بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلمسورة هود١. مكية٢
روى مسروق٣ عن أبي بكر الصديق ( رضي الله عنه )٤، أنه قال : قلت يا رسول الله ! لقد أسرع إليك الشيب، فقال : " شيبتني هود وأخواتها٥ : الواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت٦.
وروى عكرمة عن ابن عباس نحوه.
٢ الجمهور: على أن السورة مكية، وهو قول ابن عباس في: ناسخ النحاس ١/٢١٠، وعزاه أيضا في الجامع ٩/٣ إلى الحسن، وعكرمة، وعطاء، وجابر. وفي المحرر ٩/١٠١: هي مكية إلا قوله تعالى: ﴿فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك﴾[١٢]، وقوله: ﴿أولئك يومنون به﴾[١٧] نزلت في ابن سلام، وأصحابه. وقوله: ﴿إن الحسنات يذهبن السيئات﴾[١١٤]: نزلت في شأن الثمار. وهذه الثلاثة مدنية. قاله مقاتل، على أن الأولى تشبه (المكي). وفي الجامع ٩/٣: عن ابن عباس، وقتادة: هي مكية إلا آية، وهي قوله: ﴿وأقم الصلاة طرفي النهار﴾[١١٤]..
٣ مسروق بن الأجدع، الغاية ١/٢٩٤..
٤ ساقط من ق..
٥ ق: وإخوتها..
٦ هذا الحديث تفرد بإخراجه الترمذي في جامعه: عن ابن عباس رضي الله عنه، في باب تفسير سورة الواقعة، حيث قال: (حديث حسن غريب) انظر: تحفة الأحوذي ٩/١٨٤..
ﰡ
وقولهم: " قَرَأتُ هوداً ": من صرفه أراد به سورة هود، ومن لم يصرفه جعله اسماً للسورة.
ولو قلت: " قرأت الحمد (لله) ". فإنما جاز النصب: تُعْمِلُ الفعل فيه، وجاز الرفع على الحكاية.
فإن قلت: قرأتُ ﴿الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين﴾ [الفاتحة: ٢، يونس: ١٠، الزمر: ٧٥، غافر: ٦٥]، حكاية لا غير، وكذلك ﴿بَرَآءَةٌ﴾ [التوبة: ١، القمر: ٤٣]، ترفع على الحكاية، وتنصب على العمل. وتنوِّنُ إذا أردت الحذف، ولا
فإن قلت: قرأتَ ﴿بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ﴾ [التوبة: ١]، حكاية لا غير.
وتقول: قرأت " ألم البقرة ": فتنصِبُ على النعت لقولك: " ألم "، لأنه مفعول به بقراءةٍ، وإن شئت خفضتَ " البقرة "، وتقدّر إضافة " ألم " إليها.
فإن قلت: " قرأت: ﴿المص﴾ [الأعراف: ١]، و ﴿كهيعص﴾ [مريم: ١]، لم يجز الإعراب، لأنه ليس في الأسماء نظير لهذا. وكذلك ﴿المر﴾ [الرعد: ١]، و ﴿الر﴾ [١: هود، يوسف، إبراهيم، الحجر]، وكذا ﴿طه﴾ [طه: ١] لأنه في آخرها ألفاً.
فإن أردت الحكاية، أسكنت، وتقول هذه ﴿طسم﴾ [الشعراء: ١، القصص: ١] فتُعْرِبُ: إن شئت تجعل " طس " اسماً، و " ميم " اسماً، وتضم أحدهما إلى الآخر مثل: معدي كرب، فيجوز فتح الثاني ورفعه تجعل الإعراب في الآخر.
وأجاز سيبويه: مَعْدِي كرب على الإضافة، فيجوز على هذا، " طس ميم "، وتحسن الحكاية. فإن قلت: " قرأت ﴿حم﴾ [١: غافر، فصلت، الشورى، الزخرف] "، لم ينصرف لأنه مثل " هابيل ". وإن شئت أسكنت على الحكاية.
وتقول هذه ﴿ن﴾ [القلم: ١] فاعلم بأنها تُنَوَّن، وتُعْرَبُ " تريد سورة " نون ". وإن شئت جعلته اسماً للسورة، فلم تنونْ، وإن شئت أسكنت على الحكاية. وتقول: هذه السبح، فلا تصرف إذا جعلته اسماً للسورة، لأنه فعلٌ، وليس في الأسماء فعلٌ.
وإن شئت فتحتَ فَحَكَيْتَ على ما في السورة، فإن قلت هذه " سِبحْ " لم يجز إلا الإسكان تحكيه لأنه فيه ضمير، والجمل تحكى، وكذلك تحكي: قرأت: ﴿سَأَلَ سَآئِلٌ﴾ [المعارج: ١]، و ﴿يا أيها المدثر﴾ [المدثر: ١]، وقرأت ﴿والفجر﴾ [الفجر: ١] لأنه اسم وحرف.
فإن قلت: قرأت ﴿اقتربت الساعة﴾ [القمر: ١]، لم يجز إلا الحكاية به ومثلُه:
﴿تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ﴾ [المسد: ١]، فإن أفردت بالهاء، وجعلتهُ اسماً للسورة قلت: قرأت " تبَّت "، تقِفُ على الهاء.
قوله: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ - آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ﴾ - إلى قوله - ﴿على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
المعنى: هذا الكتاب الذي أنزلناه ﴿أُحْكِمَتْ - آيَاتُهُ﴾: أي: بالأمر والنهي، ﴿ثُمَّ فُصِّلَتْ﴾ بالثواب، والعقاب. قاله الحسن. وعنه ﴿ثُمَّ فُصِّلَتْ﴾ أي:
وعنه أيضاً: ﴿أُحْكِمَتْ﴾ أي: بالثواب والعقاب ﴿ثُمَّ فُصِّلَتْ﴾ بالأمر، والنهي.
وقال قتادة: أحكمها الله تعالى، من الباطل، ثم فصلها، وبيَّنَ الحلال، والحرام.
وقال مجاهد: ﴿أُحْكِمَتْ﴾: لم ينسخها شيء.
﴿ثُمَّ فُصِّلَتْ﴾ نزلت شيئاً بعد شيء. وقيل: ﴿فُصِّلَتْ﴾: فُسِّرت وبيِّنت: قاله مجاهد، وابن جريج.
﴿مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ﴾: أي: من عند حكيم في أفعاله، خبير بجميع الأشياء، وبمصالح عباده.
وقيل: أحكمت عن أن يدخل فيها الفساد. يقال: أَحْكَمَتْهُ الآيات.
والوقف على ﴿الر﴾ حسن إلا قول من جعله مبتدأه وكتاب خبره.
ثم قال تعالى: ﴿أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ الله﴾ أي: فصلت من (أجل) ألا تعبدوا إلا الله تعالى.
ثم قال لنبيه: قل ﴿إِنَّنِي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ﴾: أيها الناس. والابتداء بـ " إنني " حسن، ثم قال تعالى: ﴿وَأَنِ استغفروا رَبَّكُمْ﴾. رداً على ﴿أَلاَّ تعبدوا﴾: أي: استغفروه من عبادة الأصنام ﴿ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ﴾: من عبادة الأصنام، أي: ارجعوا، ﴿يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعاً حَسَناً﴾ أي: ينسئ في آجالهم إلى الوقت الذي يشاء، ويرزقكم من زينة الدنيا. وأصل الإمتاع: الإطالة. ثم قال: ﴿وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ﴾: أي: يثيب من تفضل بفضل ماله، أو قوته، أو
قال ابن مسعود: من عمل سيئة كتبت واحدة، ومن عمل حسنة كتبت عشراًَ، فذلك فضل الله، تعالى. قال: فإن عوقب بالسيئة في الدنيا زالت عنه، وإن لم يعاقب بها أخذ من الحسنات العشر واحدة، وبقيت له تسع حسنات.
ثم قال تعالى: ﴿وَإِن تَوَلَّوْاْ﴾: أي: عما دَعَوتهم إليه يا محمد من الاستغفار، والتوبة، فقل لهم: ﴿فإني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ﴾: أي: إن تماديتم على كفركم.
وقال الطبري: المعنى: فإن توليتم، جعله ماضياً وهو على قراؤة البزي: " مستفعل "، لأنه يشدد / التاء.
ثم قال: ﴿إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ﴾: أي: مردكم، ومصيركم، ﴿وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾:
قوله: ﴿أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ﴾ إلى قوله: ﴿مُّبِينٍ﴾.
(ألا): استفتَاحُ كلام، و ﴿يَثْنُونَ﴾: من ثنيت، وهو فعل المنافقين، كانوا إذا مروا بالنبي يثني أحدهم صدره، ويطأطأ رأسه.
وقيل: نزلت فيما، كان المنافقون يبطلون من عداوة النبي، وبغضه، أعماع أن الله تعالى يعلم ما تنطوي عليهم صدورهم من ذلك، وإنْ غطوا عليه رؤوسهم بثيلبهم، ليستتروا، فهو يعلم ما في صدورهم في كل حال من أحوالهم.
يعني بالنافقين: كفار قريش، لا المنافقين من أهل المدينة. لأن السورة مكية.
وقال الحسن: جهلوا أمر الله تعالى.
ثم قال تعالى: ﴿أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ أي: ألا حين يلبسون ثيابهم في ظلمة الليل، في أجواف بيوتهم. يعلم ذلك الوقت سرهم وجهرهم.
﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور﴾ وقيل: إن أحدهم كان يثني ظهره، ويستغشي ثوبه، وقيل: إنهم إنما كانوا يفعلون ذلك لئلاّ يسمعوا كتاب الله تعالى. قاله قتادة.
وقيل: إن هذا إخبار من الله ( تعالى) عن المنافقين، أنه يعلم ما تنطوي عليه صدورهم من الكفر.
وقال ابن زيد: " هذا حين يناجي بعضهم بعضاً ".
وقيل: كان بعضهم ينحني على بعض ليُساره. وبلغ من جهلهم أنهم ظنوا أن ذلك يُحفى على الله سبحانه.
ورُويَ عن ابن عباس أيضاً أنه قرأ تنثوي.
وعنه أيضاً أنه قرأ: " تثنوني "، مثل: تَفْعوعِلُ. ومعناه: المبالغة مثل
وعن ابن عباس: ألا حين يستغشون ثيابهم: " أي: يغطون رؤوسهم ".
والوقف عنج الأخفش، والفراء، وابن كيسان على ذات بالتاء، لأن هذا الاسم لا يستعمل إلا مضافاً. فصارت التاء في وسط الكلام. وعليه جماعة القراء. والوقف عند الكسائي بالهاء، وهو قول الجُرْمي، لأنه ثانية الأسماء، وهو اختيار أبي حاتم.
﴿لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ﴾ وقف. ﴿وَمَا يُعْلِنُونَ﴾، وقف /.
ثم قال تعالى: ﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا﴾: أي: يتكفل بذلك حتى
وقال الضحاك: والناس منهم.
ثم قال تعالى: ﴿وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا﴾: أي: حيث تستقر، وتأوي. ﴿وَمُسْتَوْدَعَهَا﴾: " حيث تموت " قاله ابن عباس.
وقال مجاهد: ﴿مُسْتَقَرَّهَا﴾ في الرحم، ﴿وَمُسْتَوْدَعَهَا﴾ في الصلب، مثل تلك التي في الأنعام، وهو قول الضحاك. وقد روي أيضاً هذا عن ابن عباس.
(وقيل: المستقر في الرحم، والمستودع: حيث تموت). كل ذلك
قوله: ﴿وَهُوَ الذي خَلَق السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ﴾ إلى قوله ﴿يَسْتَهْزِءُونَ﴾.
والمعنى: أن الذي إليه مرجعكم أيها الناس، هو الذي خلق السماوات والأرض ومن فيهن في ستة أيام، وهو قادر على أن يخلق ذلك في لحظة.
روى أبو هريرة رضي الله عنهـ، قال: " أخذ رسول الله ﷺ، بيدي، فقال: خلق الله تعالى التربة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور فيها يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة في آخر ساعات الجمعة ".
وقال الضحاك: ﴿فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ من أيام الآخرة، كل يوم مقدار ألف سنة، ابتدأ في الخلق يوم الأحد، واجتمع الخلق يوم الجمعة، فسميت الجمعة لذلك. ولم يخلق يوم السبت شيئاً.
وقوله: ﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المآء﴾: أي: قبل خلق السماوات والأرض " وسئل النبي ﷺ، فقيل له: أين كان ربنا قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ فقال: في عماء ".
- في بمعنى على عادة العرب، لأنها تبدّل حروف الجر، بعضها من بعض.
قال ابن عباس: كان الماء على متن الريح.
ثم قال تعالى: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾: أي: فعل ذلك ليختبركم أيكم أحسن عملاً له، وطاعة.
وروى ابن عمر عن النبي ﷺ: ﴿ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾: أحسن عقلاً، وأورع عن
قال ابن جريج: يعني بالاختبار الثقلين. والمعنى: ليختبركم الاختبار الذي تقع عليه المجازاة، وهو عالم بما يفعل الجميع قبل خلقهم. ولكن أراد الله تعالى، أن يظهر من الجميع ما يقع عليه الجزاء.
ثم قال تعالى لنبيه عليه السلام: ﴿وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الموت﴾: أي: إن قلت لهم يا محمد: إنكم مبعوثون من بعد موتكم، وتجازون ليقولن الذين كفروا، ما هذا ﴿إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ أي: ما قولك إلا سحر ظاهر.
ومن قرأ (إلا ساحر)، فمعناه: ما هذا الذي يخبرنا بهذا إلا ساحر ظاهر.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ﴾: أي: ولأن أخرنا يا محمد عن قومك العذاب إلى وقت معلوم عندنا معدود.
وقيل: المعنى: إلى مجيء أمة وانقراض أمة. وإنما سميت السنون أمة، لأن فيها
ثم قال تعالى إخباراً عما علم منهم: إنهم يقولون: إذا أخرنا عنهم العذاب. ﴿لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِم﴾: أي: ليقولن هؤلاء الكفار ما يحبه، أي: شيء يمنع الذعاب أن يأتي تكذيباً منهم به. قال الله تبارك وتعالى: ﴿أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً﴾ (أي: ليس يصرفه عنهم أحد إذا جاء وقته).
﴿وَحَاقَ بِهِم﴾: أي: نزل بهم وحل ﴿مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ﴾ وهو العذاب. وقيل: المعنى: وحل بهم عقاب استهزائهم بأنبيائهم.
قوله: ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً﴾ إلى قوله ﴿على كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾.
المعنى: ولئن وسعنا للإنسان في رزقه وعيشه، ثم سلبنا ذلك منه.
﴿إِنَّهُ لَيَئُوسٌ﴾: أي: " كفور لمن أنعم عليه، قليل الشكر ".
والإنسان هنا اسم للجنس، وقيل: هو للكفار خاصة.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ﴾: أي: ولئن بسطنا له في الرزق والعيش، بعد ضيق في رزقه مسه منه ضرر ﴿لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السيئات عني﴾: أي: ذهب الضيق، والعسر عني. ﴿إِنَّهُ لَفَرِحٌ﴾: أي: مرح، لا يشكر، ﴿فَخُورٌ﴾: أي يفخر بما ناله من السعة في رزقه، فينسى صروف الدنيا، وعوارضها غرَّة منه وجرأة. ﴿الله لاَ يُحِبُّ الفرحين﴾ [القصص: ٧٦]: وهذا كله من صفة الكافر.
وقد قرأ بعض أهل المدينة " لَفَرَحٌ " بضم الرَّاء، وهي لغة، كما يقال:
﴿وَعَمِلُواْ الصالحات﴾: أي: الأعمال التي هي طاعات.
﴿أولئك لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ﴾: أي: من الله: أي: لهم مغفرة لذنوبهم، فلا يفضحهم في معادهم.
﴿وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾: أي: ثواب عظيم على أعمالهم، وهو الجنة.
وقوله: ﴿إِلاَّ الذين﴾ هو استثناء ليس من الأول عند الأخفش بمعنى: " لكن ". فهذا في المؤمنين، والأول / في الكافرين فهما جنسان ونوعان.
وقال الفراء: هو استثناء من أذقناه، لأن الإنسان بمعنى الناس، فهو من الأول.
ثم قال تعالى لنبيه عليه السلام: ﴿فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ﴾ أي: فلعلك تتْرك بعض ما يوحى إليك يا محمد، فلا تُبلغه لمن أمرت أن تبلغه إياه.
فالهاء في " به " تعود على " ما "، أو على " بعض "، أو على التبليغ، أو على التكذيب.
قوله: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ﴾ إلى قوله ﴿يَعْمَلُونَ﴾:
المعنى: أيقولون افتراه، أي: اختلق القرآن من عند نفسه. و " أَمْ " هنا هي المنقطعة التي هي بمعنى الألف قل لهم يا محمد ﴿فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ﴾: أي: مثل القرآن. ﴿مُفْتَرَيَاتٍ﴾: مختلفات، أي: مختلفات، أي: مفتعلات. كما زعمتم أني اختلقت
﴿وادعوا مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله﴾: أي: ادعوا للاختلاق والعون من شئتم إلا الله سبحانه ﴿إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾: في قولكم إن محمداً ﷺ، افترى القرآن من عند نفسه.
ثم قال تعالى: ﴿فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ﴾: أي: إلم يستجب لكم أيها المشركون من (تدعون لأن يأتوا) بعشر سور مثل هذا القرآن ﴿مُفْتَرَيَاتٍ﴾ ولم تطيقوا أن تأتوا بذلك، ﴿فاعلموا أَنَّمَآ أُنزِلَ بِعِلْمِ الله﴾: أي: أيقنوا أن هذا القرآن أنزل على محمد بعلم الله، وألاَّ معبود إلا الله تعالى.
وقيل: خوطب النبي ﷺ، بلفظ الجماعة كما يخاطب العظيم، والشريف. والنبي ﷺ، أشرف مَنْ على وجه الأرض.
﴿فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾: أي: مذعنون بالطاعة، مُخْلصُون لله تعالى، العبادة.
ثم قال تعالى: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا﴾. المعنى: من " كان يريد بعمله الحياة الدنيا وزينتها، نوف إليهم أجورهم فيها ".
﴿وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ﴾: هذا للكافر، فأما المؤمن فيجازى بحسناته في
وقيل: إن قوله: ﴿وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ﴾: يعني: في الآخرة لا يظلمون.
قال مجاهد: هي في أهل الرياء.
وقيل: المعنى: لئن كان يريد بغزوه الغنيمة وفي ذلك، ولم ينقص منه شيئاً.
وقال ابن عباس: نسختها ﴿مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا (لَهُ) فِيهَا مَا نَشَآءُ / لِمَن نُّرِيدُ﴾ [الإسراء: ١٧]. وهذا مردود، لأنه خبرٌ، والأخبار لا ننسخ.
روى أبو هريرة أن النبي ﷺ، قال: " إن الله جل ثناؤه، إذا كان يوم القيامة نزل إلى العباد ليقضي بينهم، وكل أمة جاثية. فأول من يدعى به: رجل جمع القرآن،
قوله: ﴿أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ﴾ إلى قوله ﴿لاَ يُؤْمِنُونَ﴾.
والمعنى: أفمن كان على بينة من ربه كالذي يريد الحياة الدنيا وزينتها، وهو النبي ﷺ.
والهاء في " ربه " تعود عليه. قال ذلك قتادة، وعكرمة، والنخعي.
وقوله: ﴿وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ﴾: أي: ويتلو محمداً شاهدا منه، أي: من الله، وهو القرآن.
وقيل: المعنى: ويتلو القرآن شاهداً منه، أي: من محمد. وهو لسانه، أي: يقرأه: وهو قول الحسن، ومعمر.
ويجوز أن تكون الهاء في ويتلوه للبينة، لأنها بمعنى البيان.
وقال مجاهد: هو مَلَكٌ مع النبي ﷺ، يحفظه من عند الله، سبحانه.
وقيل: إن قوله ﴿أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ﴾، يعني: به النبي ﷺ، والمؤمنين. ودلّ على ذلك قوله: ﴿أولئك يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾.
وقيل: المعنى: ويتلوه شاهد من الله، تعالى، والشاهد: الإنجيل، ويتلوه القرآن بالتصديق.
﴿وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى﴾، أي ومن قبل الإنجيل التوراة.
وقال الزجاج: المعنى: ويتلوه من قبله كتاب موسى، لأن النبي، ﷺ، موصوف في التوراة، والإنجيل.
والمعنى: أفمن كان على هذه الحال، كمن هو في الضلالة، والعمى. واختار قوم أن يكون المعنى: أن الشاهد القرآن، يتلوه محمد، أي: بعده شاهداً له. ودل على ذلك قوله: ﴿وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى﴾.
قال ابن عباس: الشاهد جبريل.
وقيل: (الشاهد): لسان محمد ﷺ، والهاء تعود على محمدٍ. قاله الحسن.
وقيل: الشاهد هو إعجاز القرآن، والهاء في " منه " للقرآن. والهاء في ﴿يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ للقرآن.
وقيل: الشاهد هو إعجاز القرآن، والهاء في " منه " للقرآن والهاء في ﴿يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ للقرآن، وقيل: لمحمد ﷺ.
ثم قال تعالى: ﴿أولئك يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾: أي: مَنْ هذه صفته، يؤمن بالقرآن، وإن كفر به هؤلاء الذين قالوا: إن محمداً افتراه.
ثم قال: ﴿وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحزاب فالنار مَوْعِدُهُ﴾ " يعني: من مشركي العرب، وغيرهم، ممن يأتي بعدهم إلى يوم القيامة، من كفر بِمُحَمَّدٍ، فالنار موعده يهودياً، كان أو نصرانياً، أو غير ذلك.
﴿ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ أي: " لا يصدقون، بأن ذلك كذلك. ﴿شَاهِدٌ مِّنْهُ﴾: وقف عند نافع على معنى: ويتلوالقرآن شاهد من الله، وهو جبريل.
﴿يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾: وقف، وكذلك: ﴿فالنار مَوْعِدُهُ﴾، وكذلك ﴿فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ﴾.
قوله: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً﴾ إلى قوله ﴿هُمُ الأخسرون﴾
والمعنى: من أعظم جرماً ممن اختلق على الله سبحانه، الكذب، أي: كذب بآياته، وحججه، وهو النبي ﷺ، وما جاء به.
قال ابن جريج: ذلك الكافر، والمنافق.
﴿وَيَقُولُ الأشهاد﴾: الذين شهدوا على أعمالهم، وحفظوها عليهم:
﴿هؤلاء الذين كَذَبُواْ على رَبِّهِمْ﴾ في الدنيا ﴿أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين﴾: أي: غضبه، وإبعاده من رحمته.
قال مجاهد: الأشهاد هنا: الملائكة الحفظة، وكذلك قال قتادة. وقال الضحاك: الأشهاد: الأنبياء، والرسل، صلوات الله عليهم، يقولون: هؤلاء الذين كذبوا بما جئنا به من عند ربنا.
ثم بين تعالى الظالمين مَنْ هُمْ فقال: ﴿الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله﴾: أي: يُزَيِّغون أن يدخلوا في الإيمان. ﴿وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً﴾: أي: يلتمسون لسبيل الله تعالى، العوج والزيغ. وسبيل الله هو الإيمان به، وبما جاء من عنده، وهم مع ذلك
ثم قال تعالى: ﴿أولئك لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأرض﴾ والمعنى: أولئك الذين هذه صفتهم، لم يكونوا معجزين ربهم، سبحانه، في الأرض بهرب، أو باستخفاء، إذا أراد عقابهم. ﴿وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَآءَ﴾: أي: ليس لهم من يمنعهم من الله تعالى، إذا أراد الانتقام منهم.
ثم قال تعالى: ﴿يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع﴾ ولا يعقلون عن الله تعالى. ﴿ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ﴾. ولا يهتدون إلى رشدهم. وقيل: إن المعنى يضاعف لهم العذاب أبداً: أي: وقت استطاعتهم السمع والبصر.
وقيل: إن " ما " للنفي، فيحسن الابتداء بها على هذا، ولا يحسن على القولين الأولين.
ومعنى النفي هنا أن الضمير في " يستطيعون "، و " يبصرون ": الأصنام، والنفي
وقيل: المعنى: إن الضمير " لهم "، والنفي " عنهم ": أي: لم يكونوا ليسمعوا شيئاً ينفعهم من الإيمان، ولا يبصرونه، لأن الله، تعالى، حال بينهم وبين ذلك، لما سبق في علمه، فهو مثل قوله: ﴿يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ﴾ [الأنفال: ٢٤]: بين الكافر والإيمان، وبين المؤمن والكافر. ومثله: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا﴾ [السجدة: ١٣]، ومثله ﴿وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً﴾ [يونس: ٩٩] بالله، تعالى. ختم على قلوبهم، وعلى أبصارهم بكفرهم. قال ذلك قتادة، فقال: فهم صمٌّ عن الحق، فما يسمعونه، بُكْمٌ، فما ينطقون به. عميٌ فلا يبصرون. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهـ، إن المعنى: لا يستطيعون أن يسمعوا سماع منتفع بما يسمع، ولا يبصرون إبصار مُهتَدٍ، لاشتغالهم بالكفر.
قال الفراء: سبق لهم في اللوح المحفوظ أنه يضلهم.
قوله: ﴿أَوْلِيَآءَ﴾ وقف عند نافع، ﴿العذاب﴾: وقف إن جعلت " ما " نَفياً خاصة.
ثم قال تعالى: ﴿أولئك الذين خسروا أَنْفُسَهُمْ﴾ أي: غبنوا أنفسهم حظها كم رحمة الله تعالى.
﴿ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾: أي: بَطُلَ كذبهم، وافراؤهم على الله، سبحانه.
ثم قال تعالى: ﴿لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرة هُمُ الأخسرون﴾، و ﴿لاَ جَرَمَ﴾ عند سيبويه، والخليل بمعنى: حق. وأن في موضع رفع، وجيء بـ " لا " عند
وقال الزجاج: لا هنا نفي لما ظنوا أنهم ينفعهم كأنه كان المعنى: لا ينفعهم ذلك.
﴿جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرة﴾، أي: كسب ذلك الفعل لم الخُسْرَان، ف " أن " عنده في موضع نصب.
وقال الكسائي: المعنى: " لا صَدَّ "، ولا مَنْعَ عن أنهم ". فإنَّ في موضع نصب أيضاً، فحذف الخافض. وحُكِيَ: لاجَرَ " بغير ميم لغة ناسٍ من فُزَارة.
وحكى / الفراء: " لا ذَا جَرَمْ لغة لبني عامر.
وقال الفراء: هي كلمة كانت في الأصل، والله أعلم، بمنزلة: لا بد أنك قائم،
تقول العرب: لا جرم لآتينك، ولا جرم لقد أحسنت إليك، وأصلها من جرمت، أي: كسبت الشيء.
وذكر ابن مجاهد عن بعض القراء، وهو حمزة: ولا جرم بالمد، وكان يأخذ به بمعنى الاية: حقٌّ أنَّ هؤلاء الذين هذه صفتهم، هم الأخسرون في الآخرة: باعوا منازلهم في الجنة، بمنازلهم في النار، وذلك هو الخسران المبين.
قوله: ﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وأخبتوا إلى رَبِّهِمْ﴾ إلى قوله ﴿عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ﴾
معنى: أخبتوا، أنابوا، وقيل: معناه: اطمأنوا وقيل: خشعوا،
ثم قال تعالى: ﴿مَثَلُ الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع﴾ أي: مثل الكافر كالأعمى، والأصم، والمؤمن كالبصير، والسميع: فهذا مثل ضربه الله تعالى، للكافر والمؤمن، فالكافر أصم عن الحق، أعمى عن الهدى، لا يبصره، والمؤمن يبصر الهدى، ويسمع الحق، فينتفع به.
﴿هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً﴾ على اختلاف حاليهما. ومثل نصبه مصدر في موضع الحال. (مثلاً): وقف عند نافع.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ إِنَّي لَكُمْ﴾ من كسر " إني "،
والمعنى: أنذركم بأسه، وعقابه إن تماديتم على الكفر.
﴿مُّبِينٌ﴾: أي: أبين لم ما أرسلت به إليكم. ثم بين تعالى: بأي شيء أرسل، فقال: ﴿أَن لاَّ تعبدوا إِلاَّ الله إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ﴾ إن تماديتم على كفركم. ﴿إلى قَوْمِهِ﴾: وقف إن كسرت " إني "، وجعلت " ألا " تعبدوا متعلقاً بنذير.
قوله: ﴿فَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا﴾ إلى قوله: ﴿قَوْماً تَجْهَلُونَ﴾:
المعنى: أنهم قالوا له: ما نواك إلا آدمياً مثلنا في الخلق، ثم قالوا: ﴿وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا﴾ أي: السفلة، دون الأكابر. وقيل: هم الفقراء، وقيل: هم الخسيسو
وقوله: ﴿بَادِيَ الرأي﴾ مَنْ همزه جعله من الابتداء، أي: ابتعوك ابتداء، ولو فكروا لم يتبعوك. ومن لم يهمز، جاز أن يكون على تخفيف الهمزة، وجاز أن يكون من بَدَا يَبْدو: إذا ظهر، أي: اتبعوك في ظاهر الرأي، وباطنهم على خلاف ذلك.
وقيل: المعنى: ابتعوك في ظاهر الرأي، ولو تدبروا لم يتبعوك.
ونصبه عند الزجاج على حذف " في " أو على مثل: ﴿واختار موسى قَوْمَهُ﴾ [الأعراف: ١٥٥].
وقيل: المعنى: أنه نعت لمصدر محذوف، والمعنى " اتباعاً ظاهراً ".
ثم حكى الله تعالى، عنهم قالوا لمن آمن بنوح ﷺ: ﴿ وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ﴾ إذ آمنتم بنوح ﴿بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ﴾: أي: في دعوتكم أن الله تعالى، ابتعث نوحاً رسولاً. وهذا خطاب لنوح، لأنهم به كذبوا، فخرج الخطاب له مخرج خطاب الجميع.
قال نوح لقومه: ﴿ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةٍ مِّن ربي﴾: أي: على معرفة به، وعلم.
﴿وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ﴾: أي: رزقني التوفيق، والنبوءة، والحكمة، فآمنت، وأطعت.
والرحمة عند الفراء: الرسالة. ومن شدد فمعناه: " فَعَمَّها " الله عليكم، أي: خفاها. وفي قراءة عبد الله، وأُبَيّ: " فَعَمَّاهَا الله عليكم " وقد أجمع الجميع على التخفيف في " القصص "، ولا يجوز غيره.
ثم قال: ﴿أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ﴾ أي: أنآخِذُكُمْ بالدخول في الإسلام على كره منكم، فنلزمكم ما لا تريدون.
يقول ﷺ: " لا تَفْعَل ذلك، بل نكل أمرهم إلى الله، سبحانه ".
وقيل: الهاء في ﴿أَنُلْزِمُكُمُوهَا﴾ للرحمة. وقيل: للبينة.
ثم حكى الله عنه أنه قال: ﴿وياقوم لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً﴾: أي: لا آخذ منكم على نصحي إياكم، ودعائيَ لكم إلى الإيمان ﴿مَالاً﴾: ما أجري في ذلك إلا على الله، هو يجازيني ويثيبني. ﴿وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الذين آمنوا﴾: أي: لست أطردهم، ولا الذين آمنوا بي. وذلك أنهم سألوه أن يطردهم.
قال ابن جريج: قالوا: " إن أحببت أن نتبعك فاطردهم. فقال: لا أطردهم ملاقوا ربهم، فيجازي من طردهم وآذاهم، ويسألهم عن أعمالهم.
ثم قال لهم: ﴿ولكني أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ﴾: أي: تجهلون ما يجب عليكم من
وقوله: ﴿وياقوم مَن يَنصُرُنِي مِنَ الله إِن طَرَدتُّهُمْ - إلى قوله - وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾:
والمعنى: من يمنعني من الله، إن هو عاقبني على طردي إياهم، وهم مؤمنون، وموحدون.
﴿أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾ في قولكم، فتعلمون خطأه.
ثم قال لهم: ﴿وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ الله﴾ هذا معطوف على قوله: (لا أسألكم)، والمعنى: لا أقول لكم: عندي خزائن الله التي لا يفنيها شيء، فتتبعوني عليها.
﴿وَلاَ أَعْلَمُ الغيب﴾: أي: ما خفي من سرائر الناس. فإن الله يعلم ذلك وحده.
﴿وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ﴾: فأكذب، ﴿وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تزدري أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ الله خَيْراً الله﴾،
﴿ الله أَعْلَمُ بِمَا في أَنْفُسِهِمْ﴾: أي: في ضمائرهم، واعتقادهم، وإنما لي منهم ما ظهر. ﴿إني إِذاً لَّمِنَ الظالمين﴾: أي: إني ظالم، إن قلت لن يؤتيكم الله خيراً، وقضيت / على سرائرهم: نفى نوح ﷺ، جميع هذا عن نفسه لئلا يتبعوه على ذلك.
﴿قَالُواْ يانوح قَدْ جَادَلْتَنَا﴾: أي: " قد خاصمتنا، فأكثرت خصامنا ﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ﴾: أي: بالعذاب، إن كنت صادقاً في قولك: إنك رسول (الله).
وقرأ ابن عباس رضي الله عنهـ: فأكثرت جَدَلَنا ". " والجدل " والجدال: المبالغة في الخصومة.
قال لهم نوح: إنما يأتيكم بالعذاب الله تعالى.
﴿ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾: أي: لستم ممن يعجزالله، سبحانه، إذ جاءكم عذابه
قوله: ﴿وَلاَ يَنفَعُكُمْ نصحي إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ﴾ إلى قوله ﴿يَفْعَلُونَ﴾
والمعنى: وليس ينفعكم تحذيري إياكم عقوبة على كفركم. ﴿إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ﴾ أي: يهلككم.
وقيل: معناه: يحييكم، وحكي عن بعض العرب أنها تقول: أصبح فلاناً غاوياً: أي: مريضاً.
وهذه الآية من أبْيَنِ آية في أن الأمر كله لله تعالى، يضل من يشاء، ويهدي من يشاء، لا مُعْقِب لحكمه يفعل ما يشاء.
وقد نالت المعتزلة: إن معنى: " أن يغويكم: أن يهلككم، وكذبوا على الله، سبحانه، وعلى لغة العرب: ولو كان الأمر كما قالوا، لكات معنى قوله: ﴿قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي﴾ [البقرة: ٢٥٦]: من الهلاك، وهذا لا معنى له. إنما هو الضلال، الذي هو نقيض الرشد. ولكان معنى قوله: ﴿وعصىءَادَمُ رَبَّهُ فغوى﴾ [طه: ١٢١]: فهلك، ولم يهلك إنما ضل. ولكان معنى قوله: ﴿الذين أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَاهُمْ﴾ [القصص: ٦٣] بمعنى الهلاك، ولا معنى لذلك، إنما هو
وقوله تعالى: ﴿فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً﴾ [مريم: ٥٩] معناه: هلاكاً.
﴿هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾: أي: بعد الهلاك.
ثم قال تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افتراه﴾: أي: أيقولون؟ وهذه " أم " المنقطعة بمعنى الألف، أي: اختلقَه. وهذا خطاب للنبي ﷺ. والمعنى أيقول قومك: اختلق هذا الخبر عن نوح عليه السلام، قل لهم: يا محمد! ﴿قُلْ إِنِ افتريته فَعَلَيَّ إِجْرَامِي﴾: أي: إثم جرمي، لا تؤاخذون به، ﴿وَأَنَاْ برياء﴾ من إثم جرمكم، ولا آخذ به. يقال: أجرم فلان: أي: كسب الإثم.
ثم قال تعالى: ﴿وَأُوحِيَ إلى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ﴾ والمعنى: إنه لما حّقَّ عليهم العذاب، أعلم أنه لم يؤمن أحد ممن بقي، ﴿فَلاَ تَبْتَئِسْ﴾: أي: لا تحزَنْ على فعلهم، وكفرهم، وذلك حين قال: ﴿رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً﴾ [نوح: ٢٦].
قوله: ﴿واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا﴾ إلى قوله: ﴿إِلاَّ قَلِيلٌ﴾.
والفلك: السفينة، يكون واحداً، وجمعاً.
قال ابن عباس: أوحي إليه: أن يصنع الفلك فلم يدر كيف يصنعها، فأوحي إليه أن يصنعها على مثال جُؤجؤ الطير. ومعنى: ﴿بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا﴾: أي: كما نأمرك.
(وقيل: بأعيننا: بحفظنا، وقيل: بعلمنا، وقيل: إن الملائكة كانت تريد ذلك).
وقيل: معنى: (بأعيننا ووحينا): أي: بتعليمنا كيف تصنعه.
وقوله: ﴿وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظلموا﴾: أي: لا تسألني في العفو عنهم. قال ابن جريج: معناه: لا تراجعني.
ثم أعلمنا الله تعالى، أنه أخذ يصنع السفينة، وأن ﴿وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ﴾ أي: جماعة، وكبراء ﴿سَخِرُواْ مِنْهُ﴾: أي: هزأوا به، يقولون له: أتحولت نجاراً بعد النبوءة؟ وتعمل السفينة في البر؟ فيقول لهم نوح: ﴿إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا﴾ اليوم،
و" من " تكون هنا خبراً، واستفهاماً، وتقريراً، إعرابها في الوجهين ظاهر. (وروت عائشة رضي الله عنها، أن النبي ﷺ، قال: " لو رحم الله (أحداً من قوم نوح) لرحم أم الصبي، كان نوح قد مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، يدعوهم إلى الله تعالى، حتى كان آخر زمانه غارس شجرة، فعظمت، وذهبت كل مذهب، ثم قطعها، ثم جعل يعمي سفينته. ويمرون، فيسألونه، فيقول: أعمل سفينة. فيسخرون منه، ويقولون: تعمل سفينة في البر، فكيف تجري؟ فيقول: سوف تعلمون. فلما فرغ منها، وفار التنور، وكثر الماء في السِّكَكِ، وخشيت أم الصبي عليه، وكانت تحبه حباً شديداً، فخرجت إلى الجبل، حتى بلغت ثلثي الجبل، فلما بلغها الماء، خرجت حتى استوت على الجبل، فلما بلغ الماء
قال قتادة: كان طول السفينة ثلاثمائة ذراع، وعرضها خمسون ذراعاً، وطولها في السماء ثلاثون ذراعاً، وبابها في عرضها.
وقال الحسن: كان طول السفينة ألف ذراع، ومائتي ذراع، وعرضها ستمائة ذراع.
وقال عكرمة: إنما طولها ثلاثمائة ذراع، وعرضها ورفعها ثلاثون ذراعاً.
وعن الحسن، ( رحمه الله عليه، أيضاً)؛ أنه قال: كان طولها ألف ذراع، في
قال: أبو رجاء: كانت مطبقة.
وقيل: إنها كانت: ثلاث طبقات: طبقة فيها الدواب والوحوش، وطبقة فيها الإنس، وطبقة فيها الطير. فلما كثر أرْوَاتُ الدواب أوحى الله تعالى، إلى نوح: أن أغْمزْ ذنبَ الفيل، فغمزه. فوقع منه خنزير وخنزيرة، فأقبل على الروث. ثم إن الفأر وقع بحبل السفينة يقرضه، فأوحى الله إلى نوح أن اضرب بين عيني الأسد، فضرب، فخرج من منخره سنور وسنورة، فأقبل على الفأر.
وروى عبيد بن عمير الليثي: أنهم كانوا يخنقون نوحاً حتى يغشى عليه، فإذا فاق قال: اللهم أغفر لقومي، فإنهم لا يعلمون. حتى إذا تمادوا في المعصية، وتطاول عليه
فزل لسانه بالكلمة، فدخل الحمار، والشيطان. فقال له: نوح ﷺ: ما أدخلك عليَّ يا عدوَّ الله؟ قال: ألم تقل ادخل، وإن كان الشيطان معك. قال: اخرج عني يا عدو الله. قال: مالَكَ بُدٌّ من أن تحملني، فكان إبليس في ظهر الفلك. فكان بين إرسال الله تعالى، الماء، وبين أن احتمل الماء الفلك أربعون يوماً بلياليها، ودخل فيها لسبع عشرة ليلة مضت من الشهر، فلما دخل من كان معه / (انفتحت أبواب السماء بماء منهمر)، كما قال الله، وكانت السفينة مُسْمَرَّة بدُسُرٍ. والدُّسُر: مسامير الحديد، وقيل: مسامير من عود، بها يسمر اليوم مراكبهم أهل الحجاز، وأهل الهند، وما يلي ذلك. فلما جرت السفينة، قال نوح لابنه: ﴿اركب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الكافرين﴾ [هود: ٤٢]
قال عكرمة: " ركب في السفينة لعشر خَلَوْن من رجب، ﴿واستوت عَلَى الجودي﴾ [هود: ٤٤] لعشر خَلَون من المحرم. فذلك ستة أشهر ".
ومعنى: ﴿وَفَارَ التنور﴾: قيل: إنه انفجر الماء من وجه الأرض. التنور: وجه الأرض قاله ابن عباس، وعكرمة.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ: هو تنوير الصبح، من قولهم: نور الصبح يُنَور، فكأنه قال: حتى جاء أمرنا، وطلع الفجر.
وقال قتادة: التنور أعلى الأرض، وأشرافها.
وقال الشعبي. فار الماء في ناحية الكوفة.
وعن علي رضي الله عنهـ، أنه قال: فار التنور من مسجد الكوفة، وقال زيد بن حبيش: فار التنور من هذه الزاوية، وأشار إلى زاوية مسجد الكوفة اليمني من القبلة، التي عن يمين المصلى. وكان زيد يقصد إلى الصلاة في تلك الزاوية من مسجد الكوفة، وعن الحسن أيضاً أن التنور الموضع الذي يجتمع فيه الماء في السفينة. وعنابن عباس: أن التنور فار بالهند.
وقوله: ﴿وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول﴾: أي: واحمل أهلك، إلا من سبق إهلاكه، وهو بعض نساء نوح، كانت من الباقين: من الهالكين.
وقيل: هو ابنهُ الذي غرق. ﴿وَمَنْ آمَنَ﴾ أي: واحمل من آمن.
قال قتادة: كانوا ثمانية أنفس، خمسة بنين، وثلاث نسوة، فأصاب حام امرأته في السفينة. فدعا عليه نوح أن تغير نطفته. فجاء بالسودان.
وعن ابن عباس: أنهم كانوا ثمانين رجلاً، غير النساء من غير أهله وروي أن الله جل ذكره، كان قد أعقم أرحام النساء، وأصلاب الرجال، قبل الغرق بأربعين سنة /، فلم يولد فيهم مولود، ولم يغرق إلا ابن أربعين، فما فوق ذلك.
قوله: ﴿وَأَهْلَكَ﴾: وقف عند أبي حاتم، وليس يوقف عند غيره، لأن بعده استثناء.
﴿وَمَنْ آمَنَ﴾: وقف عند نافع وغيره، ﴿إِلاَّ قَلِيلٌ﴾: وقف حسن.
المعنى: فحملهم فيها، وقال: اركبوا فيها. ومن قرأ بضم الميم، فمعناه: بسم الله إجراؤها، وإرساؤها: ابتداء وخبر، ويجوز أن يكون في موضع نصب على الظرف، على معنى بسم الله، وقتَ إجرائها، وعند إرسائها. ويكون بسم الله كلاماً مكتفياً بنفسه كقول المبتدئ في عمل: بسم الله، فتكون الياء في موضع نصب على معنى ابتدأت بسم الله، أو في موضع رفع على معنى أبتدأ، أي: بسم الله. ﴿ومجراها﴾: ظرف كما تقول: زيد قائم خلفك. ومن فتح الميم فعلى هذا التقدير، إلا
وقال مجاهد، والجحدري، والعطاردي: " مجريها ومرسيها بالياء، وجعلوه نعتاً لله تعالى، أو في موضع رفع على إضمار مبتدأ.
وقال الضحاك وغيره: كان إذا قال: بسم الله جرت، وإذا قال: بسم الله رَسَت.
واختار " مجراها " بالفتح لقربه من قوله: وهي تجري بهم، ولم يقل تُجْري
وقيل: إنه لم يكن ابنه، إنما كان ابن امرأته.
وحكى أبو حاتم أنه قرأ: " ونادى نوحَ ابنَه " بفتح الحاء، يريد " ابنها " ثم حذف الألف لخفتها، كما تحذف الواو من " ابنهُو ". وعن علي رضي الله عنهـ، أنه قرأ:
وعن الحسن رضي الله عنهـ، أنه قال: خانت نوحاً في الولد. والله تعالى يعيذ نبيه ﷺ، من ذلك إنما خانته في الدين، لا في الفراش.
قال ابن عباس: ما بَغَت امرأة نبي قطٌّ ".
ومن قرأ ﴿يابني اركب مَّعَنَا﴾ بالفتح، فزعم أبو حاتم أنه أرادَ: يا بَنياهُ، فحذف الهاء، لأنه يصل، وحذف الألف لدلالة الفتحة.
ولا يجوز عند سيبويه حذف الألف لخفتها، وليس مثل الواو.
وقال الزجاج: كان أصله " يا بنيَّ " بياءين كما تقول: يا غلاميَّ بالياء، فأبدل من
ثم قال تعالى إخباراً عن قول ابن نوح لنوح: ﴿سآوي إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ المآء﴾: أي: سأصير / إلى جبل يمنعني من الماء، قال له نوح: ﴿لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله إِلاَّ مَن رَّحِمَ﴾: أي: إلا الراحم، أي: ليس يعصم إلا الله، أي: لا يمنع إلا الله الذي رَحِمنَا، فأنقذنا من الغرق، وقيل: " من " في موضع نصب استثناء، ليس من الأول، أي: لكن من رحم الله، فإنه معصوم.
وقيل: المعنى: إن عاصماً بمعنى معصوم، فيكون " من " أيضاً في موضع رفع لأنه لا معصوم من أمر الله إلا المرحوم على البدل من موضع معصوم،
والتقدير: لا يعصم اليوم من امر الله الا الله.
ثم قال تعالى: ﴿وَحَالَ بَيْنَهُمَا الموج﴾: أي: بين نوح، وابنه، فكان ابنه من المغرقين.
﴿مِنْ أَمْرِ الله﴾: وقف حسن، إن جعلت إلا من رحم الله استثناء، ليس من الأول، وليس من الأول، وليس بالبين لأنه لا بد للثاني أن يكون فيه سبب من الأول.
﴿إِلاَّ مَن رَّحِمَ﴾. وقف.
قوله: ﴿وَقِيلَ يا أرض ابلعي مَآءَكِ﴾ إلى قوله ﴿أَكُن مِّنَ الخاسرين﴾.
المعنى: يا أرض اشربي ما عليك من الماء.
﴿وياسمآء أَقْلِعِي﴾: لا تمطري. ﴿وَغِيضَ المآء﴾: أي: نَقُص جعل
﴿وَقُضِيَ الأمر﴾: أي: بهلاكهم، ﴿واستوت عَلَى الجودي﴾: أي: استقرت السفينة على الجودي، وهو جبل بناحية الموصل، أو الجزيرة. ﴿وَقِيلَ بُعْداً﴾: أي: وقال الله بعداً.
وقيل: المعنى: وقال نوح ومن معه ﴿بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظالمين﴾: أي: أبعدهم الله من رحمته.
وروي عن النبي ﷺ، أنه قال: ركب نوح السفينة في أول يوم من رجب، فصام هو ومن معه، وجرت السفينة ستة أشهر. فانتهى ذلك إلى المحرم، فأرست على الجودي يوم عاشوراء فصام نوح وأمر من معه من الوحش، فصاموا شكراً لله تعالى.
وفي الجودي لغتان: تشديد الياء، وتخفيفها. فمن شدد جمعه على جوادي، ومن خفف جمع على جوادٍ، مثل جوارٍ.
(على الجودي): وقف عند أبي حاتم، وليس كذلك، لأن (وقيل): عطف على واستوت.
ثم قال تعالى: ﴿وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي﴾: أي: إنك وعدتني أن تنجيَ أهلي، وابني منهم.
قال الله له: ﴿يانوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾: أي: ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم.
وقال الحسن: لم يكن ابنه، وكان يحلف أنه ما كان ابنه. فمعنى: ﴿لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾: أي: ليس بابن لك، إنما هو ابن امرأته وقال عكرمة، هو ابنه، ولكن على غير دينه، وإنما وعده الله تعالى، أن ينجيَ أهله المؤمنين به. فمعنى ﴿لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾: ليس من أهل دينك.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾: أي: إن سؤالك يا نوح إياي أن أنجي مشركاً عملٌ منك غير صالح.
وقيل: المعنى: إن عماه غير صالح.
وعن ابن مسعود / أنه قرأ " إنه عمل صالح أن تَسْألني ما ليس لك به علم " ﴿فَلاَ تَسْئَلْنِ﴾، فتكون الهاء للمجهول، وخبر " عمل " محذوف دل عليه ﴿فَلاَ تَسْئَلْنِ﴾.
ومن قرأ: " عمل غير صالح "، فكذلك قرأ الكسائي. وفيه: حديث عن النبي ﷺ، أنه كذلك قرأ. ومعناه: ظاهر، كأنه قال: إنه كافر
ثم قال تعالى: ﴿إني أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين﴾ هذا تنبيه لنوح، ﷺ، لئلا يسأل عما طوي عنه علمه.
وقال ابن زيد: المعنى: إني أعظك أن تبلغ الجهالة بك، أن تظن أني لا أفي بوعد وعدتك، حتى تسألني ما ليس لك به علم. فاستقال نوح من سؤاله، واستعاذ من ذلك. وقال: ﴿رَبِّ إني أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وترحمني أَكُن مِّنَ الخاسرين﴾: فاستغفر من زلته في مسألته، وهذا " يدل على أن الأنبياء (صلوات الله عليهم)، يذنبون ".
قوله: ﴿قِيلَ يانوح اهبط بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وعلى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ﴾ - إلى قوله - ﴿مُجْرِمِينَ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ﴾
والمعنى: قال الله تعالى، يا نوح! اهبط من الفلك إلى الأرض سلامة، وبركات عليك، وعلى أمم ممن معك: أي: من ذرية من معك: أي: من ذرية من معك من ولدك، وولد من معك من المؤمنين الذين سبقت لهم السعادة قبل خلقهم.
ثم قال تعالى مخبراً عن الكافرين من ذرية من معه: ﴿وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾: فلذلك رفعت الأممُ ها هنا، ولا تخفض، لأنها ليست ممن بارك الله عليها، ودعا لها بالسلامة، و'نما هو بمنزلة: رأيت زيداً، وعَمْرو جالس.
ومعنى: ﴿سَنُمَتِّعُهُمْ﴾: أي: " سنرزقهم في الحياة الدنيا ما يمتعون به إلى أن
﴿ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾: أي: في القيامة.
قال محمد بن كعب القرظي: دخل في هذا السلام والبركة، كل مؤمن؛ ومؤمنة إلى يوم القيامة. ودخل في هذا العذاب كل كافر، وكافرة إلى يوم القيامة.
ممن معك: وقف، وأجاز الفراء " وأمماً " ممن معك بالنصب على معنى ونمتع أمماً.
ثم قال تعالى: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الغيب﴾ أي: تلك القصة، بمعنى: هذه القصة من الأخبار الغائبة عنك يا محمد، وعن قومك، لم تكونوا تعلمونها من قبل إخبارنا لكم، فإخبارك إياهم بهذا يدل على صدقك، ونبوتك لو عقلوا. (فاصبر): على
﴿إِنَّ العاقبة لِلْمُتَّقِينَ﴾ وهذا إشارة إلى القرآن. ()
ثم قال تعالى: ﴿وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً﴾: أي: وأرسلنا إلى عاد أخاهم هوداً. هو معطوف على قوله / ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً (إلى قَوْمِهِ)﴾ [هود: ٢٥] وسمي هود أخاهم، لأنه منهم، ومبين بلسانهم، وقيل: سمي بذلك لأنه منه ولد آدم، بشر مثلهم.
وعاد: قبيلة، وهو ابن أبيهم الأكبر، فلذلك قال أخوهم، وهو هود بن عبد الله بن عاد بن عادية بن عاد بن أرام بن الخالد بت عابر. قال لهم (هود): ﴿اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ﴾ إلا هو، ولا يستحق العبادة إلا هو.
ثم قال: ﴿وياقوم استغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ﴾: أي: سلوه المغفرة من عبادتكم غيره، ﴿ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ﴾ من عبادة غيره. فإن فعلتم ذلك أرسل عليكم السماء مدراراً: أي: قطر السماء متتابعاً.
ومفعال للتكثير، وفيه معنى الكسب. ولذلك حذفت الهاء. وأكثر ما يأتي " مفعال " من " أفعلتُ "، وقد أتى هنا من " فعلت "، يقال: درّت تدرُّ وتدر، فهي مدرار.
ثم قال: ﴿وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ﴾: أي: " شدة إلى شدتكم " قاله مجاهد
وقيل: إن النسل كان قد انقطع منهم سنتين، فقال لهم هود: إن آمنتم بالله، أحيا الله بلادكم، ورزقكم الولدان، فذلك القوة.
وقال أبو إسحاق: المعنى قوة في النعمة. وكانت مساكن عاد الرمال، ما بين الشام واليمن، وكانوا أهل زرع، وبساتين وعمارة، فلما أقاموا على كفرهم، وعبادة أصنامهم، ولم يُطيعوا هوداً أرسل الله تعالى، عليهم الريح، فكانت تدخل في أنوفهم، وتخرج من أدبارهم، وتقطعهم عضواً عضواً.
ثم قال لهم هود: ﴿وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ﴾: أي: لا تدبروا عني، وعن ما دعوتكم إليه كافرين.
وله: ﴿قَالُواْ ياهود مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بتاركي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ - إلى قوله - صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ والمعنى: ما جئتنا ببرهان على قولك، فنترك آلهتنا لقولك، وما نؤمن لك، فنصدقك بما جئتنا به. ما نقول ﴿إِلاَّ اعتراك بَعْضُ آلِهَتِنَا بسواء﴾: أي: أخذك خبل من عند بعض آلهتنا لطعنك عليها، وسبك لها: أي: جنون.
﴿إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى الله رَبِّي وَرَبِّكُمْ﴾: أي: فوضت أمري إلى مالكي، ومَالِكِكُم. ﴿مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ﴾: أي: ليس من شيء يدب على الأرض إلا والله تعالى، مالكه.
وخص ذكر الناصية دون سائر الأعضاء، لأن العرب تستعمل ذلك فيمن وصفته بالذلة والخضوع: تقول: ما ناصية فلان إلا بيدي: أي: هو مطيع لي أصرفه كيف أشاء.
وقيل: إنما خص ذكر الناصية، لأنهم كانوا إذا أسروا أسيراً، وأرادوا المَنَّ عليه، جَزُّوا ناصيته، ليعتدُّوا بذلك / فخراً، فخوطبوا بعادتهم.
ثم قال: ﴿إِنَّ رَبِّي على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ أي: على الحق. والصراط في اللغة: المنهاج الواضح.
قوله: ﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ﴾ - إلى قوله - ﴿هُودٍ﴾.
والمعنى: إنّ هوداً قال لقومه: فإن أجبرتم على ما جعوتكم إليه، وأعرضت فقد أبلغتكم ما أمرت به، وقامت عليكم الحجة في تبليغي إياكم رسالة ربكم، فهو يهلككم، ثم يستخلف قوماً غيركم، توحدون، وتخلصون له العبادة.
﴿وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً﴾: أي: لا تقدرون على ضر إذا أراد هلاككم. وقيل: المعنى: ولا يضره هلاكم شيئاً.
﴿إِنَّ رَبِّي على كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ﴾: أي: ذ١وحفظ بخلقه.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا﴾ أي: العذاب للكفار. {نَجَّيْنَا هُوداً والذين آمَنُواْ
ثم قال تعالى: ﴿وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ واتبعوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ﴾ أي: معاند لله تعالى، معارض بالخلاف. ﴿وَأُتْبِعُواْ فِي هذه الدنيا لَعْنَةً﴾: أي: غضباً من الله، وسخطاً، ويوم القيامة مثل ذلك.
﴿ألا إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ﴾: أي: أبعدهم الله، وإنما قال: ﴿وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ﴾ بجمع، ولم يأتهم إلا رسول واحد، لأن من كفر ببني واحد، وعصاه فقد كفر بجميع الأنبياء، وعصاهمز وله في القرآن نظائر، قد مضت، ومنها ما يأتي بعد.
(يوم القيامة): وقف، (قوم هود): وقف.
قوله تعالى: ﴿وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ ياقوم اعبدوا الله﴾ إلى قوله ﴿مُرِيبٍ﴾:
ثمود: قبيلة، وصالح ابن أبيهم الأكبر. فلذلك قال أخوهم، وهو صالح بن عبيد بن جابر بن عبيد بن ثمود بن الخالد بن عابر. والمعنى: وأرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحاً، فقال لهم: اعبدوا الله ليس لكم إلهٌ إلا هو، هو أنشأكم): أي: خلقكم من الأرض، يعني: أصلهم الذي هو آدم. خلق من طين من الأرض، ﴿واستعمركم﴾ أنتم (فيها): أي: أسكنكم فيها.
﴿فاستغفروه﴾: مما عبدتم من دونه. ﴿ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ﴾: من عبادة الأوثان. ﴿إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ﴾ يسمع دعاءكم، وتوبتكم، واستغفاركم. ﴿مُّجِيبٌ﴾ لمن دعاه، وأخلص في التوبة.
﴿قَالُواْ ياصالح قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هذا﴾، أي: كنا نرجو أن تكون فينا سيداً،
قوله: ﴿قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً﴾ - إلى قوله - ﴿غَيْرُ مَكْذُوبٍ﴾.
المعنى: إن صالحاً قال لهم: إذ قالوا له: ﴿وَإِنَّنَا / تَدْعُونَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ لَفِي شَكٍّ مِّمَّا﴾
﴿ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي﴾: أي: على برهان، وحجة، قد علمت ذلك وأيقنته. ﴿وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً﴾: يعني النبوؤة والحكمة والإيمان.
﴿فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ الله إِنْ عَصَيْتُهُ﴾: أي: من ينقذني من عذابه إن عصيته. ﴿فَمَا تَزِيدُونَنِي﴾ بعذركم أنكم تعبدون ما كان يعبد آباؤنا ﴿غَيْرَ تَخْسِيرٍ﴾: أي
ثم قال: ﴿وياقوم هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً﴾: " آية: حال، والمعنى: انتبهوا إليها في هذه الحال.
﴿فَذَرُوهَا تَأْكُلْ في أَرْضِ الله﴾: أي: دعوها، ويذر ويدع لم يستعمل منها ماض. وأصل " يدع ": يَوْدِعْ، فحذفت الواو على الأصل، ثم فتحت العين من أجل حروف الحلق. وشابهت " يذر " " يدع " من أجل أنها لم ينطق منها بماض، ففتحت العين منها، مثل " ودع "، وبابهما جميعاً فَعَل يَفْعِل، ففتحت " يدع " لحرف الحلق، وفتحت " يذر " للمضارعة التي بينها وبين " يدع ". وإنما تفتح العين إذا كانت حرف حلق، أو كانت اللام حرف حلق، لأن الفتجة أًلها من الألف. فلما وقع بعدها حرف حلق جعلوا حركة ما قبله مما هو من مخرج الحروف، ليكون الحرف،
وإنما صارت الناقة آية، لأنهم طلبوا الله أن يخرج لهم من جبل لهم ناقة ويؤمنوا، فأخرجها لهم من ذلك الجبل بقدرة الله تعالى، فلم يؤمنوا، فقال لهم: دعوها ﴿تَأْكُلْ في أَرْضِ الله﴾ ليس على أحد منكم رزقها. ﴿وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء﴾: أي: لا تعقروها، فيأخذكم عذاب قريب: أي: قريب من عقرها. وقيل: المعنى: ﴿قَرِيبٌ﴾: غير بعيد فيهلككم. ﴿فَعَقَرُوهَا﴾، والمعنى: فكذبوه، فخالفوه، فعقروها. فقال لهم صالح: استمتعوا في دار الدنيا ثلاثة أيام، ثم يأتيكم العذاب فهو ﴿وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ﴾.
ويروى أن الناقة كانت أحسن ناقة في الأرض، حمراء عشراء، فوضعت فصيلاً، فكانت تغدو، فتشرب جميع الماء، ثم تغدوا عليهم، بمثله لبناً، فإذا انصرفت عنهم عَدَوْا إلى الماء، فاستقوا حاجتهم ليومين، فعقروها، فأخذهم العذاب.
وقيل لهم: آية ذلك أن تصفر ألوانكم أول يوم، ثم تحمر في اليوم الثاني، ثم تسود في اليوم الثالث.
وقال قتادة: لما عقروا الناقة ندموا، وقالوا: عليكم بالفصيل، فصعد الفصيل إلى الجبل. فلما كان اليوم الثالث استقبل القبلة، وقال: يا رب! أمِّي، فأرسلت الصيحة عليهم عند ذلك.
وكانمت منازلهم بالحجر بين المدينة والشام.
قوله: ﴿فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً والذين آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا﴾ - إلى قوله - ﴿لِّثَمُودَ﴾:
والمعنى: ولما جاء عذابنا نجينا صالحاً منه. ﴿والذين آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا﴾: أي: بنعمة، ﴿وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ﴾: أي: نجيناهم من هوان ذلك اليوم، وذلته.
ومن خفض ﴿يَوْمِئِذٍ﴾، أضاف إليه حرفاً واحداً بالإعراب، ومن
قال المبرد: من خفض قال: سير عليه يومئذ فرفع، ومن فتح فتح مع سير، وغيره لأنه مبني.
﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ القوي﴾ أي: في بطشه إذا بطش ".
﴿العزيز﴾: أي: الذي لا يغلبه شيء.
وروى عمرو بن خارجة، عن النبي ﷺ، أنه قال: " كانت ثمود يوم صالح، أطال الله أعمارهم حتى جعل أحدهم يبني المسكن من المدر، فينهدم لطول حياته، فلما رأوا ذلك اتخذوا من الجبال بيوتاً، فنحتوها، وجوَّفُوها وكانوا في سعة من عيشهم فقالوا: يا صالح! ادعُ لنا ربك يخرج لنا آية تعلم أنك رسول الله. فدعا صالح
وروى ابن جريج أن صالحاً أمر بقتل الولدان، فقتل أبناء ثمانية رهط. وكان لهم صاحبٌ ترك ابنه فكبر. فقال الثمانية: لو أنا لم نقتل أبناءنا لكانوا مثل هذا الغلام. فائتمروا التسعة بينهم بقتل صالح. وقالوا: نخرج مسافرين، والناس يروننا علانية، ثم نرجه في وقت كذا من ليلة كذا، فنقتله في مُصَلاَّه، والناس يحسبون أننا مسافرون، فأقبلوا حتى دخلوا تحت صخرة يرصدونه. فأرسل الله، جلّ ذكره، عليهم، الصخرة فَرَضَخَتْهم /، فأخبر الله أهل القرية بموتهم، فقالوا: تَنَادَوْنَ: أي: عباد
وقال عرم وابن خارجة: أراد المولود مع الثمانية قتل صالح، فمشوا حتى أتَوا سِرياً على طريق صالح، فاختفى فيه ثمانية، وبقي هو، وقالوا: إذا خرج علينا قتلناه، وأتينا أهله، فبيتناهم، فأمر الله تعالى، الأرض، فاستوت عليهم، فاجتمعوا ومشَوْا إلى الناقة، وهي على حوضها قائمة. فقال الشقي لأحدهم " إيتِهَا فاعقرها، فأتاها فتعاظمه ذلك، فرجع ثم بعث آخر، فَعَظُم عليه عقرها، فرجع ثم آخر، فرجع، حتى رجع الجميع، ولم يعقروا. فمشى هو إليها، وتطاول، فضرب عُرْقُوبَيْها، فوقعت تركض. وأتى رجل منهم صالحاً، فقال: أدرك الناقة، فقد عقرت. فأقبل، وخرج وهم يتلقونه، ويعتذرون إليه. يا نبي الله! إنما عقرها فلان، إنه لا ذنب لنا. قال: انظروا هل تدركون فصيلها، فإن أدركتموه فعسى الله أن يدفع عنكم العذاب. فخرجوا
أي: خامدين في ديارهم. والدار محلة القوم، والموضع الذي / فيه نزلهم في معسكرهم ومجتمعهم، والديار: الدور التي سكنها كل واحد منهم.
" ولما مر النبي ﷺ، ( في) غزوة تبوك بوادي ثمود، أمر أصحابه أن
﴿كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ﴾: أي: لم يعيشوا. قال الأصمعي: المغاني: المنازل، ويقال: غَنَيْتُ بالمكان: إذا أقمت به.
فالمعنى كأن لم يَغْنَوْا بها في سرور، وغبطة.
﴿أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ﴾: ألا أبعدهم الله لنزول العذاب بهم.
قوله: ﴿وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بالبشرى﴾ - إلى قوله - ﴿عَجِيبٌ﴾.
من نصب " سلاماً " نصبه على المصدر، أو على أعمال القول، والرفع على إضمار خبر محذوف. والمعنى: قالوا: سلام عليكم. ومن قرأ " سِلْمٌ " فعلى معنى الأمر.
وقيل: المعنى: نحن سلم، أي: غير باغين شراً، وأنتم قوم منكرون: أي: لا نعرفكم. وقيل: سلم بمعنى سلام. كما يُقال حرمٌ، وحَرَامٌ بمعنى واحد. ويجوز رفع الأول، ونصب الثاني، ونصب أيهما شئت على هذا التقدير، ومعنى ﴿قَوْمٌ مُّنكَرُونَ﴾ [الحجر: ٦٢، الذاريات: ٢٥]: أي: غير معروفين في بلدنا.
وقيل: المعنى: إنكم قومٌ منكرون، إذا سلمتم، لأن التسليم في بلدنا منكر، ولم نعهده إلا لمن هو على ديننا. والرسل الذين أتَوْهم: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، عليهما السلام.
روي أن رجلاً جلَّ ذكره، أرسل إسرافيل يبشر سارة زوج إبراهيم بإسحاق، ويعقوب ولد إسحاق، وأرسل الله جبريل ليقلب مدائن قوم لوط، وأرسل
﴿قَالُواْ سَلاَماً﴾ قال مجاهد: المعنى سَدَاداً.
﴿فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ﴾: " أن ": في موضع نصب عند سيبويه، يقال: لا يلبث عن أن يأتيك.
وأجاز الفراء أن تكون في موضع رفع. فلبث، أي: فما أبطأ عنه مجيئه. والمعنى: فما أبطأ عنهم حتى جاء ﴿بِعِجْلٍ حَنِيذٍ﴾: أي: مشوي، وهو فعيل، بمعنى مفعول.
وقال ابن عباس: (حنيذ): نضيج. وقيل: كان قد أشوي على حجارة محمية. فما: نافية في قوله (فما لبث)، وفي " لبث " ضمير إبراهيم عليه السلام.
قوله: ﴿فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ﴾ أي: فلما رأى إبراهيم أيدي الرسل، صلوات الله عليهم، لا تصل إلى العجل، فتأكل منه، (نكرهم)، وعلم أنهم لم يتركوا الأكل إلا لقصة. فأوجس منهم خوفاً في نفسه. يقال: نكره ينكره، وأنكره بمعنى. فالهاء في " إليه " تعود على العجل، وقيل: على إبراهيم، بمعنى: لا تصل / إلى طعامه، ثم حذف المضاف.
قال قتادة: إنما أنكر إبراهيم أمرهم، لأنهم كانوا إذا نزل بهم ضيف، فلم يطعم من طعامهم ظنوا أنه لم يجيء بخير، فخاف إبراهيم منهم، فقالوا له: ﴿لاَ تَخَفْ﴾ منا ﴿إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ﴾ بالعذاب.
وقيل: إنها كانت قائمة، تخدُم الرسل، وإبراهيم جالس مع الرسل.
وقوله: ﴿فَضَحِكَتْ﴾ قيل: إنها ضحكت من أمرها أنها تخدم، وضيافها لا يمسون الطعام.
قال السدي: قال إبراهيم للرسل، صلوات الله عليهم: ألا تأكلون؟ قالوا: يا إبراهيم! إنا لا نأكل طعاماً إلا بثمن. قال لهم: فإن لهذا ثمناً! قالوا: وما هو؟ قال: تذكرون اسم الله على أوله، وتحمدونه على آخره. فنظر جبريل إلى ميكائيل، عليهما السلام، فقال: حُقَّ لهذا أن يتخذه ربه خليلاً. فلما لم يأكلوا، قالت سارة، امرأة إبراهيم: عجباً لأضيافنا هؤلاء، إنا لنخدمهم بأنفسنا، تكرمة لهم، وهم لا
وقيل: ضحكت من أن قوم لوط في غفلة، وقد جاءت رُسُلَ الله تعالى، بهلاكهم. فكان ضحكها تعجباً لغفلة قوم لوط، عما أتاهم من العذاب، وهو قول قتادة.
وقيل: إنها ضحكت لما رأته من زوجها إبراهيم عليه السلام، من الروع تعجباً، وهو قول الكلبي.
وقال وهب بن منبه: ضحكت لما بشرت بإٍحاق، وهي كبيرة،
وقال مجاهد: معنى: ضحكت: ساغت، وكذا ابنة تسعين سنة. وقيل: بل زادت على التسعين، وكان إبراهيم، عليه السلام، ابن مائة سنة.
وذكر بعض البصريين أن بعض أهل الحجاز حكى عن العرب: " ضحكت المرأة " بمعنى: حاضت.
وقال الضحاك: الضحك: الحيض، ويقال: ضحكت النخلة: إذا أخرجت الطلع، والبشر. وقيل: إنها إنما ضحكت، لأن الملائكة أحْيَوا العجل بإذن الله تعالى، فضحكت تعجباً. ﴿فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ﴾. وقيل: إنها إنما ضحكت، لأنها قالت لإبراهيم قبل مجيء الرسل: أحسب أن قوم لوط سينزل الله بهم عذاباً. فضم لوطاً
وقيل: إنها إنما ضحكت من إبراهيم، لأنه كان ﷺ يقوم بمائة رجل، فتعجبت من خوفه من نفر.
وقيل: ضحكت سروراً، حيث قالوا: لا تخف، لقد كانت خافت منهم.
وقوله: ﴿فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ﴾: أي: من رفع " يعقوب " فعلى الابتداء، ﴿وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ﴾: الخبر، والجملة في موضع الحال. أي: بشرناها بإسحاق، مقابلاً له يعقوب. وهو داخل في البشارة، فلا يوقف على إسحاق على هذه المعنى. ويجوز أن يرتفع بفعل دل عليه الكلام، / والمعنى: ومن وراء
وقيل: المعنى: وقبت لهما من وراء إسحاق يعقوب.
ومن قرأ بالفتح، فهو في موضع خفض عند الكسائي، والأخفش، وأبي حاتم، على العطف علاى " إسحاق ": يجيزون التفريق بين المجرور، وبين ما يشركه، فيفرقون بين حرف العطف والمعطوف.
ومذهب سيبويه والفراء أن يعقوب في موضع نصب، على معنى: ومن وراء إسحاق وهبنا له يعقوب. ولا يجيزون التفريق بين المجرور، وحرف العطف. فتقف على إسحاق على هذا التقدير، ولا تقف عليه إذا قدرت العطف.
وفي هذا دليل على أن: الذبيح إسماعيل، لأنها بشرت بإسحاق، وأنها تعيش حتى يولد له، فغير جائز أن يعلم إبراهيم أنه يعيش حتى يولد له، ثم يؤمر بذبحه، قبل أن يولد له. فلا يجوز أن يؤمر بذبح من أخبر أنه يعيش إلى وقت بعد، وقت الذبح بسنين.
قال السدي: لما بُشرت بذلك، سكّت وجهها وقالت: ﴿ءَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ﴾ ثم قالت لجبريل: ما آية ذلك؟ فأخذ جبريل، عيله السلام، عوداً يابساً، فلواه بين أصبعيْه فاهتزَّ خضراً. فقال إبراهيم: هو لله إذاً " ذبيحاً ".
قيل: إنها كانت ابنة تسعة وتسعين سنة، و'براهيم ابن مائة وعشرين سنة. وقيل: كان أكبر منها بسنة.
و ﴿ياويلتى﴾ " كلمة تقولها العرب عند التعجب من الشيء ".
- الأول: أن يكون فيه علامة التأنيث، تفصل بينه وبين المذكرن نحو: خديجة، وفاطمة، وعائشة وليلى، وسعدى، وحمرى.
- والثاني: أن تكون الثانية في صيغة الاسم، وبلا علامة ظاهرة، نحو: زينب، ونوار، وهند، وعير وفخرٌ، وشبهه.
- والثالث: أن يكون الاسم المؤنث يخالف لفظه لفظ ذكره، فيستغنى عن علامة التأنيث، لمخالفة اللفظ، وذلك نحو: جَدْيٌ، وعناق، وحمار، وربما مالوا إلى المؤنث فأدخلوا الهاء، وإن كان لفظه يخالف لفظ المذكر: قالوا: عجوزة،
- والقسم الرابع: أن يكون الاسم واقعاً على المؤنث والمذكر، فيكون " بالهاء " كقولك: شاة وبقرة، وجرادة، وهذه الهاء فصل بين الواحد والجمع. وقولها: ﴿إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ﴾ وإن في كون الولد من مثلي شيئاً عجيباً.
قوله: ﴿قالوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله رَحْمَتُ الله وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البيت﴾ - إلى قوله - ﴿مَرْدُودٍ﴾.
والمعنى: قالت الرسل: أتعجبين من أمر / قضاء الله تعالى فيك، وفي بعلك، ﴿رَحْمَتُ الله وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ﴾.
ثم قال: ﴿إِنَّهُ حَمِيدٌ﴾: أي: محمود على نعمه عليكم، وعلى غيركم. ﴿مَّجِيدٌ﴾: أي: ذو مجد، وثناء، وقيل: معنى: ﴿مَّجِيدٌ﴾: كريم، والمجد: الكرم،
﴿فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الروع﴾: أي: لما سكن خوفه من الرسل، وعلم منهم من هم.
قال الأخفش، والكسائي: قوله " يجادلنا " لأن جواب " لمَّا " يكون بالماضي، وقيل " يجادلنا ": في موضع الحال. ومعنى يجادلنا: أي: يطلب. وقيل: في قوم لوط. وقيل: المعنى: يخاصم رسلنا في قوم لوط.
قال ابن جريج: قال إبراهيم للرسل: أتهلكونهم إن وجدتم فيهم مائة رجل مؤمن؟ قالوا: لا. ثم قال: فتسعين؟ حتى هبط إلى خمسة، وكان في قرية لوط أربعة آلاف ألف، يجادل الرسل عن قوم لوط، ليرد عنهم العذاب.
وقيل: إنه لم يزل يقول: آرأيتم إن وجدتم فيهم كذا، وكذا مؤمناً أتهلكونهم؟ فيقولون: لا حتى بلغ إلى أن قال: أرأيتم إن وجدتم فيها واحداً مسلماً؟ قالوا: لا. فلم يخبر إبراهيم أن فهيم رجلاً واحداً، يدفع عنهم به البلاء. قال لهم: إن فيها
وقد بين الله، جل ذكره، ذلك في سورة " والذاريات " فقال: ﴿فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ المسلمين﴾ [الذاريات: ٣٦] يعني: بيت لوط إلا امرأته.
وقيل معنى: ﴿يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ﴾: أي: في المؤمنين منهم خاصة، ثم قالوا: ﴿ياإبراهيم أَعْرِضْ عَنْ هاذآ إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبَّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ﴾. قال ابن عباس: قال الملك لإبراهيم: إن كان فيهم خمسة يصلون رفع عنهم العذاب.
وقوله: ﴿أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ﴾: الأوّاهُ: المُبْتَهِلُ إلى الله، تعالى، المتخشع في ابتهاله، الذي يكثر التأَوُّهُ خوفاً، وإشفاقاً من الذنوب، والمنيب: الرجاع إلى طاعة الله تعالى.
والأوّاه: الدّعَاء، البكَّاء، والمنيب: التارك للذنوب، الراجع إلى ما يحبه الله تعالى، ويرضى به، وقيل: الأوَّاه: الدَّعاء، وقيل: هو المتأوه، المرتجع من الذنوب.
وقوله: ﴿وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سياء بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً﴾ - إلى قوله - ﴿شَدِيدٍ﴾.
والمعنى: ولما جاءت الرسل لوطاً ساءه ذلك، ولم يعرفهم، وخاف من قومه. ﴿وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً﴾: أي: ضاقت نفسه بهم لما يعلم من فسق قومه. فالضمير في " بهم " في الموضعين للرسل.
قال قتادة: قالت الرسل: لا تهلكهم حتى يشهد عليهم لوط، قال: فأتوه، وهو في أرض (له)، يعمل فيها، فقالوا له: إنا متضيفوك الليلة. فانطلق به، فلما مشى، قال: أما بلغكم أمرهم؟ قالوا: وما أمرهم؟ قال: أشهد بالله إنها لشر قرية
وروي أنهم لقوه، وهو يحطب، فسلموا / عليه، فرد عليهم السلام، ثم حمل حزمته، ودعاهم إلى ضيافته. فلما دخل بهم المدينة، مر بقوم فقالوا: هذا مع لوط حاجتنا، قوموا بنا إليهم. فقال لوط: أشهد أنكم قوم سوء، ثم مر بآخرين، فقالوا بمثل ذلك، فشهد لوط عليهم بمثل ذلك، ثم مر بآخرين. فقالوا بمثل ذلك، فشهد عليهم لوط مثل ذلك. فقال جبريل لإسرافيل، وميكائيل، عليهم السلام: هذه ثلاث مرات شهد بها نبيهم عليهم.
وقال السدي: خرجت الملائكة من عند إبراهيم، عليهم السلام، نحو قرية لوط، فأتوها نصف النهار، فلما بلغوا نهر سَدُوم، لقد بنت لوط تستقي من الماء لأهلها، فقالوا لها: يا جارية هل من منزل؟ قالت: نعم، مكانكم حتى آتيكم. فرقت عليهم من قومها، فأتت أباها، فقالت: يا أبتاه: إن أدرك فتْيَاناً على باب المدينة، ما
﴿وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ﴾: أي: يسرعون، وقيل: يسعون، وقيل: يهرولون، فقال لهم لوط: ﴿هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ﴾: أي: شديد شره، عظيم بَلاَؤُهُ.
﴿وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السيئات﴾: أي: من قبل مجيئهم إلى لوط، كانوا يأتون الرجال في أدبارهم، فراودُوه في أضيافه، فقال: ﴿هؤلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ﴾،
وقد قرئ: " وأزواجه أمهاتهم، وهو أب لهم " قرأه ابن مسعود.
قال عكرمة: إنما قال لهم هذا لينصرفوا، ولم يعرض بأحد. وقيل: عرض التزويج عليهم من بناته إن أسْلموا. وقيل: كان في ملتهم جائز أن يتزوج الكافر المسلمة.
وقوله: ﴿أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ﴾: أي: يعرف الحق، فيأمر به. قالوا له: ﴿لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ﴾: أي: هل لنا أزواجاً.
﴿وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ﴾: أي: أضيافك إياهم نريد، قال لهم لوط، عليه السلام، ﴿لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً﴾ أي:
وقال ابن جريج: " بلغنا أنه لم يبعث نبي من بعد لوط، إلا في ثروة من قومه.
وروى أبو هريرة أن النبي ﷺ، قال: " رحمة الله على لوط، إنه كان ليأوي إلى ركن شديد "
وقيل: إن لوطاًَ لما قال ذلك وجدت عليه الملائكة، وقالوا: إن ركنك لشديد.
قوله: ﴿قَالُواْ يالوط إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يصلوا إِلَيْكَ﴾ - إلى قوله - ﴿بِبَعِيدٍ﴾.
والمعنى: قالت له الرسل، لما ضاق، ونزل الركب، فقال لقومه ما قال:
ومن قرأ بالرفع، فالمعنى: " ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك " فيكون قد خرج بها، فالتفتت تنظر ما حل بقولمها، فأصابها ما أصابهم. ومن نصب فعلى الاستثناء.
وفي قراءة ابن مسعود: " فأسر بأهلك إلا امرأتك ". وهذا يدل على الاستثناء، والمعنى: فأسر بأهلك إلا امرأتك، فيكون المعنى: إنه خرج بهم إلا امرأته، وإنه لم يخرج بها. والنهي في الالتفات، إنما وقع على من خرج معه، إلا امرأته ﴿إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمْ﴾ من العذاب.
فلما كانت الساعة التي أهلكوا بها، أدخل جبريل عليه السلام، جناحه، فرفعها حتى سمع أهل السماء صياح الديكة، ونباح الكلاب، فجعل عليها سافلها، وأرسل عليهم حجارة من سجيل. وسمعت امرأة لوط الهَدَّة، فقالت: واقوماه! والتفتت، فأدركتها أحجار، فقتلتها. وكانت مدائنهم خَمْساً، فدمرت إلا زعن وحدها تركها الله تعالى، لآل لوط، وهي بالشام.
قال مجاهد: " سجيل " بالفارسية أولها حجر، وآخرها طين.
وقال قتادة: " سجيل ": طين. وقال ابن عباس: " سجيل ": سنك وجل. فالسنْك: الحجر، والجل: الطين، وهو فارسي أعرب. وقيل: سجيل، من أسجلته، أي: أرسلته، فكأنها مرسلة. وقيل: هي من أسجلت: إذا
وقيل: " سجيل " اسم للسماء الدنيا، أي: أرسل عليهم حجارة من سماء الدنيا. والمعنى: أنها حجارة من كتب الله تعالى، لهم أن يعذبهم بها، ويدل عليه قوله: ﴿وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ﴾ [المطففين: ٨ - ٩]، والنون بدل من اللام.
قال عكرمة: " منضود " (مصفوفة)، وقيل: " منضوط ": متراكب بعضها على بعض.
وقيل المعنى نضد بعضها على بعض.
وقيل: المعنى: إنها في السماء منضودة، أي: مُعدة لهم، يعلق بعضها على بعض.
وقال الحسن: معلمة ببياض، وحمرة.
وقال السدي: المسومة المختمة، ثم قال تعالى: ﴿وَمَا هِيَ مِنَ الظالمين بِبَعِيدٍ﴾: أي: من ظالمي قومك يا محمد، فهذا على التهديد للمشركين. و " هي " تعود على / الحجارة. وقيل: تعود على القرى. وما قرى قوم لوط من ظالمي قومك ببعيد، وكانت قرى قوم لوط بين الشام والمدينة، وأتى ببعيد مذكراً على معنى: بمكان بعيد عند ربك تمام عند أبي حاتم، ﴿مَّنْضُودٍ﴾: وقف عند نافع، وهو قبيح، لأن " مسومة " نعت للحجارة.
والمعنى: وأرسلنا إلى مدين أخاهم شعيباً، فقال لهم: ﴿ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان﴾: أي: " لا تنقصوا الناس حقوقهم في مكيالهم وميزانهم ".
﴿إني أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ﴾: أي: برُخْصٍ في أسْعَارِكُمْ قاله ابن عباس، وقيل: المعنى: أراكم أغنياء، ذوي مال وزينة. " ومدين ": اسم أرض، فلذلك لم ينصرف، لأنه معرفة مؤنثة.
وقال مقاتل: هو اسم رجل في الأصل أعجمي معرفة، وقيل: هو اسم رجل سميت به أمته، فلم ينصرف للتأنيث، والتعريف أيضاً.
قوله: و ﴿وإني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ﴾: أي: محيط بكم عذابه، ثم كرر عليهم الوصية، فقال: ﴿وياقوم أَوْفُواْ المكيال والميزان بالقسط﴾: أي: بالعدل
وقال الضحاك: ﴿وَلاَ تَعْثَوْاْ﴾ أي: لا تسعوا بنقص الكيل، والوزن. ﴿بَقِيَّتُ الله خَيْرٌ لَّكُمْ﴾: أي: ما أبقاه الله لكم من الحلال بعد أن توفوا الناس حقوقهم، خير لكم من الذي يبقى لكم يبخسكم الناس حقوقهم.
﴿إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾: أي: " مصدقين بوعد الله تعالى، ووعيده " وقال مجاهد: ﴿بَقِيَّتُ الله خَيْرٌ لَّكُمْ﴾، أي: طاعة الله خير لكم.
وقيل: المعنى: حظكم من ربكم خير لكم قاله قتادة.
وعن ابن عباس: رزق الله خير لكم. وقيل: المعنى: مراقبة الله خير لكم.
﴿وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ﴾: أي: برقيب. أراقبكم عند كيلكم، ووزنكم، إنما علي أن أبلغكم رسالة ربي.
قوله: ﴿قَالُواْ ياشعيب أصلاتك﴾ - إلى قوله - ﴿وَدُودٌ﴾.
والمعنى: قالوا: يا شعيب: أصلواتك أي: أدعواتك ﴿تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ أَوْ أَن نَّفْعَلَ في أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ﴾ من بخس الناس في الكيل والوزن.
قال ابن زيد: نهاهم عن قطع الدنانير، والدراهم، كانوا ينقصون منها، ويجوزونها بالوازنة. وقيل: معناه: مساجدك التي تتعبد فيها تأمرك بِنَهْيِنَا. وقد سمى الله، تعالى، المساجد صلوات، فقال: ﴿وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيراً﴾ [الحج: ٤٠].
وقيل: هي صلاته لله تعالى، لأنها كانت على خلاف ما كانوا عليه.
قوله: ﴿إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد﴾ قالوا على معنى الاستهزاء. وقيل:
وقيل: المعنى: أنت الحليم، الرشيد، فكيف تأمرنا بترك عيادة ما كان آباؤنا يعبدون، وتنهانا أن نفعل في أموالنا ما نشاء، من قطع، أو بخس، أو غير ذلك. وقال: هو تعريض يُراد به الشتم ومعناه: إنك لأنت السفيه الجاهل.
ثم قال تعالى حكاية عن جواب شعيب لهم: ﴿قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ (إِن كُنتُ على بَيِّنَةٍ) مِّن رَّبِّي﴾: أي: على بيان، وبرهان فيما أدعوكم إليه. ﴿وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً﴾ أي: حلالاً، وجواب / الشرط محذوف لعلم السامع. والمعنى: أفتأمرونني بالعصيان.
وقيل: المعنى: أفلا أنهاكم عن الضلالة.
ثم قال: ﴿وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ﴾: أي: لست أنهاكم عن شيء، وأركبه.
﴿وَمَا توفيقي إِلاَّ بالله﴾: أي: ليس توفيقي، وإصابتي الحق فيما أنهاكم عنه إلا بالله. ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ﴾ أي: فوضت أمري إليه، ﴿وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾: أي: أرجع.
﴿رِزْقاً حَسَناً﴾: وقف عند أبي حاتم. ﴿مَا استطعت﴾: وقف عند نافع.
ثم قال لهم: ﴿وياقوم لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شقاقي﴾: أي: لا يكسبنكم مشاقتي، أي: مخالفتي، وعداوتي، ﴿أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ﴾: من الغرق، ﴿أَوْ قَوْمَ هُودٍ﴾: من العذاب، ﴿أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ﴾: من الرجفة. ﴿وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ﴾ الذين انقلبت عليهم مدائنهم. وأًل الشقاق في اللغة: العداوة.
﴿إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ﴾: أي: رحيم لمن تاب إليه، ﴿وَدُودٌ﴾: أي: ذو محبة لمن تاب وأناب.
قوله: ﴿قَالُواْ ياشعيب مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ﴾ - إلى قوله - ﴿كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ﴾ والمعنى: ما نفقه كثيراً مما تقول.
وقوله: ﴿وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً﴾ أي: قيل: ضعيفاً، قيل: إنه ﷺ، كان أعمى.
قال أبو إسحاق: حمير تسمي المكفوف ضعيفاً.
ويقال: إن شعيباً كان خطيب الأنبياء ﷺ، ( وعليهم أجمعين). ثم قالوا له: ﴿وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ﴾: أي: لولا عشيرتك وأهلك لسبَبْناك. وقيل: معنى " لرجمناك ": لقتلناك رجْماً.
﴿واتخذتموه وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً﴾: أي: تركتم أمر الله سبحانه، خلف ظهوركم، فلا تراقبوه في شيء مما تراقبون قومي. فالضمير في ﴿واتخذتموه﴾ يعود على اسم الله سبحانه، وقيل: يعود على ما جاءهم به شعيب.
﴿إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾: أي: لا يخفى عليه شيء من ذلك، يجازيكم على جميعه.
ثم قال لهم: ﴿وياقوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ﴾: أي: على منازلكم، وقيل:
﴿وارتقبوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ﴾: أي: انتظرونا إني منتظر.
﴿تَعْلَمُونَ﴾: وقف إن جعلت " مَن " استفهاماً ". وقيل: لا يكون وقفاً، لأن الجملة إذا رفعت في موضع نصب " بتعملون " فالوقف عليه قبيح.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً﴾: أي: جاء قومه العذاب / نجيناه
﴿أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ﴾، أي: أبعدهم الله، فبعدوا بُعداً.
﴿كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ﴾، أي: أهلكهم الله، كما هلكت ثمود. وقيل: المعنى: أبعد الله مدين من رحمته، كما أبعد ثمود، يقال: بعِد يبعد: إذا هلك، وبعُد يبعد: إذا تباعد.
قوله: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ﴾ - إلى قوله - ﴿المرفود﴾.
والمعنى: ولقد أرسلنا موسى بالأدلة، والحجة الظاهرة.
﴿إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ﴾ أي: أطراف قومه. ﴿فاتبعوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ﴾: أي: اتبع ملؤه قوله، وكذبوا بما جاء به موسى ﴿وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ﴾: أي: لا يرشد من اتبعه إلى خير، بل يورده جهنم.
وقال ابن عباس: " أضلهم فأوردهم النار، والورد هنا: الدخول " قوله: ﴿وَبِئْسَ الورد المورود﴾: أي: يبس ما أوردهم.
﴿أَمْرُ فِرْعَوْنَ﴾: وقف، وكذلك ﴿فَأَوْرَدَهُمُ النار﴾.
ثم قال تعالى: ﴿وَأُتْبِعُواْ فِي هذه لَعْنَةً﴾: أي: أتبعوا في الدنيا لعنة مع العذاب الذي عجل بهم، وهو الغرق. ﴿وَيَوْمَ القيامة﴾ يلعنون أيضاً، فتلك لعنتان.
﴿بِئْسَ الرفد المرفود﴾: أي: بئس اللعنة بعد اللعنة، وأصل الرفد: العطاء، والمعنى: الذي يقوم لهم مقام العطاء اللعنة، وبئس العطاء ذلك. والتقدير في العربية: بئس الرفد رفْدَ المرفود.
قوله: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ القرى﴾ - إلى قوله - ﴿أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾
المعنى: هذا الذي نقصه عليك، مِن أخبار القرى، منها ما هو عامر، ومنها ما هو خرب، فيه عامر.
وقيل: المعنى: منها ما بقي أثره، ومنها ما لم يبق له أثر. قال ابن جريج: ﴿مِنْهَا قَآئِمٌ﴾: خاوٍ على عروشه، وباق رسمه، ﴿وَحَصِيدٌ﴾: ملزق بالأرض، لا رسم له، وهو معنى قول قتادة، وغير (هـ).
ثم قال تعالى: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن ظلموا أَنفُسَهُمْ﴾: أي: لم نضع العقوبة بهم في
﴿فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ﴾: التي عبدوها، ودعوها من دون الله شيئاً لما جائهم العذاب، وما زادهم آلهتهم ﴿غَيْرَ تَتْبِيبٍ﴾: أي: إلا خسراناً، ونقصاً، وهلاكاً، وتدميراً.
ثم قال تعالى: ﴿وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِيَ ظَالِمَةٌ﴾ أي: وكما أخذ ربك يا محمد هذه القرى بظلمهم، كذلك يأخذ القرى الظالم أهلها، فيهلكهم. (هذه الآية تحذير لهذه الأمة أن تسلك في المعصية طريق من كان قبلها من الأمم) فيحل بهم ما حل بأولئك، وأخذ الله تعالى في سطوته. ﴿إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾: أي: موجع. ومعنى ﴿أَخَذَ القرى﴾: أي: أخذ أهلها.
وقرأ الجحدري: " إذ أخذ القرى ".
والمعنى: إن في أخذه القرى لعظةً، وعبرةً / ممن خاف عذاب الآخرة، وحجة عليه.
﴿ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس﴾: أي: يُحشَر الناس كلهم من قبورهم للجزاء فيه. ﴿(وذلك يَوْمٌ) مَّشْهُودٌ﴾: أي: يشهده الخلق كلهم: أهل السماء، وأهل الأرض، وهو يوم القيامة.
قال ابن عباس: الشاهد محمد ﷺ، والمشهود يومُ القيامة.
ثم قال تعالى: ﴿وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ﴾: أي: ما نؤخره يوم القيامة عنكم إلا لأجل قد قضيتُهُ، وعددتُهُ وأحصيتُهُ. فلا يتقدم اليوم ولا يتأخر.
ثم قال تعالى: ﴿لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَوْمَ يَأْتِ﴾: أي: يوم تقوم الساعة ما تكلم نفس إلا بإذن الله، وهو مثل قوله: ﴿هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ﴾ [المرسلات: ٣٥]. وقد قال في موضع
وقوله: ﴿لاَ يَنطِقُونَ﴾ [النمل: ٨٥، المرسلات: ٣٥] بحجة تجب لهم، وإنما يتكلمون بذنوبهم، ويلوم بعضهم بعضاً بعد أن ينطلق لهم الكلام، بإذنه تعالى في لوم بعضهم بعضاً، لا في حجة يقيمونها لأنفسهم.
﴿فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ﴾: أي: فمن هذه النفوس التي لا تتكلم إلا بإذن الله، سبحانه، شقي وسعيد.
والأشهر أن الضمير في " فمنهم " يعود على الخلق كلهم، على كل نفس. ﴿فَأَمَّا الذين شَقُواْ فَفِي النار لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ﴾: قال ابن عباس: " صوت شديد، (وصوت) ضعيف ".
قال أبو العالية: الزفير في الحلق، والشهيق في الصدر، وروي عنه ضد ذلك.
قال قتادة: " صوت الكافر في النار صوت الحمار، أَوَّله زفيرٌ، وآخره شهيق. وقال أهل اللغة: الزفير مثل: " ابتداء الحمار في النهيق، والشهيق بمنزلة آخر
(ولما نزلت) هذه الآية، قال عمر رضي الله عنهـ: " سألت رسول الله ﷺ، فقلت: يا نبي الله فعلام عملنا؟: على شيء قد فرغ منه؟ أم على شيء لم يُفْرَغْ منه؟ فقال رسول الله ﷺ: على شيء قد فرغ مِنه يا عمر، وجرت به الأقلام، ولكن كل مُيَسَّر لما خلق له ".
قوله: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض﴾: أي: وقت دوام ذلك. ومعنى الآية: أبداً، لأن العرب تقول: لا أكلمك ما دامت السماوات والأرض، وما اختلف الليل والنهار /. فخوطبوا على ما يعلمون، ويفهمون بينهم.
١ - فمن العلماء من قال: " إلا " للاستثناء، استثنى به من الزمان، " فما " على بابها: لما لا يعقل.
٢ - ومنهم من قال: " إلا " بمعنى: " سوى " " وما " على بابها للزمان، فهي في زيادة الخلود.
٣ - ومنهم من قال: " إلا " على بابها، و " ما " بمعنى " من ": جاءت لِمَنْ يعقل، فهي استثناء من الأشخاص والمعذبين الذين يخرجون من النار من المؤمنين. وسنذكر قول من بلغنا (قوله) من العلماء في ذلك.
قال قتادة: " الله أعلم بِثَنِيَّاه. ذُكِر لنا أن ناساً يصيبهم سَفَعٌ من النار
(وقيل: المعنى: إلا ما شاء ربك أن يتجاوز عنه. وذلك في أهل التوحيد) فهو استثناء من الداخلين النار، لا من الخلود. " فإلا " على هذين القولين لللاستثناء، و " ما " بمعنى " من ": استثنى خروج من يدخل النار من المؤمنين.
وقيل: " عنى بذلك أهل النار، وكل من دَخَلَهَا ".
وروي عن ابن مسعود رضي الله عنهـ، أنه قال: " ليأتين على جهنم زمان تَخْفِقُ أبوابها، ليس فيها أحد ".
وقال الشعبي: " جهنم أسرع الدارين عمراناً، وأسرعها خراباً ". وهذان القولان شاذَّان.
وقال ابن زيد: هي مشيئته في الزيادة من العذاب، أو في النقصان، وقد
وقوله تعالى: ﴿فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً﴾ [النبأ: ٣٠]، يدل على أنه في الزيادة. وقال بعض (أهل) العربية: وهو استثناءٌ استثناه، ويفعله، كقولِك: " لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك، وعَزْمِك على ضربه وقال بعضهم: " إلا " هنا: بمعنى سوى. والمعنى: سوى ما شاء الله من الزيادة في الخلود، وهو اختيار أبي بكر. قال: لأن الله تعالى لا خلف لوعده، وقد وصل الاستثناء في أهل الجنة بقوله: ﴿عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾، (فدلّ) على أن الاستثناء إنما هو في زيادة الخلود.
" فما " على بابها، و " إلا " لللاستثناء.
وقول آخر، وهو قول المازني: إنه استثناء إقامتهم، واحتسابهم، ما بين
وقول آخر: وهو أن يكون الاستثناء يراد به من دوام السماوات والأرض في الدنيا.
ومعنى: ﴿مَا دَامَتِ السماوات والأرض إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ﴾ يعني: تعميرهم في الدنيا قبل ذلك.
وقيل: الاستثناء واقع على مقامهم في قبورهم. وقيل: إن معنى الاستثناء في أهل الجنة مخصوص في بعضهم. يراد به: قدر بعث من دخل النار من الموحدين إلى أن رحموا، وأخْرجوا، وأدخلوا الجنة.
وقال ابن زيد: المعنى: " ما دامت الأرض أرضاً، والسماء سماء ". ﴿إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾: أي: لا يمنعه مانع من فعل ما أراد. (قال أبو محمد مكي). وقد أفردنا / كتاباً مفرداً لشرح هذه الآية، وذكرنا فيها من أقاويل
ومن قرأ " سعدوا " بالفتح فهي اللغة الجيدة المشهورة. يقال: ما سعد حتى أسعده الله. وإجماعهم على " شقوا " بالفتح يدل على فتح " سعدوا "، ولو كانت بالضم لقيل: " سعدوا "، ومن قرأ بالضم فهي مكروهة عند أكثر النحويين، واحتج الكسائي في الضم بقولهم: " مسعود: (وهذا) لا حجة فيه له، لأن " فيه " محذوفة منه. يقال: مكان مسعود فيه. واحتج الكسائي بقول العرب: " فغر فاه، وفغر فوه "، وجبر العظم وجبرته، ونزحت البئر ونزحتها: فهذا لا يقاس عليه، إنما يسمع
وكان الكسائي، وغيره حكوها لغة في " أسعد ": تسقط الألف وتضم السين. كقوله: ﴿مَا دَامَتِ السماوات والأرض﴾، وقال في موضع آخر: ﴿يَوْمَ نَطْوِي السمآء كَطَيِّ السجل لِلْكُتُبِ﴾ [الأنبياء: ١٠٤]، وقال: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض﴾ [إبراهيم: ٤٨]. فإن قيل: فما دوام ذلك على هذا؟ فالجواب إن ابن عباس قال: وقد سأله رجل، فقال: يا أبا عبد الله من أي شيء خلقت الأشياء؟ فقال: من خمسة أشياء من نار، وتراب، وريح، وماء، ودخان. فقال له: ومن أي شيء خلقت هذه الخمسة؟ فقال: من نور العرش. فقال له: أفرأيت قول الله تعالى، ﴿ مَا دَامَتِ السماوات والأرض﴾، وقوله: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض﴾ [إبراهيم: ٤٨] وقوله:
ومعنى: ﴿غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾: غير مقطوع، وقيل: غير منزوع.
(شقي وسعيدٌ): وقف. ﴿إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ﴾ وقف عند أبي حاتم في الموضعين. والوقف على الاستثناء في قصة أهل النار جائز وليس بجائز في قصة أهل الجنة، لأن بعده " عطاء " منصوب على المصدر، فما قبله يعمل فيه. فإن نصبته بإضمار فعل وقفت على ما قبله.
الإشارة في هؤلاء إلى مشركي قريش. والمعنى: فلا يكن من آمن بك يا محمد في شك مما يعبده مشركو قريش من الأصنام، إنها باطل. ما يعبدون إلا كعبادة آبائهم من قبل. ﴿وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ﴾ يا محمد ﴿نَصِيبَهُمْ﴾، أي: حظهم من خير وشر. ﴿غَيْرَ مَنقُوصٍ﴾: أي: " لا أنقصهم مما وعدتهم ".
ثم قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب فاختلف فِيهِ﴾: وهذا تسلية من الله تعالى لنبيه عليه السلام، في تكذيب مشركي العرب له، فيما جاءهم به من عند الله تعالى. فالمعنى: آتينا موسى الكتاب، كما آتيناك، ﴿فاختلف فِيهِ﴾: فكذب بعضهم، وصدق بعضهم، كما فعل قومك يا محمد.
﴿وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾ وهو أنه سبق / أن يؤخر عقوبتهم
﴿وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ﴾: أي: وإن الذين كذبوا، لفي شك منه إنه من عند الله. ﴿مُرِيبٍ﴾: أي: " يريبهم، فلا يدرون أحق؟ أم باطل؟ ".
قوله: ﴿وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ﴾ - إلى قوله - ﴿ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ﴾.
قرأ الزهري: " وإن كلاًّ " بالتشديد، لما " بالتنوين مشدداً أيضاً، وقرأ الأعمش: (" وإن كلا " بتخفيف " إنْ "، ورفع " كل " وتشديد " لما ". (وفي حرب أبي ": " وإن كلّ " إلا ليوفينَّ ربك أعمالهم ". وفي حرف ابن
والتقدير: وإن كلاً ليوفينهم. وقراءة من خفف إنْ، ونصب " كلا " على هذا التقدير، إلا أنه، خفف " إن " وأعملها كما يفعل الفعل، وهو محذوف منه.
وأنكر الكسائي التخفيف والعمل.
وقال الفراء: من خف " إن " نصب " كلاً " بقوله: " ليوفينهم، وهذا لا يجوز أن يعمل ما بعد اللام فيما قبلها. ومن شدد " إن " و " لما " فهي غير جائزة عند
قال المبرد: لا يجوز: " أن زيداً إلا لأضربنه ".
وقال الفراء: الأصل " لمن ما "، فاجتمعت ثلاث ميمات عند الإدغام، فحذفت إحداهن. وهذا لا يجوز عند البصريين.
وقال المازني: الأصل التخفيف في " لَما "، ثم ثقلت. وهذا أيضاً لا أصل له، (و) يجوز (تثقيل المخفف)، إلا لمعنى.
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: الأصل " لما " بالتنوين، من لممته لمّا: أي: جمعته، ثم بني منه فَعْلى، كما قرأ: " تثرا، و " تثري ".
وقد قيل: في قراءة من شدد " إنَّ " وخفف " لما ": إنَّ (ما) بمعنى: " من ". وإن المعنى: وإن كلا ﴿لَّمَّا﴾ ليوفينهم ربك أعمالهم، كما قال: ﴿فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء﴾ [النساء: ٣]: أي: ما طاب لكم نكاحه.
وقوله: ﴿إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾: أي: " لا يخفى عليه شيء من عملكم ".
ثم قال تعالى: ﴿فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ﴾: أي: دم يا محمد على ما أنت عليه.
﴿إِنَّهُ بِمَا (تَعْمَلُونَ) بَصِيرٌ﴾: أي: ذو علم، لا يخفى عليه شيء من عملكم. وقال سفيان: معنى ﴿فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ﴾: أي: " استقم على القرآن "، ﴿وَلاَ تَطْغَوْاْ﴾: وقف.
ثم قال تعالى: ﴿وَلاَ تركنوا إِلَى الذين ظَلَمُواْ﴾. قرأ الأعمش ويحيى بن وثاب: " فتمسكم " بكسر التاء.
وقرأ قتادة: ولا تركُنوا بالضم في الكاف، يقال: رَكَنَ يركنُ، وركُنَ يركَنُ. قال ابن عباس: معناه: لا تذهبوا إلى الكفار.
وقال أبو العالية: " لا ترضوا أعمالهم ".
وقال قتادة: لا تلحقوا بالشرك ".
وقال ابن زيد: الركون هنا: / الإذعان. وذلك ألا ينكر عليهم كفرهم، وهذا لأهل الشرك. نهى الله تعالى، المؤمنين أن يميلوا إلى محبتهم، ومصافاتهم، وليس لأهل الإسلام. فأما أهل الذنوب من أهل الإسلام، فقد بينت السنة، والكتاب أنه لا يجوز أن يركن إلى شيء من معاصي الله، ولا يصالح عليها، ولا يقرب.
فالمعنى: ولا تميلوا إلى قول المشركين، فتمسكم النار، (بفعلكم ذلك). ﴿ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ﴾: إن فعلتم. وليس لكم ولِيّ من دون الله، ينقذكم من عذابه.
قوله ﴿وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار وَزُلَفاً مِّنَ اليل﴾ - إلى قوله - ﴿وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ﴾.
وقرأ مجاهد: " وزلفى " مثل " فعلى ". والزلف: الساعات، واحدها زلفة. ومن هذا سميت المزدلفة، لأنها منزل بعد عرفة. وقيل: سميت (بذلك) لازْدِلافِ آدم من عرفة إلى حوَّاء، وهي بها.
ومن أسكن اللام خففها من " زلفى " بالضم. ويعني بالزلف: الساعات القريبة من الليل.
ورُوي عنه: الظهر والعصر، وقيل: عنى بها صلاة المغرب، وهو قول الحسن، وابن زيد.
وروي عن منصور، عن مجاهد أنه قال: ﴿طَرَفَيِ النهار﴾ صلاة الفجر، والظهر، ﴿وَزُلَفاً مِّنَ اليل﴾: المغرب والعشاء.
وقال الضحاك: عنها بها صلاة العصر.
وقال مجاهد: وزلفاً من الليل: أي: ساعات من الليل: صلاة العتمة.
وروي عن الحسن: أنها صلاة المغرب، والعتمة. والاختيار عند الطبري، وغيره أن تكون صلاة المغرب، لأنها طرف، تصى بعد غروب الشمس، كما
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات﴾.
(روى ابن عمر أن النبي ﷺ، قال: " الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن، إذا اجتنبت الكبائر "
" وقال أبو عثمان النهدي: كنت مع سلمان تحت شجرة، فأخذ غصناً منها، فهزَّه حتى تساقط ورقه، ثم ضحك، فقلت: ما أضحكك؟ قال: إني كنت مع رسول الله ﷺ، يوماً تحت شجرة، فأخذ غصناً منها، فهزَّه حتى تساقط ورقه، ثم ضحك. فقلت: ما أضحكك يا رسول الله؟ فقال: أضحكني أن العبد المسلم إذا توضأ وضوءه للصلاة، ثم صلى الصلوات الخمس، تساقطت عنه
وروي عن مجاهد، عن ابن عمر، أنه قال: " ما من مسلم يتوضأ، فيحسن الوضوء، إلا تناثرت عنه خطاياه، كما تتناثر ورق الشجرة اليابسة. ثم تكون صلاته نافلة (له). ثم قرا ابن عمر: ﴿وَأَقِمِ الصلاة﴾ الآية قال ابن عباس وغيره: هي الصلوات الخمس.
وقال مجاهد: هو قولنا: سبحان الله /، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. وقيل: المعنى: أن التوبة تذهب الصغائر. ﴿ذلك ذكرى لِلذَّاكِرِينَ﴾: أي: النهي عن الركون إلى الذين ظلموا، وإقامة الصلاة تذكرة لقوم يذّكرون، وعد الله تعالى،
" وروي أن هذه الآية نزلت في رجل أتى إلى النبي ﷺ، فقال: يا رسول الله! إني وجدت امرأة في بستان قبلتها والتزمتها، ونلْت منها كل شيء إلا الجماع، فافعل بي ما شئت. فأنزل الله ﴿وَأَقِمِ الصلاة﴾ - إلى قوله - ﴿لِلذَّاكِرِينَ﴾. فقال معاذ بن بن جبل: يا رسول الله! أخاصٌّ له أم عام للناس؟ (فقال: بل للناس كافة "
وقال أنس بن مالك، رضي الله عنهـ، " أتى رجل إلى رسول الله ﷺ، فقال
وقيل: المعنى: أن الصلوات الخمس، يكفرن ما بينهن من الذنوب، إذا اجتنبت الكبائر.
ثم قال تعالى لنبيه عليه السلام: ﴿واصبر فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين﴾: أي: " اصبر يا محمد على ما تلقى من مشركي قومك من الأذى ". فالله لا يضيع ثواب من صبر في الله تعالى.
ثم قال تعالى: ﴿فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القرون مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ﴾ أي: فهلاَّ كان من القرون الذين خصصنا خبرهم في هذه السورة، أو لو بقية في الفهم، والعقل، فيعتبرون مواعظ الله تعالى، ويتدبرون حججه، جلت عظمته فينتهون عن الفساد.
وفي الكلام معنى التعجب.
وقوله: ﴿إِلاَّ قَلِيلاً﴾ قليل هو استثناء ليس من الأول.
﴿اتبع الذين ظَلَمُواْ﴾ أي: من دنياهم وبطرهم. والمعنى: اتبعوا ما أبطَرَهُمْ فيه ربهم من نعيم دنياهم، إيثاراً على الآخرة، وما ينجيهم من عذاب الله.
وقال مجاهد: ابتعوا مهلكهم وتَجَبُّرَهُم، وتركوا الحق، واستكبروا عن أمر الله. والمترف في كلام العرب (المُنَعَّمُ في الدنيا) الذي قد غُذِّي باللذات.
﴿وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ﴾: أي: مكتسبين الكفر. ﴿مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ﴾: وقف وقد أجاز أبو حاتم الوقف على الأرض، ورُدَّ ذلك عليه، لأن بعده استثناء.
والمعنى وما كان ربك يا محمد أن يهلك القرى التي قص عليم نبأها (بظلم)، وأهلها مصلحون، ولكن أهلكها بكفرها.
وقيل: المعنى: ما كان الله ليهلكهم بظلمهم، أي: بشركهم، وهم مصلحون، لا يتظالمون بينهم، إنما يهلكهم إذا جمعوا مع الشرك غيره من الفساد. ألا ترى إلى قوله في قوم لوط؟: ﴿وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السيئات﴾ [هود: ٧٨]، يريد الشرك، فعذبهم باللواط الذي أَافوه إلى شركهم. وأخبر الله عن قوم شعيب أنه عذبهم لنقصهم الكيل، وأمسك عن ذكر شركهم، وهذا قول غريب.
وقال الزجاج المعنى: " ما كان ربك ليهلك أحداً، وهو يظلمه كما قال: ﴿إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئاً﴾ [يونس: ٤٤].
ثم قال / تعالى: ﴿وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً﴾: أي: " على مِلَّة واحدة، ودين واحد ".
قال قتادة: كلّهم مسلمين، ﴿وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾: أي لا يزال الناس
وقيل: في المغفرة والرحمة.
﴿إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ﴾: أي: لكن من رحم ربك فإنه غير مختلف. وقيل: ﴿إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ﴾: أهل الإيمان والإسلام.
وقوله: ﴿ولذلك خَلَقَهُمْ﴾ قال الحسن: للاختلاف في الأرزاق خلقهم. وقال ابن عباس: خلقهم فريقين: فريقاً يرحم، وفريقاً لا يرحم يختلف، وذلك قوله: ﴿فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ﴾ [هود: ١٠٥].
وقال عطاء: ولذلك خلقهم: يعني: مؤمناً وكافراً. وقال أشهب: سألت
ففي الكلام على هذا القول تقديم وتأخير، والتقدير: " إلا من رحم ربك، وتمت كلمة ربك لأملأن جهنّم من الجنة والناس أجمعين، ولذلك خلقهم ". وقد كان يجب في قياس العربية على هذا التقدير أن يكون اللفظ: وتمّت كلمته.
وروى ابن وهب: عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما، أنه قال في معنى الآية: خلق الله أهل رحمته لئلا يختلفوا.
وقيل: المعنى: وللرحمة خلقهم. والرحمة، والرحم واحدة، فلذلك ذكر. قاله مجاهد، وقتادة، والضحاك.
وروي أيضاً ذلك عن ابن عباس، وقيل: إنّ هذا متعلق بما قبله، وهو
وقيل: المعنى: وللاسعاد خلقهم، وقيل: للإسعاد والإشقاء خلقهم.
ثم قال تعالى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ﴾: أي: وجبت: ﴿لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ﴾: لما تقدم في علمه أنهم يستوجبون ذلك.
وقوله: ﴿مِنَ الجنة﴾: يعني: ما اجتن عن عيون بني آدم من الجن والناس، يعني: بني آدم أجمعين، وذلك على التوكيد.
وقيل: إنّما سموا " جنة " لأنهم كانوا على الجنان. والملائكة كلهم جنة لاستتارهم.
ثم قال تعالى: ﴿وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرسل﴾: أي: من أخبارهم، وأخبار أممهم يا محمد. نفعل ذلك لنثبت به فؤادك، لأن كلما كثرت البراهين كان القلب أثبت. والفؤاد يُراد به القلب، وهذا كما قال إبراهيم صلوات الله
و" كلا " منصوب ل " نقص "، " وما " بدل من " كل ".
وقال الأخفش: كلا " نصب " على / الحال. وقال غيره: هي منصوبة على المصدر: أي: كل القصص نقص عليك.
ثم قال تعالى: ﴿وَجَآءَكَ فِي هذه الحق وَمَوْعِظَةٌ وذكرى﴾: أي: في هذه السورة. قالَهُ ابن عباس، والحسَن، ومجاهد، وقتادة.
وقيل: في هذه الدنيا، رُويِ ذلك عن قتادة.
والمعنى: وجاءك في هذه السورة الحق، مع ما جاءك في غيرها من السور. وليس
والقسم بأن يوفي لكل عمله، وغير ذلك من الإخبار، والمواعظ، والتحريض على إقامة الصلوات وغير ذلك. وليس إذا كان في هذه الحق فيما لا يكون في غيرها، بل غيرها فيه الحق. وقد اختار قومٌ قول قتادة: إن المعنى: في هذه الدنيا، وموعظة: لمن جهل، (وذكرى) لمن عقل من المؤمنين.
قوله: ﴿وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ﴾ إلى آخر السورة - أي: وقل يا محمد للذين لا يؤمنون بما جئت به، اعلموا على طريقتكم وتمكنكم، وما أنتم عليه، ﴿إِنَّا عَامِلُونَ﴾: على ما نحن عليه من الأعمال التي أمرنا ربنا بها، ﴿وانتظروا﴾ ما وعدكم الشيطان ﴿إِنَّا مُنتَظِرُونَ﴾: ما وعدنا الله.
قال كعب: " خاتمة التوراة خاتمة هود ".