تفسير سورة الحجر

الطبري
تفسير سورة سورة الحجر من كتاب جامع البيان في تأويل آي القرآن المعروف بـالطبري .
لمؤلفه الطبري . المتوفي سنة 310 هـ

تفسير سورة الحجر

بسم الله الرحمن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى: ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١) ﴾
أما قوله جلّ ثناؤه: وتقدّست أسماؤه (الر)، فقد تقدم بيانها فيما مضى قبل. وأما قوله: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ) فإنه يعني: هذه الآيات، آيات الكتب التي كانت قبل القرآن كالتوراة والإنجيل (وقُرآنٍ) يقول: وآيات قرآن (مُبِينٍ) يقول: يُبِين من تأمله وتدبَّره رشدَه وهداه.
كما: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) قال: تبين والله هداه ورشده وخيره.
حدثنا المثنى، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن مجاهد (الر) فواتح يفتتح بها كلامه (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ) قال: التوراة والإنجيل.
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا هشام، عن عمرو، عن سعيد، عن قتادة، في قوله (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ) قال: الكتُب التي كانت قبل القرآن.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (٢) ﴾
اختلفت القراء في قراءة قوله (رُبَمَا) فقرأت ذلك عامة قرّاء أهل المدينة وبعض الكوفيين (رُبَمَا) بتخفيف الباء، وقرأته عامة قرّاء الكوفة والبصرة بتشديدها.
والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان، ولغتان معروفتان بمعنى واحد، قد قرأ بكلّ واحدة منهما أئمة من القرّاء، فبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيب.
59
واختلف أهل العربية في معنى "ما" التي مع "ربّ"، فقال بعض نحويي البصرة: أدخل مع ربّ "ما" ليتكلم بالفعل بعدها، وإن شئت جعلت "ما" بمنزلة شيء، فكأنك قلت: ربّ شيء، يود: أي ربّ ودّ يودّه الذين كفروا. وقد أنكر ذلك من قوله بعض نحويِّي الكوفة، وقال: المصدر لا يحتاج إلى عائد، والودّ قد وقع على "لو"، ربما يودون لو كانوا: أن يكونوا، قال: وإذا أضمر الهاء في "لو" فليس بمفعول، وهو موضع المفعول، ولا ينبغي أن يترجم المصدر بشيء، وقد ترجمه بشيء، ثم جعله ودّا، ثم أعاد عليه عائدا. فكان الكسائي والفرّاء يقولان: لا تكاد العرب توقع "ربّ" على مستقبل، وإنما يوقعونها على الماضي من الفعل كقولهم: ربما فعلت كذا، وربما جاءني أخوك، قالا وجاء في القرآن مع المستقبل: ربما يودّ، وإنما جاز ذلك لأن ما كان في القرآن من وعد ووعيد وما فيه، فهو حقّ كأنه عيان، فجرى الكلام فيما لم يكن بعد مجراه فيما كان، كما قيل (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) وقوله (وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ) كأنه ماض وهو منتظر لصدقه في المعنى، وأنه لا مكذّب له، وأن القائل لا يقول إذا نَهَى أو أمر فعصاه المأمور يقول: أما والله لربّ ندامة لك تذكر قولي فيها لعلمه بأنه سيندم، والله ووعده أصدق من قول المخلوقين. وقد يجوز أن يصحب ربما الدائم وإن كان في لفظ يفعل، يقال: ربما يموت الرجل فلا يوجد له كفن، وإن أُوليت الأسماء كان معها ضمير كان، كما قال أبو داود:
رُبَّمَا الجامِلُ المُؤَبَّل فِيهِمُ وعناجِيجُ بَيْنَهُنَّ المِهَارُ (١)
(١) البيت لأبي داود الإيادي (خزانة الأدب ٤: ١٨٨) وهو شاهد على أن رب المكفوفة بما لا تدخل إلا على الفعل عند سيبويه، وهذا البيت شاذ عنده، لدخول رب المكفوفة فيه على الجملة الإسمية، فإن الجامل مبتدأ والمؤبل صفة وفيهم هو الخبر، وتكون رب كما قال أبو حيان من حروف الابتداء، تدخل على الجمل فعلية أو اسمية للقصد إلى تقليل النسبة المفهومة من الجملة، فإذا قلت: ربما قام زيد فكأنك قللت النسبة المفهومة من قيام زيد، وكذلك إذا قلت ربما زيد شاعر، قللت نسبة شعر زيد، وعن بعضهم أن رب المكفوفة نقلت من معنى التقليل إلى معنى التحقيق، كما نقلت قد الداخلة على المضارع في نحو قوله تعالى " قد يعلم ما أنتم عليه " من معنى التقليل إلى معنى التحقيق. ودخولها على الجملة الاسمية مذهب المبرد والزمخشري وابن مالك. والجامل: الجماعة من الإبل، لا واحد لها من لفظها ويقال إبل مؤبلة: إذا كان للقنية، والعناجيج: الخيل الطوال الأعناق، واحدها: عنجوج، والمهار: جمع مهر، وهو ولد الفرس، والأنثى مهرة.
60
فتأويل الكلام: ربما يودّ الذين كفروا بالله فجحدوا وحدانيته لو كانوا في دار الدنيا مسلمين.
كما حدثنا عليّ بن سعيد بن مسروق الكندي، قال: ثنا خالد بن نافع الأشعري، عن سعيد بن أبي بردة، عن أبي بردة، عن أبي موسى، قال: بلغنا أنه إذا كان يوم القيامة، واجتمع أهل النار في النار ومعهم من شاء الله من أهل القبلة، قال الكفار لمن في النار من أهل القبلة: ألستم مسلمين؟ قالوا: بلى، قالوا: فما أغنى عنكم إسلامكم وقد صرتم معنا في النار؟ قالوا: كانت لنا ذنوب فأخذنا بها، فسمع الله ما قالوا، فأمر بكل من كان من أهل القبلة في النار فأخرجوا، فقال من في النار من الكفار: يا ليتنا كنا مسلمين، ثم قرأ رسول الله ﷺ (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ).
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا عمرو بن الهيثم أبو قَطن القُطْعيّ، ورَوح القيسيّ، وعفان بن مسلم واللفظ لأبي قَطن قالوا: ثنا القاسم بن الفضل بن عبد الله بن أبي جروة، قال: كان ابن عباس وأنس بن مالك يتأولان هذه الآية (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) قالا ذلك يوم يجمع الله أهل الخطايا من المسلمين والمشركين في النار. وقال عفان: حين يحبس أهل الخطايا من المسلمين والمشركين، فيقول المشركون: ما أغنى عنكم ما كنتم تعبدون، زاد أبو قطن: قد جُمِعنا وإياكم، وقال أبو قَطن وعفان: فيغضب الله لهم بفضل رحمته، ولم يقله روح بن عبادة، وقالوا جميعا: فيخرجهم الله، وذلك حين يقول الله (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ).
حدثنا الحسن، قال: ثنا عفان، قال: ثنا أبو عوانة، قال: ثنا عطاء بن السائب، عن مجاهد، عن ابن عباس، في قوله (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) قال: يدخل الجنة ويرحم حتى يقول في آخر ذلك: من كان
61
مسلما فليدخل الجنة، قال: فذلك قوله (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ).
حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) ذلك يوم القيامة يتمنى الذين كفروا لو كانوا موحدين.
حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان عن سلمة بن كهيل، عن أبي الزعراء، عن عبد الله، في قوله (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) قال: هذا في الجهنميين إذا رأوهم يخرجون من النار.
حدثني المثنى، قال: أخبرنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا ابن أبي فروة العبدي أن ابن عباس وأنس بن مالك كانا يتأوّلان هذه الآية (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) يتأوّلانها يوم يحبس الله أهل الخطايا من المسلمين مع المشركين في النار، قال: فيقول لهم المشركون: ما أغنى عنكم ما كنتم تعبدون في الدنيا، قال: فيغضب الله لهم بفضل رحمته، فيخرجهم، فذلك حين يقول (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ)
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن عطاء بن السائب، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: ما يزال الله يُدخل الجنة، ويرحم ويشفع حتى يقولَ: من كان من المسلمين فليدخل الجنة، فذلك قوله (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ).
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن هشام الدَّستوائي، قال: ثنا حماد، قال: سألت إبراهيم عن هذه الآية (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) قال: حدثت أن المشركين قالوا لمن دخل النار من المسلمين: ما أغنى عنكم ما كنتم تعبدون، قال: فيغضب الله لهم، فيقول للملائكة والنبيين: اشفعوا، فيشفعون، فيخرجون من النار، حتى إن إبليس ليتطاول رجاء أن يخرج معهم، قال: فعند ذلك يودّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين.
حدثني المثنى، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن إبراهيم، أنه قال في قول الله عزّ وجلّ: (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) قال: يقول
62
من في النار من المشركين للمسلمين: ما أغنت عنكم "لا إله إلا الله" قال: فيغضب الله لهم، فيقول: من كان مسلما فليخرج من النار، قال: فعند ذلك (يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ).
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن حماد، عن إبراهيم في قوله (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) قال: إن أهل النار يقولون: كنا أهل شرك وكفر، فما شأن هؤلاء الموحدين ما أغنى عنهم عبادتهم إياه، قال: فيخرج من النار من كان فيها من المسلمين. قال: فعند ذلك (يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ).
حدثنا الحسن بن يحيى، أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوريّ، عن حماد، عن إبراهيم، عن خصيف، عن مجاهد، قال: يقول أهل النار للموحدين: ما أغنى عنكم إيمانكم؟ قال: فإذا قالوا ذلك، قال: أخرجوا من كان في قلبه مثقال ذرّة، فعند ذلك (يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ).
حدثني المثنى، قال: ثنا مسلم، قال: ثنا هشام، عن حماد، قال: سألت إبراهيم عن قول الله عزّ وجلّ (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) قال: الكفار يعيرون أهل التوحيد: ما أغنى عنكم لا إله إلا الله، فيغضب الله لهم، فيأمر النبيين والملائكة فيشفعون، فيخرج أهل التوحيد، حتى إن إبليس ليتطاول رجاء أن يخرج، فذلك قوله (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ).
حدثنا أحمد، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا عبد السلام، عن خصيف، عن مجاهد، قال: هذا في الجهنميين، إذا رأوهم يخرجون من النار (يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ).
حدثني المثنى، قال: ثنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا حماد، عن عطاء بن السائب، عن مجاهد، قال: إذا فرغ الله من القضاء بين خلقه، قال: من كان مسلما فليدخل الجنة، فعند ذلك (يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ).
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، وحدثني الحسن، قال: ثنا شبابة،
63
قال: ثنا ورقاء، وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) قال: يوم القيامة.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا عبد الوهاب بن عطاء، عن جويبر، عن الضحاك في قوله (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) قال: فيها وجهان اثنان، يقولون: إذا حضر الكافر الموت ودّ لو كان مسلما. ويقول آخرون: بل يعذّب الله ناسا من أهل التوحيد في النار بذنوبهم، فيعرفهم المشركون فيقولون: ما أغنت عنكم عبادة ربكم، وقد ألقاكم في النار، فيغضب لهم فيخرجهم، فيقول (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ).
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، في قوله (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) قال: نزلت في الذين يخرجون من النار.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) وذلك والله يوم القيامة، ودّوا لو كانوا في الدنيا مسلمين.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) (١).
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن عطاء، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: ما يزال الله يدخل الجنة ويشفع حتى يقول: من كان من المسلمين فليدخل الجنة، فذلك حين يقول (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ).
(١) أي بمثل حديث بشر قبله، لأن كلا الإسنادين ينتهي إلى قتادة.
64
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣) ﴾
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ذر يا محمد هؤلاء المشركين يأكلوا في هذه الدنيا ما هم آكلوه، ويتمتعوا من لذاتها وشهواتهم فيها إلى أجلهم الذي أجلت لهم، ويلههم الأمل عن الأخذ بحظهم من طاعة الله فيها، وتزوّدهم لمعادهم منها بما يقربهم من ربهم، فسوف يعلمون غدا إذا وردوا عليه. وقد هلكوا على كفرهم بالله وشركهم حين يُعاينون عذاب الله أنهم كانوا من تمتعهم بما كانوا يتمتعون فيها من اللذّات والشهوات كانوا في خسار وتباب.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (٤) ﴾
يقول تعالى ذكره (وَمَا أَهْلَكْنَا) يا محمد (مِنْ) أهل (قَرْيَةٍ) من أهل القرى التي أهلكنا أهلها فيما مضى (إِلا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ) يقول: إلا ولها أجل مؤقَّت ومدة معروفة، لا نهلكهم حتى يبلغوها، فإذا بلغوها أهلكناهم عند ذلك، فيقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فكذلك أهل قريتك التي أنت منها وهي مكة، لا نهلك مشركي أهلها إلا بعد بلوغ كتابهم أجله، لأن مِنْ قضائي أن لا أهلك أهل قرية إلا بعد بلوغ كتابهم أجله.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (٥) ﴾
يقول تعالى ذكره: ما يتقدّم هلاك أمة قبل أجلها الذي جعله الله أجلا لهلاكها، ولا يستأخر هلاكها عن الأجل الذي جعل لها أجلا.
كما حدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، في قوله (مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ) قال: نرى أنه إذا حضر أجله، فإنه لا يؤخر ساعة ولا يقدّم. وأما ما لم يحضر أجله، فإن الله يؤخر ما شاء ويقدّم ما شاء.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نزلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) ﴾
يقول تعالى ذكره: وقال هؤلاء المشركون لك من قومك يا محمد (يَا أَيُّهَا الَّذِي نزلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) وهو القرآن الذي ذكر الله فيه مواعظ خلقه (إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) في دعائك إيانا إلى أن نتَّبعك، ونذر آلهتنا (لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ) قالوا: هلا تأتينا بالملائكة شاهدة لك على صدق ما تقول؟ (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) يعني: إن كنت صادقا في أن الله تعالى بعثك إلينا رسولا وأنزل عليك كتابا، فإن الربّ الذي فعل ما تقول بك، لا يتعذّر عليه إرسال ملك من ملائكته معك حجة لك علينا، وآية لك على نبوّتك، وصدق مقالتك: والعرب تضع موضع لوما: لولا وموضع لولا لوما، من ذلك قول ابن مقبل:
لَوْما الحَياءُ وَلَوْمَا الدّينُ عِبْتُكما ببَعْضِ ما فيكُما إذْ عِبْتُمَا عَوَرِي (١)
يريد: لولا الحياء.
وبنحو الذي قلنا في معنى الذكر قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: (نزلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) قال: القرآن.
(١) البيت لابن مقبل من كلمة له، من أولها أبيات في الحماسة (د: ١١٣) وهو شاهد على أن (لوما) تستعمل بمعنى لولا: في امتناع الشيء لوجود غيره، وهي في الآية: بمعنى التحضيض، قال أبو عبيدة في معاني القرآن: " لوما " مجازها ومجاز " لولا " واحد. واستشهد ببيت ابن مقبل، وعنه أخذه المؤلف.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿مَا نُنزلُ الْمَلائِكَةَ إِلا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (٨) ﴾
اختلفت القرّاء في قراءة قوله (مَا نُنزلُ الْمَلائِكَةَ) فقرأ ذلك عامَّة قرّاء المدينة والبصرة (مَا تُنزلُ المَلائِكَةُ) بالتاء تُنزلُ وفتحها ورفع الملائكة، بمعنى: ما تنزل الملائكة، على أن الفعل للملائكة. وقرأ ذلك عامَّة قرّاء أهل الكوفة (مَا نُنزلُ الْمَلائِكَةَ) بالنون في ننزل وتشديد الزاي ونصب الملائكة، بمعنى: ما ننزلها نحن، والملائكة حينئذ منصوب بوقوع ننزل عليها. وقرأه بعض قراء أهل الكوفة (مَا تُنزلُ المَلائِكَةُ) برفع الملائكة والتاء في تنزل وضمها، على وجه ما لم يسمّ فاعله.
قال أبو جعفر: وكلّ هذه القراءات الثلاث متقاربات المعاني، وذلك أن الملائكة إذا نزلها الله على رسول من رسله تنزلت إليه، وإذا تنزلت إليه، فإنما تنزل بإنزال الله إياها إليه، فبأي هذه القراءات الثلاث قرأ ذلك القارئ فمصيب الصواب في ذلك، وإن كنت أحبّ لقارئه أن لا يعدو في قراءته إحدى القراءتين اللتين ذكرت من قراءة أهل المدينة، والأخرى التي عليها جمهور قراء الكوفيين، لأن ذلك هو القراءة المعروفة في العامَّة، والأخرى: أعني قراءة من قرأ ذلك: (مَا تُنزلُ) بضم التاء في تنزل ورفع الملائكة شاذّة قليل من قرأ بها.
فتأويل الكلام: ما ننزل ملائكتنا إلا بالحقّ، يعني بالرسالة إلى رسلنا، أو بالعذاب لمن أردنا تعذيبه. ولو أرسلنا إلى هؤلاء المشركين على ما يسألون إرسالهم معك آية فكفروا لم يُنظروا فيؤخروا بالعذاب، بل عوجلوا به كما فعلنا ذلك بمن قبلهم من الأمم حين سألوا الآيات فكفروا حين آتتهم الآيات، فعاجلناهم بالعقوبة.
وبنحو الذي قلنا في قوله (مَا نُنزلُ الْمَلائِكَةَ إِلا بِالْحَقِّ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، وحدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا ورقاء، وحدثني المثنى، قال:
ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (مَا نُنزلُ الْمَلائِكَةَ إِلا بِالْحَقِّ) قال: بالرسالة والعذاب.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (٩) ﴾
يقول تعالى ذكره: (إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ) وهو القرآن (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) قال: وإنا للقرآن لحافظون من أن يزاد فيه باطل مَّا ليس منه، أو ينقص منه ما هو منه من أحكامه وحدوده وفرائضه، والهاء في قوله: (لَهُ) من ذكر الذكر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، وحدثني الحسن، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا ورقاء، وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) قال: عندنا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)، قال في آية أخرى (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ) والباطل: إبليس (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) فأنزله الله ثم حفظه، فلا يستطيع إبليس أن يزيد فيه باطلا ولا ينتقص منه حقا، حفظه الله من ذلك.
حدثني محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) قال: حفظه الله من أن يزيد فيه الشيطان باطلا أو
ينقص منه حقا، وقيل: الهاء في قوله (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) من ذكر محمد ﷺ بمعنى: وإنا لمحمد حافظون ممن أراده بسوء من أعدائه.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأوَّلِينَ (١٠) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (١١) ﴾
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ولقد أرسلنا يا محمد من قبلك في الأمم الأوّلين رسلا وترك ذكر الرسل اكتفاء بدلالة قوله (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ) عليه، وعنى بشيع الأوّلين: أمم الأوّلين: واحدتها شيعة، ويقال أيضا لأولياء الرجل: شيعته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأوَّلِينَ) يقول: أمم الأولين.
حدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا هشام، عن عمرو، عن سعيد، عن قتادة، في قوله (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأوَّلِينَ) قال: في الأمم.
وقوله (وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) يقول: وما يأتي شيع الأوّلين من رسول من الله يرسله إليهم بالدعاء إلى توحيده، والإذعان بطاعته، إلا كانوا به يستهزءون: يقول: إلا كانوا يسخرون بالرسول الذي يرسله الله إليهم عتُوّا منهم وتمرّدا على ربهم.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ (١٣) ﴾
69
يقول تعالى ذكره: كما سلكنا الكفر في قلوب شيع الأولين بالاستهزاء بالرسل، كذلك نفعل ذلك في قلوب مشركي قومك الذين أجرموا بالكفر بالله (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) يقول: لا يصدّقون بالذكر الذي أنزل إليك، والهاء في قوله (نَسْلُكُهُ) من ذكر الاستهزاء بالرسل والتكذيب بهم.
كما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج (كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) قال: التكذيب.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) لا يؤمنون به، قال: إذا كذبوا سلك الله في قلوبهم أن لا يؤمنوا به.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن حميد، عن الحسن، في قوله (كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) قال: الشرك.
حدثني المثنى، قال: ثنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن حميد، قال: قرأت القرآن كله على الحسن في بيت أبي خليفة، ففسره أجمع على الإثبات، فسألته عن قوله (كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) قال: أعمال سيعملونها لم يعملوها.
حدثني المثنى، قال: ثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك عن حماد بن سلمة، عن حميد الطويل، قال: قرأت القرآن كله على الحسن، فما كان يفسره إلا على الإثبات، قال: وقفته على نسلكه، قال: الشرك، قال: ابن المبارك: سمعت سفيان في قوله (نَسْلُكُهُ) قال: نجعله.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله (كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) قال: هم كما قال الله، هو أضلهم ومنعهم الإيمان، يقال منه: سلكه يسلكه سلكا وسلوكا، وأسلكه يسلكه إسلاكا، ومن السلوك قول عديّ بن زيد:
70
وكنْت لِزَازَ خَصْمِكَ لَمْ أعرّدْ وَقَدْ سَلَكوكَ فِي يَوْم عَصِيبٍ (١)
ومن الإسلاك قول الآخر:
حتى إذَا أسْلَكُوهُمْ في قُتَائِدَةٍ شَلا كَما تَطْرد الجَمالَة الشردَا (٢)
وقوله (وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ) يقول تعالى ذكره: لا يؤمن بهذا القرآن قومك الذين سلكت في قلوبهم التكذيب (حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ) أخذا منهم سنة أسلافهم من المشركين قبلهم من قوم عاد وثمود وضربائهم من الأمم التي كذّبت رسلها، فلم تؤمن بما جاءها من عند الله حتى حلّ بها سخط الله فهلكت.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ) وقائع الله فيمن خلا قبلكم من الأمم.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥) ﴾
(١) البيت لعدي بن زيد العبادي، وقد تقدم واستشهد المؤلف به عند قوله تعالى في سورة هود "وقال هذا يوم عصيب " فراجعه في الجزء الثاني عشر صفحة ٨٢. والشاهد فيه هنا: أنه اشتق سلكوك من المصدر الثلاثي (السلك).
(٢) البيت لعبد مناف بن ربعي الهذلي (اللسان: جمل) استشهد به المؤلف على أن " أسلكوهم " بالهمزة في أوله لغة مثل سلوكهم التي وردت في البيت السابق من شعر عدي بن زيد، والبيت أيضا في (خزانة الأدب للبغدادي ٣: ١٧٠) شاهد على أن جواب إذا عند الرضى شارح كافية ابن الحاجب محذوف لتفخيم الأمر، والتقدير: بلغوا أملهم؛ أو أدركوا ما أحبوا ونحو ذلك، وقيل فيه وجهان آخران، قال البغدادي وأسلك: لغة في سلك، يقال أسلكت الشيء في الشيء، مثل سلكته فيه، بمعنى أدخلته فيه، وقتائدة: ثنية، وقال البكري: جبل بين المنصرف والروحاء، والشل: الطرد، والجمالة: فاعلي تطرد، وهم أصحاب الجمال، كما يقال الحمارة لأصحاب الحمير، والشرد: جمع شرود، أي من الجمال.
71
اختلف أهل التأويل في المعنيين بقوله (فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ) فقال بعضهم: معنى الكلام: ولو فتحنا على هؤلاء القائلين لك يا محمد (لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) بابا من السماء فظلت الملائكة تعرج فيه وهم يرونهم عيانا (لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ).
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ) يقول: لو فتحنا عليهم بابا من السماء، فظلت الملائكة تعرج فيه، لقال أهل الشرك: إنما أخذ أبصارنا، وشبِّه علينا، وإنما سحرنا، فذلك قولهم: (لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ).
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن ابن عباس (فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ) فظلت الملائكة يعرجون فيه يراهم بنو آدم عيانا (لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ).
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله (يَا أَيُّهَا الَّذِي نزلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) قال: ما بين ذلك إلى قوله (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ) قال: رجع إلى قوله (لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ) ما بين ذلك. قال ابن جريج، قال ابن عباس: فظلت الملائكة تعرج فنظروا إليهم (لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا) قال: قريش تقوله.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ) قال: قال ابن عباس: لو فتح الله عليهم من السماء بابا فظلت الملائكة تعرج فيه، يقول: يختلفون فيه جائين وذاهبين (لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا).
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ
72
فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ) يعني: الملائكة: يقول: لو فتحتُ على المشركين بابا من السماء، فنظروا إلى الملائكة تعرج بين السماء والأرض، لقال المشركون (نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) سحرنا وليس هذا بالحقّ. ألا ترى أنهم قالوا قبل هذه الآية (لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ).
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا هشام، عن عمر، عن نصر، عن الضحاك، في قوله (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ) قال: لو أني فتحت بابا من السماء تعرج فيه الملائكة بين السماء والأرض، لقال المشركون (بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) إلا ترى أنهم قالوا (لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ).
وقال آخرون: إنما عُني بذلك: بنو آدم.
ومعنى الكلام عندهم: ولو فتحنا على هؤلاء المشركون من قومك يا محمد بابا من السماء فظلوا هم فيه يعرجون (لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا).
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ) قال قتادة، كان الحسن يقول: لو فعل هذا ببني آدم فظلوا فيه يعرجون أي يختلفون (لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ).
وأما قوله (يَعْرُجُونَ) فإن معناه: يرقَوْن فيه ويَصْعَدون، يقال منه: عرج يعرُج عُروجا إذا رَقَى وصَعَد، وواحدة المعارج: معرج ومعراج، ومنه قول كثير:
إلى حَسَبٍ عَوْدٍ بَنا الْمرءَ قبْلَهُ أبُوهُ لَهُ فِيه مَعارِجَ سُلَّمِ (١)
وقد حُكي عرِج يعرج بكسر الراء في الاستقبال. وقوله (لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا) يقول: لقال هؤلاء المشركون الذين وصف جلّ ثناؤه صفتهم:
(١) لم أجد البيت في ديوان كثير طبع الجزائر، والحسب: الشرف الثابت في الآباء، والعود: القديم، وبنا (بالألف)، بينو لأنه من بناء الشرف والمجد، والمعارج: جمع معرج (بكسر الميم وفتحها) وهو ما يعرج فيه، أي يصعد.
73
ما هذا بحقّ إنما سكِّرت أبصارنا.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله (سُكِّرَتْ) فقرأ أهل المدينة والعراق: (سُكِّرَتْ) بتشديد الكاف، بمعنى: غُشيت وغطيت، هكذا كان يقول أبو عمرو بن العلاء فيما ذُكر لي عنه. وذُكر عن مجاهد أنه كان يقرأ (لَقالُوا إنَّمَا سُكِرَتْ).
حدثني بذلك الحرث، قال: ثنا القاسم، قال: سمعت الكسائي يحدّث عن حمزة، عن شبل، عن مجاهد أنه قرأها (سُكِرَتْ أَبْصارُنا) خفيفة، وذهب مجاهد في قراءته ذلك كذلك إلى: حُبست أبصارنا عن الرؤية والنظر من سكور الريح، وذلك سكونها وركودها، يقال منه: سكرت الريح: إذا سكنت وركدت. وقد حُكي عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يقول: هو مأخوذ من سكر الشراب، وأن معناه: قد غشَّى أبصارنا السكر.
وأما أهل التأويل، فإنهم اختلفوا في تأويله، فقال بعضهم: معنى (سُكِّرَتْ) : سدّت.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا ورقاء، وحدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا ورقاء، وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، وحدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا) قال: سدّت.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا حجاج، يعني ابن محمد، عن ابن جريج، قال: أخبرني ابن كثير قال: سدّت.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله (سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا) يعني: سدّت، فكأن مجاهدا ذهب في قوله، وتأويله ذلك بمعنى: سدّت، إلى أنه بمعنى: منعت النظر، كما يُسكر الماء فيمنع من الجري بحبسه في مكان بالسكر الذي يسَّكر به.
وقال آخرون: معنى سكرت: أخذت.
74
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، عن ابن عباس (لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا) يقول: أخذت أبصارنا.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، إنما أخذ أبصارنا، وشبَّه علينا، وإنما سحرنا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة (لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا) يقول: سُحرت أبصارنا، يقول: أخذت أبصارنا.
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرحمن بن أبي حماد، قال: ثنا شيبان، عن قتادة، قال: من قرأ (سُكِّرَتْ) مشددة: يعني سدّت، ومن قرأ (سُكرَتْ) مخففة، فإنه يعني سحرت، وكأن هؤلاء وجَّهوا معنى قوله (سُكِّرَتْ) إلى أن أبصارهم سُحرت، فشبه عليهم ما يبصرون، فلا يميزون بين الصحيح مما يرون وغيره من قول العرب: سُكِّر على فلان رأيه: إذا اختلط عليه رأيه فيما يريد، فلم يدر الصواب فيه من غيره، فإذا عزم على الرأي قالوا: ذهب عنه التسكير.
وقال آخرون: هو مأخوذ من السكر، ومعناه: غشي على أبصارنا فلا نبصر، كما يفعل السكر بصاحبه، فذلك إذا دير به وغشي بصره كالسمادير فلم يبصر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا) قال: سكرت، السكران الذي لا يعقل.
وقال آخرون: معنى ذلك: عميت.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا عبد الوهاب بن عطاء، عن الكلبي (سُكِّرَتْ) قال: عميت.
وأولى هذه الأقوال بالصواب عندي قول من قال: معنى ذلك: أخذت أبصارنا وسحرت، فلا تبصر الشيء على ما هو به، وذهب حدّ إبصارها،
75
وانطفأ نوره، كما يقال للشيء الحارّ إذا ذهبت فورته، وسكن حدّ حرّه، قد سكر يسكر، قال المثنى بن جندل الطُّهوي:
جاءَ الشِّتاءُ واجْثَألَّ القُبَّرُ واستَخْفَتِ الأفْعَى وكانت تَظْهَرُ
وجَعَلَتْ عينُ الحَرُور تَسْكُرُ (١)
أي تسكن وتذهب وتنطفئ، وقال ذو الرّمَّة:
قَبْلَ انْصِداعِ الفَجْرِ والتَّهَجْرِ وخَوْضُهُنَّ اللَّيلَ حينَ يَسْكُرُ (٢)
يعني: حين تسكن فورته. وذُكر عن قيس أنها تقول: سكرت الريح تسكر سكورا، بمعنى: سكنت، وإن كان ذلك عنها صحيحا، فإن معنى سُكِرَت وسُكِّرَتْ بالتخفيف والتشديد متقاربان، غير أن القراءة التي لا أستجيز غيرها في القرآن (سُكِّرَتْ) بالتشديد لإجماع الحجة من القراء عليها، وغير جائز خلافها فيما جاءت به مجمعة عليه.
(١) هذه ثلاثة أبيات لجندل بن المثنى الطهوي، واجثأل: اجتمع وتقبض، والقبر كالقنبر: ضرب من الطير كالعصافير، واحده قبرة وقنبرة، والحرور: الحر. ويقال سكرت عينه تسكر: إذا تحيرت وسكنت عن النظر وسكر الحر يسكر: سكن وخبأ، وقد استشهد بها أبو عبيدة في مجاز القرآن (١: ٣٣٧، ٣٣٨) عند قوله تعالى " سكرت أبصارنا " قال: أي غشيت سمادير، فذهبت وخبا نظرها، قال: جاء الشتاء، الخ وزاد فيها بيتا قبل الآخر، وهو: " وطلعت شمس عليها مغفر ". وفسر البيت الأخير وهو الشاهد بقوله: أي يذهب حرها ويخبو. وقال أبو عمرو بن العلاء: " سكرت أبصارنا ": مأخوذ عن سكر الشراب، كأن العين لحقها ما يلحق شارب المسكر إذا سكر، وقال الفراء، معناه: حبست ومنعت عن النظر.
(٢) البيت في ديوان ذي الرمة (طبعة كيمبردج سنة ١٩١٩) ص ٢٠٢ وقبله:
أتَتْكَ بالقَوْمِ مَهارٍ ضُمَّرُ خُوصٌ بَرَى أشْرافَها التَّبَكُّرُ
خوص: غائرات العيون، وأشرافها: أسنمَها، والتبكر: سير البكرة، والتهجو: سير الهاجرة، ويسكر: يتسكر الأبصار بظلامه، قوله: والتهجر، بالرفع: معطوف على قوله التبكر، في البيت السابق عليه.
76
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (١٦) ﴾
يقول تعالى ذكره: ولقد جعلنا في السماء الدنيا منازل للشمس والقمر،
وهي كواكب ينزلها الشمس والقمر (وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ) يقول: وزينا السماء بالكواكب لمن نظر إليها وأبصرها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، وحدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا ورقاء، وحدثني المثنى، قال: أخبرنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، وحدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا) قال: كواكب.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا) وبروجها: نجومها.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (بُرُوجا) قال: الكواكب.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (١٨) ﴾
يقول تعالى ذكره: وحفظنا السماء الدنيا من كلّ شيطان لعين قد رجمه الله ولعنه (إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ) يقول لكن قد يسترق من الشياطين السمع مما يحدث في السماء بعضها، فيتبعه شهاب من النار مبين، يبين أثره فيه، إما بإخباله وإفساده، أو بإحراقه.
وكان بعض نحويي أهل البصرة يقول في قوله (إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ) هو استثناء خارج، كما قال: ما أشتكي إلا خيرا، يريد: لكن أذكر خيرا. وكان ينكر ذلك من قيله بعضهم، ويقول: إذا كانت إلا بمعنى لكن عملت عمل
77
لكن، ولا يحتاج إلى إضمار أذكر، ويقول: لو احتاج الأمر كذلك إلى إضمار أذكر احتاج قول القائل: قام زيد لا عمرو إلى إضمار أذكر.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا عفان بن مسلم، قال: ثنا عبد الواحد بن زياد، قال: ثنا الأعمش عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: تصعد الشياطين أفواجا تسترق السمع، قال: فينفرد المارد منها فيعلو، فيرمى بالشهاب، فيصيب جبهته أو جنبه، أو حيث شاء الله منه، فيلتهب فيأتي أصحابه وهو يلتهب، فيقول: إنه كان من الأمر كذا وكذا، قال: فيذهب أولئك إلى إخوانهم من الكهنة، فيزيدون عليه أضعافه من الكذب، فيخبرونهم به، فإذا رأوا شيئا مما قالوا قد كان صدّقوهم بما جاءوهم به من الكذب.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله (وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ) قال: أراد أن يخطف السمع، وهو كقوله (إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ).
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله (إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ) وهو نحو قوله (إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ).
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله (إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ) قال: خطف الخطفة.
حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله (إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ) هو كقوله (إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ) كان ابن عباس يقول: إن الشهب لا تقتل ولكن تحرق وتخبل (١) وتجرح من غير أن تقتل.
حدثني الحارث، قال: ثنا القاسم، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج
(١) الخبل والتخبيل: إفساد الأعضاء، حتى لا يدري كيف يمشي، فهو متخبل خبل. (اللسان).
78
(مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ) قال: الرجيم: الملعون، قال: وقال القاسم عن الكسائي: إنه قال: الرجم في جميع القرآن: الشتم.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) ﴾
يعني تعالى ذكره بقوله (وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا) والأرض دحوناها فبسطناها (وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ) يقول: وألقينا في ظهورها رَوَاسِي، يعني جبالا ثابتة.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا). وقال في آية أخرى (وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) وذُكر لنا أن أمّ القرى مكة، منها دُحيت الأرض، قوله (وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ) رواسيها: جبالها. يقول: وألقينا في ظهورها رواسي، يعني جبالا ثابتة، وقد بيَّنا معنى الرسوّ فيما مضى بشواهده المغنية عن إعادته. وقوله (وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) يقول: وأنبتنا في الأرض من كلّ شيء: يقول: من كلّ شيء مقدّر، وبحدّ معلوم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) يقول: معلوم.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثنا أبي، قال: تني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) يقول: معلوم.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح، أو عن أبي مالك، في قوله (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) قال: بقدر.
حدثنا المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح أو عن أبي مالك، مثله.
حدثني المثنى، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا شريك، عن خصيف، عن عكرمة (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) قال: بقدْر.
79
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا عليّ، يعني ابن الجعد، قال: أخبرنا شريك، عن خصيف، عن عكرمة (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) قال: بقدْر.
حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن خصيف، عن عكرمة، قال: بقدْر.
حدثنا أحمد، قال: ثنا سفيان، عن حصين، عن سعيد بن جبير (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) قال: معلوم.
حدثنا مجاهد بن موسى، قال: ثنا يزيد، قال: أخبرنا عبد الله بن يونس، قال: سمعت الحكم بن عتيبة وسأله أبو مخزوم عن قوله (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) قال: من كلّ شيء مقدور.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا عبد الله بن يونس، قال: سمعت الحكم، وسأله أبو عروة عن قول الله عزّ وجلّ (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) قال: من كلّ شيء مقدور، هكذا قال الحسن، وسأله أبو عروة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، وحدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، وحدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) قال: مقدور بقدْر.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) قال: مقدور بقدْر.
حدثني المثنى، قال: ثنا عليّ بن الهيثم، قال: ثنا يحيى بن زكريا، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال: مقدور بقدْر.
حدثنا المثنى، قال: ثنا عليّ بن الهيثم، قال: ثنا يحيى بن زكريا، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) قال: بقدْر.
80
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) يقول: معلوم.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، مثله.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) يقول: معلوم.
وكان بعضهم يقول: معنى ذلك وأنبتنا في الجبال من كلّ شيء موزون: يعني من الذهب والفضة والنحاس والرصاص ونحو ذلك من الأشياء التي توزن.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) قال: الأشياء التي توزن.
وأولى القولين عندنا بالصواب القول الأوّل لإجماع الحجة من أهل التأويل عليه.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (٢٠) ﴾
يقول تعالى ذكره: (وَجَعَلْنَا لَكُمْ) أيها الناس في الأرض (مَعَايِشَ)، وهي جمع معيشة (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ).
اختلف أهل التأويل في المعني في قوله (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ) فقال بعضهم: عني به الدوابّ والأنعام.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسين قال: ثنا ورقاء، وحدثنا
81
الحسن بن محمد، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا ورقاء، وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، وحدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله جمعيا، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ) الدوابّ والأنعام.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
وقال آخرون: عني بذلك: الوحش خاصة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن منصور (١) في هذه الآية (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ) قال: الوحش، فتأويل "مَنْ" في: (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ) على هذا التأويل بمعنى ما، وذلك قليل في كلام العرب.
وأولى ذلك بالصواب، وأحسن أن يقال: عني بقوله (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ) من العبيد والإماء والدوابّ والأنعام. فمعنى ذلك: وجعلنا لكم فيها معايش. والعبيدَ والإماء والدوابَّ والأنعام، وإذا كان ذلك كذلك، حسن أن توضع حينئذ مكان العبيد والإماء والدوابّ "من"، وذلك أن العرب تفعل ذلك إذا أرادت الخبر عن البهائم معها بنو آدم. وهذا التأويل على ما قلناه وصرفنا إليه معنى الكلام إذا كانت "من" في موضع نصب عطفا به على معايش بمعنى: جعلنا لكم فيها معايش، وجعلنا لكم فيها من لستم له برازقين. وقيل: إنّ "من" في موضع خفض عطفا به على الكاف والميم في قوله (وَجَعَلْنَا لَكُمْ) بمعنى: وجعلنا لكم فيها معايش (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ) وأحسب أن منصورا (٢) في قوله: هو الوحش قصد هذا المعنى وإياه أراد، وذلك وإن كان له وجه في كلام العرب،
(١) منصور الذي يروي عنه شعبة بن الحجاج: هو منصور بن عبد الرحمن التميمي الغداني (بضم الغين) عن الشعبي، وعنه وشعبة وابن علية، وثقه ابن معين وأحمد وأبو داود، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي، يكتب حديثه ولا يحتج به، وقال النسائي: ليس بقوي، وفي كلام الفراء الذي نقلناه تحت الشاهد " هلا سألت " إشارة إلى روايته هناك، بقوله " وقد جاء أنهم الوحوش... الخ ". (وانظر خلاصة الخزرجي).
(٢) انظر الكلام عليه في هامش ص ١٧.
82
فبعيد قليل، لأنها لا تكاد تظاهر على معنى في حال الخفض، وربما جاء في شعر بعضهم في حال الضرورة، كما قال بعضهم:
هَلا سألْتَ بذِي الجَماجِمِ عنهُمُ... وأبي نَعِيمٍ ذي اللِّوَاءِ المُخْرَقِ (١)
فردّ أبا نعيم على الهاء والميم في عنهم، وقد بيَّنت قبح ذلك في كلامهم.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنزلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١) ﴾
يقول تعالى ذكره: وما من شيء من الأمطار إلا عندنا خزائنه، وما ننزله إلا بقدر لكل أرض معلوم عندنا حدّه ومبلغه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا يزيد بن أبي زياد، عن رجل، عن عبد الله، قال: ما من أرض أمطر من أرض، ولكن الله يقدره في الأرض، ثم قرأ (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنزلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ).
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن يزيد بن أبي زياد، عن أبي جحيفة، عن عبد الله، قال: ما من عام بأمطر من عام، ولكن الله يصرفه
(١) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (ص ١٦٧ من مصورة الجامعة). قال: وقوله " وجعلنا لكم فيها معايش ": أراد الأرض " ومن لستم له برازقين " فمن في موضع نصب، يقول: جعلنا لكم فيها معايش والعبيد والإماء، وقد جاء أنهم الوحوش والبهائم، ومن: لا يفرد بها البهائم، ولا ما سوى الناس، فإن يكن ذلك على ما روى فنرى أن أدخل فيهم المماليك، على أنا ملكناكم العبيد والإبل والغنم وما أشبه ذلك، مجاز ذلك، وقد يقال إن " من " في موضع خفض، يراد جعلنا لكم فيها معايش ولمن. وما أقل ما ترد العرب لمخفوض قد كني عنه، وقد قال الشاعر: نعلق في مثل الواري سيوفنا... وما بينها والكعب غوط نفانف
فرد الكعب على بينها. وقال الآخر: هلا سألت... البيت، فرد " أبي نعيم " على الهاء في عنهم.
قلت: وهذا الموضع الذي أشار إليه الفراء، وهو عطف اسم مخفوض على ضمير هو قوله تعالى " واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام " من سورة النساء.
عمن يشاء، ثم قال (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنزلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ).
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا إبراهيم بن مهدي المصيصي، قال: ثنا علي بن مسهر، عن يزيد بن أبي زياد، عن أبي جحيفة، عن عبد الله بن مسعود: ما من عام بأمطر من عام، ولكن الله يقسمه حيث شاء، عاما هاهنا وعاما هاهنا، ثم قرأ (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنزلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ).
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ) قال: المطر خاصة.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا إسماعيل بن سالم، عن الحكم بن عتيبة، في قوله (وَمَا نُنزلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) قال: ما من عام بأكثر مطرا من عام ولا أقل، ولكنه يمطر قوم، ويُحرم آخرون، وربما كان في البحر، قال: وبلغنا أنه ينزل مع المطر من الملائكة أكثر من عدد ولد إبليس وولد آدم يحصون كلّ قطرة حيث تقع وما تُنبت.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (٢٢) ﴾
اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامَّة القرّاء (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ) وقرأه بعض قرّاء أهل الكوفة (وأرْسَلْنا الرّيحَ لَوَاقِحَ" فوحَّد الريح وهي موصوفة بالجمع: أعني بقوله: لواقح. وينبغي أن يكون معنى ذلك: أن الريح وإن كان لفظها واحدا، فمعناها الجمع، لأنه يقال: جاءت الريح من كلّ وجه، وهبَّت من كل مكان، فقيل: لواقح لذلك، فيكون معنى جمعهم نعتها، وهي في اللفظ واحدة معنى قولهم: أرض سباسب، وأرض أغفال، وثوب أخلاق، كما قال الشاعر:
84
جاءَ الشِّتاءُ وقَميصِي أخْلاقْ شَرَاذِمٌ يضْحَكُ مِنْهُ التَّوَّاقْ (١)
وكذلك تفعل العرب في كلّ شيء اتسع.
واختلف أهل العربية في وجه وصف الرياح باللقح، وإنما هي ملقحة لا لاقحة، وذلك أنها تلقح السحاب والشجر، وإنما توصف باللقح الملقوحة لا الملقح، كما يقال: ناقة لاقح. وكان بعض نحويي البصرة يقول: قيل: الرياح لواقح، فجعلها على لاقح، كأن الرياح لقحت، لأن فيها خيرا فقد لقحت بخير. قال: وقال بعضهم: الرياح تلقح السحاب، فهذا يدلّ على ذلك المعنى، لأنها إذا أنشأته وفيها خير وصل ذلك إليه وكان بعض نحويي الكوفة يقول: في ذلك معنيان: أحدهما أن يجعل الريح هي التي تلقح بمرورها على التراب والماء فيكون فيها اللقاح، فيقال: ريح لاقح، كما يقال: ناقة لاقح، قال: ويشهد على ذلك أنه وصف ريح العذاب فقال (عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) فجعلها عقيما إذا لم تلقح. قال: والوجه الآخر أن يكون وصفها باللقح، وإن كانت تلقح، كما قيل: ليل نائم والنوم فيه، وسرّ كاتم، وكما قيل: المبروز والمختوم، فجعل مبروزا، ولم يقل مبرزا بناه على غير فعله، أي أن ذلك من صفاته، فجاز مفعول
(١) هذا الرجز، أورده الفراء في معاني القرآن (ص ١٦٧) قال: وقوله " وأرسلنا الرياح لواقح " وقرئ الريح، قرأ حمزة، فمن قال: " الريح لواقح " فجمع اللواقح والريح واحدة، لأن الريح في معنى جمع، ألا ترى أنك تقول: جاءت الريح من كل مكان، فقيل لواقح لذلك كما قيل: تركته في أرض أغفال وسباسب، ومهارق وثوب أخلاق، ومنه قول الشاعر: جاء الشتاء... الخ البيت. وأما من قال: الرياح لواقح، فهو بين، ولكن يقال: إنما الريح ملقحة، تلقح الشجر، فكيف قيل: لواقح؟ في ذلك معنيان: أحدهما أن تجعل الريح هي التي بمرورها على التراب والماء، فيكون فيها اللقاح، فيقال ريح لاقح، كما يقال: ناقة لاقح، ويشهد على ذلك أنه وصف ريح العذاب فقال: " عليهم الريح العقيم "، فجعلها عقيما إذ لم تلقح. والوجه الآخر: أن يكون وصفها باللقح، وإن كانت تلقح (بضم التاء) كما قيل: ليل نائم، والنوم فيه، وسر كاتم. ولسان العرب: (خلق) : وقد يقال: ثوب أخلاق، يصفون به الواحد، إذا كانت الخلوقة فيه كله، كما قال برمة أعشار، وثوب أكباش (ضرب من نسج اليمن) وحبل أرمام وأرض سباسب، وهذا النحو كثير، وكذلك: ملاءة أخلاق وبرمة أخلاق (عن اللحياني) أي نواحيها أخلاق. قال: وهو من الواحد الذي فرق ثم جمع. قال: وكذلك: حبل أخلاق: وقربة أخلاف عن ابن الأعرابي، التهذيب: يقال ثوب أخلاق يجمع بما حوله، وقال الراجز: جاء الشتاء... الخ والتواق ابنه، قلت: والرواية عند الفراء وفي اللسان " يضحك منه "، وعند المؤلف " يضحك مني "، والمعنى قريب بعضه من بعض.
85
لمفعل، كما جاز فاعل لمفعول، إذا لم يرد البناء على الفعل، كما قيل: ماء دافق.
والصواب من القول في ذلك عندي: أن الرياح لواقح كما وصفها به جلّ ثناؤه من صفتها، وإن كانت قد تلقح السحاب والأشجار، فهي لاقحة ملقحة، ولقحها: حملها الماء وإلقاحها السحاب والشجر: عملها فيه، وذلك كما قال عبد الله بن مسعود.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا المحاربي، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن قيس بن سكن، عن عبد الله بن مسعود، في قوله (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ) قال: يرسل الله الرياح فتحمل الماء، فتجري السحاب، فتدر كما تدر اللقحة ثم تمطر.
حدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن المنهال، عن قيس بن سكن، عن عبد الله (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ) قال: يبعث الله الريح فتلقح السحاب، ثم تمريه فتدر كما تدر اللقحة، ثم تمطر.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا أسباط بن محمد، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن قيس بن السكن، عن عبد الله بن مسعود، في قوله (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ) قال: يرسل الرياح، فتحمل الماء من السحاب، ثم تمري السحاب، فتدر كما تدر اللقحة، فقد بين عبد الله بقوله: يرسل الرياح فتحمل الماء، أنها هي اللاقحة بحملها الماء وإن كانت ملقحة بإلقاحها السحاب والشجر.
وأما جماعة أُخَر من أهل التأويل، فإنهم وجَّهوا وصف الله تعالى ذكره إياها بأنها لواقح، إلى أنه بمعنى ملقحة، وأن اللواقح وضعت موضع ملاقح، كما قال نهشل بن حري:
لِيُبْكَ يَزِيدُ بائِسٌ لِضَرَاعَةٍ وأشْعَثُ ممَّنْ طَوَّحَتْهُ الطَّوَائِحُ (١)
(١) البيت لنشهل بن حرى على الأصح، شاعر مخضرم، وقد ينسب إلى غيره، وصوب البغدادي نسبته إلى نشهل، وقد استشهد به أبو عبيدة بهذه الرواية نفسها عند تفسير قوله تعالى: " وأرسلنا الرياح لواقح " قال: مجازها مجاز ملاقح، لأن الريح ملقحة السحاب للعرب. قد تفعل هذا، فتلقي الميم، لأنها تعيده إلى أصل الكلام، كقول نهشل بن حري يرثي أخاه " لبيك يزيد "... الخ البيت. فحذف الميم، لأنها المطاوع، وأورد البيت صاحب (اللسان: طيح) باختلاف في بعض الألفاظ قال: وأنشد سيبويه:
لِيُبْكَ يَزيدٌ ضَاِرعٌ لِخُصُومَةٍ ومُخْتَبطٌ مِمَّا تُطيحُ الطَّوَائِحُ
وقال (سيبويه) : الطوائح: على حذف الزائد، أو على النسب قال ابن جني: أول البيت مبني على أطراح ذلك الفاعل، فإن آخره (كذا في اللسان) قد عوود فيه الحديث على الفاعل، لأن تقديره فيما بعد: ليبك مختبط مما تطيح الطوائح، فدل قوله: ليبك (بالبناء للمفعول) على ما أراد من قوله " ليبك " (أي بالبناء للفاعل) أهـ. والمختبط: الذي يسلك من يسلك من غير معرفة ولا وسيلة بيكمنا. وانظر خزانة الأدب البغدادي (١: ١٤٧ - ١٥٢) ففيها كلام كثير في معنى البيت وروايته وقائله.
86
يريد المطاوح، وكما قال النابغة:
كليني لِهَمٍّ يا أُمَيْمَةَ ناصِبِ ولَيْلٍ أُقاسيهِ بَطيءِ الكوَاكبِ (١)
بمعنى: مُنْصِب.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهديّ، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم في قوله (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ) قال: تلقح السحاب.
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، مثله.
حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، مثله.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن، قوله (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ) قال: لواقح للشجر، قلت: أو للسحاب، قال: وللسحاب، تمريه حتى يمطر.
(١) البيت للنابغة الذبيالي، وهو مطلع قصيدة له يمدح بها عمرو بن الحارث الأعرج، بن الحارث الأكبر، بن أبي شمر، حين هرب من النعمان بن المنذر. وقد مر شرحنا له في غير هذا الموضع من التفسير، والشاهد هنا في قوله " ناصب " أنه بمعنى المنصب، قال في (اللسان: نصبت) : النصب: الإعياء من العناء. والفعل: نصب الرجل بالكسر: أعيا وتعب. وأنصبه هو، وأنصبني هذا الأمر، وهم ناصب: منصب، ذو نصب، مثل تامر ولابن، وهو فاعل بمعنى مفعول، لأنه ينصب فيه ويتعب، قال النابغة: " كليني لهم يا أميمة ناصب " قال: ناصب: بمعنى منصوب، وقال الأصمعي: ناصب: ذي نصب، مثل: ليل نائم ذو نوم ينام فيه، ورجل دارع: ذو درع. وقال سيبويه: هم ناصب: هو على النسب، وحكى أبو علي الفارسي نصبه لهم، فناصب إذن على الفعل. أهـ. قلت: أيريد أبو علي الفارسي: أنه اسم فاعل قياسي جار على فعله، فليس على النسب إذن ولا على التجوز في الإسناد مثل ليل نائم.
87
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا إسحاق بن سليمان، عن أبي سنان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عبيد بن عمير، قال: يبعث الله المبشرة فتقمّ الأرض قما، ثم يبعث الله المثيرة فتثير السحاب، ثم يبعث الله المؤلِّفة فتؤلف السحاب، ثم يبعث الله اللواقح فتلقح الشجر، ثم تلا عبيد (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ).
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ) يقول: لواقح السحاب، وإن من الريح عذابا، وإن منها رحمة.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (لَوَاقِحَ) قال: تلقح الماء في السحاب.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن ابن عباس (لَوَاقِحَ) قال: تُلقح الشجر وتُمري السحاب.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ) الرياح يبعثها الله على السحاب فتلقحه، فيمتلئ ماء.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا عيسى بن ميمون، قال: ثنا أبو المهزم، عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "الرّيحُ الجَنُوبُ مِنَ الجَنِّةِ، وَهِيَ الرّيحُ اللَّوَاقِحُ، وَهِيَ التي ذَكَرَ اللهُ تَعالى فِي كِتابِهِ وَفِيها مَنافِعُ للنَّاسِ".
حدثني أبو الجماهر الحمصي أو الحضرمي محمد بن عبد الرحمن، قال: ثنا عبد العزيز بن موسى، قال: ثنا عيسى بن ميمون أبو عبيدة، عن أبي المهزم، عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر مثله سواء.
وقوله (فَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ) يقول تعالى ذكره: فأنزلنا من السماء مطرا فأسقيناكم ذلك المطر لشرب أرضكم ومواشيكم. ولو كان معناه: أنزلناه لتشربوه، لقيل: فسقيناكموه. وذلك أن العرب تقول إذا سقت الرجل ماء شربه أو لبنا أو غيره: سقيته بغير ألف إذا كان لسقيه، وإذا جعلوا له ماء لشرب أرضه أو ماشيته، قالوا: أسقيته وأسقيت أرضه وماشيته، وكذلك إذا استسقت له، قالوا أسقيته واستسقيته، كما قال ذو الرُّمَّة:
88
وَقَفْتُ على رَسْمٍ لِمَيَّةَ ناقَتِي... فَمَا زِلْتُ أبْكي عِنْدَهُ وأُخاطِبُهْ... وأُسْقِيهِ حتى كادَ مِمَّا أبُثُّهُ... تُكَلِّمُني أحْجارُهُ ومَلاعِبُهْ (١)
وكذلك إذا وهبت لرجل إهابا ليجعله سقاء، قلت: أسقيته إياه.
وقوله (وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ) يقول: ولستم بخازني الماء الذي أنزلنا من السماء فأسقيناكموه. فتمنعوه من أسقيه، لأن ذلك بيدي وإليّ، أسقيه من أشاء وأمنعه من أشاء.
كما حدثنا أحمد، قال: ثنا أبو أحمد، قال سفيان: (وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ) قال: بمانعين.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (٢٣) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٢٥) ﴾
يقول تعالى ذكره: (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي) من كان ميتا إذا أردنا (ونُمِيتُ) من كان حيا إذا شئنا (وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ) يقول: ونحن نرث الأرض ومن عليها بأن نميت جميعهم، فلا يبقى حيّ سوانا إذا جاء ذلك الأجل. وقوله (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: ولقد علمنا من مضى من الأمم، فتقدّم هلاكهم، ومن قد خلق وهو حيّ، ومن لم يخلق بعدُ ممن سيخلق.
(١) البيتان في ديوان ذي الرمة (طبعة كيمبردج سنة ١٩١٩ ص ٣٨) وأسقيه: أدعو له بالسقيا، أقول: سقاك الله، وأبثه: أشكو إليه. وقد استشهد بهذين البيتين أبو عبيدة في مجاز القرآن (١: ٣٥٠) على أن يقال: سقيت الرجل ماء وشرابا من لبن وغير ذلك، وليس فيه إلا لغة واحدة بغير ألف، إذا كان في الشفة، وإذا جعلت له شربا (بكسر الشين، أي ماء لشرب دوابه) فهو أسقيته وأسقيت أرضه وإبله، لا يكون غير هذا، وكذلك إذا استسقيت له كقول ذي الرمة... البيتين وهو قريب من كلام المؤلف هنا.
89
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن أبيه، عن عكرمة (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) قال: المستقدمون: من قد خلق ومن خلا من الأمم، والمستأخرون: من لم يخلق.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا الحكم، قال: ثنا عمرو بن قيس، عن سعيد بن مسروق، عن عكرمة، في قوله (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) قال: هم خلق الله كلهم، قد علم من خلق منهم إلى اليوم، وقد علم من هو خالقه بعد اليوم.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق. قال: أخبرنا ابن التيمي، عن أبيه، عن عكرمة، قال: إن الله خلق الخلق ففرغ منهم، فالمستقدمون: من خرج من الخلق، والمستأخرون: من بقي في أصلاب الرجال لم يخرج.
حدثني محمد بن أبي معشر، قال: أخبرني أبو معشر، قال: سمعت عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود يذاكر محمد بن كعب في قول الله (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) فقال عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: خير صفوف الرجال المقدّم، وشرّ صفوف الرجال المؤخَّر، وخير صفوف النساء المؤخَّر، وشرّ صفوف النساء المقدّم، فقال محمد بن كعب: ليس هكذا، ولقد علمنا المستقدمين منكم: الميت والمقتول، والمستأخرين: من يلحق بهم مِن بعدُ، وإن ربك هو يحشرهم، إنه حكيم عليم، فقال عون بن عبد الله: وفقك الله وجزاك خيرا.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر، عن أبيه، قال: قال قتادة: المستقدمين: من مضى، والمستأخرين: من بقي في أصلاب الرجال.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا أبو الأحوص، قال: ثنا سعيد بن مسروق، عن عكرمة وخصيف، عن مجاهد، في قوله (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) قالا من مات ومن بقي.
90
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ) قال: كان ابن عباس يقول: آدم ﷺ ومن مضى من ذرّيته (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) : من بقي في أصلاب الرجال.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) قال: المستقدمون آدم ومن بعده، حتى نزلت هذه الآية: والمستأخرون: قال: كلّ من كان من ذرّيته.
قال أبو جعفر: أظنه أنا قال: ما لم يُخلق وما هو مخلوق.
حدثنا أحمد، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن أبيه، عن عكرمة، قال: المستقدمون: ما خرج من أصلاب الرجال، والمستأخرون: ما لم يخرج. ثم قرأ (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ).
وقال آخرون: عنى بالمستقدمين: الذين قد هلكوا، والمستأخرين: الأحياء الذين لم يهلكوا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) يعني بالمستقدمين: من مات، ويعني بالمستأخرين: من هو حيّ لم يمت.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ) يعني الأموات منكم (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) بقيتهم، وهم الأحياء، يقول: علمنا من مات ومن بقي.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) قال: المستقدمون منكم: الذين مضوا في أوّل الأمم، والمستأخرون: الباقون.
وقال آخرون: بل معناه: ولقد علمنا المستقدمين في أوّل الخلق والمستأخرين في آخرهم.
91
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن المثنى: قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا داود، عن عامر في هذه الآية (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) قال أول الخلق وآخره.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عدّي، عن داود، عن الشعبيّ، في قوله (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) : ما استقدم في أول الخلق، وما استأخر في آخر الخلق.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا عليّ بن عاصم، عن داود بن أبي هند، عن عامر، في قوله (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ) قال: في العُصُر، والمستأخرين منكم في أصلاب الرجال، وأرحام النساء.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولقد علمنا المستقدمين من الأمم، والمستأخرين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، وحدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا شبابة، قال: أخبرنا ورقاء، وحدثني المثنى، قال: أخبرنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد المستقدمين منكم، قال: القرون الأوَل، والمستأخرين: أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا محمد بن عبيد، قال: ثني عبد الملك، عن قيس، عن مجاهد، في قوله (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) قال: المستقدمون: ما مضى من الأمم، والمستأخرون: أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن عبد الملك، عن قيس، عن مجاهد، بنحوه.
92
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن عبد الملك، عن مجاهد بنحوه، ولم يذكر قيسا.
وقال آخرون: بل معناه: ولقد علمنا المستقدمين منكم في الخير، والمستأخرين عنه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) قال: كان الحسن يقول: المستقدمون في طاعة الله، والمستأخرون في معصية الله.
حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن عباد بن راشد، عن الحسن، قال: المستقدمين في الخير، والمستأخرين: يقول: المبطئين عنه.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولقد علمنا المستقدمين منكم في الصفوف في الصلاة، والمستأخرين فيها بسبب النساء.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن رجل أخبرنا عن مروان بن الحكم أنه قال: كان أناس يستأخرون في الصفوف من أجل النساء، قال: فأنزل الله (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ).
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا جعفر بن سليمان، قال: أخبرني عمرو بن مالك، قال سمعت أبا الجوزاء يقول في قول الله (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) قال: المستقدمين منكم في الصفوف في الصلاة والمستأخرين.
حدثني محمد بن موسى الحرسي، قال: ثنا نوح بن قيس، قال: ثنا عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس، قال: كانت تصلي خلف رسول الله ﷺ امرأة، قال ابن عباس: لا والله ما إن رأيت مثلها قط، فكان بعض المسلمين إذا صلوا استقدموا، وبعض يستأخرون، فإذا سجدوا، نظروا إليها من تحت أيديهم، فأنزل الله (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ).
93
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا نوح بن قيس، وحدثنا أبو كريب، قال: ثنا مالك بن إسماعيل، قال: ثنا نوح بن قيس، عن عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس قال: كانت تصلي خلف رسول الله ﷺ امرأة حسناء من أحسن الناس، فكان بعض الناس يستقدم في الصفّ الأوّل لئلا يراها، ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصفّ المؤخر، فإذا ركع نظر من تحت إبطيه في الصفّ، فأنزل الله في شأنها (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ).
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال عندي في ذلك بالصحة قول من قال: معنى ذلك: ولقد علمنا الأموات منكم يا بني آدم فتقدّم موته، ولقد علمنا المستأخرين الذين استأخر موتهم ممن هو حيّ ومن هو حادث منكم ممن لم يحدث بعدُ، لدلالة ما قبله من الكلام، وهو قوله (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ) وما بعده وهو قوله (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ) على أن ذلك كذلك، إذ كان بين هذين الخبرين، ولم يجر قبل ذلك من الكلام ما يدلّ على خلافه، ولا جاء بعد. وجائز أن تكون نزلت في شأن المستقدمين في الصفّ لشأن النساء والمستأخرين فيه لذلك، ثم يكون الله عزّ وجلّ عمّ بالمعنى المراد منه جميع الخلق، فقال جلّ ثناؤه لهم: قد علمنا ما مضى من الخلق وأحصيناهم، وما كانوا يعملون، ومن هو حيّ منكم، ومن هو حادث بعدكم أيها الناس، وأعمال جميعكم خيرها وشرّها، وأحصينا جميع ذلك ونحن نحشر جميعهم، فنجازي كلا بأعماله، إن خيرًا فخيًرا وإن شرًا فشرًا. فيكون ذلك تهديدًا ووعيدًا للمستأخرين في الصفوف لشأن النساء ولكلّ من تعدّى حدّ الله وعمل بغير ما أذن له به، ووعدا لمن تقدّم في الصفوف لسبب النساء، وسارع إلى محبة الله ورضوانه في أفعاله كلها.
وقوله (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ) يعني بذلك جلّ ثناؤه: وإن ربك يا محمد هو يجمع جميع الأوّلين والآخرين عنده يوم القيامة، أهل الطاعة منهم والمعصية، وكلّ أحد من خلقه، المستقدمين منهم والمستأخرين.
وبنحو ما قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
94
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ) قال: أي الأوّل والآخر.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا أبو خالد القرشيّ، قال: ثنا سفيان، عن أبيه، عن عكرمة، في قوله (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ) قال: هذا من هاهنا، وهذا من هاهنا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخُرَاسانيّ، عن ابن عباس (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ) قال: وكلهم ميت، ثم يحشرهم ربهم.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا عليّ بن عاصم، عن داود بن أبي هند، عن عامر (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ) قال: يجمعهم الله يوم القيامة جميعا، قال الحسن: قال عليّ: قال داود: سمعت عامرا يفسر قوله (إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) يقول: إن ربك حكيم في تدبيره خلقه في إحيائهم إذا أحياهم، وفي إماتتهم إذا أماتهم، عليم بعددهم وأعمالهم، وبالحيّ منهم والميت، والمستقدم منهم والمستأخر.
كما حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: كلّ أولئك قد علمهم الله، يعني المستقدمين والمستأخرين.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) ﴾
يقول تعالى ذكره: ولقد خلقنا آدم وهو الإنسان من صلصال. واختلف أهل التأويل في معنى الصلصال، فقال بعضهم: هو الطين اليابس لم تصبه نار، فإذا نقرتَه صَلَّ فسمعت له صلصلة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهديّ، قالا ثنا سفيان، عن الأعمش، عن مسلم البطين، عن
95
سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: خلق آدم من صلصال من حمأ ومن طين لازب، وأما اللازب: فالجيد، وأما الحَمَأ: فالحمأة، وأما الصَّلصال: فالتراب المرقَّق، وإنما سمي إنسانا لأنه عهد إليه فنسي.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ) قال: والصلصال: التراب اليابس الذي يسمع له صلصلة.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) قال: الصلصال: الطين اليابس يسمع له صلصلة.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا حميد بن عبد الرحمن، عن الحسن بن صالح، عن مسلم، عن مجاهد، عن ابن عباس (مِنْ صَلْصَالٍ) قال: الصلصال: الماء يقع على الأرض الطيبة ثم يحسَرُ عنها، فتشقق، ثم تصير مثل الخَزَف الرقاق.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن الأعمش، عن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: خُلق الإنسان من ثلاثة: من طين لازب، وصلصال، وحمأ مسنون. والطين اللازب: اللازق الجيد، والصلصال: المرقق الذي يصنع منه الفخار، والمسنون: الطين فيه الحَمْأة.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثنا أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) قال: هو التراب اليابس الذي يُبَل بعد يُبسه.
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، عن مسلم، عن مجاهد، قال: الصلصال: الذي يصلصل، مثل الخَزَف من الطين الطيب.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك، يقول: الصلصال: طين صُلْب يخالطه الكثيب.
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (مِنْ صَلْصَالٍ) قال: التراب اليابس.
96
وقال آخرون: الصلصال: المُنْتِن. وكأنهم وجَّهوا ذلك إلى أنه من قولهم: صلّ اللحم وأصلّ، إذا أنتن، يقال ذلك باللغتين كلتيهما: يَفْعَل وأَفْعَل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، وحدثني الحارث قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، وحدثنا الحسن، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا ورقاء، وحدثني المثنى قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (مِنْ صَلْصَالٍ) الصلصال: المنتن.
والذي هو أولى بتأويل الآية أن يكون الصلصال في هذا الموضع الذي له صوت من الصلصلة، وذلك أن الله تعالى وصفه في موضع آخر فقال (خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ) فشبهه تعالى ذكره بأنه كان كالفخَّار في يُبسه. ولو كان معناه في ذلك المُنتِن لم يشبهه بالفخارِّ، لأن الفخار ليس بمنتن فيشبَّه به في النتن غيره.
وأما قوله (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) فإن الحمأ: جمع حَمْأة، وهو الطين المتَغيِّر إلى السواد. وقوله (مَسْنُونٍ) يعني: المتغير.
واختلف أهل العلم بكلام العرب في معنى قوله (مَسْنُونٍ) فكان بعض نحويِّي البصريين يقول: عني به: حمأ مصورّ تامّ. وذُكر عن العرب أنهم قالوا: سُنّ على مثال سُنَّة الوجه: أي صورته. قال: وكأن سُنة الشيء من ذلك: أي مثالَه الذي وُضع عليه. قال: وليس من الآسن المتغير، لأنه من سَنَن مضاعف.
وقال آخر منهم: هو الحَمَأ المصبوب. قال: والمصبوب: المسنون، وهو من قولهم: سَنَنْت الماء على الوجه وغيره إذا صببته.
وكان بعض أهل الكوفة يقول: هو المتغير، قال: كأنه أخذ من سَنَنْت الحَجَر على الحجر، وذلك أن يحكّ أحدهما بالآخر، يقال منه: سننته أسنُه سَنًّا فهو مسنون. قال: ويقال للذي يخرج من بينهما: سَنِين، ويكون ذلك مُنْتنا. وقال: منه سُمِّيَ المِسَنّ لأن الحديد يُسَنُّ عليه. وأما أهل التأويل، فإنهم قالوا في ذلك نحو ما قلنا.
97
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عبيد الله بن يوسف الجبيري، قال: ثنا محمد بن كثير، قال: ثنا مسلم، عن مجاهد، عن ابن عباس، في قوله (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) قال: الحمأ: المنتنة.
حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي، قال: ثنا أبي، عن أبيه، عن جده، عن الأعمش، عن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) قال: الذي قد أنتن.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، قال: ثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) قال: منتن.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) قال: هو التراب المبتلّ المنتنُ، فجعل صَلصالا كالفَخار.
حدثني محمد بن عمرو، قال ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، وحدثنا الحسن، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا ورقاء، وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا شبل جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) قال: منتن.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) والحمأ المسنون: الذي قد تغير وأنتن.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) قال: قد أنتن، قال: منتنة.
حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: ثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، في قوله (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) قال: من طين لازب، وهو اللازق من الكثيب، وهو الرمل.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) قال: الحمأ المنتن.
وقال آخرون منهم في ذلك: هو الطين الرَّطْب.
98
* ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) يقول: من طين رَطب.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (٢٧) ﴾
يقول تعالى ذكره: (والجانَّ) وقد بيَّنا فيما مضى معنى الجانّ ولم قيل له جان. وعني بالجانّ هاهنا: إبليس أبا الجنّ. يقول تعالى ذكره: وإبليس خلقناه من قبل الإنسان من نار السموم.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ) وهو إبليس خُلق قبل آدم، وإنما خلق آدم آخر الخلق، فحسده عدوّ الله إبليس على ما أعطاه الله من الكرامة، فقال: أنا ناريّ، وهذا طينيّ، فكانت السجدة لآدم، والطاعة لله تعالى ذكره، فقال (اخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ).
واختلف أهل التأويل في معنى (نَارِ السَّمُومِ) فقال بعضهم: هي السموم الحارّة التي تقتل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن آدم، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس في قوله (وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ) قال: هي السموم التي تقتل، فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت قال: هي السموم التي تقتل.
حدثني المثنى، قال: ثنا الحِمَّانِيّ، قال: ثنا شريك، عن أبي إسحاق التميمي، عن ابن عباس (وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ) قال: هي السموم التي تقتل، فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت قال: هي السموم التي تقتل.
وقال آخرون: يعني بذلك من لهب النار.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرحمن بن مغراء، عن جويبر، عن الضحاك، في قوله (وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ) قال: من لهب من نار السموم.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثمان، عن سعيد، قال: ثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الجنّ، خُلقوا من نار السموم من بين الملائكة. قال: وخُلقت الجنّ الذين ذُكروا في القرآن من مارج من نار.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، قال: دخلت على عمرو بن الأصم أعوده، فقال: ألا أحدّثك حديثًا سمعته من عبد الله؟ سمعت عبد الله يقول: هذه السموم جزء من سبعين جزءا من السموم التي خرج منها الجانّ. قال: وتلا (وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ). وكان بعض أهل العربية يقول: السموم بالليل والنهار. وقال بعضهم: الحَرُور بالنهار، والسموم بالليل، يقال: سَمَّ يومُنا يَسَمُّ سَمُومًا.
حدثني المثنى، قال: ثنا محمد بن سهل بن عسكر، قال: ثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: ثني عبد الصمد بن معقل، قال: سمعت وهب بن منبه، وسئل عن الجنّ ما هم، وهل يأكلون أو يشربون، أو يموتون، أو يتناكحون؟ قال: هم أجناس، فأما خالص الجنّ فهم ريح لا يأكلون ولا يشربون ولا يموتون ولا يتوالدون. ومنهم أجناس يأكلون ويشربون ويتناكحون ويموتون، وهي هذه التي منها السعالِي والغُول وأشباه ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (٢٩) ﴾
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (و) اذكر يا محمد (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُون فَإِذَا سَوَّيْتُهُ).
يقول:
فإذا صوّرته فعدَّلت صورته (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) فصار بشرا حيا (فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) سجود تحية وتكرمة لا سجود عبادة.
وقد حدثني جعفر بن مكرم، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا شبيب بن بشر، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما خلق الله الملائكة قال: إني خالق بشرا من طين، فإذا أنا خلقته فاسجدوا له، فقالوا: لا نفعل. فأرسل عليهم نارا فأحرقتهم، وخلق ملائكة أخرى، فقال: إني خالق بشرا من طين، فإذا أنا خلقته فاسجدوا له، فأبَوا، قال: فأرسل عليهم نارا فأحرقتهم، ثم خلق ملائكة أخرى، فقال: إني خالق بشرا من طين، فإذا أنا خلقته فاسجدوا له، فأبوا، فأرسل عليهم نارا فأحرقتهم، ثم خلق ملائكة، فقال: إني خالق بشرا من طين، فإذا أنا خلقته فاسجدوا له، فقالوا: سمعنا وأطعنا، إلا إبليس كان من الكافرين الأوّلين.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) ﴾
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢) ﴾
يقول تعالى ذكره: فلما خلق الله ذلك البشر، ونفخ فيه الروح بعد أن سوّاه، سجد الملائكة كلهم جميعا، إلا إبليس، فإنه أبى أن يكون مع الساجدين في سجودهم لآدم حين سجدوا، فلم يسجد له معهم تكبرا وحسدا وبغيا، فقال الله تعالى ذكره (يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) يقول: ما منعك من أن تكون مع الساجدين، فأن في قول بعض نحويي الكوفة خفض، وفي قول بعض أهل البصرة نصب بفقد الخافض.
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ لَمْ أَكُنْ لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ
اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥) }
يقول تعالى ذكره (قالَ) إبليس: (لَمْ أَكُنْ لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُون) وهو من طين وأنا من نار، والنار تأكل الطين. وقوله (فَاخْرُجْ مِنْهَا) يقول الله تعالى ذكره لإبليس: (فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ).
والرجيم المرجوم، صرف من مفعول إلى فعيل وهو المشتوم، كذلك قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) والرجيم: الملعون.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله (فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) قال: ملعون. والرجم في القرآن: الشتم.
وقوله (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ) يقول: وإن غضب الله عليك بإخراجه إياك من السموات وطردك عنها إلى يوم المجازاة، وذلك يوم القيامة، وقد بيَّنا معنى اللعنة في غير موضع بما أغنى عن إعادته هاهنا.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨) ﴾
يقول تعالى ذكره: قال إبليس: ربّ فإذ أخرجتني من السموات ولعنتني، فأخِّرني إلى يوم تبعث خلقك من قبورهم فتحشرهم لموقف القيامة، قال الله له: فإنك ممن أُخِّر هلاكه إلى يوم الوقت المعلوم لهلاك جميع خلقي، وذلك حين لا يبقى على الأرض من بني آدم دَيَّار.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) ﴾
يقول تعالى ذكره: قال إبليس: (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي) بإغوائك (لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ
فِي الأَرْضِ) وكأن قوله (بِمَا أَغْوَيْتَنِي) خرّج مخرج القسم، كما يقال: بالله، أو بعزّة الله لأغوينهم. وعنى بقوله (لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ) لأحسننّ لهم معاصيك، ولأحببنها إليهم في الأرض (وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) يقول: ولأضلَّنهم عن سبيل الرشاد (إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) يقول: إلا من أخلصته بتوفيقك فهديته، فإن ذلك ممن لا سلطان لي عليه ولا طاقة لي به. وقد قرئ: (إلا عِبادَكَ مِنْهُمُ المُخْلِصِينَ) فمن قرأ ذلك كذلك، فإنه يعني به: إلا من أخلص طاعتك، فإنه لا سبيل لي عليه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك (إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) يعني: المؤمنين.
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا هشام، قال: ثنا عمرو، عن سعيد، عن قتادة (إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) قال قتادة: هذه ثَنِيَّة الله تعالى ذكره.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (٤٢) ﴾
اختلفت القرّاء في قراءة قوله (قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) فقرأه عامَّة قراء الحجاز والمدينة والكوفة والبصرة (هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) بمعنى: هذا طريق إليّ مستقيم.
فكان معنى الكلام: هذا طريق مرجعه إليّ فأجازي كلا بأعمالهم، كما قال الله تعالى ذكره (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ)، وذلك نظير قول القائل لمن يتوعده ويتهدده: طريقك عليّ، وأنا على طريقك، فكذلك قوله: (هَذَا صِرَاطٌ) معناه: هذا طريق عليّ وهذا طريق إليّ. وكذلك تأول من قرأ ذلك كذلك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء،
103
وحدثني الحسن بن محمد، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا ورقاء، وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل، وحدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) قال: الحقّ يرجع إلى الله، وعليه طريقه، لا يعرِّج على شيء.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، بنحوه.
حدثنا أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا مَرْوان بن شجاع، عن خَصِيف، عن زياد بن أبي مريم، وعبد الله بن كثير أنهما قرآها (هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) وقالا عليّ هي إليّ وبمنزلتها.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا عبد الوهاب بن عطاء، عن إسماعيل بن مسلم، عن الحسن وسعيد عن قتادة، عن الحسن (هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) يقول: إليّ مستقيم. وقرأ ذلك قيس بن عباد وابن سيرين وقتادة فيما ذُكر عنهم (هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) برفع عليّ على أنه نعت للصراط، بمعنى: رفيع.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي حماد، قال: ثني جعفر البصري، عن ابن سيرين أنه كان يقرأ (هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) يعني: رفيع.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (هَذَا صِرَاطٌ عَلِيٌّ مُسْتَقِيمٌ) أي رفيع مستقيم، قال بشر، قال يزيد، قال سعيد: هكذا نقرؤها نحن وقتادة.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا عبد الوهاب، عن هارون، عن أبي العوّام، عن قتادة، عن قيس بن عباد (هَذَا صِرَاطٌ عَلِيٌّ مُسْتَقِيمٌ) يقول: رفيع.
والصواب من القراءة في ذلك عندنا قراءة من قرأ (هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) على التأويل الذي ذكرناه عن مجاهد والحسن البصري، ومن وافقهما عليه، لإجماع الحجة من القرّاء عليها، وشذوذ ما خالفها.
104
وقوله (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) يقول تعالى ذكره: إن عبادي ليس لك عليهم حجة، إلا من اتبعك على ما دعوته إليه من الضلالة ممن غوى وهلك.
حدثني المثنى، قال: ثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن عبيد الله بن موهب، قال ثنا يزيد بن قسيط، قال: كانت الأنبياء لهم مساجد خارجة من قُراهم، فإذا أراد النبيّ أن يستنبئ ربه عن شيء، خرج إلى مسجده، فصلى ما كتب الله له، ثم سأل ما بدا له، فبينما نبيّ في مسجده، إذا جاء عدوّ الله حتى جلس بينه وبين القبلة، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: أعُوذُ بالله مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ، فقال عدوّ الله: أرأيت الذي تعوَّذ منه فهو هو، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: أعُوذُ باللَّهِ مِن الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ فردّد ذلك ثلاث مرّات، فقال عدوّ اللَّه: أخبرني بأيّ شيء تنجو مني، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: بَلْ أَخْبِرْني بأيّ شيْءٍ تَغْلِبُ ابْنَ آدَمَ، مرّتين، فأخذ كلّ واحد منهما على صاحبه، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: إنَّ اللَّهَ تعالى ذِكْرُهُ يقُولُ: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) قال عدوّ اللَّه: قد سمعت هذا قبل أن تولد، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ويقول اللَّهُ تَعالى ذِكْرُهُ: (وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) وإنّي والله ما أحْسَسْتُ بِكَ قَطُّ إلا اسْتَعذْتُ بالله مِنْكَ، فقال عدوّ الله: صدقت بهذا تنجو مني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فأخْبِرْنِي بأيّ شَيْءٍ تَغْلِبُ ابْنَ آدَمَ؟ قال: آخذه عند الغضب، وعند الهوى.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (٤٤) ﴾
يقول تعالى ذكره لإبليس: وإن جهنم لموعد من تبعك أجمعين (لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ) يقول: لجهنم سبعة أطباق، لكلِّ طَبَق منهم: يعني من أتباع إبليس جزء، يعني: قسما ونصيبا مقسوما.
105
وذُكر أن أبواب جهنم طبقات بعضها فوق بعض.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت أبا هارون الغنوي، قال: سمعت حِطان، قال: سمعت عليا وهو يخطب، قال: إن أبواب جهنم هكذا، ووضع شُعبة إحدى يديه على الأخرى.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أبي هارون الغنوي، عن حطان بن عبد الله، قال: قال عليّ: تدرون كيف أبواب النار؟ قلنا: نعم كنحو هذه الأبواب، فقال: لا ولكنها هكذا، فوصف أبو هارون أطباقا بعضها فوق بعض، وفعل ذلك أبو بشر.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن أبي هارون الغنوي، عن حطان بن عبد الله عن عليّ، قال: هل تدرون كيف أبواب النار؟ قالوا: كنحو هذه الأبواب، قال: لا ولكن هكذا، فوصف بعضها فوق بعض.
حدثنا هارون بن إسحاق، قال: ثنا مصعب بن المقدام، قال: أخبرنا إسرائيل، قال: ثنا أبو إسحاق، عن هبيرة، عن عليّ، قال: أبواب جهنم سبعة بعضها فوق بعض، فيمتلئ الأوّل، ثم الثاني، ثم الثالث، ثم تمتلئ كلها.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن هبيرة، عن علي قال: أبواب جهنم سبعة بعضها فوق بعض، وأشار بأصابعه على الأوّل، ثم الثاني، ثم الثالث حتى تملأ كلها.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه، عن هبيرة بن مريم، قال: سمعت عليا يقول: إن أبواب جهنم بعضها فوق بعض، فيملأ الأوّل ثم الذي يليه، إلى آخرها.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا عليّ، قال: أخبرنا محمد بن يزيد الواسطيّ، عن جَهْضَم، قال: سمعت عكرمة يقول في قوله (لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ) قال: لها سبعة أطباق.
106
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله (لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ) قال: أولها جهنم، ثم لظى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية، والجحيم فيها أبو جهل.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) وهي والله منازل بأعمالهم.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦) وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (٤٧) ﴾
يقول تعالى ذكره: إن الذين اتقوا الله بطاعته وخافوه، فتجنبوا معاصيه في جنات وعيون، يقال لهم: (ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ) من عقاب الله، أو أن تُسلبوا نعمة أنعمها الله عليكم، وكرامة أكرمكم بها. قوله (وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ) يقول: وأخرجنا ما في صدور هؤلاء المتقين الذين وصف صفتهم من حقد وضغينة بعضهم لبعض.
واختلف أهل التأويل في الحال التي ينزع الله ذلك من صدورهم، فقال بعضهم: ينزل ذلك بعد دخولهم الجنة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا إسرائيل، عن بشر البصري، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبي أُمامة، قال: يدخل أهل الجنة الجنة على ما في صدورهم في الدنيا من الشحناء والضغائن، حتى إذا توافوا وتقابلوا نزع الله ما في صدورهم في الدنيا من غلّ، ثم قرأ (وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ)
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو فضالة، عن لقمان، عن أبي أمامة، قال: لا يدخل مؤمن الجنة حتى ينزع الله ما في صدورهم من غلّ، ثم ينزع منه السبع الضاري.
107
حدثني المثنى، قال: ثنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن إسرائيل، عن أبي موسى سمع الحسن البصري يقول: قال عليّ: فينا والله أهل بدر نزلت الآية (وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ)
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة: (وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ) قال: من عداوة.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا محمد بن يزيد الواسطي، عن جويبر، عن الضحاك (وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ) قال: العداوة.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن فضيل، عن عطاء بن السائب، عن رجل، عن عليّ (وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ) قال: العداوة.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، قال: جاء ابن جرموز قاتل الزبير يستأذن على عليّ، فحجبه طويلا ثم أذن له فقال له: أما أهل البلاء فتجفوهم، قال عليّ: بفيك التراب، إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير ممن قال الله (وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ)
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن جعفر، عن عليّ نحوه.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن أبان بن عبد الله البجلي، عن نعيم بن أبي هند، عن رَبْعِيَ بن حِرَاش، بنحوه، وزاد فيه: قال: فقام إلى علي رجل من هَمَدان، فقال: الله أعدل من ذلك يا أمير المؤمنين، قال: فصاح عليٌّ صيحة ظننت أن القصر تدهده لها، ثم قال: إذا لم نكن نحن، فمن هم؟
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا أبو معاوية الضرير، قال: ثنا أبو مالك الأشجعي، عن أبي حبيبة مولى لطلحة، قال: دخل عمران بن طلحة على عليّ بعد ما فرغ من أصحاب الجمل، فرحَّب به وقال: إني لأرجو أن يجعلني الله وأباك من الذين قال الله (إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ)، ورجلان جالسان على ناحية البساط، فقالا الله أعدل من ذلك، تقتلهم بالأمس وتكونون إخوانا؟ فقال
108
عليّ: قوما أبعد أرض وأسحقها. فمن هم إذن إن لم أكن أنا وطلحة؟ وذكر لنا أبو معاوية الحديث بطوله.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا عفان، قال: ثنا عبد الواحد، قال: ثنا أبو مالك، قال: ثنا أبو حبيبة، قال: قال علي لابن طلحة: إني لأرجو أن يجعلني الله وأباك من الذين نزعَ الله ما في صدورهم من غلٍّ ويجعلنا إخوانا على سرر متقابلين.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا حماد بن خالد الخياط، عن أبي الجويرية، قال: ثنا معاوية بن إسحاق، عن عمران بن طلحة، قال: لما نظرني عليّ قال: مرحبا بابن أخي، فذكر نحوه.
حدثنا الحسن، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا هشام، عن محمد، قال: استأذن الأشتر على عليّ وعنده ابن لطلحة، فحبسه، ثم أذن له، فلما دخل قال: إني لأراك إنما حبستني لهذا، قال: أجل، قال: إني لأراه لو كان عندك ابن لعثمان لحبستني، قال: أجل إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان ممن قال الله (وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ).
حدثنا الحسن، قال: ثنا إسحاق الأزرق، قال: أخبرنا عوف، عن سيرين، بنحوه.
حدثنا الحسن، قال: ثنا يعقوب بن إسحاق الحضرمي، قال: ثنا السكن بن المغيرة، قال: ثنا معاوية بن راشد، قال: قال علي إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان ممن قال الله (وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ).
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: ثنا ابن المتوكل الناجي، أن أبا سعيد الخدري حدثهم أن رسول الله ﷺ قال: (يَخْلُصُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ النَّارِ فَيُحْبَسُونَ عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَيُقْتَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَظَالِمُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ قَالَ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لأَحَدُهُمْ أَهْدَى بِمَنزلِهِ فِي الْجَنَّةِ مِنْهُ
109
بِمَنزلِهِ الَّذِي كَانَ فِي الدُّنْيَا". وقال بعضهم: ما يشبَّه بهم إلا أهل جمعة انصرفوا من جمعتهم.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا عفان بن مسلم، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد بن أبي عروبة في هذه الآية (وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) قال: ثنا قتادة أن أبا المتوكل الناجي حدثهم أن أبا سعيد الخدريّ حدثهم، قال: قال رسول الله ﷺ فذكر نحوه، إلى قوله "وأُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ" ثم جعل سائر الكلام عن قتادة، قال: وقال قتادة: فوالذي نفسي بيده لأحدهم أهدى بمنزله، ثم ذكر باقي الحديث نحو حديث بشر، غير أن الكلام إلى آخره عن قتادة، سوى أنه قال في حديثه: قال قتادة وقال بعضهم: ما يشبَّه بهم إلا أهل الجمعة إذا انصرفوا من الجمعة.
حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي، قال: ثنا عمر بن زرعة، عن محمد بن إسماعيل الزبيدي، عن كثير النواء، قال سمعته يقول: دخلت على أبي جعفر محمد بن عليّ، فقلت: وليي وليكم، وسلمي سِلْمكم، وعدوّي عدوّكم، وحربي حربكم، إني أسألك بالله، أتبرأ من أبي بكر وعمر، فقال: قد ضَلَلْتُ إذا وما أنا من المهتدين، تولَّهما يا كثير، فما أدركك فهو في رقبتي، ثم تلا هذه الآية (إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) يقول: إخوانا يقابل بعضهم وجه بعض، لا يستدبره فينظر في قفاه، وكذلك تأوله أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا حصين، عن مجاهد، في قوله (عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) قال: لا ينظر أحدهم في قفا صاحبه.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى وعبد الرحمن ومؤمل، قالوا: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. والسرر: جمع سرير، كما الجدد: جمع جديد، وجمع سررا، وأظهر التضعيف فيها، والراءان متحرّكتان لخفة الأسماء، ولا تفعل ذلك في الأفعال لثقل الأفعال، ولكنهم يُدْغمون في الفعل ليسكن أحد الحرفين فيخفف، فإذا دخل على الفعل ما يسكن الثاني أظهروا حينئذ التضعيف.
110
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (٤٨) نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الألِيمُ (٥٠) ﴾
يقول تعالى ذكره: لا يَمسّ هؤلاء المتقين الذين وصف صِفتهم في الجنات نَصَب، يعني تَعَب (وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ) يقول: وما هم من الجنة ونعيمها وما أعطاهم الله فيها بمخرجين، بل ذلك دائم أبدا. وقوله (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: أخبر عبادي يا محمد، أني أنا الذي أستر على ذنوبهم إذا تابوا منها وأنابوا، بترك فضيحتهم بها وعقوبتهم عليها، الرحيم بهم أن أعذّبهم بعد توبتهم منها عليها (وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الألِيمُ) يقول: وأخبرهم أيضا أن عذابي لمن أصرّ على معاصيّ وأقام عليها ولم يتب منها، هو العذاب الموجع الذي لا يشبهه عذاب. هذا من الله تحذير لخلقه التقدم على معاصيه، وأمر منه لهم بالإنابة والتوبة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الألِيمُ) قال: بلغنا أن نبيّ الله ﷺ قال: "لَوْ يَعلمُ العبدُ قَدْر عَفْوِ اللَّهِ لما تورّعَ من حرام، وَلَو يَعلم قَدْر عَذَابهِ لَبخَع نفسَه".
حدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: أخبرنا ابن المكيّ، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: أخبرنا مصعب بن ثابت، قال: ثنا عاصم بن عبد الله، عن ابن أبي رباح، عن رجل من أصحاب النبيّ ﷺ قال:" طَلَع عَلَيْنَا رسولُ الله ﷺ من الباب الذي يدخل منه بنو شيبة، فقال: ألا أرَاكُمْ تَضْحَكُونَ؟ ثم أدبر حتى إذا كان عند الحجر رجع إلينا القهقرى، فقال: إنّي لمَّا خَرَجْتُ جاءَ جَبْرَئِيل ﷺ فَقَالَ: يا مُحَمَّد إنَّ الله يَقُولُ: لِمَ تُقَنِّطُ عبادِي؟ نبِّئ عبادِي أنّي أنا الغَفُورُ الرَّحيمُ وأنَّ عَذَابِي هُوَ العَذَابُ الألِيمُ".
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (٥١) ﴾
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (٥٢) قَالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٥٣) ﴾
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وأخبر عبادي يا محمد عن ضيف إبراهيم: يعني الملائكة الذين دخلوا على إبراهيم خليل الرحمن حين أرسلهم ربهم إلى قوم لوط ليهلكوهم (فَقَالُوا سَلامًا) يقول: فقال الضيف لإبراهيم: سلاما (قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) يقول: قال إبراهيم: إنا منكم خائفون. وقد بيَّنا وجه النصب في قوله (سَلاما) وسبب وجل إبراهيم من ضيفه، واختلاف المختلفين ودللنا على الصحيح من القول فيه فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وأما قوله (قَالُوا سَلامًا) وهو يعني به الضيف، فجمع الخبر عنهم، وهم في لفظ واحد، فإن الضيف اسم للواحد والاثنين والجمع مثل الوزن والقطر والعدل، فلذلك جمع خبره، وهو لفظ واحد. وقوله (قَالُوا لا تَوْجَلْ) يقول: قال الضيف لإبراهيم: (لا توجل) لا تخف (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ).
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونِ (٥٤) ﴾
يقول تعالى ذكره: قال إبراهيم للملائكة الذين بشَّروه بغلام عليم (أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونِ) يقول: فبأي شيء تبشرون.
وكان مجاهد يقول في ذلك ما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، وحدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا ورقاء، وحدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد،
في قوله (قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونِ) قال: عجب من كبره، وكبر امرأته.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله، وقال (عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ) ومعناه: لأن مسني الكبر وبأن مسني الكبر، وهو نحو قوله (حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ) بمعنى: بأن لا أقول، ويمثله في الكلام: أتيتك أنك تعطي، فلم أجدك تعطي.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (٥٥) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ (٥٦) ﴾
يقول تعالى ذكره: قال ضيف إبراهيم له: بشرناك بحقّ يقين، وعلم منَّا بأن الله قد وهب لك غلاما عليما، فلا تكن من الذين يقنطون من فضل الله فييأسون منه، ولكن أبشر بما بشرناك به واقبل البُشرى.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله (مِنَ الْقَانِطِينَ) فقرأه عامَّة قراء الأمصار (مِنَ الْقَانِطِينَ) بالألف. وذكر عن يحيى بن وثاب أنه كان يقرأ ذلك (القَنِطِينَ).
والصواب من القراءة في ذلك ما عليه قرّاء الأمصار، لإجماع الحجة على ذلك، وشذوذ ما خالفه.
وقوله (قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ) يقول تعالى ذكره: قال إبراهيم للضيف: ومن ييأس من رحمة الله إلا القوم الذين قد أخطئوا سبيل الصواب، وتركوا قصد السبيل في تركهم رجاء الله، ولا يخيب من رجاه، فضلوا بذلك عن دين الله.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله (وَمَنْ يَقْنَطُ) فقرأ ذلك عامَّة قرّاء المدينة والكوفة (وَمَنْ يَقْنَطُ) بفتح النون، إلا الأعمش والكسائي فإنهما كسرا النون من (يَقْنِط). فأما الذين فتحوا النون منه ممن ذكرنا فإنهم قرءوا (مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا) بفتح القاف والنون. وأما الأعمش فكان يقرأ ذلك: من بعد ما قَنِطُوا، بكسر
النون. وكان الكسائي يقرؤه بفتح النون، وكان أبو عمرو بن العلاء يقرأ الحرفين جميعا على النحو الذي ذكرنا من قراءة الكسائي.
وأولى القراءات في ذلك بالصواب قراءة من قرأ (مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا) بفتح النون (وَمَنْ يَقْنِطُ) بكسر النون، لإجماع الحجة من القرّاء على فتحها في قوله (مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا) فكسرها في (وَمَنْ يَقْنِطُ) أولى إذا كان مجمعا على فتحها في قَنَط، لأن فَعَل إذا كانت عين الفعل منها مفتوحة، ولم تكن من الحروف الستة التي هي حروف الحلق، فإنها تكون في يفْعِل مكسورة أو مضمومة. فأما الفتح فلا يُعرف ذلك في كلام العرب.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (٦٠) ﴾
يقول تعالى ذكره: قال إبراهيم للملائكة: فما شأنكم: ما أمرُكم أيُّها المرسلون؟ قالت الملائكة له: إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين: يقول: إلى قوم قد اكتسبوا الكفر بالله، إلا آل لوط: يقول: إلا اتباع لوط على ما هو عليه من الدِّين، فإنا لن نهلكهم بل ننجيهم من العذاب الذي أمرنا أن نعذّب به قوم لوط، سوى امرأة لوط قدّرنا إنها من الغابرين: يقول: قضى الله فيها إنها لمن الباقين، ثم هي مهلكة بعد. وقد بيَّنا الغابر فِيما مضى بشواهده.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) ﴾
يقول تعالى ذكره: فلما أتى رسلُ الله آل لوط، أنكرهم لوط فلم يعرفهم، وقال لهم: (إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) : أي نُنْكركم لا نعرفكم، فقالت له
الرسل: بل نحن رسل الله جئناك بما كان فيه قومك يشكون أنه نازل بهم من عذاب الله على كفرهم به.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، وحدثني الحسن بن محمد، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا ورقاء، وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، وحدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) قال: أنكرهم لوط، وقوله (بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ) قال. بعذاب قوم لوط.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (٦٤) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥) ﴾
يقول تعالى ذكره: قالت الرسل للوط: وجئناك بالحق اليقين من عند الله، وذلك الحقّ هو العذاب الذي عذب الله به قوم لوط. وقد ذكرت خبرهم وقصصهم في سورة هود وغيرها حين بعث الله رسله ليعذّبهم به. وقولهم: (وَإِنَّا لَصَادِقُونَ) يقولون: إنا لصادقون فيما أخبرناك به يا لوط من أن الله مهلك قومك (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) يقول تعالى ذكره مخبرا عن رسله أنهم قالوا للوط، فأسر بأهلك ببقية من الليل، واتبع يا لوط أدبار أهلك الذين تسري بهم وكن من ورائهم، وسر خلفهم وهم أمامك، ولا يلتفت منكم وراءه أحد، وامضوا حيث يأمركم الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، عن ورقاء جميعا، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) لا يلتفت وراءه أحد، ولا يُعَرِّج.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) : لا ينظر وراءه أحد.
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل؛ وحدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثنا القاسم، قال. ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ) قال: أُمِر أن يكون خلف أهله، يتبع أدبارهم في آخرهم إذا مشوا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) قال: بعض الليل (وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ) : أدبار أهله.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧) ﴾
يقول تعالى ذكره: وفرغنا إلى لوط من ذلك الأمر، وأوحينا أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين: يقول: إن آخر قومك وأوّلهم مجذوذ مستأصل صباح ليلتهم، وأنّ من قوله (أَنَّ دَابِرَ) في موضع نصب ردّا على الأمر بوقوع القضاء عليها. وقد يجوز أن تكون في موضع نصب بفقد الخافض، ويكون معناه: وقضينا إليه ذلك الأمر بأن دابر هؤلاء مقطوع مُصبحين. وذكر أن ذلك في قراءة عبد الله: وقلنا إن دابر هؤلاء مقطوع مُصبحين. وعُنِي بقوله (مُصْبِحِينَ) : إذا أصبحوا، أو حين يصبحون.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني
حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس، قوله (أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) يعني: استئصال هلاكهم مصبحين.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمْر) قال: وأوحينا إليه.
وقوله (وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ) يقول: وجاء أهل مدينة سَدُوم وهم قوم لوط لما سمعوا أن ضيفا قد ضاف لوطا مستبشرين بنزولهم مدينتهم طمعا منهم في ركوب الفاحشة.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ) استبشروا بأضياف نبيّ الله ﷺ لوط، حين نزلوا لما أرادوا أن يأتوا إليهم من المنكر.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قَالَ إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (٦٩) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (٧٠) ﴾
يقول تعالى ذكره: قال لوط لقومه: إن هؤلاء الذين جئتموهم تريدون منهم الفاحشة ضيفي، وحقّ على الرجل إكرام ضيفه، فلا تفضحون أيها القوم في ضيفي، وأكرموني في ترككم التعرّض لهم بالمكروه، وقوله (وَاتَّقُوا اللَّهَ) يقول: وخافوا الله فيّ وفي أنفسكم أن يحلّ بكم عقابه (وَلا تُخْزُونِ) يقول: ولا تذلوني ولا تهينوني فيهم، بالتعرّض لهم بالمكروه (قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ) يقول تعالى ذكره: قال للوط قومه: أو لم ننهك أن تضيف أحدا من العالمين.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ) قال: ألم ننهك أن تضيف أحدا؟
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (٧١)
لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣) }
يقول تعالى ذكره: قال لوط لقومه: تزوّجوا النساء فأتوهنّ، ولا تفعلوا ما قد حرّم الله عليكم من إتيان الرجال، إن كنتم فاعلين ما آمركم به، ومنتهين إلى أمري.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ) : أمرهم نبيّ الله لوط أن يتزوّجوا النساء، وأراد أن يَقِيَ أضيافه ببناته.
وقوله (لَعَمْرُكَ) يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وحياتك يا محمد، إن قومك من قريش (لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) يقول: لفي ضلالتهم وجهلهم يتردّدون.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا سعيد بن زيد، قال: ثنا عمرو بن مالك، عن أبي الجوْزاء، عن ابن عباس، قال: ما خلق الله وما ذرأ وما برأ نفسا أكرم على الله من محمد صلى الله عليه وسلم، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره، قال الله تعالى ذكره (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ).
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا يعقوب بن إسحاق الحضْرميّ، قال: ثنا الحسن بن أبي جعفر، قال: ثنا عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس، في قول الله (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) قال: ما حلف الله تعالى بحياة أحد إلا بحياة محمد صلى الله عليه وسلم، قال: وحياتك يا محمد وعمرك وبقائك في الدنيا (إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ).
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) وهي كلمة من كلام العرب، لفي سكرتهم: أي في ضلالتهم يعمهون: أي يلعبون.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، قال: سألت الأعمش، عن قوله (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) قال: لفي غفلتهم يتردّدون.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن
قتادة: (فِي سَكْرَتِهِم) قال: في ضلالتهم يعمهون قال: يلعبون.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، قال: قال مجاهد (يَعْمَهُونَ) قال: يتردّدون.
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (لَعَمْرُكَ) يقول: لَعَيْشُكَ (إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) قال: يتمادَوْن.
حدثني أبو السائب، قال: ثنا معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، قال: كانوا يكرهون أن يقول الرجل: لعمري، يرونه كقوله: وَحَيَاتِي.
وقوله (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ) يقول تعالى ذكره: فأخذتهم صاعقة العذاب، وهي الصيحة مشرقين: يقول: إذ أشرقوا، ومعناه: إذ أشرقت الشمس، ونصب مشرقين ومصبحين على الحال بمعنى: إذا أصبحوا، وإذ أشرقوا، يقال منه: صيح بهم، إذا أهلكوا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ) قال: حين أشرقت الشمس ذلك مشرقين.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (٧٤) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥) ﴾
يقول تعالى ذكره: فجعلنا عالي أرضهم سافلها، وأمطرنا عليهم حِجارة من سجيل (١).
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن عكرمة (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) أي من طين.
(١) لعل الأصل (من سجيل) : أي من طين، كما يظهر بتأمل.
119
وقوله (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) يقول: إن في الذي فعلنا بقوم لوط من إهلاكهم، وأحللنا بهم من العذاب لَعَلامات ودلالات للمتفرّسين المعتبرين بعلامات الله، وعبره على عواقب أمور أهل معاصيه والكفر به. وإنما يعني تعالى ذكره بذلك قوم نبيّ الله ﷺ من قريش، يقول: فلقومك يا محمد في قوم لوط، وما حلّ بهم من عذاب الله حين كذّبوا رسولهم، وتمادوا في غيهم، وضلالهم، مَعْتَبَر.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله (لِلْمُتَوَسِّمِينَ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عبد الأعلى بن واصل قال: ثنا يعلى بن عبيد، قال: ثنا عبد الملك بن أبي سليمان، عن قيس، عن مجاهد، في قوله (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) قال: للمتفرّسين.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن فضيل، عن عبد الملك، وحدثنا الحسن الزعفراني، قال: ثني محمد بن عبيد، قال: ثني عبد الملك، عن قيس، عن مجاهد (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) قال للمتفرّسين.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، وحدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا ورقاء، وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل، وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو أسامة، قال: ثنا شبل جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال: المتوسمين، المتفرّسين، قال: توسَّمت فيك الخير نافلة.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن قيس، عن مجاهد (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) قال: المتفرّسين.
120
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) يقول: للناظرين.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا محمد بن يزيد، عن جويبر، عن الضحاك (لِلْمُتَوَسِّمِينَ) قال للناظرين.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) : أي للمعتبرين.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، قوله (لِلْمُتَوَسِّمِينَ) أي: للمعتبرين.
حدثني محمد بن عُمارة، قال: ثني حسن بن مالك، قال: ثنا محمد بن كثير، عن عمرو بن قيس، عن عطية، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ. ثم قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) ".
حدثنا أحمد بن محمد الطُّوسي، قال: ثنا محمد بن كثير مولى بني هاشم، قال: ثنا عمرو بن قيس المُلائِي، عن عطية، عن أبي سعيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.
حدثني أحمد بن محمد الطوسي، قال: ثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا الفُرات بن السائب، قال: ثنا ميمون بن مهران، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّ المُؤْمِنِ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ".
حدثنا عبد الأعلى بن واصل، قال: ثني سعيد بن محمد الجَرْميّ، قال: ثنا عبد الواحد بن واصل، قال: ثنا أبو بشر المزلق، عن ثابت البُنَانِيّ، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا يَعْرِفُونَ النَّاسَ بِالتَّوَسُّمِ ".
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) قال: المتفكرون والمعتبرون الذين يتوسمون الأشياء، ويتفكرون فيها ويعتبرون.
121
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (لِلْمُتَوَسِّمِينَ) يقول: للناظرين.
حدثني أبو شرحبيل الحمْصِي، قال: ثنا سليمان بن سلمة، قال: ثنا المؤمل بن سعيد بن يوسف الرحبيّ، قال: ثنا أبو المعلَّى أسد بن وداعة الطائيّ، قال: ثنا وهب بن منبه، عن طاوس بن كيسان، عن ثَوْبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احْذَرُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ، وَيَنْطِقُ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ ".
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (٧٦) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) ﴾
يقول تعالى ذكره: وإن هذه المدينة، مدينة سَدُوم، لبطريق واضح مقيم يراها المجتاز بها لا خفاء بها، ولا يبرح مكانها، فيجهل ذو لبّ أمرها، وغبّ معصية الله، والكفر به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن نمير، عن ورقاء، وحدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا ورقاء، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، وحدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، وحدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) قال: لبطريق معلم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) يقول: بطريق واضح.
٦٧ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله (وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) قال: طريق، السبيل: الطريق.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) يقول: بطريق معلم.
وقوله (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) يقول تعالى ذكره: إن في صنيعنا بقوم لوط ما صنعنا بهم، لعلامة ودلالة بينة لمن آمن بالله على انتقامه من أهل الكفر به، وإنقاذه من عذابه، إذا نزل بقوم أهل الإيمان به منهم.
كما حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن سماك، عن سعيد بن جبير، في قوله (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً) قال: هو كالرجل يقول لأهله: علامة ما بيني وبينكم أن أرسل إليكم خاتمي، أو آية كذا وكذا.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو أسامة، عن سفيان، عن سماك، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً) قال: أما ترى الرجل يرسل بخاتمه إلى أهله فيقول: هاتوا خذي، هاتوا خذي، فإذا رأوه علموا أنه حقّ.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (٧٩) ﴾
يقول تعالى ذكره: وقد كان أصحاب الغَيْضة ظالمين، يقول: كانوا بالله كافرين، والأيكة: الشجر الملتف المجتمع، كما قال أمية:
123
كَبُكا الحَمامِ عَلى فُرُو... عِ الأَيْكِ في الغُصُنِ الجَوَانِحْ (١)
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد، قال: ثنا عتاب بن بشير، عن خصيف، قال، قوله (أَصْحَابُ الأَيْكَةِ) قال: الشجر، وكانوا يأكلون في الصيف الفاكهة الرطبة، وفي الشتاء اليابسة.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ) ذكر لنا أنهم كانوا أهل غيضة. وكان عامَّة شجرهم هذا الدَّوْم. وكان رسولهم فيما بلغنا شُعَيب صلى الله عليه وسلم، أرسل إليهم وإلى أهل مدين، أرسل إلى أمتين من الناس، وعذّبتا بعذابين شتى. أما أهل مدين، فأخذتهم الصيحة، وأما أصحاب الأيكة، فكانوا أهل شجر متكاوس، ذُكر لنا أنه سلَّط عليهم الحرّ سبعة أيام، لا يظللهم منه ظلّ، ولا يمنعهم منه شيء، فبعث الله عليهم سحابة، فحَلُّوا تحتها يلتمسون الرَّوْح فيها، فجعلها الله عليهم عذابا، بعث عليهم نارا فاضطرمت عليهم فأكلتهم، فذلك عذاب يوم الظلَّة، إنه كان عذاب يوم عظيم.
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرحمن بن أبي حماد، قال: ثنا عمرو بن ثابت، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، قال: أصحاب الأيكة: أصحاب غَيْضَة.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قوله (وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ) قال: قوم شعيب، قال ابن عباس: الأيكة ذات آجام وشجر كانوا فيها.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت
(١) البيت لأمية بن أبي الصلت الثقفي، ولم أجده في ديوانه، ووجدته في سيرة ابن هشام (٣: ٣١ طبعة الحلبي) من قصيدة له يرثي بها قتلى بدر وأولها أَلاَّ بَكَيْتِ عَلى الكِرَا... مِ بَنِي الكِرَامِ أُولي المَمادِحْ
كبكا الحمام... البيت. والأيك: الشجر الملتف، واحدته أيكة، والجوانح: الموائل. يقول: جنح: إذا مال. وفي (اللسان أيك) : الأيكة: الشجر الكثير الملتف. وقيل: هي الغيضة تنبت السد والأراك ونحوهما من ناعم الشجر، وخص بعضهم به منت الأثل ومجتمعه.
124
الضحاك يقول: في قوله (أصحَابُ الأَيْكَةِ) قال: هم قوم شعيب، والأيكة: الغيضة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن عمرو بن عبد الله، عن قتادة، أنه قال: إن أصحاب الأيكة، والأيكة: الشجر الملتفّ.
وقوله (فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ) يقول تعالى ذكره: فانتقمنا من ظلمة أصحاب الأيكة. وقوله (وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ) يقول: وإن مدينة أصحاب الأيكة، ومدينة قوم لوط، والهاء والميم في قوله (وإنَّهُما) من ذكر المدينتين. (لَبِإمامٍ) يقول: لبطريق يأتمون به في سفرهم، ويهتدون به (مُبِينٍ) يقول: يبين لمن ائتمّ به استقامته، وإنما جعل الطريق إماما لأنه يُؤم ويُتَّبع.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله (وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ) يقول: على الطريق.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ) يقول: طريق ظاهر.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، وحدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا ورقاء، وحدثني المثنى. قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، وحدثني المثنى قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ) قال: بطريق معلم.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ) قال: طريق واضح.
حُدثت عن الحسين قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ) بطريق مستبين.
125
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (٨١) ﴾
يقول تعالى ذكره: ولقد كذب سكان الحجر، وجعلوا لسكناهم فيها ومقامهم بها أصحابها، كما قال تعالى ذكره: (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا) فجعلهم أصحابها لسُكناهم فيها ومقامهم بها. والحجر: مدينة ثمود.
وكان قتادة يقول في معنى الحجر، ما حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: أصحاب الحجر: قال: أصحاب الوادي.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، وهو يذكر الحِجْر مساكن ثمود قال: قال سالم بن عبد الله: إن عبد الله بن عمر قال:" مررنا مع رسول الله ﷺ على الحجر، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ إِلا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ حَذَرًا أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ، ثم زجر فأسرع حتى خلفها).
حدثنا زكريا بن يحيى بن أبان المصريّ، قال: ثنا أبو يوسف يعقوب بن إسحاق بن أبي عباد المكي، قال: ثنا داود بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن ابن سابط، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله ﷺ قال وهو بالحجر: "هَؤُلاءِ قَوْمُ صَالِحٍ أهْلَكَهُمُ اللَّهُ إلا رَجُلا كانَ فِي حَرَمِ الله مَنَعَهُ حَرَمُ اللَّهِ مَنْ عَذَابِ اللَّهِ، قيل: يا رسول الله من هو؟ قال: أبُو رِغالٍ".
وقوله (وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ) يقول: وأريناهم أدلتنا وحججنا على حقيقة ما بعثنا به إليهم رسولنا صالحا، فكانوا عن آياتنا التي آتيناهموها معرضين لا يعتبرون بها ولا يتعظون.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (٨٢)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٨٤) }
يقول تعالى ذكره: وكان أصحاب الحجر، وهم ثمود قوم صالح، (يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ) من عذاب الله، وقيل: آمنين من الخراب أن تخرب بيوتهم التي نحتوها من الجبال. وقيل: آمنين من الموت. وقوله (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ) يقول: فأخذتهم صيحة الهلاك حين أصبحوا من اليوم الرابع من اليوم الذي وُعدوا العذاب، وقيل لهم: تَمتَّعوا في داركم ثلاثة أيام. وقوله (فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) يقول: فما دفع عنهم عذاب الله ما كانوا يجترحون من الأعمال الخبيثة قبل ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ (٨٦) ﴾
يقول تعالى ذكره: وما خلقنا الخلائق كلها، سماءها وأرضَها، ما فيهما وما بينهما، يعني بقوله (وَمَا بَيْنَهُمَا) مما في أطباق ذلك (إِلا بِالْحَقِّ) يقول: إلا بالعدل والإنصاف، لا بالظلم والجور، وإنما يعني تعالى ذكره بذلك: أنه لم يظلم أحدا من الأمم التي اقتصّ قَصَصَهَا في هذه السورة، وقصص إهلاكه إياها بما فعل به من تعجيل النقمة له على كفره به، فيعذّبه ويهلكه بغير استحقاق، لأنه لم يخلق السموات والأرض وما بينهما بالظلم والجور، ولكنه خلق ذلك بالحقّ والعدل. وقوله (وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وإن الساعة، وهي الساعة التي تقوم فيها القيامة لجائية، فارض بها لمشركي قومك الذين كذّبوك، وردّوا عليك ما جئتهم به من الحقّ، (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) يقول: فأعرض عنهم إعراضا جميلا واعف عنهم
عفوًا حسنا وقوله (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ) يقول تعالى ذكره: إن ربك هو الذي خلقهم وخلق كلّ شيء، وهو عالم بهم وبتدبيرهم، وما يأتون من الأفعال، وكان جماعة من أهل التأويل تقول: هذه الآية منسوخة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) ثم نسخ ذلك بعد، فأمره الله تعالى ذكره بقتالهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، لا يقبل منهم غيره.
حدثني المثنى، قال: ثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن جويبر، عن الضحاك، في قوله (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ)، (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) و (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ) وهذا النحوُ كله في القرآن أمر الله به نبيه ﷺ أن يكون ذلك منه، حتى أمره بالقتال، فنسخ ذلك كله. فقال (وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ).
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن مجاهد (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) قال: هذا قبل القتال.
حدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن الزبير، عن سفيان بن عيينة، في قوله: (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) وقوله (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) قال: كان هذا قبل أن ينزل الجهاد. فلما أمر بالجهاد قاتلهم فقال: "أَنَا نَبِيُّ الرِّحْمَةِ ونَبِيُّ المَلْحَمَةِ، وبُعِثْتُ بالحصادِ وَلمْ أبْعَثْ بالزِّرَاعَةِ".
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧) ﴾
اختلف أهل التأويل في معنى السبع الذي أتى الله نبيه ﷺ من المثاني، فقال بعضهم عني بالسبع: السبع السور من أوّل القرآن اللواتي يُعْرفن بالطول،
128
وقائلو هذه المقالة مختلفون في المثاني، فكان بعضهم يقول: المثاني هذه السبع، وإنما سمين بذلك لأنهن ثُنْي فيهنّ الأمثالُ والخبرُ والعِبَر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن يونس، عن ابن سيرين، عن ابن مسعود في قوله (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي) قال: السبع الطُّوَل.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن سعيد الجريريّ، عن رجل، عن ابن عمر قال: السبع الطُّوَل.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يَمان، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس، في قوله (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي) قال: السبع الطُّوَل.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس، مثله.
حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن الحجاج، عن الوليد بن العيزار، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: هنّ السبع الطُّوَل، ولم يُعطَهن أحد إلا النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وأُعطيَ موسى منهنّ اثنتين.
حدثنا ابن وكيع، وابن حميد، قالا ثنا جرير، عن الأعمش، عن مسلم البَطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: أوتي النبيّ ﷺ سبعا من المثاني الطُّوَل، وأوتي موسى ستا، فلما ألقي الألواح رفعت اثنتان وبقيت أربع.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا عليّ بن عبد الله بن جعفر، قال: ثنا جرير، عن الأعمش، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن ادم، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، في قوله (سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي) قال: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف. قال إسرائيل: وذكر السابعة فنسيتها.
129
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، في قوله (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي) قال: هي الطُّوَل: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، ويونس.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في هذه الآية (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) قال: البقرة، وآل عمران، والنساء والمائدة والأنعام، والأعراف، ويونس، فيهنّ الفرائض والحدود.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، بنحوه.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن ابن أبي خالد، عن خوّات، عن سعيد بن جبير، قال: السبع، الطُّوَل.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال أبو بشر: أخبرنا عن سعيد بن جبير، قال: هنّ السبع الطُّوَل. قال: وقال مجاهد هن السبع الطُّوَل. قال: ويقال: هنّ القرآن العظيم.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا سعيد، عن جعفر، عن سعيد، في قوله (سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) قال: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، ويونس، تُثْنى فيها الأحكام والفرائض.
حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، قال: ثنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، قال: هن السبع الطُّوَل.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، في قوله (سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي) قال: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، ويونس. قال: قلت: ما المثاني؟ قال: يثني فيهنّ القضاء والقَصَص.
حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي) قال: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، ويونس.
130
حدثنا أحمد، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: السبع الطُّوَل.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا أبو خالد القرشي، قال: ثنا سفيان، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا أبو خالد، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت ليثا، عن مجاهد، قال: هي السبع الطُّوَل.
حدثنا الحسن بن محمد بن عبيد الله، قال: ثنا عبد الملك، عن قيس، عن مجاهد، في قوله (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي) قال: هي السبع الطُّوَل.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) قال: من القرآن السبع الطُّوَل السبع الأول
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن فضيل وابن نمير، عن عبد الملك، عن قيس، عن مجاهد، قال: هنّ السبع الطُّوَل.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: السبع الطُّوَل.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن نمير، عن سفيان، عن عبد الله بن عثمان بن خُثَيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: هي الأمثال والخَبَر والعِبَر.
131
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن نمير، عن إسماعيل، عن خوّات، عن سعيد بن جبير، قال: هي السبع الطُّوَل، أعطِيَ موسى ستا، وأُعطِيَ محمد ﷺ سبعا.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، يقول: ثنا عبيد، قال. سمعت الضحاك يقول، في قوله (سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي) يعني السبع الطُّوَل.
وقال آخرون: عني بذلك: سبع آيات، وقالوا: هن آيات فاتحة الكتاب، لأنهنّ سبع آيات، وهم أيضا مختلفون في معنى المثاني، فقال بعضهم: إنما سمين مثاني لأنهن يثنين في كلّ ركعة من الصلاة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: أخبرنا ابن علية، عن سعيد الجريري، عن أبي نضرة، قال: قال رجل منا يقال له: جابر أو جويبر طلبت إلى عمر حاجة في خلافته، فقدمت المدينة ليلا فمثلت بين أن أتخذ منزلا وبين المسجد، فاخترت المسجد منزلا فأرقت نشوا من آخر الليل، فإذا إلى جنبي رجل يصلي يقرأ بأم الكتاب، ثم يسبح قدر السورة، ثم يركع ولا يقرأ، فلم أعرفه حتى جَهَر، فإذا هو عُمر، فكانت في نفسي، فغدوت عليه فقلت: يا أمير المؤمنين حاجة مع حاجة، قال: هات حاجتك، قلت: إني قدمت ليلا فمثلت بين أن أتخذ منزلا وبين المسجد، فاخترت المسجد، فأرقت نَشْوا من آخر الليل، فإذا إلى جنبي رجل يقرأ بأم الكتاب، ثم يسبح قدر السورة ثم يركع ولا يقرأ، فلم أعرفه حتى جَهَر، فإذا هو أنت، وليس كذلك نفعل قِبلَنَا. قال: وكيف تفعلون؟ قال: يقرأ أحدنا أمّ الكتاب، ثم يفتتح السورة فيقرؤها، قال: ما لهم يعلَمُون ولا يعمَلُون، ما لهم يعلَمون ولا يعمَلُون، ما لهم يعلَمُون ولا يعمَلُون؟ وما تبغي عن السبع المثاني، وعن التسبيح صلاة الخلق.
حدثني طُلَيق بن محمد الواسطيّ، قال: أخبرنا يزيد، عن الجريريّ، عن أبي نضرة، عن جابر أو جويبر، عن عُمر بنحوه، إلا أنه قال: فقال يقرأ القرآن ما تيسر أحيانا، ويسبح أحيانا، ما لهم رغبة عن فاتحة الكتاب، وما يبتغي بعد المثاني، وصلاة الخلق التسبيح.
132
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا سفيان، عن السديّ، عن عبد خير، عن عليّ، قال: السبع المثاني: فاتحة الكتاب.
حدثنا نصر بن عبد الرحمن، قال: ثنا حفص بن عمر، عن الحسن بن صالح وسفيان، عن السديّ، عن عبد خير، عن عليّ مثله.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن السدي، عن عبد خير، عن عليّ مثله.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد جميعا، عن سفيان، عن السديّ، عن عبد خير، عن عليّ، مثله.
حدثنا أبو كريب "وابن وكيع"، قالا ثنا ابن إدريس، قال: ثنا هشام، عن ابن سيرين، قال: سئل ابن مسعود عن سبع من المثاني، قال: فاتحة الكتاب.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، قال: أخبرنا يونس، عن الحسن، في قوله (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي) قال: فاتحة الكتاب، قال: وقال ابن سيرين عن ابن مسعود: هي فاتحة الكتاب.
حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخيرنا هشيم، عن يونس، عن ابن سيرين، عن ابن مسعود (سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي) قال: فاتحة الكتاب.
حدثني سعيد بن يحيى الأمَويُّ، قال: ثني أبي، قال: ثنا ابن جريج، قال: أخبرنا أبي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أنه قال في قول الله تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي) قال: هي فاتحة الكتاب، فقرأها عليّ ستا، ثم قال: بسم الله الرحمن الرحيم الآية السابعة، قال سعيد: وقرأها ابن عياش عليّ كما قرأها عليك، ثم قال الآية السابعة: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال ابن عباس: قد أخرجها الله لكم وما أخرجها لأحد قبلكم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخيرني ابن جريج، أن أباه حدّثه، عن سعيد بن جبير، قال: قال لي ابن عباس: فاستفتح ببسم الله الرحمن الرحيم، ثم قرأ فاتحة الكتاب، ثم قال: تدري ما هذا (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي).
133
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي) يقول: السبع: الحمد لله ربّ العالمين، والقرآن العظيم. ويقال: هنّ السبع الطول، وهن المئون.
حدثنا أحمد، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن ابن جريج، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: فاتحة الكتاب.
حدثني عمران بن موسى القزاز، قال: ثنا عبد الوارث، قال: ثنا إسحاق بن سويد، عن يحيى بن يعمر وعن أبي فاختة في هذه الآية (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) قالا هي أمّ الكتاب.
حدثني المثنى، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن السديّ عمن سمع عليا يقول: الحمد لله ربّ العالمين، هي السبع المثاني.
حدثنا أبو المثنى، قالا ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت العلاء بن عبد الرحمن، يحدّث عن أبيه، عن أبيّ بن كعب، أنه قال: السبع المثاني: الحمد لله ربّ العالمين.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع، عن أبي العالية، في قول الله تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي) قال: فاتحة الكتاب سبع آيات، قلت للربيع: إنهم يقولون: السبع الطول، فقال: لقد أنزلت هذه، وما أنزل من الطول شيء.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي جعفر الرازيّ، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، قال: فاتحة الكتاب. قال: وإنما سميت المثاني لأنه يثني بها كلما قرأ القرآن قرأها، فقيل لأبي العالية: إن الضحاك بن مزاحم يقول: هي السبع الطُول. فقال: لقد نزلت هذه السورة سبعا من المثاني وما أنزل شيء من الطُول.
134
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، قال: ثنا سفيان، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، قال: فاتحة الكتاب.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي جميعا، عن سفيان، عن الحسن بن عبيد الله، عن إبراهيم، قال: فاتحة الكتاب.
حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن الحسن بن عبيد الله، عن إبراهيم مثله.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد جميعا، عن هارون بن أبي إبراهيم البربري، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، قال: السبع من المثاني: فاتحة الكتاب.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن ابن جريج، عن أبي مليكة (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي) قال: فاتحة الكتاب. قال: وذكر فاتحة الكتاب لنبيكم ﷺ لم تذكر لنبيّ قبله.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، عن ليث، عن شهر بن حوشب، في قوله (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي) قال: فاتحة الكتاب.
حدثني محمد بن أبي خداش، قال: ثنا محمد بن عبيد، قال: ثنا هارون البربري، عن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي في قول الله تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي) قال: هي الحمد لله ربّ العالمين.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، قال: سألت الحسن، عن قوله تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) قال: هي فاتحة الكتاب، ثم سئل عنها وأنا أسمع، فقرأها: الحمد لله ربّ العالمين، حتى أتى على آخرها، فقال: تثنى في كلّ قراءة.
حدثنا أحمد، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا إسرائيل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: فاتحة الكتاب.
حدثنا أحمد، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا شريك، عن ليث، عن مجاهد، قال: فاتحة الكتاب.
135
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) ذكر لنا أنهنّ فاتحة الكتاب، وأنهن يثنين في كلّ قراءة.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي) قال: فاتحة الكتاب تُثْنى في كل ركعة مكتوبة وتطوّع.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا حماد بن زيد وحجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني أبي عن سعيد بن جبير، أنه أخبره أنه سأل ابن عباس عن السبع المثاني، فقال: أمّ القرآن، قال سعيد: ثم قرأها، وقرأ منها (بسم الله الرحمن الرحيم) قال أبي: قرأها سعيد كما قرأها ابن عباس، وقرأ فيها بسم الله الرحمن الرحيم، قال سعيد: قلت لابن عباس: فما المثاني؟ قال: هي أمّ القران، استثناها الله لمحمد صلى الله عليه وسلم، فرفعها في أمّ الكتاب، فذخرها لهم حتى أخرجها لهم، ولم يُعطها لأحد قبله، قال: قلت لأبي: أخبرك سعيد أن ابن عباس قال له: بسم الله الرحمن الرحيم، آية من القرآن؟ قال: نعم. قال ابن جريج: قال عطاء: فاتحة الكتاب، وهي سبع ببسم الله الرحمن الرحيم، والمثاني: القرآن.
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، أنه قال: السبع المثاني: أمّ القرآن.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا عبد الله العتكي، عن خالد الحنفي قاضي مرو في قوله (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي) قال: فاتحة الكتاب.
وقال آخرون: عني بالسبع المثاني: معاني القرآن.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب الشهيد الشهيديّ، قال: ثنا عتاب بن بشير، عن خَصِيف، عن زياد بن أبي مريم، في قوله (سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي) قال: أعطيتك سبعة أجزاء: مُرْ، وأنْهَ، وبَشرْ، وأنذِرْ، واضرب الأمثال، واعدُد النعم، وآتيتك نبأ القرآن.
136
وقال آخرون: من الذين قالوا عُنِي بالسبع المثاني فاتحة الكتاب المثاني هو القرآن العظيم.
* ذكر من قال ذلك
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عمران بن عيينه، عن حصين، عن أبي مالك، قال: القرآن كله مثاني.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن حصين، عن أبي مالك، قال: القرآن كُلُّه مثاني.
حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا عبيد أبو زيد، عن حصين، عن أبي مالك، قال: القرآن مثاني. وعدّ البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، وبراءة.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن جريج، عن مجاهد، وعن ابن طاوس، عن أبيه، قال: القرآن كله يُثْنَى.
حدثنا محمد بن سعد، قال: قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: المثاني: ما ثنى من القرآن، ألم تسمع لقول الله تعالى ذكره: (اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ).
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول: المثاني: القرآن، يذكر الله القصة الواحدة مرارا، وهو قوله (نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ).
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: عني بالسبع المثاني: السبع اللواتي هنّ آيات أم الكتاب، لصحة الخبر بذلك عن رسول الله ﷺ الذي حدّثنيه يزيد بن مخلد بن خِدَاش، الواسطي، قال: ثنا خالد بن عبد الله، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمّ القُرآنِ السَّبْعُ المَثانِي الَّتِي أعْطِيتُها".
حدثني أحمد بن المقدام العجلي، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا روح بن القاسم، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله ﷺ قال لأبيّ: "إنّي أُحِبُّ أَنْ أُعَلِّمَكَ سُورَةً لَمْ يَنزلْ فِي التَّوْرَاةِ وَلا فِي الإنْجِيلِ وَلا فِي الزَّبُورِ وَلا
137
فِي الفُرْقانِ مِثْلُها قال نعم يا رسول الله، قال: إنّي لأَرْجُو أنْ لا تَخْرُجَ مِنْ هَذَا البابِ حتى تَعْلَمَها، ثم أخذ رسول الله ﷺ بيدي يحدثني، فجعلت أتباطأ مخافة أن يبلغ البابَ قبل أن ينقضي الحديث، فلما دنوت قلت: يا رسول الله ما السورة التي وعدتني؟ قال: ما تَقرأُ فِي الصَّلاةِ؟ فقرأت عليه أمّ القرآن، فقال: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أُنزلَ فِي التَّوْراةِ ولا في الإنْجِيلِ ولا في الزَّبُورِ ولا في الفُرْقان مِثْلُها، إِنَّها السَّبْعُ مِن المَثاني والقُرآنُ العَظِيمُ الَّذِي أُعْطِيتُهُ ".
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا زيد بن حباب العكلي، قال: ثنا مالك بن أنس، قال: أخبرني العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب مولى لعروة، عن أبي سعيد مولى عامر بن فلان، أو ابن فلان، عن أبيّ بن كعب، أن رسول الله ﷺ قال له: "إذا افْتَتَحْت الصَّلاةَ بِم تَفْتَتِحُ؟ قال: الحمد لله ربّ العالمين، حتى ختمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هِي السَّبْعُ المَثاني والقُرآنُ العَظِيمُ الَّذِي أُعْطيتُ ".
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو أسامة، عن عبد الحميد بن جعفر، عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن أبيّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أُعَلِّمُك سُورَةً ما أُنزل فِي التَّوْراةِ ولا في الإنْجِيلِ وَلا فِي الزَّبُورِ، ولا فِي الفُرْقانِ مِثْلُها؟ قلت: بلى، قال: إنّي لأَرْجُو أنْ لا تَخْرُج مِنْ ذَلِكَ البابِ حتى تَعْلَمَها، فقام رسول الله ﷺ وقمت معه، فجعل يحدثني ويده في يدي، فجعلت أتباطأ كراهية أن يخرج قبل أن يخبرني بها، فلما قرب من الباب قلت: يا رسول الله السورة التي وعدتني، قال: "كَيْفَ تَقْرأ إذَا افْتَتَحْتَ الصَّلاةَ؟ قال: فقرأت فاتحة الكتاب، قال: هِيَ هِيَ، وَهِيَ السَّبْعُ المَثانِي الَّتِي قال اللَّهُ تَعالى (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) -الّذِي أُوتِيتُ).
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا المحاربيّ، عن إبراهيم بن الفضل المدنيّ، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة: أن رسول الله ﷺ قال: "الرِّكْعَتانِ اللَّتانِ لا يُقْرأُ فِيهِما كالخِدَاجِ لَمْ يُتِمَّا، قال رجل: أرأيت إن لم يكن معي إلا أمّ القرآن؟ قال: "هي حسبك هِيَ أمُّ القُرآنِ، هِيَ السَّبْعُ المَثانِي".
138
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن نمير، عن إبراهيم بن الفضل، عن المقبري، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الرِّكْعةُ الَّتي لا يُقْرأُ فِيها كالخِدَاجِ" قلت لأبي هريرة: فإن لم يكن معي إلا أمّ القرآن؟ قال: هي حسبك، هي أمّ الكتاب، وأمّ القرآن، والسبع المثاني.
حدثني أبو كريب، قال: ثنا خالد بن مخلد، عن محمد بن جعفر، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيدِهِ، ما أنزلَ اللَّهُ فِي التَّوْراة وَلا فِي الإنْجِيلِ وَلا فِي الزَّبُورِ وَلا فِي الفُرْقانِ مِثْلَها، يعني أمّ القرآن، وإنَّها لَهِيَ السَّبْعُ المَثانِي الَّتِي آتانِي اللَّهُ تَعالى ".
حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن رسول الله ﷺ قال: "هِيَ أُمُّ القُرآنِ، وهِي فاتِحةُ الكِتابِ، وهِي السَّبْعُ المَثانِي".
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا يزيد بن هارون وشبابة، قالا أخبرنا ابن أبي ذئب، عن المقبريّ، عن أبي هريرة، عن النبيّ ﷺ في فاتحة الكتاب قال: "هِي فاتِحةُ الكِتابِ وهِي السَّبْعُ المَثانِي والقُرآنُ العَظِيمُ".
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا عفان، قال: ثنا عبد الرحمن بن إبراهيم، قال: ثنا العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: مرّ رسول الله ﷺ على أبيّ بن كعب فقال: " أَتُحِبُّ أَنْ أُعَلِّمَكَ سُورةً لَمْ يَنزلْ فِي التَّوْراةِ ولا في الإنْجِيلِ ولا في الزَّبُورِ ولا في الفُرْقان مِثْلُها؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال: فَكَيْف تَقْرأُ فِي الصَّلاةِ؟ فقرأت عليه أمّ الكتاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أُنزلَتْ سُورةٌ فِي التَّوْراةِ وَلا فِي الإنْجِيلِ وَلا فِي الزَّبُورِ وَلا فِي الفُرْقان مِثْلُها، وإنَّها السَّبْعُ المَثاني والقُرآنُ العَظِيمُ ".
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا سعيد بن حبيب، عن حفص بن عاصم، عن أبي سعيد بن المعلى، أن النبيّ ﷺ دعاه وهو يصلي، فصلى، ثم أتاه فقال: "ما مَنَعَكَ أنْ تُجِيبَنِي؟ قال: إني كنت أصلي، قال: ألَمْ يَقُلِ اللَّهُ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)
139
قال: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأُعَلِّمَنَّكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ فِي الْقُرْآن، فكأنه بينها أو نسي، فقلت: يا رسول الله الذي قلت: قال: الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ هِيَ السَّبْعُ المَثانِي والقرآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ".
فإذا كان الصحيح من التأويل في ذلك ما قلنا للذي به استشهدنا، فالواجب أن تكون المثاني مرادا بها القرآن كله، فيكون معنى الكلام: ولقد آتيناك سبع آيات مما يَثْنِي بعض آيه بعضا. وإذا كان ذلك كذلك كانت المثاني: جمع مَثْناة، وتكون آي القرآن موصوفة بذلك، لأن بعضها يَثْنِي بعضا، وبعضها يتلو بعضا بفصول تفصل بينها. فيعرف انقضاء الآية وابتداء التي تليها، كما وصفها به تعالى ذكره فقال (اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) وقد يجوز أن يكون معناها كما قال ابن عباس والضحاك: ومن قال ذلك أن القرآن إنما قيل له مَثَانِي لأن القصص والأخبار كرّرت فيه مرّة بعد أخرى. وقد ذكرنا قول الحسن البصريّ أنها إنما سميت مَثاني لأنها تُثْنَي في كلّ قراءة، وقول ابن عباس: إنها إنما سميت مثاني، لأن الله تعالى ذكره استثناها لمحمد ﷺ دون سائر الأنبياء غيره، فادّخرها له.
وكان بعض أهل العربية، يزعم أنها سميت مَثَانِيَ لأن فيها الرحمن الرحيم مرّتين، وأنها تُثْنَى في كلّ سورة، يعني: بسم الله الرحمن الرحيم.
وأما القول الذي اخترناه في تأويل ذلك، فهو أحد أقوال ابن عباس، وهو قول طاوس ومجاهد وأبي مالك، وقد ذكرنا ذلك قبل.
وأما قوله (وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) فإن القرآن معطوف على السبع، بمعنى: ولقد آتيناك سبع آيات من القرآن، وغير ذلك من سائر القرآن.
كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) قال: سائره: يعني سائر القرآن مع السبع من المثاني.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) يعني: الكتاب كله.
140
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨) ﴾
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لا تتمنينّ يا محمد ما جعلنا من زينة هذه الدنيا متاعا للأغنياء من قومك، الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، يتمتعون فيها، فإن مِنْ ورائهم عذابًا غليظًا (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) يقول: ولا تحزن على ما مُتعوا به فعجّل لهم. فإن لك في الآخرة ما هو خير منه، مع الذي قد عَجَّلنا لك في الدنيا من الكرامة بإعطائنا السبع المثاني والقرآن العظيم، يقال منه: مَدَّ فلانٌ عينه إلى مال فلان: إذا اشتهاه وتمناه وأراده.
وذُكر عن ابن عيينة أنه كان يتأوّل هذه الآية قولَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: " لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بالقُرآن": أي من لم يستغن به، ويقول: ألا تراه يقول (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ) فأمره بالاستغناء بالقرآن عن المال، قال: ومنه قول الآخر: من أوتي القرآن، فرأى أن أحدا أعطي أفضل مما أعطي فقد عظَّم صغيرا وصغَّر عظيما.
وبنحو الذي قلنا في قوله (أزْوَاجًا) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال ثنا ورقاء، وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ) : الأغنياء الأمثال الأشباه.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ) قال: نُهِيَ الرجل أن يتمنى مال صاحبه.
وقوله (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وألِن لمن آمن بك، واتبعك واتبع كلامك، وقرِّبهم منك، ولا تجف بهم، ولا تَغْلُظ عليهم، يأمره تعالى ذكره بالرفق بالمؤمنين، والجناحان من بني آدم: جنباه، والجناحان: الناحيتان، ومنه قول الله تعالى ذكره (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ) قيل: معناه: إلى ناحيتك وجنبك.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩) كَمَا أَنزلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) ﴾
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١) ﴾
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وقل يا محمد للمشركين: إني أنا النذير الذي قد أبان إنذاره لكم من البلاء والعقاب أن ينزل بكم من الله على تماديكم في غيكم، كما أنزلنا على المقتسمين: يقول: مثل الذي أنزل الله تعالى من البلاء والعقاب على الذين اقتسموا القرآن، فجعلوه عِضين.
ثم اختلف أهل التأويل في الذين عُنُوا بقوله (المُقْتَسِمِينَ)، فقال بعضهم: عني به: اليهود والنصارى، وقال: كان اقتسامهم أنهم اقتسموا القرآن وعضوه، فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عيسى بن عثمان الرملي، قال: ثنا يحيى بن عيسى، عن الأعمش، عن أبي ظَبْيان، عن ابن عباس، في قوله الله: (كَمَا أَنزلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) قال: هم اليهود والنصارى، آمنوا ببعض، وكفروا ببعض.
حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم، قالا ثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، في قوله (كَمَا أَنزلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) قال: هم أهل الكتاب، جزّءوه فجعلوه أعضاء أعضاء، فآمنوا ببعضه، وكفروا ببعضه.
142
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس، في قوله (كَمَا أَنزلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) قال: الذين آمنوا ببعض، وكفروا ببعض.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن شعبة، عن سليمان، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس، قال: (المُقْتَسِمِينَ) أهل الكتاب. (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) قال: يؤمنون ببعض، ويكفرون ببعض.
حدثني مطر بن محمد الضَّبِّيُّ، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، أنه قال في قوله (كَمَا أَنزلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ) قال: هم أهل الكتاب.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير أنه قال في هذه الآية (كَمَا أَنزلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) قال: هم أهل الكتاب، آمنوا ببعضه، وكفروا ببعضه.
حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، في قوله (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) قال: هم أهل الكتاب جزّءوه فجعلوه أعضاء، فآمنوا ببعضه، وكفروا ببعضه.
حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: جزّءوه فجعلوه أعضاء كأعضاء الجزور.
حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن منصور، عن الحسن، قال: هم أهل الكتاب.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (كَمَا أَنزلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ) قال: هم اليهود والنصارى من أهل الكتاب قسموا الكتاب، فجعلوه أعضاء، يقول: أحزابا، فآمنوا ببعض، وكفروا ببعض.
143
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: (المُقْتَسِمِينَ) أهل الكتاب، ولكنهم سموا المقتسمين، لأن بعضهم قال استهزاء بالقرآن: هذه السورة لي، وقال بعضهم: هذه لي.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن سماك، عن عكرمة أنه قال في هذه الآية (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) قال: كانوا يستهزءون، يقول هذا: لي سورة البقرة، ويقول هذا: لي سورة آل عمران.
وقال آخرون: هم أهل الكتاب، ولكنهم قيل لهم: المقتسمون: لاقتسامهم كتبهم، وتفريقهم ذلك بإيمان بعضهم ببعضها، وكفره ببعض، وكفر آخرين بما آمن به غيرهم، وإيمانهم بما كفر به الآخرون.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن عبد الملك، عن قيس، عن مجاهد (كَمَا أَنزلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) قال: هم اليهود والنصارى، قسموا كتابهم ففرّقوه. وجعلوه أعضاء.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثني الحسن قال: ثنا ورقاء، وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (كَمَا أَنزلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ) قال: أهل الكتاب فرقوه وبدّلوه.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد (كَمَا أَنزلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ) قال: أهل الكتاب.
وقال آخرون: عُنِي بذلك رهط من كفار قريش بأعيانهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (كَمَا أَنزلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) رهط خمسة من قريش، عضَّهُوا كتاب الله.
وقال آخرون: عُنِي بذلك رهط من قوم صالح الذين تقاسموا على تبييت صالح وأهله.
144
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (كَمَا أَنزلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ) قال: الذين تقاسموا بصالح، وقرأ قول الله تعالى (وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) قال: تقاسموا بالله حتى بلغ الآية.
وقال بعضهم: هم قوم اقتسموا طرق مكة أيام قدوم الحاجّ عليهم، كان أهلها بعثوهم في عقابها، وتقدموا إلى بعضهم أن يشيع في الناحية التي توجه إليها لمن سأله عن نبيّ الله ﷺ من القادمين عليهم، أن يقول: هو مجنون، وإلى آخر: إنه شاعر، وإلى بعضهم: إنه ساحر.
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى أمر نبيه ﷺ أن يُعلم قومه الذين عضَّوا القرآن ففرقوه، أنه نذير لهم من سخط الله تعالى وعقوبته، أن يَحُلّ بهم على كفرهم ربهم، وتكذيبهم نبيهم، ما حلّ بالمقتسمين من قبلهم ومنهم، وجائز أن يكون عني بالمقتسمين: أهل الكتابين: التوراة والإنجيل، لأنهم اقتسموا كتاب الله، فأقرّت اليهود ببعض التوراة وكذبت ببعضها، وكذبت بالإنجيل والفرقان، وأقرت النصارى ببعض الإنجيل وكذبت ببعضه وبالفرقان. وجائز أن يكون عُنِي بذلك: المشركون من قريش، لأنهم اقتسموا القرآن، فسماه بعضهم شعرا، وبعض كهانة، وبعض أساطير الأوّلين. وجائز أن يكون عُنِيَ به الفريقان، وممكن أن يكون عني به المقتسمون على صالح من قومه، فإذ لم يكن في التنزيل دلالة على أنه عُني به أحد الفرق الثلاثة دون الآخرين، ولا في خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا في فطرة عقل، وكان ظاهر الآية محتملا ما وصفت، وجب أن يكون مقتضيا بأن كلّ من اقتسم كتابا لله بتكذيب بعض وتصديق بعض، واقتسم على معصية الله ممن حلّ به عاجل نقمة الله في الدار الدنيا قبل نزول هذه الآية، فداخل في ذلك لأنهم لأشكالهم من أهل الكفر بالله، كانوا عبرة، وللمتعظين بهم منهم عِظَة.
واختلف أهل التأويل في معنى قوله (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) فقال بعضهم: معناه: الذين جعلوا القرآن فِرَقا مفترقة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني
145
معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) قال: فرقا.
حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم، قالا ثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: جزّءوه فجعلوه أعضاء، فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه.
حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: جزّءوه فجعلوه أعضاء كأعضاء الجزور.
حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا طلحة، عن عطاء (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) قال: المشركون من قريش، عضُّوا القرآن فجعلوه أجزاء، فقال بعضهم: ساحر، وقال بعضهم: شاعر، وقال بعضهم: مجنون، فذلك العِضُون.
حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول: في قوله (جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) : جعلوا كتابهم أعضاء كأعضاء الجزور، وذلك أنهم تقطعوه زبرا، كل حزب بما لديهم فرحون، وهو قوله (فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا).
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) عضهوا كتاب الله، زعم بعضهم أنه سِحْر، وزعم بعضهم أنه شِعْر، وزعم بعضهم أنه كاهن.
قال أبو جعفر: هكذا قال كاهن، وإنما هو كهانة، وزعم بعضهم أنه أساطير الأولين.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) قال: آمنوا ببعض، وكفروا ببعض.
حدثني يونس، قال: أخبرني ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) قال: جعلوه أعضاء كما تُعَضَّى الشاة. قال بعضهم: كَهانة، وقال بعضهم: هو سحر، وقال بعضهم: شعر، وقال
146
بعضهم (أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا).. الآية، جعلوه أعضاء كما تُعَضَّى الشاة فوجه قائلو هذه المقالة قوله (عِضِينَ) إلى أن واحدها: عُضْو، وأن عِضِينَ جمعه، وأنه مأخوذ من قولهم عَضَّيت الشيء تعضية: إذا فرقته، كما قال رؤبة:
وليس دينُ اللَّهِ بالمُعَضَّى (١)
يعني بالمفرّق، وكما قال الآخر:
وعَضَّى بَنِي عَوْف فأمَّا عَدُوَّهُمْ... فأرْضَى وأمَّا الْعِزُّ منهُمُ فغيَّرا (٢)
يعني بقوله: وعَضَّى: سَبَّاهُمْ، وقَطَّعاهُمْ بألسنتهما (٣). وقال آخرون: بل هي جمع عِضَة، جمعت عِضين، كما جمعت البُرّة بُرِين، والعِزة عِزِين، فإذا وُجَّه ذلك إلى هذا التأويل كان أصل الكلام عِضَهَة، ذهبت هاؤها الأصلية، كما نقصوا الهاء من الشَّفَة وأصلها شَفَهَة، ومن الشاة، وأصلها شاهة، يدل على أن ذلك الأصل تصغيرهم الشفة: شُفَيْهة، والشاة: شُوَيْهة، فيردّون الهاءَ التي تسقط في غير حال التصغير، إليها في حال التصغير، يقال منه: عَضَهْتُ الرجل أعضَهُه عَضْهًا. إذا بَهَتَّه، وقذفته ببُهتان، وكأن تأويل من تأوّل
(١) البيت لرؤبة في ديوانه (طبع ليسبج سنة ١٩٠٣ ص ٨١) من أرجوزة له يمدح بها تميما وسعدا ونفسه، مطلعها: " داينت أروى والديون تقضي " والبيت هو ال ٥١ فيها واستشهد به أبو عبيد في (مجاز القرآن ١: ٣٥٥) عند قوله تعالى " الذين جعلوا القرآن عضين "، أي عضوه أعضاء، أي فرقوه فرقا. قال رؤبة: وليس... الخ و (في اللسان: عضا) عضيت الشاة والجزور تعضية: إذا جعلتها أعضاء وقسمتها. وعضى الشيء: وزعه وفرقه، قال: وليس.. البيت. ثم قال: وفي التنزيل: " جعلوا القرآن عضين " أي جزءوه أجزاء، وآمنوا ببعضه، وكفروا ببعض، وقال ابن الأعرابي: فرقوا فيه القول، فقالوا: شعر، وسحر، وكهانة فقسموه هذه الأقسام، وعضوه أعضاء.
(٢) البيت لم أقف على قائله. ولعله للمخيل السعدي وعضى بني عوف أي سباهم وقسمهم فأرضى عدوهم بذلك، ومن بني عوف، فغير حالهم، من السيادة إلى المذلة، ولعل رواية الشطر الثاني: " فأرضى وأما العز منهم فغبرا " وغبر بالباء الموحدة، كما في بيت المخبل السعدي، الذي أنشده صاحب اللسان في غبر، وهو فَأَنْزَلَهُمْ دارَ الضَّياعِ فاصْبَحُوا... على مَقعَدٍ مِنْ مَوْطِنِ العزِّ أَغْبرَا
يقال: عز أغبر: أي ذاهب دارس يريد أنه سبى فريقا من بني عوف، وأذل فريقا منهم.
(٣) قوله: " سباهم وقطعاهم بألسنتهما ": كذا في الأصل المخطوط (الورقة ٦٥ وجزء ١٤)، ولعله سهو من المؤلف، لأن الفعلى " عضى " إذا كان من التعضية، فهو مسند إلى واحد، ولا يظهر لي أي معنى لجعل المسند إليه مثنى في كلام المؤلف.
147
ذلك كذلك: الذين عَضَهوا القرآن، فقالوا: هو سِحْر، أو هو شعر، نحو القول الذي ذكرناه عن قتادة.
وقد قال جماعة من أهل التأويل: إنه إنما عَنَى بالعَضْه في هذا الموضع، نسبتهم إياه إلى أنه سِحْر خاصة دون غيره من معاني الذمّ، كما قال الشاعر:
للماءِ مِنْ عِضَاتهنَّ زَمْزَمهْ (١)
يعني: من سِحْرهنْ.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) قال: سحرا.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (عِضِينَ) قال: عَضَهوه وبَهَتُوه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: كان عكرمة يقول: العَضْه: السحر بلسان قريش، تقول للساحرة: إنها العاضهة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، وحدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) قال: سِحْرا أعضاء الكتب كلها وقريش فرقوا القرآن، قالوا: هو سحر.
(١) البيت من مشطور الرجز؛ ولم أقف على قائله. استشهد به المؤلف على أن " عضين " في الآية جمع " عضة "، ومعناها عند قدوم من أهل التأويل: السحر. وقال الفراء (في معاني القرآن: ١٦٩) والذين جعلوا القرآن " عضين ": فرقوه، إذ جعلوه سحرا وكذبا، وأساطير الأولين. والعضون في كلام العرب: السحر بعينه، ويقال: عضوه: أي فرقوه، كما تعضى الشاة والجزور، وواحد العضين عضة، رفعها عضون، ونصبها وخفضها عضين. وفي (اللسان: عضة) وقال الفراء: العضون في كلام العرب: السحر وذلك أنه من العضة. أهـ. والزمزمة: الكلام غير المبين.
148
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره أمر نبيه ﷺ أن يُعْلِم قوما عَضَهُوا القرآن أنه لهم نذير من عقوبة تنزل بهم بِعضْهِهِمْ إياه مثل ما أنزل بالمقتسمين، وكان عَضْهُهُم إياه: قذفهموه بالباطل، وقيلهم إنه شعر وسحر، وما أشبه ذلك.
وإنما قلنا إن ذلك أولى التأويلات به لدلالة ما قبله من ابتداء السورة وما بعده، وذلك قوله (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) على صحة ما قلنا، وإنه إنما عُنِيَ بقوله (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) مشركي قومه، وإذا كان ذلك كذلك، فمعلوم أنه لم يكن في مشركي قومه من يؤمن ببعض القرآن ويكفر ببعض، بل إنما كان قومه في أمره على أحد معنيين: إما مؤمن بجميعه، وإما كافر بجميعه. وإذ كان ذلك كذلك، فالصحيح من القول في معنى قوله (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) الذين زعموا أنهم عَضَهوه، فقال بعضهم: هو سحر، وقال بعضهم: هو شعر، وقال بعضهم: هو كهانة، وما أشبه ذلك من القول، أو عَضَّهُوه ففرقوه، بنحو ذلك من القول، وإذا كان ذلك معناه احتمل قوله عِضِين، أن يكون جمع: عِضة، واحتمل أن يكون جمع عُضْو، لأن معنى التعضية: التفريق، كما تُعَضى الجَزُور والشاة، فتفرق أعضاء. والعَضْه: البَهْت، ورميه بالباطل من القول، فهما متقاربان في المعنى.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) ﴾
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فوربك يا محمد لنسألنّ هؤلاء الذين جعلوا القرآن في الدنيا عِضين في الآخرة عما كانوا يعملون في الدنيا، فيما أمرناهم به، وفيما بعثناك به إليهم من آي كتابي الذي أنزلته إليهم، وفيما دعوناهم إليه من الإقرار به ومن توحيدي والبراءة من الأنداد والأوثان..
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
149
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب وأبو السائب، قالا ثنا ابن إدريس، قال: سمعت ليثا، عن بشير، عن أنس، في قوله (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) قال: عن شهادة أن لا اله إلا الله.
حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا شريك، عن ليث، عن بشير بن نهيك، عن أنس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) قال: "عن لا إله إلا الله".
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن ليث، عن بشير، عن أنس، عن النبيّ ﷺ نحوه.
حدثنا الحسن بن يحيى. قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن ليث، عن مجاهد، في قوله (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) قال: عن لا اله إله إلا الله.
حدثنا أحمد، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا شريك، عن هلال، عن عبد الله بن عُكَيْم، قال: قال عبد الله: والذي لا إله غيره، ما منكم أحد إلا سيخلو الله به يوم القيامة كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر، فيقول: ابن آدم، ماذا غرّك مني بي ابن آدم؟ ماذا عملت فيما علمت ابن آدم؟ ماذا أجبت المرسلين؟
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) قال: يُسأل العباد كلهم عن خلتين يوم القيامة: عما كانوا يعبدون، وعما أجابوا المرسلين.
حدثنا المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا الحسين الجعفي، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية العوفي، عن ابن عمر: (لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) قال: عن لا إله إله الله.
حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس قوله (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ). ثم قال: (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ) قال: لا يسألهم هل عملتم كذا وكذا؟ لأنه أعلم بذلك منهم، ولكن يقول لهم: لِمَ عملتم كذا وكذا؟
150
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، مولى زيد بن ثابت، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: أنزل الله تعالى ذكره: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) فإنه أمر من الله تعالى ذكره نبيه ﷺ بتبليغ رسالته قومه، وجميع من أرسل إليه، ويعني بقوله (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) : فامض وافرُق، كما قال أبو ذؤَيب:
وكأنَّهُنَّ رَبابَةٌ وكأنَّهُ يُسرٌ يُفيضُ على القِداح ويَصْدَعُ (١)
يعني بقوله: يَصْدَع: يُفَرِّق بالقداح.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) يقول: فأمضه.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) يقول: افعل ما تؤمر.
حدثني الحسين بن يزيد الطحان، قال: ثنا ابن إدريس، عن ليث، عن مجاهد، في قوله (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) قال: بالقرآن.
حدثني نصر بن عبد الرحمن الأَوْديّ، قال: ثنا يحيى بن إبراهيم، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) قال: هو القرآن.
حدثني أبو السائب، قال: ثنا ابن فضيل، عن ليث، عن مجاهد، في قوله (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) قال: بالقرآن.
حدثني أبو السائب، قال: ثنا ابن فضيل، عن ليث، عن مجاهد، في قوله (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) قال: الجهر بالقرآن في الصلاة.
(١) البيت في شعر أبي ذؤيب من ديوان الهذليين، القسم الأول (طبعة دار الكتب المصرية سنة ١٩٤٥). والربابة بكسر الراء: خرقة تغطى بها القداح، ويقال الربابة هنا هي القداح، واليسر: الذي يضرب بالقداح، وهو المفيض، يصدع: يفرق ويصيح، ويفيض على القداح، أي يدفعها، ويضرب بها، ونابت " على " منأب " الباء " والضمير في كأنهن راجع إلى الأتن المذكورة قبل البيت. وفي كأنه راجع إلى حمار الوحش الذي يطردها ويسوقها أمامه.
151
حدثنا أحمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا شريك، عن ليث، عن مجاهد (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) قال: بالقرآن في الصلاة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) قال: أجهر بالقرآن في الصلاة.
حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو أسامة، قال: ثنا موسى بن عبيدة، عن أخيه عبد الله بن عبيدة قال: مازال النبيّ مستخفيا حتى نزلت (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) فخرج هو وأصحابه.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) قال: بالقرآن الذي يوحى إليه أن يبلغهم إياه، وقال تعالى ذكره: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) ولم يقل: بما تؤمر به، والأمر يقتضي الباء، لأن معنى الكلام: فاصدع بأمرنا، فقد أمرناك أن تدعو إلى ما بعثناك به من الدين خلقي وأذنَّا لك في إظهاره.
ومعنى "ما" التي في قوله (بِمَا تُؤْمَرُ) معنى المصدر، كما قال تعالى ذكره (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ) معناه: افعل الأمر الذي تؤمر به، وكان بعض نحويِّي أهل الكوفة يقول في ذلك: حذفت الباء التي يوصل بها تؤمر من قوله (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) على لغة الذين يقولون: أمرتك أمرا، وكان يقول: للعرب في ذلك لغتان: إحداهما أمرتك أمرا، والأخرى أمرتك بأمر، فكان يقول: إدخال الباء في ذلك وإسقاطها سواء. واستشهد لقوله ذلك بقول حصين بن المنذر الرقاشي ليزيد بن المهلَّب:
أمَرْتُكَ أمْرًا جازِما فَعَصَيْتَني فأصْبَحْتَ مَسلُوبَ الإمارَةِ نادِما (١)
فقال أمرتك أمرا، ولم يقل: أمرتك بأمر، وذلك كما قال تعالى: ذكره: (أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ) ولم يقل: بربهم، وكما قالوا: مددت الزمام، ومددت بالزمام، وما أشبه ذلك من الكلام.
(١) البيت شاهد على أنه يقال أمرتك أمرا، وأمرتك بأمر، فيجوز أن يتعدى الفعل بنفسه وبالباء.
152
وأما قوله (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) ويقول تعالى ذكره لنبييه صلى الله عليه وسلم: بلغ قومك ما أرسلتَ به، واكفف عن حرب المشركين بالله وقتالهم. وذلك قيل أن يفرض عليه جهادهم، ثم نَسَخَ ذلك بقوله (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ).
كما حدثنا محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) وهو من المنسوخ.
حدثني المثنى، قال: ثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن جويبر، عن الضحاك، في قوله (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) و (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ) وهذا النحو كله في القرآن أمر الله تعالى ذكره نبيه ﷺ أن يكون ذلك منه، ثم أمره بالقتال، فنَسَخَ ذلك كله، فقال: (خُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ)... الآية.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦) ﴾
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إنا كفيناك المستهزئين يا محمد، الذين يستهزئون بك ويسخرون منك، فاصدع بأمر الله، ولا تخف شيئا سوى الله، فإن الله كافيك من ناصبك وآذاك كما كفاك المستهزئين. وكان رؤساء المستهزئين قوما من قريش معروفين.
* ذكر أسمائهم حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني محمد، قال: كان عظماء المستهزئين كما حدثني يزيد بن رومان عن عُروة بن الزُّبير خمسة نَفَر من قومِه، وكانوا ذوي أسنان وشرف في قومهم، من بني أسد بن عبد العُزَّى بن قصيّ: الأسود بن المطلب أبو زَمْعة، وكان رسول الله ﷺ فيما بلغني قد دعا عليه لما كان يبلغه من أذاه واستهزائه، فقال: اللهمّ أعم بصره، وأثكله ولده، ومن بني زهرة: الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن
153
عبد مناف بن زُهرة، ومن بني مخزوم: الوليدُ بن المغيرة بن عبد الله بن مخزوم، ومن بني سهم بن عمرو بن هُصَيص بن كعب بن لؤيّ: العاص بن وائل بن هشام بن سعيد بن سعد بن سَهْم، ومن خُزاعة: الحارث بن الطُّلاطلة بن عمرو بن الحارث بن عمرو بن مَلْكان، فلما تمادوْا في الشرّ وأكثروا برسول الله ﷺ الاستهزاء، أنزل اللَّه تعالى ذكره (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ)... إلى قوله (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) قال محمد بن إسحاق: فحدثني يزيد بن رومان، عن عُروة بن الزبير أو غيره من العلماء، أن جبرئيل أتى رسول الله ﷺ وهم يطوفون بالبيت فقام، وقام رسول الله ﷺ إلى جنبه، فمرّ به الأسود بن المطلب، فرَمى في وجهه بورقة خضراء، فعَمِي، ومرّ به الأسود بن عبد يغوث، فأشار إلى بطنه فاسْتَسْقَى بطنه، فمات منه حبنا، ومرّ به الوليد بن المُغيرة، فأشار إلى أثر جرح بأسفل كعب رجله كان أصابه قبل ذلك بسنتين، وهو يجرّ سِبله، يعني إزاره، وذلك أنه مرّ برجل من خزاعة يَريش نبلا له، فتعلق سهم من نبله بإزاره فخدش رجله ذلك الخدش وليس بشيء، فانتقَض به فقتله، ومرّ به العاص بن وائل السَّهميّ، فأشار إلى أخمص رجله، فخرج على حمار له يريد الطائف، فوقِصَ على شِبْرِقة، فدخل في أخمص رجله منها شوكة، فقتلته.
قال أبو جعفر: الشِّبرقة: المعروف بالحَسَك، منه حَبَنا (١) والحَبَن: الماء الأصفر، ومرّ به الحارث بن الطُّلاطلة، فأشار إلى رأسه، فامتخط قيحا فقتله.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد القرشيّ، عن رجل، عن ابن عباس، قال: كان رأسهم الوليد بن المُغيرة، وهو الذي جمعهم.
(١) كذا في الأصل المخطوط رقم ١٠٠ تفسير بدار الكتب (الورقة ٦٩و) ولعله قد سقط من العبارة بعضها. وأصلها: الشبرقة: واحدة الشبرق، المعروف بالحسك. ويقال: مات منه حبنا. والحين.. الخ. وانظر خبر كفاية الله نبيه المستهزئين في سيرة ابن هشام (طبعة الحلبي ٢: ٥٠ - ٥٢ من الطبعة الأولى) فقد نقله المؤلف هنا، مع اختلاف يسير في بعض الألفاظ.
154
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن زياد، عن سعيد بن جبير، في قوله (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) قال: كان المستهزئين: الوليدُ بن المغيرة، والعاص بن وائل، وأبو زمعة والأسود بن عبد يغوث، والحارث بن عيطلة. فأتاه جبرئيل، فأومأ بأصبعه إلى رأس الوليد، فقال: ما صنعت شيئا، قال: كُفِيت، وأومأ بيده إلى أخمص العاص، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ما صَنَعْتَ شَيْئا، فقال: كُفيت، وأومأ بيده إلى عين أبي زمعة، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ما صَنَعْتَ شَيْئا، قال: كُفيت. وأومأ بأصبعه إلى رأس الأسود، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: دَعْ لي خالي. فقال: كُفِيت، وأومأ بأصبعه إلى بطن الحارث، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ما صَنَعْتَ شَيْئا، فقال كُفِيت. قال: فمرّ الوليد على قين لخزاعة وهو يجر ثيابه، فتعلقت بثوبه بروة أو شررة (١) وبين يديه نساء، فجعل يستحي أن يطأ من ينتزعها، وجعلت تضرب ساقه فخدشته، فلم يزل مريضا حتى مات، وركب العاص بن وائل بغلة له بيضاء إلى حاجة له بأسفل مكة، فذهب ينزل، فوضع أخمص قدمه على شبرقة، فحكت رجله، فلم يزل يحكها حتى مات، وعمي أبو زمعة، وأخذت الأكلة في رأس الأسود، وأخذ الحارث الماء في بطنه.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، في قوله (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) قال: هم خمسة رهط من قريش: الوليدُ بن المغيرة، والعاصُ بن وائل، وأبو زمعة، والحارث بن عيطلة، والأسود بن قيس.
حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، في قوله (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) قال: الوليد بن المغيرة، والعاصُ بن وائل السَّهْمِيّ، والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن المطلب، والحارث بن عيطلة.
(١) البروة: لغة في البرة، وهي الحلقة من صفر ونحوه، يريد بها ما يتطاير من الحديد عند الطرق بالمطارق، والشررة: واحدة الشرر، وفي الأصل: شرة، ولا معنى له هنا.
155
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، في قوله (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) قال: هم خمسة كلهم هلك قبل بَدْر: العاص بن وائل، والوليد بن المغيرة، وأبو زمعة بن عبد الأسود، والحارث بن قيس، والأسود بن عبد يغوث.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن عيينة عن عمرو، عن عكرمة: (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) قال: الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن عبد يغوث، والحارث بن عيطلة.
حدثنا المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن أبي بكر الهذلي، قال: قلت للزُّهريّ: إن سعيد بن جبير وعكرمة اختلفا في رجل من المستهزئين، فقال سعيد: هو الحارث بن عيطلة، وقال عكرمة: هو الحارث بن قيس؟ فقال: صدقا، كانت أمه تسمى عيطلة وأبوه قيس.
حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن حصين، عن الشعبيّ، قال: المستهزئين سبعة، وسَمَّى منهم أربعة.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عامر: (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) قال: كانوا من قريش خمسة نفر: العاصُ بن وائل السهمي، كُفِي بصداع أخذه في رأسه، فسال دماغه حتى كان يتكلم من أنفه، والوليد بن المغيرة المخزومي، كفي برجل من خزاعة أصلح سهما له، فندرت منه شظية، فوطئ عليها فمات، وهبار بن الأسود، وعبد يغوث بن وهب، والحارث بن عيطلة.
حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا إسرائيل، عن جابر، عن عامر: (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) قال: كلهم من قريش: العاص بن وائل، فكفي بأنه أصابه صداع في رأسه، فسال دماغه حتى لا يتكلم إلا من تحت أنفه، والحارث بن عيطلة بصفر في بطنه، وابن الأسود فكفي بالجدري، والوليد بأن رجلا ذهب ليصلح سهما له، فوقعت شظية فوطئ عليها، وعبد يغوث فكفي بالعمي، ذهب بصره.
156
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، وعن مِقْسم (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) قال: هم الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، وعديّ بن قيس، والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن المطلب، مرّوا رجلا رجلا على النبيّ ﷺ ومعه جبرئيل، فإذا مرّ به رجل منهم قال جبرئيل: كيف تجد هذا؟ فيقول: بئس عدوّ الله، فيقول جبرئيل: كفاكه، فأما الوليد بن المغيرة، فتردّى، فتعلق سهم بردائه، فذهب يجلس فقطع أكحله فنزف فمات، وأما الأسود بن عبد يغوث، فأُتِي بغصن فيه شوك، فضرب به وجهه، فسالت حدقتاه على وجهه، فكان يقول: دعوت على محمد دعوة، ودعا عليّ دعوة، فاستجيب لي، واستجيب له، دعا عليّ أن أَعمَى فعميت: ودعوت عليه أن يكون وحيدا فريدا في أهل يثرب فكان كذلك، وأما العاص بن وائل، فوطئ على شوكة فتساقط لحمه عن عظامه حتى هلك، وأما الأسود بن المطلب وعديّ بن قيس، فإن أحدهما قام من الليل وهو ظمآن، فشرب ماء من جَرّة، فلم يزل يشرب حتى انفتق بطنه فمات، وأما الآخر فلدغته حية فمات.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزاق، قال: أخبرنا معمر. عن قتادة وعثمان، عن مِقْسم مولى ابن عباس، في قوله (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) ثم ذكر نحو حديث ابن عبد الأعلى، عن ابن ثور.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: (كَمَا أَنزلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) هم رهط خمسة من قريش عضهوا القرآن، زعم بعضهم أنه سحر وزعم بعضهم أنه شعر وزعم بعضهم أنه أساطير الأوّلين: أما أحدهم: فالأسود بن عبد يغوث، أتى على نبيّ الله ﷺ وهو عند البيت، فقال له الملَك: كيف تجد هذا؟ قال: بِئْسَ عَبْدُ اّللَّهِ على أنَّهُ خالي، قال: كفيناك، ثم أتى عليه الوليد بن المغيرة، فقال له الملَك: كيف تجد هذا؟ قال: بِئْسَ عَبْدُ اّللَّهِ، قال: كَفيناك، ثم أتى عليه عدي بن قيس أخو بني سهم، فقال الملك: كيف تجد هذا؟ قال: بِئْسَ عَبْدُ اّللَّهِ، قال: كفيناك، ثم أتى عليه الأسود بن المطلب، فقال له الملك: كيف تجد هذا؟ قال: بِئْسَ عَبْدُ اّللَّهِ، قال: كفيناك، ثم أتى عليه العاص بن وائل، فقال له الملك: كيف تجد هذا؟ قال: بِئْسَ عَبْدُ
157
اّللَّهِ، قال: كفيناك، فأما الأسود بن عبد يغوث، فأُتي بغصن من شوك فضرب به وجهه حتى سالت حدقتاه على وجهه، فكان بعد ذلك يقول: دعا عليّ محمد بدعوة ودعوت عليه بأخرى، فاستجاب الله له في واستجاب الله لي فيه، دعا عليّ أن أثكل وأن أعمى، فكان كذلك، ودعوت عليه أن يصير شريدا طريدا، فطردناه مع يهود يثرب وسرّاق الحجيج، وكان كذلك، وأما الوليد بن المغيرة، فذهب يرتدي، فتعلق بردائه سهم غرب (١) فأصاب أكحله أو أبجله، فأتي في كلّ ذلك، فمات، وأما العاص بن وائل، فوطئ على شوكة، فأتي في ذلك، جعل يتساقط لحمه عضوا عضوا فمات وهو كذلك، وأما الأسود بن المطلب وعديّ بن قيس، فلا أدري ما أصابهما.
ذُكر لنا أن نبيّ الله ﷺ يوم بدر، نهى أصحابه عن قتل أبي البختري، وقال: خذوه أخذا، فإنه قد كان له بلاء، فقال له أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم: يا أبا البختري إنا قد نهينا عن قتلك فهلمّ إلى الأمنة والأمان، فقال أبو البختري: وابن أخي معي؟ فقالوا: لم نؤمر إلا بك، فراودوه ثلاث مرّات، فأبى إلا وابن أخيه معه، قال: فأغلظ للنبيّ ﷺ الكلام، فحمل عليه رجل من القوم فطعنه فقتله، فجاء قاتله وكأنما على ظهره جبل أوثقه مخافة أن يلومه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلما أخبر بقوله: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: أبْعَدَهُ اللَّهُ وأسْحَقَهُ، وهم المستهزِئُونَ الذين قال الله (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) وهم الخمسة الذين قيل فيهم (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) استهزءوا بكتاب الله، ونبيه صلى الله عليه وسلم.
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) هم من قريش.
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، وزعم ابن أبي بَزَّة أنهم العاص بن وائل السهمي والوليد بن المغيرة الوحيد، والحارث بن عديّ بن سهم بن العيطلة، والأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العُزَّى بن قُصيّ، وهو أبو زمعة، والأسود بن عبد يغوث وهو ابن خال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(١) سهم غرب، بسكون الراء وفتحها: لا يدري من أين أتاه (اللسان).
158
حدثني القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني عمرو بن دينار، عن ابن عباس، نحو حديث محمد بن عبد الأعلى، عن محمد بن ثور، غير أنه قال: كانوا ثمانية، ثم عدّهم وقال: كلهم مات قبل بدر.
وقوله (الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُون) وعيد من الله تعالى ذكره، وتهديد للمستهزئين الذين أخبر نبيه ﷺ أنه قد كفاه أمرهم بقوله تعالى ذكره: إنا كفيناك يا محمد الساخرين منك، الجاعلين مع الله شريكا في عبادته، فسوف يعلمون ما يلقون من عذاب الله عند مصيرهم إليه في القيامة، وما يَحُلّ بهم من البلاء.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) ﴾
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ولقد نعلم يا محمد أنك يضيق صدرك بما يقول هؤلاء المشركون من قومك من تكذيبهم إياك واستهزائهم بك وبما جئتهم به، وأن ذلك يُحْرِجك (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) يقول: فافزع فيما نابك من أمر تكرهه منهم إلى الشكر لله والثناء عليه والصلاة، يكفك الله من ذلك ما أهمّك، وهذا نحو الخبر الذي رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه كان إذا حَزَبَه أمر فَزِع إلى الصلاة.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩) ﴾
يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: واعبد ربك حتى يأتيك الموت، الذي هو مُوقَن به. وقيل: يقين، وهو موقَن به، كما قيل: خمر عتيق، وهي معتَّقَة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
159
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، قال: ثنى طارق بن عبد الرحمن، عن سالم بن عبد الله وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ قال: الموت.
حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث بن، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل، وحدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثني عباس بن محمد، قال: ثنا حجاج، قال: قال ابن جريج: أخبرني ابن كثير أنه سمع مجاهدا يقول: حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ قال: الموت.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ قال: يعني الموت.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ قال: اليقين: الموت.
حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرّزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله.
حدثني المثنى، قال: ثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن مبارك بن فضالة، عن الحسن، في قوله حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ قال: الموت.
حدثنا ابن وكيع، قال ثنا أبي، عن سفيان عن طارق، عن سالم، مثله.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ قال: الموت، إذا جاءه الموت، جاءه تصديق ما قال الله له، وحدّثه من أمر الآخرة.
160
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب " أن خارجة بن زيد بن ثابت أخبره عن أمّ العلاء امرأة من الأنصار قد بايعت رسول الله ﷺ أخبرته أنهم اقتسموا المهاجرين قُرْعة قالت: وطار لنا عثمان بن مظعون، فأنزلناه في أبياتنا، فوَجع وجعه الذي مات فيه، فلما تُوُفِّي وغسِّل وكُفِّن في أثوابه، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا عثمان بن مظعون رحمة الله عليك أبا السائب، فشهادتي عليك، لقد أكرمك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمَّا هُوَ فَقَدْ جاءَهُ اليَقِينُ، وَوَاللَّهِ إنّي لأَرْجُو لَهُ الخَيْرَ ".
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا مالك بن إسماعيل، قال: ثنا إسماعيل، قال: ثنا إبراهيم بن سعد، قال / ثنا ابن شهاب، عن خارجة بن زيد، عن أمّ العلاء امرأة من نسائهم، عن النبيّ ﷺ بنحوه.
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: ثنا جعفر بن عون، قال: أخبرنا إبراهيم بن إسماعيل، عن محمد بن شهاب، أن خارجة بن زيد، حدثه عن أمّ العلاء امرأة منهم، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، بنحوه، إلا أنه قال في حديثه: فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: " أمَّا هُوَ فَقَدْ عايَنَ اليَقِينَ ".
161
Icon