والثاني:
أنهم أهل الأهواء لا يزالون مختلفين، رواه عكرمة عن ابن عباس.
قوله تعالى: إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ قال ابن عباس: هم أهل الحق. وقال الحسن: أهل رحمة الله لا يختلفون. قولة تعالى: وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ في المشار إِليه بذلك أربعة أقوال: أحدها: أنه يرجع إِلى ما هم عليه. قال ابن عباس: خلقهم فريقين، فريقاً يُرحم فلا يختلف، وفريقاً لا يُرحم يختلف. والثاني:
أنه يرجع إِلى الشقاء والسعادة، قاله ابن عباس أيضاً، واختاره الزجاج، قال: لأن اختلافهم مؤدِّيهم إِلى سعادة وشقاوة. قال ابن جرير: واللام في قوله: «ولذلك» بمعنى «على». والثالث: أنه يرجع إِلى الاختلاف، رواه مبارك عن الحسن. والرابع: أنه يرجع إِلى الرحمة، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال عكرمة، ومجاهد، والضحاك، وقتادة فعلى هذا يكون المعنى: ولرحمته خلق الذين لا يختلفون في دينهم «١».
قوله تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ قال ابن عباس: وجب قول ربك: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ من كفّار الجنّة، وكفّار الناس.
[سورة هود (١١) : آية ١٢٠]
وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠)
قوله تعالى: وَكُلًّا نَقُصُّ قال الزجاج: «كلاً» منصوب ب «نقص»، المعنى: كل الذي تحتاج إِليه من أنباء الرسل نقص عليك. و «ما» منصوبة بدلاً من كل، المعنى: نقص عليك ما نثبِّت به فؤادك ومعنى تثبيت الفؤاد: تسكين القلب ها هنا، ليس للشك، ولكن كلما كان البرهان والدلالة أكثر، كان القلب أثبت.
قوله تعالى: وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ في المشار إِليه ب «هذه» أربعة أقوال: أحدها: أنها السورة، قاله ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير وأبو العالية، ورواه شيبان عن قتادة. والثاني: أنها الدنيا، فالمعنى: وجاءك في هذه الدنيا، رواه سعيد عن قتادة وعن الحسن كالقولين. والثالث: أنها الأقاصيص المذكورة. والرابع: أنها هذه الآية بعينها، ذكر القولين ابن الأنباري «٢». وفي المراد بالحقّ ها هنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنها البيان. والثاني: صدق القصص والأنباء. والثالث: النبوة.
فإن قيل: أليس قد جاءه الحق في كل القرآن، فلم خصّ هذه السّورة؟
(١) قال الطبري رحمه الله ٧/ ١٤١: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: «وللاختلاف بالشقاء والسعادة خلقهم»، لأن الله جلّ ذكره ذكر صنفين من خلقه: أحدهما أهل اختلاف وباطل والآخر أهل حق، ثم عقّب ذلك بقوله: وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ، فعمّ بقوله: وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ، صفة الصنفين، فأخبر عن كل فريق منهما أنه ميسر لما خلق له.
(٢) قال ابن كثير رحمه الله ٢/ ٥٧٤: والصحيح في هذه السورة المشتملة على قصص الأنبياء وكيف نجاهم الله والمؤمنين بهم، وأهلك الكافرين، جاءك فيها قصص حق، ونبأ صدق وموعظة يرتدع بها الكافرون، وذكرى يتوقّر بها المؤمنون. وقال الطبري رحمه الله ٧/ ١٤٤: وأولى التأويلين بالصواب في تأويل ذلك قول من قال:
«وجاءك في هذه السورة الحق» لإجماع الحجة من أهل التأويل على أن ذلك تأويله.
فالجواب: أنا إِن قلنا: إِن الحق النبوة، فالإِشارة ب «هذه» إِلى الدنيا، فيكون المعنى: وجاءك في هذه الدنيا النبوة، فيرتفع الإِشكال. وإِن قلنا: إِنها السورة، فعنه أربعة أجوبة:
أحدها: أن المراد بالحق البيان، وهذه السورة جمعت من تبيين إِهلاك الأمم، وشرح مآلهم، ما لم يجمع غيرها، فبان أثر التخصيص، وهذا مذهب بعض المفسرين. والثاني: أن بعض الحق أوكد من بعض في ظهوره عندنا وخفائه علينا، ولهذا يقول الناس: فلان في الحق إذا كان في الموت، وإِن لم يكن قبله في باطل، ولكن لتعظيم ما هو فيه، فكأن الحق المبين في هذه السورة أجلى من غيره، وهذا مذهب الزجاج. والثالث: أنه خص هذه السورة بذلك لبيان فضلها، وإِن كان في غيرها حق أيضاً، فهو كقوله عزّ وجلّ: وَالصَّلاةِ الْوُسْطى «١»، وقوله عزّ وجلّ: وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ «٢»، وهذا مذهب ابن الأنباري. والرابع: أن المعنى: وجاءك في هذه السورة الحق مع ما جاءك من سائر السور، قاله ابن جرير الطبري.
قوله تعالى: وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ أي: يتعظون إِذا سمعوا هذه السورة وما نزل بالأمم فتلين قلوبهم.
[سورة هود (١١) : الآيات ١٢١ الى ١٢٢]
وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢)
قوله تعالى: وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ هذا تهديد ووعيد، والمعنى: اعملوا ما أنتم عاملون فستعلمون عاقبة أمركم وَانْتَظِرُوا ما يِعدكم الشيطان إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ما يعِدنا ربنا.
(فصل:) قال المفسرون: وهذه الآية اقتضت تركهم على أعمالهم، والاقتناع بإنذارهم، وهي منسوخة بآية السيف. واعلم أنه إِذا قلنا: إِن المراد بالآية التّهديد، لم يتوجّه نسخ.
[سورة هود (١١) : آية ١٢٣]
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٢٣)
قوله تعالى: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي: علم ما غاب عن العباد فيهما. وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ قرأ نافع، وحفص عن عاصم «يُرجع الأمر كله» بضم الياء. وقرأ الباقون، وأبو بكر عن عاصم «يَرجع» بفتح الياء، والمعنى: إِن كل الأمور ترجع إِليه في المعاد. فَاعْبُدْهُ أي: وحِّده. وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ أي: ثِقْ به. وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ قرأ نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم «تعلمون» بالتاء. وقرأ الباقون بالياء. قال أبو علي: فمن قرأ بالتاء، فالمعنى: قل لهم: وما ربك بغافل عما تعملون. ومن قرأ بالياء، فالخطاب للنبيّ ﷺ ولجميع الخلق مؤمِنهم وكافِرهم، فهو أعم من التاء، وهذا وعيد، والمعنى: إِنه يجزي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته. قال كعب: خاتمة التوراة خاتمة «هود».
(١) سورة البقرة: ٢٣٨.
(٢) سورة البقرة: ٩٨.
Icon