تفسير سورة الرحمن

أضواء البيان
تفسير سورة سورة الرحمن من كتاب أضواء البيان المعروف بـأضواء البيان .
لمؤلفه محمد الأمين الشنقيطي . المتوفي سنة 1393 هـ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
سُورَةُ الرَّحْمَنِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ.
قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لَمَّا تَجَاهَلَ الْكُفَّارُ الرَّحْمَنَ - جَلَّ وَعَلَا - كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ [٢٥ ٦٠]، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْفُرْقَانِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَى الرَّحْمَنِ وَأَدِلَّتَهُ مِنَ الْآيَاتِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: عَلَّمَ الْقُرْآنَ. أَيْ عَلَّمَ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقُرْآنَ فَتَلَقَّتْهُ أُمَّتُهُ عَنْهُ، وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَتَضَمَّنُ رَدَّ اللَّهِ عَلَى الْكُفَّارِ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ تَعَلَّمَ هَذَا الْقُرْآنَ مِنْ بَشَرٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [١٦ ١٠ ٣]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ [٧٤ ٢٤]، أَيْ يَرْوِيهِ مُحَمَّدٌ عَنْ غَيْرِهِ.
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [٢٥ ٤ - ٥].
فَقَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرْتُمْ مِنْ أَنَّهُ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ مِنْ بَشَرٍ، بَلِ الرَّحْمَنُ - جَلَّ وَعَلَا - هُوَ الَّذِي عَلَّمَهُ إِيَّاهُ، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [٢٥ ٦]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [١١ ١]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [٤١ ١ - ٤]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [٧ ٥٢]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا [٢٠ ١١٣]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا [٢٥ ٣٣]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ [٧٥ ١٧ - ١٩]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [٤٢ ٥٢]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ [١٢ ٣]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [٤ ١١٣]، وَمِنْ أَعْظَمِ ذَلِكَ هَذَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [٢ ١٨٥].
وَتَعْلِيمُهُ - جَلَّ وَعَلَا - هَذَا الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، قَدْ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ مَنْ أَعْظَمِ نِعَمِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [٣٥ ٣٢].
وَقَدْ عَلَّمَ اللَّهُ تَعَالَى النَّاسَ أَنْ يَحْمَدُوهُ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ الْعُظْمَى الَّتِي هِيَ إِنْزَالُ الْقُرْآنِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا [١٨ ١]، وَبَيَّنَ أَنَّ إِنْزَالَهُ رَحْمَةٌ مِنْهُ لِخَلْقِهِ - جَلَّ وَعَلَا - فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [٢٨ ٨٦]، وَقَوْلِهِ: إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [٤٤ ٥ - ٦]، وَقَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِذَلِكَ فِي الْكَهْفِ وَالزُّخْرُفِ.
عَلَّمَ الْقُرْآنَ حَذَفَ فِيهِ أَحَدَ الْمَفْعُولَيْنِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمَحْذُوفَ هُوَ الْأَوَّلُ لَا الثَّانِي، كَمَا ظَنَّهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ، وَقَدْ رَدَّهُ عَلَيْهِ أَبُو حَيَّانَ، وَالصَّوَابُ هُوَ مَا ذَكَرَهُ، مِنْ أَنَّ الْمَحْذُوفَ الْأَوَّلُ، وَتَقْدِيرُهُ: عَلَّمَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقِيلَ: جِبْرِيلَ، وَقِيلَ: الْإِنْسَانَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ.
اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ خَلْقَ الْإِنْسَانِ وَتَعْلِيمَهُ الْبَيَانَ مِنْ أَعْظَمِ آيَاتِ اللَّهِ الْبَاهِرَةِ، كَمَا أَشَارَ تَعَالَى لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ النَّحْلِ: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [١٦ ٤]
489
وَقَوْلِهِ: فِي آخِرِ «يس» أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [٣٦ ٧٧].
فَالْإِنْسَانُ بِالْأَمْسِ نُطْفَةٌ وَالْيَوْمَ هُوَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ وَشِدَّةِ الْخِصَامِ يُجَادِلُ فِي رَبِّهِ وَيُنْكِرُ قُدْرَتَهُ عَلَى الْبَعْثِ، فَالْمُنَافَاةُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي بَيْنَ النُّطْفَةِ وَبَيْنَ الْإِبَانَةِ فِي الْخِصَامِ، مَعَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ وَجَعَلَهُ خَصِيمًا مُبِينًا؛ آيَةً مِنْ آيَاتِهِ - جَلَّ وَعَلَا - دَالَّةً عَلَى أَنَّهُ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ، وَأَنَّ الْبَعْثَ مِنَ الْقُبُورِ حَقٌّ.
وَقَوْلُهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ خَلَقَ الْإِنْسَانَ لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا أَطْوَارَ خَلْقِهِ لِلْإِنْسَانِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهَا فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْفَلَاحِ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [٢٣ ١٢ - ١٤]، وَالْآيَاتُ الْمُبَيِّنَةُ أَطْوَارَ خَلْقِ الْإِنْسَانِ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ.
وَقَدْ بَيَّنَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِنْسَانِ مِنَ الْأَحْكَامِ فِي جَمِيعِ أَطْوَارِهِ قَبْلَ وِلَادَتِهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحَجِّ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ الْآيَةَ [٢٢ ٥]، وَبَيَّنَّا هُنَاكَ مَعْنَى النُّطْفَةِ وَالْعَلَقَةِ وَالْمُضْغَةِ فِي اللُّغَةِ.
وَقَوْلُهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ التَّحْقِيقُ فِيهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَيَانِ الْإِفْصَاحُ عَمَّا فِي الضَّمِيرِ.
وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّهُ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ الْبَيَانَ قَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [١٦ ٤]، وَ «يس» [٣٦ ٧٧]، وَقَوْلُهُ: مُبِينٌ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ فَاعِلِ «أَبَانَ» الْمُتَعَدِّيَةِ، وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ لِلتَّعْمِيمِ، أَيْ مُبِينٌ كُلَّ مَا يُرِيدُ بَيَانَهُ وَإِظْهَارَهُ بِلِسَانِهِ مِمَّا فِي ضَمِيرِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ رَبُّهُ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ، وَعَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مَنْ «أَبَانَ» اللَّازِمَةِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ، أَيْ: بَيِّنُ الْخُصُومَةِ ظَاهِرُهَا، فَكَذَلِكَ أَيْضًا، لِأَنَّهُ مَا كَانَ بَيَّنَ الْخُصُومَةِ إِلَّا لِأَنَّ اللَّهُ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ.
وَقَدِ امْتَنَّ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - عَلَى الْإِنْسَانِ بِأَنَّهُ جَعَلَ لَهُ آلَةَ الْبَيَانِ الَّتِي هِيَ اللِّسَانُ وَالشَّفَتَانِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ [٩٠ ٩].
490
قَوْلُهُ تَعَالَى: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ.
الْحُسْبَانُ: مَصْدَرٌ زِيدَتْ فِيهِ الْأَلِفُ وَالنُّونُ، كَمَا زِيدَتْ فِي الطُّغْيَانِ وَالرُّجْحَانِ وَالْكُفْرَانِ، فَمَعْنَى بِحُسْبَانٍ أَيْ بِحِسَابٍ وَتَقْدِيرٍ مِنَ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَنِعَمِهِ أَيْضًا عَلَى بَنِي آدَمَ، لِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ بِهِ الشُّهُورَ وَالسِّنِينَ وَالْأَيَّامَ، وَيَعْرِفُونَ شَهْرَ الصَّوْمِ وَأَشْهُرَ الْحَجِّ وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ وَعِدَدَ النِّسَاءِ اللَّاتِي تَعْتَدُّ بِالشُّهُورِ، كَالْيَائِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا.
وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [١٠ ٥].
وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِهَذَا فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ [١٧ ١٢].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ.
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالنَّجْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: النَّجْمُ هُوَ مَا لَا سَاقَ لَهُ مِنَ النَّبَاتِ كَالْبُقُولِ، وَالشَّجَرُ هُوَ مَا لَهُ سَاقٌ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْمُرَادُ بِالنَّجْمِ نُجُومُ السَّمَاءِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي صَوَابُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّجْمِ هُوَ نُجُومُ السَّمَاءِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي سُورَةِ الْحَجِّ صَرَّحَ بِسُجُودِ نُجُومِ السَّمَاءِ وَالشَّجَرِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي آيَةٍ مِنْ كِتَابِهِ سُجُودَ مَا لَيْسَ لَهُ سَاقٌ مِنَ النَّبَاتِ بِخُصُوصِهِ. وَنَعْنِي بِآيَةِ الْحَجِّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ الْآيَةَ [٢٢ ١٨].
فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَنَّ السَّاجِدَ مِنَ الشَّجَرِ فِي آيَةِ الرَّحْمَنِ هُوَ النُّجُومُ السَّمَاوِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ مَعَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ. وَخَيْرُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْقُرْآنُ الْقُرْآنُ، وَعَلَى هَذَا الَّذِي اخْتَرْنَاهُ فَالْمُرَادُ بِالنَّجْمِ النُّجُومُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ النَّجْمِ،
وَأَوَّلِ سُورَةِ الْحَجِّ، وَذَكَرْنَا أَنَّ مِنَ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ لِإِطْلَاقِ النَّجْمِ وَإِرَادَةِ النَّجْمِ - قَوْلَ الرَّاعِي:
فَبَاتَتْ تَعُدُّ النَّجْمَ فِي مُسْتَحِيرَةٍ سَرِيعٍ بِأَيْدِي الْآكِلِينَ جُمُودُهَا
وَقَوْلَ عَمْرِو بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيِّ:
أَبْرَزُوهَا مِثْلَ الْمَهَاةِ تَهَادَى بَيْنَ خَمْسٍ كَوَاعِبَ أَتْرَابِ
ثُمَّ قَالُوا تُحِبُّهَا قُلْتُ بَهْرًا عَدَدَ النَّجْمِ وَالْحَصَا وَالتُّرَابِ
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: يَسْجُدَانِ قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ الرَّعْدِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ [١٣ ١٥].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ.
قَوْلُهُ: وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «ق» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا الْآيَةَ [٥٠ ٦].
وَقَوْلُهُ: وَوَضَعَ الْمِيزَانَ، قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الشُّورَى فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ الْآيَةَ [٤٢ ١٧].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ.
قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [٦ ١٥٢]، وَذَكَرْنَا بَعْضَهُ فِي سُورَةِ الشُّورَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ.
ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ وَضَعَ الْأَرْضَ لِلْأَنَامِ وَهُوَ الْخَلْقُ، لِأَنَّ وَضْعَ الْأَرْضِ لَهُمْ عَلَى هَذَا الشَّكْلِ الْعَظِيمِ، الْقَابِلِ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الِانْتِفَاعِ مِنْ إِجْرَاءِ الْأَنْهَارِ وَحَفْرِ الْآبَارِ وَزَرْعِ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ، وَدَفْنِ الْأَمْوَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَنَافِعِ مِنْ أَعْظَمِ الْآيَاتِ
492
وَأَكْبَرِ الْآلَاءِ الَّتِي هِيَ النِّعَمُ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَهُ: فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [٥٥ ١٣].
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنِ امْتِنَانِهِ - جَلَّ وَعَلَا - عَلَى خَلْقِهِ بِوَضْعِ الْأَرْضِ لَهُمْ بِمَا فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ، وَجَعْلِهَا آيَةً لَهُمْ، دَالَّةً عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ رَبِّهِمْ وَاسْتِحْقَاقِهِ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ الْآيَةَ [١٣ ٣].
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ الْآيَةَ [٦٧ ١٥].
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [٧٩: ٣٠ - ٣٣]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ [٥١ ٤٨]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا الْآيَةَ [٢ ٢٢].
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا الْآيَةَ [٥٠ ٧].
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا [٢ ٢٩]، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فِيهَا فَاكِهَةٌ أَيْ فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ هَذَا أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ، وَأَوْضَحْنَا ذَلِكَ بِالْآيَاتِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ.
وَقَوْلُهُ: وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ ذَاتُ أَيْ صَاحِبَةٌ، وَالْأَكْمَامُ جَمْعُ كِمٍّ بِكَسْرِ الْكَافِ، وَهُوَ مَا يَظْهَرُ مِنَ النَّخْلَةِ فِي ابْتِدَاءِ إِثْمَارِهَا، شِبْهَ اللِّسَانِ ثُمَّ يَنْفُخُ عَنِ النَّوْرِ، وَقِيلَ: هُوَ لِيفُهَا، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ شُمُولَهُ لِلْأَمْرَيْنِ.
وَقَوْلُهُ: وَالْحَبُّ كَالْقَمْحِ وَنَحْوِهِ.
وَقَوْلُهُ: ذُو الْعَصْفِ قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ: الْعَصْفُ وَرَقُ الزَّرْعِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [١٠٥ ٥]، وَقِيلَ: الْعَصْفُ التِّبْنُ.
وَقَوْلُهُ: وَالرَّيْحَانُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَاهُ، فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: هُوَ كُلُّ
493
مَا طَابَ رِيحُهُ مِنَ النَّبْتِ وَصَارَ يُشَمُّ لِلتَّمَتُّعِ بِرِيحِهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الرَّيْحَانُ الرِّزْقُ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّجْمِ بْنِ تَوْلَبٍ الْعُكْلِيِّ:
فَرَوْحُ الْإِلَهِ وَرَيْحَانُهُ وَرَحْمَتُهُ وَسَمَاءٌ دُرَرْ
غَمَامٌ يُنَزِّلُ رِزْقَ الْعِبَادِ فَأَحْيَا الْبِلَادَ وَطَابَ الشَّجَرْ
وَيَتَعَيَّنُ كَوْنُ الرَّيْحَانِ بِمَعْنَى الرِّزْقِ عَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ، وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ غَيْرِهِمَا فَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِلْأَمْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ.
وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ قَرَأَهَا نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ: وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ بِضَمِّ الْبَاءِ وَالذَّالِ وَالنُّونِ مِنَ الْكَلِمَاتِ الثَّلَاثِ، وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى فَاكِهَةٌ أَيْ: فِيهَا فَاكِهَةٌ، وَفِيهَا الْحَبُّ إِلَخْ، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ: «وَالْحَبَّ ذَا الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانَ»، بِفَتْحِ الْبَاءِ وَالذَّالِ وَالنُّونِ مِنَ الْكَلِمَاتِ الثَّلَاثِ، وَفِي رَسْمِ الْمُصْحَفِ الشَّامِيِّ «ذَا الْعَصْفِ» بِأَلْفٍ بَعْدِ الذَّالِ، مَكَانَ الْوَاوِ، وَالْمَعْنَى عَلَى قِرَاءَتِهِ: وَخَلَقَ الْحَبَّ ذَا الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانِ، وَعَلَى هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ - فَالرَّيْحَانُ مُحْتَمِلٌ لِكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ.
وَقِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ بِضَمِّ الْبَاءِ فِي «الْحَبُّ» وَضَمِّ الذَّالِ فِي «ذُو الْعَصْفِ» وَكَسْرِ نُونِ الرَّيْحَانِ عَطْفًا عَلَى الْعَصْفِ، وَعَلَى هَذَا فَالرَّيْحَانُ لَا يَحْتَمِلُ الْمَشْمُومَ؛ لِأَنَّ الْحَبَّ الَّذِي هُوَ الْقَمْحُ وَنَحْوُهُ - صَاحِبُ عَصْفٍ وَهُوَ الْوَرَقُ أَوِ التِّبْنُ، وَلَيْسَ صَاحِبَ مَشْمُومٍ طِيبُ رِيحٍ.
فَيَتَعَيَّنُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَصْفِ مَا تَأْكُلُهُ الْأَنْعَامُ مِنْ وَرَقٍ وَتِبْنٍ. وَالْمُرَادُ بِالرَّيْحَانِ مَا يَأْكُلُهُ النَّاسُ مِنْ نَفْسِ الْحَبِّ، فَالْآيَةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ: مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [٧٩ ٣٣]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ [٣٢ ٢٧].
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ [٢٠ ٥٣ - ٥٤]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ الْآيَةَ [١٦ ١٠ - ١١].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فِيهَا فَاكِهَةٌ مَا ذَكَرَهُ تَعَالَى فِيهِ مِنَ الِامْتِنَانِ بِالْفَاكِهَةِ الَّتِي هِيَ أَنْوَاعٌ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ
494
الْفَلَاحِ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ [٢٣ ١٩]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَفَاكِهَةً وَأَبًّا [٨٠ ٣١]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنَ الِامْتِنَانِ بِالْحَبِّ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ [٥٠ ٩]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا [٨٠ ٢٧ - ٢٨]، وَقَوْلهِ تَعَالَى: وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ [٣٦ ٣٣]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا الْآيَةَ [٦ ٩٩]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى [٦ ٩٥]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَمَا ذَكَرَهُ تَعَالَى هُنَا مِنَ الِامْتِنَانِ بِالنَّخْلِ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقًا لِلْعِبَادِ [٥٠ ١٠]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ الْآيَةَ [٢٣ ١٩]، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ.
وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنَ الِامْتِنَانِ بِالرَّيْحَانِ عَلَى أَنَّهُ الرِّزْقُ كَمَا فِي قِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ أَيْضًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا [٤٠ ١٣]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [١٠ ٣١]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ [٦٧ ٢١]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ الْآيَةَ [٤٠ ٦٤]، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ.
مَسْأَلَةٌ:
أَخَذَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَأَمْثَالِهَا مِنَ الْآيَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا [٢ ٢٩]- أَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا عَلَى الْأَرْضِ الْإِبَاحَةُ، حَتَّى يَرِدُ دَلِيلٌ خَاصٌّ بِالْمَنْعِ، لِأَنَّ اللَّهَ امْتَنَّ عَلَى الْأَنَامِ بِأَنَّهُ وَضَعَ لَهُمُ الْأَرْضَ، وَجَعَلَ لَهُمْ فِيهَا أَرْزَاقَهُمْ مِنَ الْقُوتِ وَالتَّفَكُّهِ فِي آيَةِ الرَّحْمَنِ هَذِهِ، وَامْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ خَلَقَ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فِي قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا.
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - لَا يَمْتَنُّ بِحَرَامٍ إِذْ لَا مِنَّةَ فِي شَيْءٍ مُحَرِّمٍ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ أَيْضًا بِحَصْرِ الْمُحَرَّمَاتِ فِي أَشْيَاءَ مُعَيَّنَةٍ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
495
قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ الْآيَةَ [٦ ١٤٥]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ الْآيَةَ [٧ ٣٣]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ الْآيَةَ [٦ ١٥١].
وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ آخَرَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا عَلَى الْأَرْضِ التَّحْرِيمُ حَتَّى يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَاحْتَجُّوا لِهَذَا بِأَنَّ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ مَمْلُوكَةٌ لِلَّهِ - جَلَّ وَعَلَا -، وَالْأَصْلُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ مَنْعُ التَّصَرُّفِ فِيهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَفِي هَذَا مُنَاقَشَاتٌ مَعْرُوفَةٌ فِي الْأُصُولِ، لَيْسَ هَذَا مَحِلَّ بَسْطِهَا.
الْقَوْلُ الثَّانِي: هُوَ الْوَقْفُ وَعَدَمُ الْحُكْمِ فِيهَا بِمَنْعٍ وَلَا إِبَاحَةٍ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ، فَتَحَصَّلَ أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةَ مَذَاهِبَ: الْمَنْعَ، وَالْإِبَاحَةَ، وَالْوَقْفَ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي صَوَابُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ التَّفْصِيلُ، لِأَنَّ الْأَعْيَانَ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ فِي الْأَرْضِ لِلنَّاسِ - بِهَا ثَلَاثُ حَالَاتٍ:
الْأُولَى: أَنْ يَكُونَ فِيهَا نَفْعٌ لَا يَشُوبُهُ ضَرَرٌ كَأَنْوَاعِ الْفَوَاكِهِ وَغَيْرِهَا.
الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ فِيهَا ضَرَرٌ لَا يَشُوبُهُ نَفْعٌ كَأَكْلِ الْأَعْشَابِ السَّامَّةِ الْقَاتِلَةِ.
الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ فِيهَا نَفْعٌ مِنْ جِهَةٍ وَضَرَرٌ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، فَإِنْ كَانَ فِيهَا نَفْعٌ لَا يَشُوبُهُ ضَرَرٌ، فَالتَّحْقِيقُ حَمْلُهَا عَلَى الْإِبَاحَةِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا. وَقَوْلِهِ: وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ الْآيَةَ.
وَإِنْ كَانَ فِيهَا ضَرَرٌ لَا يَشُوبُهُ نَفْعٌ فَهِيَ عَلَى التَّحْرِيمِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ».
وَإِنْ كَانَ فِيهَا نَفْعٌ مِنْ جِهَةٍ وَضَرَرٌ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى فَلَهَا ثَلَاثُ حَالَاتٍ:
الْأُولَى: أَنْ يَكُونَ النَّفْعُ أَرْجَحَ مِنَ الضَّرَرِ.
وَالثَّانِيَةُ: عَكْسُ هَذَا.
وَالثَّالِثَةُ: أَنْ يَتَسَاوَى الْأَمْرَانِ.
فَإِنْ كَانَ الضَّرَرُ أَرْجَحَ مِنَ النَّفْعِ أَوْ مُسَاوِيًا لَهُ فَالْمَنْعُ لِحَدِيثِ: «لَا ضَرَرَ وَلَا
496
ضِرَارَ» وَلِأَنَّ دَرْءَ الْمَفَاسِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى جَلْبِ الْمَصَالِحِ، وَإِنْ كَانَ النَّفْعُ أَرْجَحَ، فَالْأَظْهَرُ الْجَوَازُ، لِأَنَّ الْمُقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ الرَّاجِحَةَ تُقَدَّمُ عَلَى الْمَفْسَدَةِ الْمَرْجُوحَةِ، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ:
وَأَلْغِ إِنْ يَكُ الْفَسَادُ أَبْعَدَا
أَوْ رَجِّحِ الْإِصْلَاحَ كَالْأُسَارَى تُفْدَى بِمَا يَنْفَعُ لِلنَّصَارَى
وَانْظُرْ تَدَلِّيَ دَوَلِيِّ الْعِنَبِ فِي كُلِّ مَشْرِقٍ وَكُلِّ مَغْرِبِ
وَمُرَادُهُ: تَقْدِيمُ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ عَلَى الْمَفْسَدَةِ الْمَرْجُوحَةِ، أَوِ الْبَعِيدَةِ مُمَثِّلًا لَهُ بِمِثَالَيْنِ:
الْأَوَّلُ مِنْهُمَا: أَنَّ تَخْلِيصَ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَيْدِي الْعَدُوِّ بِالْفِدَاءِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ قُدِّمَتْ عَلَى الْمَفْسَدَةِ الْمَرْجُوحَةِ، الَّتِي هِيَ انْتِفَاعُ الْعَدُوِّ بِالْمَالِ الْمَدْفُوعِ لَهُمْ فِدَاءً لِلْأُسَارَى.
الثَّانِي: أَنَّ انْتِفَاعَ النَّاسِ بِالْعِنَبِ وَالزَّبِيبِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ عَلَى مَفْسَدَةِ عَصْرِ الْخَمْرِ مِنَ الْعِنَبِ، فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِإِزَالَةِ الْعِنَبِ مِنَ الدُّنْيَا لِدَفْعِ ضَرَرِ عَصْرِ الْخَمْرِ مِنْهُ، لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْعِنَبِ وَالزَّبِيبِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ عَلَى تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ. وَهَذَا التَّفْصِيلُ الَّذِي اخْتَرْنَا قَدْ أَشَارَ لَهُ صَاحِبُ مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ:
وَالْحُكْمُ مَا بِهِ يَجِيءُ الشَّرْعُ وَأَصْلُ كُلِّ مَا يَضُرُّ الْمَنْعُ
تَنْبِيهٌ:
اعْلَمْ أَنَّ عُلَمَاءَ الْأُصُولِ يَقُولُونَ: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ فِعْلُ شَيْءٍ إِلَّا بِدَلِيلٍ مِنَ الشَّرْعِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ عَقْلِيٌّ، وَهُوَ الْبَرَاءَةُ الْأَصْلِيَّةُ الْمَعْرُوفَةُ بِالْإِبَاحَةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَهِيَ اسْتِصْحَابُ الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ حَتَّى يَرِدَ دَلِيلٌ نَاقِلٌ عَنْهُ.
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ قَدْ دَلَّتْ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَلَى أَنَّ اسْتِصْحَابَ الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ قَبْلَ وُرُودِ الدَّلِيلِ النَّاقِلِ عَنْهُ حُجَّةٌ فِي الْإِبَاحَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَنْزَلَ تَشْدِيدَهُ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ الْآيَةَ [٢ ٢٧٩]، وَكَانَتْ وَقْتَ نُزُولِهَا عِنْدَهُمْ أَمْوَالٌ مُكْتَسَبَةٌ مِنَ الرِّبَا، اكْتَسَبُوهَا قَبْلَ نُزُولِ التَّحْرِيمِ - بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ أَنَّ مَا فَعَلُوهُ مِنَ الرِّبَا عَلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ قَبْلَ نُزُولِ التَّحْرِيمِ لَا حَرَجَ عَلَيْهِمْ فِيهِ، إِذْ
497
لَا تَحْرِيمَ إِلَّا بِبَيَانٍ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ [٢ ٢٧٥]، وَقَوْلُهُ: مَا سَلَفَ أَيْ: مَا مَضَى قَبْلَ نُزُولِ التَّحْرِيمِ. وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [٤ ٢٢]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [٤ ٢٣]. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِيهِمَا فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ مُنْقَطِعٌ، أَيْ لَكِنْ مَا سَلَفَ مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ التَّحْرِيمِ فَهُوَ عَفْوٌ، لِأَنَّهُ عَلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ.
وَمِنْ أَصْرَحِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ - قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ [٩ ١١٥]، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا اسْتَغْفَرَ لِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى الشِّرْكِ، وَاسْتَغْفَرَ الْمُسْلِمُونَ لِمَوْتَاهُمُ الْمُشْرِكِينَ عَاتَبَهُمُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى الْآيَةَ [٩ ١١٣]- نَدِمُوا عَلَى الِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ، فَبَيَّنَ اللَّهُ لَهُمْ أَنَّ اسْتِغْفَارَهُمْ لَهُمْ لَا مُؤَاخَذَةَ بِهِ، لِأَنَّهُ وَقَعَ قَبْلَ بَيَانِ مَنْعِهِ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِيمَا ذَكَرْنَا.
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْأَخْذَ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ يُعْذَرُ بِهِ فِي الْأُصُولِ أَيْضًا فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [١٧ ١٥]، وَبَيَّنَّا هُنَاكَ كَلَامَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ، وَأَوْضَحْنَا مَا جَاءَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ.
الصَّلْصَالُ: الطِّينُ الْيَابِسُ الَّذِي تُسْمَعُ لَهُ صَلْصَلَةٌ، أَيْ صَوْتٌ إِذَا قُرِعَ بِشَيْءٍ، وَقِيلَ: الصَّلْصَالُ الْمُنْتِنُ، وَالْفَخَّارُ الطِّينُ الْمَطْبُوخُ، وَهَذِهِ الْآيَةُ بَيَّنَ اللَّهُ فِيهَا طَوْرًا مِنْ أَطْوَارِ التُّرَابِ الَّذِي خَلَقَ مِنْهُ آدَمَ، فَبَيَّنَ فِي آيَاتٍ أَنَّهُ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ [٣ ٥٩]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ [٢٢ ٥]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ [٣٠ ٢٠]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ [٤٠ ٦٧]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ [٢٠ ٥٥].
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ وَقَوْلِهِ: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِخَلْقِهِمْ مِنْهَا هُوَ خَلْقُ أَبِيهِمْ آدَمَ مِنْهَا، لِأَنَّهُ أَصْلُهُمْ وَهُمْ فُرُوعُهُ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَجَنَ هَذَا التُّرَابَ بِالْمَاءِ فَصَارَ طِينًا، وَلِذَا قَالَ: أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا [١٧ ٦١]، وَقَالَ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ [٢٣ ١٢]، وَقَالَ تَعَالَى: وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ [٣٢ ٧]، وَقَالَ: أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ [٣٧ ١١]، وَقَالَ تَعَالَى: إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ [٣٨ ٧١]، ثُمَّ خَمَّرَ هَذَا الطِّينَ فَصَارَ حَمَأً مَسْنُونًا، أَيْ طِينًا أَسْوَدَ مُتَغَيِّرَ الرِّيحِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ الْآيَةَ [١٥ ٢٦]. قَالَ تَعَالَى: إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [١٥ ٢٨]، وَقَالَ عَنْ إِبْلِيسَ: قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [١٥ ٣٣]، وَالْمَسْنُونُ قِيلَ الْمُتَغَيِّرُ، وَقِيلَ الْمُصَوَّرُ، وَقِيلَ الْأَمْلَسُ، ثُمَّ يَبِسَ هَذَا الطِّينُ فَصَارَ صَلْصَالًا. كَمَا قَالَ هُنَا: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ، وَقَالَ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ.
فَالْآيَاتُ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَيَتَبَيَّنُ فِيهَا أَطْوَارُ ذَلِكَ التُّرَابِ ; كَمَا لَا يَخْفَى.
قَوْلُهُ: الْجَانَّ أَيْ وَخَلَقَ الْجَانَّ وَهُوَ أَبُو الْجِنِّ، وَقِيلَ: هُوَ إِبْلِيسُ. وَقِيلَ: هُوَ الْوَاحِدُ مِنَ الْجِنِّ.
وَعَلَيْهِ فَالْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْجِنْسِ، وَالْمَارِجُ: اللَّهَبُ الَّذِي لَا دُخَانَ فِيهِ، وَقَوْلُهُ: مِنْ نَارٍ بَيَانٌ لِمَارِجٍ، أَيْ مِنْ لَهَبٍ صَافٍ كَائِنٍ مِنَ النَّارِ.
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْجَانَّ مِنَ النَّارِ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْحِجْرِ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ [١٥ ٢٦]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ.
وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [٢ ٣٤].
قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ.
قَدْ أَوْضَحْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ الصَّافَّاتِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ [٣٧ ٥].
قَوْلُهُ تَعَالَى: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ.
قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا [٢٥ ٥٣].
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ.
قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو: «يُخْرَجُ» بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَعَلَيْهِ فَاللُّؤْلُؤُ نَائِبُ فَاعِلِ «يُخْرَجُ» وَقَرَأَهُ بَاقِي السَّبْعَةِ: يَخْرُجُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَعَلَيْهِ فَاللُّؤْلُؤُ فَاعِلُ «يَخْرُجُ».
اعْلَمْ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا أَيْ مِنْ مَجْمُوعِهَا الصَّادِقِ بِالْبَحْرِ الْمِلْحِ، وَإِنَّ الْآيَةَ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَجْمُوعِ وَإِرَادَةِ بَعْضِهِ، وَإِنَّ اللُّؤْلُؤَ وَالْمَرْجَانَ لَا يَخْرُجَانِ مِنَ الْبَحْرِ الْمِلْحِ وَحْدَهُ دُونَ الْعَذْبِ.
وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي قَالُوهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ كَثْرَتِهِمْ وَجَلَالَتِهِمْ لَا شَكَّ فِي بُطْلَانِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ صَرَّحَ بِنَقِيضِهِ فِي سُورَةَ فَاطِرٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ مَا نَاقَضَ الْقُرْآنَ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا [٣٥ ١٢]، فَالتَّنْوِينُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ كُلِّ تَنْوِينُ عِوَضٍ أَيْ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَذْبِ وَالْمِلْحِ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا، وَهِيَ اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ، وَهَذَا مِمَّا لَا نِزَاعَ فِيهِ.
وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ الآية [٦ ١٣٠]، وَاللُّؤْلُؤُ الدُّرُّ، وَالْمَرْجَانُ الْخَرَزُ الْأَحْمَرُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَرْجَانُ صِغَارُ الدُّرِّ وَاللُّؤْلُؤُ كِبَارُهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ.
قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الشُّورَى فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ [٤٢ ٣٢].
قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ.
مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ فَنَاءِ كُلِّ مَنْ عَلَى الْأَرْضِ وَبَقَاءِ وَجْهِهِ - جَلَّ وَعَلَا - الْمُتَّصِفِ بِالْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [٢٨ ٨٨]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ [٢٥ ٥٨]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [٣ ١٨٥]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَالْوَجْهُ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ الْعَلِيِّ وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ، فَعَلَيْنَا أَنْ نُصَدِّقَ رَبَّنَا وَنُؤْمِنَ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ مَعَ التَّنْزِيهِ التَّامِّ عَنْ مُشَابَهَةِ صِفَاتِ الْخَلْقِ.
وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا غَايَةَ الْإِيضَاحِ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَفِي سُورَةِ الْقِتَالِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ.
قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ [١٥ ١٧]، وَتَكَلَّمْنَا أَيْضًا هُنَاكَ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي يُفَسِّرُهَا الْجَاهِلُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ بِغَيْرِ مَعَانِيهَا، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ.
ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ السَّمَاءَ سَتَنْشَقُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّهَا إِذَا انْشَقَّتْ صَارَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ، وَقَوْلُهُ: وَرْدَةً: أَيْ حَمْرَاءَ كَلَوْنِ الْوَرْدِ، وَقَوْلُهُ: كَالدِّهَانِ: فِيهِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ لِلْعُلَمَاءِ:
الْأَوَّلُ مِنْهُمَا: أَنَّ الدِّهَانَ هُوَ الْجِلْدُ الْأَحْمَرُ، وَعَلَيْهِ فَالْمَعْنَى أَنَّهَا تَصِيرُ وَرْدَةً مُتَّصِفَةً بِلَوْنِ الْوَرْدِ مُشَابِهَةً لِلْجِلْدِ الْأَحْمَرِ فِي لَوْنِهِ.
501
وَالثَّانِي: أَنَّ الدِّهَانَ هُوَ مَا يُدْهَنُ بِهِ، وَعَلَيْهِ، فَالدِّهَانُ، قِيلَ: هُوَ جَمْعُ دُهْنٍ، وَقِيلَ: هُوَ مُفْرَدٌ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي مَا يُدْهَنُ بِهِ دِهَانًا، وَهُوَ مُفْرَدٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
كَأَنَّهُمَا مَزَادَتَا مُتَعَجِّلٍ فَرِيَّانِ لَمَّا تُسْلَقَا بِدِهَانِ
وَحَقِيقَةُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الدِّهَانَ هُوَ الْجِلْدُ الْأَحْمَرُ يَكُونُ اللَّهُ وَصَفَ السَّمَاءَ عِنْدَ انْشِقَاقِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِوَصْفٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْحُمْرَةُ فَشَبَّهَهَا بِحُمْرَةِ الْوَرْدِ، وَحُمْرَةِ الْأَدِيمِ الْأَحْمَرِ.
قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّهَا يَصِلُ إِلَيْهَا حُرُّ النَّارِ فَتَحْمَرُّ مِنْ شِدَّةِ الْحَرَارَةِ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَصْلُ السَّمَاءِ حَمْرَاءُ إِلَّا أَنَّهَا لِشِدَّةِ بُعْدِهَا وَمَا دُونَهَا مِنَ الْحَوَاجِزِ لَمْ تَصِلِ الْعُيُونُ إِلَى إِدْرَاكِ لَوْنِهَا الْأَحْمَرِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَأَنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُرَى عَلَى حَقِيقَةِ لَوْنِهَا.
وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الدِّهَانَ هُوَ مَا يُدْهَنُ بِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ وَصَفَ السَّمَاءَ عِنْدَ انْشِقَاقِهَا بِوَصْفَيْنِ أَحَدِهِمَا حُمْرَةِ لَوْنِهَا، وَالثَّانِي أَنَّهَا تَذُوبُ وَتَصِيرُ مَائِعَةً كَالدُّهْنِ.
أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، فَلَمْ نَعْلَمْ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تُبَيِّنُ هَذِهِ الْآيَةَ، بِأَنَّ السَّمَاءَ سَتَحْمَرُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى تَكُونَ كَلَوْنِ الْجِلْدِ الْأَحْمَرِ.
وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي الَّذِي هُوَ أَنَّهَا تَذُوبُ وَتَصِيرُ مَائِعَةً، فَقَدْ أَوْضَحَهُ اللَّهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْمَعَارِجِ: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ [٧٠ ٧ - ٨]، وَالْمُهْلُ شَيْءٌ ذَائِبٌ عَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ، سَوَاءٌ قُلْنَا: إِنَّهُ دُرْدِيُّ الزَّيْتِ وَهُوَ عَكِرُهُ، أَوْ قُلْنَا إِنَّهُ الذَّائِبُ مِنْ حَدِيدٍ أَوْ نُحَاسٍ أَوْ نَحْوِهِمَا.
وَقَدْ أَوْضَحَ تَعَالَى فِي الْكَهْفِ أَنَّ الْمُهْلَ شَيْءٌ ذَائِبٌ يُشْبِهُ الْمَاءَ، شَدِيدُ الْحَرَارَةِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا [١٨ ٢٩].
وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْوَرْدَةَ تَشْبِيهٌ بِالْفَرَسِ الْكُمَيْتِ وَهُوَ الْأَحْمَرُ لِأَنَّ حُمْرَتَهُ تَتَلَوَّنُ بِاخْتِلَافِ الْفُصُولِ، فَتَشْتَدُّ حُمْرَتُهَا فِي فَصْلٍ، وَتَمِيلُ إِلَى الصُّفْرَةِ فِي فَصْلٍ، وَإِلَى الْغَبَرَةِ فِي فَصْلٍ.
وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّشْبِيهِ كَوْنُ السَّمَاءِ عِنْدَ انْشِقَاقِهَا تَتَلَوَّنُ بِأَلْوَانٍ مُخْتَلِفَةٍ وَاضِحُ الْبُعْدِ عَنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا تَذْهَبُ وَتَجِيءُ - مَعْنَاهُ لَهُ شَاهِدٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَذَلِكَ فِي
502
قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا الْآيَةَ [٥٢ ٩]، وَلَكِنَّهُ لَا يَخْلُو عِنْدِي مِنْ بُعْدٍ.
وَمَا ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنِ انْشِقَاقِ السَّمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ [٨٤ ١]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ [٦٩ ١٥ - ١٦]، وَقَوْلِهِ: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ الْآيَةَ [٢٥ ٢٥]، وَقَوْلِهِ: إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ [٨٢ ١]، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِهَذَا فِي سُورَةِ «ق» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ [٥٠ ٦].
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ.
ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَسْأَلُ إِنْسًا وَلَا جَانًّا عَنْ ذَنْبِهِ، وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْقَصَصِ: وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [٢٨ ٧٨].
وَقَدْ ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي آيَاتٍ أُخَرَ أَنَّهُ يَسْأَلُ جَمِيعَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرُّسُلَ وَالْمُرْسَلَ إِلَيْهِمْ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [٧ ٦]، وَقَوْلِهِ: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [١٥ ٩٢ - ٩٣].
وَقَدْ جَاءَتْ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مُبَيِّنَةً لِوَجْهِ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي قَدْ يَظُنُّ غَيْرُ الْعَالِمِ أَنَّ بَيْنَهَا اخْتِلَافًا.
اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ السُّؤَالَ الْمَنْفِيَّ فِي قَوْلِهِ هُنَا فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ، وَقَوْلِهِ: وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [٢٨ ٧٨]- أَخَصُّ مِنَ السُّؤَالِ الْمُثْبَتِ فِي قَوْلِهِ: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ، لِأَنَّ هَذِهِ فِيهَا تَعْمِيمُ السُّؤَالِ فِي كُلِّ عَمَلٍ، وَالْآيَتَانِ قَبْلَهَا لَيْسَ فِيهِمَا نَفْيُ السُّؤَالِ إِلَّا عَنِ الذُّنُوبِ خَاصَّةً، وَلِلْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ أَوْجُهٌ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ.
الْأَوَّلُ مِنْهُمَا: وَهُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَهُوَ مَحِلُّ الشَّاهِدِ عِنْدَنَا مِنْ بَيَانِ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ هُنَا، هُوَ أَنَّ السُّؤَالَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا سُؤَالُ التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ وَهُوَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ، وَالثَّانِي هُوَ سُؤَالُ الِاسْتِخْبَارِ وَالِاسْتِعْلَامِ.
فَالسُّؤَالُ الْمَنْفِيُّ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ هُوَ سُؤَالُ الِاسْتِخْبَارِ وَالِاسْتِعْلَامِ، لِأَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ
بِأَفْعَالِهِمْ مِنْهُمْ أَنْفُسِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [٥٨ ٦].
وَعَلَيْهِ فَالْمَعْنَى: لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ سُؤَالَ اسْتِخْبَارٍ وَاسْتِعْلَامٍ لِأَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ بِذَنْبِهِ مِنْهُ.
وَالسُّؤَالُ الْمُثْبَتُ فِي الْآيَاتِ الْأُخْرَى هُوَ سُؤَالُ التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ، سَوَاءٌ كَانَ عَنْ ذَنْبٍ أَوْ غَيْرِ ذَنْبٍ. وَمِثَالُ سُؤَالِهِمْ عَنِ الذُّنُوبِ سُؤَالَ تَوْبِيخٍ وَتَقْرِيعٍ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [٣ ١٠٦]، وَمِثَالُهُ عَنْ غَيْرِ ذَنْبٍ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ [٣٧ ٢٤ - ٢٦]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَذَا [٥٢ ١٣ - ١٥]، وَقَوْلُهُ: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ [٦ ١٣٠].
أَمَّا سُؤَالُ الْمَوْءُودَةِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ [٨١ ٨]، فَلَا يُعَارِضُ الْآيَاتِ النَّافِيَةَ السُّؤَالَ عَنِ الذَّنْبِ، لِأَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ أَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ وَهَذَا لَيْسَ مِنْ ذَنْبِهَا، وَالْمُرَادُ بِسُؤَالِهَا تَوْبِيخُ قَاتِلِهَا وَتَقْرِيعُهُ، لِأَنَّهَا هِيَ تَقُولُ لَا ذَنْبَ لِي فَيَرْجِعُ اللَّوْمُ عَلَى مَنْ قَتَلَهَا ظُلْمًا.
وَكَذَلِكَ سُؤَالُ الرُّسُلِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ تَوْبِيخُ مَنْ كَذَّبَهُمْ وَتَقْرِيعُهُ، مَعَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ بِأَنَّ الرُّسُلَ قَدْ بَلَّغَتْهُ، وَبَاقِي أَوْجُهِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْآيَاتِ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قُرْآنٌ، وَمَوْضُوعُ هَذَا الْكِتَابِ بَيَانُ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا بَقِيَّتَهَا فِي كِتَابِنَا «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا طَرَفًا مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [٧ ٦].
قَوْلُهُ تَعَالَى: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ.
قَوْلُهُ: بِسِيمَاهُمْ: أَيْ بِعَلَامَتِهِمُ الْمُمَيِّزَةِ لَهُمْ، وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّهَا هِيَ سَوَادُ وُجُوهِهِمْ وَزُرْقَةُ عُيُونِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ الْآيَةَ [٣ ١٠٦]، وَقَالَ تَعَالَى: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ [٣٩ ٧٠]
وَقَالَ تَعَالَى: وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [١٠ ٢٧]، وَقَالَ تَعَالَى: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [٨٠ ٤٠ - ٤٢]، لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أَيْ يَعْلُوهَا وَيَغْشَاهَا سَوَادٌ كَالدُّخَانِ الْأَسْوَدِ، وَقَالَ تَعَالَى فِي زُرْقَةِ عُيُونِهِمْ: وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا [٢٠ ١٠٢]، وَلَا شَيْءَ أَقْبَحَ وَأَشْوَهَ مِنْ سَوَادِ الْوُجُوهِ وَزُرْقَةِ الْعُيُونِ، وَلِذَا لَمَّا أَرَادَ الشَّاعِرُ أَنْ يُقَبِّحَ عِلَلَ الْبَخِيلِ بِأَسْوَأِ الْأَوْصَافِ وَأَقْبَحِهَا، فَوَصَفَهَا بِسَوَادِ الْوُجُوهِ وَزُرْقَةِ الْعُيُونِ حَيْثُ قَالَ:
وَلِلْبَخِيلِ عَلَى أَمْوَالِهِ عِلَلٌ زُرْقُ الْعُيُونِ عَلَيْهَا أَوْجُهٌ سُودُ
وَلَا سِيَّمَا إِذَا اجْتَمَعَ مَعَ سَوَادِ الْوَجْهِ اغْبِرَارُهُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ فَإِنَّ ذَلِكَ يَزِيدُهُ قُبْحًا عَلَى قُبْحٍ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا تَفْسِيرَهُ وَالْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الطُّورِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا [٥٢ ١٣].
قَوْلُهُ تَعَالَى: هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ.
أَمَّا قَوْلُهُ: هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ فَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الطُّورِ أَيْضًا فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ [٥٢ ١٤].
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ فَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الْحَجِّ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ الْآيَةَ [٢٢ ١٩ - ٢٠].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ الْآيَةَ قَدْ يَكُونُ فِيهَا وَجْهَانِ صَحِيحَانِ كِلَاهُمَا يَشْهَدُ لَهُ قُرْآنٌ، فَنَذْكُرُ ذَلِكَ كُلَّهُ مُبَيِّنِينَ أَنَّهُ كُلَّهُ حَقٌّ، وَذَكَرْنَا لِذَلِكَ أَمْثِلَةً مُتَعَدِّدَةً فِي
هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ، وَمِنْ ذَلِكَ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ.
وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ فِيهَا وَجْهَانِ مَعْرُوفَانِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، كِلَاهُمَا يَشْهَدُ لَهُ قُرْآنٌ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: مَقَامَ رَبِّهِ: أَيْ قِيَامَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ، فَالْمَقَامُ اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى الْقِيَامِ، وَفَاعِلُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ هُوَ الْعَبْدُ الْخَائِفُ، وَإِنَّمَا أُضِيفَ إِلَى الرَّبِّ لِوُقُوعِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَهَذَا الْوَجْهُ يَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [٧٩ ٤٠]، فَإِنَّ قَوْلَهُ: وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى: قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ خَافَ عَاقِبَةَ الذَّنْبِ حِينَ يَقُومُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ، فَنَهَى نَفْسَهُ عَنْ هَوَاهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ فَاعِلَ الْمَصْدَرِ الْمِيمِيِّ الَّذِي هُوَ الْمَقَامُ - هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، أَيْ: خَافَ هَذَا الْعَبْدُ قِيَامَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَمُرَاقَبَتَهُ لِأَعْمَالِهِ وَإِحْصَاءَهَا عَلَيْهِ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى قِيَامِ اللَّهِ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ وَإِحْصَائِهِ عَلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [٢ ٢٥٥]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ [١٣ ٣٣]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ الْآيَةَ [١٠ ٦١]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي شَأْنِ الْجِنِّ: يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ الْآيَةَ [٤٦ ٣١] أَنَّ قَوْلَهُ: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ، وَتَصْرِيحَهُ بِالِامْتِنَانِ بِذَلِكَ عَلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ فِي قَوْلِهِ: فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [٥٥ ٤٧] نَصٌّ قُرْآنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْخَائِفِينَ مَقَامَ رَبِّهِمْ مِنَ الْجِنِّ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ.
قَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ النَّحْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا [١٦ ١٤]، جَمِيعَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى تَنَعُّمِ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِالسُّنْدُسِ وَالْإِسْتَبْرَقِ، وَالْحِلْيَةِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ يَحْرُمُ عَلَى ذُكُورِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي دَارِ الدُّنْيَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ.
قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ [٣٧ ٤٨].
قَوْلُهُ تَعَالَى: حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ.
قَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَى الْقَصْرِ فِي الْخِيَامِ، وَقَصْرِ الطَّرْفِ عَلَى الْأَزْوَاجِ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ [٣٧ ٤٨]، وَقَدَّمْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى صِفَاتِ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَالصَّافَّاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
Icon