تفسير سورة الأحزاب

معاني القرآن للزجاج
تفسير سورة سورة الأحزاب من كتاب معاني القرآن وإعرابه للزجاج المعروف بـمعاني القرآن للزجاج .
لمؤلفه الزجاج . المتوفي سنة 311 هـ

سُورَةُ الأحزاب
(مدنية)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قوله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (١)
معناه اثبتْ على تقوى الله ودُم عَلَيها.
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا).
أي كان عليمأ بما يكون قبل كونه، حكيماً فيما يخلقه قبل خلقه
إياه.
* * *
(وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (٢)
يَعْني به القرآنَ.
* * *
وقوله: (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (٣)
معناه وكفى اللَّه وكيلاً، دخلت الباء بمعنى الأمر، وإن كان لفظُه
لفظَ الخبرَ.
المعنى اكتف باللَّه وَكِيلًا.
* * *
وقوله عزَّ وَجَل: (مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤)
قال ابن عباس: إن النبي - ﷺ - صَلَّى فسها كما يسهو الرجال في صلاته، وخطرت على باله كلمة فقال المنافقون إنَّ لَه قَلْبَيْن، قلباً معكم وقلباً مع أصحابه.
وأكثر ما جاء في التفسير أن عبد اللَّه بن خَطَل
213
كانت قُريْش تسميه ذا القلبين، وروي أنه قال: إن لي قَلْبَيْنِ أَفْهَمُ بِكل
وَاحِدٍ منهما أكثر مما يَفْهَمُ محمدٌ، فأكذبه اللَّه - عزَّ وجلَّ - فقال:
(مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ).
ثم قَرَنَ بهذا الكلام ما يقوله المشركونَ غيرهم مما لا حقيقة له فقال عزَّ وجلَّ:
(وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ).
وتقْرَأُ (تَظَّاهَرُونَ) مِنْهُنَّ، فمن قَرأ (تُظَاهِرُونَ) بالتخفيف فعلى قولك:
ظاهر الرجُل من امْرَأَتِه، ومن قرأ (تَظَّاهَرُونَ) - بالتشديد - فعلى تظاهر
الرجلُ من امْرأته، ومعناه أنه قال لها: أَنْتِ عليَّ كظَهرِ أُمِّي، فأعلم
اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن الزوجة لَا تَكونُ أُمًّا، وكانتِ الجَاهِلية تُطَلِّقُ بهذا
الكلام، فأنزل اللَّه كفارة الظهار في سور المجادلة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا جَعَل أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ).
أي ما جعل من تدعونه ابناً وليس بِوَلَدٍ في الحقيقة - ابناً.
وكانوا يتوارثون على الهجرة ولا يرث الأعرابي من المُهَاجِر، وَإنْ كان
النسَبُ يوجب له الإرث.
فأَعلم اللَّهُ أَنَ أُولى الأرحام بعضُهُمْ أولى بِبَعْض، وأبطل الِإرث بالهجرة.
وقوله: (ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ).
أي ادِّعاؤُكم نَسبَ من لا حقيقة لنسبه قولْ بِالْفَمِ لا حقيقة معنًى
تَحْتَهُ.
(وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ).
أي اللَّه لا يجعل الابن غير الابن، وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ، أي يَهْدِي
214
السبيلَ المستقيمة مثل قوله: (فَقدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيل).
* * *
وقوله: (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (٥)
(ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ)
أي هو أعْدَلُ.
(فَإنْ لَمْ تَعَلَمُوا آبَاءَهُمْ).
أي فإنْ لم تعلموا أنَّ المدعوَّ ابنُ فُلانٍ فهو أخوكَ في الدِّينِ إذا
كان مؤمِناً، أي فقل يا أخي.
(وَمَوَالِيكُمْ) أي بَنُو عَمِّكم، ويجوز أن يكون: وَمَوالِيكُمْ - أي.
أَوْلِياؤكُمْ في الدِّين.
(وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ).
في هذا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُما وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ مِما قد فعلتمُوهُ قبْلَ أن تُنْهَوْا عن هذا، وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ، أَي ولكن الإثم فيما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ.
و (ما) في موضع جَرٍّ. عطف على (مَا) الأولَى
المعنى: وليس عليكمْ جناح في الذي أخطاتم به.
ولكن في الذي تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ.
ويجوز أن يكون: ولا جناح عليكم في أن تقولوا له با بُنَيَّ على غير أن تَتَعَمَّدَ أن تجريه مجرى الوَلَدِ في الإرْثِ.
* * *
وقوله عزَّ وَجَل (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (٦)
وفي بعض القراءة: النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهُوَ أَبٌ لَهُمْ،
ولا يجوز أن تقرأ بها لأنها لَيْسَت في المصحف المجمع عليه.
والنبي عليه السلام أبو الأمة في الحقيقة.
ومعنى (وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ)، أي لا تحل زوجة النبي - ﷺ - لأحَدٍ بَعْدَه إذ هي بمنزلة الأمِ.
وقوله: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ).
أي ذو الرحِم بِذِي رَحِمِه أولى من المُهَاجِر إذَا لم يَكُنْ مِنْ ذَوِي
رحِمِهِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا).
(إِلَّا أَنْ) استثناء ليست من الأول المعنى لكن فِعْلُكم إلَى
أَوْلِيَائِكُمْ مَعروفاً جائِزٌ، وهو أن يوصَي الرجلُ لِمَنْ يَتَولَّاهُ بما أحب من
ثُلُثِهِ، إذَا لم يكن وارثاً، لأنه لَا وَصِيةَ لِوَارِثٍ.
(كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا).
أي كان ذلك في الكِتابِ الذي فُرِضَ فيه الفرضُ
(مَسْطُورًا) أَي مكتوباً.
* * *
وقوله: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (٧)
موضع " إذْ " نصب
المعنى اذكر إذْ أَخَذْنَا، فذكرَهُ اللَّهُ - ﷺ - في أَخذِ
الميثاقِ قبل نوح.
وجاء في التفسير: إنِي خُلِقْتُ قَبْلَ الأنبياء، وَبُعِثْت بَعْدَهُمْ.
فَعَلى هذا القولِ لا تَقْدِيمَ في هذا الكلام ولا تأخِيرَ.
هو على نَسَقِه، وَأخِذَ الميثاق حيث أخرجوا مِنْ صُلْبِ آدَمَ - صلى اللَّه عليه - كالذَّرِّ.
وَمَذْهَبُ أهل اللغة أن الواو معناها الاجتماع، وليس فيها دَلِيل
أن المذكور أولاً لا يستقيم أَنْ يكونَ مَعْناه التأخِيرُ.
فالمعنى على مذهب أَهْلِ اللُّغة، وَمِنْ نُوح وإبرَاهيم ومُوسَى وعِيسَى ابن مَريمَ
وَمِنْك.
ومثله قوله: (وَاسجدِي وَارْكَعِي مع الراكِعِينَ).
* * *
وقوله: (لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (٨)
معناه ليسأل المبلِّغين من الرسلِ عَنْ صِدْقِهِمْ في تبليغهم.
وتأويل مَسْألَةِ الرسُلِ - واللَّه يعلم - أنهم صادقون - التبكيت للذين
كفروا بِهِمْ، كما قال اللَّه - عزَّ وجلَّ - (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ)، فأجاب فقال:
(سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ)، ثم قال (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ)، فتأويله التَبْكيتُ للمُكَذِبِينَ، فعلى هذا (لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (٨)
أي للكافرين بالرسُلِ (١).
* * *
وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (٩)
هؤلاء الجنودُ هم الأحْزاب، والجنود الذين كانوا: هم قرَيْش
مَعَ أبي سفْيَانَ وغطفَان وبنو قريظة، تحزَّبوا وتظاهروا على حرب رسول
اللَّه - ﷺ - فأرسل اللَّه عليهم ريحاً كفَأَت قذورَهم، أي قَلَبَتْهَا، وقَلَعَتْ فساطيطهم وأظعنتهمْ من مَكانهم، والجنودُ التي لم يروها المَلَائِكَة.
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿لِّيَسْأَلَ﴾: فيها وجهان، أحدُهما: أنها لامُ كي أي: أَخَذْنا ميثاقَهم ليَسْأل المؤمنين عن صدقهم، والكافرين عن تكذيبهم، فاستغنى عن الثانِي بذِكْر مُسَبِّبه وهو قولُه: «وأَعدَّ». والثاني: أنها للعاقبة أي: أَخَذَ الميثاقَ على الأنبياء ليصيرَ الأمرُ إلى كذا. ومفعولُ «صدقِهم» محذوفٌ أي: صِدْقِهم عهدَهم. ويجوز أن يكون «صِدْقِهم» في معنى «تَصْديقهم»، ومفعولُه محذوفٌ أيضاً أي: عن تصديقِهم الأنبياءَ.
قوله: «وأَعَدَّ» يجوزُ فيه وجهان، أحدهما: أَنْ يكونَ معطوفاً على ما دَلَّ عليه «ليَسْألَ الصادقين»؛ إذ التقديرُ: فأثاب الصادقين وأعَدَّ للكافرين. والثاني: أنه معطوفٌ على «أَخَذْنا» لأنَّ المعنى: أنَّ اللَّهَ تعالى أكَّدَ على الأنبياءِ الدعوةَ إلى دينه لإِثابة المؤمنين وأعَدَّ للكافرين. وقيل: إنه قد حَذَفَ من الثاني ما أثبت مقابلَه في الأول، ومن الأولِ ما أثبتَ مقابلَه في الثاني. والتقدير: ليسألَ الصادقينِ عن صِدْقِهم فأثابهم، ويَسْألَ الكافرين عَمَّا أجابوا به رُسُلَهم، وأعَدَّ لهم عذاباً أليماً. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
وقوله: (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (١٠)
جاءت قريظة من فَوْقِهِمْ، وجاءت قريش وغَطَفَانُ من ناحية مَكةَ.
مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ.
وقوله: (وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا).
اختلف القراءُ فيها. فقرأ بَعْضُهُمْ بِإثْبَاتِ الألِفِ فِي الوَقْفِ
والوَصْلِ وقرأ بعضهم " الظنُون " بغير ألِفٍ في الوصل، وبألف في
الوقف.
وقرأ أبو عَمْرٍو " الظُّنُونَ " بغير ألف، في الوصل والوقف.
والذي عليه حُذَّاق النحويين والمتبعُونَ السُّنَّةَ من حُذاقِهِمْ أَن يقرأَوا
(الظُّنُونَا).
ويقفون على الألف ولا يَصِلُونَ، وإنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ لأن
أواخر الآيات عِنْدَهُمْ فَوَاصلُ، ويثَبتُون في آخرها في الوقف ما قد
يحذف مثله في الوَصْلِ.
وَهُؤلاءِ يتبعُون المُصْحَفَ ويكرهون أَنْ يَصِلُوا ويثبتوا الألِفَ، لأن الآخر لم يقفوا عَلَيْهِ فيجروه مجرى الفَوَاصِلِ.
ومثل هذا من كلام العَرَبِ في القَوَافِي:
أَقِلِّي اللوم عَاذِل والعِتَابَا.
فأثبت الألف لِأنَّهَا في موضع فاصِلةٍ وهي القافية (١).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (١١)
ويجوز زَلْزَالاً. بفتح الزاي، والمصدر من المَضَاعَفِ يجيء على
ضربين فَعْلال وَفِعْلال نحوِ قَلْقَلَهُ قَلْقَالًا وَقِلْقَالاً وَزَلَزلْزَلَتْهُ زَلْزَالاً
وَزِلْزَالاً، والكسر أكثر وَأَجْوَدُ لأنْ غيرَ المَضَاعَفِ من هذا الباب مكسورُ
(١) قال السَّمين:
وقوله: «الظنونا» قرأ نافع وابنُ عامر وأبو بكر بإثبات ألفٍ بعد نون «الظُّنونا» ولامِ «الرسول» في قوله: ﴿وَأَطَعْنَا الرسولا﴾ [الأحزاب: ٦٦] ولام «السَّبيل» في قوله: ﴿فَأَضَلُّونَا السبيلا﴾ [الأحزاب: ٦٧] وَصْلاً ووَقْفاً موافقةً للرسمِ؛ لأنهنَّ رُسِمْنَ في المصحف كذلك. وأيضاً فإنَّ هذه الألفَ تُشْبه هاءَ السكتِ لبيانِ الحركة، وهاءُ السكتِ تَثْبُتُ وقفاً، للحاجة إليها. وقد ثَبَتَتْ وصلاً إجراءً للوصل مُجْرى الوقف كما تقدَّم في البقرة والأنعام. فكذلك هذه الألفُ. وقرأ أبو عمروٍ وحمزةُ بحَذْفِها في الحالَيْن؛ لأنها لا أصلَ لها. وقولُهم: «أُجْرِيَتْ الفواصلُ مُجْرى القوافي» غيرُ مُعْتَدٍّ به؛ لأنَّ القوافي يَلزَمُ الوقفُ عليها غالباً، والفواصلُ لا يَلْزَمُ ذلك فيها فلا تُشَبَّهُ بها. والباقون بإثباتِها وَقْفاً وحَذْفِها وَصْلاً إجراءً للفواصلُ مُجْرى القوافي في ثبوتِ ألفِ الإِطلاق كقولِه:
٣٦٧٦ اسْتأثَرَ اللَّهُ بالوفاءِ وبال... عَدْلِ ووَلَّى المَلامَةَ الرَّجُلا
وقوله:
٣٦٧٧ أقِلِّي اللومَ عاذلَ والعِتابا... وقُولي إن أَصَبْتُ لقد أصابا
ولأنها كهاءِ السكت، وهي تَثْبُتُ وقفاً وتُخَفَّفُ وصلاً. قلت: كذا يقولون تشبيهاً للفواصلِ بالقوافي، وأنا لا أحب هذه العبارةَ فإنها مُنْكَرَة لفظاً ولا خلافَ في قوله: ﴿وَهُوَ يَهْدِي السبيل﴾ [الأحزاب: ٤] أنه بغيرِ ألفٍ في الحالين.
قوله: «هنالك» منصوبٌ ب «ابْتُلِيَ» وقيل: ب «تَظُنُّون». واسْتَضْعَفَه ابنُ عطية. وفيه وجهان، أظهرهما: أنه ظرفُ مكانٍ/ بعيدٍ أي: في ذلك المكان الدَّحْضِ وهو الخندقُ. الثاني: أنه ظرفُ زمانٍ، وأنشد بعضُهُم على ذلك:
٣٦٧٨ وإذا الأمورُ تَعاظَمَتْ وتشاكَلَتْ... فهناك يَعْتَرفون أين المَفْزَعُ
قوله: «وزُلْزِلُوا» قرأ العامَّةُ بضمِّ الزاي الأولى وكسرِ الثانية على أصل ما لم يُسَمَّ فاعلُه. ورَوَى غيرُ واحدٍ عن أبي عمروٍ كَسْرَ الأولى. وروى الزمخشريُّ عنه إشمامَها كسراً. ووجهُ هذه القراءةِ أَنْ يكونَ أتبعَ الزايَ الأولى للثانيةِ في الكسرِ، ولم يَعْتَدَّ بالساكنِ لكونِه غيرَ حصينٍ، كقولهم: «مِنْتِن» بكسرِ الميم، والأصل ضمُّها.
قوله: «زِلْزالاً» مصدر مُبَيِّنٌ للنوعِ بالوصف. والعامَّةُ على كسر الزاي. وعيسى والجحدري فتحاها. وهما لغتان في مصدرِ الفعل المضعَّفِ إذا جاء على فِعْلال نحو: زِلْزال وقِلْقال وصِلْصال. وقد يُراد بالمفتوح اسمُ الفاعل نحو: صَلْصال بمعنى مُصَلْصِل، وزَلزال بمعنى مُزَلْزِل. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
الأول، نحو دَحْرَجْتُه دِحْراجاً لا يجوز فيه غير الكسر.
ومعنى (هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المومِنُونَ) أَيْ فِي تلكَ الحال اخْتُبِرَ المؤمِنُونَ.
ومعنى (زُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا)، أزْعِجوا إزعاجاً شديداً وحُرِّكوا.
* * *
وقوله: (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (١٢)
موضع " إذْ " نَصْب
المعنى اذكر إذ يَقول المنافقون.
ومعنى الآية أن المنافقين قالوا: وَعَدَنا محمدٌ - ﷺ - أن فارسَ والرومَ تُفْتَحَانِ عَلَيْنَا، وَنَحْن بمكاننا هذا ما يقدر أحدنا أن يبرز لحاجَتِه، فهذا وعْد غرور.
* * *
وقوله عزَّ وَجَل (وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (١٣)
ويقرأ " لاَ مَقَام لَكمْ " بفتح الميمِ، فمن ضم الميم فالمعنى لا إقامة
لكم، تقول: أقمت في البَلَدِ إقامةً ومُقاماً.
ومن قرأ لا مَقَام لكم " - بفتح الميم، فالمعنى لا مكان لكم تقيمون فيه، وهؤلاء كانوا يُثَبِّطونَ المؤمنين عن النبي - ﷺ -.
(وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ).
أي مُعَوَّرة وذلك أنهم قالوا إِنَّ بُيُوتَنَا مِمَّا يَلِي العَدو، ونحن
نُسْرَقَ مِنْهَا، فكذبَهُم اللَّه تعالى وأعلم أن قَصْدَهم الهَرَبُ والفرار.
فقال: (وَمَا هِيَ بِعَورَةٍ).
ويقرأ: وَمَا هِيَ بِعَوِرَةٍ.
يقَال عَوِرَ المَكَان يَعْوَرُ عَوَراً، وهو عَوِر
وبيوت عَوِرة، وبيوت عَوْرَة على ضَربَيْن، على تسْكِين عَوْرَة، وعلَى
معْنَى ذات عَوْرَة.
(إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا).
أي ما يريدون تحرزاً مِنْ سَرَقٍ، ولكن المنافقين يريدون الفرار
عن نُصْرَةِ النبي عليه السلام.
* * *
(وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (١٤)
أي وَلَوْ دُخِلَتْ البيوت من نواحيها.
(ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا)، ويقرأ بالقصر (لَأَتَوْهَا)، فمن قرأ (لَآتَوْهَا) بالمدِّ فالمعنى لأعطوها، أي لَوْ قِيلَ لَهمْ كُونوا على المسلمين مُظْهِرِينَ الفتنةَ لَفَعَلوا ذَلِكَ، (وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا).
ومن قرأ (لَأَتَوْهَا) بالقصر، فالمعنى لَقَصدُوها.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (١٨)
أي الذين يُعَوقون عن النبي - ﷺ - نُصَّارَهُ، وذلك أنهم قالوا لِنُصَّار النبي - ﷺ -: ما محمد وأصحابه إلا أكلة رَأْس. ولو كانوا لحماً لالْتَهَمَهُمْ أَبُو سفيانَ وأَصْحابُه فخلوهم وَتَعَالَوْا إلَيْنَا.
وقوله: (وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا).
أي لا يأتون الحرب مع أصحاب النبي - ﷺ - إلا تَعْذِيراً
يوهِمُونَهِمْ أَنَّهم مَعَهُمْ.
* * *
(أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (١٩)
" أشِحَّةً " منصوبٌ عَلَى الحَال، المعنى يَأتُونَ الحربَ بُخَلاءَ عَلَيكمْ
بالظفر والغنيمة فَإذَا جَاءَ الخَوْفُ فهم أَجْبَنُ قَوْمٍ، فإذا جاءت الغنيمة
فأشحُّ قَوْمٍ وَأَخْصَمُهُم.
(فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ).
لأنهم يحضرون على غَيْر نية خَيْرٍ، إلا نية شَر.
(فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ).
معنى " سَلَقُوكم " خاطبوكم أَشَدَّ مخَاطَبةِ وَأَبْلَغَهَا في الغنيمة، يقال:
خَطِيبٌ مِسْلَاق وسَلَّاق إذَا كانَ بَلِيغاً في خُطْبَتِهِ.
(أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ).
أي خاطبوكم وهم أَشِحَّة عَلَى المالَ والغنيمة.
وقوله (أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ).
أي هم وإن أظهروا الإِيمانَ ونافقوا فليسوا بمؤمنين.
* * *
وقوله: (يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (٢٠)
أي يحسبون الأحزاب بعدَ انْهِزامهم وذَهَابِهم لم يذهبوا لجُبْنِهِمْ
وَخَوفِهِم منهم.
(وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ).
أي إذا جاءت الجنودُ والأحزابُ ودُّوا أنهم في البادية.
* * *
وقوله تعالى: (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (٢٢)
فوصف اللَّهُ حَالَ المنافِقين في حَرْبِ الكافرين وحال المؤمنين
في حَرْبِ الكَافِرينَ.
فوصف المنافقين بالفشل والجبْنِ والروَغَانِ
والمسارعة إلى الفتنةِ والزيادة في الكُفْرِ، ووصف المؤمنين بالثبُوتِ
عند الخوف في الإيمان، فقال، (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (٢٢).
والوعد أن اللَّه قال لهم: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (٢١٤).
فكذلك لَمَّا ابْتُلِي أصحاب النبي - ﷺ - وزُلْزلُوا زلزالاً شَدِيدًا عَلِمُوا أن الجنَّةَ والنصْرَ قَدْ وَجَبَا لَهُمْ.
* * *
وقوله تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (٢٣)
المعنى أَنهُم عَاهَدُوا في الإسلام فَأقَامُوا عَلَى عَهْدِهِمْ.
وموضع (مَا) نَصْبٌ بِـ (صَدَقُوا).
(فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ).
أي أجله وَلَمْ يُبَدِّلْ.
وهو قوله: (وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا).
فالمعنى أنَّهُ مات على دينه غيرَ مُبَدِّل.
* * *
(لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (٢٤)
أي ليجزي الذين صدقوا فِي عَهْدِهم، والمنافقون كذبوا في
عهدهم لأنهم أظهروا الإسلام وأَبْطَنُوا الكُفْرَ.
وقوله تعالى: (وَيُعَذِبَ المُنَافِقِينَ إنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيهِمْ).
أي أَو يَنْقُلَهُمْ من النفاقِ إلى الإيمانِ.
* * *
وقوله: (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (٢٥)
يعنى به هَهُنَا أبا سُفْيَانَ وَأَصْحَابه الأحْزَاب.
(لم يَنَالُوا خَيْراً).
أي لم يظفروا بالمسلمين وكان ذلك عندهم خيراً فخوطبوا عَلَى
استعْمَالِهم.
وقوله: (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (٢٦)
يُعْنَى بِهِ بنو قريظة، ومعنى (ظَاهَرُوهُمْ) عَاوَنُوهم على النبي - ﷺ - فقذف اللَّه في قلوبهم الرعب وأَنْزَلَهُمْ على حُكْم سَعْدٍ.
وكان سعد حكم فِيهِمْ بأنْ يُقْتَلَ مُقَاتِلهم، وتُسْبَىْ ذَرَارِيهِمْ.
* * *
(وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (٢٧)
جعل النبي - ﷺ - أرْضَهم وديارَهُمْ وَأَمْوَالَهُم للمهاجرِينَ لأنهم لم يكونوا ذوي عَقَارِ.
ومعنى الصيَاصِى كل ما يُمْتَنَعُ بِهِ، والصياصي ههنا الحُصُونُ.
وقيل القُصُورُ، والقُصُورُ قد يُتَحَصَّنُ فيهَا.
والصَّياصِي قرونِ البقر والظِباء وكل قَرْنٍ صَيْصَية، لأن ذوات القرُون يَتَحَصَّنُ بِقُرونها وتَمْتَنِعُ بِها، وصيصة الديك شوكتهُ لأنه يَتَحَصَّنُ بها أيضاً.
وقوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (٢٨)
وَكُنَ أَرَدْن شَيئاً من أَمْرِ الدُّنْيَا، فأمر اللَّه رسوله - ﷺ - أَنْ يَخيّرَ نساءَهُ بين الإقامة مَعَة على طلب ما عند اللَّه، أو التسْريح إنْ أَرَدْنَ
الحياةَ الدنيَا وزينتها، فاخترن الآخرة على الدنيا والجنَّة على الزينة.
* * *
وقوله: (وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (٢٩)
أي من آثر منكن الآخرة فَأجْره أَجر عَظِيمٌ.
* * *
وقوله: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (٣٢)
ولم يقل كواحدة من النساء، لأن أَحَداً نفي عام للمذكر والمؤنث
والواحِدِ والجماعة.
وقوله: (إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ).
أي لا تَقلْن قولاً يجد به مُنَافِقٌ سَبيلاً إلى أن يطمع في مًوَافقتكنَّ
له.
(وَقُلْنَ قَولاً مَعْرُوفاً).
أي قُلْنَ ما يوجبه الدِّين والإسلام بغير خضوعٍ فيه، بل بتصريح
وبَيَانٍ.
(فَيطْمعَ) بالنصب وهي القِراءَة، وَجَوَابُ (فلا تَخْضَ) (فَيطْمعَ)
ويقرأ (فَيطْمِعْ) الذي في قلبه مرض، بتسكين العَيْن، نسق على
فلا تَخْضَعْنَ فيطمعْ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (٣٣)
224
ويقرأ " وقِرْنَ " - بكسر القاف - فمن قرأ بالفتح فهو من قَرِرْتُ
بِالمكَانِ أقَرُّ. فالمعْنَى، واقرَرْن فإذا خُفِفَتْ صارت وَقَرْنَ حذفت الألف
لثقل - التضعيف في الراء، وألقيت حركتها على القاف.
والأجْوَدُ وَقِرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ - بكسر القاف - وهو من الوَقَارِ، تقول: وَقَرَ يَقِرُ في المكان.
ويصلح أن يكون من قَرَرْتُ في المكانِ أَقِره فيحذف على أنه
من " واقْرِرْنَ " بكسر الراءِ الأولى، والكسر من جهتين، من أنه من
الوقار، ومن أنه من القرار جميعاً.
* * *
وقوله تعالى: (وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى).
التبرُّجُ إظْهَارَ الزِينَةِ، وما تُسْتَدْعَى به شهوةُ الرجُلِ.
وقيل إنهُن كن يتكسَّرْن في مِشْيَتِهِنَّ، وَيَتَبختَرنَ، وقيل إن الجاهلية الأولى
من كان من لدن آدم إلى زمن نوح، وقيل من زمن نوح إلى زمن إدريس.
وقيل منذ زمن عيسى إلى زمن النبي - ﷺ -.
والأشبه أن تكون منذ زمن عيسى إلى زمن النبي - ﷺ - لأنهم هم الجاهليةُ المعروفُونَ لأنه روى أنهم كانوا يتخذون البغَايَا - وهن الفواجر يُغْلِلْنَ لَهُمْ.
فإن قيل: لم قيل الأولى؟
قيل يقال لكل متقدِّم ومتقدِّمَةٍ أولى
وأول، فتأويله أنهم تقدَّمُوا أمَّةَ محمد - ﷺ -.
فهم أولى وهم أول من أمة محمد - ﷺ -.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (مَنْ يَأْتِ مِنْكنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ).
225
وتقرأ (مُبَيَّنَةٍ).
(يُضَاعَفْ لَهَا العذابُ ضِعْفَين).
القراءة يُضَاعَفْ بألِفٍ، وقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ يُضَعِّفْ، وكلاهما
جَيِّدٌ.
وقال أَبُو عُبَيْدَة: يعذب ثلاثة أَعْذِبَةٍ، قال: كان عليها أن يعَذَب
مَرةً وَاحدَةً، فإذا ضُوعِفَتْ المرة ضِعْفَينِ، صار العذاب ثلاثة أَعْذِبَةٍ.
وهذا القول ليس بشيء لأنَّ معنى يضاعف لها العذاب ضعفين يجعل
عذاب جرمها - كعذابَيْ جُرْمَيْنِ.
والدليل عليه (نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ) فلا يكون أن تعطى على الطاعة أَجْرَين وعلى المَعْصِيَةِ ثلاثة أَعْذِبَةٍ
ومعنى ضعف الشيء مِثلُه، لأن ضِعف الشيء الذي يُضْعِفُه بمنزلة مثقال
الشيء.
ومعنى (يَقْنُتْ) يقيم على الطاعة.
(وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا) جاء في التفسير أَنَهُ الجنَّةُ.
* * *
وقوله: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ).
(أَهْلَ الْبَيْتِ) منصوب على المدح، ولو قرئت أهلِ البيتِ
- بالخفض - أو قرئت. أهلُ البيت بالرفع لجاز ذلك ولكنَّ القراءَةَ
النصبُ.
وهو على وجْهَيْنِ:
على مَعْنَى أعني أهلَ البَيْتِ.
وعلى النداء، على معنى يا أهل البَيْتِ.
والرجْسُ في اللغةِ كل مستنكر مسْتَقْذرٍ من مأكول أو عمَلٍ أَوْ فَاحِشَةٍ.
وقيل إن أهل البيت ههنا يعنى به نساء النبي - ﷺ -
وقيل نساء النبي - ﷺ - والرجال الذين هم آله.
واللغة تدل على أنه للنساء والرجال
226
جميعاً لقوله (عَنكم) بالميم، وَيُطَهِّرَكُمْ.
ولو كان للنساء لم يجز إلا عَنكُن وَيُطَهِّرَكُنَّ.
والدليلُ على هذا قوله: (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ) حيث أفرد النساء بالخطاب.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (٣٥)
لما نزل في نساء النبي - ﷺ - ما نزل، قال النساء من المُسْلِمَاتِ: فما نزل فينا نحن شيء، فأَعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن النساء والرجَالَ يجازَوْنَ بِاَعْمَالِهِم المغفرةَ والأجرَ العظيمَ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ).
المعنى والحافظين فروجهم والحافظاتها والذاكرين اللَّه كَثِيراً.
والذاكِراتِهِ.
استغنى عن ذكر الهاء بِمَا تَقدَّمَ ودل على المحذوف، وَمِثْله
ونخلعُ ونتركُ من يَفْجُركَ، المعنى ونخلع من يفجُرُكَ ونترُكُهُ.
ومثله من الشعر.
وكُمْتاً مُدَمَّاةً كأَنَّ مُتُونَها... جَرى فَوْقَها واسْتَشْعَرَتْ لون مُذْهَب
على رفع لوْنِ.
المعنى جرى فوقها لون مذهب واستشعرته.
* * *
وقوله تعالى: (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِه).
بالياء، (وَتَعْمَلْ) بالتاء.
الأول محمول على اللفظ، وتعمل على المعنى.
ومن قرأهما جميعاً بالتاء حمل على المعنى. أراد والتي تقنت منكن للَّهِ ورسوله
وتعمل.
ومن قرأ الأول بالتاء قبُحَ أن يَقْرأ وَيَعْمَلْ، لأنه قد حمل
على المعنى، وأوضح الموصول بأنه مؤنث، فيقبح الحمل على اللفظ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (٣٦)
الخِيَرَةُ: التخْيِيرُ.
ونزلت هذه الآية بسبب زينبَ بنتِ جحْش.
وكانت بنت عمَّةِ رَسُول الله - ﷺ - وزيْدِ بن حَارِثَةَ، وكان زيد مولى رسول اللَّه - ﷺ - وكانت منزلته منه في محبَّتهِ إياه كمنزلة الولد، فخطب رسول اللَّه - ﷺ - زَيْنَبَ ليزوجها من زَيْدٍ، فظنت أنه خطبها لنفسه عليه السلام، فلما علمت أنه يريدها لزيدٍ كرهت ذلك.
وأعلم اللَّه - جل وَعَلَا - أنه لا اختيار على ما قضاه اللَّه ورسوله، وزوَّجَها مِنْ زَيْدٍ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (٣٧)
معنى أنعم اللَّه عليه هداه للإسلام، وأنعمت عليه أعتقته من
الرق، وكان زيد شَكا إلى النبي عليه السلام أَمْرَ زَيْنَبَ، فأمره
بالتمسك بها، وكان عليه السلام يحب التزوج بها إلا أنه عليه
السلام آثر ما يحب من الأمر بالمعروف فقال: (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ).
(وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ).
أي تكره مقالة النَّاسِ.
(فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا).
أي فلما طلَّقها زيد.
والوَطَر في اللغة والأرَبُ بمعنًى واحد.
قال الخليل: معنى الوطر كل حاجَةٍ يكون لك فيها هِمَّة، فإذا بلغها البالغ
قيل قد قضى وطره وَأَرَبَه، أي بَلَغ مُرادَه مِنها.
وقوله - عزَّ وجلَّ: (لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا).
أي زوجناك زينب وهي امرأةُ زيد الذي قد تبنَّيت به، لئلا يُظَن
أَنه من تبنَّى بِرَجُل لم تحِل امرأتُه للمُتَبَنِّي.
* * *
وقوله تعالى: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (٤٠)
أي لم يكن زيد ابنَ محمد - ﷺ - لم يلده، وقد وُلِدَ لِرَسُولِ اللَّه - ﷺ -
229
ذكورٌ إبراهيم والطيب والقاسم والمطهَّر (١)، وإنما تأويله: ما كان
يحرم عليه مِمنْ تبنى به ما يحرم على الوالد.
والنبي - ﷺ - أبو المؤمنين في التبجيل والتعظيم.
وقرئت: وخاتِمَ النبيينَ وخاتَم النبيين.
فمَنْ كَسَرَ التاء فمعناه ختم النبيين، ومن قرأ وخاتَم النبيينَ - بفتحِ التاء -
فمعناه آخر النبيين، لَا نَبِى بعده - ﷺ -.
ويجوز: ولكن رسول اللَهِ وخاتمُ النبيين.
فمن نصب فالمعنى ولكن كان رَسُولَ اللَّهِ وكان خاتَمَ النبيينَ.
ومن رفع فالمعنى ولكن هُوَ خَاتَمُ النبيين.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (٣٨)).
(سُنَّةَ) منصوب على المصدر، لأن معناه " ما كان على النبي من
حرج فيما فرض الله سَنَّ الله سُنَّةً حسنة وَاسِعَةً لَا حَرج فيها.
أي لا ضِيقَ فيها والسُّنَّة الطريقة، والسَنَنُ مِنْ ذَا كلِّه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ).
معناه في النبيينَ الذين قبل محمد - صلى الله عليهم وسلم -.
أي سُنَّةَ الله في التَّوْسعة على محمد - ﷺ - فيما فرض اللَّه له كسُنَّتِهِ في الأنبياء المَاضِين.
* * *
وقوله تعالى: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (٣٩)
" الذين " في موضع خَفْض نعت لقوله (فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ)
ويجوز أن يكون رَفْعاً على المدح عَلَى هَمْ (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ).
ويجوز أن يكون نصباً على معنى أعني الذين يُبَلِّغُونَ.
(١) لم يكن له - ﷺ - غير ثلاث بنين، وكان عبد الله يلقب بالطيب والطاهر.
230
وقوله: عزَّ وجلَّ: (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (٤٣)
صلاة اللَّه على خلقه رَحْمَتُه وهدايته إياهم.
* * *
وقوله: (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (٤٤)
تحية أهل الجنَّةِ سلام، قال الله عزَّ وجلَّ: (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (٤٥)
أي: شاهداً على أُمَّتِكَ بالِإبْلاَغِ، إبلاع الرسالة، ومبشراً بالجنَّة
ومُنذِراً من النَّارِ، وهذا كله منصوب على الحال، أي أَرْسَلْنَاكَ في حال
الشهادة والبِشَارَةِ والإنذار.
* * *
(وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (٤٦)
أي داعياً إلى توحيد الله وما يُقَرِّبُ منه، وبإذْنِهِ أي بِأمْرِه.
(وَسِرَاجًا مُنِيرًا).
أي وكتاباً بَيناً، المعنى أرسلناك شاهداً وذَا سراج مُنِير وذا كتاب
بَيِّنٍ، وَإنْ شئت كان (وَسِرَاجًا) منصوباً على معنى دَاعِياً إلى اللَّهِ وتالِياً
كتاباً بيِّناً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (٤٨)
(وَدَعْ أَذَاهُمْ).
معناه دع أذى المنافقين، وتأويل (وَدَعْ أَذَاهُمْ) دَعْهُم لا تجازهِمْ
عَلَيْه إلى أن تؤمَرَ فيهم بِأَمْرٍ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (٤٩)
معنى (تَمَسُّوهُنَّ) تقربوهنَّ.
(فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا)
قال بعضهم: (فَمَتِّعُوهُنَّ) نسخها قوله تعالى (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ).
والنصف ينوب عن التمتيع، إلا أن يكون لم يسمِّ لها مهراً، فلها نصف مهر مثلها، وأسقط الله العدة عن التي لم يُدخل بها؛ لأنَّّ العدة في الأصل استبراءٌ.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ -: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (٥٠)
(أُجُورَهُنَّ) مهورهنَّ.
(وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ)
وأصل الإملاك في الإماء والعبيد ما يجوز سبيه وفيئه فأما سبي الخبيثة فلا يجوز وطئه ولا ملكه.
يقال: هذا سبيُ طيبة وسبيُ خبيثة
فسبيُ الطيبة سبيُ من يجوز حربه من أهل الكفر.
فأما من كان له عهد فلا يجوز سبيه ولا ملك عبدٍ منه ولا أمَةٍ
وقوله - عزَّ وجلَّ -: (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ)
وتقرأ (أَنْ وَهَبَتْ) بالفتح.
أي: أن وهبت نفسها للنبي - ﷺ - حلَّت له ومن
قرأ " أنْ وَهَبَتْ " بالفتح فالمعنى أحَلَلْنَاها لأنْ وَهَبَتْ نفسها.
(وخالِصَةً) منصوب على الحال.
المعنى إنا أَحْلَلنَا لك هؤلاء.
وأحللنا لك من وَهَبَتْ نفسها لك. وإنما قيل للنبي ههنا لأنه لو قيل أن وهبت نفسها لك كان يجوز أن يتوهم أن في الكلام دليلاً أنه يجوز ذلك لغير النبي عليه السلام، كما جاز في قوله: (وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ)، لأن
بَنَاتِ العَمِّ وبنات الخال يحللن للناس.
وقوله: (قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ).
أي إن التزويج لا يَنْعقِد إلا بِوَلِيٍّ وَشَاهدين، وملك اليمين لَا
يَكُونَ إلا مِمَنْ يَجُوزُ سَبْيُه.
وَقَولُه: (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (٥١)
ترجي بالهمز وغير الهمز، والهمز أكثر وأَجْوَدُ، ومعنى تُرْجِي
تُؤَخِرَ بالهَمْزِ وَغَيرِ الهمز، المعنى واحدٌ، وهذا مما خص اللَّه به النبي
عليه السلام فكان له أن يؤخر من أحب من نِسائه ويؤوي إليه من
أحب من نسائه وليس ذلك لغيره مِنْ أمَّتِهِ، وله أَنْ يَرُدَّ من أَخَّر إلى
فراشه عليه السلام.
(وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ).
أي إن أردت ممن عزلت أن تُؤْوِيَ إليكَ فلا جناح عليك.
(ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ).
أي ويرضيْنَ كُلُّهُنَّ) بِمَا آتَيْتَهُنَّمن تقريب وإرجاء
ويجوز النصب في (كُلُّهُنَّ) توكيداً للهاء والنونِ.
وقوله عزَّ وجلَّ: (لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (٥٢)
ويقرأ: لا تحل لك النساء - بالتاء، فمن قرأ بالياء فلأن الياء في
معنى جمع النساء، والنساء يدل على التأنيث فيستغنى عن تأنيث
يحل.
ويجوز لا تحل - بالتاء - على معنى لا تحل لك جماعة النساء.
وقوله: (وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ).
موضع " ما " رفع المعنى لا يحل لك إلا مَا ملكتْ يَمينكَ.
جعل " ما " بدلاً مِنَ النَساءِ
ويجوز أن يكون موضع " ما " نَصْباً على معنى لا يحل لك
النساء أَسْتَثْنِي ما ملكت يمينك.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (٥٣)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ)
بضم البَاءِ وقد رُويت عَنْ عَاصِم " بِيوت " بكسر الباء وعن جَمَاعَةٍ
من أهل الكوفة.
وليس يروي البصريون بِيُوت بكسر الباء، بل يقولون
إن الضم بعد الكسر ليس موجوداً في كلام العرب ولا في أشعارِها.
والذين كسروا فكأنهم ذهبوا إلى اتباع الياء، والاختيار عند الكوفيين
الضَّم في (بيُوت).
وقوله: (إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ).
في موضع نصب. المعنى إلا بأن يُؤذنَ لَكم، أو لأنْ يؤذَنَ لكم.
وقوله: (إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ).
(إِنَاهُ) نَضْجُه وبلوغه، يقال أَنَى يأنِي إنَاءً إذا نَضِج وَبَلَغَ.
و" غيرَ " منصوبةٌ على الحال، المعنى إلا أن يؤذن لكم غير منتظرين.
ولا يجوز الخفض في " غير " لأنها إذا كانت نعتاً للطعام لم يكن بدٌّ من إظهار
الفاعل لا يجوز إلا غير ناظرين إناه أنتم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ).
ويجوز (فَيَسْتَحي) منكم بياء واحدة، وكذلك قوله: (وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي
مِنَ الحَق) ويَسْتَحْي بالتخفيف على استحيَيْتُ واسْتَحَيْتُ، والحذف لثقل
الياءين.
وكان النبي - ﷺ - يحتمل إطَالَتُهُمْ كرماً منه فيصبر على الأذَى في ذلك، فعلم الله من يحضره الأدَبَ فصار أَدَباً لهم ولمن بعدهم.
وقوله: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ).
أي إذا أردتم أن تخاطبوا أزواج النبي - ﷺ - في أمر فخاطِبُوهُن من وراء حِجَابٍ، فنزل الأمر بالاستِتَارِ.
وقوله: (وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ).
أي ما كان لكم أذاه في شيء من الأشياء.
(وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا).
مَوْضعْ " أنْ " رَفع.
المعنى: وَمَا كان لكم أن تنكحوا أزواجه من بعده، وذَلِكَ أنه ذُكِرَ أن رَجُلاً قال: إذَا تُوفِّيَ مُحمدٌ تَزَوَّجْتُ امْرَأَتَهُ فلانةً، فأعلم الله أن ذَلِكَ محرَّمٌ بقوله: (إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا).
أي كانَ ذنباً عَظِيماً.
وقوله: (لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (٥٥)
ولم يرد في هذه القِصةِ أَعْمَامُهُنَّ وَلَا أَخْوَالُهُنَّ.
فجاء في التفسير أنه لم يذكر العَمّ والخَال، لأنَّ كُل واحد منهما يحل لابنة المرأة، فتحِل لابن عمها وابن خالها. فقيل كُرِهَ ذلك لأنهما يصفانها لأبنائِهِمَا.
وهذه الآية نزلت في الحجاب فيمن يحل للمرأَةِ البُرُوزُ لَهُ، فذكر الأب
والابْنُ إلى آخر الآية.
المعنى لا جناح عليهن في رؤية آبَائِهِن لَهُنَّ، ولم يذكر العم
والخالَ لأنهما يجريان مجرى الوالدين في الرؤية.
وقد جاء في القرآن تسمية العم أباً في قوله: (قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا)، فَجَعَلَ العمَّ أباً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (٦٠)
المعنى لنسطنك عليهم.
(ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (٦٠) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (٦١)
(مَلْعُونِينَ)
منصوب على الحال، المعنى لا يجاورونك إلَّا وهم ملعونون.
وقوله: (أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا).
لا يجوز أن يكون " ملعونين " منصوباً بما بعد (أَيْنَمَا)، لا يجوز أن
تقولَ: مَلْعُوناً أَيْنَمَا ثقف أخِذَ زَيْدٌ يُضْرَب، لأن ما بعدما حروف الشرط
لا يعمل فيما قبلها.
* * *
وقوله: (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (٦٢)
(سُنَّةَ اللَّهِ) مَنْضوبٌ بمعنى قوله أخذوا وَقُتِلُوا، فالمعنى سَنَّ اللَّه
في الذين ينافقون الأنبياء ويرجفون بِهِمْ أن يُقتلوا حَيْثُما ثقِفُوا.
* * *
وقوله: (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (٦٧)
الاختيار " السبيلا " بألف، وأن يوقف عليها، لأن أواخر الآي
وفواصلها يجري فيها ما يجري في أَوَاخِر الأبياتِ من الشِعْر.
والفَوَاصِل، لأنه خوطب العربُ بما يعقلون في الكلام المؤلفِ فَيُدَلُّ
بالوقف في هذه الأشياء وزيادة الحروف فيها، - نحو: الظنونا.
والسبيلا، والرسولا - أن الكلام قد تم وانقطع، وأن ما بعده مستأنف.
* * *
وقوله: (رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (٦٨)
(وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا)
ويقرأ (كثيرًا) ومعناهما قريب.
* * *
وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (٦٩)
أي لا تؤذوا النبي - عليه السلام - كما آذى أَصحاب موسى
مُوسَى، عليه السلام، فينزلَ بكم ما نزل بهم.
وكان أذاهم لموسى فيما جاء في التفسير أَنهم عابُوه بشيء في
بدنه فاغتسَل يوماً ووضع ثوبه على حجر فذهب الحجر بثوبه فاتبعه
موسى فرآه بنو إسرائيل ولم يروا ذلك العيب الذي آذوه بذكره.
(وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا).
كفمَة اللَّه تكليماً وبرأه من العيب الذي رموه به بآية معجزة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (٧٢)
237
روي عن ابن عَبَّاس وسَعِيدِ بن جبير أنهما قالا: الأمانة ههنا
الفرائض التي افترضها اللَّه على عبادة، وقال ابن عُمَر: عرضت على
آدمَ الطاعةُ والمعصيةُ وعرف ثوابَ الطاعة. وعقابَ المعصية.
وحقيقة هذه الآية - واللَّه أعلم، وهو موافق للتفسير - أن اللَّه عزَّ وجلَّ ائتمن بني آدم على ما افترضه عليهم من طاعته، وائتمن السَّمَاوَاتِ والأرضَ
والجبالَ على طاعته والخضوع له، فأعلمنا الله أنه قال:
(ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (١١).
وأعلمنا أن من الحجارة ما يَهْبِطُ من خشية اللَّه وأن الشمس والقمرَ والنجومَ والملائكةَ وكثيراً من الناس يسجدون للَّهِ.
فأعلمنا اللَّه أن السَّمَاوَات والأرض والجبال لم تحتمل الأمانة، أي
أَدَّتْها، وكل من خان الأمانة فقد احتملها، وكذلك كل من أَثِمَ فقد
احتمل الإثم، قال اللَّه عزَّ جل: (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ). فأَعلم اللَّه أن من باء بالإثم يسمَّى حاملا للإثْمِ.
فالسَّمَاوَات والأرض والجبال أَبَيْنَ أن يحملن الأمانة وأدَّينَها.
وَأَدَاؤها طاعة اللَّه فيمَا أَمَر به، والعَمَلُ به وترك المَعْصِيَةِ.
وحَمَلَها الإنْسانُ، قال الحَسَنُ: الكافر والمنافق حَمَلا الأمانة ولم
يطيعا.
فهذا المعنى والله أعلم.
ومن أطاع من الأنبياء والصديقين والمؤمنين فلا قال كان ظلوماً جَهُولًا، وتصديق ذلك ما يتلو هذه الآية
من قوله: (لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (٧٣)
238
Icon