تفسير سورة الأنعام

التفسير القرآني للقرآن
تفسير سورة سورة الأنعام من كتاب التفسير القرآني للقرآن المعروف بـالتفسير القرآني للقرآن .
لمؤلفه عبد الكريم يونس الخطيب . المتوفي سنة 1390 هـ

٦- سورة الأنعام
أسماؤها: أشهر أسمائها: الأنعام، لكثرة ما ذكر فيها من لفظ «أنعام» وتسمى الحجّة، لأنها اشتملت علما كثيرا من دلائل حجة النبوة.
نزولها: ملكية.. إلا ست آيات نزلت بالمدينة..
وقيل إن السورة نزلت دفعة واحدة، ما عدا هذه الآيات الست.
عدد آياتها: مائة وخمس وستون آية.
عدد كلماتها: ثلاثة آلاف واثنتان وخمسون كلمة.
عدد حروفها: اثنا عشر ألفا ومئتان وأربعون حرفا.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآية: (١) [سورة الأنعام (٦) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١)
التفسير: تفتتح هذه السورة الكريمة، بالحمد، لمستحقّ الحمد، سبحانه وتعالى، ذى القدرة والطول، الذي له ملك السموات والأرض وما فيهن وهو على كل شىء قدير، فتلك صفته- سبحانه وتعالى- التي كانت مختم السورة السابقة، والتي أضيف بها هذا الوجود كله إليه، لا شريك له فيه، ملكه بسلطانه، واستولى عليه بقدرته.. ومن كان هذا شأنه، وتلك صفته، فلا متوجّه إلا إليه، ولا حمد إلّا له.
فقوله سبحانه: «الْحَمْدُ لِلَّهِ» قصر للحمد عليه وحده، وهو حمد مطلوب
116
من كل كائن أن يسبّح لله به، إذ هو الذي خلقه وأوجده من عدم.. والوجود بالإضافة إلى العدم نعمة تستأهل الشكر، وتستوجب الحمد.. فأى موجود- على أية صفة، وعلى أي حال- هو نفحة من نفحات الله سبحانه، وعطاء من عطائه، وصنعة من صنعته، وليس كذلك العدم، الذي هو فناء مطلق، وتيه وضياع أبدىّ.. إنه لا شىء، وشىء خير من لا شىء! إن أي موجود- على أية صفة وعلى أي حال- هو مجلى قدرة الله، وآية من آيات تلك القدرة الخالقة المبدعة المصوّرة، وإشارة دالة على وجود الخالق، إذ لا يعرف الخالق إلا بما خلق..
وفى أول ما تلقّى النبىّ الكريم من ربّه: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ» فكانت صفة الربوبية والخلق أول ما صافح أذن النبىّ، ومسّ شغاف قلبه من صفات الحق جلّ وعلا.. فالربوبية والخلق صفتان متلازمتان... إذ لا ربوبية إلا لمربوبين، ولا خلق بغير ربوبية، تمسك الخلق، وتحفظ عليهم وجودهم..
ومن هنا ندرك بعض السرّ فى أن كانت فاتحة الكتاب، مفتتحا لرسالة الإسلام وكتابها الكريم، وأن كانت صلاتنا- وهى عماد ديننا- وتسبيحا بالفاتحة، وأن كان الحمد مفتتح الفاتحة.
وقوله سبحانه: «الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ» هو صفة الله، المحمود بما خلق من السموات والأرض، وما أبدع فى خلقه، وخالف بين مخلوقاته، فجعل الظلمات وجعل النور..
وهنا أمور يجب الوقوف عندها:
فأولا: جمع السموات وإفراد الأرض..
وفى القرآن الكريم، جاءت السموات بلفظ الجمع، كما جاءت بلفظ المفرد:
هكذا «السماء».. ولم تجىء الأرض إلا بلفظ المفرد هكذا: «الأرض».
117
فما سر هذا؟
ومدلول اللغة يقضى بأن الجمع أكثر من المفرد عددا.. فالجمع، أكثر من اثنين، إلى ما تنتهى إليه المعدودات من عدد.. والمفرد واحد، لا يزيد..
هذا فى الأشياء المتفقة نوعا أو جنسا..
فهل يكون ذلك فى المختلف من الأنواع والأجناس؟ وهل إذا كان الجمع أكثر عددا، هل يكون أكبر جرما وقدرا؟
والجواب: أن ذلك ليس بالحتم اللازم، فقد يكون الجمع مع كثرته عددا، أقلّ من المفرد، جرما وقدرا..
فألوف الألوف من النمل مثلا، لا تعدل الفيل جرما.. وألوف الألوف من الحصا، لا تعدل حصاة من ذهب.
والسؤال الوارد هنا: هل جمع السموات وإفراد الأرض، يقضى بأن تكون السموات أكبر جرما وأعظم قدرا من الأرض؟
وللإجابة على هذا، ننظر فى القرآن الكريم، فنجد أن السموات ذكرت جمعا، فى أكثر من مائة وخمسين موضعا، كما ذكرت بلفظ المفرد فى نحو مئة وعشرين موضعا..!
وأنها حين تذكر جمعا يكون فى مقابلها الأرض بلفظ المفرد.. هكذا:
«السموات والأرض».. يكاد ذلك يكون مطردا فى معظم القرآن.. مثل قوله تعالى:
«إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ» (١٩٠: آل عمران). وقوله سبحانه: «وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» (٢٥٥: البقرة) وقوله: «وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ
118
وَالْأَرْضِ»
(٧٧: النحل).. «قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ» (٨٦: المؤمنون) «لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ» (٣: سبأ) وهكذا تجمع السموات، وتفرد الأرض فى كل مقام يراد فيه عرض جلال الله، وعظمة قدرته، وسعة ملكه، ليكون فى ذلك العرض ما يدعو إلى التأمل والنظر، وتوجيه البصائر والأبصار إلى ماوراء هذا الأفق المحدود الذي يعيش فيه من لا يمدون أبصارهم إلى أكثر من مواقع أقدامهم.
وأما حين تذكر السماء مفردة، فتارة يكون فى مقابلها الأرض، وتارة تذكر وحدها، غير مقترنة بالأرض، وهى فى كلا الحالين لا يراد بها جرمها وبناؤها الكونى، وإنما يراد بها أنها جهة علوّ بالنسبة للأرض، وما على الأرض..
مثل قوله تعالى:
«وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ».. وقوله سبحانه: «وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ» (١١: الطارق) والرجع: هو المطر، والصدع:
تشقق الأرض حين يخرج منها النبات. وقوله: «وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ» (٧: الذاريات) والحبك: الطرائق الحسنة بين النجوم.
وقوله تعالى: «وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها» (٢٤: الروم) وقوله سبحانه: «يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ» (٥: السجدة) وقوله: «اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً» (٦٤: غافر) وقوله: «الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً» (٢٢: البقرة).
119
ومن هذا نرى أن التعبير القرآنى عن السموات بلفظ الجمع يرد دائما حيث يراد المقابلة بينها وبين الأرض، لا من حيث الوضع علوا وسفلا، وإنما من حيث البناء التركيبى لكل منهما، وأن السموات عوالم متعددة، والأرض بالنسبة لها أشبه بالمفرد بالنسبة لجمعه، وأنهما إن اختلفتا اسما، فقد اتفقتا صفة، بأنهما آيتان من آيات الله الدالة على علمه، وقدرته، وحكمته..
وحين ينظر الناظر إلى السماء نظرا مباشرا، غير معتمد على كشوفات العلم ومقرراته، فإنه يرى فى السماء من دلائل القدرة الإلهية والإبداع الرباني ما لا يراه فى الأرض، ولهذا كان أول مالفت إبراهيم- عليه السلام- إلى الله، ما راعه من ملكوت السموات، فى بنائها وارتفاعها، سقفا محفوظا بغير عمد، وما زينت به من كواكب.. «فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ» (٧٦- ٧٨: الأنعام).
هذا ما يبدو للنظر المجرد، البعيد عن معطيات العلم ومقرراته.. السماء أكبر جرما من الأرض، وأوسع مدى، وأكثر محتوى للعجائب والغرائب..
فإذا ووزنت بالأرض من تلك الجهة، فهى جمع والأرض مفرد.. هى سماوات والأرض أرض أو سماء! ثم إذا كشف العلم أن الأرض ليست إلا ذرّة سابحة فى فضاء هذا الكون العظيم، لا تعدو أن تكون قطرة من محيط- إذا كشف العلم هذا كان للمسلم العالم أن يرى «السموات» جمعا يدخل فى محتواه كل حقيقة يقررها العلم، وتبلغها مقاييسه، وتنكشف لرؤيته أو لرؤاه.. من اتساع وبسطة، وامتداد، بحيث لا يرى الأرض إلا أرضا، هى ذرة من رمال الصحارى
120
أو شواطىء البحار، بالإضافة إلى هذا الكون العظيم.! فالسموات بصيغة الجمع صالحة لأن يدخل فيها من أعداد السماء ما لا حصر له.. بلا قيود ولا حدود آية واحدة، جاءت فى القرآن الكريم فجمعت بين السموات والأرض بما يشعر بالمساواة بينهما، وهى قوله تعالى: «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ» (١٢: الطلاق).
فالمثليّة هنا قد حملها المفسرون على المثلية فى العدد، وأنه كما أن هناك سبع سموات، فهناك سبع أرضين.. وقد أكثروا من القول فى هذه الأرضين، وفى اسم كل أرض، كما قالوا ذلك فى السموات السبع، واسم كل سماء..
وتحديد السموات بأنها سبع، يعنى أنها سبعة أكوان، ولا يدرى كنه هذا الكون، ولا العوالم التي يحتويها إلا الله سبحانه وتعالى، وأما ما بلغه علمنا من أكوان السموات، فلا يعدو أن يكون أفقا محدودا من آفاق هذه الأكوان، أو موجة على صدر محيطه الغمر الرحيب.
وأما المثلية بين السموات والأرض فى قوله تعالى: «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ» فليس من الحتم أن تكون مثلية فى العدد، كما فهمها عليه المفسرون، ولعله من الصواب أن يكون المراد هو المثلية فى الإبداع والقدرة التي تظهر فيها عظمة الصانع، وقدرته، وحكمته، وعلمه.. فليس الأمر أمر جرم عظيم، وآخر صغير.. وإنما هو ما يتجلى فى أي جرم- مهما صغر- من دقة الصنعة، وإحكام البناء، وروعة التكوين..
فليس الجبل فى ضخامة جرمه بأعظم من الذرة قدرا، ولا أظهر منها بيانا، للدلالة على قدرة الصانع، وروعة إبداعه، وسلطان علمه، وذلك فى نظر من له بصيرة نافذة، وإدراك سليم..
121
الفيل فى ضخامة جسمه، وقوة احتماله، ليس أبلغ من النملة فى الدلالة على قدرة الله، وعلمه، وحكمته..
بل ربما كانت النملة فى جرمها الصغير تحمل من الأجهزة العاملة، مالا يحمله الفيل فى كيانه الضخم العظيم..
وإذن فلكى تكون الأرض فى صغرها مثل السموات فى كبرها، وامتداد آفاقها، ينبغى أن يكون النظر إليها بعين المستبصر الباحث، الخبير..
فإنه حينئذ تصغر السموات، وتصبح أي رقعة من الأرض أكثر من سماء، وأكبر من سماوات.. إذ كان سلطان الإنسان على الأرض، وعمله فيها، على حين لا سلطان له على السماء، ليكشف أسرارها، ويقف على عوالمها التي لا تنتهى حدودها..
وإذن- مرة أحرى- فهذه المناظرة التي بين السموات والأرض، فى قوله تعالى: «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ» هى إشارة سماوية إلى الإنسان أن يكشف مجاهل هذه الأرض التي يعيش عليها، وأن يفتش فى الكشف عن أسرارها، فإنه إن فعل لم يستصغر الكوكب الذي يعيش فيه، ولوجد فيه ما يذهل ويروع من آيات الله.
وثانيا: قوله تعالى: «وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ» مع قوله تعالى فى السموات والأرض «خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ»..
فهل ثمة فرق بين الخلق والجعل؟ أم أن الخلق هو الجعل، والجعل هو الخلق؟ وأن اختلاف اللفظ مع اتفاق المعنى هو أسلوب من أساليب القرآن، تحاشيا للتكرار وثقله، كما يقول بذلك المفسرون؟
والقول بأن اختلاف اللفظ مع اتفاق المعنى، إنما داعيته هى أن ينأى القرآن به عن الرتّابة والثقل بتكرار اللفظ- هو قول إن قيل به فى أساليب
122
البلغاء، فلن يقبل فى نظم القرآن، الذي يعلو ببلاغته عن هذا المعيار الإنسانى..
فإذا كرر القرآن الكريم اللفظ مرة ومرة ومرات، لم ينزله ذلك قيد شعرة عن مكانه السامي من الفصاحة والبيان، وجاء التكرار كلا تكرار، فى روعة الأداء، وتجاوب النغم، وحلاوة الجرس.. وكم كرّر القرآن من ألفاظ، وحروف، فكان اجتماعها إعجازا من إعجاز القرآن، وآية من آيات رب العالمين! وسنعرص لهذا فى بحث خاص به إن شاء الله.
فلا بد إذن أن يكون لهذا الاختلاف فى النظم بين «خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» «وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ» داعية، استدعته وغاية أربد به تحقيقها.
والقرآن الكريم قد فرق بين الخلق والجعل فى المعنى، كما هما مفترقان فى اللفظ..
«فالخلق» فى القرآن- فى كل موضع ورد فيه- هو الإيجاد، إيحاد غير الموجود، وإظهاره للوجود..
«خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ».. «خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ».. «يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ».. «اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ».. فالخلق، وهو الإيجاد من عدم، هو مما انفرد به الله سبحانه وتعالى، ولهذا كان من صفاته الكريمة: «الخالق».
أما «الجعل» فهو إضافة تلحق المخلوق، وتكشف عن صفته، وتبرز طبيعته.. هو توجيه الخالق للمخلوق، ليعطى وظيفته، ويحقق وجوده..
«إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها» (٧: الكهف).. «وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً. وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً. وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً» (٩- ١١: النبأ)..
«وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا»، (٢٤: السجدة).. «وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً» (١٤٣: البقرة).
123
بل إن «الجعل» يضاف إلى الإنسان، ويحسب له، أو عليه، كما يقول سبحانه وتعالى: «وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً» (١٩ الزخرف) ويقول سبحانه: «أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» (١٩: التوبة) ويقول: «وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ» (النحل ٥٧).
وننظر فى قوله تعالى:
«خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ» فنجد أن السموات والأرض، قد خلقنا بيد القدرة القادرة، فكان فعل الخلق «خلق» مطلوبا لتحقيق هذا المعنى المراد هنا..
ونجد أن الظلمات والنور، وإن كانا مخلوقين لله، إلا أن الخلق غير مراد هنا، وإنما المراد وظيفة هذين المخلوقين، وأنهما الثّوبان اللذان يلبسان المخلوقات، أو يلبسان الكوكب الأرضى الذي نعيش عليه، ونشهد آثارهما فيه.
وثالثا: جمع الظلمات، وإفراد النور.
ماذا وراء الجمع هناك والإفراد هنا؟
إن الظلام كثيف ثقيل، والنور شفيف رقيق.. هكذا موقعهما على العين.. الظلام كأنه ظلمات بعضها فوق بعض.. إذا أقبل عليها النور أزاحها طبقة طبقة..
هذا فى واقع الحسّ..
ومن جهة أخرى، فإن الظلام وحشة وعمى وضلال، ومن هنا تتشعب طرقه، وتتعدد مسالك الهائمين فيه.. أما النور فهو أمن وهدى وحق.. وجه
124
واحد، وطريق واحد.. من قصد وجها غير وجهه ضل، ومن سلك طريقا غير طريقه هلك.
هذا بعض ما ينكشف من قدرة الله، وعلمه وحكمته، فيما تعرضه كلمات الله: «خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ».
وقد كان جديرا بالإنسان، وقد منحه الله نظرا يبصر، وأذنا تسمع، وعقلا يعقل ويدرك، ومشاعر تتأثر وتنفعل- كان جديرا به أن يرى الخالق فى هذه الأكوان التي أبدعها، وفى هذا الوجود الذي أقامه، ولكن كثيرا من الناس يذهله اشتغاله بنفسه، وبدواعى نزعاته وأهوائه، عن أن يفتح قلبه لهذا الوجود، ولذلك فهو يعيش مغلقا على نفسه، مقوقعا فى ظلمات جهله وسفهه..
«وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ» (١٠٥: يوسف).
وكثير من الناس أيضا، يرى، ويبصر، ويعقل، ثم يركبه شيطانه، فيغمض عينه عما رأى، ويصمّ أذنه عما سمع، ويتهم عقله فيما عقل، وإذا هو ممن يمكرون بآيات الله، ويولّون وجوههم عن الله إلى آلهة اتخذوها، وأرباب صطنعوها وعبدوها..
«ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ» أي ثمّ بعد هذه الآيات البينات، يكون فى الناس من يكفر بالله، ويجعلون له أندادا، يسوّون بينهم وبينه، ويجعلونهم عدلا له وندا؟
وفى العطف بحرف «ثمّ» ما يشير إلى التهديد والوعيد لهؤلاء الذين كفروا بالله، بعد أن ملأ الله عليهم هذا الوجود بالآيات الناطقة بوجوده، الدالّة على كمال قدرته، وشمول علمه، وبسطة سلطانه.. ففى هذا العطف
125
تعقيب على المعطوف، وهو تعقيب فيه تراخ وامتداد فى مسافات الزمان والمكان بين المعطوف والمعطوف عليه، وهذا يؤذن بالمفارقة البعيدة بين المتعاطفين اللذين كان من شأنهما التشاكل والتلاحم.. ولكن كفر الكافرين بالله يجعلهم أبعد من أن يتعاطفوا مع آيات الله، وأن ينتفعوا بها، ويهتدوا بهديها: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ.. ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ».. ولو كان ما أعقب هذه الآيات هو التعرف على الله والإيمان به، لجاء النظم القرآنى عطفا بالفاء، على هذا النحو مثلا:
«الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ».. فعرفه وآمن به أصحاب الأبصار، وذوو البصائر.. من عباده..
الآيات: (٢- ٥) [سورة الأنعام (٦) : الآيات ٢ الى ٥]
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (٣) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥)
التفسير: الذين كفروا بربهم، وعموا عن آياته التي تملأ الوجود فى سمائه وأرضه.. عموا كذلك عن النظر فى أنفسهم، فلم يروا أنفسهم، وهم على تلك الصورة البالغة العاقلة.
ماذا كانوا قبل أن يكونوا؟ ومن أي شىء كان كونهم؟. إنهم من طين
126
هذه الأرض التي يطئونها بأقدامهم، ويمشون عليها اختيالا، ويقومون فوقها آلهة يطاولون الله ربّ العالمين، ويحادّونه، ويأبون الولاء له، والخضوع لسلطانه.. هكذا الإنسان كما وصفه خالقه: «إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ» (٣٤: إبراهيم).
وقوله تعالى: «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ» هو إشارة إلى قدرة الله سبحانه وتعالى، وأنه خلق من هذا الطين كائنا، عاقلا، ناطقا، متصرفا، سميعا، بصيرا.. ثم هو إشارة أخرى إلى ضالة قدر الإنسان، وصغاره..
ومهانته، بالنسبة لجلال قدرة الله وكماله وعظمته.. وأن الله الذي خلق من هذا الطين المهين كائنا كريما، قادر على أن يعيد هذا الكائن إلى مكانه الذي جاء منه، وهو الطين، أو ما هو دون الطّين قذارة ومهانة! وقوله سبحانه: «ثُمَّ قَضى أَجَلًا».
قضى: أي مكث حتى وفّى الزمن المقدور له، مثل قوله تعالى: «فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ» وقوله: «أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ».
وفاعل الفعل «قضى» ضمير يعود إلى الطين.
والمعنى أن الله سبحانه وتعالى بدأ خلق الإنسان من طين، وأن هذا الطين مكث زمنا، ينتقل من حال إلى حال، ومن صورة إلى صورة، حتى كان منه هذا الإنسان.
وفى العطف بالحرف «ثمّ» ما يشعر بامتداد الزمن وتطاوله، فى تلك الدورة الطويلة التي انتقل بها الإنسان من عالم الطين إلى عالم البشر.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا
127
لِآدَمَ»
فالخلق مرحلة من مراحل تطور الكائن البشرى.. خلق أولا، أي بدئ فى خلقه، ثم صوّر، أي تنقل من حال إلى حال، متصاعدا نحو الكمال، حتى إذا استكمل وجوده البشرى وصار إنسانا، كان خلقا آخر، وعالما غير العالم الذي جاء منه.. وهذا ما يدل عليه قوله سبحانه «يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ»..
فهناك خلق، أي بدء خلق، فتعديل فى هذا الخلق، أي تطور وتنقل من حال إلى حال.. حتى بلغ الصورة التي شاء الله سبحانه وتعالى الوقوف بالإنسان عندها، وإخراجه عليها.
وقوله تعالى: «وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ» هو إشارة إلى الأجل الذي يعيشه الإنسان، كإنسان فى هذه الحياة.. والتقدير: وهناك أجل مسمى يقضيه الإنسان، هو مكتوب عند الله.
وهذا الأجل هو المحسوب على الإنسان، إذ فيه يكون أهلا للتكليف، والحساب والجزاء.. ومن هنا أضيف هذا الأجل إلى الله سبحانه وتعالى، وحسب أنه أجل مقضىّ عند الله، فيه يعرف الإنسان ربّه، ويتعامل معه..
وفى إضافة هذا الأجل إلى الله سبحانه، إشارة إلى أن الإنسان كائن مضاف إلى الله، إضافة تكريم، اختص بها من بين كثير من الكائنات، وهذا من شأنه أن يحمل الإنسان على أن يحثّ الخطا إلى الله، وأن يدنو منه، ويتعرف إليه، ويتعامل معه.. ليكون أهلا للإضافة إلى الله.. كما يقول سبحانه:
«إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ، فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ».
وقوله تعالى: «ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ» إشارة إلى ما فى الإنسان من ضلال وعمى عن الله، وأنه مع هذه الآيات البينات، وتلك النعم والألطاف التي يسوقها
128
سبحانه إلى النّاس، فإنهم يمترون فى الله، ويشكّون فى وجوده، أو فى قدرته، أو فى البعث والجزاء.. إلى غير ذلك مما هم فيه مختلفون.
وقوله سبحانه: «وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ» هو استعراض لقدرة الله وعلمه، وأنه هو الإله الخالق للسموات والأرض، والمالك لهما، والمتصرف فيهما، لا يملك أحد معه شيئا، ولا لأحد معه تصريف فى هذا الوجود..
وإذ كان الله على تلك الصفة، فإنّه يعلم بعلمه كل شىء فى هذا الوجود، ظاهره وباطنه، جليّه وخفيّه.. «أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» (١٤: الملك).
والإنسان صنعة الله.. خلقه من طين، وتنقل به من خلق إلى خلق، حتى صار هذا الكائن البشرى، العاقل، المدرك- أفيخفى على الله من أمره شىء؟ وكيف وقد صنعه بيده، ورباه ونشّأه، وأمسك عليه حياته، وعدّ عليه أنفاسه، وأحصى نبضات قلبه؟ ألا يعلم الإنسان كل خافية من صنعة صنعها، أو مخترع اخترعه؟ فكيف بعلم الله الذي علّم الإنسان ما لم يعلم؟
وفى هذا الاستعراض لعلم الله وقدرته استدعاء للإنسان الشارد عن الله، الغافل عن ذكره، المستخفّ بشرائعه- أن يعود إلى الله، وأن يخشاه، ويتقى محارمه، حيث يرى الله كلّ ما يعمل، ويعلم ما يخفى وما يعلن..
وقوله تعالى: «وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ» هو تشنيع على الكافرين، وإعراض عنهم، حيث أعرضوا عن الله، واستخفّوا بآياته، ومكروا بها.. ولهذا لم يخاطبهم الله خطاب حضور، بل أنذرهم إنذار غيبة، لأنهم مبعدون من رحمة الله، غائبون بوجودهم عنه، مشغولون بأهوائهم وضلالاتهم عن ذكره.
129
وفى قوله تعالى: «فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» - ما يكشف عن وجه هؤلاء الذين أعرضوا عن آيات الله، الله، وكفروا بها.. وأن القرآن الكريم وهو الحق من الله، والآية المشرقة من آياته، لم يلقه هؤلاء الضالون إلا بالتكذيب والإعراض والاستهزاء..
فصبرا، فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون، يوم يعرضون على الله بهذا الإثم العظيم الذي حملوه، من التكذيب لكتاب الله، والاستهزاء بآياته..
وفى قوله تعالى: «فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» جاء الفعل «يستهزئون» بدلا من الفعل الذي يطلبه النظم وهو «يكذبون»..
إذ جاء وصفهم بأنهم كذبوا، فكان مقتضى هذا الوصف أن تجىء المجازاة عن التكذيب، لا عن الاستهزاء.
وهذا من القرآن الكريم آية من آيات إعجازه، إذ يحمّل بهذا النظم المعجز فعل التكذيب، معنى التكذيب والاستهزاء معا.. فهم لم يكذبوا وحسب، بل أتبعوا التكذيب سخرية واستهزاء! وهذا ما يكشف عنه قوله تعالى:
«فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ».
الآية (٦) [سورة الأنعام (٦) : آية ٦]
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٦)
130
التفسير: القرن مائة سنة من الزمان، والمراد به هنا أهل هذا القرن، الذي ولدوا وعاشوا، وماتوا، فيه.. والمدرار: المطر الغزير المتتابع..
وهذه شواهد محسوسة ونذر قائمة بين يدى الناس، يرفعها الله سبحانه وتعالى لهم، بعد أن رفع لعقولهم ومدركاتهم كثيرا من الشواهد والنذر، فلم يبصروها ولم ينتفعوا بها..
فأين تلك الأمم التي كانت أكثر أموالا وأولادا، وأعزّ قوة وسلطانا من أهل مكة، بما ساق الله إليهم من نعم، وما مكنّ لهم فى الأرض، وما بسط لهم من سلطان عليها، فعمروها أكثر مما عمرها هؤلاء المشركون، ولكنهم حين مكروا بآيات وكفروا بنعمه، لم يكن لهم من أموالهم وأولادهم، وسلطانهم- عاصم يعصمهم من نقمة الله، فصبّ عليهم المهلكات، فأصبحوا كهشيم تذروه الرياح.. ؟
فأين عاد؟ وأين ثمود؟ تلك بيوتهم خاوية بما ظلموا.. يراها المشركون وهم يمرون عليها، فى غدوهم ورواحهم مع تجارتهم الغادية الرائحة بين مكة والشام..
وأين سبأ؟ وأين ما كان فيها من جنات وعيون، ونعمة كانوا فيها فاكهين؟
لقد صارت يبابا خرابا.. يرى المشركون أطلالها فى رحلتهم شتاء إلى اليمن تجارا، قد ألهتهم أموالهم وتجارتهم عن النظر فيها، وأخذ العبرة منها.
لقد هلكت عاد وهلكت ثمود، وذهبت سبأ.. وخلفهم آخرون..
وسيهلك هؤلاء المشركون من أهل مكة.. وسيخلفهم غيرهم...
إنهم لن يخلّدوا بما جمعوا من مال، وما استكثروا من بنين، وما بلغوا من جاه وسلطان..
131
إنهم سيهلكون كما هلك غيرهم، وإنهم لن يعمّروا عمر الزمان، فما هم إلا جيل من أجيال الناس، وقرن من قرون الزمان، ولن يمضى هذا القرن الذي هم فيه حتى يكونوا ترابا فى التراب، ليس معهم مما جمعوا إلا هذا الشرك الذي هم فيه.. والذي سيوردهم موارد العذاب المهين..
وفى لفظ «قرن» فى قوله تعالى: «كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ» إشارة إلى مدى عمر الإنسان فى هذه الحياة، وأنه محصور فى هذا الإطار من الزمن.. يزيد قليلا أو ينقص قليلا، بل إن ذلك هو عمر الجماعة الإنسانية كلها.. تمر بها القرون قرنا قرنا، وفى كل قرن زرع جديد، قائم على الزرع الذي تم حصاده، مما كان زرعا للقرن الماضي.. وهكذا الدنيا زرع وحصاد، وحصاد وزرع!
الآيات: (٧- ١١) [سورة الأنعام (٦) : الآيات ٧ الى ١١]
وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١)
التفسير: تعرض هذه الآيات ما كان عليه مشركو مكة من ضلال وعناد، فى لقائهم للدعوة الإسلامية، ووقوفهم منها هذا الموقف العنادىّ، الممعن فى
132
العناد والتحدّى.. فقد ركبوا رءوسهم، واتبعوا أهواءهم، واعتصموا بما هم فيه من شرك وضلال.. وهكذا كل من يلقى الأمور بظهره، وينظر إلى الأشياء بعين هواه، لا يرى الحقّ أبدا، حيث لا يستمع لكلمة ناصح، أو يستجيب لدعوة داع..
وهؤلاء المشركون.. لن تتغيّر حالهم أبدا، ولن يتحولوا عمّا ركبهم من شرك وضلال، ولو جاءهم النبىّ بكل آية.
وقوله تعالى: «وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ» يكشف عن هذا العناد الذي انعقدت عليهم قلوب الكافرين من أهل مكة، وأنهم لن يؤمنوا أبدا، ولو نزّل عليهم كتاب من السماء، مكتوب فى قرطاس يرونه، ويلمسونه بأيديهم..
والمراد بالذين كفروا هنا، هم الذين كتب الله عليهم الشرك من مشركى مكة، الذين لم يدخلوا فى الإسلام، وماتوا على الكفر.. وهم الذين أشارت إليهم الآية الكريمة فى قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» (٦: البقرة) فالخطاب فى قوله تعالى: «وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ» لا يراد به جميع المشركين من أهل مكة، الذين ووجهوا بهذا الحكم، وإنما يراد به تلك الجماعة التي ظلت سادرة فى غيها وضلالها، إلى أن ماتت على كفرها وشركها.
وقوله تعالى: «وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ» هو من مقترحات هؤلاء الكافرين الذين ماتوا على كفرهم.. إنهم يأبون أن يقبلوا إنسانا بشرا يحدّثهم عن الله، ويجىء إليهم بكلماته.. وقد قالها من قبل أهل ثمود، قوم صالح عليه السلام، كما أخبر القرآن الكريم عنهم: «كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ فَقالُوا
133
أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ»
(٢٣- ٢٥: القمر) وهذا الذي يلقى به المشركون النبىّ من تحدّ وعناد، باقتراحهم أن يجىء معه ملك من السماء، يزكّيه عندهم- هو من بعض ما كانوا يقترحون، مما تمليه أهواؤهم، ويدعوهم إليه ضلالهم.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا» (٩٠- ٩٣: الإسراء).
وقد ردّ الله سبحانه وتعالى على مقترحهم هذا بقوله: «وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ» فنزول الملك يعنى أنه آية محسوسة، ظاهرة قاهرة، لا مجال للابتلاء والاختيار فيها، فمن أنكرها فهو منكر لوجوده كله، ظاهرا وباطنا، ومن كان هذا شأنه فقد استحق أن يؤخذ بجريرته، دون مهل لابتلاء أو اختبار بعد هذا.. ومن أجل ذلك، كانت المعجزات الحسيّة التي يحملها الأنبياء إلى أقوامهم، تحمل معها نذر الإهلاك لهم، إذا هم كذبوا بها، كما كان ذلك فى عصى موسى، التي كان الغرق جزاء كل من كفر بها، وكناقة صالح، التي هلك بها قومه، ثمود..
وفى قوله تعالى: «ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ» إشارة إلى أن العقاب سيقع بالمكذبين من غير مهل، لو نزل الملك من السماء، كما اقترحوا.. ثم كذبوا!
134
ولكن الله سبحانه وتعالى، لم يستجب لمقترحهم هذا، تكريما للنبىّ الكريم، وتحقيقا لوعده الذي وعده فى قوله: «وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ» (٣٣: الأنفال).
وقوله تعالى: «وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ» أي لو جعلنا الرسول المرسل إليهم ملكا- كما يقترحون- لجعلناه فى أعينهم رجلا، أي لأنكروا وجود الملك بينهم، وتعذّر عليهم الحياة معه.. إنهم والملك طبيعتان مختلفتان، لا يقع الانسجام والاطمئنان بينهما، وإلى هذا أشار الله سبحانه وتعالى بقوله: «قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا» (٩٥: الإسراء).
فقوله تعالى: «وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا» يشير إلى اختلاف الطبيعة البشرية والطبيعة الملكية، وأنه سبحانه وتعالى لو أراد أن يبعث إلى البشر ملكا رسولا إليهم لاقتضت حكمته أن يلبس هذا الملك صورة البشر، حتى يسكن إليه الناس، ويكون بينه وبينهم لقاء وإلف.. فالجنس لا يألف غير جنسه، ولا يسكن إلا إليه.
وقوله تعالى: «وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ» أي ولو جاءهم الملك فى صورة إنسان، لما ارتفع هذا اللّبس، وهذا الشك والوسواس، ولبقى حالهم مع الملك فى صورة إنسان، هو حالهم مع الإنسان، يحمل رسالة من الله رب العالمين.
فالقضية بالنسبة لهؤلاء المعاندين، هى هكذا..
يطلبون أن يكون رسول الله إليهم ملكا من ملائكة الرحمن.
والملك غير ممكن أن يلقوه على صورته.. بل لا بد أن يكون على صورة إنسان..
135
والإنسان فى نظرهم هو الإنسان.. سواء أكان ملكا تحوّل إلى إنسان أم كان إنسانا أصلا..
وإذن فالمشكلة قائمة عندهم، والشك منعقد عليهم.. لا يؤمنون برسول إنسان، ولن يكون الرسول إلا إنسانا منهم.
وقوله تعالى: «وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» هو مواساة للنبىّ الكريم، وعزاء له، مما يلقى من المشركين من عناد، وما يساق إليه منهم من ضر وأذى.. فتلك هى سبيل حملة الهدى من عباد الله.. فكم لقى رسل الله من أقوامهم من عنت وبلاء، حتى لقد قتل بعضهم، ومثّل به أشنع تمثيل.. ولكن العاقبة للحق والخير، والنصر لدعوة الحق والخير.. والويل والخذلان والخزي لأولئك الذين كذّبوا برسل الله وسخروا منهم واستهزءوا بهم.. «فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» أي أحاط بهم واشتمل عليهم استهزاؤهم وسخريتهم، فهذا الاستهزاء هو الذي أوردهم موارد الهالكين فى الدنيا، وأنزلهم منازل أصحاب النار فى الآخرة.
فإن شك هؤلاء المكذبون، المستهزءون بآيات الله وبرسول الله.. إن شك هؤلاء فى المصير الذي هم صائرون إليه، فلينظروا فيما كان لأمثالهم، الذين كذبوا بآيات الله وبرسل الله، «قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ» لقد أخذهم الله بكفرهم وعنادهم، وأرسل عليهم الصواعق، وصبّ عليهم البلاء، وإذا هم فى لحظة خاطفة جثث هامدة، وأشلاء ممزقة.. وإذا هم صائرون إلى مصير يلقون فيه العذاب الأليم.. «وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ».
136
الآيتان: (١٢- ١٣) [سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٢ الى ١٣]
قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٢) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣)
التفسير: قوله تعالى: «قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» هو سؤال من الحق جلّ وعلا، على لسان نبيّه الكريم، وهو سؤال وارد على خاطر كل ذى لبّ.. فهذا الوجود بما فيه من عجائب وغرائب، لا يمر عاقل على آية من آياته، إلّا وقف عندها، ونظر فيها، واجتهد فى التعرف على أسرارها.. ثم سأل نفسه أو سألته نفسه، عن صانعها: من هو؟ وأين هو؟ وكيف هو؟
وما تزال هذه الأسئلة تلحّ عليه حتى ينسب هذا الوجود إلى صانع عظيم قدير، ليس كمثله شىء، لا يسأل عنه: بأين؟ ولا كيف؟.. إذ هو فوق كل أين، وغير كل كيف..
وقوله تعالى: «قُلْ لِلَّهِ» هو جواب قاطع، لا جواب غيره، عن هذا السؤال، الذي مطلوب من كل عاقل أن يسأله نفسه، وأن يجيب عليه..
وسيهديه نظره وعقله إلى هذا الجواب الذي أجاب به الحق سبحانه وتعالى:
«قُلْ لِلَّهِ» - فالمالك لهذا الوجود، القائم على كل موجود، هو الله رب العالمين، لا شريك له فى سلطانه.
وقوله تعالى: «كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ» أي الذي كتب على نفسه الرحمة، - وتلك صفة من صفات الله- هو الذي له ما فى السموات وما فى الأرض..
137
ومعنى كتب على نفسه الرحمة، أي أوجبها سبحانه وتعالى على نفسه، حيث اقتضتها حكمته، واستدعاها فضله..
فالملك الذي بين يدى المالك سبحانه وتعالى، هو من آثار رحمة الله.. تلك الرحمة العامة الشاملة التي تمسّ كل مخلوق، وتنال البرّ والفاجر، والمؤمن والكافر.. ولولا هذه الرحمة لما تنفس الكافر نفسا فى هذه الحياة، ولما أمهل فى محادّته لله، وعدوانه على رسله، ولكن رحمة الله التي وسعت كل شىء، لم يحرم الكافر نصيبه منها، فأفسح الله له فى الحياة، ليرجع إليه، ويصلح من أمره ما أفسده.
فإذا مضى الكافر على كفره، ثم أخذ بذنبه، كان من رحمة الله أن يؤدب وأن يعاقب، ففى هذا العقاب إصلاح لنفسه التي فسدت، وصقل لمعدنه الذي أكله الصدأ! وقوله تعالى: «لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ» فى توكيد الفعل «ليجمعنكم» بالقسم وبنون التوكيد، إشارة إلى أن البعث أمر كتبه الله سبحانه وتعالى على نفسه، كما كتب الرحمة، وأن البعث هو رحمة من رحمة الله، إذ هو إعادة الحياة التي ذهب بها الموت، والحياة نعمة من نعم الله، ورحمة من رحمته.. إنها نعمة تستوجب الشكر، والحمد لله رب العالمين: «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ، وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» (٢٨: البقرة).
وفى تعدية الفعل «ليجمعنكم» بحرف الجرّ «إلى» إشارة إلى أن الجمع هو استدعاء من جهات شتى، ودعوة قاهرة إلى مكان معلوم، تصبّ فيه وفود المدعوين، وتجتمع إليه.. فمعنى الجمع، هو السّوق، أي ليسوقنكم إلى يوم القيامة، إذ كان يوم القيامة هو موعد اللقاء الذي يلتقى عنده الموتى، المبعوثون
138
من القبور.. «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ» (٥١: يس).
وقوله تعالى: «الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» أي أن الفساد الذي اشتملت عليه نفوس أهل الضلال، هو الذي حجبهم عن الإيمان، وصار بهم إلى طريق الكفر والضلال.. وهذا يعنى أن فى الكافرين- قبل كفرهم- نفوسا مهيأة لهذا الكفر، مستعدة له، لما فيها من فساد، وهذا الفساد من شأنه أن يرفض الطيّب، ويقبل الخبيث الفاسد، الذي يلائمه، ويتفاعل معه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً» (١٠: البقرة).
وقوله تعالى: «وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ» فهذه قلوب لا تقبل خيرا، ولا تمسك به، ولهذا ختم الله عليها، فلم يسمعها كلماته، ولو أنها سمعت كلمات الله ما قبلتها ولا استجابت لها.
وقوله تعالى: «وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» هو استكمال للجواب الذي أجيب به على قوله تعالى: «قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» فكأنه قيل: قل لله ما فى السموات وما فى الأرض، وله كذلك ما سكن فى اللّيل والنهار، أي ما اشتمل عليه الليل والنهار من موجودات..
فكل ما طلع عليه النهار، واستولى عليه سلطان الضوء، وكل ما غشيه الليل، واستولى عليه سلطان الظلام، هو فى ملك الله، وتحت سلطان علمه وسمعه.
139
الآيات: (١٤- ١٦) [سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٤ الى ١٦]
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦)
التفسير: الولىّ: السيد، والمعين.. فاطر السموات والأرض: أي خالقهما ابتداء.
وقوله تعالى: «قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا» استفهام إنكارى، وكأنه ينكر على نفسه أن تدعوه إلى أن يتخذ من دون الله وليّا ومعينا، أو ينكر على غيره أن يدعوه إلى تلك الدعوة المنكرة..
والمعنى: إنى لا أتخذ وليّا ومعتمدا أعتمد عليه، وأستعين به، غير الله، ذى الحول والطول، وذى القدرة التي لا يعجزها شى.. تلك القدرة التي كان من صنعتها هذا الوجود كلّه، فى سماواته وأرضه، أوجدهما- سبحانه- ابتداء على غير مثال «فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ».
وهذا الاستفهام الإنكارىّ، أقوى قوة، فى إظهار الولاء الخالص لله، والثبات عليه- من الخبر التقريرىّ بالولاء، إذ فيه إنكار لموالاة غير الله أولا، ثم إقبال على موالاته سبحانه، ثانيا، وفى هذه العملية إثارة للعقل وتحريك للوجدان، ومواجهة لمن يدعوهم الدّاعون أن يتخذوا أولياء من دون الله.. حتى إذا أنكرهم العقل ولفظهم الشعور، أقبل المرء على الله، وقد صفّى حسابه مع هذه الضلالات القائمة على طريقه إلى الله، فيلقى ربّه بكيانه كله، ويلقى إليه بولائه خالصا..
وقوله تعالى: «وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ» أي فالله المستحقّ لأن يتخذه الناس وليّا، ومعتمدا، هو الذي فطر السموات والأرض، وهو الذي يقوت
140
المخلوقات ويطعمها، ويمدّها بما يحفظ وجودها، دون أن يكون لهذا مقابل..
وإنما هو فضل وكرم من ربّ العالمين، المستغنى عن كلّ عون، الغنىّ عن كل مخلوق.. وكيف لمن كان مصدر العطاء أن يكون محتاجا إلى عطاء؟
وكيف لمن يستمدّ منه العون أن يكون محتاجا إلى معين؟ تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.
وقوله سبحانه: «قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ» هذا ما أمر به النبىّ من ربّه، وهو أن يكون أول من أسلم وجهه لله، وأول من ألقى بنفسه بين يديه، ووالاه.. إذ كان صلى الله عليه وسلم- هو مفتتح دعوة الإسلام، وحامل رسالتها إلى المسلمين، فكان أول من آمن بها، واستقام على هديها.. وذلك بعد أن استدلّ على خالقه بتفكيره فى خلقه، وأنكر أن يتحذ وليّا من دونه، وهو الذي فطر السموات والأرض.. وهو الذي يطعم ولا يطعم، فإذا جاءت دعوة الله تعالى إليه صادفت تلك الدعوة قلبا مستقبلا لها..
والأمر هنا، هو الدعوة إلى الإيمان بالله، من الله، وإلى نبى الله، وليس فى هذا الأمر إلزام ولا قهر، ولكن النبىّ الكريم فى استجابته لربّه، وفى مبادرته إلى الاستجابة، واحتفائه بها، وشدّ نفسه إليها، وعقد قلبه عليها كل أولئك قد جعل الدّعوة الإلهية أمرا يتلقّاه النبىّ بكيانه كله، ويعطيه كل ما قدر عليه من قوة وعزم.
وقوله تعالى: «وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» هو عطف على الأمر المفهوم من قوله تعالى: «أُمِرْتُ» أي أن الله سبحانه وتعالى أمرنى بأن أكون أول من أسلم، فقال لى: كن أول من أسلم، ونهانى عن أن أشرك به فقال لى: ولا تكوننّ من المشركين..
وقوله تعالى: «قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ»
141
هو بيان لبعض دواعى الإيمان بالله فى نفس النبىّ، وفى نفس كل مؤمن بالله، وهو أن الخوف من عذاب الله يوم القيامة، وطلب النجاة من هول هذا اليوم، هو داع صارخ يدعو الإنسان إلى أن يهرب من هذا البلاء، إلى الإيمان بالله، واستجابة دعوته التي يدعو بها عباد الله.. فمن أبى، وعصى أن يستجيب لله ويؤمن بالله، فهذا يوم الحساب أمامه، والنار مثواه.
وقوله سبحانه: «مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ» أي أن من ينجو من عذاب هذا اليوم، ويسلم من الوقوع تحت وطأته- فهذا من فضل الله عليه، ورحمته به، وذلك بتوفيقه إلى الإيمان بالله، والولاء له، والامتثال لأمره.. «وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ» إذ لا فوز بعد هذا الفوز، ولا ربح أعظم من هذا الربح.. حيث خلص الإنسان بنفسه من العذاب، ثم لم يقف به الأمر عند هذا الحدّ من الفوز والفلاح، بل أخذ بيده بعد هذا إلى جنات النعيم، وإذا هو فيمن رضى الله عنهم، وأفاض عليهم الجزيل من عطاياه ومننه.. «وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ».!
الآيات: (١٧- ١٩) [سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٧ الى ١٩]
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩)
142
التفسير: المسّ: لمس الشيء برفق..
وقوله تعالى «وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» عرض لقدرة الله سبحانه وتعالى، وأنه سبحانه هو الذي بيده النفع والضرّ، وأن أقسى ما يصيب الإنسان من ضرّ هو لمسة خفيفة، محفوفة برحمة الله ولطفه، ولولا ذلك لما احتملها بشر.. وكذلك ما ينال الإنسان من خير، هو قطرة من فضل الله، محفوفة بحكمته وتقديره، ولولا ذلك لفاضت فملأت على الإنسان دنياه، ولما وجد لنفسه متنفّسا فيها..
فإذا مسّ الإنسان ضرّ فهو من الله سبحانه، ولا يرجى لكشف هذا الضرّ غيره.. لأنه مما قضى به، ولا رادّ لقضائه الذي قضاه، إلا ما كان من لطفه ورحمته اللذين يحفّان بقضائه، فيمضى على ما قضاه، ولكن تقوم إلى جانب ذلك فى كيان الإنسان مشاعر تستقبل هذا القضاء برضى، وتحتمله فى صبر، حتى يأذن الله برفع هذا الضرّ، وكشفه.. وهذا هو بعض اللطف فى القضاء.
وإذا مسّ الإنسان خير، فهو كذلك مما قضى الله به، وأراده، ويسرّ الإنسان له.. وفى تقديم الشر على الخير هنا ما يملأ مشاعر الإنسان خوفا من الله، وتعلقا به، واتجاها إليه، فإن الإنسان فى الخير كثيرا ما يذهل عن الله، ويغفل عن ذكره.. ولكنه فى حال الشدّة والضرّ يذكر الله ويهتف به، ويمدّ يده إليه كما يقول سبحانه: «وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ» (٨: الزمر).
وكما يقول: «وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً» (٨٣: الإسراء).. فما أقلّ أولئك الذين يجدون فى
143
نعم الله طريقا يصلهم إلى الله، ويقرّبهم منه، ويقيمهم على الشكر والحمد، والله سبحانه وتعالى يقول: «وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ» (١٣: سبأ) أما فى البلاء، وأما فى الشدة، فإن الناس جميعا، مؤمنهم وكافرهم، يذكرون الله، ويهتفون به، حتى فرعون، فإنه حين أدركه الغرق، قال آمنت!..
وهكذا الناس.. تدنيهم الشدائد من الله، وتقربهم منه.. وإنها لنعمة تلك الشدائد، التي توجّه الإنسان إلى الله، لو أنه استقام على طريقه إلى الله، ولم يكن من الخائنين لنفسه، الذين يمكرون بآيات الله..
قوله تعالى: «وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ» أي أنه ذو السلطان القائم فوق عباده، يملكهم ولا يملكونه، ويقضى عليهم ولا يقضون عليه، ويعطى ويمنع، ويعزّ ويذل: «قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (٢٦: آل عمران).
وليس سلطان الله سبحانه، القائم فوق عباده، الآخذ على جوارحهم ومشاعرهم ومدركاتهم- ليس بالسلطان المستبدّ الجهول، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.. وإنما هو سلطان قائم بالعدل، والحكمة، والعلم والقدرة، وما كان كذلك، فهو سلطان الرحمة والإحسان..
وفى قوله تعالى: «وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ» إشارة إلى هذا السلطان القاهر الغالب، وأنه بيد حكيم خبير، يضع كل شىء موضعه، بحكمة الحكيم، وخبرة الخبير، فيأخذ مكانه الذي هو له، فى أحسن وضع، وأكمل صورة، فى ملك الله: «الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ.. الْبَصَرَ.. هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ؟» (٣: الملك).
144
وقوله تعالى: «قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً» هو استدعاء لهؤلاء المكابرين المعاندين، الذين ينظرون إلى هذا الوجود على أنه لهم وحدهم، وأن كل ما فيه تبع لأهوائهم: «وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ» (٧١: المؤمنون).. فإذا سمع هؤلاء المكابرون هذا النّداء، وقيل لهم: «أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً» عندكم، تأخذون بشهادتهم عليكم، فى الحكم بينى وبينكم فيما أدعوكم إليه، من الإيمان بالله، وأنى رسول الله إليكم، أحمل إليكم كلمته، وأوجه وجوهكم وقلوبكم إليه؟ ما الشاهد الذي تكبرون شهادته، وتنزلون على ما يشهد به؟
ولا يمهلهم الله أن يجيبوا، لأنهم لا يجيبون إلّا ضلالا، ولا يقولون إلا زورا وبهتانا، بل يلقاهم بالشاهد الذي إن لم يقبلوا شهادته اختيارا قبلوها قسرا واضطرارا، لأنه الشاهد الذي يحكم ولا معقب لحكمه، والقاضي الذي يقضى ولا راد لقضائه.. إنه هو الله ربّ العالمين.
«قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ».
هذا هو الشاهد، والحكم بينى وبينكم، فردّوا عليه شهادته إن استطعتم! وقوله تعالى: «وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ» تلك هى القضية التي بينى وبينكم، وقد أدليت بشهادتى فيها، بين يدى أحكم الحاكمين..
«وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ» من ربّ العالمين «لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ» وأحذركم من عذاب يوم عظيم، إن أنتم لم تصدقوا برسالتى، ولم تؤمنوا بما بين يدىّ مما أوحى إلىّ، ولست رسولا إليكم وحدكم، بل إن رسالتى إليكم وإلى كل من تبلغه، وتصل إليه بلساني، أو بلسان من يدعو بها، فهى رسالة عامة للناس جميعا، فمن بلغته ولم يؤمن بها، فقد حقّ عليه ما حقّ على الكافرين منكم «لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ» وفى عطف قوله تعالى: «وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ» على قوله تعالى: «اللَّهُ
145
شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ»
تفويت على أولئك المكابرين المعاندين أن يجدوا فسحة من الوقت يردّون بها الشاهد الذي أشهده الرسول عليهم، وإلغاء لكل شاهد يقيمونه فى هذا الموقف غير الله سبحانه وتعالى، وقطع للجاجهم وعنادهم، وإمساك بآذانهم أن تنحرف عن هذا الموقف الذي هم فيه.
وقوله تعالى: «أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى» هو تقرير لهم من الرسول، وهم فى هذا الموقف، بعد أن أوقفهم بين يدى الله، وأشهده عليهم..
ومع هذا، فإن العناد لا يزال مستوليا عليهم، وإن اللجاج لا يزال يضرب بأمواجه فوقهم..
ولهذا، فإن الرسول الكريم، لا ينتظر جوابهم، إذ كان جوابا منحرفا عن الحق، بعيدا عن الهدى.. فليتركهم وشأنهم، وبين أيديهم دعوة الحق، وأمامهم طريق الهدى، فإن أطاعوا فقد اهتدوا، وإن تولّوا فإنما هم فى ضلال وخسران.. أما الرسول الكريم، فعلى الطريق الذي أقامه الله عليه.. «قُلْ لا أَشْهَدُ» أن مع الله آلهة أخرى. «قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ».
وفى قوله تعالى: «قُلْ» تثبيت للنبى من ربّه، ووضع للكلمة التي ينبغى أن يقولها، على لسانه وفى قلبه.. يتلقاها من الله، فتلتقى مع الكلمة التي يريد أن يقولها، فإذا هى نور فى قلبه، وقوة فى عزمه، وطمأنينة فى صدره، ولطف عظم من ألطاف ربه.. وفى تكرار «قل» مع كل قول من الله تعالى لهم، كمال عناية، وتمام رعاية من الله سبحانه «للنبى» حيث يجد مع كل نفس يتنفّسه، وحي السماء يقول له: قل.. قل.. قل.. وبهذا يشتدّ عزمه، وتثبت فى لقاء الكافرين قدمه.
146
الآيتان: (٢٠- ٢١) [سورة الأنعام (٦) : الآيات ٢٠ الى ٢١]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١)
التفسير: قوله تعالى: «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ» هو استدعاء لأهل الكتاب، من اليهود والنصارى، لأخذ شهادتهم فى هذا الكتاب الذي بين يدىّ النبىّ، والذي يواجه به المشركين من العرب، فيلقونه بالتكذيب والاستهزاء.. وأهل الكتاب هؤلاء يعرفون صدق الرسول، وصدق ما جاء به، معرفة محققة مستيقنة، كما يعرفون أبناءهم، حيث لا تختلط على أحدهم وجوه أبنائه بغيرهم.. ولو أنهم كانوا مؤمنين بالله، وبالكتاب الذي معهم، لآمنوا بمحمد وبالكتاب الذي معه، ولكنهم كتموا شهادة الحقّ..
بغيا وحسدا.. فخرسوا، ولم ينطقوا، أو نطقوا كذبا وبهتانا.. إنهم «الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» بالرسول وبما معه من كلمات الله، ولا يؤمنون بكتابهم الذي فى أيديهم، وذلك خسران بعد خسران، وضلال فوق ضلال.
وقوله سبحانه: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ»، هو تهديد ووعيد للكافرين من أهل الكتاب هؤلاء، الذين افتروا على الله الكذب، فحرّفوا كلماته، وبدّلوا آياته، وقالوا فى محمد وفى كتابه، غير ما عرفوه من كتاب الله عندهم، فإن لم يكن منهم فى هذا تحريف ولا تبديل، فقد كان منهم تكذيب لآيات الله، بتأويلها تأويلا فاسدا، وحملها على مفاهيم منكرة، تحجب وجه الحق فيما فى كتابهم من دلائل تدلّ على النبىّ، وتحدد صفته، وصفة رسالته.
وقوله تعالى: «إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ» حكم على أهل الكتاب، الذين ظلموا الحقّ، وظلموا أنفسهم، فضلوا وأضلوا.. وذلك هو الخسران المبين.
الآيات: (٢٢- ٢٤) [سورة الأنعام (٦) : الآيات ٢٢ الى ٢٤]
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤)
التفسير: ومن هذا الموقف الذي دعى إليه المشركون وأهل الكتاب إلى مواجهة الرسول الكريم، وأخذ شهادتهم فيه، وفى الكتاب الذي بين يديه- من هذا الموقف ينتقل هؤلاء جميعا انتقالا سريعا إلى موقف آخر، هو موقف الحشر يوم القيامة.. وإذا هم يلقون الجزاء الذي يستحقونه، لكفرهم بالله، وتكذيبهم لرسول الله.
«وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ» ؟ ويتلفت القوم إلى هؤلاء الشركاء الذين يسألهم الحقّ جلّ وعلا عنهم، فلا يجدون لهم أثرا، ويخيّل إليهم من ضلالهم أن جسم الجريمة قد اختفى، وأنهم لن يؤخذوا بهذا الجرم الذي لا يقوم شاهد على وجوده.. فيقولون كذبا، وبهتانا: «وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ».. يقسمون بالله ويؤمنون به، ويدعونه ربّهم، إمعانا فى الكذب، وتعلقا بالوهم، للفرار من هذا الموقف الرهيب! وفى قوله تعالى: «ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ»
إشارة إلى أن هذا القول الذي قالوه هو فتنة أخرى، إذ ما زالوا على ضلالهم القديم، وتصورهم الفاسد، وأنه تعالى لا يعلم ما قدّموا وما أخّروا، وما أسرّوا وما أعلنوا.. فسمّى سبحانه وتعالى هذا القول منهم فتنة.. ولم يقل سبحانه: ثم لم يكن قولهم، أو جوابهم.. إذ كان قولهم هذا، هو فتنة لهم وضلال مبين.
وفى قوله تعالى: «انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ» تشنيع عليهم، وفضح لسوء معتقدهم فى الله، ودعوة للناس أن يروهم وهم متلبسون بهذا الضلال المبين..
وإنهم إذ قالوا هذا القول المفضوح، قد كذبوا على أنفسهم، وغذّوها بالخداع والضلال، أما الحقيقة فهى قائمة عليهم، ممسكة بهم، «يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ» (٤: البقرة).
وقوله تعالى: «وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ» إشارة إلى أن ما كانوا يعبدونهم من دون الله، قد أخلوا أيديهم منهم، وتبرءوا من الصلة التي أقامها هؤلاء المشركون معهم. «وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ» قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ» (٤٠- ٤١ سبأ)... «إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ» (١٦٦: البقرة).
الآيات: (٢٥- ٢٦) [سورة الأنعام (٦) : الآيات ٢٥ الى ٢٦]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٢٦)
التفسير: ومن هذا الموقف الذي سيقوا فيه إلى يوم القيامة، وإلى الحساب والمساءلة، وقطع الحجة عليهم- من هذا الموقف ردّوا إلى موقفهم الأول، حين كانوا فى مواجهة النبىّ، وفى عنادهم له، وتصدّيهم لدعوته..
149
وكان الجدير بهم- لو عقلوا- أن تتأثر وجداناتهم بهذه الإثارات التي تتغيّر بها معالم الوجود فى أعينهم، حين ينقلون من الدنيا إلى الآخرة، ثم يردّون من الآخرة إلى الدنيا.. ولكنهم ظلوا على حال واحدة، حتى لكأنهم أحجار لا تحسّ ولا تعقل.
وفى قوله تعالى: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ» استحضار لهؤلاء المشركين الضالين من موقف الحشر، الذي نقلتهم إليه الآيات القرآنية السابقة نقلا قاهرا، وأحضرتهم مشاهد المحاكمة والمساءلة- إلى ما كانوا فيه من مواجهة النبىّ، وتحدّيه، وتكذيبه، والاستهزاء به..
فمن هؤلاء المشركين الضالين من يستمع إلى النبىّ، وما يرتّل من كلمات الله، ولكنه استماع لا يحدث فيهم أثرا.. فلا تنفذ كلمات الله إلى آذانهم، ولا تبلغ مواطن الإحساس من قلوبهم، فقد أصمّ الله آذانهم، وأعمى قلوبهم..
«إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً». (٥٧: الكهف) والأكنّة جمع كنان، مثل قناع وأقنعة، وزنا ومعنى، أي أنه ضرب على قلوبهم حجاز يقطع ما بينها وبين موارد العالم الخارجي، فلا تحسّ شيئا، ولا تنفعل لشىء.
والوقر: الصمم يصيب حاسة السّمع.
فقد ختم الله على قلوب هؤلاء القوم، وعلى سمعهم، فلا يسمعون خيرا، ولا يعقلونه، فهم- والحال كذلك- لن يهتدوا أبدا، «وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها».. «وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ» (٤١: المائدة).
وختم الله على القلوب، هو تركها على ما هى عليه من ضلال وعمى.. دون أن يمدّها بأمداد لطفه، وعونه، إذ كانت هى لا تستجيب لخير، ولا تتقبل هدى: «وَلَوْ عَلِمَ
150
اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ»
(٢٣: الأنفال).
وقوله تعالى: «حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ» يكشف عن طبيعة هؤلاء القوم.
وأنهم لا يتحركون إلا إلى الشرّ، ولا يعملون إلا لما هو شرّ..
فهم إذا جاءوا إلى النبىّ، لم يجيئوا لطلب حق، أو تعرّف على خير، وإنما هم يجيئون للمجادلة، والسّفاهة، والاستهزاء.. إن الحال التي تتلبس بهم، وتستولى عليهم، وهم يسعون إلى لقاء النبي، والاستماع إليه- هى المجادلة، والمماحكة، ولا شىء غير هذا..
وقوله تعالى: «يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» هو بيان لما تكشفت عنه حالهم، وانتهى إليه أمرهم، من هذا الموقف الذي جاءوا فيه إلى النبي، مستمعين مجادلين، لا طلاب علم واستفادة..
والأساطير جمع أسطورة، وهى ما كان من واردات الخيالات والأوهام، وملفقات الأحاديث.. فهذا هو حكمهم على ما استمعوا إليه من كلام الله: «إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» وتلك هى أسلحة المكابرين المعاندين فى معركتهم الخاسرة مع الحق.. فحين تسقط من أيديهم كل حجة، يلقون بهذه الترهات وتلك الأباطيل، لتكون وقاية لهم مما لبسهم من خزى وما لحقهم من هزيمة..
وفى وصفهم بالكفر، هكذا: «يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا» بدلا من أن يقال:
«يقولون» هو حكم عليهم بالكفر، وإدانة لهم به، إذ قالوا عن القرآن الكريم: «إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ».
وقوله سبحانه: «وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ».. الضمير فى «عنه» يعود إلى القرآن الكريم، الملحوظ فى قوله تعالى: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ».
وجناية هؤلاء المشركين هنا جناية غليظة، وجرمهم فظيع شنيع.. إذ لم
151
يكتفوا بأن يكفروا بالقرآن، ويقولوا فيه ما يقولون، من زور وبهتان، وإنما وقفوا فى وجه من يطلبون الهدى منه، وحالوا بينهم وبين النبىّ أن يلقوه وأن يسمعوا كلمات الله منه.. وفدّم نهيهم الناس وصدّهم عن لقاء النبىّ والاستماع إليه، على نأيهم هم بأنفسهم عنه، وعزل عقولهم وقلوبهم عن لقائه، وهم إنما صدّوا أولا وكفروا، ثم كانت فعلتهم بعد هذا هى نهى غيرهم، وضمهم إلى جانبهم- ولكن لما كان صدّهم الناس عن رسول الله أمرا واقعا، وحكما قاطعا، ولم يكن أمرا مستحدثا منهم، وإنما الذي استحدثوه بعد أن أخذوا هذا الموقف لأنفسهم، هو أنهم جاءوا إلى غيرهم ليأخذوا معهم هذا الموقف الذي هم فيه- فكان من الحكمة فى لقاء المجرمين بجرمهم، أن يواجهوا أولا بما أحدثوا من جرم وهو صدّ الناس، ثم يساق إليهم بعد ذلك ما كان لهم من سابقة فى هذا الباب، وهو صدّ أنفسهم.
وقوله تعالى: «وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ» كشف للمصير السيّء الذي صيّرهم إليه هذا الموقف الذي ارتضوه لأنفسهم، من الصدود عن دعوة الإسلام، وصدّ الناس عنها.. إنهم أهلكوا بذلك أنفسهم، وأوردوها موارد البوار والخسران، وإن كانوا لا يشعرون أنهم إلى هذا المصير هم صائرون، لما استولى عليهم من غفلة، وما غشيهم من ضلال.
وإن فى قوله تعالى: «وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ» نافية، بمعنى ما.
الآيات: (٢٧- ٢٩) [سورة الأنعام (٦) : الآيات ٢٧ الى ٢٩]
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٢٨) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩)
152
التفسير: قوله تعالى: «وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ».
هو ردّة أخرى لهؤلاء المكذبين الضالين، إلى موقف الحساب والجزاء فى الآخرة.. وفى كل مرّة يواجهون فى الآخرة، التي حشروا إليها حشرا وهم أحياء فى ديارهم وبين أهليهم- يواجهون مرحلة من مراحل الحساب فى هذا اليوم العظيم..
ففى المرّة الأولى ووجهوا بشركهم: «وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ».. ففى هذه المواجهة كشف لهم عن التهمة، وعن تلبّسهم بها، دون أن يستمعوا إلى الحكم وإلى العقوبة التي يؤخذون بها..
ثم ردّوا إلى الدنيا مرّة أخرى، ليواجهوا النبىّ من جديد بكفرهم وعنادهم وليصلوا ما انقطع، بهذه الرحلة التي حشروا فيها للحساب والمساءلة، وليلقوا النبي بما كانوا يلقونه به من تكذيب واستهزاء..
ثم هؤلاء هم يردّون مرة ثانية إلى موقف الحساب يوم القيامة، ولكن لا ليحاسبوا من جديد، فقد حوسبوا من قبل، وأسقط فى أيديهم، وقامت الحجة عليهم، وإنما ليستمعوا إلى الحكم فى جنايتهم التي جنوها على أنفسهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ».. فهاهم أولاء على حفير جهنم، يساقون إليها سوقا عنيفا.. ولكنهم ما إن يعاينوا هذا البلاء الذي يفتح فاه ليبتلعهم، حتى يضطربوا ويفزعوا. ويقولون: «يا لَيْتَنا نُرَدُّ» ؟ وأنّى لهم أن يردّوا؟ ثم ماذا تنفعهم الرّدّة إلى الحياة مرة أخرى؟ ألم يكن فيما عرض الله عليهم من موقف الحساب والجزاء، وهم فى دنياهم التي كانوا
153
فيها- ألم يكن فى هذا تجربة لهم، لو أنهم أحسنوا النظر إليها، وانتفعوا بمعطياتها؟
إنهم لن يرجعوا أبدا عما هم فيه من ضلال.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى الآية الواردة بعد هذا فى قوله سبحانه: «وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ».
وفى قوله تعالى: «يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا» ما يسأل عنه..
وهو: ما وجه النصب للفعل «ولا نكذب» مع عطفه على الفعل المرفوع قبله:
«يا لَيْتَنا نُرَدُّ» ؟
القراءة المشهورة: «ولا نكذب بالنصب» وقد قرئ «ولا نكذب» بالرفع عطفا على «نردّ».
ووجه النصب أن «ليت» تفيد التمني، بمعنى نتمنى أن نردّ، ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين.. فسلّطت على الفعل «نردّ» باعتبار، لفظها، ثم سلطت على الفعل «نكذب» باعتبار معناها! وقوله تعالى: «بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ» هو إضراب على أمانيّهم التي تمنوها، وتيئيس لهم منها، لأنها أمان لم تجىء إلا عن خوف وهلع من هذا الموقف الذي هم فيه، حين انكشف لهم ما كانوا يخفون من شرك بالله، وما يجرّهم إليه هذا الشرك من مصير مشئوم، وعذاب أليم..
وقوله تعالى: «وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» هو فضح لكلماتهم الكاذبة، التي أجراها على ألسنتهم سوء الموقف، ولفح السعير!! وقوله تعالى: «وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ».
هكذا كان دينهم فى الحياة الدنيا، دين يقطع أصحابه عن النظر فيما وراء هذه الحياة الدنيا التي استغواهم فيها الغىّ، وركبهم الضلال، فأضافوا وجودهم كله
154
إلى هذه الأيام التي يعيشونها من مولدهم إلى موتهم.. ومن هنا أخذوا كل ما قدروا على أخذه فى الحياة، بحق أو باطل، وأغرقوا أنفسهم فيما وقع لأيديهم من مطعوم أو مشروب، حلالا كان أو حراما.. إنهم أشبه بالجنود ليلة الحرب.. يقضونها ليلة صاخبة معربدة، ينفقون فيها كل درهم معهم، ثم يغدون إلى الحرب مفلسين، إذ لا ينتظرون حياة بعد يومهم هذا!
الآيات: (٣٠- ٣٢) [سورة الأنعام (٦) : الآيات ٣٠ الى ٣٢]
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٣١) وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٣٢)
التفسير: وهذا مشهد آخر من مشاهد القيامة، يساق إليه المشركون، وهم أحياء فى دنياهم التي آمنوا بها وأنكروا ما وراءها.. من بعث، وحساب وجزاء..
وهم فى هذا المشهد يتقلّبون فى النار، التي حكم عليهم بها، فى المشهد السابق، حيث قال تعالى: «وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ... الآية» وحيث كان لهم قبل مشهد الحكم مشهد آخر، هو مشهد المحاكمة، فى قوله تعالى: «وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ».
155
فهم وقد انتهى بهم المطاف إلى النار، يصلون سعيرها، ويذوقون عذابها- لن يتركوا هكذا وما هم فيه من بلاء، بل يسألون سؤال تأنيب، وتعذيب:
«أليس هذا بالحق؟» أي أليس هذا اليوم وما تلقون فيه، قد جاءكم بالحق الذي كنتم تكذبون به؟
وفى حسرة قاتلة، وفى أنفاس لاهثة مبهورة، وفى كلمات حزينة متقطعة دامية، تتحرك شفاههم بها فى إعياء وتثاقل- يجىء منهم هذا الصوت الخفيض فى أنين ذليل: «بلى وربنا».. هذا هو جوابهم، وهذا هو ما استطاعوا أن يحركوا شفاههم به.. كلمتان من أخف الكلمات، وأقلها حروفا، ولو استطاعوا النطق لأكثروا من القول والاعتذار فى هذا المقام، ولو جدوها فرصة فى إظهار النّدم، والاستعطاف! ولكن أنّى لهم ذلك وهم فى هذا البلاء العظيم؟
«بلى وربنا» هكذا جوابهم.. نبرتان هامستان، يخطفانهما من كيانهم خطفا، ثم يعودون إلى أنفسهم فى لهفة، حتى لكأنهم يحاولون إطفاء النار المشتملة عليهم..!
ولكنهم ما يكادون ينصرفون إلى أنفسهم، يعالجون الهمّ الذي هم فيه، حتى يقرعهم صوت الحق: «فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ»، وإذا النار تشتد سعيرا، وتعلوا لهيبا، لتذيقهم العذاب الذي آذنها به الله سبحانه وتعالى أن تذيقهم إياه!! وفى قوله تعالى: «وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ» هو مقابل لقوله تعالى: «وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ» فالمراد بالوقوف هنا الحبس المقيم، يقال وقف فلان نفسه على هذا الأمر، أي لزمه، ولم يتحوّل عنه- ومنه قول إمرئ القيس:
156
وقوله تعالى: «قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها» هو تقرير عن هذا الموقف، الذي انكشف فيه للكافرين ما كانوا فيه من غفلة وضلال، وفى هذا التقرير، يرى كل ضال غافل، المصير الذي ينتهى به ضلاله وغفلته إليه، وهو الخسران والضياع والهلاك..
«حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً» أي فجأة على غير انتظار، إذ كانوا على تكذيب قاطع بهذا اليوم، فإذا طلع عليهم كان ذلك مباغتا لهم ومفاجئا..
«قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها» وإنها لحسرة تطول، لا نهاية لها، حيث أفلت من أيديهم ما كان يمكن أن يعدّوه لهذا اليوم الذي أنكروه، ولم يعملوا له حسابا..
والتفريط: التقصير، بخلاف الإفراط، الذي هو المبالغة فى المطلوب، وتجاوز الحدّ فيه.
والضمير فى قوله تعالى: «فِيها» يعود إلى الساعة، وهى يوم القيامة قوله تعالى: «وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ».
الأوزار: جمع وزر، وهو الحمل الثقيل.. أي أنهم يجيئون إلى يوم القيامة محملين بأحمال ثقيلة، من الآثام، تنوء بها ظهورهم.. «أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ» فما أشأم ذلك الحمل، وما أسوأه، إذ كان هو الجريمة التي تدين حامله، والشهادة التي تشهد عليه، وتجرّه إلى النار..
وقوله تعالى: «وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ» هو تعقيب على هذا الحكم الذي حكم به سبحانه على أهل الضلال والكفر.. فقد غرّتهم الحياة الدنيا، وألهتهم عن الآخرة، فلم يعملوا لها ولم يقدموا ليومها، زادا ينفعهم فى هذا الموقف العصيب..
157
وهكذا هى الدنيا، لعب ولهو، إذا وقف الإنسان نفسه عليها، وحبس وجوده على مظاهرها، دون أن يلتفت إلى ما بعدها، من لقاء الله، وموقف الحساب بين يديه.. ولكنه إن التفت إلى الآخرة التي وراء هذه الحياة الدنيا، لم تكن هذه الحياة الدنيا لعبا ولهوا، وإنما تكون حياة جادّة عاملة، تجمع الدنيا والآخرة معا، وبهذا تتفتح أمام الإنسان آفاق فسيحة للعمل الطيب المثمر، الذي إن فاته حظّه منه فى الدنيا، فلن يفوته ثوابه العظيم منه فى الآخرة.. ومن هنا كانت حياة المؤمنين بالله واليوم الآخر، حياة عامرة بالعمل والكفاح والجهاد..
إذ كان على المؤمن أن يملأ بوجوده وكفاحه دنياه وآخرته جميعا.. أما الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، فإن حياتهم فراغ فى فراغ، يدورون فيه حول أنفسهم، كما يدور الأطفال فى لهوهم ولعبهم.
قوله تعالى: «وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ» إذ عملوا لها، وآثروها على الدنيا، وقدّموا ما يبقى على ما يفنى، فكانت عاقبتهم السلامة والعافية، والخلود فى جنّات النعيم..
وفى قوله تعالى: «أَفَلا تَعْقِلُونَ» إثارة لذوى العقول أن ينظروا لأنفسهم، وأن يزنوا أمرهم مع الدنيا على ميزان سليم.. فإنهم لو فعلوا لعرفوا أن الدار الآخرة خير وأبقى!
الآيات: (٣٣- ٣٤) [سورة الأنعام (٦) : الآيات ٣٣ الى ٣٤]
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٣٣) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤)
158
التفسير: بعد أن عرض الله للنبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- هذا العرض الكاشف للمشركين، وما يلقون فى موقف الحساب من خزى وهوان، وما يذوقون فى جهنم من نكال وعذاب- بعد هذا العرض الذي يرى فيه النبىّ عاقبة المكذبين به- يلقى الله سبحانه النبىّ الكريم بهذه المواساة الكريمة، وهذا العزاء الجميل، لما يلقاه من قومه من تكذيب له، واستهزاء به..
وفى قوله تعالى: «قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ» استجابة لسكاة النبىّ قبل أن يشكو، وفى هذا تطمين لقلبه، وتثبيت لقدمه، وأن الله يرعاه، ويعلم ما يجد فى نفسه من حزن وألم، لما يرميه به قومه من باطل القول، وزور الكلم.. وهم يعلمون أنه الإنسان الذي لا يكذب أبدا..
وفى قوله تعالى: «فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» ردّ اعتبار للنبىّ عند هؤلاء الذين اتهموه بالكذب زورا وبهتانا.. وقد كشف الله ما فى نفوسهم عن النبي ورأيهم فيه.. فهم فى دخيلة أنفسهم لا يكذبون «محمدا».. إنهم يعلمون عن يقين أنه ما قال ولن يقول كلمة الكذب. بل هو عندهم فوق مستوى الشبهة فيما يشين الناس، وينزل من قدرهم.. «وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ».. إنهم لظلمهم، وعنادهم يرون الحق ويستيقنونه، ثم لا تطاوعهم أنفسهم على الإقرار به، والولاء له.. ولو جاءتهم كل آية لا يؤمنون بها.. وهكذا يفعل العناد بأهله، ويقطع عليهم الطريق إلى الحق والهدى، ويحجزهم عنه الخبر والفلاح.
وفى قوله تعالى: «وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» تهديد ووعيد لهؤلاء المشركين.. إنهم لا يكذبون محمدا ولكنّهم يكذبون بآيات الله التي بين يديه.. فانظر كيف هذا التناقض العجيب منهم.. يؤمنون بمحمد وبصدقه
159
كإنسان، ويأخذون شهادته على كل ما يقول فيما هو من شئون دنياهم.. فإذا جاءهم بآيات ناطقة من عند الله، وقال لهم إنها كلام الله، وأنه رسول الله بها إليهم، أنكروا عليه هذا القول بنسبتها إلى الله، وقالوا: إنها سحر ساحر، وتلقيات ممسوس! ولو عقلوا لما وجدوا لهذا القول مستندا من عقل أو منطق..
إذ كيف لا يتّهم إنسان بالكذب فى حال، ثم يتهم به فى حال أخرى؟ إن الإنسان وحدة متكاملة، فى خلقه، فإمّا أن يكون صادقا لا يكذب، وإما أن يكون ممن لا يتحرّى الصدق فى كلّ قول.. وقد عرفوا «محمدا» أنه صادق على وجه واحد، مدة حياته معهم، من مولده إلى مبعثه.. لم تجرب عليه كذبة قط.. فكيف يكذب بعد الأربعين؟ وكيف يكذب أشنع الكذب، وأفحشه، بتلك الدعوى التي يدعيها على الله ربّ العالمين؟ ذلك محال، بل وأكثر من محال، لأن شواهد الصّدق ودلائله ناطقة فى كلام الله، مستغنية عن صدق من يجىء إلى الناس بها ويعرضهم عليها.. فكيف إذا كان من يجيئهم بها ويعرضها عليهم، غير متّهم بكذب، أو مجرب عليه شهادة زور عندهم؟
قوله تعالى: «وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا» (٣٤: الأنعام) هو عزاء بعد عزاء للنبىّ الكريم، ورحمات من ربّ رحيم تتنزّل عليه، وهو فى مواجهة هذا العناد والعنت الذي يلقاه من قومه.. وفى هذا العزاء يرى النبي- صلوات الله وسلامه عليه- مشاهد كثيرة لهذا المشهد الذي يعيش فيه.. فهناك رسل كثيرون من رسل الله قد كذّبوا من أقوامهم، وأوذوا فى أنفسهم من سفهاء قومهم، ولكنهم اعتصموا بالصبر، واحتملوا الأذى فى سبيل الرسالة الكريمة التي شرفّهم الله بها..
فهذا نوح عليه السلام- يلقاه قومه بالنكير والاستهزاء، ويلاحقونه بالأذى والضرّ- وفى هذا يقول الله على لسانه: «أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ
160
إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ»
(٣٥: هود).
وقد أخذهم الله بهذا المنكر.. فأغرقهم ونجّى نوحا ومن معه:
«فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ» (١١٩- ١٢٠: الشعراء).
وهذا هود- عليه السلام- يلقى قومه داعيا إلى الله، مبشرا ومنذرا بآياته، فتكون قولتهم له: «يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ» (٥٣- ٥٤: هود).. ثم كانت عاقبتهم عاقبة كل ظالم.. فأهلكهم الله بريح صرصر عاتية: «وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ» (٦- ٨: الحاقة).
وهكذا كان الشأن مع صالح، ولوط، ومع كلّ نبى أعنته قومه، وكذبوا بآيات الله التي بين يديه.. النجاة والسلامة للنبىّ والمؤمنين به، والهلاك والدّمار لمن كذبوا به، وبآيات ربه..
وفى هذا أسوة للنبىّ، وللمؤمنين معه.. فليحتمل الأذى، وليصبر على الضرّ، وليحتمل المؤمنون الأذى وليصبروا على الضرّ، فإنّ العاقبة له ولهم، وإن النصر للحق ولمن ينصرون الحق.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا، وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ» فتلك هى سنّة فى الذين خلوا، ولن تتخلّف آثارها فى حاضر أو مستقبل.. فإن أحكام الله لا تنقض وكلماته لن تتبدّل..
161
وقوله تعالى: «وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ» تذكير للنبىّ بما قصّ الله- سبحانه- عليه من قصص الأولين، فليعد النبىّ إلى هذا القصص، ولينظر إلى ما فيه من عبر وعظات.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ» (١٢٠: هود). ويقول: «لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ» (١١١: يوسف).
الآية: (٣٥) [سورة الأنعام (٦) : آية ٣٥]
وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٥)
التفسير: وإذ استمع النبي إلى كلمات ربه، وما تحمل إليه من مواساة كريمة، وعزاء جميل، فقد وجب على النبي أن يطمئن قلبه، وتسكن نفسه ويذهب حزنه وحسرته، على ما يلقى من قومه.. فإذا كان قد بقي فى نفس النبي شىء من تلك العوارض التي عرضت له من قومه، وإن كانت لا تزال به توازع الحزن والحسرة عليهم، فإن السماء ليس عندها ما تقدمه لهم من وسائل الإقناع، بعد أن قدمت لهم ما قدمت من آيات، وما ساقت إليهم من نذر! فإن وجد النبي القدرة من نفسه على أن يأتيهم بما يقنعهم، ويحملهم على التصديق به، وبما يدعوهم إليه، فليفعل!! وهذه هى الأرض تحت قدميه، والسماء فوق رأسه، فإن استطاع أن يشق الأرض أو يرقى السماء بسلّم ليأتيهم بآية مقنعة، فليفعل وهيهات هيهات!!
162
«وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ؟» أي إن شقّ عليك إعراض قومك عنك، فحاول- إن استطعت- أن تشق الأرض، أو ترقى فى السّماء، لتأتيهم بما يقترحون عليك من آيات! وليس هذا دعوة من الله سبحانه للنبىّ أن يفعل هذا، وإنما هو صرف له عن هذا اللغو الذي يلغوا به قومه، من مقترحات يقترحونها عليه، وتيئيس لهم من أن يكون لهذا اللّغو قبول عنده..
وفى قوله تعالى: «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى» إشارة إلى أن ما قدمته السّماء من آيات هو القدر المطلوب لهداية من فيه استعداد لقبول الحق، حين تلوح أماراته، وتظهر له دلائله.. وليس من حكمة السّماء أن تقهر الناس قهرا على الإيمان، ولا أن تحملهم حملا على الهدى، فإن مثل هذا الإيمان الذي يجىء إليه الإنسان قهرا وقسرا، هو إيمان لا دخل لكسب الإنسان فيه، ولا جزاء له عليه، إذ أنه ليس من سعيه وكسبه، والله سبحانه وتعالى يقول: «وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى» (٣٩- ٤١: النجم).. ولو أراد سبحانه وتعالى أن يدخل الناس جميعا فى الإيمان لفعل، ولوضع بين يدى المعاندين والكافرين والمشركين من الآيات القاهرة ما يحملهم على الإيمان، حيث لا يجدون معها سبيلا إلى الإنكار والجحد.. ولكنّه سبحانه أراد أن يكون للإنسان تقديره وتفكيره، فيما يحمل إليه رسل الله من آيات، يرى فيها العقلاء دلائل الحق، وأمارات الهدى، ولا يرى فيها الضّالون والمعاندون شيئا يفتح لهم الطريق إلى الله.. وفى هذا ابتلاء وامتحان، «لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ».. «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى» فما قوة فى هذا الوجود تردّ مشيئة الله، ونفاذ ما يشاء.. ولكنّه سبحانه وضع
163
الإنسان بهذا الوضع الذي يكون له فيه مجال للاختيار، «فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ، وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ».
وفى هذا يقول الله تعالى: «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» (٩٩: يونس).
قوله تعالى: «فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ» هو عزل للنبىّ عن أن يكون ممن يجهلون حكمة الله هذه، وسنّته فى خلقه، وفى هذا وقاية للنبىّ من أن تطرقه طوارق الأسى والحسرة على من تخلّف عن الدعوة التي يدعو بها، ولوى وجهه عن الحق الذي بين يديه، من ذوى قرابته، ومن يريد لهم الخير ممن يحبّهم.. «إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ» (٥٦: القصص).
الآيات: (٣٦- ٣٨) [سورة الأنعام (٦) : الآيات ٣٦ الى ٣٨]
إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٣٦) وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٧) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨)
التفسير: فى قوله تعالى فى الآية (٣٥) «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى» إشارة إلى أن هؤلاء الكافرين المعاندين، قد أضلّهم الله لعنادهم وكفرهم، وتركهم وما اختاروا من ضلال وشرك.. ذلك لأنهم عموا عن آيات الله، وأبوا أن يفتحوا عقولهم وقلوبهم لها..
وفى قوله تعالى: «إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ» بيان لحال هؤلاء
164
الكافرين المعاندين، وأنهم لن يسمعوا كلمة الحق، ولن يعطوها آذانا واعية، ولهذا كان من الحكمة ألا يلحّ عليهم أحد بما يدعوهم إليه من حقّ وهدى، فإنهم لن يسمعوا، ولو سمعوا ما استجابوا.. «إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ» أي الذين يسمعون سمعا عاقلا متدبرا.. يصغى، ويفكر، ويعقل.. أما هؤلاء وإن كانت لهم آذان يسمعون بها فإنها تصبح ثقيلة عند سماع الحق، كأن بها وقرا، لأن قلوبهم مريضة، وعقولهم سفيهة، «وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ» (٢٣: الأنفال).
وقوله تعالى: «وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ» معطوف على قوله سبحانه: «إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ» أي أن هذين الأمرين من واد واحد، إذ هما ممكنان واقعان فى قدرة الله: استجابة الذين يسمعون ويعقلون، لما يسمعونه ويعقلونه، وبعث لأموات من قبورهم يوم القيامة.
وفى الجمع بين الأمرين دلالتان:
أولاهما: أن الناس لهم كسب ولهم إرادة، وقدرة، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ» وأن الله سبحانه وتعالى لم يكلّف الناس إلّا ما هو ملائم لطبيعتهم، مناسب لقدرتهم، أما ما فوق ذلك فلم يكلّفوا به، ولم يحاسبوا عليه، كبعث الموتى، الذي هو مما لله وحده «والموتى يبعثهم الله».
وثانيتهما: أن الضّالين المعاندين من الناس، الذين لم يستمعوا للحق، ولم يستجيبوا له، قد وضعوا بذلك أنفسهم موضع العجز المطلق، أمام هذا الأمر الممكن الذي دعوا إليه، فكأنهم والأموات سواء.. فكما يستحيل على الأموات أن يبعثوا من تلقاء أنفسهم، كذلك يستحيل على هؤلاء الضالين المعاندين أن يستمعوا للهدى وأن يستجيبوا له بطبيعتهم.. والأموات يبعثون حين يريد الله بعثهم ودعوتهم إليه، والضالون الشاردون عن الله، يهديهم الله، إذا أراد لهم
165
الهداية، ودعاهم إلى طريقه.. ولكن هؤلاء الضالين المعاندين لن يدعوهم الله إليه، ولن يهديهم إلى الحق، كما يقول سبحانه: «أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ».. فهم وقد كان الإيمان بالله من الممكنات لهم، قد جعلوه بعنادهم وضلالهم مستحيلا يحتاج إلى قدرة فوق قدرتهم، هى قدرة الله تعالى، وإذ تخلّى الله عنهم وأخلاهم لقدرتهم، فلن يهتدوا إذن أبدا.. وإن الله- سبحانه- يبعث الموتى، ولكنه لا يهدى هؤلاء الضالين العاندين.
وفى هذا تيئيس لهم، وخذلان مبين، وخزى فاضح، ووعيد بالحساب الشديد، والعذاب الأليم.
وقوله تعالى: «ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ» الضمير فى «يرجعون»، يعود إلى هؤلاء المعاندين، الذين لن يهتدوا أبدا، إلى أن يموتوا، ثم يبعثوا مع الموتى..
ثم يرجعون إلى الله، للحساب والجزاء.. وهذا هو سرّ العطف «بثم» الذي يفيد التراخي الزمنيّ.. فهم إذ خوطبوا كانوا أحياء.. ثم يبعثون، ثم يحشرون» قوله تعالى: «وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» هو بيان لموقف هؤلاء الضالين المعاندين، الذين أبوا أن يستجيبوا لله ولرسوله، وأصبح قبولهم الإيمان أمرا مستحيلا فى مواجهة ما جاءهم به النبىّ، ولن يكون لهم نظر وكسب فيما كان يدعوهم إليه من إيمان، بعد أن تأتيهم الآيات التي يقترحونها..
«وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ» والآية التي يقترحونها هى معجزة مادية، يرونها بأعينهم. كما يقول الله تعالى: «وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ
166
كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا»
(الإسراء: ٩٠- ٩١- ٩٢) وفى قولهم «من ربّه» كفر صريح بالله، واتهام للنبىّ بأن له ربّا غير الرّبّ الذي يعرفونه، ويتقربون بالأوثان إليه.
وفى قوله تعالى «نُزِّلَ» إشارة إلى أن الآية التي يطلبونها هى آية حسّية، تتحرك بين الناس، ويتحرك الناس بين يديها.. فهى- والأمر كذلك- شىء مغاير للآيات القرآنية التي تنزل على النبىّ، فلا يكون لها هذا الأثر الحسّى، الذي يبعث فى الحياة هزّة، وثورة ظاهرتين للعيان! وقوله تعالى: «قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً» فليس أمام قدرة الله ما يعجز، وقد نزّل الله كثيرا من الآيات الحسّية كهذه الآيات التي يقترحونها، ولكن كثيرا من الناس كفر بها، وخادع حواسه وخان عقله فيها..
وفى قوله تعالى: «وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» إشارة إلى جهل هؤلاء المكذبين، فوق ما هم فيه من ضلال وكفر.. ولو علموا لرأوا أن هذا المقترح الذي يقترحونه. فيه هلاكهم ودمارهم.. حيث ذلك هو الجزاء الذي يعقب التكذيب بالمعجزات الحسيّة، التي هلك المكذبون بها، حين جاءتهم على يد الأنبياء.. نوح، وهود، وصالح، ولوط، وموسى، وعيسى.
قوله تعالى: «وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ» إشارة إلى أن عالم الأحياء، من إنسان، وحيوان، وطير، يرجع إلى أصل واحد، كانت منه جميع هذه المخلوقات، فى أنواعها وأجناسها..
وفى قوله تعالى: «إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ» تسوية بين عالم الإنسان، وعالم الحيوان، فى إقامة كل جنس من أجناس الحيوان، على نظام فى حياته، وفى
167
أسلوب معيشته، وتوالده، وصلات أفراده بعضها ببعض أو صلاته بالقريب والبعيد منه من أجناس الحيوان- أشبه بنظام المجتمع الإنسانى.
فكما أن الناس يمسكهم نظام، ويضبط حياتهم سلوك، وتربط بينهم عادات، وتحكمهم قوانين، فكذلك كل جنس من أجناس الحيوان، وكل نوع من أنواعه.. له عالمه الذي يعيش فيه، وله تقاليده، وعادانه، ولغته التي يتفاهم بها، وله سلطانه الذي يأخذ به الخارجين على نظام الجماعة، المتمردين على أوضاعها المستقرة فيها..
وفى قوله تعالى: «وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ» - ما يسأل عنه:
لماذا كان ذكر الجناحين هنا، مع أن الطائر لا يطير إلا بجناحيه؟ وهل هناك طائر يطير بغير جناحين؟ وإذا كان من الطير ما يطير بلا جناحين، فهل يخرج من هذا الحكم الذي قضى الله به على الدواب والطير؟
والجواب على هذا، هو أن أجناس الطير كثيرة، متفاوتة القدر، مختلفة الحجم والصورة، من النّسر، والصقر، إلى البعوضة، والذرّة.. وكلها ذات جناحين تطير بهما، ومن هذه الطيور ما لا ترى العين جناحيه، ولا يكاد يتصور العقل أنه يحمل أجنحة، وفى ذكر القرآن للأجنحة التي لكل طائر، ما يدعو الإنسان إلى إعادة النظر وإمعانه فى هذه المخلوقات الضئيلة، وفى دقة تركيبها، وروعة بنائها، وأنها- على صغر جرمها- عالم متكامل، فى تكوينه، قد أودعت يد القدرة فيه من الأجهزة، والحواس، ما أودعته فى أرقى الكائنات الحية، من قوى، ومشاعر، ومدركات..
وفى القرآن الكريم كشوف رائدة، رائعة، عن عالم الحيوان، وما أودع الخالق العظيم فيه من قوّى وأسرار، لا تقلّ روعة وإحكاما، عما فى الإنسان،
168
الذي ينظر إلى وجوده بين هذه المخلوقات وكأنه إله، وكأنها هى من نافلة الحياة، أو من نفاياتها بالنسبة له!! فهذه النملة- على صغر جرمها، وضآلة شأنها.. تقف من سليمان موقف الندّ للندّ، وتتصدى له، وهو فى بهاء ملكه، ومظاهر عظمته، وقد حشر له الجنّ والإنس والطير، فى مظاهرة ولاء، واستعراض انقياد وخضوع، وإذا النملة التي يمرّ بها سليمان، فلا يأبه لها، ولا يحفل بها، بل ولا يكاد يذكر عن أمرها شيئا، وهو متخم بهذا السلطان العظيم الذي بين يديه- إذا هذه النملة تلقى سليمان لقاء مثيرا، وتحاجّه فى منطق قاهر، لا يقلّ عن منطق سلطانه القوى المبين، فيعجب لهذا الذي يأتيه من قبل أضعف المخلوقات شأنا، وأهونها قدرا، وإذا سلطانه الذي بين يديه يهتزّ، ثم يتهاوى، وإذا هو والنملة على سواء..
إنها تقوم على دولة لا تقلّ عن دولته، نظاما وإحكاما وروعة، وإنها لتقوم على رعية تسوسها بالرأفة والحكمة، وتحوطها بالرّعاية والعناية، وتوفر لها الأمن والسلامة، بما لا يكون إلا من القلّة القليلة من أصحاب الحكم والسلطان..!
ونستمع إلى قوله تعالى: «وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ» (١٧- ١٩: النمل) وإذا نستمع إلى كلمات الله هذه، نكاد ننصرف بأبصارنا ومشاعرنا عن سليمان، عليه السلام، وحشوده الحاشدة، من الجنّ والإنس والطير، إلى هذا
169
المجتمع الضئيل من النمل، وإلى هذه النملة التي تقوم على سياسته، وتدبير أمره..
بل إن سليمان نفسه، لينصرف عن حشوده تلك، حين تلقاه النملة هذا اللقاء المثير، وإذا هو منها بين يدى قدرة القدير، وحكمة الحكيم، فلا يملك إلا أن يتوجه بكيانه كله إلى الله، ضارعا بالحمد والشكر: «رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ».. وليس ببعيد أن تكون النملة- فيما رأى سليمان- ممن عدّهم من عباد الله الصالحين، الذين دعا الله أن يلحقه بهم، ويدخله فى زمرتهم! والهدهد، وقصته مع سليمان، لا تقل روعة وعجبا من قصة النملة، فقد جاء إلى سليمان، وهو فى أبّهة ملكه، وعظمة سلطانه، وبين يديه ما سخّر الله له من الجن والإنس والطير- جاءه وهو فى هذا السلطان العظيم، ليلقاه بهذا الخبر، وليلقى به إليه فى صورة من هو أكثر منه علما، وأكبر سلطانا، وإن كان- فيما يظهر منه- ضئيل الشأن، باهت القدر، فيقول لسليمان: «أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ» !! هكذا المتمكّن من نفسه الواثق من وجوده، يقول قولة الحق، فى غير خوف أو تردد! وكأن الهدهد إنما يثأر بهذا لنفسه، وللجماعة المسخرة لسليمان، حين توعّد الهدهد على ملأ منها بقوله: «لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ».. فجاءه بهذا الجواب القوىّ المبين! ففى هذه النملة التي تمثّل الدوابّ على الأرض، وهذا الهدهد الذي يمثل ما طار بجناحيه فى السماء، شاهدان يشهدان بأن هذه الكائنات التي تعيش معنا على هذا الكوكب الأرضى، من دواب الأرض، وطير السماء، هى أمم مثل الأمة الإنسانية، فى وحدة التكوين والتنظيم، والمشاعر، والمدارك،
170
وغيرها، من تلك التي لا تكون الأمة أمة إلا بها..
فالأمة لا تسمى أمة، إلا إذا كان بناؤها الذي تقوم عليه ينتظم جميع الأفراد الذين يدخلون فى حسابها، وينتسبون إليها، بمعنى أن يكون بين أفراد الأمة من قوى التلاحم والترابط ما يجمع بعضهم إلى بعض، ويؤلّف منهم جسدا اجتماعيا أشبه بجسد الكائن الحىّ وما بين أعضائه، من ترابط، وتساند، وانسجام! ومن هنا يمكن أن تتغير نظرة الإنسان إلى عالم الحيوان، وأن يفتح له العلم الحديث آفاقا جديدة فى دراسة علم الحيوان، فلا يقف عند حدود دراسة جسدية له، تدور حول الوظائف العضوية وما يتصل بها، بل ينبغى أن يتجاوز العلم هذه الدراسة إلى دراسات نفسية، وعقلية أيضا.. بحيث يكون من موضوعات هذه الدراسات: لغة الحيوان.. بجميع أجناسه وأنواعه، وعن طريق التعرف إلى هذه اللغة يمكن التعرّف على معارف عالم الحيوان، ونظرته إلى الكون، وصراعه مع الطبيعة، ووسائله التي بلغها فى التغلب عليها..
ولربما يقع للعلم فى هذه الدراسات، من أسرار وعجائب، ما لم يقع له إلى اليوم من أسرار وعجائب!.
وإنّ عجزا من الإنسان، وقصورا فى علمه، هو الذي وقف به على شاطىء هذا المحيط العظيم من عالم الحيوان، فلم يعرف كيف يتفاهم مع الحيوانات، ويترجم مشاعرها وإحساسها، ويفسّر حركاتها وسكناتها.. وليس بغير العلم تنفتح مغالق هذه العوالم.. ويوم يبلغ الإنسان من العلم ما يستطيع به الالتحام مع عالم الحيوان والتفاهم معه، يومئذ يكون الإنسان بحق هو سيد هذا العالم الأرضى، وخليفة الله فيه، وإلا فهو ليس بالسيد ولا بالخليفة، إذ لا سيادة لمن لا يعرف كيف يخاطب المسودين له، ولا خلافة لمن لا يحسن الفهم
171
عمن هو خليفة عليهم.. وإنه ما انقادت تلك الجماعات من الجن والإنس والطير لسليمان، إلا بعد أن أوتى من العلم ما أقدره على فهم هذه الجماعات، والتفاهم معها..
وقوله تعالى: «ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ».
اختلف فى الكتاب هنا: أهو اللوح المحفوظ، أم هو القرآن الكريم.. ؟
ولعل الأقرب إلى مفهوم الآية الكريمة هنا، هو «القرآن الكريم» حيث يبيّن فى آياته هذه أصولا، وأحكاما، ومقررات تندرج تحتها جميع المعارف الإنسانية، التي بلغها العقل، والتي فى مقدوره أن يبلغها يوما ما..
وإذا لم يكن القرآن الكريم قد كشف الغطاء عن هذه المعارف، فإنما ذلك ليثير فى الإنسان دوافع النظر والبحث، وليترك لعقله مجال الحركة والصراع، فينتصر حينا، وينهزم حينا، وهو فى انتصاراته وهزائمه، سيّد نفسه، وقائد سفينة حياته، وحسب القرآن الكريم فى هذا أن يومىء إليه من بعيد إلى مواطن الصيد، التي يلقى بشباكه فيها، فتجىء إليه بصيد وفير.
وقوله تعالى: «ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ» الضمير فى ربهم يعود إلى هذه المخلوقات كلها، من دواب الأرض، وطيور السماء..
وقد اختلف فى حشر هذه الكائنات من حيوان ووحش وطير.. وهل تحاسب؟ وإذا حوسبت فهل تعذّب أو تنعّم، كما يحاسب الإنسان ويعذب أو ينعم؟
ولا شك فى أنها ستحشر إلى الله، فهذا صريح بنص القرآن فى هذه الآية، وفى قوله تعالى: «وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ» (٥: التكرير).. أما ما وراء هذا فأمره إلى الله، وعلمه عند علام الغيوب.
172
الآيات: (٣٩- ٤١) [سورة الأنعام (٦) : الآيات ٣٩ الى ٤١]
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٩) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٠) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (٤١)
التفسير: «وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ» استدعاء لهؤلاء المكذبين الضّالين، من بين عوالم الأحياء كلها، التي عرضها الله سبحانه وتعالى فى الآية السابقة، فى قوله تعالى: «وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ».
وفى هذا الاستدعاء، ينعزل الضالون المكذبون بالله وآياته، عن هذا الوجود، كما يعزل المرضى بأمراض خبيثة عن الأصحاء! وهؤلاء الضالون المكذبون، هم فى حقيقتهم مصابون بأمراض خبيثة، لا فى أبدانهم، ولكن فى عقولهم..
إنهم كما وصفهم الحق جلّ وعلا: «صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ».
وانظر إلى هذا الإنسان الأصم الأبكم الذي يحتويه الظلام ويشتمل عليه! إنه أصمّ لا يسمع.. أي لا يصل إليه من العالم الخارجي مسموع.
وإنه أبكم، لا ينطق.. أي لا يصل منه إلى العالم الخارجي منطوق.
173
فهو- والحال كذلك- مصمت مغلق، لا يتصل بشىء، ولا يتصل به شىء.
ثم إنه- بعد هذا كله- أعمى، لا يرى شيئا، حتى جوارحه التي معه، من يد أو رجل!! هذا هو حال الذين كفروا بآيات الله..
إنهم كائنات ميّتة، وإن بدت حيّة، فى صورة الأحياء.. فقد تعطلت حواسّهم، وأظلمت قلوبهم وعقولهم، وبهذا لم يكن بينهم وبين آيات الله تعامل، بسمع، أو نظر، أو عقل! وقوله تعالى: «مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» هو عرض لمشيئة الله، وقدرته، وحكمته.. وأنه سبحانه وتعالى هو مالك الملك، إليه يرجع الأمر كلّه..
وهؤلاء اللذين عصوا الله، وضلّوا عن سبيله، لا يظنون أنّهم أصحاب قوة وسلطان.. إنهم أذلّاء ضعفاء لا يملكون شيئا.. حتى هذا الضلال الذي هم فيه.. إنه ليس لهم، وليس من واردات حولهم وقوّتهم.. إن هناك سلطانا فوق سلطانهم، وقدرة فوق قدرتهم، وبذلك السلطان وبتلك القدرة هم محكومون، وهم صائرون إلى هذا المصير المشئوم الذي هم فيه.. فليموتوا كمدا وحسرة.. إنهم ممن شاء الله أن يضلّهم، لأنهم أهل لما أراده الله بهم! وهؤلاء الذين استجابوا لله، وآمنوا، واستقاموا على طريقه القويم، إنما كانت استجابتهم، يدعوة من الله، وتوفيق لهم منه، إلى الإيمان، وأن الله سبحانه وتعالى، هو الذي أخذ بأيديهم إليه، وأدخلهم فى عباده الصالحين، ولولا ذلك لكان شأنهم شأن هؤلاء الضالين، الذين لم يرد الله أن يطهّر قلوبهم،
174
وأن ينزلهم منازل الإكرام عنده.. فليهنئهم هذا الرضوان، وليسعدوا بما آتاهم الله من فضله..
وفى مشيئة الله، ومشيئة العباد، كثر القول، واختلفت المقولات، وتعدّدت الآراء، وتشعبت مذاهب الرأى، فكان من ذلك مقولات كثيرة:
فى الجبر والاختيار، وفى القضاء والقدر، وفى الثواب والعقاب، إلى غير ذلك مما يتّصل بمشيئة الله، ومشيئة عباده.. وهل للعباد مع مشيئة الله مشيئة؟ وهل إذا كانت لهم مشيئة أفلا ينقص ذلك من كمال الله وقدرته؟ وإذا لم يكن لهم مشيئة فكيف يثابون ويعاقبون على ما لا مشيئة لهم فيه؟ إنهم مسيّرون لا مخيّرون.. وعدل الله يقضى ألا يحاسب إنسان على ما ليس من كسبه؟
وهكذا تتشعب مذاهب القول، وتختلف وجوه الرأى، ويحتدم الصراع بين أصحاب المقولات، ويلتحم القتال زمنا طويلا، يترامى فيه المقاتلون بكل ما يقع لأيديهم من أسلحة، فى مجال الرأى حينا، وفى ميدان الحرب بالرماح والسيوف حينا..
هذا، وسنعرض لهذا الموضوع، فى بحث خاص إن شاء الله.
وقوله تعالى: «قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» تسفية وتجريم لهؤلاء الذين أشركوا بالله، وضلّوا عن سبيله.. فإن هؤلاء الضالّين المشركين، إذا كربتهم الكروب، وأحاط بهم البلاء، وعاينوا الموت، تنبهت فيهم قوى الإدراك التي كانوا قد عطلوها، ووضحت لهم الحقيقة التي ضلّوا الطريق إليها، فرأوا أنه لا إله إلا الله وحده، وأنه هو الذي يملك دفع هذه الشدائد، ويقدر عليها.. هنالك يدعون الله، ويضرعون إليه، أن يكشف الضرّ، ويرفع البلاء!
175
وتلك هى حال الإنسان، فى الشدائد يجتمع رأيه، وتتفتح ملكاته، فيرى الواقع على حقيقته، فإذا زالت الشدة، وانفسح الأمل، أعطى زمامه لهواه، وأسلم وجوده لشيطانه، وعاد إلى ما كان فيه من ضلال وكفر.. «وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ» (٨: الزمر) وقوله تعالى: «أَرَأَيْتَكُمْ».. الاستفهام يراد به التقرير.. أي أجيبوا على هذا السؤال الذي أنا سائلكم عنه..
وأصل هذا الفعل «أرأيتم» مخاطبا به هؤلاء المشركين خطابا مباشرا..
ولكن لما كان بين هؤلاء المشركين وبين عقولهم حواجز من الضلالات والمنكرات، فقد جاء خطابهم على تلك الصورة، الفريدة، التي تجمع بين مخاطبين، والمخاطب واحد، حتى لكأنه ذاتان، أو ذات منقسمة على نفسها.
وفى قوله تعالى: «إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ».. المراد بالعذاب هنا هو ما يأخذهم به لله من عقاب شديد فى الدنيا، كما أخذ به الضالين المكذبين من قبلهم..
وعطف قوله تعالى: «أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ» على قوله تعالى: «عَذابُ اللَّهِ» لبيان أن هذا العذاب الذي يندرون به، هو عذاب شديد، أشبه بأهوال يوم القيامة..
ومن أجل هذا، كان وقوع المشركين تحت وطأة هذا العذاب داعية لهم إلى أن ينخلعوا عما كانوا فيه من غفلة، واستخفاف، بما يشغلهم من مطالب الحياة الجسدية، التي أعطوها وجودهم كله.. ، وأن يولّوا وجوههم إلى الله.
ففى مواجهة الشدائد القاسية التي تتهدد وجود الإنسان، وتشرف به على
176
الهلاك، تنحلّ قوى الجسد، وتتبخر الأهواء المتسلطة عليه، وهنا يجد العقل سماء صافية تسطع فيها أنواره، كما تجد الروح مجالا للحركة والعمل، وإذا الإنسان بعقله وقد تخلص من الضباب الذي انعقد عليه، وبروحه التي انطلقت من قيود هذا الجسد المعربد، وإذا الإنسان هنا، يعاين الحقيقة، ويرى الحق، فيؤمن، إن كان كافرا، ويستيقن، إن كان مؤمنا.
وهذا أشبه بحال من يعالج سكرات الموت، فإنه يرى ماوراء المادة من شواهد الحياة الآخرة، فيؤمن إن كان كافرا، حيث لا ينفعه إيمانه، ويتوب إن كان عاصيا، حين لا تنفعه التوبة.. وفى هذا يقول الله سبحانه وتعالى لفرعون، وقد آمن بعد أن أدركه الغرق، وأشرف على الموت: «آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ» (٩١: يونس) ويقول سبحانه فيمن يتوب وهو فى مواجهة الموت: «وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ» (١٨: النساء).
وقوله: «أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ» هو استفهام تقريرى، يراد به أخذ اعتراف هؤلاء المشركين بالله.
وجوابهم فى تلك الحال التي يسألون فيها، وهم فى أمن عافية، لا يذكرون معها تلك الحال التي يكونون فيها تحت قهر البلاء والشدة، أو فى مواجهة أهوال القيامة- جوابهم فى تلك الحال، لا يكون إلا جحودا لله، وكفرا به، واستغناء عنه.
وقوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» إشارة إلى هذا الجواب الذي سيعطونه فى تلك الحال، وأنه ليس الجواب الذي يعطونه لو كانوا فى مواجهة المحنة
177
والبلاء، ولهذا جاء قوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» كاشفا عن حالهم تلك، وأنهم لو صدقوا أنفسهم، وتدبروا الموقف وتصوّروه على حقيقته، لكان جوابهم: لن ندعو غير الله، ولن نشرك به أحدا.. ولكنهم لم يفعلوا ولن يفعلوا.. ولهذا ضرب الله على الجواب المنتظر منهم، وتولّى سبحانه الجواب عنهم، وألزمهم به إلزام من يؤمنون بالله، ويقدرونه حق قدره، فقال تعالى:
«بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ» أي إنكم مع ما تقولون الآن من كذب وشرك، وأنتم فى سعة من أمركم، ستقولون هذا القول الحق، وأنتم فى يد البلاء والمحنة..
وقوله تعالى: «فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ» أي أنه سبحانه هو الذي سيكشف الضرّ الذي نزل بكم، وصرعتم به إليه، على حين هرب من وجوهكم، وفرّ من بين أيديكم، تلك الآلهة الباطلة التي كنتم تتعاملون معها، وتركنون فى أموركم إليها، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ» لأنها تفاهات لا تذكر فى ساعة الجدّ، ولا يتعامل معها سفيه حين يثوب إليه عازب عقله.
الآيات: (٤٢- ٤٥) [سورة الأنعام (٦) : الآيات ٤٢ الى ٤٥]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٥)
178
التفسير: فى هذه الآيات عرض لمقطع من مقاطع الحياة، قبل عصر النبوّة، وفيه تتمثل مواقف المعاندين والملحدين بالله، والمكذبين برسله، وما أخذهم به من نكال وعذاب.
وفى قوله تعالى: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ» عزاء للنبىّ الكريم، ومواساة له، فيما يلقى من سفاهة السفهاء، وتطاول الحمقى.. فقد كان قبل النبىّ الكريم رسل كرام، بعثهم الله بالرحمة والهدى لأقوامهم، فكذبوهم، وبهتوهم ومدّوا أيديهم إليهم بالضرّ والأذى..
وقوله تعالى: «فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ» هو تعقيب على كلام محذوف دل عليه سياق النظم، أي فكذبوا بآيات الله، ومكروا برسل الله «فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ» أي فأخذهم الله «بالبأساء» أي بالمحن والشدائد، كتسليط العدوّ عليهم، ووقوعهم ليده، يقتل ويسلب، «والضراء» أي الفقر والجدب، ونقص الأموال والأنفس والثمرات.. وذلك لتتفتح قلوبهم إلى الله، وترفع أكفّهم بالضراعة إليه، ومن ثمّ يكون لهم إلى الله عودة، لو عقلوا، وتدبّروا.
إذ أن من شأن الشدائد أن تصفّى النفوس من شوائب الضلال العالقة بها، وتنقّى القلوب من الوساوس المستولية عليها، وتكشف عن العقول الظلام المحيط بها.. هذا إذا كان كيان الإنسان سليما، وكانت تلك الأمور عللا عارضة، تقبل الدواء المرّ وتنتفع به، وتجد فيه الشفاء والعافية.. أما إذا كان الكيان فاسدا بطبيعته، فلا دواء ولا شفاء.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ» أي لعلّهم حين ترهقهم الشدة، ويكربهم الضرّ، يتذلّلون لله، ويضرعون إليه.
وفى هذا الترجي «لعلّ» إشارة إلى المطلوب منهم فى تلك الحال، إذ هى
179
حال من شأنها أن تقيم الضالّين والمنحرفين على رجاء من رحمة الله، فتخبت له قلوبهم، وتلهج بالضراعة إليه ألسنتهم.
وقوله تعالى: «فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا» تحريض لهؤلاء الضالين أن يتداركوا أنفسهم، وأن يعودا بها إلى الله من قريب، تائبين ضارعين..
ولم يذكر الضرّ هنا مع البأس، لأن البأس أعمّ من الضرّ، إذ هو ضر، وأكثر من ضر..
وقوله سبحانه: «وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ» فلم يتضرّعوا، ولم يعودوا إلى الله، مع ما أخذهم به من بأساء وضراء، بل ظلوا على ما هم فيه من عمّى وضلال.. «وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» أي حبّب إليهم الشيطان، بغوايته، وخداعه، هذه المنكرات التي يعيشون فيها، فلزموها، وتعلقوا بها..
وقوله تعالى: «فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ» بيان للوجه الآخر الذي أراهم الله من آياته، وأخذهم به من عبر وعظات، لتتفتح مغالق قلوبهم إليه، ويؤمنوا به..
والذي ذكّروا به ونسوه، هو «البأساء والضراء» وقد أخذهم الله بهما ليكون لهم منهما عبرة وعظة، ولكنهم لم يعتبروا، ولم يتعظوا..
ولكن الله سبحانه- مع هذا- لم يعجّل لهم العقاب، بل أخذهم بحلمه، وقدّم لهم الدواء الحلو السائغ، بدلا من هذا الدواء المرّ، الذي لم يستسيغوه، ولم ينتفعوا به.. فساق إليهم النعم، وأغدق عليهم العطاء، «فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ» مما تشتهى أنفسهم، وتهوى أفئدتهم.. ومع
180
ذلك فما نفعهم هذا الدواء، ولا ذهب بما بهم من داء.. بل زادهم هذا الرزق الكريم، كفرا بالله، ومحادّة له..
وإنه إذ لم يكن فى البأساء والضراء، ولا فى النعمة والرخاء، ما يصحح معتقد هؤلاء القوم فى الله، ويقيمهم على طريقه- كانت الثالثة، وهى القاضية، التي فيها الهلاك والدمار..
وهذا هو حكم الله فيهم، وأخذه لهم: «حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ» وإنه لأخذ أليم شديد.. إذ كانوا على حال من البهجة والمسرّة، وفى مقام من الأمل المزهر والرجاء العريض، فتهبّ عليهم عاصفة جائحة، تنتزعهم انتزاعا على حين غفلة، وهم على تلك المائدة الحافلة بشهىّ الطعام والشراب، وإذا الأيدى الممدودة إلى المائدة تتجمد فى طريقها إليها، وإذا الشّفاه المترشفة للكئوس المترعة تيبس عليها، وإذا العيون السارحة بين ألوان الطعام والشراب تجمد حدقاتها، وينطفىء بريقها.. «وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ.. إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ» (١٠٢: هود).. فلو أن هؤلاء المشركين، أخذوا وهم فى لباس البأساء والضرّاء لخفّف عليهم مرارة الموت، ما هم فيه من مرارة الحياة التي يحيونها، ولكنهم تجرعوا كأس المنية مرّا مترعا، وفى أفواههم، وعلى ألسنتهم، طعوم وطعوم، من كل حلو وشهىّ! والإبلاس: الحسرة الشديدة، والمبلس: الذي وقع فى معصية ولا حجة له، ولا عذر بين يدى العقاب الذي وقع به.
وقوله تعالى: «فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» هو آخر ما يشيّع به هؤلاء الهالكون، وما يتبعهم من دنياهم إلى المصير الذي هم صائرون إليه.. لقد قطع دابرهم، أي اجتثّ كل شىء لهم، ومحيت آثارهم، ولم تبق منهم باقية.. إنهم وباء وبيل، ومرض خطير، يتهدد الإنسانية بالفساد
181
والضلال، فكان خلاص الإنسانية منهم نعمة من نعم الله، تستوجب الحمد والشكران.. «فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا»، أي لم تبق منهم باقية، من أصول وفروع «وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» الذي وقى النّاس هذا الشرّ المستطير، وعافاهم من هذا البلاء المبين!
الآيات: (٤٦- ٤٧) [سورة الأنعام (٦) : الآيات ٤٦ الى ٤٧]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧)
التفسير: بعد أن عرض الله سبحانه وتعالى فى الآيات السابقة (٤٢- ٤٥) مصارع القوم الظالمين، بعد أن جاءتهم رسل الله، فكذّبوهم، وأخذوهم بالضرّ والأذى- أمر الله سبحانه وتعالى نبيّه الكريم أن يلقى المشركين المعاندين من قومه بقوله تعالى: «أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ؟».
والضمير فى «به» يعود إلى المأخوذ، المفهوم من قوله تعالى: «أَخَذَ» والمعنى: أجيبوا أيها المكابرون المعاندون، والمشركون بالله- أجيبوا عن هذا السؤال: إذا أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم، أي ضرب عليها سدّا، وعطّل وظيفتها، فلم يكن لها ما للقلوب من مشاعر ومدارك- فهل
182
هناك إله غير الله يأتيكم بهذا الذي أخذه الله منكم؟
وفى التعبير بالفعل «أخذ» إشارة إلى أن هذه النعم هى منحة لهم من عند الله، وفضل من أفضاله على عباده، ولله- سبحانه وتعالى- أن يأخذ منهم ما أعطى، ويستردّ ما منح، ولا اعتراض لهم عليه..
وإذا كانوا لا يحيون بغير هذه الحواس من سمع وبصر، ولا يكونون من عالم البشر إلا بهذه القلوب، فإن عليهم أن يبحثوا عن جهة تعيد إليهم ما أخذ منهم، أو مثل هذا الذي أخذ منهم، إن كان بهم حاجة إلى وجودهم فى عالم البشر.
وإنهم مهما جدّوا فى البحث، واجتهدوا فى السعى، لن يجدوا غير الله لهذا الذي يطلبونه.. فما لهم لا يؤمنون به؟ وما لهم يعبدون من دونه ما لا يملك لهم ضرا ولا نفعا؟ أليس ذلك ضلالا وسفها؟ وبلى إنه الضلال والسّفه والخسران المبين..
وفى إفراد السّمع، وجمع الأبصار والقلوب، إعجاز من إعجاز القرآن، وآية من آياته، على علوّ متنزّله، وأنه تنزيل من ربّ العالمين.
فالسّمع من وظيفته أن يتلقى الأصوات، وأن يميز بينها، ويمسك بالواضح المميز منها، وإنه لن يحقق هذا، أو يتحقق له هذا، إلا إذا عزل الصوت الذي يريد استقباله، عن كل ما يتصل به من أخلاط الأصوات الأخرى.. وهذا يعنى أن السّمع وإن اتسع لمئات الأصوات المختلطة، فإنه لا يميز إلا واحدا منها، بالإصغاء إليه، وعزل ما سواه عنه، وإلا كان المسموع له، أصواتا لا مفهوم لها، إلا على أنها دوىّ كدوىّ النحل مثلا! ومن هنا كانت الحكمة فى إفراد السّمع، فى القرآن، وفى جميع الآيات التي ذكر فيها، وذلك من القرآن، هو توجيه لوظيفة السمع، وإقامتها على الوجه
183
الذي ينتفع به صاحبه، فالكلمة التي تدخل على الإنسان من طريق سمعه، لا تثير تفكيرا، ولا تحرك وجدانا، ولا تهزّ شعورا، إلا إذا كانت ذات مدلول محدّد واضح.. وهذا لا يكون إلا إذا استقلّت بذاتها، واتخذت طريقها من السمع إلى مواطن الإدراك والشعور من الإنسان، غير مختلطة بغيرها، مما يسبقها أو يلحقها من كلام.
ومن هنا أيضا ندرك السّرّ فى قوله تعالى: «وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا».. فإن أبرز ما فى هذا الأمر من حكمة، هو نقل كلمات الله، من اللسان، إلى الأذن، ثم إلى العقل والقلب، فى صورة سويّة واضحة، ليكون مفهومها سويّا واضحا..
فالإنسان له سمع، وإن بدا أن هذا السمع هو أسماع، فى استقباله لعشرات الأصوات ومئاتها، دفعة واحدة.. والمطلوب من الإنسان أن يستعمل سمعا واحدا، ليكون لما يسمعه معقول، ومفهوم، وثمر! أما حاسّة البصر، فهى على خلاف حاسّة السمع.. إذ أن العين تستطيع أن تضبط كثيرا من صور المرئيات فى نظرة واحدة، كما أنها تستطيع أن تعاود النظر فى الشيء المرئي لها، مرّة ومرة، ومرات كثيرة، حتى تتحققه وتستيقنه..
ومن هنا كانت العين مجموعة من الأعين، بتردّدها على الشيء، ومعاودتها النظر إليه، حالا بعد حال، وليس كذلك الأذن التي إن أفلت منها الصوت الملقى إليها، لم يكن فى الإمكان ردّه، فقد ذهب أدراج الرياح، ولا يمكن أن يعود، وإن أمكن استدعاء مثله، من مصدره الذي جاء منه..
والقلب، فى تأثّره بالمحسوس، من مرئى، ومسموع، ومشموم، وملموس، هو أشبه بالعين، فى قدرته على معاودة النظر إلى تلك الصور التي تلقى بها الحواس إليه، فيعيش معها زمنا، على هيئة خواطر ومشاعر ووجدانات، يشكّل منها جميعا عالمه الذي يعيش فيه، ويستملى منه نزعاته وسلوكه.
184
وقوله تعالى: «انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ».
تصريف الآيات: تنويعها، وبسطها، لتنكشف وتتضح.
ومعنى يصدفون: أي ينصرفون، ويميلون عن الحق الذي تحمله آيات الله- إلى ما يشتهون من الباطل والضلال.
وفى هذا المقطع من الآية الكريمة تشنيع على هؤلاء الضالّين، وفضح لسفاهتهم، على أعين الناس، ودعوة لكل ذى عقل أن يرى ويحكم.
وقوله سبحانه: «قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ» استحضار لهؤلاء المشركين فى موقف آخر من مواقف المساءلة، ومواجهة العذاب المعدّ لمن يدينهم الحساب فى هذا الموقف، بعد أن ذكّروا بنعم الله التي تلبسهم ويلبسونها، والتي إن سلبها الله إياهم لم يكن لقوة فى الوجود أن تأتيهم بها..
وهنا فى هذا الموقف، هم مجرمون، قد حكم بتجريمهم من قبل، وها هم أولاء يهدّدون بعذاب الله، الذي يؤخذ به كل متكبر جبار، وأن هذا العذاب غير موقوت بوقت لديهم، وإنما أمر ذلك إلى الله، فقد يأتيهم على حين غفلة، من حيث لا يشعرون أو يتوقعون، كما فعل ذلك بقوم لوط وقوم عاد، أو قد يأتيهم العذاب بعد أن ينذروا به، ويحدّد لهم وقته، تلميحا، كما فى قوم نوح، أو تصريحا، كما فى قوم صالح، إذ يقول الله تعالى: «فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ» (٦٥: هود).
وفى قوله تعالى: «هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ» دفع بهم إلى يد الهلاك، ليلحقوا بالظالمين، الذي أهلكهم الله من قبل، ودمدم عليهم بذنبهم.. فتلك سنّة الله فى الذين خلوا من قبل.. وأنه إذا كان سبحانه وتعالى لم يعجّل لهم الهلاك، ولم يوردهم موارد الظالمين، فذلك إملاء لهم، ومظاهرة لحجة الله عليهم،
185
ليذوقوا العذاب ضعفين يوم القيامة «وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ» (١٦: فصلت).
الآية: (٤٨- ٤٩) [سورة الأنعام (٦) : الآيات ٤٨ الى ٤٩]
وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٤٩)
التفسير: فى قوله تعالى: «وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ» تعقيب على ما فى الآيات السابقة، من دعوة الناس إلى الله على لسان رسله، وأمهل الله- سبحانه- للمكذبون منهم، وأخذهم بالبأساء والضراء حينا، وبالنّعماء والسراء حينا آخر. وذلك ليكون لهم فى أنفسهم نظر، ولهم إلى الله رجعة، حتى إذا بلغ بهم الكتاب أجله، ولم تنفعهم الآيات والنّذر، أخذهم الله بعذاب بئيس، وأوردهم موارد الهالكين.
وفى هذه الآية، بيان لموقف الرسل ممن أرسلوا إليهم.. فما للرسل سلطان على الناس، أن يؤمنوا أو يضلّوا، وإنما هم دعاة إلى الخير والهدى، فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها.. وليس الرسل كذلك، هم الذين يملكون العفو والمغفرة، أو يسوقون العذاب والهلاك للمعاندين والمشركين، فذلك إلى الله وحده، لا يملكه أحد غيره، وما على الرسل إلا البلاغ.
وقوله تعالى: «فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» هو بيان لأثر من آثار الرسل فى الناس، وأن هناك فى الناس من يهتدى بهم، ويؤمن
186
بالله عن طريقهم.. وهؤلاء الذين اتبعوا الرسل وآمنوا بالله، وعملوا الصالحات، قد فازوا وسعدوا، وأمنوا من هول يوم القيامة، ولم يقع فى نفوسهم حزن وحسرة على فائت فاتهم من حظوظ لدنيا، وخير الآخرة..
فما فاتهم فى الدنيا مما كان يعدّه المشركون بالله نعيما استهلكوا فيه أنفسهم، هو رذل خسيس إلى جانب النعيم المقيم المعدّ لهم فى جنات الخلد، أما خير الآخرة فلم يفتهم منه شىء. فقد آمنوا بالله، وهذا هو رأس كل خير.. ثم هداهم الإيمان إلى الأعمال الصالحة، التي ترضى الله الذي آمنوا به، وتدخلهم فى جنّاته.
وقوله تعالى: «وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ» هو كشف للوجه الآخر من دعوة الرسل، وأنه إذا آمن بهم كثير من الناس، فقد كفر بهم كثير من الناس أيضا.. ولكل من المؤمنين والكافرين حسابه وجزاؤه..
وقد بينت الآية السابقة عاقبة المؤمنين وجزاءهم، وأنه لا خوف عليهم، ولا هم يحزنون..
وأما الذين كفروا وكذبوا بآيات الله، فأولئك «يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ».
والفسوق، هو الخروج، يقال فسق الفرخ من البيضة: إذا خرج منها، والفاسق هو من يخرج عن حدود الله، وفى هذا يقول الله تعالى عن إبليس «إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ».
وفى قوله تعالى: «يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ» إشارة إلى أن عذاب الله شديد لا يطاق، وأن مسّة من هذا العذاب، تحيل حياة من تصيبه إلى شقاء دائم، وبلاء متصل.. نعوذ بالله من عذاب الله.
187
الآيات: (٥٠- ٥٢) [سورة الأنعام (٦) : الآيات ٥٠ الى ٥٢]
قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (٥٠) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١) وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢)
التفسير: وإذ بيّن الله سبحانه وتعالى فى الآيات السابقة، محامل الرسالة التي يحملها رسله إلى عباده، وأنها رسالة قائمة على البلاغ بما يؤمر الرسول بتبليغه إلى قومه.. وأن من استجاب منهم فقد فاز، ومن أبى واستكبر فقد خاب وخسر.
إذ بين الله سبحانه وتعالى هذا الذي كان بين الرسل وأقوامهم، فقد بيّن سبحانه وتعالى موقف النبىّ الكريم من قومه، وأنّه ليس بدعا من الرسل، فما هو إلا بشير ونذير، وأن هذه المقترحات التي يقترحها عليه السفهاء من المشركين، ليست من وظيفة الرسول، ولا من محامل رسالته.. فالرسول مبلّغ وليس منشئا لرسالته.. فما جاءه من عند الله بلّغه، وما لم يجئه أمسك عنه، وإلا كان متجاوزا الحدود المرسومة له..
وقوله تعالى: «قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ» هو إقرار على لسان الرسول نفسه، يواجه به الذين يرون فى الرسول قوى لا يراها الرسول نفسه..
188
ومن شأن الإنسان أن يستكثر من الفضائل التي تضاف إليه، فإذا لم يتحدث بها هو عن نفسه دعا الناس إلى أن يتحدثوا بها عنه، فإذا تحرّج من هذا، لم يتحرج مما يراه الناس فيه ابتداء، من غير أن يحملهم عليه..
وهنا نجد الرسول الكريم يعرض نفسه على قومه، نازعا عنه كل تلك الأثواب الفضفاضة، التي يلبسونها إياه، من نسج خيالاتهم وأوهامهم، مجرّدا من كل قوة إلا قوة إيمانه بالله، واستقامته على الحق الذي يدعو إليه.
فالنبىّ لا يملك للناس سعة فى الرزق، لأنّه يرزق مثلهم، ولا يرزق غيره:
«لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ» فخزائن الله الله، يعطى منها ما يشاء لمن يشاء!.
والنبىّ لا يعلم الغيب، ولا يدرى ما يطلع به يومه، أو غده، عليه أو على الناس، مما يحمد أو يسوء.. فعالم الغيب والشهادة هو الله وحده.
والنبىّ.. بشر من البشر، وإنسان من الناس، هو مثلهم، مقيّد بقيود هذا الجسد البشرى، وليس هو ملك من ملائكة الرحمن يستطيع أن يفعل مالا يفعله الإنسان، من خوارق ومعجزات.
والنبىّ ملزم بالوقوف عند حدود رسالته، يبلغها كما أنزلت إليه، لا يزيد عليها شيئا، ولا ينقص منها شيئا.. «إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ».
وهذا الإقرار من النبي، والاعتراف على نفسه هذا الاعتراف الواضح الصريح، هو دليل من أدلة النبوة، وآية من آيات صدق النبىّ، وأنه مأمور بأن ينقل إلى النّاس ما يوحى إليه من ربّه، ولو كان أمرا متعلقا به، فى خاصة نفسه، أو أهله..
وقوله تعالى: «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ» هو تعقيب على هذا
189
الاعتراف من النبىّ، يلقى به إلى أسماع من يستمعون إلى هذا الاعتراف، وأن هؤلاء المستمعين، بين أعمى لا يرى مواقع الخير، ولا يهتدى إلى طريق الحق، وبصير، يتهدّى إلى الخير، ويستقيم على طريق الهدى.. وأنه لا يستوى الجاهل والعالم، ولا الأعمى ولا البصير، ولا الضال ولا المهتدى.. وفى الاستفهام الإنكارى تنبيه للغافلين من غفلتهم، وإيقاظ للنائمين من نومهم، ليستقبلوا هذا النور الذي بين يدى النبىّ، وليفتحوا عيونهم عليه، وليسيروا على هديه، إن أرادوا لأنفسهم النجاة والسلامة والخير.
قوله سبحانه: «وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ» هو توجيه للنبىّ الكريم أن يتّجه بدعوته إلى حيث تجد آذانا تسمع، وقلوبا تعى، فإنه حينئذ يرجو لدعوته استجابة ونجحا فى نفوس مهيأة للاستماع والتعقل.. والضمير فى «به» يعود إلى القرآن الكريم.
والنبي- صلوات الله وسلامه عليه- وإن كان مأمورا بأن يدعو النّاس جميعا إلى الله، وأن يقوم فيهم بشيرا ونذيرا، إلّا أن الفاته إلى من فيهم الاستعداد للاستماع والاستجابة، أولى ممن لا يسمع ولا يعقل، ولا يجيب.. أو قل إن دعوته وما تحمل من هدى ونور- وإن كانت موجهة إلى الناس جميعا- إنّما يفيد منها، وينتفع بهديها، هم أولئك الذين يخشون ربهم، ويخافون عذابه، وبهذا يبدو غيرهم وكأنه غير مدعوّ إلى هذا الخير المساق إلى الناس كلّهم، وفى هذا ما فيه من تضييع لهؤلاء الصادّين عن سبيل الله، وإهدار لوجودهم بين الناس..!
وقوله تعالى: «لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ» جملة حالية، وصاحب الحال هو الضمير فى «يحشروا».. أي أن هؤلاء الذين يخافون أن يحشروا
190
إلى ربهم، فى حال لبس معهم فيها ولىّ يتولى أمرهم عند الله، أو شفيع يشفع لهم، فيخلصهم من عذابه- هؤلاء هم الذين يعملون للقاء الله حسابا، ومن ثمّ فإنهم يستمعون لكلمات الله، ويستجيبون لرسول الله، فيكونون ممن رضى الله عنهم، ووقاهم عذاب الجحيم.
وقوله سبحانه «لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» الرجاء هنا معلق بهؤلاء الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم غير مصحوبين بولىّ أو شفيع، فهذا الخوف من شأنه أن يبعث الإيمان والتقوى فى أصحابه.. فهم- والحال كذلك- على رجاء من التقوى، وعلى مداناة منها، إن هم استقاموا على هذا الطريق، واحتملوا ما يلقاهم عليه من مشقة وأذى.
قوله تعالى: «وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ».
هنا سؤال: هل طرد النبىّ من يدعون ربهم بالغداة والعشىّ يريدون وجهه؟ أو هل همّ بطردهم؟ وإلا فما معنى هذا النهى من الله تعالى للنبىّ الكريم؟
والجواب: أن النبىّ ﷺ لم يكن منه طرد لجماعة مؤمنة تدعو ربها بالغداة والعشى، بل ولم يكن منه همّ بهذا الأمر.. وكيف يساغ هذا؟ ورسالته- عليه الصلاة والسلام- قائمة على دعوة النّاس أن يدعو ربهم بالغداة والعشى؟ فكيف يدعو إلى أمر، ثم يقف هذا الموقف ممن يأتون هذا الأمر؟
وإذن فما معنى هذا النهى الموجه من الله سبحانه إلى النبي الكريم؟
الواقع أن هذا النهى، وإن كان فى ظاهره موجها إلى النبي- هو ردّ على
191
المشركين من زعماء قريش، الذين كانوا يأخذون على النبىّ أنه لا يألف إلا هؤلاء الفقراء المستضعفين، ولا يألفه إلا هؤلاء.. وأن مجلسا يضم مثل تلك الجماعة فى فقرها، وضعفها، ليأنف زعماء قريش أن يكون لهم مكان فيه..
ولهذا جاء النهى إلى النبىّ الكريم، ليقرع أسماع المشركين، وليريهم أن محمدا لن يتخلى أبدا عن هؤلاء الفقراء الذين تزدرى أعينهم، وأنه إذا كان ألف صحبة هؤلاء الفقراء وأنس بهم قبل أن يتلقى أمر ربه بشأنهم- فإنه الآن وقد جاءه من ربّه هذا النهى الذي يلبس صورة الأمر بالحفاظ على تلك الجماعة الفقيرة المؤمنة، وملء يده منها، وإعطائها وجهه كله- إنه لن يتخلّى أبدا عن تلك الجماعة، ولو وقعت السماء على الأرض.. إنه لن يعصى أمر ربّه، ولن يخرج عنه بحال أبدا.. هذا ما تعرفه قريش فيما عرفت من محمد، وأخذه بكل كلمة جاءته من ربه، أو يقول أنها جاءته من ربه، كما تزعم قريش.
إذن، فهذا النهى هو كبت لقريش، ولزعمائها خاصة، واستخفاف بهم، وأنهم أقلّ شأنا، وأخفّ ميزانا عند الله الذي يدعوهم محمد إليه، وأن حساب النّاس فى هذا الدين الذي يدعو إليه، ليس بجاههم وسلطانهم، وأنسابهم، وأحسابهم، وإنما هو مائدة ممدودة من الله لعباد الله، فمن أخذ مكانه منها، لم يكن لأحد أن يزحزحه عنه.. إنه فى ساحة الله، وعلى مائدة الله..
وعلى ما تطول يد الإنسان من هذه المائدة يكون حظه من الخير، ومكانه من الله..
وفى قوله تعالى: «ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ» - فى هذا بيان كاشف لحساب الناس عند الله، وأنهم عنده بأعمالهم، لا بأحسابهم وأموالهم..
وهذا هو النبىّ الكريم، حامل رسالة السماء، ومبعوث ربّ العالمين،
192
هو والناس عند الله فى ميزان العمل على سواء.. كلّ مجزىّ بعمله، من إحسان أو إساءة..
فهؤلاء الفقراء المستضعفون الذين يدعون ربهم بالغداة والعشىّ، يرجون رحمته، ويخشون عذابه- إنما يعملون لأنفسهم، كلّ يطلب لها السلامة والنجاة، فكيف يطردهم النبىّ- كما تتوهم قريش- من هذا الميدان الذي اختاروا العمل فيه، طالبين النجاة من عذاب الله، والفوز برضوانه؟ إن النبىّ لا يحمل عنهم ما يكون منهم من تقصير فى جانب الله، إذا هم طردوا من هذا المورد العذب الذي يتزودون منه فى طريقهم إلى الله.. فكيف يطردهم؟ أيحمل عنهم وزرهم يوم القيامة؟ إنهم محاسبون على أعمالهم، وإنهم لمجزيّون عنها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ» أي إن النبىّ لن يضارّ بما يحملون من سيئات، إذ أن كلّ نفس تحمل ما كسبت.. والله سبحانه يقول: «وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى» (١٨: فاطر).. «وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ» أي إنك لن تحمّلهم شيئا من حسابك.. وإذن، فدع هؤلاء يعملون لأنفسهم، كما تعمل أنت لنفسك، وإنه لمن الظلم أن يرفع أحد يدهم عن العمل الذي يريدون به وجه الله، وحسن المآب إليه.. ولهذا جاء قوله تعالى: «فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ» - حكما قاطعا بالظلم على من يتصدّى لمن يؤمن بالله، ويشغل قلبه ولسانه وجوارحه بذكره.
ولا شك أن المشركين من زعماء قريش إذ يرون هذا الحساب الذي بين النبىّ- صاحب الرسالة- وبين أضعف الناس شأنا، وأنزلهم منزلة فى نظرهم- إنهم إذ يرون هذا الحساب، يجدون أنه قائم على العدل والإحسان، وأن الناس عند الله- حتى الأنبياء- بأعمالهم، وليس بمالهم من رياسات دينية
193
أو مادية.. إنهم ليرون ذلك لو عقلوا.. وقد عقل كثير منهم، وأسرع إلى الإسلام، يأخذ لنفسه مكانا مع السابقين الأولين إليه.
الآيات: (٥٣- ٥٥) [سورة الأنعام (٦) : الآيات ٥٣ الى ٥٥]
وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣) وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٤) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (٥٥)
التفسير: كان أكثر ما دخل على زعماء قريش وسادتها الذين آثروا الكفر على الإيمان، واستحبّوا العمى على الهدى- كان أكثر ما دخل عليهم من دعوة الإسلام، وصدّهم عنها، أن سبقهم إليها جماعات ممن لم يكونوا أصحاب سيادة أو رياسة فيهم- بل كانوا من الفقراء والمستضعفين والأرقّاء من الرجال والنساء- فأنف هؤلاء السادة أن ينضموا إلى ركب العبيد، وحسبوا أن الدين والدنيا على سواء، وأن من كان عزيزا فى الدنيا، فهو سيد وعزيز فى الدّين، وبدا لهؤلاء السادة أن ما جاء به محمد ليس فيه ما يرفع من مقام السادة، أو حتى يحتفظ لهم بمكانهم الذي هم فيه- وإذن فزهدهم فى هذا الدين، وصرف وجوههم عنه هو الموقف، الذي ينبغى عليهم أن يلتزموه، وأن يدعو هذا الدين للعبيد والإماء، ومن هو مثلهم ضعفا وفقرا، فلن يزيدهم هذا الدين، إلا فقرا وضعفا..
هكذا كان تقدير السادة والزعماء من مشركى قريش، وهكذا كان تصورهم للرسالة الإسلامية، وما تحمل من هدى ونور.. وهذا ما حكاه القرآن عنهم
194
فى قوله تعالى: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ» (١١: الأحقاف).
وقوله تعالى: «وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ» هو بيان لهذا الموقف الذي وقفه سادة قريش وكبراؤها من دعوة الإسلام، وأنهم إنما ضلّوا الطريق إلى الإيمان بالله بسبب أنّ جماعة من المستضعفين والفقراء قد سبقوهم إليه، فقد كان ذلك فتنة لهم، وكان لسان حالهم يقول ما حكاه القرآن عنهم: «أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا؟» يقولونها تهكما وسخرية.. إذ كيف يختار الله لدينه منهم من هم أنزل الناس منزلة فيهم؟
وقد ردّ الله عليهم بقوله: «أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ».. فالله سبحانه وتعالى هو الذي اختار هؤلاء الذين سبقوا إلى الإسلام، ودعاهم إلى مائدته، وأقامهم فى الصفوف الأولى منها، لما علم سبحانه وتعالى من قبولهم لدعوته، وشكرهم لفضله ونعمته. أما هؤلاء السادة المتكبرون، فليسوا أهلا لأن يدعوا من الله، ولا أن يكونوا فى السابقين إلى مائدة الإسلام، والله سبحانه وتعالى يقول: «وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ».
(٢٣: الأنفال).
قوله تعالى: «وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» - هو بيان لوجه كريم من وجوه الدعوة الإسلامية، وأنها لا تصدّ أحدا يرد شريعتها، ويريد الارتواء منها.. وهؤلاء الذين وقفوا من النبىّ ومن أصحابه هذا الموقف العنادىّ العنيف- هؤلاء لن يغلق الإسلام بابه دونهم، ولن يقبض الله يد رحمته عنهم.. بل هم حيث طرقوا باب الإسلام فتح لهم على مصراعيه، واستقبلتهم على عتباته رحمة الله ومغفرته، فمحت كل ما علق بهم من آثام وسيئات، وإذا هم مواليد جدد فى الإسلام، يدخلونه وصفحات
195
كتابهم بيضاء لم يمسسها سوء.. وأنهم منذ اليوم هم الذين يملون ما يكتب فى هذه الصفحات، من خير أو شر.
وفى قوله تعالى: «وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا» استدعاء لأولئك الذين تخلّفوا عن الإسلام، وحثّ لخطاهم على أن يسبقوا حتى لا يكونوا فى مؤخرة الركب.. وهذا هو السرّ فى التعبير بقوله تعالى «يُؤْمِنُونَ» الذي يدل على الحال المتجددة فى المستقبل الممتدّ..
وفى قوله تعالى: «فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ» هو التحية الطيبة المباركة التي يلقاهم بها الله على لسان رسوله، وهم على عتبة الإسلام.. وفى هذا الترحيب بهم أنس لهم، وطمأنينة لمستقبلهم، فهم فى أمن وسلام، وفى خير وعافية:
«سلام عليكم».. أي سلام يشتمل عليكم، ظاهرا وباطنا.
فإذا أنسوا لهذه التحية الكريمة، تلقّوا تحية أعظم وأكرم.. «كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ» فهذه الرحمة التي أوجبها الله على نفسه، رحمة منه وكرما وفضلا، هى التي تضفى على الداخلين فى الإسلام، لأمن والسلام، بالتجاوز عمّا قترفوا من قبل من آثام.. فهم أبناء لإسلام منذ اليوم الذي دخلوا فيه، ولا شىء عليهم مما اقترفوه من قبل.. «كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» وهذا السوء الذي فعلوه بجهالة، هو ما كان منهم من حرب على الإسلام، وأذى للمسلمين، الأمر الذي جعلهم يدخلون الإسلام وأشباح هذه المنكرات تقضّ مضاجعهم، وتكاد تفسد عليهم حياتهم مع الدين الذي دخلوا فيه.. فكان قوله تعالى: «كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» - كان هذا ردّا لاعتبارهم، وتصحيحا لوجودهم، وسكنا لنفوسهم، وبردا وسلاما على قلوبهم.
196
قوله تعالى: «وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ» هو بيان لما تحمله دعوة الإسلام من آيات بينات، وبيان مبين، بحيث ينفضح على أضوائها أولئك الذين يسلكون طريقا غير طريقها، إذ يرى كل عاقل أنهم يمشون فى ظلام، ويعيشون فى ضلال.
الآيات: (٥٦- ٥٨) [سورة الأنعام (٦) : الآيات ٥٦ الى ٥٨]
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (٥٦) قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (٥٧) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (٥٨)
التفسير: قوله تعالى: «قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» التفات إلى هؤلاء المشركين، الذين أرادوا النبىّ على أن يطرد من اجتمع إليه من الفقراء والمستضعفين، ثم ليتحدث بعد هذا إليهم هم، إن كان له معهم حديث! وقد أمر الله النبىّ أن يلقى هؤلاء المشركين بهذا القول الفصل فيما بينهم وبينه:
«إِنِّي نُهِيتُ» أي تلقيت نهيا من ربى «أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» من أصنام، أو ملائكة أو جنّ، أو كواكب، وما أشبه ذلك..
وقوله تعالى: «قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ» بيان لضلال هؤلاء المشركين، وأنهم إنما يعبدون آلهة من صنعة أهوائهم، ونزغات شياطينهم، لا يقلبها عقل، ولا يتعامل
197
معها عاقل.. وتكرار الأمر «قل» هو- كما قلنا- مزيد من عناية الله- سبحانه- بالرسول الكريم، وإشعار له بأنه مأنوس برحمة الله، إذ يضع سبحانه وتعالى على فمه كلماته، وآياته، ليلقى بها المشركين، ويفضح باطلهم، ويكشف ضلالهم.
وقوله تعالى: «قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ» هو تتمة مقول القول، فى قوله تعالى: «قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ» لأن من يتبع أصحاب الهوى يضلّ ولا يهتدى أبدا. وأنتم أيها المشركون أصحاب هوى وضلال، فلو اتبعتكم كنتم مثلكم من الضالين، وحاشا لله أن أفعل هذا، وأن ألقى بنفسي إلى التهلكة.
وقوله تعالى: «قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي» أي على أمر واضح مشرق من صلتى بربّى ومعرفتى به، تلك المعرفة التي لا يدخل عليها شك أو ريب، ولا يلحقها وهن أو ضعف.. وحرف «على» هنا يفيد الاستعلاء والتمكن، وهذا يعنى أن معرفة النبىّ بربّه معرفة كاملة، تملأ القلب يقينا واطمئنانا، فلا يتحول عنها أبدا.
وقوله سبحانه: «وَكَذَّبْتُمْ بِهِ» هو عطف على قوله تعالى: «إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي» من عطف الجمل.. أي إنى على معرفة بربّى وقد آمنت به، وأنتم على ضلال وعمى فكذبتم به، ولم تتخذوه إلها واحدا تعبدونه.
وقوله تعالى: «ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ» أي ليس فى يدىّ العذاب الذي تستعجلونه، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ» (٥٣: النمل).. وما حكاه سبحانه وتعالى على لسانهم فى قوله: «وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» (٣٢: الأنفال)
198
وقوله سبحانه «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ» أي أن إلى الله سبحانه مرجع هذا الذي تستعجلون به من عذاب، إن شاء عجّل لكم العذاب، وإن شاء أخره، وإن شاء رحمكم وأخذ بكم إلى طريق الهدى.. أما أنا فلا أملك من هذا كله شيئا.. «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ..» «يَقُصُّ الْحَقَّ» أي يقضى به، «وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ» فما قضى به فهو الخير كله، وهو العدل كله.
وقوله تعالى: «قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ» إشارة إلى أن النبي ﷺ لو كان فى يده هذا المقترح الذي يقترحونه عليه، ليكون آية صدقه عندهم، لجاءهم به، ولأرسل عليهم العذاب الذي طلبوه، ولقضى الأمر بينه وبينهم، ولم يعد ثمّة جدال، أو خلاف.. ولكن الأمر بيد الله، وهو حكيم حليم، لا يعجّل لكم ما تطلبون، مما فيه هلاككم، وقد اقتضت حكمته أن يمهلكم، فلعل فى امتداد الزمن بكم ما يفسح المجال أمام الكثير منكم، ليهتدى، ويؤمن بالله، ويفوز برضوانه..
فكل يوم يمر بكم دون أن يأتيكم هذا العذاب الذي تطلبونه، هو رحمة من الله بكم، ودعوة مجدّدة منه سبحانه إليكم، أن ترجعوا إليه، وتؤمنوا به، وتكونوا فى عباده المخلصين.. وهذه فرصتكم.. إن أفلتت منكم فلن تعود أبدا.
وقوله تعالى: «وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ» تهديد ووعيد لهؤلاء الذين أمهلهم الله، ولم يعجل لهم العذاب، ليصححوا عقيدتهم، ويرجعوا إلى ربهم.. ولكن الظالمين ظلوا على عتوّهم، وكفرهم، وعنادهم.. والله عليم بهم، وسيأخذهم بذنوبهم: «يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا»..
199
الآيات: (٥٩- ٦٢) [سورة الأنعام (٦) : الآيات ٥٩ الى ٦٢]
وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٥٩) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٦٠) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (٦١) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (٦٢)
التفسير: بدأت السورة بآيات فيها عرض لجلال الله، وعظمة ملكه، وبسطة سلطانه، وسعة علمه، ثم جاءت بعد ذلك بمواجهة النبي وقومه، وخاصة المشركين منهم، الذين أنفوا أن يستجيبوا للرسول، لأنه بشر مثلهم، وأبوا أن يدخلوا فى دين يجعلهم والأرقاء والفقراء على سواء..
ثم تجىء الآيات بعد ذلك، لتعرض جانبا من جلال الله وعظمته، ليكون فى ذلك ذكرى لمن غفل عن الله، ونسى ما ذكّر به من قبل.
وقوله تعالى: «وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ» الضمير فى «وعنده» يعود إلى الله سبحانه وتعالى، حيث جاء لفظ الجلالة فى قوله تعالى: «وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ».. الآية (٥٨).
200
ومفاتح الغيب: مفاتيحه التي تفتح بها خزائنه المودع فيها الغيب..
والغيب: ما غاب عنا إدراكه بحواسنا أو بعقولنا.
والمعنى: أن الغيب المحجب عنا فى أطواء الزمان أو المكان، هو مما استأثر الله- سبحانه- بعلمه وأن ما يضمره هؤلاء الظالمون، من شر، وما يبيتونه من سوء، هو واقع فى علم الله، وسيحاسبون على كل صغيرة وكبيرة منه والتعبير عن الغيب بأنه مودع فى خزائن، وأن هذه الخزائن لها مفاتيح، وأن هذه المفاتيح لا يعلمها إلا الله- فى هذا إشارة إلى أن الغيب الذي استأثر الله بعلمه، أبعد من أن ينال، أو أن يطلع عليه أحد، إلا لمن أذن له الرحمن، ممن اصطفاه من خلقه.
وفى هذا يقول سبحانه: «عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ» (٢٦- ٢٧: الجن).
وإظهار الرسول على الغيب، هو إعلامه به من قبل الله تعالى، بما يوحى إليه من أنباء الغيب، كما يقول سبحانه: «تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا» (٤٩: هود).
وقوله تعالى: «وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ» هو بيان لبعض علم الله..
وتخصيص البر والبحر، لأنهما مما يقعان تحت حواسنا، وقوعا دائما متصلا..
ومع هذا فإنهما مما هو غيب عنا، إذ أن كل ما نعلم من أمرهما هو قليل قليل إلى ما لا نعلم.. ثم إن هذا العلم الذي نعلمه هو جهل بالنسبة لعلم الله، الذي يعلم حقائق الأشياء، وما أودع فيها من أسرار، أما علمنا فهو واقف عند ظواهرها، لا ينفذ إلى الصميم من أعماقها.
201
وقوله سبحانه: «وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ» هو تفصيل، بعد تفصيل، بعد إجمال.. فقد جاء علم الله عاما شاملا: «وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ» ثم جاء مفصلا..
«وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ» ثم فصل هذا المفصل «وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ» إلا يعلمها، وإلا هى «فِي كِتابٍ مُبِينٍ» أي أن كل شىء وجد أو سيوجد، هو فى علمه منذ الأزل، مسجل فى كتاب محفوظ، لا يتغير ولا يتبدل: «وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ» (٣٤: الأنعام) والكتاب المبين، هو الواضح، المحكم، المتمكن من كل شىء... «وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً» (٢٩: النبأ).
قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ» إشارة إلى نعمة النوم، واليقظة، وأن النوم أشبه بالموت، حيث تسكن فيه الحواس، وتتعطل ملكات الإنسان.. ونوم الإنسان ويقظته كل يوم، فيه تذكير له بالموت والبعث، إن كان مؤمنا، وتصوير لهما إن كان شاكا، ومظاهرة للحجة عليه، إن كان منكرا كافرا..
وفى قوله تعالى: «وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ» بعد قوله تعالى «وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ» إمساك بالإنسان وهو فى حال النوم، كميّت بين الأموات، ووضعه أمام ما كسب فى حال يقظته، قبل أن يحتويه النوم أو يمسكه الموت..
وتلك عملية يرى فيها الإنسان صورة مصغرة لما يكون عليه حسابه يوم القيامة، وأنه ما هى إلا نومة كهذه النومة، حتى يجد نفسه هو وما عمل، بين يدى الله، للحساب والجزاء، وللجنة أو النار..
202
وفى هذا ما يحمل الإنسان على أن يتدبر أمره، ويراجع حسابه، ويستعد لليوم العظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين..
وفى التعبير عن أعمال الناس (بالجرح) «وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ» إشارة إلى الأعمال السيئة، وأنها عدوان على حرمات الله، وجرح لها، حتى لكأنها كائن حىّ، يصاب بطعنة رمح، أو ضربة سيف.. وإذ كانت كذلك فإنه لا بد من قصاص، كما يقول سبحانه: «وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ».
والسؤال الوارد هنا: إذا كان علم الله عامّا شاملا لكل ما يعمل الإنسان من خير وشر، فلم اقتصر به هنا على ما اكتسب الإنسان من سيئات، وما اجترح من حرمات؟.
والجواب على هذا، هو أن سلامة الإنسان قائمة على تجنبه المعاثر، ووقوفه على حدود الله.. فإذا كفّ يده عن اجتراح المحارم، فقد فاز ونجا.. ذلك أنه إذا خلّص نفسه من دواعى الإثم والشر، استقامت طريقه على الحق والهدى، وانطلق فى حرية إلى حيث أمر الله من خير وإحسان.
وقوله تعالى: «ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ» الضمير المجرور بحرف الجر «فى» يعود إلى النهار.. «وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ.. ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ» والمراد بالنهار ليس نهارا بعينه، وإنما هو مطلق النهار، حيث تكون فيه يقظة الإنسان والكائنات الحية.. وحيث تقع فيه كل أعمال الإنسان من خير أو شر.
وقوله: «لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى» أي أن هذا البعث الذي يكون باليقظة من النوم إنما هو لاستيفاء الأجل الذي قدره الله للإنسان فى حياته الدنيا..
وقوله تعالى: «ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» أي أنه بعد استيفاء الأجل المقدور لكم، يرجعكم الله إليه بالموت، ثم يبعثكم بعد الموت لتروا أعمالكم، وتحاسبوا عليها..
203
قوله تعالى: «هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً» بيان لقدرة، وهو أنه- سبحانه- بهذه القدرة، قائم على عباده، آخذ بنواصيهم، لا يملكون شيئا معه من أنفسهم، وأن عليهم حفظة من عنده، يكتبون ما يفعلون، ويحصون عليهم ما يعملون.. «وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ. كِراماً كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ».
(١٠- ١٢: الانفطار) وقوله تعالى: «حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ» مجىء الموت: هو حلول وقته، بانتهاء عمر الإنسان.. فإذا انتهى أجل الإنسان، أدّى رسل الله مهمتهم معه، بانتزاع روحه، دون إمهال أو تفريط..
وقوله سبحانه: «ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ.. أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ» إمارة إلى أن الموت ليس هو نهاية الإنسان، وإنما هو بداية مرحلة جديدة، ونقلة إلى عالم آخر، حيث يبعث الناس، ويردون إلى الله مولاهم الحق، كما هو حق سبحانه فى ذاته، وكما يراه المؤمنون والكافرون يومئذ.. حيث ينادى منادى الحق: «لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟» فيكون جواب المخلوقات جميعها بصوت واحد: «لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ».
الآيات: (٦٣- ٦٥) [سورة الأنعام (٦) : الآيات ٦٣ الى ٦٥]
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٦٤) قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (٦٥)
204
التفسير: وهذا مظهر آخر من مظاهر جلال الله وقدرته، وبسطة سلطانه، وسعة علمه..
فهو سبحانه، هو الذي يرجى لكشف الملمّات، ويدعى عند الشدائد.
حيث تضل عن العقول كل تلك الخرافات التي يعبدها الضالون، ويتعامل معها المشركون..
وقوله تعالى: «مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ» ؟.
استفهام تقريرى، مطلوب الجواب عليه، ممن يدخلون فى مثل هذه التجربة القاسية، التي لا يسلم منها إنسان، فى جميع أحواله وظروفه..
وفى قوله تعالى: «مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ» إشارة إلى أن الشدائد التي تصيب الإنسان فى البر والبحر، هى ظلمات تحجب عنه الرؤية، وتعمّى عليه طريق النجاة، فلا يجد إلا الاستسلام، واللّجأ إلى الله.
والتضرع: التذلل والمسكنة.. والخفية: التخافت، والهمس..
وهذا ما يفعله الكافرون والمشركون، خوفا من أن يفتضح حالهم، وذلك حين تكون الشدة الممسكة بهم غير قاهرة، فإذا كانت الشدة مطبقة ضاغطة، كان منهم الضّراعة والتذلل.. علانية وصراخا..
وفى قوله تعالى: «لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ» ما يكشف عن تلك الطبائع المنكرة، وهذه القلوب القاسية، التي تأبى أن تخلص الإيمان، حتى وهى فى مواجهة الموت، فلا يدعون الله دعاء من هو حاضر فى نفوسهم، مستول على كيانهم، بل يدعونه دعاء الغائب، البعيد عنهم.. «لَئِنْ أَنْجانا» ولم يقولوا لئن أنجيتنا.. لأنهم لا يعرفونه، ولا يعلمون أنه قريب منهم، يسمع سرّهم ونجواهم.
205
ومع هذا، فقد أوسع الله لهم فى باب رحمته، فكشف عنهم الضرّ، ودفع عنهم البلاء.. فلما اطمأنوا، عادوا إلى ما كانوا عليه من شرك وكفر..
«قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ».
وقوله سبحانه: «قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ».
فالله الرحمن الرحيم، هو منتقم شديد العقاب.. قادر على أن يبعث على هؤلاء المشركين المحادّين لله ورسوله، صواعق مهلكة من السماء، أو بحارا مغرقة من الأرض، أو أن يلبسهم شيعا، أي يجعلهم أهواء متفرقة، ومذاهب متقاتلة، يضرب بعضهم بعضا، ويذيق بعضهم بأس بعض..
وقوله تعالى: «أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً» أي يخلطكم شيعا وفرقا، حتى ليكاد يلبس بعضكم بعضا، كما يلبس الجسد الثوب، مع تفرقكم مشاعر وعواطف ونزعات.. وهذا هو البلاء، أعظم البلاء، يصاب به مجتمع، يحويه مكان واحد، وحياة واحدة.. وإنه لا نعمة أعظم من نعمة الألفة بين قلوب الجماعة، تلك الألفة التي تجمعها على الحب والمودة والرحمة، وفى هذا يقول الله تعالى: «وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً».
وقوله تعالى: «انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ».
إلفات لكل ذى عقل أن ينظر إلى هذه الآيات التي تكشف عن جلال الله، وقدرته، وعلمه وحكمته، والتي يجلّيها فى معارض شتّى، بحيث يرى منها كل ذى نظر، وجه الحق، ويتعرف طريقه إلى الله.. وما ذلك إلا ليتنبه هؤلاء
206
الغافلون، ويفقه أولئك الجاهلون.. لعلّ لمعة من لمعات الهدى والإيمان، تضىء ظلام عقولهم، وتكشف ضلال قلوبهم..
الآيات: (٦٦- ٦٧) [سورة الأنعام (٦) : الآيات ٦٦ الى ٦٧]
وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (٦٦) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٦٧)
التفسير: ومع هذه الآيات البينات، وتلك المعارض المشرقة التي ترفعها لأعين الناس، فإن كثيرا من الناس ضلّوا عنها، وكفروا بها، وأنكروا الواقع المحسوس الذي يجابه حواسّهم من نورها السنىّ، وأريجها العطر.
وفى قوله تعالى: «وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ» تشنيع على هؤلاء المعاندين من زعماء قريش وساداتها.. وأنّهم إذ جحدوا الحقّ، فقد جحدوا كذلك معه عاطفة القرابة والرحم.. وأنهم بدلا من أن يكونوا إلى جانب النبىّ المبعوث منهم، ينصرونه ويشدّون أزره- كانوا حربا عليه، وعلى من ظاهره، وآمن به.
وفى كلمة «قومك» تسفيه لهؤلاء القوم الذين لم يستنّوا مع النبىّ سنّتهم فى الحياة التي يحيونها، بل لقد خرجوا عليها خروجا فاضحا.. ذلك أن من عاداتهم التي تكاد تكون طبيعة فيهم، الانتصار للقريب، والاستجابة لدعوته.. ومن مأثور أقوالهم فى هذا: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» ومنه قول شاعرهم:
وقوفا بها صحبى علىّ مطيّهم يقولون لا تهلك أسى وتجمل
لا يسألون أخاهم حين يندبهم فى النائبات على ما قال برهانا
فكيف وداعيهم هو هذا النبىّ، الذي يدعوهم إلى ما فيه خيرهم
وسعادتهم.. «يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ، وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ، وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ».
وقبل هذا وذاك، هو يدعوهم إلى أن يرفعوا وجوههم إلى السماء، وأن يرتفعوا بأنفسهم عن هذا الامتهان المهين، وهم عاكفون على قطعة حجر، أو خشب، يعبدونها، ويعفّرون وجوههم بالتراب بين يديها؟
وقوله تعالى: «قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ» هو تهديد لهؤلاء المشركين بأن يتركوا ليد الضياع والهلاك، بعد أن أدّى النبىّ رسالة الله إليهم، فهم الذين جنوا على أنفسهم تلك الجناية التي أمسكت بهم على مواقع الشرك والضلال.. والنبىّ ليس وكيلا عنهم، بل هم راشدون يتولّون أمر أنفسهم، ويحاسبون على ما يقع منهم.
وقوله سبحانه: «لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ» إما أن يكون من مقول القول الذي قاله النبىّ لهم، وأسمعه إياهم، وإما أن يكون من الله سبحانه ابتداء..
والمعنى أن لكل أمر عاقبة ونهاية، وسوف تعلمون أيها المشركون عاقبة أمركم، وسوء مصيركم..!
الآيات: (٦٨- ٧٠) [سورة الأنعام (٦) : الآيات ٦٨ الى ٧٠]
وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٦٨) وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٦٩) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠)
208
التفسير: بعد أن صرّف الله الآيات للنّاس، وأبان لهم فيها معالم الطريق إليه، فآمن من آمن، وكفر من كفر، أمر سبحانه النبىّ الكريم، أن يخلص بنفسه وبدينه من المشركين، وألا يتحكك بهم، حتى لا يسمع منهم ما يكره، أو يرى منهم ما يسوء.
وإذ كان النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- حريصا على هداية قومه، وإذ كان بينه وبينهم هذه الرابطة من صلات القربى والمخالطة فى الحياة، الأمر الذي يشق على النبىّ ويعنته، إذا هو اعتزلهم عزلة كاملة، وقطع ما بينه وبينهم من صلات- فإن الله سبحانه وتعالى قد قصر هذا الأمر للنبىّ باعتزال قومه والإعراض عنهم، على الحال التي يخوضون فيها فى آيات الله، ويتخذونها هزوا وسخرية، ففى تلك الحال ينبغى على النبىّ ألّا يخوض معهم فى هذا الحديث، وألا يجادلهم فيما يخوضون فيه، بل يترك هذا المجلس الذي هم فيه، لأنهم على منكر، وهو لا يستطيع أن يغيّر هذا المنكر بيده، أو لسانه، فليغيّره بقلبه.
بتلك الصورة التي يريهم منها منطقا عمليا لما ينكره عليهم.. «وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ».. والخوض فى الحديث، معناه إرسال القول جزافا، بلا حساب ولا تقدير، وذلك لا يكون إلا فى مجال الاستهزاء والاستخفاف بالحديث الذي يدار.
وليس الإعراض الذي يكون من النبىّ فى تلك الحالة، هو إعراض دائم متصل أبدا، وإنما هو إعراض موقوت بهذا المجلس، وبكل مجلس يكون فيه
209
مثل هذا الخوض فى آيات الله من المشركين.. فإذا كان منهم بعد هذا مجلس يجرى فيه حديث جدّ، ووقار، والتزام عقل ومنطق، فلا بأس على النبىّ من أن يعود إلى الجلوس معهم، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ» أي فى حديث غير حديث الدّين الذي يدعون إليه، أو الدّين الذي هم فيه.. فإذا خاضوا فى أمور غير أمور الدّين، مما يتصل بحياتهم الخاصة، من تجارة، وحرب، وسلم، وغير ذلك، فإن الخوض هنا لا يمسّ الدّين، ولا يجرح مشاعر النبىّ.. وإنه لا بأس على النبي من الجلوس معهم.
وقوله تعالى: «وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» هو تنبيه للنبىّ، وتحذير له من تلك المجالس، التي تدور فيها أحاديث المشركين، هازئة عابثة بالدين، وأنه إذا كان النبىّ فى مجلس مع هؤلاء المشركين، ثم جرى الحديث بينهم فى هذا الاتجاه، ثم كان من النبىّ أناة واستماع، طلبا لكلمة حق تجرى على لسان أحدهم، أو التماسا لمدخل يدخل به إلى الحديث معهم فيما هو حق وخير، فإن هذا الموقف من النبىّ هو مما يدخل فى أمر الحظر الذي جاء فى قوله تعالى «وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ» وأن هذا أيضا مما يغفره الله للنبى، ويتجاوز له عنه، إذ كان ذلك عن سهو ونسيان، لما وقع فى نفسه من رجاء فى هداية القوم.. ولكن إذا ذكر النبىّ فى تلك الحال ما أمره الله به من الإعراض عنهم، فليعرض عنهم فى الحال، وليأخذ نفسه من بينهم بلا مهل، حتى لكأنه وقع تحت خطر يتهدّده، ويطلب النجاة منه.. وفى هذا إشعار للنبىّ بأن مجالسة القوم- وهم فى تلك الحال- شر مستطير، يجب أن يكون على ذكر منه دائما، وعلى حذر منه أبدا..
وفى قوله تعالى: «وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ» إلفات قوىّ للنبىّ، لحراسة نفسه من هذا الخطر، وتحريض شديد له على أن يكون على حذر دائما من
210
هؤلاء القوم، ومن مجالسهم، التي لا تنضح بغير الشر والسوء..
والشيطان لا سلطان له على النبىّ، بل لا سلطان له على أىّ مؤمن صادق الإيمان، كما يقول الله سبحانه: «إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (٩٩- ١٠٠ النحل).
والباء فى «به»
هنا للسببية، أي أنهم أصبحوا مشركين بسبب متابعتهم للشيطان، واستسلامهم لغوآياته.
وفى نسبة هذا النسيان من النبىّ إلى الشيطان، وإضافته إليه، زيادة فى تقبيح هذه المجالس التي يخوض فيها المشركون فى آيات الله، وأنها تحت سلطان الشيطان، يمسك فيها زمام الموقف، ويجرى على ألسنة القوم ما يتساقط منها من هزء وسخرية.. ومجلس هكذا يحضره الشيطان، ويدبر الحديث فيه، لا ينبغى للنبىّ أن يكون من شهوده، فإن كان فيه لحظة- تحت أي ظرف- وجب أن ينتزع نفسه منه انتزاعا.
وقوله تعالى: «وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» إشارة إلى أن ما يقع من المشركين فى تلك المجالس الهازئة الهازلة من منكر، لا يمسّ المتقين بسوء، ولا يحمّلهم شيئا من أوزار هؤلاء القوم.
ولكن تجنّب هذه المجالس هو حماية للمؤمنين من أن تصيبهم عدوى هذه الأحاديث، وإن من الخير لهم، والسلامة لدينهم، أن يتّقوا هذه المجالس، ويحذروها..
وهكذا فى كل شر، من قول أو عمل.. إنه واقع بأهله أولا وقبل كل شىء، وما يصيب غيرهم منه، لا يخفف من آثاره السيئة الواقعة بهم، بل إنه ليضاعف من إثمهم، ويضيف إلى جرمهم جرما.. وما يجب على المؤمنين فى تلك الحال
211
هو أن يعزلوا أنفسهم عن تلك المآثم، وأن يتقوا الخطر الذي قد يصيبهم من مداناتها..
وهذا الأمر المتوجّه به إلى النبىّ، هو أمر عام، متوجّه به إلى كلّ مؤمن، وأنه إذا كان النبىّ- وهو من هو فى وثاقه إيمانه، وقوة يقينه، وعصمة ربّه له- مدعوا إلى تجنب هذه المجالس الآثمة، خوفا عليه فى نفسه ودينه، فإن غيره من المؤمنين أولى بمحاذرة هذه المجالس، واجتنابها..
وقوله تعالى: «وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا» هو توكيد لهذا الأمر الذي أمر به النبيّ، من اجتناب المشركين، وقطع كل ما فى نفسه من أمل أو طمع فى هدايتهم، بهذه اللقاءات التي يحرص على لقائهم فيها.. فإنهم ليسوا من أهل الدين، ولا يرجى أن يكون لهم دين، لأن دينهم الذي يملك عليهم نفوسهم، هو اللعب واللهو، والعكوف على هذه الحياة الدنيا، التي أعطوها كل وجودهم، بحيث لا تتسع نفوسهم لشىء آخر غير هذه الدنيا، وما فيها من لهو ولعب! وليس معنى هذا أن يطوى النبىّ كتاب دعوته، وأن يعتزل الناس والحياة، إنما المطلوب منه هو أن يذكّر بدعوته، وأن يبشر وينذر، وأن يسمع النّاس جميعا كلمات ربّه.. «وذكر به» أي بالقرآن الذي معك، مجرّد تذكير، وليس للنبىّ أن يحمل الناس حملا عليه، وأن يقطع أنفاسه بالجري وراء من لا يستمع إليه، ولا يستجيب له..
وقوله تعالى: «وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها» أي أن دعوة النبىّ هى البلاغ، والتذكير بيوم الحساب، والتخويف من هذا الموقف الذي تبسل فيه كل نفس بما كسبت، أي تعزل وتفرد، ليس معها إلا ما كسبت من خير
212
أو شر.. والأصل فى الباسل، أنه الكريه، المخيف، الذي يتجنبه الناس، ومنه سمىّ الفارس الشجاع: باسلا، لأن المحاربين يتجنبونه، ويصدّون عن لقائه، وفى هذا يقول عنترة:
فإذا ظلمت فإن ظلمى باسل مرّ مذاقته كطعم العلقم
وقوله تعالى: «وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها» أي أن النفس- كل نفس- لا ينفعها إيمان، ولا عمل يوم القيامة، فهى فى دار حساب وجزاء، وليست فى دار إيمان وعمل.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً» (١٥٨: الأنعام) والمراد ببعض آيات ربك، هو ما يكون بين يدى الساعة من علامات وإرهاصات.
وقوله تعالى: «أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ» هو إمساك بمخانق هؤلاء الذين أشركوا بالله، وعرض لهم فى هذا الموقف العظيم على رؤوس الأشهاد، والإشارة إليهم وهم فى قفص الاتهام: «أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا» من سيئات، لا شىء معهم غيرها.. والباء هنا للإلصاق، مثل قوله تعالى: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ» (٢١: الطور) هؤلاء الذين أشركوا بالله، وأفردوا، بما كسبت أيديهم من آثام، ووضعوا موضع المساءلة والحساب- ما تكاد العيون تأخذهم، وترى ما على وجوههم من غبرة ترهقها قترة، حتى يؤذّن مؤذّن الحق، بالحكم الذي حكم عليهم به أحكم الحاكمين: «لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون» لا شىء لهم غير هذا، فليذقوه حميما وغسّاقا.. فتلك هى عاقبة الكافرين.
والحميم: هو الماء الحار الذي اشتدّ غليانه، ومنه الحمم، وهى القطع الملتهبة من النار.
213
الآيات: (٧١- ٧٣) [سورة الأنعام (٦) : الآيات ٧١ الى ٧٣]
قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٧١) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (٧٣)
التفسير: فى هذا المعرض الذي يؤخذ فيه المشركون بشركهم، حيث يلقون فى جهنم، ويصلون نارها، ويشربون حميمها- يتلفت المؤمنون إلى أنفسهم، ويتلمسون طريق الخلاص من هذا المصير المشئوم، فيلقاهم على أول الطريق، النبىّ الكريم، بقول الله تعالى: «أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا».
والاستفهام هنا إنكارى، ينكر فيه المؤمنون على أنفسهم أن يأخذوا طريق هؤلاء القوم الضالين، الذين ساقهم الضلال إلى هذا المصير المشئوم، وأن يتخلّوا عن هذا الطريق المستقيم الذي أقامهم الرسول عليه، ليأخذوا وجهتهم فيه إلى رضوان الله، وإلى جنات لهم فيها نعيم مقيم.
وإنه لخسران مبين، وسفه جهول، أن يرى المؤمن هذا الذي يلقاه المكذبون
214
بالله، من بلاء ونكال ثم يسلك طريقهم، ويتبع سبيلهم.. إنه بهذا يردّ إلى الوراء، على وضع مقلوب: «وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا».. وليس ثمة عذر يقوم لهذه العودة إلى القهقرى، «بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ» وأرانا الهدى مشرقا وضيئا، وأقامنا على الصراط المستقيم..
أفبعد هذا ينتظم المؤمنين ركب مع هؤلاء الضالين، الذين لم يعرفوا غير الظلام لونا، ولا غير الضلال طريقا؟
أنردّ على أعقابنا بعد إذ هدانا الله، ونكون كالذى استهوته الشياطين فى الأرض حيران، وله أصحاب يدعونه إلى الهدى، ويمدّون إليه أيديهم بحبل النجاة، فلا يستجيب لهم، ولا تعلق يده بحبالهم؟.
وفى قوله تعالى: «لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا» إشارة إلى أن المؤمنين هم دعاة هدى مع النبىّ، يحملون إلى الناس هذا الخير الذي بين أيديهم، ويطعمونهم مما طعموا منه.. إن ذلك أشبه بالزكاة المفروضة على المسلمين للفقراء والمساكين.. وهؤلاء المشركون هم فقراء ومساكين، يستحقون العطف والإحسان.. ولكن كثيرا منهم يموت على ضلاله وكفره، دون أن يمد يده إلى تلك اليد التي تقدم له مركب النجاة! وقوله سبحانه: «قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى» يحتمل وجهين:
الوجه الأول: هو أنه وصف للقرآن الكريم، ولما حمل من شريعة، وأنه هو هدى الله، وكل ما سواه باطل وضلال.. وهذا الوصف الذي وصف به القرآن هو وصف لكل كتاب سماوىّ، ولكل شريعة سماوية..
والوجه الآخر هو أن الهدى الذي يؤثّر أثره فى النفوس، فيستجيب المدعوون إليه- هو ما وقع فى نفوس أراد الله لها الخير، ويسر لها السبيل إليه.. أما من لم يرد الله أن يهديه فلا هادى له أبدا.. وفى هذا يقول الله تعالى:
215
«فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ» (١٢٥: الأنعام) ويقول سبحانه: «مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً» (١٧: الكهف) ويقول سبحانه: «إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ» (٥٦: القصص) وقوله تعالى: «وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ» معطوف على مقول القول:
«قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ».
ووجه آخر.. وهو أن يكون المراد بالواو فى قوله تعالى: «وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ» واو الحال، والجملة بعدها حال..
وهذا الوجه يؤيد ما ذهبنا إليه فى فهمنا لقوله تعالى: «قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ» على الوجه الآخر، بمعنى أن من أراد الله له الهدى اهتدى.. ومع هذا فإن الله قد كلفنا أن نهتدى بهداه الذي ندعى إليه، وأنّ كون الأمر كله لله لا يرفع عنا هذا التكليف، ولا يعفينا من مسئولية الجمود على ما كنّا فيه من ضلال، فهذا الإيمان الذي دخل قلوبنا هو من هدى الله لنا، ومع هذا فهو من كسبنا. إذا استجبنا لأمر الله، واستقمنا على ما دعانا إليه.
وقوله تعالى: «وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ» معطوف على جملة «لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ».. أي أمرنا بأن نسلم لرب العالمين، ونستجيب لدعوته، وأن نقيم الصلاة، وأن نتقيه، ونتجنب محارمه، ونلتزم حدوده..
وفى عطف الأمر فى قوله تعالى: «وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ» على الخبر فى قوله تعالى: «وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ» إشارة إلى أن الخبر يتضمن الأمر والإلزام، وأن قوله تعالى: «وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ» معناه: أسلموا لله رب العالمين.
216
والحكمة فى المخالفة بين المطلبين، مطلب الإسلام لله والإيمان به، ومطلب إقامة الصلاة وتقوى الله، إذ جاء المطلب الأول بصيغة المتكلم، على حين جاء المطلب الثاني فى صيغة المخاطب- هى أن الإيمان بالله مطلوب من الإنسان أولا أن يبحث عنه بنفسه، وأن يهتدى إليه بعقله، فإذا هو أصبح فى المؤمنين، كان مهيأ لأن يتلقى شريعة هذا الدين الذي آمن به، وأن يتعرف على ما ينبغى أن يؤديه لله الذي عرفه، وأسلم له.. من عبادات، وطاعات.. فكانت الصلاة بعينها، هى المطلوب الأول من المؤمن أن يؤديه لله، ويتصل به عن طريقه..
ثم كانت «التقوى» على إطلاقها، هى المطلوب الذي يجمع جميع الطاعات والعبادات، ومنها الصلاة، التي أفردت بالذكر، لعظم شأنها فى تحقيق التقوى.
وقوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» هو تذكير بالله، وبالموقف الذي يقفه الناس بين يديه يوم القيامة.
وقوله سبحانه: «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ» عرض لقدرة الله وجلال عظمته، وأنه قادر على أن يبعث الناس بعد موتهم، ويحشرهم إليه، ويوفّيهم حسابهم عنده..
وفى قوله تعالى: «بِالْحَقِّ» إشارة إلى أن هذا الخلق الذي خلقه الله من سماوات وأرض، وما فى السموات والأرض، وما هو غير السموات والأرض- كله خلق بالحق، أي متلبسا بالحق.. كل ذرة فيه عن تقدير وعلم، وحكمة، وليس عن مصادفة عابثة أو هوى لاه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ» (٣٨- ٣٩:
الدخان) وقوله سبحانه «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ..» (١١٥- ١١٦ المؤمنون).
217
وقوله تعالى: «وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ» إشارة إلى أن هذا الخلق الذي خلقه الله سبحانه، كان عن أمره وتقديره، وأن لا شىء يعجزه، وأن تقدير المخلوقات، ومجيئها على صفاتها وأحوالها وأزمانها، كل ذلك كان بالحق، وبالحساب، وبالتقدير.
وقوله سبحانه: «قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ» تقرير لهذه الحقيقة، وأنه سبحانه حين ينفخ فى الصور لم يكن هذا النفخ إلا عن أمره، وقوله الحق لنافخ الصور: «أن انفخ فيه» وليس عن مصادفة عمياء.
وقوله تعالى: «عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ» عرض آخر لسعة علم الله، وسلطان قدرته، فهو «الحكيم» الذي لا يصدر عنه إلا ما كان متلبسا بالحكمة، قائما على الحق، «الْخَبِيرُ» الذي تقوم حكمته على علم شامل بما هو حق وخير.
الآيات: (٧٤- ٧٩) [سورة الأنعام (٦) : الآيات ٧٤ الى ٧٩]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٧٤) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (٧٦) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨)
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩)
218
التفسير: فى هذه الآيات أمور:
أولا: صلتها بالآيات التي قبلها.
فهنا قضية، يعرض فيها موقف الإنسان من الإيمان بالله، وأن النّاس ليسوا سواء فى الانتفاع بما أودع الخالق فيهم من قوى العقل والإدراك، للتهدّى إلى الخالق والبحث عنه، والإيمان به..
وهناك فى الآيات السابقة مواقف للمشركين من الدعوة الإسلامية، وتأبّيهم عليها، وإعراضهم عنها، بعد أن جاءتهم بآياتها المشرقة، وأقامت بين أيديهم شواهد ناطقة تشهد بوجود الله، وتوقظ قلوبهم النائمة، وتنبه عقولهم الغافلة، إلى النظر إليه فى ضوء تلك الآيات البينات..
فما أبعد الشّقة بين الموقفين، وما أشد التباين بين الحالين! وهنا إبراهيم، الذي هو الأب الأكبر لهؤلاء المشركين من قريش، والذين يدّعون- كذبا- أنهم على دينه، يطوفون بالبيت الذي طاف به، ويعبدون الإله عبده أبوهم الأول، إبراهيم عليه السلام.
وهناك هؤلاء المشركون من أبناء إبراهيم، وتلك أصنامهم التي شوّهوا بها معالم البيت العتيق، وأفسدوا بها الدّين الحنيف، الذي عبد الله عليه فى هذا البيت، الذي لا يزال قائما يشهد هذا السفه الذي هم فيه.
وهنا داع يدعو إلى الله، هو إبراهيم عليه السلام، ويقف من الأصنام وعبّادها هذا الموقف الذي تتهاوى فيه الأصنام، حين يفضحها بمنطقه، قولا، وعملا.
وهناك داع يدعو إلى الله، بدعوة إبراهيم، هو محمد، صلوات الله وسلامه عليه، ويقف من تلك الأصنام وقفة إبراهيم، فيفضحها ويكشف ضعفها وعجزها، ثم يدعها لتدفن فى غياهب الضّياع.
219
ثانيا: «آزر».. ومن يكون هذا الإنسان؟.
القرآن الكريم يقول: «وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ».
ولكن المفسّرين يذهبون فى هذا الأب مذاهب شتّى.
فمن قائل: إن اسمه «تارح» ومن قائل: إن آزر اسم جدّه، أو عمّه، والعمّ والجدّ يسميان أبا مجازا!! وذهب بعضهم أن «آزر» اسم صنم، وهذا القول ينسب إلى ابن عباس، وقد فسّره الزمخشري: أتعبد آزر! منكرا عليه ذلك! (أي أن إبراهيم ينكر على أبيه أن يعبد هذا الصنم آزر).
وذهب آخرون إلى أنه وصف فى لغة قومه، ومعناه المخطئ، وقيل بل معناه: الأعوج.
وقيل معنى «آزر» الشيخ الهرم.
ويقول الزجاج: ليس بين النسّابين اختلاف أن اسم أبى إبراهيم «تارح» ! والذي دعا المفسرين إلى تلك المقولات، هو ما جاء فى التوراة من نسبة إبراهيم إلى أبيه الذي تسميه التوراة «تارحا» وقد اعتمد المفسرون هذه النسبة وأخذوا بها، وتأولوا لها ما جاء فى القرآن.. ولم تحدثهم أنفسهم بأن يتأولوا هذه النسبة التي جاءت فى التوراة كما تأولوها فى القرآن.. ولم تحدثهم أنفسهم بأن فى التوراة تحريفا وتبديلا تناول كل شىء، حتى العقيدة..!
والذي ينبغى أن يكون عليه الأمر فى هذا الموقف، هو الوقوف عند ما جاء به القرآن الكريم، الذي يقول الله سبحانه وتعالى فيه: «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ» (٤٨ المائدة) فالقرآن هو الذي يهيمن على ما سبقه من كتب، ولا تهيمن عليه، ويقضى عليها، ولا تقضى عليه..
220
وقد جاء القرآن الكريم فى الحديث عن إبراهيم منسوبا إلى أبيه، باسم هذا الأب، وهو «آزر» : هكذا: «وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ». فكيف يجوز لقائل أن يقول فى هذه النسبة، وفى مسمى هذا الاسم قولا؟ إنه أبو إبراهيم بلا شك، وإنّ اسمه «آزر» بلا ريب.. هكذا قال القرآن، وهكذا يجب أن نقول.
وليس هذا فحسب، فإن القرآن قد ذكر مواقف بين إبراهيم وأبيه هذا، فقال تعالى: «وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً» (٤١- ٤٢ مريم).
وقال سبحان على لسان إبراهيم: «وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ» وقال جلّ شأنه: «وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ» (١١٤: التوبة) فالجدل والحوار كان دائما بين إبراهيم وأبيه، وفى مواجهته، وليس مع جده، أو مع صنم! وقد أثرنا هذه المسألة، لأنها تمس الصميم من القرآن الكريم، وتنبىء عن مدى صدقه، وأنه تنزيل من العالمين، كما يقول هو عن نفسه، أو أنه من عمل «محمد» ومن تلقياته التي أخذها من أهل الكتاب وغيرهم، كما يتخرص المتخرصون.
وهنا اختبار عملى لهذه القضية، ومقطع من مقاطع القول فيها..
فإما أن يكون آرز هو الاسم المعروف به أبو إبراهيم، وفى ذلك حكم قاطع بأن القرآن هو كلام الله، يقول الحق، ويأتى بأنباء الغيب، وإما ألا يكون «آزر» على غير هذا الوصف، فيكون القرآن كما يقول فيه المكذبون به، والكائدون له..
وهذا أمر يمكن أن يحقّق تاريخيا.. ولا أحسب أن اليهود تركوا هذه
221
المسألة دون أن يحققوها، ولا أن المتربصين بالقرآن غفلوا عن هذا الخلاف الذي بينه وبين التوراة.. ولو أنهم وجدوا فى هذا مطعنا على القرآن لكان ذلك من أقوى حججهم عليه. وطعناتهم له، الأمر الذي لم يقله اليهود، الذين لم يتركوا قولا يقولونه فيه. ويفترونه عليه، ولم يقله أحد من غير اليهود، الذين رصدوا للقرآن، وجعلوا يتصيدون كل سانحة من وهم أو خيال تسنح لهم فيه..
ثالثا: الطريق سلكه إبراهيم فى التعرف على الله..
وهو الطريق الاستدلالي بالنظر فى ملكوت السموات والأرض.. وهو نفس الطريق الذي جاءت الرسالة لإسلامية به، فى دعوتها إلى التعرف على الله والإيمان به..
وقد سلك القرآن المنهج نفسه، الذي تعرف به إبراهيم على الله، فى دعوة المشركين إلى التعرف عليه..
فكان أول ما لفت القرآن نظر المشركين إليه، هو النظر إلى آلهتهم تلك التي يعبدونها، من أصنام وأوثان، وأن يعيدوا النظر إليها مرة بعد مرة، ليروا إن كانت تدفع عن نفسها ضرا، أو إن كانت تسمع أو تعقل ما يناجيها به العابدون لها، أو تستجيب لما يرجى منها من دفع ضر أو جلب خير..!
وفى هذا يقول الله تعالى على لسان نبيه الكريم مخاطبا المشركين: «وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ» (٧٣: النحل) ويقول سبحانه: «وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً» (٢٢: العنكبوت) ويقول سبحانه على لسان المشركين: «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» (٣: الزمر)
222
وهكذا يلقاهم القرآن فى كل سبيل مع هذه الآلهة، حتى ينفضح أمرها لهم، وتزول مشاعر الهيبة والتوقير لها فى نفوسهم.. وهذا ما فعله إبراهيم إذ يقول لأبيه: «أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً؟ إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» وإذ يقول:
«يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ».
فإذا وهت هذه المشاعر، وتقطعت تلك الأسباب التي بين المشركين وبين آلهتهم تلك- جاء القرآن إلى هؤلاء المشركين ليجيب على هذا السؤال الذي فرضه هذا الفراغ الذي أصبحت فيه قلوبهم، بعد أن تبخرت منها سحب الأصنام التي كانت مخيمة عليها.. وكان السّؤال المفروض هو: وأين الإله الذي نعبده إذن، إذا كانت أصنامنا هذه ليست آلهة أو شبه آلهة؟..
ويجىء الجواب من القرآن الكريم بأن الله قريب منهم، وما عليهم لكى- يروه- إلا أن ينظروا فى هذا الوجود، وفيما فيه من مبدعات تدلّ على قدرة الخالق، وتحدّث عن سعة علمه، وبسطة سلطانه، وروعة حكمته.
والقرآن المكىّ يكاد يكون كلّه معرضا لآيات الله، ودعوة مثيرة للعقول، مغرية لها بالنظر فى ملكوت السموات والأرض.. ولا نستشهد لهذا حيث آيات القرآن أكثر من أن تحصى فى هذا الأمر.. وفى سورة الأنعام هذه التي نحن بين يديها، عشرات الآيات.
وقد كانت نظرة إبراهيم إلى الله قائمة على هذا الوجه الاستدلالىّ، للتعرف على ربّه، والإيمان به.
«وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ» أي نفتح نظره، وعقله، وقلبه، على هذا الوجود، ليتعرف إلى الله.. والملكوت، هو الملك الخاضع لسلطان الله.
وقد وجّه إبراهيم نظره، وعقله وقلبه، إلى ملكوت السموات والأرض..
223
فماذا رأى؟ «فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً» أي كوكبا من تلك الكواكب السيارة، كالزهرة مثلا.. وقد رصد إبراهيم هذا الكوكب منذ أطلّ على هذا العالم من الأفق الشرقي، وتبعه فى مسيره، وكان كلما علا فى السماء وازداد ألقا وإشراقا، ازداد إبراهيم به تعلقا وشغفا، إذ حسبه أنه الكائن الأعلى، القائم على هذا الوجود.. فلمّا هوى إلى الأفق الغربي خفق قلب إبراهيم خفقة الخوف على هذا الذي تصوّره إلها، أن يهوى وراء هذا الأفق، فلمّا هوى أخلى إبراهيم بصره، وعقله، وقلبه منه، ونفض يديه من هذا الإله، كما ينفض الحىّ يديه من ميت عزيز، أودعه القبر، وهال عليه التراب.. وقال: «لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ»..! «فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي».. وتبعه فى مسيرته من الأفق إلى الأفق.. حتى إذا هوى إلى المغيب، ودفن وراء الأفق الغربي، كاد يؤرقه اليأس من أن يعثر على الإله المنشود، وقال: «لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ».
والسؤال هنا: كيف يطلب إبراهيم الهداية من ربّه، وهو يبحث عنه؟
والجواب: أن إبراهيم كان على يقين بأن لهذا الوجود ربّا، وأن لتلك المصنوعات صانعا، قادرا، مدبّرا.. ولكن من هو؟ وأين هو؟ وكيف هو؟ هذا ما يبحث عنه إبراهيم.. وهذا ما أشار إليه قوله تعالى: «وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ» فهو يؤمن بحدسه ومشاعره أن لهذا الوجود إلها، وهو فى بحثه هنا إنما ليعرف هذا الإله، ويستيقنه.. وذلك قبل أن يختاره الله لرسالته..
وسؤال آخر:
لماذا كان أوّل ما نظر إليه إبراهيم من ملكوت الله، هو الكوكب،
224
أي النجم، ثم القمر، ثم الشمس؟ ولم لم يتجه نظره أولا إلى الشمس إذ كانت أعظم ما يواجه الإنسان من هذه المخلوقات؟
والجواب.. أن وحشة الليل، ورهبة ظلامه، تجعل لأى لمعة من لمعات الأنوار، وقعا على النفس، وتأثيرا على المشاعر، وليست كذلك النظرة إلى الشمس التي تكاد سطوة أضوائها، تذهب بكل إحساس بوجودها! وهذا ما نراه فى نظر إبراهيم إلى هذا الكوكب أولا، ثم إلى القمر ثانيا..
ذلك أن هذا الكوكب، وهو نجم من تلك النجوم التي يتلألأ ضوؤها كلّما اشتدّ ظلام الليل، وأطبقت حلكته، هو فى تلك الحال أفعل فى النفس، وأكثر إلفاتا للنظر من القمر، الذي يغمر نوره ما احتواه الليل كله..
وإذ لم ير إبراهيم فى ملكوت الليل وما يبزغ فيه من نجم أو قمر- إذ لم ير فى هذا الملكوت إلهه الذي ينشده، شخص ببصره إلى ملكوت النهار، فرأى الشمس تبسط سلطانها عليه، فعلق بها نظره، واحتواها عقله وقلبه، وقال:
«هذا ربى.. هذا أكبر!!».. ولكن الرّب الكبير لم يكن إلّا خدعة خدع لها إبراهيم، حتى إذا أفلت ودّعها غير آسف، وأشرق قلبه بنور الإله الحق، الإله الذي يسيّر هذه الكائنات ويصرّفها كيف شاءت إرادته، واقتضت حكمته.. «فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ.. إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ».
وهكذا عرف إبراهيم ربّه، وهكذا يعرف كل ذى عقل ربّه، إذا هو نظر، وفكّر، وعقل..!
225
الآيات: (٨٠- ٨٢) [سورة الأنعام (٦) : الآيات ٨٠ الى ٨٢]
وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠) وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢)
التفسير: وإذ يعرف إبراهيم ربّه، ويملأ قلبه من الإيمان به، يقف من قومه مسفّها أحلامهم، زاريا عليهم عبادتهم لهذه الأحجار التي ينحتونها بأيديهم، ثم يعبدونها، ويذلّون بين يديها.. «أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ؟» (٩٥: الصافات).
«وَحاجَّهُ قَوْمُهُ» أي جادلوه فيما يقول فى شأن آلهتهم، وفى الإله الذي يدعوهم إليه.. هو يريدهم على أن يدعوا هذه الأصنام، ويعبدوا ربّ السموات والأرض، وهم يريدونه على أن يعبد آلهتهم، ويدع الإله الذي يعبده، ويحذّرونه أن يتخذ غير هذه المعبودات معبودا، وإلّا مسّه منها ضرّ، وأصابه سوء.. فكان جوابه: «أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ؟». إنه قد عرف الحق واستيقنه، فكيف تقوم لهم حجة عنده، تصرفه عن هذا الإله، الذي شهد آياته، وعرف ما عرف، من علمه، وقدرته وحكمته.. ؟ ثم كيف يخاف هذه الأحجار الصّماء أن تصيبه بسوء.. إنها لا تملك شيئا، وإن شرّا لن يصيبه منها، إلّا أن يكون ما يصيبه هو مما أراد الله له، وما أراد الله له فكلّه خير.. وكيف يخاف إبراهيم أحجارا صمّاء، على حين أنهم لا يخافون إلها خالقا رازقا، له ملك السماوات والأرض؟ «وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً؟ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ؟»
ويجىء قول الحق جلّ وعلا بالحكم الفصل فى هذه القضية.. «الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ».
ولبس الإيمان بالظلم، هو خلطه به.. والظلم هو الشرك بالله، كما يقول سبحانه: «إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» : فالإيمان المصفّى من الشرك، هو الإيمان الذي يقبله الله من أهله، ويجزيهم عليه الجزاء الأوفى، ويجعلهم فى أمن وسلام، يوم يكون الكافرون فى فزع وكرب وبلاء..
الآيات: (٨٣- ٨٧) [سورة الأنعام (٦) : الآيات ٨٣ الى ٨٧]
وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٨٣) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (٨٦) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٨٧)
التفسير: قوله تعالى «وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ».. الإشارة هنا إلى الحجة، أي هذه حجتنا، والمراد بالحجة ماملأ الله به قلب إبراهيم من إيمان، بما أراه- سبحانه- فى ملكوت السموات والأرض، من دلائل القدرة الإلهية، وسلطانها القوىّ الممسك بكل ذرة فى هذا الوجود.. وبهذا الإيمان وقف إبراهيم وحده، فى وجه هذا الكفر الذي طوى تحت جناحيه مجتمعه كلّه الذي يعيش فيه.. ومع هذا فإنه بالحق الذي يملأ كيانه، قد أخرس كل
227
ناطق، وأفحم كل منطيق، وسقطت بين يدى حجته الدامغة كل مقولة لملحد، وكل حجة لمشرك، وبهذا استحق إبراهيم أن يلقى من ربّه هذا التكريم، وأن ينعته هذا النعت العظيم بقوله سبحانه: «إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» (١٢٠: النحل).
فهو أمة وحده، ومجتمعه أشبه بفرد واحد إزاء هذه الأمة العظيمة، أو هو الأمة، وقومه لا شىء، إذ كان هو الإنسان الوحيد فيها، الذي يحمل عقل الإنسان وينتفع به.
وقوله تعالى: «نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ» هو تنبيه إلى أن هذا الذي كان عليه إبراهيم من قوة الإيمان، ووثاقة اليقين، هو من فضل الله، يضعه حيث يشاء.
وفى قوله سبحانه: «إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ» التفات من رب كريم إلى النبىّ الكريم، وقد نازعته نفسه، وهفت به أشواقه إلى فضل الله وإحسانه، الذي رأى آثاره فى إبراهيم عليه السلام.. فجاء قوله سبحانه: «إِنَّ رَبَّكَ» ليشعر النبي أنه فى ضيافة ربه، وكفى ما يلقاه الضيف الذي ينزل فى ضيافة ربّ العالمين.. «الحكيم» فى تقدير الأمور «العليم» بعباده، وبمن هم أهل لمزيد فضله، وعظيم إحسانه.
ومن فضل الله على إبراهيم- عليه السلام- أن بارك عليه فى ذريته، وجعل من نسله الأنبياء والمرسلين..
«وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا، وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ».. فهذا هو جزاء المحسنين، وتلك هى عاقبة الإحسان، تمتد آثاره
228
إلى صاحبه، وإلى من يتصل بصاحبه، من أهل وولد.. كالشجرة الطيبة تؤتى أكلها كل حين بإذن ربّها، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى على لسان العبد الصالح لموسى، عليهما السلام: «وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ» (٨٢: الكهف).
وفى الجمع بين نوح وإبراهيم إشارة إلى أنهما الأبوان لهؤلاء الأنبياء، كما يقول سبحانه: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ» (٢٦: الحديد).
وقوله تعالى: «وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ».. معطوف على قوله تعالى: «وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ» أي أن هؤلاء المصطفين من عباد الله، هم من ذريّة هذين النبيين الكريمين: نوح وإبراهيم، إذ كان من هؤلاء الأنبياء من ليس من ذرية إبراهيم كلوط مثلا.
وقوله تعالى: «وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ» أي كلّ واحد من هؤلاء فضّل على عالمه الذي كان يعيش فيه، إذ كان رسول الله المبعوث لهداية عالمه هذا، وهو بهذه الصفة صفوة هذا العالم، والإنسان المتخيّر لرسالة السماء.
وقوله تعالى: «وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ» إشارة إلى أن هؤلاء الذين اختصهم الله بهذا الذكر، ليسواهم وحدهم الذين شملهم فضل الله، ومسّتهم رحمته، بل إن من آباء هؤلاء وأبنائهم وإخوانهم من شمله هذا الفضل، ومسّته تلك الرحمة.. سواء من كان منهم نبيّا أو رسولا، أو عبدا من عباد الله الصالحين.. وحسب ذريّة هؤلاء الذين لم يذكروا هنا- حسبهم شرفا وذكرا أن يكون منهم خاتم النبيين، محمد صلوات الله وسلامه عليه.. فهو من ذرية إسماعيل، ومن حفدة إبراهيم.
229
وقوله سبحانه وتعالى: «وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» هو معطوف على محذوف، يفهم من سياق النظم فى قوله تعالى: «وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ» والتقدير: ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم من ألحقناهم بهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم.
وأمر هنا نحب أن نقف عنده ونلتفت إليه:
وهو أن الترتيب الزمنى لم يكن هو الأساس الذي قام عليه النظم القرآنى فى ذكر هؤلاء الأنبياء، من ذرية نوح وإبراهيم.
والملحظ الذي نود أن نشير إليه، هو أن إسماعيل لم يذكر مع إسحق، مع أنهما ولدا إبراهيم، لم يكن له ولد غيرهما، ومنهما كانت جميع ذريته، وإسماعيل هو البكر، وولد له بعده إسحق.
هذه حقيقة لا خلاف عليها عند أهل الكتاب، من يهود ونصارى، كما أنها حقيقة مقررة فى القرآن الكريم.. فلم لم يجىء النظم القرآنى هكذا: «ووهبنا له إسماعيل وإسحاق ويعقوب..» ؟
ولا جواب لهذا إلّا أنه كلام رب العالمين، وأنه لو كان من عمل بشر لما جاء هكذا فى النظم القرآنى، بل لالتزم فيه واضعه الترتيب الزمنيّ.. أما «محمد» فلو أن هذا الكلام كان من وضعه، لكان أول ما يعمله هو أن يبدأ بإسماعيل، لأنه أبوه.. أولا، ولأنه أسبق ميلادا من إسحق.. ثانيا! أليس فى هذا عبرة لمعتبر؟ أليس فى هذا إخراس لكل مقولة تقال فى القرآن الكريم، إنه من قول بشر؟ وبلى، ذلك هدى الله يهدى به من يشاء من عباده..!
230
الآيات: (٨٨- ٩٠) [سورة الأنعام (٦) : الآيات ٨٨ الى ٩٠]
ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٨) أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (٨٩) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (٩٠)
التفسير: قوله تعالى: «ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» الإشارة هنا إلى هذا الفضل الذي فضل الله به تعالى على إبراهيم، ومن اجتباهم الله من ذريته، وأن ذلك لم يكن إلا من هداية الله لهم، وشرح صدورهم للإيمان به، ولولا ذلك لما كانوا من المهتدين.
وقوله سبحانه: «وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» إنكار للشرك، ووعيد للمشركين، وأنه مما يجب على الإنسان العاقل أن يحذره كما يحذر النار التي تمد ألسنتها لتعلق به، وأن هؤلاء المكرمين من عباد الله لم ينالوا هذه المنزلة إلا بالإيمان بالله، ولو أنهم كانوا من المشركين لما نالوا شيئا من هذا، ولكانوا من الخاسرين.
وهذا يعنى أن الهدى وإن كان من الله الذي يهدى به من يشاء من عباده، فإن ذلك لا يعفى الإنسان من أن يطلب الهدى، ويلتمس مواقعه، كما يطلب تحصيل الرزق ويلتمس وجوهه، وألّا يسلم نفسه إلى التواكل والاستنامة، الأمر الذي لا ترضاه البهائم لنفسها، ولا تتخذه موقفا لها فى الحياة، وإلا هلكت، وماتت جوعا، مع أن الله سبحانه وتعالى، كفل لها رزقها، وضمن لها
231
معاشها، إذ يقول جل شأنه: «وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها» (٦: هود) فالموقف السلبي أو العنادىّ من سنن الله، هو الذي يخرج الكائن الحىّ- بل وغير الحىّ- عن طبيعته، وفى هذا ضياعه، وفساد أمره.
وهؤلاء رسل الله، والمصطفون من عباده.. إنهم لو أهملوا عقولهم، وعطّلوا ملكاتهم، لما فتح الله لهم طريق الهداية، ولما يسّر لهم التعرف إليه، ولكنهم أخذوا بالوسائل الموصلة إلى الهدى، فأخذ الله بنواصيهم إليه، ومكّن لهم من الإيمان.. ولو أنهم كانوا على مثل هذا الموقف الذي وقفه ويقفه المشركون والكافرون، لكانوا فى مربط الشرك والكفر، ولضلوا وضل عنهم الطريق إلى الله، وإلى صراطه المستقيم.
وفى قوله تعالى: «وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ»، وفى تعدية الفعل «حبط» بحرف الجرّ «عن» وهو فعل لازم لا يتعدى- فى هذا إشارة إلى أن الأعمال التي يعملها الإنسان من شأنها أن تكون درعا يحميه، ووقاية يتقى بها ضربات الحياة، أمّا أعمال المشركين فإنها سراب خادع، يتخلّى عنهم وقت الحاجة والشدة، وهذا هو السرّ فى تضمين الفعل «حبط» معنى الفعل: تخلى، أو ذهب، أو غاب.. ونحو هذا.
وقوله تعالى: «أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ»..
الإشارة هنا إلى هؤلاء الأنبياء والرسل الذين ذكروا فى الآيات السابقة، فبعضهم آتاه الله الكتاب، فكان رسولا بهذا الكتاب الذي بعثه الله به، وبيّن فيه أحكام شريعته.. وبعضهم أوتى الملك والحكم، وهو نعمة من نعم الله، وسلطان مبين يقيم به- من وفّقه الله- ميزان العدل والحق بين الناس، فيهدى ضالّهم ويقوّم سفيههم، ويحفظ أمنهم وسلامتهم.. وتلك رسالة لها خطرها
232
وأثرها فى إصلاح المجتمع الإنسانى، الأمر الذي جاءت به وله رسالات السماء..
ولهذا كان ذلك مما وصّى به الله سبحانه وتعالى نبيّه داود عليه السلام فى قوله:
«يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ.. إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ» (٢٦: ص)..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى اصطفائه طالوت ملكا، إذ يقول سبحانه:
«إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ» (٢٤٧: البقرة).
وبعض هؤلاء المصطفين آتاه الله النبوة، بلا كتاب، ولا ملك، وإنما هى نور سماوى تشرق به نفس النبىّ، فيكون فى الناس منارة هدى، ومعلما من معالم الخير، يتمثله الناس، ويتأسّون به.
وفى ترتيب هذه النعم على هذا الوجه: الكتاب.. والحكم.. والنبوة، إشارة إلى ما بينها من تفاوت وتفاضل.. فالرسول، صاحب رسالة سماوية، يعالج بها أرواح الناس، ويطبّ لعلهم النفسية.. والملك صاحب رسالة دنيوية، يعالج بها شئون الناس فى الحياة، ويقيمهم على صراط مستقيم، فهو بهذا الوصف- مكمل لرسالة الرسول، ومطبّق للقانون السماوي الذي جاء به الرسول.. والنبىّ- بلا رسالة، ولا حكم- هو «صيدلية» يأخذ منها من يشاء الدواء لروحه وجسده، معا، بالعبرة والعظة، فيما يرى من هذا المثل الكريم للإنسان الكريم..
وقوله تعالى: «فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ»..
233
الإشارة هنا بهؤلاء مراد بها مشركو قريش.. والضمير فى «بها» يعود إلى تلك الآيات والنعم التي حملها أنبياء الله، والتي حمل مثلها محمد صلوات الله وسلامه عليه إلى هؤلاء المشركين.. والمعنى، فإن يكفر هؤلاء المشركون بمحمد وبما بين يديه من آيات الله، فقد وكّل الله بها قوما، يؤمنون بها، ويدافعون عنها، ويحرسونها من كل عدوان.. فهم وكلاء الله وأمناؤه عليها- وهؤلاء هم الطليعة الأولى من المؤمنين، من المهاجرين والأنصار، ثم هم كل من يدخل فى الإسلام إلى يوم القيامة.
وقوله تعالى: «أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ» والذين هدى الله: هم الذين سبقوا إلى الإسلام، وكانوا درعا حصينة له.. والأمر فى قوله تعالى: «فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ» متوجه إلى كل من لم يستجب لدعوة الإسلام، ولم يكن فى هذا الركب الميمون الذي استقبل فجر الإسلام، واكتحل بنور الله.. وهم الذين أشار إليهم الله سبحانه بقوله «فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ»، فمطلوب من كل إنسان يريد الخير، أن يهتدى بهؤلاء الذين هداهم الله.
وهذا الفهم الذي فهمنا عليه الآية الكريمة، هو الذي وقع فى إدراكنا الشخصي، وهو فهم لم نجد من المفسرين من التفت إليه! والذي عليه إجماع المفسّرين، هو أن الأمر فى قوله تعالى: «فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ» موجّه إلى النبي الكريم، وأن الذين هداهم الله فى قوله تعالى. «أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ» هم من ذكرهم الله من الأنبياء والرسل فى الآيات السابقة.
ولهذا كان خروج هؤلاء المفسّرين من الاعتراض الذي استقبلهم به من يقول: كيف يدعى النبىّ إلى الاقتداء بمن سبقه من أنبياء ورسل، وهو إمامهم وقدوتهم؟ - كان خروجهم من هذا ضيّقا حرجا، ومقولاتهم فيه متهافتة مضطربة..
وقوله تعالى: «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً» هو التفات للنبى الكريم من الله سبحانه وتعالى، ودعوة له أن يلقى قومه الذين دعوا إلى الاقتداء بمن سبقهم
234
من إخوانهم إلى الإسلام، وأن يحثّهم على أن يسرعوا ليلحقوا بهم، وليدخلوا فى دين الله مع الداخلين فيه، وذلك أمر لا يتكلّفون له مالا، لأن ما مع النبىّ من كتاب، لا يباع، وإنما هو ذكرى وموعظة للعالمين، أي للناس جميعا..
قريبهم وبعيدهم، على السواء «إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ».
الآيتان: (٩١- ٩٢) [سورة الأنعام (٦) : الآيات ٩١ الى ٩٢]
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٩١) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩٢)
التفسير: وهنا لا نلتقى مع المفسرين أيضا فيما ذهبوا إليه من أن قوله تعالى:
«وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ» هو موجه إلى اليهود.. ويحكون لذلك قصة، مضمونها:
أن النبىّ صلى الله عليه وسلم، سأل حبرا من أحبار اليهود، يقال له مالك بن الصّيف، فقال: «أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى، هل تجد فيها أن الله يبغض الحبر السمين؟ فأنت الحبر السمين! قد سمنت مما يطعمك اليهود!» فغضب اليهودي، وقال: «ما أنزل الله على بشر من شىء» ! فكان قوله تعالى: «وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ» ردّا على هذا القول المنكر.. ونستبعد هذا الخبر من وجوه:
أولا: أن النبي ﷺ لم يكن قد التقى باليهود لقاء مواجها
235
وقت نزول هذه السورة، المجمع على أنها مكية.. ويقوّى من هذا الإجماع على مكيتها، أن اليهود لم يواجهوا فيها مواجهة صريحة متحدّية.
وثانيا: أن النبىّ أعفّ وأكرم من أن يجابه حبرا، هذه المجابهة، التي لا تكشف عن غرض إلا سبّ هذا الحبر، وحقره، وما كان النبىّ سبّابا ولا لعّانا، ولا فاحشا، ولا متفحشا، بل كان فى جميع أحواله على هذا الوصف الكريم الذي وصفه الله به: «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ».
ثالثا: جاء فى الآية: «وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ».. واليهود الذين عاصروا النبىّ لم يعلّموا ما لم يعلموا هم ولا آباؤهم.. بل كانوا أسوأ حالا، وأكثر غباء وجهلا مما كان عليه آباؤهم، حين واجههم القرآن.
ورابعا: غير مستساغ عقلا أن يقول اليهود مثل هذا القول، وأن يقوله حبر منهم، وبين أيديهم التوراة التي لا يختلفون أنها نزلت على موسى، بل وبين أيديهم أسفار أنبياء كثيرين ضمتها التوراة، والتي أطلق عليها «العهد القديم».. ثم كيف يقول الحبر هذا القول والرسول الكريم يسأله بحق الذي أنزل التوراة على موسى؟
والذي نطمئن إليه فى فهم هذه الآية، أن المخاطبين بها هم هؤلاء المشركون من أهل مكة.
وأن الله سبحانه وتعالى ينكر عليهم قولهم: «ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ» إذا كان ذلك من مقولاتهم التي يعذرون بها لأنفسهم فى انصرافهم عن النبىّ وتكذيبهم له، كما يقول الله تعالى عنهم: «أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ؟ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ» (٢٤: القمر) وقوله سبحانه: «وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا؟» (٩٤: الإسراء).
236
فهؤلاء المشركون الذين ينكرون أن ينزّل الله على بشر هديا من السماء يهديهم إلى الحق وإلى طريق مستقيم- هؤلاء لم يقدروا الله حق قدره، ولم ينظروا إلى آثار رحمته، فيما يسوق الله سبحانه إلى عباده من نعم وما يحفّهم به من ألطاف، ينعمون فيها، ويتمتعون بها، فكيف ينكرون على الله أن يسوق إلى عقولهم وقلوبهم، من رحماته، ما يضىء ظلامها ويغسل أدرانها.. ؟
وفى قوله تعالى: «قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ» تحريض للمشركين أن يكونوا أهل كتاب، مثل هؤلاء اليهود الذين كانوا يحسدونهم على أنهم أهل كتاب، وأصحاب شريعة، وأنهم كانوا يتمنّون قبل بعثة النبىّ أن يكون لهم كتاب سماوى، كما يقول تعالى على لسانهم: «لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ» (١٥٧: الأنعام) أي لكنا أهدى من هؤلاء اليهود.
وفى قوله تعالى: «تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً» هو إشارة من بعيد إلى اليهود، بهذا الالتفات إليهم فى هذه المناسبة، وإرهاص بما سيلقاهم به النبىّ بعد هذا من آيات الله، التي تفضح مخازيهم، وتكشف فساد عقيدتهم.. وقد قرئ: «يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا».
والقراطيس جمع قرطاس، وهو الورقة.. إذ كان اليهود لا يتعاملون ولا يعملون بالكتاب الذي بين أيديهم، ولا يعرضونه على الناس كما هو، بل يعرضون منه قراطيس، فيها ما يوافق أهواءهم، ويخفون الكثير مما لا يشتهون..
وقوله تعالى: «وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ» هو خطاب لهؤلاء المشركين من العرب، فقد جاءهم الرسول الكريم بعلم جديد، أذاعه فيهم، ونشره عليهم، فيما يتصل بالألوهية وما ينبغى لها من جلال وتفرد بالوجود..
وقد عرف المشركون هذا، وكانوا يسمعونه ويردّدونه، وإن كانوا لا يؤمنون به..
237
فهم- مع هذا العلم- لا عذر لهم فى أن لم يؤمنوا بالله، بعد أن أراهم الرسول الكريم الطريق إليه، وهذا علم جديد قد جاء إلى العرب، ولم يكن لآبائهم شىء منه.
وقوله تعالى: «قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ» هو دعوة للنبىّ أن يحدّث هؤلاء المشركين عن الله، وأن يكشف لهم الطريق إليه.. أي قل: «هذا هو الله الذي أدعوكم إليه، فإن آمنوا فقد اهتدوا، وإن تولوا فإنما هم فى ضلال، يخوضون فيه خوضا.. فذرهم فى خوضهم يلعبون.
وقوله تعالى: «وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ»
هو ردّ على القائلين: «ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ» فجاء تكذيب الله لهم، وردّه عليهم بقوله: «وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ» أي القرآن وهو كتاب «مبارك» فيه رحمة وهدى وخير لمن آمن به، واهتدى بهديه.. وهو «مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ» من كتب سبقته، وهما التوراة والإنجيل.
وقوله تعالى: «لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها» أم القرى هى مكة، وهى منارة الإسلام، ومتوجه كل مسلم فى صلاته وحجّه.. وهى بهذه المثابة أمّ بلاد الإسلام كلها، ومركز دائرتها، وهكذا تكون على هذا الوصف أبدا.
وقوله تعالى: «وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ».
الضمير فى به، يعود إلى هذا الكتاب المبارك الذي أنزله الله، وهو القرآن.
وخصّ الذين يؤمنون بالآخرة، بالإيمان به، لأن من لا يؤمن بالآخرة، وما بعد هذه الدنيا من بعث وحساب، وثواب وعقاب، لا يؤمن بالله، ولا بكتاب الله، ولا يوقّر حرماته، ولا يقع فى قلبه خشية من منكر..
238
وخصّت الصلاة والمحافظة عليها بالذكر، لأنها أبرز ملامح المؤمنين، وأوثقها صلة بين المؤمن وربه.
الآيات: (٩٣- ٩٤) [سورة الأنعام (٦) : الآيات ٩٣ الى ٩٤]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (٩٣) وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٩٤)
التفسير: فى قوله تعالى: «وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ» اتهام للقائلين بهذه المقولة، فى تصورهم للألوهية، وفى فهمهم القاصر لها، كما أنه تقرير ضمنى بأن بعث الرسل، وإنزال كلمات الله عليهم، هو مما اقتضته حكمة الله ورحمته بعباده.
وهنا فى قوله سبحانه: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ» حماية للرسل- عليهم الصلاة والسلام- من أن يكونوا مظنّة تهمة فى صدقهم، وصدق ما جاءوا به من عند الله.. إذ أن الافتراء على الله، والتلبيس على الناس باسمه، وادعاء النبوة واختلاق ما يكون بين يديها من كلمات الله وآياته- كل هذا عدوان على
239
الله، وتطاول على ما تفرد به سبحانه من قدرة وعظمة، وفى هذا مهلكة وضياع لكل من يتلبّس بمنكر من هذه المنكرات.. وليس ثمة عاقل تسول له نفسه أن يقف هذا الموقف المفضوح، ويعرّض نفسه للفضيحة الفاضحة، والخزي المبين بين الناس! فكيف بأنبياء الله ورسله، وهم دعاة هدى، لا يبغون عليه من أحد أجرا- كيف يكون منهم الكذب على الله والتقوّل عليه بما لم يقل؟
وإذن فالذين يصطفيهم الله لحمل رسالته، ويضع بين أيديهم وعلى ألسنتهم كلماته وآياته- لا يختلط أمرهم على ذى عقل، ولا تلتبس دعوتهم بدعوة أدعياء النبوة، لما بين النبىّ والدعىّ من مفارقات بعيدة، سواء فى ذات النبىّ والدعىّ، أو فى محامل دعوة النبىّ ودعوة الدعىّ.
ففى سلوك النبىّ، استقامة، وصدق، وعفّة، وكمال، فى كل أموره، ظاهرها وباطنها جميعا، مما لا يكون موضع شك أو إنكار عند أعدائه، فضلا عن أوليائه..
وليس كذلك الدعىّ الذي لا يمكن أن يقف هذا الموقف المخزى إلّا إذا كان على قدر كبير من الوقاحة، والتجرد من الحياء، وعدم المبالاة باتهام الناس له، وتشنيعهم عليه..
وفى محامل رسالة النبي.. النور والهدى، والخير، والعدل، والإحسان..
للناس جميعا.. لا لطائفة من الطوائف، ولا لطبقة من الطبقات.. أما ما تحمل رسالة المدعى- إن كان له رسالة- فهو الملق والرياء، والاستجابة للعواطف الخسيسة فى الناس، وإباحة المنكرات لهم، ودعوتهم إلى تلك المنكرات باسم هذا الدين الكاذب، الذي يباركها ويبارك أهلها..
وفى قوله تعالى: «وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ، الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ. تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ» عرض لهؤلاء الظالمين الذي افتروا على الله الكذب، وقالوا بما لم يقبله الله.
240
وفى هذا العرض يبدو المصير الذي يصير إليه كل ظالم، حين تنتهى أيامه القصيرة فى هذه الدنيا، بحلوها ومرها، وبلهوها وعبثها، وإذ هو على مشارف الحياة الآخرة، وملائكة الرحمن يمدّون أيديهم لانتزاع ثوب الحياة الذي يلبسه هذا الجسد، الذي كان يمشى فى الأرض مختالا فخورا، يحسب أن ماله أخلده.. وما هى إلا لحظات، يعالج فيها سكرات الموت، حتى يكون جثة هامدة، كأنه لقى ملقى على الطريق، بل إنه يصبح سوأة يجب أن تختفى وتتوارى عن الأنظار، وتغيّب فى باطن الأرض.. وليس هذا فحسب، بل إن ذلك هو بدء لمرحلة جديدة، لحياة أخرى غير الحياة التي كان فيها.. إنه سيبعث من جديد، ويلبس ثوب الحياة مرة أخرى، ولكن لا ليكون مطلق السّراح، يلهو ويعبث، بل ليلقى به فى جهنم، وليكون وقودا لجحيمها المتسعر! وفى قوله تعالى: «أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ» إشارة إلى هذا الأمر الملزم، الذي يحمله الملائكة، لقبض أرواح الظالمين، وأن الملائكة، وهم الموكلون بقبض هذه الأرواح، يحملون هؤلاء الظالمين حملا على انتزاعها بأنفسهم، وإعطائها لهم بأيديهم، وفى هذا تنكيل بهم، وإذلال وقهر لهم، بأن يحملوا حملا على انتزاع حياتهم بأيديهم.. هكذا «أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ».. وهل يعطى الإنسان نفسه بيده؟ إنه لأهون عليه كثيرا أن ينتزعها أحد منه قهرا وقسرا، من أن يكون هو الذي يقدّم بيديه أعزّ شىء يملكه، بل كل شىء يملكه..
قوله تعالى: «وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ» هكذا يجد الظالمون أنفسهم يوم القيامة.. فى وحشة قاتلة، لا يلتفت أحد إلى أحد، ولا يفكر إنسان فى إنسان. «لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ»، عن أن يشغل بغيره، أو ينظر إليه نظرة.
«وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ» فليس مع الإنسان فى هذا اليوم شىء
241
مما جمع فى الحياة الدنيا، من مال، وما استكثر من متاع، وما اتخذ من أخدان وخلّان..
وفى قوله تعالى: «خَوَّلْناكُمْ» تذكير لهم بأن كل ما كان لهم فى هذه الدنيا هو مما لله عندهم، فهو الذي خوّلهم أي أعطاهم هذا الذي كان لهم، وهم يحسبون أن ذلك كان من صنع أيديهم، ومن معطيات حولهم وحيلتهم.
وقوله تعالى: «وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ» هو تنبيه لهؤلاء الغافلين، وإلفات لهم أن يخرجوا من هذا الوجوم الذي هم فيه، ومن تلك السّكرة المستولية عليهم، حتى يديروا أنظارهم إلى ما حولهم، ليبحثوا عن معبوداتهم التي كانوا على ولاء لها، واطمئنان بها.. يفزعون إليها فى كل شدّة، ويهرعون إليها عند كلّ ملمّة. وهذه هى ملمة الملمات، وشدة الشدائد..
فأين هؤلاء الشفعاء؟ وأين ما كان يرجى منهم عند كل بلاء؟.. فليدعوهم.
فليجيئوا لهم.. إن كانوا صادقين! إنه لا شىء هنا، إلا الوحشة المطبقة، والحسرة القاتلة، والخسران المبين..!
فهذه الأبصار الزائغة، التي تدور هنا وهناك تبحث عن هؤلاء الشفعاء، لا تلبث أن تغيم الرؤية عليها، فلا ترى شيئا مما حولها من شفعاء أو غير شفعاء.. وهنا يدخل على الظالمين من أسماعهم، صوت الحق، يجيئهم بجواب ما كانوا يبحثون عنه: «لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ».
وفاعل الفعل «تقطع» محذوف دلّ عليه السياق.. ومن السرّ فى حذفه أنه أكثر من فاعل.. فالذى «تقطع» بين الظالمين وبين ما كان لهم، هو أكثر من أمر..
لقد تقطع ما بينهم وبين ما كان لهم من مال وبنين، وتقطع ما بينهم وبين ما كان لهم من آلهة اتخذوهم شفعاء لهم عند الله. وتقطع ما بينهم وبين كل
242
وسيلة يتوسلون بها إلى الخلاص من هذا البلاء الذي هم فيه. وهكذا: لقد تقطعت الأسباب بينهم وبين كل ولىّ من أوليائهم، أو قوة من قواهم.
الآيتان: (٩٥- ٩٦) [سورة الأنعام (٦) : الآيات ٩٥ الى ٩٦]
إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦)
التفسير: بعد أن شهد الظالمون المشركون هذا المشهد الذي تقطت له أنفاسهم، من مشاهد يوم القيامة، ردّوا إلى ما كانوا فيه من تلك الحياة التي كانوا يحيونها، مع أموالهم وأولادهم وأصنامهم، وما كانوا عليه من عناد وخلاف مع النبىّ، وما كان يدعوهم إليه من التعرف إلى الله والإيمان به..
وهنا تلقاهم كلمات الله وآياته، يرتّلها المؤمنون، تمجيدا لله وتسبيحا بحمده، وإذا هذه الآيات، وتلك الكلمات، هى استعراض لجلال الله، الذي كانوا منذ لحظات بين يديه، فى هذا الموقف العظيم، الذي طلع عليهم منه ما لم يكونوا يحتسبون، من شدة وبلاء..
«إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ».. ذلكم هو الله، وتلك هى بعض آثار قدرته.. فلينظروا فى هذا الذي أبدعته القدرة القادرة، التي قام سلطانها على كل شىء، ونفذ علمها إلى كل شىء..!
فهذه الحبة الصغيرة، التي لا تكاد تمسك بها العين، يفلقها الخالق العظيم
243
فيخرج من كيانها الضعيف، وجرمها الصغير، شجرة عظيمة مورقة مزهرة مثمرة..!
وهذه النواة اليابسة، التي لا يتجاوز جرمها جرم حصاة صغيرة، يفتّقها الخلّاق العليم، فيخرج من أطوائها نخلة باسقة، تطاول السماء، وتناطح السحاب..
«إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ» وفلق الحبّ والنوى.. شقّه، حين يغرس فى مغارس الإنبات، فيفتّق كما تفتّق الأرحام عند الولادة لتخرج ما فيها من أجنّة.. ومن بين هذا الحبّ والنوى.. الميت الهامد.. تخرج الحياة ممثلة فى شجيرة صغيرة، أو نخلة باسقة، أو دوحة عظيمة.
وقوله تعالى: «يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ» هو خبر ثان ل (إنّ) فى قوله سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى».
وقوله سبحانه: «وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ» عرض لصورة أخرى من صور الإبداع فى الخلق.. وهو أنه سبحانه إذ يخرج الحىّ من الميت، فإنه سبحانه يخرج الميت من الحىّ، كهذا الحبّ وذلك النوى فإنهما من مواليد النبات الحىّ النامي..
وفى هذا العرض للإحياء والإماتة، والإماتة والإحياء، مثل ظاهر يرى فيه الإنسان العاقل صورة لحياته هو.. وأنه كان فى عالم الموات، ثم إذا هو كائن حىّ عاقل.. ثم إذا هو مردود إلى عالم الموات مرة أخرى.. فهل تعجز القدرة الإلهية عن ردّه مرة ثانية إلى الحياة؟ إن ذلك- فى تقدير الإنسانية- أمر أهون مما سبقه من إيجاد الحياة من العدم!! «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» (٢٨: البقرة)
244
وقوله تعالى: «ذلِكُمُ اللَّهُ» إشارة إلى الله، سبحانه، وأنه هو الإله الحق الذي لا ينبغى لعاقل أن يتخذ إلها غيره.. فذلكم هو الله، وتلك هى بعض آثار قدرته.
وقوله سبحانه: «فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ» إنكار على هؤلاء الضالين، أن يكون لهم متجه غير الله، ثم هو دعوة مجدّدة لهم أن يتركوا هذا الطريق الآثم الذي هم فيه، وإلا كانوا فى الهالكين.
والإفك، هو الباطل والبهتان، والميل عن طريق الحق إلى الضلال.
قوله تعالى: «فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً» هو استمرار لعرض آيات من قدرة الله، حتى إذا كان هناك من تنبّه من غفلته من هؤلاء الضالين، بعد أن رأى ما رأى من آيات الله فى خلق الحب والنوى، وخلق الحىّ من الميت، والميت من الحىّ، وبعد أن نبهه صوت الحقّ إلى ما هو فيه من ضلال وغفلة- إذا كان هناك من تنبّه لهذا، وجد بين يديه هذا النور الذي يكشف له معالم الطريق إلى الله، فيما يشهد من آثار صنعته فى هذا الوجود..
«فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً» فذلك مما خلق، الخالق، وأبدع البدع..
وفى قوله تعالى: «فالِقُ الْإِصْباحِ» مقابلة بين فلق النواة التي تخرج منها أجنّة الحياة ومواليدها، من عالم النبات، وبين فلق الإصباح، أي الصبح الذي يتفتق من تفتّقه الحياة، التي يستولى عليها سلطان النهار، ويغذيها ضوء الإصباح.. فهذه الكائنات المتحركة فى ضوء الإصباح، والمنتشرة على بساط ضوئه فى النهار، هى المواليد التي تفتح عنها الضوء، وبعث فيها الدفء والحياة، كما يتفق الحبّ والنوى عن هذه الحياة التي تتمثل فى عالم النبات.
وقوله تعالى: «وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً» هو فى مقابل: «وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ»
245
حيث يكون الليل همودا وسكونا أشبه بالموت الذي يسبق الحياة..
وقوله سبحانه: «وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً» أي وجعل الشمس والقمر ليتعرف بهما على حساب الأيام والشهور، إلى جانب ما لهما من آثار كثيرة أخرى فى الحياة.. فالحسبان، هو الحساب والتقدير.
وقوله تعالى: «ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ» إشارة إلى أن وضع هذه المخلوقات بموضعها الذي هى فيه، وتسخيرها على هذا الوجه الذي تقوم به فى الحياة- هو من تدبير الله، ومن تقدير حكمته وسلطان علمه وعزته.
الآيات: (٩٧- ٩٩) [سورة الأنعام (٦) : الآيات ٩٧ الى ٩٩]
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٩٩)
التفسير: تتابع الآيات فى عرض مبدعات القدرة الإلهية وتدبيرها أمر هذا الوجود، والهيمنة على نظامه البديع..
فمن مبدعات القدرة الإلهية، هذه النجوم التي هى زينة للناظرين فى هذا
246
السقف المرفوع، وهى علامات للسائرين ليلا فى البر أو البحر.
وفى إضافة الظلمات إلى البر والبحر إشارة إلى أن الظلام هو الذي يلبسهما ويستولى عليهما، فكأن السائر فى الليل، يقطع قطعا من الظلام، سواء أكان فى البر أو البحر.
والمراد بالظلمات هنا، ليس هو الظلام الذي يلبس الوجود فى الليل، وإنما هى هذا التيه الذي يستولى على راكب البحر، أو راكب الصحراء أو نحوها، فى الليل، حيث لا يعرف الإنسان أين يتجه، وهو فى هذا الكون الفسيح الذي لا معلم فيه.. والنجوم هى المعالم التي تكشف لراكب البحر أو الصحراء طريقه، وتشير له إلى متجهه، نحو الشرق أو الغرب، أو الشمال أو الجنوب وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ» (١٦: النحل) ومن مبدعات القدرة الإلهية أن عالم الإنسان- وهو واحد من عوالم كثيرة لا تحصى- هو ثمرة نفس واحدة، كان منها هذا العالم الإنسانى كله، فى أممه، وشعوبه، المنتشرة فى آفاق الأرض كلها. «وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ».
وقوله تعالى: «فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ» أي فمستقر ومستودع هو الذي تتوالدون منه وتتكاثرون، والمستقر هو النطفة فى صلب الرجل، والمستودع هو النطفة تستودع فى رحم المرأة.. ومن المستقر والمستودع يكون التناسل والتوالد.. أو فمستقر على الأرض مدة حياتكم، ومستودع فى باطنها بعد موتكم..
وفى فاصلة الآية هنا: «قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ»، وفى الفاصلة قبلها «قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» توافق كلّ فاصلة مع الحال الداعية إليها فى آيتها..
فعملية الخلق، والتوالد، والتناسل، عملية تحتاج إلى دقة نظر، ومزيد علم،
247
ولهذا كان مطلوبها أن ينظر فيها من يعلم، ويتدبر ما لا يعلم، وهو الفقيه..
«لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ».
أما النجوم وما يأخذ النظر منها من هداية فى الظلام، فلا يحتاج من يريد التعرف على هذه الخاصة منها إلى أكثر من نظر يفيد علما بالواقع كما هو:
«لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ».
ومن مبدعات هذه القدرة، هذا الماء المنزل من السماء، أي من جهة عالية، تعلو وجه الأرض، فكل ما علا الأرض فهو سماء.. فمن هذا الماء يخرج كل حىّ، من إنسان وحيوان ونبات.. كما يقول سبحانه وتعالى: «وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ» (٣٠: الأنبياء) ثم خصّ الله سبحانه بالذكر هنا عالم النبات، إذ كان أكثر الكائنات الحية تفاعلا مع الماء واعتمادا عليه.. إذ هو غذاؤه وحياته، لا شىء له غيره، به يحيا، وبفقده يذيل ويموت.. أما الكائنات الأخرى، وإن كان الماء حياتها كالنبات تماما، إلا أنها تعتمد على أشياء أخرى تقوم إلى جانب الماء لتمسك عليها الحياة، وهو ما يتغذّى من طعام..
وقوله تعالى: «فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً» أي نباتا ذا خضرة، حيث الخضرة هى الروح السارية فى حياة النبات، وبغير تلك الخضرة لا ينبض فيه عرق الحياة أبدا.
وقوله سبحانه: «نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً» أي من هذه الخضرة التي تمسك حياة النبات وتمده بالقوة والنماء- من هذه الخضرة يبلغ النبات غايته من النماء، فيزهو، ويثمر، ويخرج حبا متراكبا، أي يركب بعضه بعضا، كما هو الشأن فى سنابل القمح، وعناقيد العنب ونحوهما.
248
وقوله سبحانه: «وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ» أي كما أخرجنا من الخضر حبا متراكبا، كذلك كان شأن النخل، الذي نخلق من طلعه قنوانا دانية..
والطلع، لقاح النخل، والقنوان: جمع قنو، وهو العذق، أي سباطة البلح أو الكباسة.
وفى هذا الذي بين طلع النخل، وما يتخلق منه من قنوان دانية الثمر، ما يلفتنا إلى الخضر الذي فى النبات وما ينشأ عنه من حبّ متراكب..
وكأن هذه الخضرة هى اللقاح الذي لولاه ما أثمر نبات.
وفى وصف القنوان بأنها قنوان دانية، مع أنها قد تكون والنخلة سابحة فى السماء- فى هذا الوصف ما يشير إلى اشتهاء النفس لهذا الثمر الذي يحمله النخل، وتطلعها إليه، ورغبتها فيه- الأمر الذي يجعل بعيده قريبا، وكلّ صعب فى الوصول إليه هينا.. هكذا المحبوب المشتهى أبدا.
وقوله سبحانه: «وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ» معطوف على قوله تعالى:
«فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ» أي وأخرجنا به- أي بالماء- جنات من أعناب وقوله تعالى: «وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ» معطوف على جنات من أعناب.
وقوله سبحانه: «مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ» أي أن الزيتون والرمان، منه ما يشبه بعضه بعضا، ومنه ما يختلف بعضه عن بعض.. فى اللون، أو الحجم، أو الطعم.
ويمكن أن يفهم قوله تعالى: «مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ» على وجه آخر..
وهو أن هذه الأشجار من الزيتون والرمان، وإن بدت أفراد كل جنس منها متشابهة فى هيئتها وثمارها، إلا أنها فى حقيقة أمرها غير متشابهة، فبين كل شجرة وأخرى فروق دقيقة، فى هيئنها، وفى ثمارها.. وهذا من بديع
249
صنع الله، ومن كمال قدرته.. حيث تتنوع أفراد الجنس الواحد.. شجرة شجرة، وتختلف ثمرات الشجرة.. ثمرة ثمرة.. وعلى هذا تكون «الواو» فى قوله تعالى: «وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ» وهى واو الحال، والجملة بعدها حالية.
وذلك فى قراءة من قرأ وغير بالرفع، أي يبدو مشتبها، والحال أنه غير متشابه، وهذا هو السرّ فى اختلاف النظم بين مشتبه ومتشابه!! وقوله تعالى: «انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ» إغراء بتوجيه النظر، وإعمال الفكر فى هذه المخلوقات، وما يجىء منها إلى الناظر إليها وهى فى حال إزهارها وإثمارها، من جمال رائع، وحسن فتّان، يشيع فى النفس البهجة والمسرّة، ويثير فى العقل أشواقا وتطلعات إلى التعرف على أسرار هذا الجمال واستكشاف ينابيعه ومصادره الأولى التي يجىء منها.
والإنسان إذ يلقى الطبيعة وهى فى نضارة شبابها، وروعة حسنها، إنما يتيح له ذلك مجالا فسيحا للاندماج بها، والتعايش معها، الأمر الذي يسمح للطبيعة أن تبوح له بكثير من أسرارها، وتأتمنه على الكثير مما احتفظت به فى كيانها، وضنّت به على من لا يدنون منها، ولا يتعاطفون معها.
أليس هذا شأن كل أمر يريد الإنسان أن ينتفع منه، ويملأ يديه من الخير الذي فيه؟. إنه لن ينال شيئا من أي أمر يعالجه، ويريد فتح مغالقه، إلا إذا تألّفه وأحبّه وأنس به، وأقبل عليه فى حبّ وشوق! ومن هنا كانت دعوة القرآن بالنظر إلى الطبيعة وهى فى حلل جمالها وبهائها- هى فى الواقع دعوة ضمنية إلى التزود من العلم والمعرفة، إذ يكون النظر إليها فى تلك الحال نظرا جادّا، باحثا، مستلهما، لا نظرا عابثا، لاهيا، متفكها بألوانها، وأصباغها.
وانظر إلى معارض هذه الآيات الكريمة، وما يحمل كل معرض منها
250
من دعوة إلى أناس كلّهم طلاب علم، ولكنّهم درجات متفاوتة، فيما يعلمون!.
النجوم... «لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ».
وخلق الناس من نفس واحدة... «لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ».
والماء وأثره فى الحياة، وفى عالم النبات.. «لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ».
فهذه النظرات المردّدة فى الكون.. تجىء أول ما تجىء بالعلم، فإذا كان لصاحب هذا العلم نظرة تجمع الحقائق الجزئية، وتقيم منها حقائق كلية.. كان علمه هذا فقها. فإذا اتخذ من هذه الفقه مادة لجمع الحقائق الكلية ودرجها تحت حقيقة كليّة كبرى، كان فقهه هذا هو الإيمان..
الإيمان القائم على النظر الاستدلالي، والبحث الاستقصائى، لا على الإيمان التقليدى، الذي يعتمد على مشاعر غامضة، ووجدانات باهتة، لا تصل الإنسان بالله إلا بخيط واه ضعيف ينقطع عند أول هزّه تمرّ به.
الآيات: (١٠٠- ١٠٣) [سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٠٠ الى ١٠٣]
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (١٠٠) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣)
التفسير: وإذ انتهت المعارض التي عرضها الله سبحانه وتعالى فى الآيات السابقة، شاهدا يشهد لوجوده، ودليلا يدل على قدرته وعلمه وحكمته- إذ
251
انتهت هذه المعارض بأرباب العقول إلى أن يهتدوا بها، ويؤمنوا بالله على هديها- فإن كثيرا من الناس قد عموا عن هذه الآيات، فلم يروا فيها بصيصا من النور يقودهم إلى الله، ويفتح قلوبهم وعقولهم للإيمان به، ولهذا جاءت الآيات بعد هذا تنعى على هؤلاء موقفهم، وتفضح على الملأ حمقهم وجهلهم..
فقال تعالى: «وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ»..
ويلاحظ أنه لم يجر لهؤلاء الذي تحدّث عنهم الآية الكريمة، ذكر من قبل، بل جىء بهم هكذا فى هذا الموقف، حتى لكأنهم كانوا قد أعدّوا من قبل لهذا الذي هم فيه الآن فى موضع التجريم، والاتهام.. وهذا ما يشير إلى أن هؤلاء المشركين بالله كاوا على حال ظاهرة من الشرك، بحيث يعرفهم كل أحد، ويستدل عليهم كل من يريد أن يمسك بأهل الشرك، ويضع يده عليهم، دون بحث أو معاناة.
وفى اتخاذهم الجنّ شركاء، إشارة إلى أن الجنّ هم الذين زينوا لهم الشرود عن الله، وعبادة كل من عبدوه من دون الله.
وفى قوله تعالى: «وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ».. التعبير بخرقوا فى مقابل «خلق» إشارة إلى أن هذا الذي نسبه المشركون إلى الله من بنين وبنات، حين قالوا عن الملائكة إنهم بنات الله، كما قال الله، تعالى عنهم:
«وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً» (١٩: الزخرف) - هذا الذي نسبوه إلى الله، هو من تلقيات أوهامهم الضالة، وأهوائهم الفاسدة، وأنه خرق واختلاق، لا يقوم على علم، ولا يستند إلى معرفة.. إنه خرق لناموس الحقّ، وسلطان العقل.
قوله تعالى: «بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ
252
صاحِبَةٌ»
هو ردّ على هذا الافتراء الذي افتراه المشركون على الله، بنسبة الولد إليه.. إذ كيف يكون له ولد، وهو سبحانه الخالق لكل شىء، مبدع السموات والأرض وما فيهن، أوجدهما من عدم، على غير مثال سبق.. ؟ فكيف يصح فى عقل ذى عقل أن يتخذ الله ولدا، والولد إنما يطلبه الوالد ليكون سندا له، وامتدادا لحياته من بعده.. ؟ والله سبحانه وتعالى قوىّ لا يحتاج إلى سند، حىّ حياة أبدية سرمدية لا تنقطع.. فما الداعي لطلب الولد؟ وما الحاجة إليه؟.. ثم كيف يكون له سبحانه ولد، ولم تكن له صاحبة- أي زوج-؟
ولو كانت له صاحبة لكانت إلهة مثله.. إذ أن التوالد لا يكون إلا بين المتماثلين.. والله- سبحانه- منزّه عن المثل والشبيه! وقوله تعالى: «وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» تقرير لهذا الحكم، وتوكيد له.. إذ أن الخالق لكل شىء، لا يناسبه ولا يماثله شىء من مخلوقاته، وإذن فلا يكون له من تلك المخلوقات صاحبة ولا ولد..
وقوله سبحانه: «ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ» الإشارة إلى الله سبحانه وتعالى هنا إشارة إلى المعبود الذي ينبغى أن تتجه إليه وجوه العابدين جميعا، فهو ربّهم الذي أوجدهم من عدم، وأمسك عليهم وجودهم بمقدرته، وأفضاله عليهم، وليس إله غيره كان له هذا الأثر فيهم، فهو خالقهم، وخالق كل شىء عبدوه.
أو لم يعبدوه.. فهو المستحق لأن يمجّد وأن يحمد، ويعبد.. وهو سبحانه قائم على كل شىء وكيل على ما يجرى فى ملكه، وما يقع من مخلوقاته، من استقامة أو انحراف، ومن ولاء له، أو كفر به.. وسيجزى كلّ حسب عمله.
ووكالة الله سبحانه على هذا الوجود ليست كوكالة الوكيل عن الأصيل، وإنما هو وكيل عن هذه المخلوقات كلها، حيث وكلت إليه أمرها، وفوّضت إليه
253
تصريف وجودها كيف يشاء، إذ كان كل موجود- أيّا كان سلطانه، وأيّا كانت قوته- عاجزا عن أن يملك لنفسه نفعا، أو ضرا.
وقوله سبحانه: «لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» إشارة أنه سبحانه لطيف لا يرى، إذ لو رؤى لتحدّد، ولو تحدّد لتجسّم، ولو تجسّم لكان مركبا، ولو كان مركبا لكان مخلوقا..
سئل الإمام علىّ: هل رأيت ربّك؟ فقال: «نور أنّى أراه؟» أي هو نور يملأ الوجود، ترى فى نور أنواره الموجودات.. أما النور فلا تمسك به عين، ولا يحدّه نظر.. فكيف يرى هذا النور؟
أما الله سبحانه وتعالى، فهو يرى كل موجود، ويبصر كل مبصر، فهو سبحانه يملأ عين المبصرين بنوره، ولكنهم لا يبصرونه.. «وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» الذي جلّ بلطفه عن أن يرى، وعلا بعلمه أن يغيب شىء عنه..
الآيات: (١٠٤- ١٠٧) [سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٠٤ الى ١٠٧]
قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (١٠٤) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١٠٥) اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (١٠٦) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (١٠٧)
التفسير: البصائر: جمع بصيرة، والبصيرة الآية التي يتكشف للناظرين فيها عبرة وعظة، ويقع لهم من الوقوف إزاءها علم ومعرفة..
254
وقوله تعالى: «قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها» أي قد جاءتكم آيات بينات، فيها تبصرة وعظة لأولى الألباب..
«فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ» حيث يرى طريقه، ويعرف الاتجاه السليم الذي يسير فيه «وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها» حيث يضل الطريق، ويتخبط فى متاهات الضلال، وتكون عاقبته الهلاك والضياع..
وقوله سبحانه: «وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ» أي ليس على النبىّ إلا أن يعرض هذه البصائر التي تلقاها من ربه، ثم إنه ليس عليه بعد هذا أن يتولى حراسة الناس وحمايتهم من أهوائهم الغالبة، ونزعاتهم المستبدة.. فهذا نور الله بين أيديهم، وفى مواجهة أبصارهم.. فمن أبصر فلنفسه، ومن عمى فعليها..
والله سبحانه وتعالى يقول:
«أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ» (٤٣: يونس) قوله سبحانه: «وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ».. تصريف الآيات، تنويعها، وتعدد وجوهها، بحيث يرى الناظر فيها مشاهد متعددة الألوان، مختلفة الأشكال.. لجلال الله، وكمال علمه، وسلطان قدرته، وبحيث من أخطأه التهدّى إلى الله من واحدة منها لم يخطئه ذلك فى كثير غيرها..
وفى قوله تعالى «وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ» إشارة إلى معطوف محذوف يدل عليه سياق النظم، وتقديره، «وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ» ونعدّد وجوهها لتلقاهم فى كل متّجه، ولتأخذ عليهم كل سبيل «وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ» أي وليقولوا جهلا وسفاهة: إن هذا العلم الكثير الذي تحمله تلك الآيات إنما هو مما درسه «محمد» وتلقّاه من علماء أهل الكتاب، وأنه ما كان له وهو الأمىّ، أن يجىء إليهم بهذا العلم الذي لم يكن لهم هم ولا آباؤهم.. وفى هذا تشنيع على هؤلاء الضالين المشاغبين،
255
وتسفيه لعقولهم، إذ لو عقلوا لكان أقرب إلى العقول أن يضيفوا هذا العلم إلى الله، وأن يروا فى أميّة «محمد» وفى هذا العلم الغزير الذي حمله إليهم شاهدا على أن هذا القرآن هو من عند الله، لا من تلقّيات محمد عن غيره..
وقد كان فيهم كثيرون اتصلوا بأهل الكتاب، ولم يكن لهم شىء من هذا العلم الذي جاءهم به هذا الأمىّ الذي لم ينقطع للعلم، ولم يجلس إلى أهل العلم..
وقوله تعالى: «وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» تعليل آخر لمجىء آيات الله مفصّلة هذا التفصيل، ومبيّنة هذا التبيين.. وذلك ليكون فيها مزيد بيان ومعرفة وعلم «لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» أي لقوم من شأنهم أن يتعلموا ويعلموا.. والضمير فى قوله تعالى: «وَلِنُبَيِّنَهُ» يعود إلى القرآن الكريم، الذي هو مجمع هذه الآيات كلها، والكتاب الذي احتواها، واشتمل عليها جميعا، وفى تفصيل هذه الآيات، وتعدد وجوهها بيان وتوضيح لقوم يعلمون، وبلاء وفتنة للضالين.
وقوله سبحانه: «اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ» التفات من الله سبحانه للنبىّ الكريم، وتثبيت له على الكتاب الذي تلقّاه من ربّه، دون أن يلتفت إلى شىء من تخرصات المشركين، واستهزاء المستهزئين.
وفى إضافة النبي الكريم إلى ربّه- سبحانه وتعالى- تكريم للنبى الكريم، واحتفاء به، واستدعاء له من بين هؤلاء الضالين إلى حيث ينزل هذا المنزل الكريم، من رحمة الله ورضوانه.
وفى قوله تعالى: «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا» إخلاء لمشاعر الأسى والحزن التي يعالجها النبىّ، وهو يدعو قومه إلى الهدى والخير، وهم يتفلّتون من بين يديه إلى الضلال والهلاك.. فهذا الضلال الذي هم فيه هم أهل له، وهو أشكل بطبيعتهم النكدة، وقلوبهم المريضة.. ولو شاء الله لهم الهداية
256
لهداهم، ولما كانوا من المشركين.. فذلك إلى قدرة الله ومشيئته، وليس لك- أيها النبي- من الأمر شىء.. «وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ» إذ لست مرسلا من عند الله لتقهرهم على الإيمان، ولتدفع عنهم بالقوّة هذا الضلال الذي هم فيه.. وما أنت عليهم بوكيل، إذ هم راشدون مسئولون عن أنفسهم، وعن اختيار الطريق الذي يسلكونه..
«إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ» فتنبّه الشارد، وتهتف بالضال.. فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضلّ فإنما يضل عليها، وما أنت عليهم بوكيل.
الآيات: (١٠٨- ١١٠) [سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٠٨ الى ١١٠]
وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٠٨) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٩) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١٠)
التفسير: أمر الله سبحانه نبيّه الكريم فى الآيات السابقة أن يقف على حدود ما أنزل إليه من ربّه، وأن يدع المشركين وشأنهم، بعد أن بلغهم رسالة ربّه، وأن ليس للنبىّ أن يكرههم على الإيمان، إن عليه إلا البلاغ..
وهنا فى قوله تعالى: «وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ» يحذر الله النبىّ والمسلمين معه، أن يدخلوا فى معارك جدليّة مع المشركين، تنتهى بهم إلى التراشق بالكلمات الجارحة، فيشتم بعضهم
257
بعضا، ويسبّ بعضهم بعضا.. وهنا يجدها المشركون فرصة للتعدّى على الله، والتطاول على ذاته الكريمة، وكان ذلك أشدّ ما يصيبون به المسلمين فى مشاعرهم، لما لله سبحانه وتعالى فى أنفسهم من تعظيم وتوقير، ولما يعلمه المشركون من تعلّق المسلمين بالله، وحبّهم له، ورعايتهم لأوامره ونواهيه..
وليس كذلك شأن المشركين مع آلهتهم التي لا ينظرون إليها تلك النظرة الخاشعة، التي ينظر بها المسلمون إلى الله، ولا يرون فى آلهتهم ما يرى المسلمون فى الله، من قدسية، وعظمة، وجلال.
وقد تنبّه العقلاء إلى مثل هذه الحال، فبعدوا بأنفسهم عن تلك المواطن التي يقفون فيها مع السفهاء موقف الخصومة والتلاحي، لأن السفيه الساقط المروءة، يجد فى التطاول على أهل الحكمة وأصحاب الشأن فى الناس فرصته، فى الاستعلاء بنفسه، حين يكون هو ومن فوقه فى منزلة سواء.. وفى هذا يقول الشاعر:
بلاء ليس يعد له بلاء عداوة غير ذى حسب ودين
يبيعك منه عرضا لم يصنه ليرتع منك فى عرض مصون
فإذا سبّ المشركون الله فى مجلس من مجالسهم مع المسلمين، شعروا أنهم أصابوا من المسلمين مقتلا، وإذا سبّ المسلمون آلهتهم لم يكن فى ذلك ما يزعجهم أو يقلقهم، وإن يكن شىء من ذلك فهو شىء قليل لا يكاد يحسّ له أثر! شأن الخسيس يتطاول على الكريم، فإذا ناله الكريم بأذى لم يتأثر له.
«وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ» والعدو: العدوان والبغي. فى حمق وسفاهة وطيش.
أي ولا تتعرضوا للآلهة الذين يدعوهم المشركون من دون الله، فيسبّوا الله عدوا، أي أنهم يسرعون إلى سبّ الله، ويجدونها فرصة لهم لينالوا منكم بالتعرض بالسبّ لأقدس المقدسات، وأكرم الحرمات عندكم..
258
وفى قوله تعالى: «عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ» إشارة إلى أن هؤلاء المشركين لا يقدرون الله حق قدره، ولا يعلمون ما تعلمون أنتم أيها المؤمنون من جلاله وقدسيته وعظمته. فلا يتوقفون عند أية سانحة تسنح لهم للتطاول على الله.
وقوله تعالى: «كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ» هو عزاء للمسلمين لما ينالهم من تطاول المشركين على الله، واستخفافهم به.. فذلك لأنهم لم يعرفوا الله حق المعرفة، وأنهم مشغولون عنه بآلهتهم تلك، وأنها- على ما هى عليه ضعف وهوان- ذات شأن عند المشركين، الذين آمنوا بها وعبدوها.. وهكذا الناس وما يحبّون ويبغضون.. هم فى هذا مذاهب شتّى.. من يحبه قوم، يبغضه آخرون، ومن يبغضه أناس، يحبّه أناس غيرهم.. «كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ».
وقوله تعالى «ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» الضمير فى «ربهم» يعود إلى الناس الذين تضمهم هذه الأمم.. أي أن الناس جميعا على اختلاف معتقداتهم ومذاهبهم وأعمالهم سيردّون إلى الله.. وهنا يعرف كل إنسان حقيقة ما كان عليه.. من حق أو باطل، وصفة ما كان يعمل.. من خير أو شر..
قوله سبحانه:
«وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها».
الآية التي أقسم المشركون على أنهم يؤمنون بها لو جاءتهم، ووقعت تحت حواسّهم- هى التي كانوا يقترحونها على النبىّ، فيما حكاه القرآن عنهم فى قوله تعالى: «فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ» (٥: الأنعام) وقوله سبحانه:
«لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً، أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها» (٧- ٨: الفرقان).. وقوله تعالى:
259
«وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا (٩٠- ٩٢: الإسراء).
هذه هى بعض الآيات التي أقسموا بالله جهد أيمانهم- أي قسما مؤكدا بكل المؤكدات- لو جاءتهم آية منها ليؤمننّ بها، ويتخذونها دليلا على صدق النبىّ! وقوله تعالى: «قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ»
هو ردّ من الله تعالى عليهم، أمر النبىّ الكريم أن يلقاهم به.. فإنه- أي النبىّ- لا يملك من تلك الآيات شيئا، وإنما هى من الله سبحانه وتعالى، ينزّلها بقدر، وتدبير وحكمة، على من يشاء، متى يشاء.
وقوله سبحانه: «وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ» هو التفات للمؤمنين الذين سمعوا الجواب الذي أجاب به النبىّ على ما يقترحه المشركون عليه من آيات.. وفى هذا الالتفات ردّ على تطلّعات بعض المسلمين الذين كانوا يتوقعون أن يجىء النبىّ بمثل هذه الآيات، ليقطع على المشركين حجتهم، ولينهى الخصومة التي بينه وبينهم، وبهذا تنطفىء نار الشرّ المحتدم بينهم وبين المؤمنين، حين تدخلهم تلك الآية فى دين الله، ويكونون من المؤمنين.
وقد كشف الله سبحانه وتعالى فى هذا الردّ عن طبيعة هؤلاء المشركين، وأنهم ليسوا طلاب هدى يملأ صدورهم طمأنينة وإيمانا، ولكنهم أصحاب هوى، وأتباع ضلال، لا يريدون بهذه المقترحات التي يقترحونها إلّا اللجاج فى العناد، والضلال.
وفى قوله تعالى: «وَما يُشْعِرُكُمْ» إشارة إلى أن ما بالمسلمين من أمر هؤلاء المشركين فى هذا الموقف، هو مجرد مشاعر وأحاسيس، وليس إدراكا،
260
ولا علما.. إذ أن المسلمين كانوا يعلمون من عناد هؤلاء المشركين أنهم لن يؤمنوا بأية آية، ولكن ما كان يجده المسلمون منهم من عنت وإرهاق ألقى فى شعورهم شيئا من الأمل، يتعلّلون به، فى مجىء تلك الآية المقترحة، التي إن لم يؤمن بها هؤلاء المشركون، فلا أقلّ من أن تخفف من عداوتهم للمؤمنين وعدوانهم عليهم.
وقوله تعالى:
«وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ».
هو توكيد لعدم إيمان المشركين بهذه الآيات التي تتنزل عليهم حسب مقترحاتهم، وأنهم إذا التقوا بها، فإنما يلقونها بقلوب مريضه، وأبصار زائغة، وألسنة تردد كلمات الزور والبهتان، كما كان ذلك شأنهم مع آيات القرآن الكريم التي التقوا بها، وقالوا فيها ما قالوا من زور وبهتان.. ثم ينتهى موقفهم مع الآيات التي اقترحوها كما انتهى مع الآيات التي جاءهم بها النبىّ..
طغيان، وعناد. وكفر وضلال.. «وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً» (٤١: الإسراء)
261
الآية: (١١١) [سورة الأنعام (٦) : آية ١١١]
وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١)
التفسير: فى هذه الآية يكشف الله سبحانه وتعالى عن هذا المدى البعيد الذي بلغه أولئك المشركون من إمعان فى الضلال والطغيان، وأنهم إن يروا كلّ آية لا يؤمنوا بها..
فلو أن الله- سبحانه- أنزل عليهم الملائكة، يمشون بينهم، ويتحدثون إليهم لقالوا فيهم مقالا، ولو جدوا للزور والبهتان علّة يعتلّون بها..
ولو أن الله سبحانه بعث الموتى من قبورهم يكلمونهم، كما كانوا يكلمونهم وهم أحياء، لكان لهم فيهم لغط وجدل.
ولو أن الله- سبحانه- بعث إليهم كل شىء يقترحونه، وجاءهم به عيانا ومواجهة «قبلا»، ما كانوا ليؤمنوا، ولقالوا من الزور والبهتان ما حكاه الله عنهم فى قوله تعالى: «وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ» (١٤- ١٥: الحجر) وفى قوله تعالى: «إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ» هو استثناء من جميع الأحوال، أي أنهم لا يؤمنون فى أي حال إلا فى تلك الحال التي يشاء الله لهم فيها أن يؤمنوا، وهى حال تتعلق بمشيئة الله، ولا تتعلق بما يساق إليهم من آيات ومعجزات، فإيمانهم معلق بمشيئة الله، لا بتلك الآيات التي يقترحونها.. «وَلكِنَّ
262
أَكْثَرَهُمْ»
أي أكثر النّاس، وهم هؤلاء المشركون جميعا، ومعهم كثير من أولئك المؤمنين الذين طمعوا فى إيمانهم، واستشعروا أنهم قد يؤمنون إذا جاءهم النبي بما يقترحون عليه من آيات- أكثر هؤلاء لا يعلمون مشيئة الله المتسلطة على هذا الوجود، القائمة على تصريفه وتدبيره.. فلا يقع شىء إلا على الوجه الذي شاءه الله- سبحانه وتعالى- وقدّره.
مبحث: فى مشيئة الله ومشيئة العباد
وهنا نودّ أن نقف وقفة قصيرة، مع هذه القضية، التي شغلت الناس منذ عرفوا الله فآمنوا به.. من علماء، وفلاسفة، وفقهاء، ومتدينين بل وملحدين..
هل للإنسان إرادة؟
هذا سؤال لا يكاد يتردد أحد فى الإجابة عليه «بنعم» !! فكل إنسان يعلم من نفسه، ومن تصرفات الناس حوله، أن للإنسان إرادة.. بها يتحرك ويعمل، وبها يأخذ ويدع.
ولكن حين يصبح السؤال هكذا:
هل للإنسان إرادة مع إرادة الله؟
هنا تأخذ المسألة وضعا آخر، وتدخل القضية فى مجال النزاع والخلاف..
إنها قضية القضايا.. فهى ليست من القضايا ذات الصبغة «المحلّية» كما يقولون.. بين الإنسان والإنسان، أو بين الإنسان والطبيعة.. ولكنها بين الإنسان وبين الله.. بين العبد والرب.. بين المخلوق والخالق!
263
وما ظنّك بقضية يكون العبد فيها خصما لربّه، أو محاجّا لخالقه؟ إنها حينئذ تكون قصية شائكة محرجة.. فيها لجاجة وخروج على مقتضى العبودية..
فيها تجديف وضلال، وفيها مزالق وعثرات! ونعم.. الطريق شائك، ملىء بالمزالق والعثرات.. ولكن هيهات أن يمسك الإنسان نفسه عن السير فيه.. فإن استطاع أن يمسك قلمه، أو لسانه، فإنه ليس بمستطيع أن يمسك زمام خواطره ووساوسه.. بحال أبدا..
أما والأمر كذلك، فخير للمرء أن يواجه المشكلة، وأن يقتحم عليها موطنها، قبل أن تفجأه على غرّة، وتهجم عليه على حين غفلة، فتنال منه، وتفسد عليه رأيه، أو تدخل الشك والوسوسة على عقيدته.
وأما وقد رضينا أن نواجه المشكلة، ونقتحم عليها حماها، فإنه يجب علينا أن نأخذ لها حذرنا وأسلحتنا.. شأن من يتهيأ لصراع عنيف، ويدخل فى معركة حاسمة..!
وزادنا فى هذه المعركة، هو إيمان بالله.. إيمان وثيق، لا تزعزعه الأعاصير العاتية، ولا تنال منه الأحداث المزلزلة.. وأمّا سلاحنا فهو عقل يقظ، وقلب سليم، ننظر بهما فى كتاب الله، وفى سنّة رسول الله، فى حدود ما وهبنا الله من استعداد فطرى، دون التطويح بالعقل، والشرود به فى مجال غير مجاله الذي خلق له..
ذلك هو زادى، وهذا هو سلاحى.. فإن أردت أن تصحبنى على هذا الطريق، فخذ من الزاد والسّلاح ما أخذت.. وإلا فأنصح لك أن تكون حيث أنت، ولا تصاحبنى.. وحسبك أن تعود أدراجك ونحن على أول الطريق، وأن تطوى هذه الصفحات، لتستقبل ما بعدها مما نحن بسبيله
264
من الوقوف بين يدى الله، وكلماته، على ما عهدت منا، قبل أن نأخذ فى هذا الحديث..
فإن كنت قد رضيت صحبتى على ما اشترطت عليك فهيّا بنا إلى غايتنا..
ولكن مهلا.. هل اختبرت إيمانك؟ وهل أيقظت عقلك، وأحليت قلبك من كل شك ووسواس؟ لا بأس من أن تعيد النظر.. فإننا- كما قلت لك- لا نزال على الشاطئ، وقد يكون العود أحمد لك..!
وبعد، فإن كنت على عزيمة أن تسير معى، فلى عليك ما اشترط العبد الصالح على موسى، عليهما السلام: «فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً»..
أنتحرك إذن؟ ليكن.. وعلى بركة الله.
هل للعبد إرادة مع الله؟
سنجيب على هذا السؤال بالجوابين المحتملين له.. فنقول: «نعم» مرة، ونقول: «لا».. مرة أخرى.. وننظر.
القول بأن للعبد إرادة مع الله وهذا القول قالت به القدريّة من المعتزلة..
ويبنى على هذا القول أمران:
أولا: أن العبد خالق لأفعاله، مسئول عنها مسئولية كاملة..
وثانيا: أن ما يناله العبد من نعيم أو عذاب فى الآخرة هو بسبب عمله الحسن، أو السيّء..
وقد بنى هذان الأمران عند القدرية على ما يأتى:
265
أولا: أن العبد لو لم يكن خالقا لأفعاله، وأن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلقها، وأضافها إلى الإنسان، ثم عذّبه عليها- مع أنه لم يفعلها- لكان ظالما له، والظلم نقصان، لا يليق بالله الموصوف بالكمال المطلق.
وكيف يفعل الله شيئا، ثم يلوم الإنسان عليه، ويقول له: كيف فعلته؟
ولم فعلته؟ وهو لم يكن له كيف، ولا فعل؟
إن الله عادل، وعدله يقضى بأن يحاسب العبد على ما فعل..
وإذن، فأفعال العبد مخلوقة له، ومحسوبة عليه..
وثانيا: أوجب القدريّة على الله أن يثيب الطائعين، كى لا يظلمهم، فإن الظلم نقصان لا يليق بربّ الأرباب! هذه هى حجة أو حجج من يقولون إن للعبد إرادة خالقة، مع إرادة الخالق..
القول بألا إرادة للعبد مع إرادة الرب وأهل السنة، هم أصحاب هذا القول.. وقد بنوه على أمرين كذلك:
أولا: أن كمال الإله هو فى التفرد بكل شىء.. ونفى القدرة عيب، ونقصان.. والكمال يقتضى أن يكون كل شىء خاضعا لقدرة الله، جاريا على ما تقضى به حكمته ومشيئته..
وثانيا: إثابة المحسن، ليس لإحسانه وحده، وإنما ذلك من فضل الله عليه. وتعذيب من يعذبهم الله، ليس لذنوبهم وحدها، وإنما ذلك لحكمة يعلمها الله، وحسب نظام قدّره، وليس فى هذا ظلم.. لأن الظلم إنما ينسب لمن يتصرف فى غير ملكه، والله سبحانه إنما يتصرف فيما خلق..
وأهل السّنة- مع هذا- لا ينفون إرادة العبد أصلا، كما سنرى بعد، ولكن يرونها إرادة خاضعة لإرادة الله، جارية على تقديرها..
وهناك فريق ثالث- وهم الجبرية- لا يرون للعبد إرادة مطلقا، فيقولون
266
إن أفعال الإنسان اضطرارية، وأن كل ما يفعله لا إرادة له فيه، وإنما هو أشبه بآلة تعمل بلا وعى ولا عقل.. وأن المأمورات والمنهيات ليست موصوفة بالحسن والقبح، وإنما هى أوامر ونواه صادرة من جهة عليا، وعلى الإنسان أن يمتثل من غير أن يفكر فى حسن المأمور به أو قبح المنهىّ عنه.. فالإنسان لا يقدر على شىء، ولا يوصف بالاستطاعة، وإنما هو مجبور على أفعاله، لا قدرة له، ولا إرادة، ولا اختيار، بل يخلق الله تعالى الأفعال فيه، كما يخلقها فى سائر الكائنات، وتنسب إليه الأفعال مجازا كما ننسبها إلى الجمادات، كما يقال: أثمرت الشجرة، وجرى الماء، وتحرك الحجر، وطلعت الشمس..
والثواب والعقاب جبر، كما أن الأفعال جبر.
هذا هو مجمل القول فى إرادة العبد وإرادة الله، بين أطراف الخصومة عند جماعات المسلمين.
وأنت ترى بعد الشّقة بينهم.. فبينا يقول القدرية: إن العبد خالق لكل أفعاله، وأن إرادته مطلقة من كل قيد- إذ يقول الجبرية: إن العبد لا يفعل شيئا، وإنما الله سبحانه هو الذي يخلق ما يفعل العبد، وأن الإنسان والجماد فى هذا سواء، كلاهما مسيرّ إلى غاية لا يملك من أمره معها شيئا.
أما أهل السنة، فقد ذهبوا بين الفريقين مذهبا وسطا.. قالوا بإرادة الله العامة الشاملة، وقالوا بإرادة العبد المحدودة الواقعة فى محيط الإرادة العامة.
وقد دخلت هذه الآراء فى مجال للصراع العنيف، واجتمع على كل رأى أنصار يدافعون عنه، ويحتجون له.. وكان الفلاسفة والمتكلمون فرسان الحلبة فى هذا الصراع، يصولون ويجولون، ويحومون حول الكتاب والسنة، يأخذون منهما الحجة على خصومهم، فخلطوا فى هذا بين فطرة الإسلام، وفلسفة اليونان، وما وصل إليهم من معتقدات فارس والهند وغيرهما.. وكان من هذا أن
267
اتسعت شقّة الخلاف بين المتخاصمين، وانقسمت الفرق المختلفة على نفسها، فكان لكل فريق مقولات تدور حول الأصل الذي قام عليه الرأى فى المذهب.
تفصيل بعد إجمال
ولكى نتعرف إلى وجه الحق فى هذه القضية، يجب أن ننظر فى آراء هذه الفرق، وفى الأدلة التي قدموها بين يدى هذه الآراء، ثم إن لنا بعد هذا رأينا، الذي نفقهه من ديننا، بعيدا عن التعصب المذهبى، أو التحزّب الطائفي، وخالصا من كل غرض، إلا ابتغاء الحق، وإلا إقامة العقيدة على الحق الذي نزل به الكتاب، وبيّنه الرسول.. كلّ هذا فى إيجاز شديد، لأننا نعالج قضية شغل بها العقل الإنسانى منذ كان، وإلى أن يخلى مكانه من هذا العالم، وقد خلّف وراءه محصولا من الآراء والمقولات لا حصر لها.
آراء القدرية
برز من المعتزلة عدد غير قليل من ذوى اللّسن والرأى.. قالوا بالقدر، وسمّوا بالقدرية، لأنهم يقولون إن العبد قادر على خلق أفعاله، مختارا غير مضطر..
وقد استطاعوا بما لهم من فصاحة وعقل أن يصوروا آراءهم فى منطق، وأن يصوغوها فى قوالب من الفصاحة والبلاغة، بما كان لهم من نظر فى كتب الفلسفة والمنطق، وبما اطلعوا عليه من المعتقدات الدينية الوافدة مع الداخلين فى الإسلام من كل أمة.. فكانت لهم فلسفة، وكان لهم أدب.. وحسبك أن يكون من رجال هذه الطائفة.. واصل بن عطاء، والنّظّام، وأبو الهزيل العلّاف، والجاحظ، وجميعهم أئمة فى الأدب، كما أنهم أئمة فى الرأى..
268
وهذه مقولات لبعض رجالهم رأى واصل بن عطاء:
يقول واصل بن عطاء: «إن الله تعالى حكيم عادل، ولا يجوز أن يضاف إليه شر وظلم، ولا يجوز أن يريد من العباد خلاف ما يأمر به، وأن يحكم عليهم شيئا ثم يحازيهم عليه» ! وهذا الذي يقوله واصل، حق لا شك فيه.. فالله حكيم عادل، ولكن مع حكمة الله وعدله، قدرته وإرادته، والقدرة والإرادة يقضيان بألا يقع فى ملكه غير ما يشاء ويريد..
والسؤال هنا: هل الإنسان من القدرة والاستطاعة بحيث يتحكم فى الأسباب الخارجة، التي تصادم القوى التي أودعها الله فيه.. من عقل وإرادة.. ؟
يقول واصل: «فالعبد هو الفاعل للخير والشر، والإيمان والكفر، والطاعة والمعصية، وهو المجازى على فعله، والرب أقدره على ذلك كله».
ونقول: إذا كان الله أقدر العبد على كل ما يفعل من خير وشر، وإيمان وكفر، وطاعة ومعصية- فماذا بقي للعبد إذن؟ وكيف يضاف إليه كل ما يفعل، وهو إنما يفعل بالقدرة التي أقدره الله بها على فعل ما يفعل؟ كيف يتفق هذا مع ذك. ؟
ويقول واصل أيضا:
«ويستحيل أن يخاطب الله العبد «بافعل» وهو لا يمكنه أن يفعل.. ؟
269
«وهو- أي العبد- يحسّ من نفسه الاقتدار والفعل.. ومن أنكره فقد أنكر الضرورة» ! ونقول: إن مفهوم هذا القول يقتضى أن يقوم إزاءه قول آخر.. وهو:
إنه يستحيل أن يخاطب الله العبد بألا تفعل ثم لا يمكّنه من ألّا يفعل! وإذن، فيكون الوضع الصحيح للمسألة على مقتضى هذا الرأى، هو:
أولا: أن الله يأمر العبد بأن يفعل، ويمكنّه من أن يفعل.. وهذا فى باب الخير والمعروف، فيفعل كل ما هو خير ومعروف.
وثانيا: أن الله ينهى العبد ألا يفعل المنكر، ويمكّنه من ألا يفعله..
وهذا يشمل المنهيات جميعا، فلا يفعل العبد ما هو شر ومنكر أبدا.. وهذا غير واقع.. فما أكثر ما يأتى الإنسان ما نهى الله عنه من فواحش وعلى هذا، فالعبد إنما يفعل ما يفعل من خير أو شر بما أودع الله فيه من قدرة، فإذا فعل العبد خيرا فبما أودع الله فيه من قدرة على فعل الخير، وإذا فعل شرّا فبما فيه من قوة لا تستطع أن تدفع الشرّ الذي فعل.
ما ذنب العبد إذن؟ أهذا يتفق مع العدل الذي يقوم عليه مذهب المعتزلة؟
ألا ينتهى هذا الرأى إلى القول بالجبر؟
«ويكاد واصل» يقول هذا.. ولكنه يردّه عن ذلك ما يرى من عدل الله وحكمته، فهو يريد أن يدفع عن عدل الله تبعة الأعمال السيئة التي يجازى عليها المسيئون، كما يدفع عن حكمة الله هذه الشرور التي تقع فى محيط الناس.
أترى أن واصلا كان عادلا فى هذا الحكم؟ إنه نظر إلى المسألة من جانب واحد.. جانب الإنسان العاجز الضعيف، وعلّق فى عنقه كل هذه الشرور والآثام..
270
رأى أبى علىّ الجبّائى وابنه أبى هاشم يقولان: «إن الله تعالى لم يدّخر عن عباده شيئا يعلم أنه إذا فعل بهم أتوا بالطاعة والتقوى.. من الصلاح والأصلح، واللطف، لأنه- تعالى- قادر، عالم، جواد، حكيم، لا يضرّه الإعطاء، ولا ينقص من خزائنه المنح، ولا يزيد فى ملكه الادخار.. ولا يقال إن الله تعالى يقدر على شىء هو أصلح مما فعله بعبده ثم لم يفعله.. والتكاليف كلها ألطاف!!» وواضح أن هذا القول يجعل أفعال العبد كلها مرضيّة عند الله، خيرها وشرها، لأن الله لم يدخر عن عباده شيئا من الصلاح والأصلح واللطف..
وإذن.. فلا خير ولا شر.. فالتكاليف- كما يقولان- كلها ألطاف، وما يأتى العبد منها وما يدع، إنما هو غاية ما أعطى الله العبد من قوى، وليس وراء هذا شىء يمكن أن يمنحه الله العبد غير الذي منح.
ونقول: هل على هذا يقال: إن العبد حرّ مختار، يفعل ما يشاء؟
نعم: إنه يفعل ما يشاء فى حدود هذه الطاقة التي أمدّه الله بها، والتي هى كل ما عند الله له.. كما يقولان! وإذن فلم يحاسب العبد ويعذّب على الشرّ الذي يفعله، وهو لم يفعل إلا بما مكن الله له منه، وأقدره عليه.. ؟
رأى النّظام
يرى النظام أن القدر خيره وشرّه منّا، وأن الله تعالى لا يوصف بالقدرة على الشرور والمعاصي، وليست هى مقدورة للبارىء تعالى.. ويرى النظام أن الله لا يقدر أن يخلق أكثر مما خلق بالفعل، وإلا فمن ذا الذي يستطيع أن يحول بينه وبين أن يظهر كلّ ما عنده من الجود والجمال؟».
271
ونقول: كيف يقف شىء أمام قدرة الله؟ وهل تقع هذه الأمور التي نراها شرّا إن لم تكن من تقدير الله؟ وهل يدخل على نظام هذا الملك شىء لا يريده الله؟
لقد ردّ أصحاب «النظام» أنفسهم على هذا، فقالوا: إن الله قادر على الشرور والمعاصي، ولكنه لا يفعلها لأنها قبيحة.
ونقول: إذا كانت تلك الأمور التي يصفونها بأنها قبيحة، هى قبيحة فعلا.. فلم يدعها الله سبحانه تدخل فى نظام ملكه الذي أقامه؟
هذا قول متهافت، لا يستقيم أوله مع آخره..
ونستطيع بعد هذا أن نقول: إن أقوال المعتزلة فى قدرة الإنسان لم تقم على منطق سليم، ولم نستقم على طريق واضح.
الله عادل.. ما فى ذلك شك.
ومقتضى هذا العدل أن تجزى كل نفس بما كسبت.. فالعبد كاسب لأفعاله، أي أنها جرت على يديه. وبمحض إرادته.. ولكنه مع هذا واقع تحت إرادة الله، خاضع لمشيئته.
وللنظام رأى فى إرادة الله، وأن معنى الإرادة عنده ليس هو معنى المشيئة، لأن الإرادة بمعنى المشيئة تستلزم حاجة من جانب المريد، ولهذا يقول: «إن الله إذا وصف بأنه مريد لأفعاله، فمعنى ذلك أنه خالقها ومنشئها، وإذا وصف بأنه مريد لأفعال عباده أو وقوع أمر، فمعنى ذلك أنه حاكم بذلك، أو آمر، أو مخبر».
وهذا الفهم للإرادة بأنها تستلزم حاجة من جانب المريد، إنما هو فهم مقيس على المستوي الإنسانى، حيث إرادتنا محصورة فى دائرة حاجاتنا ومطالبنا..
272
فلا نريد إلا ما نحن فى حاجة إليه.. ذلك فهم يتفق مع عالم النقص الذي نحن فيه، فتكون إرادتنا متحركة فى هذا العالم حسب حاجتنا، ساعية إلى سدّ ما نشعر به من نقص.. إننا نريد كذا، لأجل كذا..
أما عالم الكمال، فما يصدر عنه لا يصدر لحاجة، وإن صدر بإرادة ومشيئة، ولن يصدر بغير إرادة ومشيئة.. إنه يجرى مع الحكمة التي يطلبها الكمال..
مما تقدم يمكن أن نقول:
أولا: إن المعتزلة قد بالغوا فى رفع قيمة الإنسان، وكادوا يجعلون منه إلها مستقلا بسلطان وجوده، لا يلتفت إلى ماوراء وجوده فى صراعه مع الحياة، وفى تقلبه بين خيرها وشرها.
ولا شك أن هذه «الانعزالية» عن العالم العلوي، تحرم الإنسان كثيرا من أمداد الاستعانة بالخالق جلّ وعلا، كما أنها تدفع داعية التوكل على الله، والرضا بقضائه وقدره، بعد أن ينفذ القضاء، ويقع المقدور، فيكون فى هذا عزاء جميلا عما وقع للإنسان مما يكره ويسوء.
ثانيا: أن المعتزلة فى دفعهم للإنسان إلى هذا الحدّ، قد جاروا على الإنسان نفسه، وخلّوا بينه وبين ذاته، وألزموه أمورا وحمّلوه أوزارا يلقى بها ربه فى غير رجاء، كما جعلوا صوالح أعماله حقّا ملزما لله، يطالبه به العبد فى غير حياء! وتلك حال يدخل فيها الضيم على الإنسان من كل وجه.. فإن أي إنسان مهما بلغ من التقوى والكمال، ومهما قدّم من خير وبرّ، فهو فى حاجة أبدا إلى فضل الله، وإنّه لن يدخل الجنة بعمله، لأن أعماله مهما عظمت لن تفى بالقليل من بعض نعم الله وفضله عليه.. وفى هذا يقول الرسول الكريم..
«إنكم لن تدخلوا الجنة بأعمالكم».. قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال:
«ولا أنا إلّا أن يتغمّدنى الله برحمته»
273
ولهذا وجد كثير من أنصار المعتزلة حرجا فى الأخذ بقولهم هنا، من إطلاق قدرة الإنسان وإرادته..
فهذا إمام من أئمتهم، وهو «الجاحظ» لا يرضى أن يقرر مذهب المعتزلة فى هذه المسألة على هذا الوجه.. بل إنه ليصل إرادة العبد بإرادة الله.. يقول الجاحظ: «لا فضل للإنسان إلا بالإرادة».
ومعنى هذا أن للإنسان إرادة، وأنه بغيرها لا يكون أحسن من الحيوان حالا، ولا أكرم منزلة..
ولكن هذه الإرادة التي يحملها الإنسان فى كيانه لا تعمل وحدها، هكذا مطلقة من كل قيد، فهى متصلة أولا بكيان الإنسان كله، وهى ثمرة من ثمرات التفاعل الذي يجرى فى هذا الكيان، الذي هو متصل بهذا الوجود كلّه، مقيد به، ومؤثر فيه، ومتأثر به.. وفى هذا يقول الجاحظ:
«لأن أفعال الإنسان كلها داخلة فى نسيج حوادث الطبيعة من جهة، ولأن علم الإنسان كلّه اضطراري يأتيه من أعلى.. من جهة أخرى».
ومعنى هذا أن الإرادة التي يعمل بها الإنسان ليست كلها له، لأنها فرع العلم الذي يحصّله اضطرارا، والذي يأتيه من أعلى..
ونسأل: وأين إرادة الإنسان إذن؟
نكاد نقول إن الجاحظ يقول بالجبر والاختيار معا..!
ثالثا: إن المعتزلة وهم يحاولون أن يدافعوا عن «عدل الله» بإضافة أقوال الإنسان كلها- خيرها وشرها- إلى الإنسان- أقول: إنهم بهذا الدفاع قد أنكروا على الله أن يكون قادرا ومريدا، مطلق القدرة، ومطلق الإرادة، أي ذا قدرة وإرادة شاملتين.. والقدرة والإرادة بهذا الوصف- من صفات الكمال. فكيف لا يتصف الخالق بهما؟ تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا..
274
ثورة على المعتزلة
لهذا لم يرتض كثير من المسلمين آراء المعتزلة، وإن حمدوا للكثير منهم دفاعهم عن الدّين، وكسرهم من حدّة السلبيّة، التي استولت على المجتمع الإسلامى، بعد تلك الفتن الكثيرة، والجراحات القاتلة، التي أصابت الصميم من الجسد الاجتماعى الإسلامى، التي أصابت المسلمين، بعد مقتل الإمام علىّ- كرم الله وجهه- ومصارع أهل البيت- رضوان الله عليهم- وامتحان كثير من صحابة رسول الله، والتابعين، على يد الخلفاء الأمويين والعباسيين على السواء..
فكان الاستسلام للأحداث، والتسليم بالهزيمة هو العزاء لكثير من النفوس، حتى لقد كان لسان حال الناس فى كل أمر هو: هذا ما قضى الله وقدّره! وكان هذا القول- وهو قول حق- يقال فى كل حال داعية إليه، أو غير داعية، يتعزّى به الناس عند كل مصيبة، ويستدعونه عند كل نازلة، دون استحضار هممهم، وبذل جهدهم.. والقول بأن هذا قضاء الله وقدر الله، هو قول حق، ولكن الاستنامة فى ظل هذا القول، وإلقاء كل أخطائنا على القدر، هو الذي لا يرضاه، عقل، ولا يقرّه دين «١».
من أجل هذا قام المعتزلة فى وجه هذه الظاهرة، وتصدّوا لتلك الدّعوة المريضة، ولكن بدلا من أن يقتصدوا فى تقرير مسئولية الإنسان، وفى إبراز شخصيته، وإثبات وجوده مع أحداث الحياة- بالغوا أيّما مبالغة فى هذا الأمر، فبعد أن كان القول الذائع بأن إرادة الله فوق كل شىء، وإرادة العبد لا شىء- أصبح القول عند المعتزلة هو: إن إرادة العبد هى كل شىء، وإن إرادة الله لا شىء!.
(١) انظر بحثنا فى القضاء والقدر فى كتابنا «القضاء والقدر بين الفلسفة والدين».
275
وهكذا اندفع المعتزلة زمنا وراء هذه الدعوة، وجروا بها أشواطا بعيدة، حتى وقع الخلاف بينهم، وقام فيهم من يردّ عليهم، ويوقف انطلاق دعوتهم..
وكان «الأشعري» فارس هذه الحلبة، ورجل هذا الميدان!.
رأى أهل السنة
الأشعري: هو تلميذ أبى علىّ الجبّائى- أحد ائمة المعتزلة. ولكنّه لم يرتض قول المعتزلة فى إطلاق إرادة الإنسان واختياره،.. فكان له رأيه الذي أصبح- فيما بعد- الرأى الذي تقول به الجماعة، (أي أهل السنّة).
يقول «دى بور» فى كتابه تاريخ الفلسفة الإسلامية: «وظهر من بين صفوف المعتزلة رجل كانت رسالته أن يتوسط بين مختلف الآراء، ويقيم بناء المذهب الذي عرف فى الشرق، ثم فى بلاد العالم الإسلامى، بأنه مذهب السنّة..
«استطاع الأشعري أن يجعل لله ما يليق به، دون أن يتحيّف حق الإنسان..
فالإنسان عنده يمتاز بأنه يستطيع أن يضيف إلى نفسه ما يخلقه الله فيه من الأفعال، وأن يعتبر ذلك من كسبه»
..
وليست مكانة الأشعري عند جمهور المسلمين فى هذا الرأى الذي قرّره..
كما يقول «دى بور» - فإن هذا الرأى فى ذاته غير واضح المعالم، وغير مقنع فى قضية القدر- كما سنرى- ولكن قيمة الأشعري ومكانته، إنما هى فى خروجه على المعتزلة، ووقوفه فى وجههم، وتصدّيه لهم وهم أوج قوتهم.
يقول «طاش كبرى زاده» فى كتابه: «مفتاح السعادة» :«ودفع- أي الأشعري- الكتب التي ألّفها على مذهب أهل السنة، وكانت المعتزلة قبل ذلك قد رفعوا رءوسهم، فجحرهم الأشعري، حتى دخلوا فى أقماع السمسم» !!
276
ويعلّق المرحوم الشيخ مصطفى عبد الرازق على هذا بقوله: «إذا كان مذهب الأشعري فى محاربة المعتزلة بمثل سلاحهم، من أساليب النظر العقلي- قد أضعف الاعتزال، وأذلّ سلطانه، فإن السياسة كان لها كبير الأثر فيما ناله الاعتزال من القوة والسيادة أولا، وكان لها أثرها فى نزوله عن عرشه أخيرا».
إن الأشعري، قد وقف فى وجه المعتزلة، فانتزع منهم الإنسان الذي جعلوه فى بعض أحواله خالقا، منفردا بخلق أفعاله وتدبير وجوده، حتى لكأنه يطاول إله العالمين، وينازعه سلطانه- انتزع الأشعري هذا الإنسان الإلهى، ونزل به إلى واقع الحياة البشرية، فجعله «كاسبا» لأفعاله، لا خالقا لها، عاملا بإرادته، ولكن فى ظلّ من إرادة الله ومشيئته..
[كسب الإنسان]
فتح الأشعري بنظرية «الكسب» التي أحلها محل «الخلق» الذي تقول به المعتزلة- نقول: فتح بابا دخل منه كثير من الفلاسفة والمتكلمين على هذا الشيء الذي سماه الأشعري كسبا، والذي يراه فى الإنسان، متلبسا بإرادته، معلقا بمشيئته..
وقد عدّ كثير من العلماء والباحثين قول الأشعري لغزا تندّروا به، ووضعوه موضع العقد التي لا يعرف لها حلّ، وذلك أنهم لم يروا فارقا واضحا بين «الخلق» الذي تقول به المعتزلة، وبين «الكسب» الذي يقول به الأشعري، ويراه مناقضا للقول بالخلق.
يقول ابن تيمية فى تفنيد نظرية الكسب: «ولا يقول الأشعري: إن العبد فاعل فى الحقيقة، بل كاسب، ولم يذكر بين الكسب والفعل فرقا معقولا، بل حقيقة قولهم- أي الأشعرية- قول جهم: (هو جهم بن معبد، رأس الجبرية) إن العبد لا قدرة له، ولا فعل ولا كسب.
277
وقد نظم بعضهم هذا شعرا، وقرن نظرية القول «بالكسب» إلى نظرية القول «بالطّفرة» عند النظام، والقول «بالحال» عندهم أبى هاشم: فقال:
مما يقال ولا حقيقة عنده معقولة تدنو إلى الأفهام
الكسب عند الأشعري والحال عند البهشمىّ وطفرة النظام «١»
والذي جعل الأشعري يقول «بالكسب» هو ما رآه فى الإنسان من إرادة وقدرة على الفعل أو الترك، ثم ما يراه من جهة أخرى من قدرة الله المطلقة الشاملة، وعلمه المحيط بكل شىء، فلم يرتض أن يقول إن العبد خالق لأفعاله، لأن الخلق لله، ولم يقبل أن يجعل العبد آلة مسخرة، لأنه يراه يعمل بإرادة، ويتحرك بقدرة، ويقدم أو يحجم عن تقدير وتفكير.. فلا بد- والأمر كذلك- أن يضيف إلى الإنسان شيئا مما يعمل، لا كل ما يعمل، وسمّى هذا «كسبا».
يقول الأشعري: «والعبد قادر على أفعال العباد.. إذ الإنسان يجد من نفسه تفرقة ضرورية، بين حركات الرّعدة والرعشة، - التي هى حركات اضطرارية- وحركات الاختيار والإرادة.. إن الحركات الاختيارية حاصلة من اختيار القادر.. والمكتسب هو المقدور بالقدرة الحادثة».
وعلى أىّ، فإن نظرية «الكسب» هذه، قد أثارت جوّا من التفكير عند الباحثين فى هذه المشكلة، وكانت معتمد الذين لا يقولون بقول المعتزلة، من أن للإنسان اختيارا مطلقا فى أفعاله، وإنّما للإنسان نوع من الاختيار، ودرجة من الإرادة، حيث يضعون الإنسان فى منزلة بين الاختيار والجبر،
(١) البهشمى: هو أبو هاشم ووالده أبو على الجبائي من شيوخ المعتزلة..
وقد ركب اسمه «أبو هاشم» تركيبا مزجيا «بهشمى».
278
فلا هو مختار مطلق، ولا هو مجبر ملزم.. إن له إرادة، ولكنها إرادة مقيدة بأكثر من قيد.
ولقد صار الأشعري بقوله هذا زعيما لحركة أطلق عليها لفظ «الأشاعرة» نسبة إليه، ثم أصبحت هذه الحركة معبرة عن رأى أهل السنة.
وقد ظاهر هذه الحركة كثير من علماء السنّة وفقهائها.. منهم إمام الحرمين.. أبو المعالي الجويني، والقاضي أبو بكر الباقلاني، وفخر الدين الرازي، والإمام الغزالي، ولسان الدين بن الخطيب.. وكثير غيرهم.
حركة الأشاعرة
يدور رأى الأشاعرة- كما أشرنا من قبل- على القول بأن الإنسان فى «منطقة» حرام، بين الجبر والاختيار..
فالإنسان مختار فى قالب مجبر، وأنه أشبه براكب سفينة تمخر عباب المحيط، فهو حرّ مختار يسير كيف يشاء، وأين يشاء، داخل هذه السفينة، ولكنه مجبر مسيّر هو وسفينته بعوامل خارجية تحيط به وبالسفينة.. كالأنواء، والعواصف وغيرها.. مما يتصل بسلامة السفينة وقوة احتمالها.. كذلك الإنسان فى سفينة الوجود! هو حرّ مطلق، ولكنه مقيد بالنظام العام للوجود! فالأشاعرة هنا قريبون من الفلاسفة الغربيين القائلين بنظرية الاتفاقية، أو الظروف والمناسبات.. ومعناها أن كل فعل إنما هو فى الحقيقة لله، ولكنه يظهر على النحو الذي يظهر فيه، إذا تحققت ظروف خاصة: إنسانية، أو غير إنسانية، حتى لكأنّما يخيل للإنسان أن الظروف هى التي أوجدت هذا الفعل..
والأشعري، يرى ألا تأثير للقدرة الحادثة فى الأحداث، وإنما جرت سنّة
279
الله بأن يلازم بين الفعل المحدث وبين القدرة المحدثة له، ويسمّى هذا الفعل كسبا، فيكون خلقا من الله تعالى، وكسبا من العبد، فى متناول قدرته واستطاعته..
هذا هو المحتوى الإجمالى لمذهب «الأشاعرة» غير أن لكل صاحب قول فى هذا المذهب اتجاها خاصا فى تقرير هذه القضية، وتحريرها.. كما سنرى فى عرض هذه النماذج من المقولات.
لسان الدين بن الخطيب ورأيه فى الكسب
يرى لسان الدين بن الخطيب، أن الكسب فعل يخلقه الله فى العبد، كما يخلق فيه القدرة، والإرادة، والعلم.. فيضاف الفعل إلى الله «خلقا» لأنه خالقه، وإلى العبد «كسبا» لأنه محلّه الذي قام به..
يقول ابن الخطيب:
«وإذا كانت العرب تقول: حرّكت القضيب فتحرك، فتجعل الحركة بين فاعلين، حركة للمتحرك، وفعلا للمحرّك، فذلك- أي ما يصدر عن الإنسان- أقرب، لوجود القصد، والعلم، والقدرة.. فى محيط الإنسان.. ثم إن الطاعة والمعصية للعبد من حيث الكسب. ولا طاعة ولا معصية- أي للعبد- من حيث الخلق! «والخلق لا يصح أن يضاف إلى العبد، لأنه إيجاد من عدم، والفعل موجود بالقدرة القديمة، لعموم تعلق القدرة الحادثة بها.. فالقدرة الحادثة تتعلق ولا تؤثر.. وهذه- أي القدرة الحادثة- تصلح للتأثير لولا المانع، وهو وجود القدرة القديمة، لأنهما إذا تواردا- أي اجتمعا: القدرة القديمة والحادثة- لم يكن للقدرة الحادثة تأثير!!» فابن الخطيب، يرى للإنسان قصدا، وعلما، يلقى بهما ضروب الأمور
280
فى الحياة.. فهذا جانب حر، أو منطقة حرّة فى كيان الإنسان.. ولكنه يرى من جهة أخرى أن الأفعال كلها مخلوقة لله، بإرادة أزلية سابقة شاملة، وأن إرادة الإنسان لا تؤثر فى القدرة القديمة..
فالإنسان محكوم عليه أن ينفّذ ما وقع فى إرادة الله، وأن إرادة الإنسان، وقصده، وعلمه- كل هذا، لا يغيّر من المقدّر عليه شيئا.. فالإنسان حر إلى أن يفرغ من الفعل الذي قدّر عليه بإرادة سابقة أن يقع على يديه.
وتسأل: ما قيمة هذه الحرّية مع ما سبق من إرادة الله وقدرته؟ إن الإنسان فى ظاهر الأمر يبدو حرّا طليقا، ولكن قوة غير ظاهرة هى التي تقوده إلى ما سبق به علم الله، وقضت به إرادته.. ومرة أخرى: ما قيمة هذه الحريّة؟
أتراها تدفع شيئا مما قضى به الله وقدّره؟
والجواب: كلا.. إنها لا تدفع قضاء ولا تردّ قدرا.. ولكنها حرية تتيح للإنسان أن يبرز ذاته، وأن يعمل قواه كلها، وأن يفرض وجوده على الحياة، وأن يبسط سلطانه على الأشياء، وإن تفلّتث منه وخرجت من يديه! وذلك شىء ليس بالقليل فى وجود الإنسان الذي لا قيمة له بغير هذه الحرية التي تمنحه الاستعلاء على الأشياء، وتريه من نفسه أنه قادر، مستطيع، عالم، مريد.. وإن لم يكن قادرا، ولا مستطيعا، ولا عالما، ولا مريدا.
إمام الحرمين ورأيه فى الكسب
هو أبو المعالي، عبد الملك بن عبد الله الجويني، المعروف بإمام الحرمين (توفى سنة ٤٧٨ هجرية).
وقد نزع بنظرية الكسب منزعا آخر.. إنه يطلق حرّية الإنسان من
281
جانب، ويربطه بالأسباب الخارجة عن محيطه من جانب آخر.. ثم يجعل أفعال الإنسان- تبعا لهذا- قسمة بين إرادته وبين الأسباب الملازمة.
يقول:
«نفى القدرة والاستطاعة عن الإنسان، مما يأباه العقل والحسّ.. فلا بدّ إذن من نسبة فعل العبد إلى قدرته حقيقة، لا على وجه الإحداث والخلق..
فإن الخلق يشعر باستقلال فى إيجاد الفعل من العدم، وذلك من شأن الله وحده..
«والإنسان كما يحسّ من نفسه الاقتدار، يحسّ من نفسه أيضا عدم الاستقلال.. فالفعل يستند وجودا إلى القدرة- أي القدرة الإنسانية.
«والقدرة تستند وجودا إلى سبب آخر يكون نسبة القدرة إلى ذلك السبب كنسبة الفعل إلى القدرة! «وكذلك يستند سبب إلى سبب، حتى ينتهى إلى مسبب الأسباب..
فهو- أي الله- الخالق للأسباب ومسبباتها، المستغنى على الإطلاق.. على خلاف الأسباب، فإن كل سبب مستغن من وجه، محتاج من وجه، والباري تعالى، هو المطلق الذي لا حاجة له ولا افتقار.»

ورأى إمام الحرمين- كما ترى- غير صريح فى حرّية الإنسان واضطراره، إنه يضع الإنسان فى منطقة الذبذبات الاختيارية المقيدة فى مجال الاضطرار..
انظر:
الفعل يستند وجودا إلى القدرة، أي القدرة التي تحمل الإنسان على اختيار فعل دون فعل.. وهذا واضح.
282
والقدرة تستند وجودا إلى سبب! ومعنى هذا أن القدرة التي يواجه بها الإنسان أىّ أمر هى وليدة سبب، وهذا السبب الذي به أصبح الإنسان ذا قدرة، يتولد من أسباب كثيرة، بعضها وراثي، وبعضها كسبى، وهى فى الواقع كل كيان الإنسان، الذي ليس للإنسان- فى الواقع- أثر كبير فى تكييفه.
فهذه الأسباب التي توجد القدرة، هى موضع النظر فى هذه القضية..
فمن أوجدها وقدّرها؟ هذا هو أساس المشكلة التي يطلب علاجها..
ثم أليس هذا هو رأى «الجاحظ» المعتزلي، الذي يقول: إن أفعال الإنسان كلها داخلة فى نسيج حوادث الطبيعة، وإن إرادة الإنسان هى القوة العاملة فيه، وإن هذه الإرادة هى فرع العلم، وثمرة من ثمراته، وإن العلم اضطراري يأتى من أعلى؟
فالإنسان بمقتضى هذا القول، عند إمام الحرمين، مجبر فى صورة مختار، أو مختار فى حال مقيد!
رأى الغزالىّ في الكسب
يذهب الغزالي فى قضية القدر مذهب التسليم، فيأخذ بظاهر آيات الكتاب، ولا يرضى لعقله الفلسفي أن يتناول هذه القضية.
يقول الغزالي: «الله تعالى خلق القدرة والمقدور جميعا، وخلق الاختيار والمختار جميعا.. فأما القدرة فوصف للعبد، وخلق للرب، وأما الحركة، فخلق للربّ، ووصف للعبد وكسب له».
ومعنى هذا- كما يقول الغزالي- أن الله خالق كل شىء.. القدرة والمقدور
283
جميعا.. فليس للعبد شىء إذن، إن له بالعمل نوعا من الصلة، وهو الكسب الذي يقول به الأشعري! ثم يقول الغزالي: «واعلم أن من ظنّ أن الله تعالى أنزل الكتاب، وأرسل الرسل، وأمر ونهى ووعد وتوعّد، لغير قادر مختار- فهو مختلّ المزاج، محتاج إلى علاج» !! وهذه حجة اعتمد فيها الغزالي على النقل، أكثر من اعتماده على العقل..
رأى الفارابي فى الكسب
يقول الفارابي:
«وللنفس بطبيعتها نزوع، ولمّا كانت تحسّ وتتخيّل فلها إرادة كسائر الحيوان، غير أن الاختيار للإنسان فقط.. لأن الاختيار يقوم على الرويّة، وميدانه ميدان العقل الخالص.. فالاختيار متوقف على أسباب من الفكر..
فكان الاختيار والاضطرار فى وقت واحد.. لأنه- أي العقل- بحسب أصله الأول، مقدّر فى علم الله.
ثم يقول:
«والاختيار الإنسانى، إذا فهم على هذا النحو لا يستطيع أن يقهر الشهوة إلا قهرا ناقصا، لأن المادة تقف فى سبيله، وعلى هذا لا تكتمل حرّية النفس الناطقة إلا إذا تحررت من قيود المادة، أعنى إذا صارت النفس عقلا!»
وواضح أن رأى الفارابي يتفق مع رأى إمام الحرمين.. لأن الاختيار الذي يقول به، متوقف على أسباب من الفكر.. والعقل مقدّر فى علم الله، والإنسان إنما يعمل بما وهبه الله من عقل..
284
رأى الفيلسوف محمد إقبال
ويقول الفيلسوف الباكستانى محمد إقبال فى هذا الموضوع:
«ولا شكّ أن ظهور ذوات لها القدرة على الفعل التلقائى، ومن ثمّ يكون فعلها غير متلبّأ به- يتضمن تحديدا لحرية الذات المحيطة بكل شىء» يريد إقبال أن يقول: إن إرادة الإنسان التي تخلق من تلقاء نفسها، فيها تحديد لإرادة الله المطلقة، إذ كانت هناك إرادات تعمل مستقلّة عن تلك الإرادة الشاملة..
ثم يقول إقبال:
«ولكنّ هذا التحديد لم يفرض على الذات الأولى- ذات الله- من خارج، بل نشأ عن حريتها الخالقة التي شاءت أن تصطفى بعض الذوات المتناهية- أي ذوات البشر- لتقاسمه.. فى الحياة، والقوة، والاختيار!».
ومعنى هذا- كما يقول إقبال- أنه لا تعارض بين إرادة الله وإرادة الإنسان، فالله سبحانه بإرادته الشاملة خلق إرادات تعمل فى حدود معينة، هى حدود الإمكان البشرى.
ثم يقول إقبال: «وربّ سائل يقول: ولكن كيف يكون فى الإمكان التوفاق بين التحديد، وبين القدرة المطلقة؟
ويجيب على هذا بقوله:
«وكل فعل، سواء أكان متصلا بالخالق، أم غير متصل به، هو نوع من التحديد، يستحيل بغيره أن نتصوّر الله ذاتا فعّالة متحققة الوجود فى الخارج..
ولو أننا تصورنا القدرة المطلقة تصورا مجردا، لكانت مجرد نوع من قوة عمياء، متقلبة الأهواء، ولا حدّ لها..
285
«والقرآن يصوّر الطبيعة تصويرا واضحا محددا، بوصفها عالما يتألف من قوّى يتعلق بعضها ببعض، وعلى هذا، فهو- أي القرآن- يعتبر قدرة الله المطلقة وثيقة الصلة بحكمته الإلهية، ويرى أن قدرة الله غير المتناهية، تتجلّى لا فيما هو متعسف صادر عن الهوى، وإنما فى المتواتر، المطرد، المنظم».
يريد إقبال أن يقول: إن كل الحوادث الواقعة فى الوجود، هى فى الواقع تحديد لقدرة الله، لأنها- أي القدرة- تجرى بما قتضته الحكمة الإلهية التي أودعت فى الوجود نظاما مطردا، والنظام فى ذاته قيد من غير شك! ثم يقول إقبال فى موضع آخر:
«فالمعصية الأولى للإنسان- معصية آدم- كانت أول فعل- أي للإنسان- تتمثل فيه حرّية الاختيار، ولهذا تاب الله على آدم، وغفر له..
«وعمل الخير لا يمكن أن يكون قسرا، بل هو خضوع عن طواعيّة للمثل الأخلاقى الأعلى، خضوعا ينشأ عن تعاون الذوات الحرة المختارة، عن رغبة ورضى.
«والكائن الذي قدّرت عليه حركاته كلها، كما قدرت حركات الآلة، لا يقدر على فعل الخير.. وعلى هذا فإن الحرية شرط فى عمل الخير..
«ولكن السّماح بظهور ذات متناهية لها القدرة على أن تختار ما تفعل بعد تقدير القيم النسبية للأفعال الممكنة لها- هو فى الحق مغامرة كبرى، لأن حريّة اختيار الخير، تتضمن حرية اختيار عكسه..
«وكون المشيئة الإلهية اقتضت ذلك، دليل على ما لله من ثقة فى الإنسان..»
(ولقد بقي على الإنسان أن يبرهان على أنه أهل لهذه الثقة!)
286
«وربما كانت مغامرة كهذه، هى وحدها التي تيسّر الابتلاء، والتنبيه للقوى الممكنة لوجود «خلق» «فى أحسن تقويم» ثم ردّ إلى «أسفل سافلين» وكما يقول القرآن: «وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً»..
وهذا- فى رأينا- أعدل رأى فى هذه القضية!! ويعجبنى فى هذا المقام رأى للفيلسوف الأمريكى «رويس» يصوّر به الصلة بين الله الإنسان، وهى صلة- كما يراها الفيلسوف، تجعل لله- سبحانه- القدرة المطلقة، كما تجعل للإنسان قدرة عاملة داخل قدرة الله.. ويضرب الفيلسوف لهذا مثلا محكما من الرياضيات، التي تعتبر أكثر المعارف دقة وانضباطا..
والمثل الذي ضربه «رويس» هو أنه وضع لله سبحانه وتعالى دلالة من الأعداد، هى سلسلة- تبدأ بالواحد، ولا تنتهى.. هكذا:
١، ٢، ٤، ٥، ٦، ٧... إلى ما لا نهاية.. وهو الله سبحانه فهذا هو المطلق الذي يشتمل كل شىء..
أما الموجودات، فقد صورها «رويس» فى سلاسل عددية على هذا النحو الآتي: - ٢- ٤- ٨- ١٦... إلى ما لا نهاية.
٣- ٩- ٢٧- ٨١... إلى ما لا نهاية.
٥- ٢٥- ١٢٥- ٦٢٥... إلى ما لا نهاية.
٧- ٤٩- ٣٤٣- ٢٤٠١... إلى ما لا نهاية.
وهكذا تتولى سلاسل الأعداد إلى ما لا نهاية أيضا..
وكل عدد من هذه الأعداد يمثل فرادا من أفراد الناس..
ويلاحظ فى هذه الأعداد الإنسانية:
287
أولا: أنها داخلة جميعها فى السلسلة الأولى، إذ جميع ما فيها من أعداد تشتمل عليه السلسلة الأولى «المطلق».
وثانيا: أنها تتميز بطابع فريد، يجعلها وحدة قائمة بذاتها، ليس بينها وبين غيرها اتفاق مطلق.
هذا المثل يعطينا تصورا واضحا للصلة التي بين الإنسان وبين الله، من جهة، وبين الإنسان وبين غيره من الناس من جهة أخرى.
ففى كل سلسلة إنسانية شىء من السلسلة الأولى «الله» أو المطلق، وهى واقعة فى مضمونها..
وهذا يعنى أن للإنسان ذاتية خاصة، وإن كانت تلك الذاتية ضمن مشتملات الذات الأولى، ومعنى هذا أيضا أن الإنسان مطلق من جهة، ومقيد من جهة أخرى..
ثم إن الاختلاف بين هذه السلاسل يعنى أن الناس لا بد أن يكونوا مختلفين فيما بينهم.. كل إنسان كون مستقل بذاته، داخل هذا الكون العظيم «المطلق».
والفيلسوف «وليم چيمس» يحقق ذاتية الإنسان، مع وجود الله..
فلا يلغى إرادة الإنسان مع إرادة الله، ويرسم لهذا صورة قريبة من الصورة التي رسمها «رويس».. ولكنها صورة كلامية، وليست عددية.
يقول «چيمس» :
«الإله الذي هو عقل، يشمل سائر العقول، وليس منفصلا عن الكون انفصال الخالق عن خلقه، كما تصورت الديانات التقليدية، كلا، ولا هو حالّ فى الوجود كله، كما تصورت فلسفة وحدة الوجود.
288
«ولكن إله بينه وبين سائر العقول الفردية قسط مشترك، هو الاشتراك فى إدراكات بعينها، لكنه فى الوقت نفسه يتميز بفردية مستقلة، كما يتميز كل فرد من الأفراد الصغرى بفرديته المستقلّة..
فالصورة، أقرب إلى سلّم متدرج من عقول.. فعقل أكبر من عقل، لأنه يدرك إدراكات هذا العقل ثم يزيد عليها، ثم عقل ثالث أكبر من هذا العقل، فرابع أكبر.. وهكذا دواليك صعودا، دون أن يتحتم أن يكون هناك عقل مطلق يسع كل شىء.. فالعقل الأعلى فيه كل ما فى الأدنى مع الاحتمال دائما بأن يكون هناك ما هو أعلى»
.
ومنطق هذا القول يقضى بأن لا تنتهى درجات السلّم العقلي عند نهاية ليس بعدها شىء، بل هناك احتمال دائما بأن يكون هناك ما هو أعلى.. ومع وجود هذا الاحتمال، فإن الواقع المحقق هو أن هناك عقلا أعلى يسع العقول جميعا، وهو الذي يمكن أن يطلق عليه العقل المطلق، مادام ليس هناك ما هو فوقه.
فإذا وقع الاحتمال المتوقع، وهو ظهور عقل أعلى، كان هو العقل المطلق..
وهكذا.
ولعل ماحدا بوليم چيمس إلى هذه الفكرة التي تجعل العقول متصاعدة، دون أن تضيع فى ذلك شخصية العقل الأدنى فى العقل الأعلى- هو أنه أراد أن يحتفظ لكل فرد بإرادته المستقلة، لتقع عليه مسئوليته الخلقية.. وهذا ما يجعل لكفاح الأفراد نحو الخير معنى، لأنه يجعل فى مستطاع الأفراد تغيير ما هو كائن، إذا كان ذلك الكائن شرا، ليصبح أفضل مما هو وأكمل..
الله والإنسان.. مرة أخرى
لا يستطيع عاقل أن ينكر إرادة الإنسان المستقرة فى كيانه، والتي بها
289
يتعامل مع الحياة، فيقبل على الشيء أو يعرض عنه، حسب تقديره وإرادته..
ولا يستطيع مؤمن بالله أن ينكر قدرة الله الشاملة، وإرادته النافذة، وأن كل شىء بيد الله، وتحت مشيئته..
هذان الأمران يكاد يتفق عليهما جميع المؤمنين بالله، وهما: أن لله إرادة وقدرة، وأن للإنسان إرادة وقدرة..
ولكن الخلاف يقع ويشتد بين المؤمنين بالله، حين ينظر الناظرون منهم إلى الإرادتين معا، وإلى القدرتين معا، فى مجال التصريف والعمل..
وقد رأينا ألوانا مختلفة من التفكير، ومذاهب متعددة من الرأى، فى تقدير إرادة الإنسان وقدرته، إلى جانب إرادة الله وقدرته..
فذهب قوم إلى أن إرادة الإنسان وقدرته لا أثر لهما إزاء إرادة الله وقدرته، بينما ذهب أقوام إلى عكس هذا، فقالوا: إن إرادة الإنسان لا تلغيها إرادة الله، ولا تعطّل عملها.. فالإنسان حرّ مختار يفعل ما يشاء، كيف يشاء.
وقد كان يمكن أن يمضى القول بهذا الرأى أو ذاك، أو بالرأيين معا، دون أن يبدو أثر ظاهر فى واقع الحياة إذا انتقلت من رأى إلى رأى.. فسيّان أن يكون الإنسان فى واقعه يعمل فى أمور مطلقة يخلقها كيف يشاء، ويدبّرها حيث يريد، أو فى أمور قدّرت من قبل، وأخذت صورتها كاملة قبل أن يلتقى بها- مادام الإنسان لم يؤت قدرة على كشف الغيب والتحقق من نتائج الأعمال قبل معالجتها ووقوعها..
إن الإنسان يعالج أمور الحياة حسب تقديره، ويمضيها حسب إرادته، ثم تجىء نتائجها التي لا يعلم علمها إلا بعد أن تقع.. وكون الإنسان يعمل فى أمور قدّرت، أو فى أمور لم تقدّر، فإن ذلك لا يؤثر على إرادته العاملة، ولا يتدخل تدخلا محسوسا فى تدبيره أموره.
290
أقول: إن القول بأن الإنسان مختار أو مجبر، والقول بأنه يعمل فى أمور مقدرة أو غير مقدرة- إن هذا القول أو ذاك لا يظهر لهما أثر إلا إذا نزلت أعمال الإنسان منزل الحساب والجزاء، حين يحاسب على عمله، فيجزى عن الخير خيرا، وعن الشر شرا.
هنا يتغير الموقف، ويصبح للقول باختيار الإنسان أو جبره، وللقول بالقدر أو بألّا قدر- نتائج خطيرة، يتعلق بها مصير الإنسان، وتتقرر بها سعادته أو شقاؤه فى الدار الآخرة..
فإذا قيل إن الإنسان حر مختار، كان معنى هذا أنه مسئول عن عمله الحسن أو السيّء، وأنه سينال ثوابه وعقابه على ما قدم من عمل، ولا حجة له أمام الله....
وإذا قيل إنه مجبر مكره، وإنه يعمل بإرادة غالبة، وبقدر سابق، كان معنى هذا ألّا تبعة عليه، وبالتالى ألا ثواب على حسن، ولا عقاب على سيىء! ولكن الذي يقال هو غير هذا..
فهناك دار الآخرة، وفيها ثواب وعقاب، وجنة للمؤمنين المتقين، ونار للعصاة المذنبين.
وهنا تجىء التساؤلات والاعتراضات..
ما ذنب الإنسان؟ وكيف يسأل عن أعمال مقدورة، محكوم عليه أن يعملها؟..
وهنا تبرز مشكلة القضاء والقدر، وتصبح هذه المشكلة فى مجال النظر والامتحان.
وهنا تتفتح للكثير من الناس أبواب المنازعة فى تدبير الله وفى حكمته،
291
وفى قضائه وقدره..
فمن مستسلم لحكمة الله وتدبيره، وقضائه فيه، مؤمن بأن ما أصابه من خير أو شر فهو بقضاء الله وقدره، راض بما قسم الله.. ومن متخبط متسخّط، يضيف إلى نفسه الأعمال الطيبة الناجحة، ويرمى القدر بما لا يرضيه وما لا يرضى عنه من الأعمال..
وقد كان إبليس- لعنه الله- أول من احتج «بالقدر» بعد أن عصى أمر ربه، فلم يسجد لآدم كما أمره، فلما حل غضب الله عليه، لم يرجع على نفسه باللأئمة، ولم يستشعر الندم فيتوب كما تاب آدم، بل غلبت عليه شقوته، فقال:
«رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ».
وقد تلقى كثير ممن غلب عليهم الشقاء من بنى آدم، هذه الحجة الضالة، عن إبليس، فتخلّوا عن كل خير، وغرقوا فى كل ضلال، وبين أيديهم هذه الحجة الخادعة، التي يرددونها عند كل قولة ناصح، ينصح لهم، ويدعوهم إلى الإيمان والهدى، فيقولون ما حكاه الله عنهم فى قوله تعالى: «لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ» (٣٥: النحل) وقوله: «سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا» (١٤٨: الأنعام) وقوله سبحانه: «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ» (٤٧ يس) انظر كيف يفترون على الله الكذب؟ يؤمنون بقضائه وقدره، ويحتجون بمشيئته، ثم يكفرون به؟
فالذين يحتجون بالقدر هذا الاحتجاج، لا يؤمنون بالله، ولو آمنوا بالله لآمنوا بقضائه وقدره، ولامتثلوا أوامره، واجتنبوا نواهيه..
292
فالقول بأن لو شاء الله ما أشركوا قول حق، ولكنه لا يصدر عن القائلين به لتقرير عموم إرادة الله وشمول مشيئته، ولو كان هذا متوجّه قولهم لكان ذلك إيمانا خالصا.. فالله سبحانه وتعالى يقول: «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً» (٩٩: يونس) ولكنهم يقولون هذا القول فى سفسطة خبيثة، تهوى بهم إلى مهاوى الهالكين..
ولهذا أنكر الله عليهم قولهم الذي قالوه فى مشيئته، لأنهم- كما يقول ابن القيم- «لم يذكروا ما ذكروا إثباتا لقدرة الله وربوبيته ووحدانيته، وافتقارا إليه، وتوكلا عليه، ولو قالوا ذلك لكانوا مصيبين، وإنما قالوه معارضين لشرعه، ودافعين لأمره، فعارضوا أمره وشرعه ودفعوه بقضائه وقدره..
أباطيل بعض المتصوفة
ولبعض المتصوفة فلسفة مريضة، تذهب بهم هذا المذهب الأعوج الأهوج، الذي يقود إلى الضلال والهلاك.. إنهم ينسبون إلى الله كل شىء من طاعات وسخافات معا.. إن كل ما يفعلونه حسن، لأنهم- حسب تصورهم المخبول- لا يعملون شيئا، وإنما هم ينفذون إرادة الله ومشيئته.. فكل أعمالهم طاعات، وكل سخافاتهم قربات، حتى ليقول قائلهم مخاطبا ربه فى غير حياء:
أصبحت منفعلا لما تختاره منىّ، ففعلى كله طاعات!
فهذا الغبي الأحمق، هو منفعل- كما يقول- وليس فاعلا.. وليته انفعل بالطاعات.. وإنما هو منفعل بما يمليه عليه شيطانه الذي يوسوس له حين يفطر رمضان! وهو منفعل بمشيئة الله، حين يترك الصلاة عمدا، أو حين يشرب الخمر، ويأتى كل فاحشة جهارا فى غير حياء!
293
هو فى تلك الأحوال- كما زيّن له الشيطان- قائم فى محراب العبادة، لأنه ينفذ إرادة الله ويحقق مشيئته! «كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» (١٢ يونس)
طريق المؤمنين
أما المؤمنون حقا فمدعّوون إلى الإيمان بقضاء الله وقدره.. فالله خالق كل شىء، وهو على كل شىء قدير، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن..
عن أبى هريرة- رضى الله عنه قال: لما نزل قوله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم:
«إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ» قالوا- أي المؤمنون «الأمر إلينا إن شئنا استقمنا وإن لم نشأ لم نستقم» فأنزل الله عز وجل:
«وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ».
وعن ابن عباس- رضى الله عنهما- فى قوله تعالى: «كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ، فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ».. قال: «وكذلك خلقهم حين خلقهم:
مؤمنا وكافرا، وسعيدا وشقيا، وكذلك يعودون يوم القيامة، مهتدين وضلّالا»
.
وقال مالك بن أنس: «ما أضلّ من كذب بالقدر، لو لم يكن عليهم حجة إلا قوله تعالى: ( «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» لكفى بها حجة).
وعن أبى حازم، قال: قال الله عز وجل «فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها»..
أي فالتقىّ ألهمه التقوى، والفاجر ألهمه الفجور».
وفوق هذا كله، وقبل هذا كله، قول الرسول الكريم: «لا يؤمن
294
أحدكم حتى يؤمن بالقدر خيره وشرّ، وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه».
وكان الحسن البصارى- رضى الله عنه- يقول: «من كذّب بالقدر فقد كذّب بالحق، إن الله عز وجلّ، قدّر خلقا، وقدّر أجلا، وقدّر بلاء، وقدّر مصيبة، وقدّر معافاة.. من كذب بالقدر فقد كذّب بالقرآن».
فالإيمان بالقدر، والتسليم بالمقدور والرضا به، هو الصميم من الإيمان، وهو دعوة الإسلام، وهو سبيل المؤمنين، وبغير هذا لا ينعقد إيمان، ولا يكمل دين.
يقول ابن تيمية: «وما قدّر من المصائب يجب الاستسلام له، لأنه من تمام الرضا بالله ربّا.. وأما الذنوب، فليس للعبد أن يذنب، وإذا أذنب فعليه أن يستغفر ويتوب.. فيتوب من المعايب، ويصبر على المصائب..
«فإذا عمل العبد بطاعة الله عزّ وجل علم أنها بتوفاق الله، فيشكره على ذلك ويحمده، وإذا عمل بمعصية ندم على ذلك، وعلم أنها بمقدور جرى عليه، فذمّ نفسه، واستغفر ربه.. وليس لأحد على الله حجة، بل لله الحجة على خلقه:
«قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ، فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ»
.. فالله سبحانه وتعالى خلق الخلق كما شاء، فجعلهم شقيا وسعيدا، قبل أن يخرجهم إلى الدنيا: «لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ» (٢٣: الأنبياء).
وعلى هذا، فمطلوب من العبد أن يقول فى كل ما يقع له، أو يقع منه: هذا بقضاء الله، ومشيئة الله.. يقول ذلك عن يقين لا شك فيه، فذلك هو الإيمان الذي يشدّ عزمات الإنسان فى الشدائد، ويعينه على الحق، ويجعل منه إنسانا غير ضائع فى الحياة.. إن زلّ فذلك بقدر سابق، ولكن يجب أن يرى نفسه فى هذه الحال فى موقف لا يرضى الله، فيبادر بالانسحاب من هذا الموقف بكل ما لديه
295
من قوة وعزم وإيمان، مستعينا بالله، تائبا إليه، نادما على ما وقع منه، فتلك هى سبيل المؤمنين، الذين يقول الله فيهم: «وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ». (١٣٥: آل عمران).
يقول ابن تيمية: «كل من احتجّ بالقدر فإنه متناقض.. فإنه لا يمكن أن يدع كل آدمىّ يفعل به ما يشاء.. فلا بد إذا ظلمه ظالم أن يدفع هذا القدر، وأن يعاقب الظالم بما يكفّ من عدوانه، وعدوان أمثاله، فيقال له- أي للمحتج بالقدر-: إن كان القدر حجة، فدع كل أحد يفعل بك ما يشاء، وإن لم يكن حجّة، فبطل قولك: إن القدر حجة..».
ثم يقول: وأصحاب هذا القول الذين يحتجون بالحقيقة الكونية (أي القدر) لا يطردون هذا القول ولا يلتزمونه، إنما هم يتبعون آراءهم وأهواءهم، كما قال فيهم بعض العلماء: «أنت عند الطاعات قدرىّ، وعند المعصية جبرىّ» اه إن الأخذ بالأسباب، ودفع الأقدار، هو مما يقوم عليه نظام الحياة، وتشير به الحكمة، ويقضى به العقل، ومن ترك الأسباب فقد ألغى عقله، وأفسد وجوده، وأدخل الخلل على حياته.. إن الحيوان الأعجم لا يرضى هذه المنزلة التي صار إليها من يحتج بالقدر.. إن الحيوان يدفع الجوع بالأكل الذي يطلبه ويسعى إليه، وينال منه، ويدفع الظمأ بالماء، برد موارده، ويلتمس مواطنه، ويمدّ فمه إليه، وبتقى العدوّ المتربص به، بكل سلاح يقدر عليه، فيقاتل بقرونه، وأنيابه، ومخالبه، وأظفاره.. وبكيانه كله. وإن هو رأى من نفسه العجز عن لقاء عدوّه ومدافعته، طلب النجاة.. فرارا، وهربا.
فالإنسان الذي يعطّل جوارحه، ويميت مشاعره، ويلقى بنفسه فى منامة
296
العجز والتواكل، محتجا بأن ما قدّر له سيقع، سواء سعى أم لم يسع- هذا الإنسان ليس أهلا لأن يعيش فى الناس، أو يحسب فى الأحياء..
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجرى على اليبس
سأل بعض الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله:
أرأيت أدوية لتداوى بها، ورُقى نسترقى بها، وتقى نتقى بها.. هل تردّ من قدر الله شيئا؟ فقال الرسول صلوات الله وسلامه عليه: «هى من قدر الله».
فالأسباب من قدر الله، كما أن المسببات من قدر الله.. فمن لم يأخذ بالأسباب إلى مسبباتها فقد آمن وكفر، وذلك نفاق أشد من الكفر.
يقول جعفر الصادق: «إن الله تعالى أراد بنا شيئا، وأراد منّا شيئا، فما أراده بنا طواه عنّا، وما أراده منا أظهره لنا، فما بالنا نشتغل بما أراده بنا عما أراده منا؟» وذلك هو مقطع القول فى تلك القضية الشائكة!
الآيات: (١١٢- ١١٣) [سورة الأنعام (٦) : الآيات ١١٢ الى ١١٣]
وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١١٢) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (١١٣)
التفسير: «وكذلك» أي ممّا قضت به مشيئة الخالق جل وعلا، أن جعل لكل نبىّ عدوا من شياطين الإنس والجنّ، أي من فسقة الإنس والجنّ، وأهل الفساد منهم، فهؤلاء هم الظلام الذي يتصدى لنور النبوّة، ويزحمها، ويقيم فى وجه الذين يتجهون إليها ستارا من دخان الضلال، يحجب الرؤية
297
عنهم، ويعمّى سبل الهداية والإيمان عليهم، إلا من عصمه الله، وثبّت قدمه على طريق الحق.
وهكذا الحق دائما، لا تخلص طريقه من المزالق والعثرات التي يقيمها الضّلال على مسالكه، وهذا مما يزيد الحق قوة فى تمرّسه مع الضلال وصراعه معه، ثم صرعه له آخر الأمر.
وفى قوله تعالى: «يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً» إشارة إلى التفاهم والتلاحم القائم بين شياطين الإنس وشياطين الجن، وإن كانا من عالمين مختلفين.. إلا أنهما يجتمعان على الباطل، ويغتذيان من الضلال.
والإيحاء هو الوسوسة من شياطين الجن، والقبول لهذه الإيحاءات من شياطين الإنس.
و «زخرف القول» باطله، وزائفه.. إذ الباطل قبيح المنظر، شائه الوجه، كريه الريح، لا يقبل أحد عليه إلا إذا موّه ببريق خادع، وطلى بطلاء لامع زائف، يخدع به الأغرار، ويغوى به السّفهاء.
وقوله تعالى: «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ» الضمير فى قوله تعالى:
«ما فعلوه» يعود إلى هذا الزخرف من القول الذي يوحى به شياطين الإنس والجن بعضهم إلى بعض، وهو محض باطل وزور وافتراء..
وقوله تعالى: «وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ» إشارة إلى أن هذا الباطل الذي يوحى به شياطين الإنس بعضهم إلى بعض- إنما زخرفه هؤلاء الشياطين، وزينوه، وألبسوه تلك الصورة المموهة، لتصفى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة، أي لتميل إليه قلوبهم بما استهواها به بريقه ولمعانه «وليرضوه» ويقبلوا عليه، ويأنسوا به «وليقترفوا» بهذا الباطل «ما هم مقترفون» من شرك وكفر، وما يزيّن لهم به الشرك والكفر..
298
الآيات: (١١٤- ١١٧) [سورة الأنعام (٦) : الآيات ١١٤ الى ١١٧]
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١١٥) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (١١٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١١٧)
التفسير: قوله تعالى: «أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا» هو مما أمر الله سبحانه وتعالى النبىّ أن يلقى به الكافرين والمشركين، منكرا أن يتخذ غير الله حكما يتلقّى منه الهدى والإيمان، على حين أنهم يتلقون الكفر والضلال مما يوحى به إليهم شياطين الانس والجنّ..
فهؤلاء الشياطين هم الحكم الذي يحتكمون إليه.
ويلاحظ هنا أن هذا القول الذي يقوله النبىّ فى هذا المقام لم يصدّر بأمر الله «قل» الذي اعتاد النبىّ أن يؤمر به فى كلّ قول يقوله من قبل الله سبحانه وتعالى.. فما السرّ فى أن جاء مقول القول هنا مجردا عن القول؟.
والجواب- والله أعلم- أن هذا القول- وإن كان من عند الله سبحانه وتعالى، هو جدير بكل إنسان عاقل أن يقوله، فهو من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى أمر سماوى به، يلفت إليه، وينبّه له.
299
قوله تعالى: «وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ» أي أن أهل الكتاب، من اليهود والنصارى، يعلمون أن هذا القرآن هو من عند الله، وأنه هو حق منزّل من رب العالمين..
وقوله تعالى: «فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ» استبعاد للنبى الكريم أن يكون من هؤلاء الذين يشكّون فى آيات الله فيجادلون فيها، ولا ينزلون على أحكامها. والمراء، والامتراء: الجدل العقيم، القائم على الهوى.
قوله تعالى: «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا».. كلمة الله هى كلمات الله، وآياته المنزلة على النبىّ، وتمت، أي استوفت غاية الكمال والتمام من الصدق والعدل.. أي أن آيات الله التي تلقاها النبىّ من ربّه، هى الغاية فيما هو صدق، وفيما هو عدل.. فكل ما جاءت به كلمات الله هو الصدق المطلق، الذي لا يشوبه كذب أبدا، ولا يأتيه باطل أبدا، وكل ما جاءت به كلمات الله هو العدل.. العدل المطلق، الذي لا يخالطه ظلم، ولا يعلق به جور.. وهى إذ استوفت الحقّ كله، واستولت على العدل جميعه، فلن يلحقها تبديل، ولا يصيبها عارض من عوارض التحريف، لأن تلك العوارض إنما تجد لها طريقا إلى ما كان فى أصله نقص أو خلل، أما ما على الصحة التامة، والسلامة المطلقة، فلن تسكن إليه آفة، أو تمسه علّة.. وإذا كانت آيات الله على هذا التمام والكمال، فهى قائمة بسلطانها على الحياة، لا تنقضها المعارف التي تجدّ، ولا تنسخها الكشوف العلمية التي تقع.
قوله تعالى: «وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» أي الذي يسمع كل ما يقول المتقوّلون على كلمات الله، فى سر أو جهر، ويعلم ما يخفون وما يعلنون من المآثم والمنكرات.
وقوله سبحانه:
«وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا
300
الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ..»
هو إشارة إلى أن أكثر الناس فى هذه الدنيا تغلب عليهم أهواؤهم، وتستولى عليهم نزعات الشر والضلال، وأن أصحاب الهدى وأهل التقوى، هم قلة فى هذه الدنيا، وأنهم لو اتبعوا الكثرة لكثرتها لهلكوا مع الهالكين، وضلّوا مع الضالين.. وهكذا الخير قليل فى أهله، كثير فى مضمونه، وأن الشرّ كثير فى أهله، قليل فى محتواه.. وكذلك كل نفيس أو كريم، هو قليل الكمّ كثير الكيف، وكل خبيث وتافه، هو كثير الكمّ قليل القدر، بخس القيمة، وإلى هذا يشير الله سبحانه وتعالى بقوله: «قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (١٠٣: المائدة).
فهذه الكثرة الغالبة من الضالين، لا يقوم ضلالهم إلا على أوهام وترّهات، ولا يستند إلا على أهواء ونزوات: «إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ» والخرص، والتخرص: هو الحكم على الشيء بلا علم، والأخذ به بلا برهان ولا دليل، ومنه خرص النحلة، وهو تقدير ما تعطى من ثمر قبل أن ينضج ويكتمل، وهو ضرب من المقامرة، قد نهى الشرع عنه.. وفى هذا يقول سبحانه وتعالى: «قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ». (١٠: الذاريات) قوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» بيان لما ينكشف عنه حال الناس عند الله، وأنهم ضالون ومهتدون، وعند الله علم من يضل ومن يهتدى.. ولكل حسابه وجزاؤه عند الله.
الآيات: (١١٨- ١٢١) [سورة الأنعام (٦) : الآيات ١١٨ الى ١٢١]
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩) وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١)
301
التفسير: لما كانت المطاعم هى الأمر المتحكم فى حياة الناس، وكانت حياتهم لا تقوم أبدا بغير طعام، وكان سعيهم قائما فى أساسه على تحصيل الطعام- فقد جاءت دعوة الإسلام لتلقى بالناس على هذا المورد الذي يتزاحمون عليه، ولتدعوهم إلى الله عن هذا الطريق..
فالمؤمنون بالله مأمورون بأن يأكلوا مما ذكر اسم الله عليه.. وبغير هذا لا يكونون مؤمنين: «فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين».. فهذه أول سمة من سمات المؤمنين، وأول تجربة لهم مع الإيمان بالله.
وفيما ذكر اسم الله عليه من مطاعم سعة للمؤمنين! وهى كثيرة مغنية، وفى عزل ما حرّم من المطاعم الخبيثة عليهم، حماية للطيب الذي أحلّ لهم أن بخبث ويفسد.. وهذه المطاعم الخبيثة قد بينها الله وفصلها، فى قوله سبحانه:
«حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ.. ذلِكُمْ فِسْقٌ» (٣: المائدة).. وهى محرمة على المؤمنين، إلا أن يضطروا إليها..
302
فكيف لا يتسع هذا الطيب للمؤمنين؟ وكيف يمدون أبصارهم إلى غيره من تلك الخبائث التي هى طعام أهل الرجس والفسق.. ؟ «وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ؟» وفى هذا الاستفهام إنكار على من كان مؤمنا ألّا يستغنى بالطيب عن الخبيث.. إلا فى حال.
الاضطرار، الذي هو ظرف استثنائى تباح فيه المحظورات، رحمة بالمؤمنين.
وقوله سبحانه: «وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ» إشارة إلى أهل البدع والضلالات، وأنهم هم الشياطين الذين يزينون للناس الشر والغواية بحملهم على ذلك، وأن هوى فاسدا، هو الذي يملى عليهم تلك المفتريات التي يضلون بها الناس، بعد أن غرقوا هم فى لجج الضلال.
قوله تعالى: «وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ» هو تحذير للمؤمنين من أن ينخدعوا لتلك الأهواء المضلّة التي تأتيهم من أهل الضلال، بما يزينون لهم منها، فيتأولون الحرام ويلبسونه ثوب الحلال، حتى يجدوا له مساغا.. وهذا هو الإثم أعظم الإثم أشنعه.. فهو إثم خفىّ يتدسس إلى الإنسان، ويغتال إيمانه دون أن يأخذ حذره منه، ويعمل على تجنبه وتوقيه..
فظاهر الإثم، هو الجلىّ الواضح، الذي لا يخطئه نظر، أو فهم.. وباطن الإثم، هو الذي يمكن أن يحجب وجهه بشىء من الخداع، والتمويه، وبقليل من غفلة العقل ووازع الإيمان..
والاقتراف: المداناة والمقاربة.
قوله تعالى: «وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ» هو
303
نهى عن كل طعام لم يذكر اسم الله عليه، بعد الأمر بالأكل من كل ما ذكر اسم الله عليه.. وقد وقع الأمر والنهى على كل شىء لا يستغنى الإنسان عنه، من المؤمنين وغير المؤمنين على السّواء.. والمؤمنون مطالبون بامتثال أمر الله واجتناب نهيه، حتى يحققوا صفة الإيمان فيهم.
وبهذا ينعزلون عن المشركين، وإلا كانوا من المشركين، ولو حسبوا فى المؤمنين.. لأن الإيمان بالله يقتضى امتثال أوامره واجتناب نواهيه، وتلك هى حقيقة الإيمان، وفيصل ما بين المؤمنين وغير المؤمنين.
وفى قوله تعالى: «وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ» تجريم لما لم يذكر اسم عليه من مطاعم، وإن استباحة هذا الحرام الذي حرمه الله هو فسق، أي خروج من الدين، وانسلاخ من الإيمان بالله.
وفى قوله سبحانه: «وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ» تحذير للمؤمنين، مما يراودهم عليه أهل الضلال، ويجادلونهم به فى حلّ هذا وحرمة هذا، فذلك مما ألقى به إليهم الشياطين.. أما الحلال وأما الحرام فهما ما بيّنه الله، وليس لأحد أن يحل أو يحرم غير ما أحل الله وحرّم الله.
الآيات: (١٢٢- ١٢٤) [سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٢٢ الى ١٢٤]
أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٢) وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (١٢٣) وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (١٢٤)
304
التفسير: الإيمان والكفر، طريقان مختلفان..
الإيمان طريق خير، وهدى ونور..
والكفر طريق شر، وضلال، وظلام..
ومع هذا فقليل هم أولئك الذين يأخذون طريق الخير والهدى والنور، وكثير أولئك الذين يركبون طريق الشر والضلال والظلام.
وشتان بين هؤلاء وهؤلاء.
فالمؤمنون قد بعثوا بالإيمان، وخلقوا خلقا جديدا به، وعرفوا وجودهم فيه.. فهم أشبه بشموع مضيئة وسط ظلام مطبق.. هم نجوم لا معة فى ظلام ليل بهيم، لا يحجزهم هذا الظلام المتكاثف حولهم، عن رؤية الطريق المستقيم، والسير فيه.
والكافرون جثث وأشباح، يلفّها ظلام، ويحتويها ضلال، لا نخرج منه أبدا.. ومع هذا فهم لا يرفعون، أبصارهم إلى النور، ولا يحركون أشباحهم إلى الهدى.. «كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ».
قوله تعالى:
«وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ».
الجعل: التقدير، وإقامة الشيء على الوجه المراد منه وتوجيهه الوجهة المناسبة له. وهذا فى كل أمر يجعله الله.. «وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ»..
305
«جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً».. «خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً»..
ومعنى الآية الكريمة: أن الله سبحانه وتعالى كما هدى المؤمنين إلى الإيمان، وجعل لهم نورا يمشون به فى الناس، جعل فى كل قرية أئمة للضلال والكفر، يمكرون فيها، ويفسدون وجوه الخير منها، ويسدّون منافذ الهدى فيها.. وهم فى واقع الأمر إنما يمكرون بأنفسهم، ويوردونها موارد الهلاك، دون أن يشعروا أنهم على طريق الضلال والضياع.. والله سبحانه وتعالى يقول: «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً» (١٠٣- ١٠٤: الكهف).
وفى قوله تعالى: «وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ» فضح لبعض ما يعتمل فى نفوس المشركين من مكر وضلال، وأنّهم إذ كانوا أصحاب سلطان ونفوذ فى قومهم، فقد أبوا أن ينقادوا للحق، وأنفوا أن يقبسوا من النور ليضيئوا به ظلام قلوبهم، وقالوا: «لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ».. حتى لكأن رسالة الله عندهم شىء من هذا الحطام الدنيوي الذي يتنافسون فيه، ويستكثرون منه، وما دروا أنها سفارة بين الله وبين عباده، لا يصلح لها إلا من هم على شىء غير قليل من صفاء النفس، وإشراق الروح.. ثم هى قبل هذا كله وبعد هذا كله، رزق من رزق الله، ونعمة من نعمه، يضعها حيث يشاء: «اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ»..
وقوله سبحانه: «سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ» - هو الجزاء الذي سيقع بهؤلاء المستكبرين، المتعالين.. صغار
306
عند الله، وذلة ومهانة.. بعد هذا العلو وهذا الشموخ الذي كان لهم فى دنياهم...
وهؤلاء هم أكابر قريش، ومن كان على شاكلتهم.. وهم رءوس المجرمين الذين تصدّوا لدعوة الرسول، وأبوا أن يقبلوا من يديه الهدى الذي جاءهم به، استكبارا وعلوا.. فكان جزاؤهم الصغار والمهانة عند الله يوم القيامة، والعذاب الشديد يوم يعرضون على ربّهم، ويوفون حسابهم.. وهكذا كل من أخذته العزة بالإثم، فأبى أن ينقاد للحق، وأن يتقبّل الخير من أي طريق أتاه.
الآيات: (٢٥- ٢٧) [سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٢٥ الى ١٢٧]
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (١٢٥) وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٧)
التفسير: هذا هو حكم الله فى عباده، وتلك مشيئته فيهم: «فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ» فيقبل عليه، ويتقبله.. «وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ» لا يقبل على خير، ولا يتقبل هدى، فكل كلمة حق يزور بها هذا الصدر الضيق، ويكاد يختنق منها.
والضّيّق الحرج: هو الذي كان ضيقه عن علة وداء.
والرجس: الدنس، والقذر.
وفى قوله تعالى: «كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ» أي
يلقيه عليهم، ويجعله بعضا منهم، فلا يتطهرون منه بالإيمان أبدا.. لأنهم لن يؤمنوا أبدا.
قوله تعالى:
«وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ»..
والصراط المستقيم هو كتاب الله، وقد جاءت آياته بيّنة مفصّلة، ولكن لا ينتفع بها إلا من أرادهم الله للإيمان، وهيأهم له، وأعانهم عليه..
فهؤلاء الذين دعوا إلى الإيمان فأجابوا، ورأوا الهدى فاهتدوا، هؤلاء «لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ» أي دار الأمن والعافية من كل سوء وبلاء يحل بالكافرين «وَهُوَ وَلِيُّهُمْ» أي يجعلهم أهل ولايته، وكرمه، وإحسانه «بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» أي بما قدموا من أعمال صالحة، نالوا بها رضا الله، وفازوا بجنات النعيم.
وانظر إلى عظيم فضل الله، وإلى واسع رحمته، بالمؤمنين من عباده.. لقد دعاهم إلى الإيمان، وأعانهم عليه.. فآمنوا، ودعاهم إلى العمل، ووفقهم له..
فعملوا، ومع هذا فقد أضاف إليهم هذا العمل، وجزاهم عليه، ليذوقوا ثمرة عملهم الذي هو من مغارس فضل الله، وتوفيقه «ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ».
الآيات: (١٢٨- ١٢٩) [سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٢٨ الى ١٢٩]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٢٨) وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩)
308
التفسير: بعد أن يستوفى الناس أعمارهم فى الحياة، ينقلون إلى الدار الآخرة بما قدموا من خير أو شر، وبما كانوا عليه من هدى أو ضلال..
وهناك تكون المساءلة ويكون الحساب والجواب..
وفى قوله تعالى: «وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً» إخبار بهذا الأمر الذي لا بد أن يكون، وهو الحشر، بعد الموت.. وإن كان الكافرون ينكرون هذا اليوم فلا يعملون له حسابا..
وفى الحديث عن الله تعالى: «بضمير الغيبة «يحشرهم» بدلا من «نحشرهم» إشارة إلى أن هذا الحشر معلوم مقرر عند المؤمنين، وأنهم مستيقنون أن الله سيحشر الخلائق جميعا، ولهذا صح أن يكون الحديث عن الحشر بين الله والمؤمنين إذ كان غير خاف عليهم، على حين أنه خفى على المشركين..
وقوله تعالى: «يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ»، هو نداء من قبل الحق سبحانه وتعالى لطائفة من تلك الطوائف التي حشرت فى هذا اليوم، وهى طائفة الجن، ليلقى إليهم بهذا الذي كان منهم، من جذب الكثير من الناس إليهم، وتحويلهم من طبائعهم لانسانية إلى طبيعة الجن. «قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ» أي قد جمعتم أعدادا كثيرة منهم، واستحوذتم عليهم..
ولا يجيب الجن، إذ كان الواقع يغنى عن الجواب، بل يأخذ المبادرة بالجواب أولئك الذين انضموا إليهم من الناس، وصاروا حزبا لهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا» أي قد انتفع بعضنا ببعض، فأخذ وأعطى.. فهؤلاء الضالون قد أخذوا من الجن ما سوّلوا لهم به وما عرضوه عليهم من متاع الحياة، وضلالاتها..
على حين أعطوا الجن ولاءهم وطاعتهم، وذلك إلى أن بلغوا الأجل الّذى
309
أجّله الله، وهو عمرهم المقدور لهم فى الحياة..
وفى مبادرة المشركين بالجواب دلالة على أنهم هم المتهمون أصلا، وأنهم هم الذين استجابوا لدعوة الجنّ لهم، وأنهم لو أبوا عليهم ذلك ولم ينقادوا لما دعوهم إليه، لما كانوا فى هذا الموقف.. فزمام الأمر هو فى يد النّاس، وما الجنّ أو غيرهم من المغريات إلا داع يدعوهم إليه، فمن أجاب فعليه وزر عمله.. كالخمر مثلا، فإنها فى مواطنها التي تباع فيها أو تشرب، هى فى ذاتها داع تدعوا الناس إليها، وتغريهم بها، وللناس وحدهم أن يستجيبوا أو يمتنعوا..
وليست الخمر موضع مؤاخذة أو لوم.. كذلك دعاة السوء من الإنس والجنّ.. لا يحملون شيئا من إثم من دعوه فاستجاب لهم، وإن كان عليهم إثم هذه الدعوة المنكرة التي دعوا بها..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ». (٢٢: إبراهيم) وقوله تعالى: «قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ» هو الحكم الذي يلقّاه المشركون بعد اعتذارهم بما اعتذروا به..
«النَّارُ مَثْواكُمْ» أي داركم ومقرّكم «خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ» أي أن هذا الخلود فى النار مرهون بمشيئة الله، إن شاء جعلها دار خلد لكم، وإن شاء جعلها عذابا موقوتا.. وذلك إلى الله وحده، لا يملك معه أحد شيئا فى مصيركم الذي أنتم صائرون إليه.
«إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ» يقوم أمره كلّه على الحكمة والعلم.. الحكمة
310
التي تحكم كل أمر وتضبطه على موازين العلم، والعلم الذي يحيط بكل شىء، ويعلم ما ظهر وما بطن منه..
قوله تعالى: «وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ»..
أي نسلّط بعض الظالمين على بعض، ونجمع بعضهم إلى بعض، كما تسلّط الجنّ على أشباههم من الإنس، وصاروا جميعا إلى هذا المصير المشئوم.. وهكذا يجتمع الشر إلى الشر، وينجذب الأشرار إلى الأشرار، فيكونون جميعا جبهة واحدة.. بعضهم أولياء بعض.
الآيات: (١٣٠- ١٣٢) [سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٣٠ الى ١٣٢]
يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (١٣٠) ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (١٣١) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٣٢)
التفسير: وفى موقف الحساب يقوم القيامة، يسأل الخلق من جنّ وإنس هذا السؤال التقريرى من ربّ العالمين: َ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ؟»
أي من جنسكم، فللجن رسل من الجن، وللإنس رسل من الإنس.. َقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي»
أي يسمعونكم آياتي، ويعرضون عليكم دلائل قدرتى، ويدعونكم إلى الإيمان بي؟ َ يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا»
أي يحذرونكم لقاء هذا اليوم الذي أنتم فيه فى موقف الحساب والجزاء؟
311
ويجىء الجواب من الجن والإنس: َهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا»
أي أقررنا بأن رسل الله قد جاءوا إلينا بآيات الله، وأنذرونا لقاء هذا اليوم.. وما كان للمسئولين أن ينكروا، حيث كل شىء ينطق هذا اليوم بالحق.. ثم يجىء التعقيب على هذه الشهادة: َ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ»
.. وتلك هى شهادة أهل الموقف عليهم، بعد أن شهدوا هم على أنفسهم.. إنها تعليقات المؤمنين على موقف هؤلاء الضالين، وما كانوا عليه من كفر وعناد، واستخفاف بهذا اليوم الذي هم فيه.
وواضح أن المسئولين هنا من معشر الجن والإنس، هم الغواة الضالون منهم، الذين أنكروا رسل الله، وكفروا بما جاءوهم به من عند الله..
وقوله تعالى: «ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ» الإشارة هنا إلى ما كان من رحمة بعباده، من إنس وجنّ، وذلك بإرسال الرسل إليهم، ودعوتهم إلى الله، وكشف معالم الطريق إليه.. فإنه سبحانه وتعالى لا يؤاخذ عباده إلا بعد أن يعذر إليهم بإرسال رسله، مبشرين ومنذرين، حتى ينتبهوا من غفلتهم، فلا يكون لهم عذر إذا أخذهم الله بالعقاب الذي يستحقونه على كفرهم وضلالهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» (١٥: الإسراء) وقوله سبحانه: «وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا (٥٩: القصص) وفى قوله تعالى: «بِظُلْمٍ» إشارة إلى أن عدل الله يقضى بألا يعاقب أحدا من خلقه، حتى ينذره ويقيم الحجة عليه.
وقوله سبحانه: «وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا» أي لكل إنسان مكانته ودرجته من عمله، أي تهيّأ له هذه الدرجة من عمله، فإن كان عمله سيئا
312
كانت مكانته من السوء بحسب عمله.. «وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ».
فلا يختلط عنده عمل المحسن بعمل المسيء، بل لكل عمله وحسابه، وجزاؤه.
الآيات: (١٣٣- ١٣٥) [سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٣٣ الى ١٣٥]
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (١٣٤) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (١٣٥)
التفسير: الخطاب للنبى الكريم، وإضافته إلى ربّه الغنىّ ذو الرحمة، تكريم له، ورفع لقدره ومنزلته عند ربّه، لاختصاصه بتلك الإضافة، وإن كان الله سبحانه وتعالى هو ربّ العالمين جميعا. فإضافة النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- منفردا بهذه الإضافة إلى ربّه، غاية فى التكريم، واللطف والرعاية..
وفى وصف الله سبحانه وتعالى بالغنى والرحمة، مناسبة لما بعد هذين الوصفين الكريمين، من أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يذهب الناس جميعا، لأنه فى غنى عنهم ولكنه ذو رحمة واسعة، فلا يعجل بعقوبة هؤلاء المشركين، ولا يؤاخذ الناس بما كسبوا، بل يمهلهم، ويقيم بين أيديهم دلائل الحق والهدى، لعلهم يرجعون عما هم فيه من ضلال وكفران.
وقوله تعالى: «إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ» بيان لقدرة الله، وأنه سبحانه قادر على أن يذهب
313
المشركين، ويقضى عليهم، ويقيم من بعدهم من يخلفهم على ما فى أيديهم من نعم الله وعطاياه، وأن إمهاله هو رحمة من رحمته وإحسان من إحسانه، ليكون فى هذا مظاهرة للحجة عليهم، وقطع الأعذار دونهم..
قوله تعالى: «إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ» هو خطاب للمشركين وما يتوعدهم الله به، وهو انتقالهم مما هم فيه، وقيام من يخلفهم على ما فى أيديهم.
فهو أمر كائن، لا بد منه، إن لم يكن اليوم فغدا أو بعد غد، وإنهم مهما استطالوا وبغوا فلن يعجزوا الله، ولن يفتلوا من سلطانه القائم عليهم، وعلى كل موجود فى هذا الوجود.
وقوله سبحانه: «قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ» أمر للنبى الكريم أن يلقى قومه بهذا الموقف الصريح، وأن يقطع ما بينه وبينهم من أسباب الجدل والشقاق، وأن يدعهم وما هم فيه.. ليقبل على ما هو فيه من دعوة الناس إلى الله، وليستقم على الطريق الذي هداه الله إليه..
وفى قوله تعالى: «يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ» تهديد ووعيد لهم، بتركهم وما هم فيه من ضلال..
والمكانة: المنزلة التي فيها الإنسان، أيا كانت تلك المنزلة.
وفى قوله سبحانه: «إِنِّي عامِلٌ» مع حذف متعلق الخبر «عامل» - إشارة إلى أن للنبى عملا غير عملهم، وطريقا غير طريقهم.
وقوله تعالى: «فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ» تهديد آخر، ووعيد لهؤلاء المشركين، وما سينتهى به عملهم إليه، من البلاء وسوء المصير، و «مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ».. أهم الذين أسلموا لله، وآمنوا به وبرسوله، وبالكتاب الذي بين يديه؟ أم أنتم أيها المكذبون الضالون؟ فسوف تعلمون لمن عقبى الدار.
314
والحكم معلوم مقدّما.. «إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ» والمشركون ظالمون من غير جدال، إذ ردّوا نعمة الله المرسلة إليهم، وآذوا اليد التي حملتها لهم، والتي لا تطلب منهم أجرا، ولا تريد منهم على ذلك جزاء ولا شكورا..
فأى ظلم أبشع وجها، وأقبح صورة من هذا الظلم؟ فهم إذن المحكوم عليهم بعدم الفلاح، ومن لم يفلح فقد خاب وخسر، وكان من أصحاب الجحيم.
الآيات: (١٣٦- ١٣٧) [سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٣٦ الى ١٣٧]
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (١٣٦) وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١٣٧)
التفسير: وإذ أنهى النبىّ ﷺ موقفه مع المشركين من قومه على هذا الوجه الذي أنذرهم فيه بأنه معتزلهم وما يعبدون من دون الله، وأنه سيفرغ لنفسه ولدعوته ولمن يستجيبون له، ولا عليه أن يغرقوا فيما هم فيه من ضلال، بعد أن بلغهم رسالة ربّه، وبعد أن بالغ فى هذا الإبلاغ- إذ أنهى النبي موقفه مع المشركين على هذا الوجه، بحيث لا يلقاهم لقاء مواجها بعد هذا الموقف، فإنه صلوات الله وسلامه عليه لم يقطع ما بينه وبينهم من لقاء غير مباشر، أو مواجه، فما زالت آيات الله تتنزل بفضح المشركين، والتشنيع عليهم، وكشف ما هم فيه من جهالة وعمى وضلال..
وفى هذا التدبير السماوي الحكيم يتحقق أمران:
315
أولهما: إلفات المشركين إلى أنفسهم، حتى يعيدوا النظر إلى تلك الحال التي تركهم النبىّ عليها.. وذلك فى حال هم فيها فى غير مواجهة صريحة مع النبىّ، الذي يكشف أدواءهم، ويقدّم لهم الدواء، الأمر الذي كثيرا ما تتأباه النفوس المريضة، وتزورّ به العقول السقيمة، على خلاف ما إذا خلا أمثال هؤلاء بأنفسهم، واطمأنوا إلى أن أحدا لن يطلع عليهم، فإنهم عندئذ قد يتعرّون مما ركبهم من ظلام وضلال، وقد يجد أحدهم الجرأة أمام نفسه فيفضحها ويهتك سترها، وينخلع مما هو فيه، ثم ينطلق إلى مطالع النور، ومواقع الهدى..
وثانيهما: أن المسلمين إذ يرون ما تكشف آيات الله من سوء حال المشركين، وما ينتظرهم من مصير مشئوم، يزداد إيمانهم إشراقا وألقا، ويبدو لهم أنهم أثقل ميزانا، وأكرم مقاما من هؤلاء المشركين الذين يسومونهم العذاب، ويأخذونهم بالبأساء والضراء.. وفى هذا عزاء جميل «للمسلمين» وتثبيت لأقدامهم على الطريق المستقيم.
وفى قوله تعالى: «وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً» اتهام للمشركين بما افتروا على الله، وما شرعوا لأنفسهم من شريعة، استملوها من أهوائهم الباطلة، وتصوراتهم الفاسدة.. ومن هذا أنهم جعلوا لله نصيبا مما «ذرأ» أي خلق «من الحرث» أي الزرع، «والأنعام».. فقالوا «هذا لله بزعمهم» أي بما زعموه هم، لا عن أمر سماوىّ من الله..
«وقالوا: «هذا لشركائنا» أي لآلهتهم التي عبدوها، وجعلوها شركاء لله، يقدمون لها القرابين مما رزقهم الله! وقوله تعالى: «فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ» أي فما جعلوه لله جحدوه، ولم يحرصوا على الوفاء
316
به، ولم يكن له فى أنفسهم حساب أو توقير، وما جعلوه لأوثانهم وأصنامهم لم يترخّصوا فيه، بل أدّوه لهم كاملا. خوفا من أن تحبس عنهم هذه المعبودات الباطلة أسباب الخير، أو تدفع إليهم نذر البلاء والنقمة.
وقوله سبحانه: «ساءَ ما يَحْكُمُونَ» تسفيه لهذه الأحكام الخاطئة التي لم يتزموا فيها جانب العدل حتى فيما شرعوه هم بأنفسهم، فلم يسوّوا فى هذه القسمة الجائرة بين الله وبين تلك المعبودات.. من أصنام وأوثان.
وقوله سبحانه: «وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ» أي مما افتراه المشركون على الله هذا المنكر الذي زيّنه لهم شركاؤهم، وهو قتل أولادهم ظلما وعدوانا، بل سفها وضلالا. إذ أنهم بهذا العمل المنكر قد نزلوا عن مرتبة الحيوان الذي تأتى عليه طبيعته أن يمدّ يده بأذى إلى صغاره، بل إنه ليجعل نفسه دريئة لهم من كل سوء، ويقدّم حياته دفاعا عنهم من كل عدوّ.. فكيف طوعت لهؤلاء الحمقى السفهاء من الآدميين أنفسهم أن يقتلوا أولادهم بأيديهم؟
إن ذلك لا يكون إلا من إنسان فقد عقله، فلم يدر ما يفعل، حتى ولو قتل نفسه بيده! فليس بعد هذا ضلال، أو خسران.. والله سبحانه يقول:
«قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ» (١٤٠: الأنعام).
وفى كشف هذه الجريمة الشنعاء، كشف لما وصل إليه هؤلاء المشركون من سفه وحمق، لا فى شركهم بالله، وعبادتهم الأحجار، وحسب، بل فى هذا الأمر الذي صاروا به من عالم الجماد الذي لا يعقل، ولا يحس..
وفى إضافة التزيين بقتل الأولاد إلى الشركاء من أصنام وأوثان، إشارة إلى أن هؤلاء المشركين قد صاروا لعبة فى يد هذه الجمادات، يتلفّون من صمتها المطبق دلالات وإشارات، يؤولونها هذا التأويل الفاسد، الذي ينتهى بهم إلى
317
عبادتها، وتقديم أبنائهم قربانا لها.. وفى هذا ما يكشف لهم- إن كان فيهم بقية من عقل- أنهم خدعوا وضلّلوا، وأن هذه الأصنام هى التي ضللتهم، وخدعتهم، وقتلت أولادهم وفلذات أكبادهم.. وأنهم إذا كانوا قد فعلوا فعلتهم فى أولادهم وهم فى سكرة من الضلال، فإن هذا الدم الذي لطخت به أيديهم من أبنائهم، جدير به أن يملأ قلوبهم ألما وحسرة، وأن يوقع العداوة والبغضاء بينهم وبين واتريهم فى أبنائهم.. وإن أقلّ ما يثأرون به لقتلاهم هو اعتزال هؤلاء القتلة وإجلاؤهم من عالمهم، بل وتحطيمهم، إن كان هذا التحطيم يشفى غليلا، أو يخفف كمدا وحسرة..
وقوله تعالى: «لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ» أي أن ما فعله الشركاء- من أصنام وأوثان- بهؤلاء المشركين، إنما كانت عاقبته إهلاكهم، وإفساد دينهم عليهم.. فإهلاك أبنائهم هو إهلاك لهم، ثم هو إغراق لهم فى الضلال والبعد بهم عن الدين الصحيح.
والسؤال هنا: هل لهؤلاء المشركين دين حتى يعلق به فساد كما يقول الله تعالى: «وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ» ؟
والجواب: أنه كان ينبغى أن يكون للمشركين دين صحيح، لو بقيت معهم عقولهم، ولم يفسدها عليهم شركاؤهم، وأن ما زينه لهم الشركاء من قتل أولادهم هو غاية ما يمكن أن يصل إليه معتقد الإنسان، من فساد لا يرجى له صلاح أبدا.. فهؤلاء الشركاء قد أفسدوا على أتباعهم هؤلاء فطرتهم، وغيّروا معالم إنسانيتهم، ومن كان حاله تلك الحال، فلا صلاح يرجى لشىء فيه أبدا، من دين أو غيره.. فأى دين يدين به هؤلاء القوم، وهم على تلك الحال من السّفه، هو دين سقيم بسقام عقولهم، وفساد فطرتهم.
وقوله سبحانه: «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ» إشارة إلى أن الله سبحانه
318
وتعالى لم يرد أن يدفع عنهم هذا البلاء الذي حلّ بهم، لأنهم أهل له..
وأن الله سبحانه لو علم فيهم خيرا لدفع عنهم هذا البلاء، ولما كان للشيطان أن يصل إليهم.. ويفسد عليهم وجودهم! وقوله سبحانه: «فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ» تهديد لهؤلاء المشركين، ومبالغة فى إهمالهم، وتركهم لأهوائهم المضلّة، تغتالهم وتهلكهم، دون أن يخفّ أحد لنجدتهم.
الآيات: (١٣٨- ١٤٠) [سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٣٨ الى ١٤٠]
وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣٨) وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٣٩) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٤٠)
التفسير: ومن مفتريات هؤلاء المشركين صنيعهم بما فى أيديهم من أنعام وزروع.. فقد جعلوا فيها نصيبا لله، ونصيبا لشركائهم.. دون أن يؤدوا لله ما جعلوه فيها، بل قالوا ذلك قولا وجحدوه فعلا.. ثم إنهم من جهة أخرى قد جعلوا لهذه الأنعام وتلك الزروع مراسم معيّنة، ومعالم خاصة، اخترعوها لها من عند أنفسهم.. فهناك أنعام وزروع جعلوها «حجرا» أي محجورة لا يباح طعامها لكلّ طاعم، فمن شاءوا أطعموا منها، ومن شاءوا حرّموها عليه.
319
وهناك أنعام حرّموا ظهورها، وحموها من أن تركب أو يحمل عليها، إذا جاءت على صفات خاصة عندهم، كما أشار الله سبحانه وتعالى إلى ذلك فى قوله تعالى: «ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ».
(١٠٦: المائدة) وقد شرحنا ذلك من قبل عند شرح هذه الآية.
وهناك أنعام يذبحونها على مذابح أصنامهم.. لا يذكرون اسم الله عليها.. وكلّ هذا افتراء على الله، والله سبحانه سيجزيهم بهذا الافتراء الذي افتروه، نكالا وعذابا أليما..
ومن مفتريات هؤلاء المفترين، وضلالات أولئك الضالّين، هذا الذي أخذوا به أنفسهم، فيما فى بطون أنعامهم من أجنّة يجدونها عند ذبحها..
فكانوا إذا خرج الجنين حيّا جعلوا لحمه طعاما للذكور منهم دون زوجاتهم، وإن خرج الجنين ميتا أباحوا أكله لذكورهم ونسائهم جميعا. «وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ».
ولا معقول لهذه التفرقة، ولا منطق لها، فيما بين الجنين الذي يخرج من بطن أمه حيّا، وهذا الذي يخرج ميتا، ماداموا قد استباحوا أكلهما جميعا، اللهم إلا أن يكون ذلك عن وهم تسلط على عقولهم، فأراهم فى هذا الحىّ غير هذا الذي فى الميت.
وقل فى واردات هذا الوهم ما تشاء.
فقد يكون ذلك عن شعور بأن الجنين الذي خرج حيّا يحمل معه روحا تتسلّط على المرأة المتزوجة، فتفسد حملها، أو تختلط به فيجىء الولد منها على صورة غير صورة الإنسان السوىّ.. أو نحو هذا.
وذلك كله ضلال فى ضلال.
وقوله سبحانه: «سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ» أي أنه سبحانه
320
وتعالى سيحاسبهم على هذا الوصف الباطل الذي يلحقونه بتلك الأشياء التي يقولون فى حلّها وحرمتها ما تمليه عليهم أهواؤهم، دون أن يكون ذلك مستندا إلى دين أو معتمدا على عقل.. والله سبحانه وتعالى «حكيم» لا يدخل فى شريعته مثل هذا الضلال «عليم» بما يعمل الظالمون، المفترون، الضالون..
وفى عرض أباطيل هؤلاء الضالين ومفترياتهم بلفظ: «قالوا».. و «قالوا» مع أنهم فعلوا هذه الأشياء فعلا، إشارة إلى أن هذه الأفعال هى وليدة أقوال تقال، وهى أوهام وظنون، لا تلبث حتى تستولى على عقول سامعيها فتتشكل منها أفعال، ويقوم عليها سلوك.. وهذا ما يشير أيضا إلى ما للكلمة من أثر فى تقويم سلوك المرء أو اعوجاجه.. فالكلمة ليست مجرد صوت يطرق السمع، ثم يذهب أدراج الرياح، وإنما هى- فى حقيقتها- رسول هدى، وداعية خير، أو هى قذيفة مدمرة، وجرثومة مهلكة.
وقوله سبحانه: «قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ» هو تعقيب على تلك الشناعات التي تلبس المشركين، وتستولى على وجودهم، وهو حكم بالخسران واقع عليهم من الله سبحانه جزاء لما اقترفوا من سيئات، وما ارتكبوا من آثام.. ومن أبرز هذه الآثام وأشنعها قتلهم أولادهم «سفها بغير علم» أي عن ضلال، وسفه، وجهالة، ولهذا قدّم قتل الأولاد على كل جناية غيرها..
وقوله تعالى: «وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ» معطوف على قوله تعالى: «قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ» أي أن هذا الخسران الذي حكم الله به عليهم، هو لجنايتهم الغليظة فى قتل أبنائهم، ثم لتحريم ما حرموا مما رزقهم الله من أنعام وحرث، افتراء على الله، وادعاء عليه بأن هذا مما شرعه الله
321
لهم، وهو مما وكّدته خيالاتهم المريضة، ومدركاتهم السقيمة.. تماما كما قتلوا أولادهم سفها بغير علم.
وقوله تعالى: «قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ» هو حكم عليهم بالضلال والسفه بعد الحكم عليهم بالخسران والضياع. فإن كان لهم إلى أنفسهم حاجة، فيبادروا إلى استنفاذها من هذا الضلال، وإقامتها على طريق الحق والعدل والإحسان..
الآيات: (١٤١- ١٤٤) [سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٤١ الى ١٤٤]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (١٤١) وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٤٢) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٤٣) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٤٤)
التفسير: فى هذه الآيات، يعرض الله سبحانه وتعالى مشاهد من آيات قدرته، وروائع علمه وحكمته فيما أبدع وصوّر فى هذا الوجود، من نعم سابغة
322
وعطايا جزيلة، كان لكثير من الناس مكر فيها، وكفر بها.. وهى التي كان من شأنها أن تقابل منهم بالولاء لله، والتمجيد له، والتسبيح بحمده..
فهذه الجنات المعروشات، أي القائمة على عروش: وهى العنب الذي يفترش سقوفا تتدلّى منها ثماره المهدّلة، وهذه الجنّات غير المعروشات التي تظلل الأرض بأغصانها، وأوراقها وثمارها، وهذه النخيل السابحة فى أعنان السماء، تحمل على رءوسها ثمرا مختلف الألوان، متشاكل الطعوم، وهذه الزروع التي تفترش الأرض، وتكسو أديمها ببساط سندسى يحمل على ظهره الحبّ والثمر، وهذه الأشجار من الزيتون والرّمان، فى صوره المختلفة، وأشكاله المتعددة- كل هذا الذي يملأ الأرض من حياة، وجمال، ومن خير عميم ورزق كريم، هو من صنع الخالق العظيم، ومن فيض كرمه وإحسانه.. وهو مائدة ممدودة لعباده جميعا.. وربّ المائدة يضيفهم إليه، ويدعوهم إلى مدّ أيديهم إلى هذا الرزق الكريم.. «كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ».
وفى قوله تعالى: «كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ» تذكير للناس بهذه النعم التي أفاضها الله عليهم، وإلفات للغافلين منهم إلى ما لله سبحانه وتعالى عليهم من فضل وإحسان، وإلا فإن الناس فى غير حاجة إلى دعوة للأخذ من هذا الثمر والأكل منه.. ولكن فى دعوة الله سبحانه وتعالى تذكير لهم بأنهم فى ضيافة صاحب هذا الثمر، وأنهم لن يأكلوا منه إلا بعد أن يأذن لهم، إذن تكريم وتفضّل وإحسان..
وفى القيد الوارد على الأكل من الثمر بقوله تعالى: «إِذا أَثْمَرَ» تقييد للأنظار بهذه الجنات وتلك الزروع، وملاحظة أطوار الحياة التي تتنقل فيها، وأنها لم تصل إلى هذا الطور الذي تحمل فيه الثمر الذي يصلح للأكل إلا بعد أن قطعت طريقا طويلا، فى نموّها وتطورها، شأنها شأن الإنسان يكون
323
بذرة فى بطن أمه، ثم ينشق عنه الرحم وليدا، فطفلا، فغلاما، فصبيّا، فشابا، فكهلا، فشيخا..
وبهذه الملاحظة لتلك الجنات وهذه الزروع تتجلى قدرة الله، وتتكشف آيات إبداعه وخلقه، فيكون من ذلك كله عبرة لأولى الألباب، وتبصرة وذكرى لقوم يؤمنون.
وقوله سبحانه «وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ» أمر بأداء الحق المفروض على هذه النعم التي يعيش فيها أهلها.. وحق هذه النعم هو شكر الله عليها، إذ هو المنعم بها، ومن شكر الله عليها، مشاركة الفقراء والمحتاجين لهم فيها، وإعطاؤهم ما أوجب الله على الأغنياء للفقراء فى أموالهم فى قوله تعالى «وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ» (٢٤- ٢٥: المعارج) وفى إضافة الحقّ إلى الله سبحانه وتعالى هكذا: «حقّه» إشعار بأن هذا الحق هو لله، صاحب هذه النعم، وأنه سبحانه قد جعل هذا الحقّ الذي له، لهؤلاء الفقراء من عباده..
وإذن فليس لأحد من الأغنياء منّة على هؤلاء الفقراء، ولا فضل له عليهم، إذا هو أعطاهم مما لله عنده.. فذلك من حقّ الله عليه، والله سبحانه وتعالى يجزيه عما أعطى، فضلا منه سبحانه وكرما.. لأنه تعالى يأخذ مما له، ويجزى الثواب الجزيل عليه، أضعافا مضاعفة.. فسبحانه سبحانه، ما أعظم فضله، وما أوسع رحمته، وأكثر مننه على عباده..
وفى قوله سبحانه: «وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ» ذهب أكثر المفسّرين إلى أنّ النهى هنا وارد على إتيان حق الله فى هذا الثمر، وجعلوا الحقّ مضافا إلى الزرع على معنى: وآتوا حقّ الثمر يوم حصاده بالصدقة
324
على الفقراء فى قصد دون إسراف.
وهذا- فى رأينا- مردود من وجوه:
فأولا: إضافة الحق إلى الله سبحانه وتعالى أولى من إضافته إلى الثمر، لأنه بالنسبة إلى الله حق أصيل، وهو بالنسبة للثمر حق تبعىّ، بعد تعلق حق الله به.
وثانيا: أنه ليس من طبيعة الناس الإسراف فى الإحسان، وإنما الغالب عليهم هو البخل والشحّ فى هذا الباب، ولهذا كانت دعوة الله إليهم دائما متجهة إلى التحريض على الإنفاق، والإغراء به، بما وعد الله المحسنين من الخير العظيم على إحسانهم فى الدنيا، بنماء أموالهم، وفى الآخرة، بحسن المثوبة وعظيم الجزاء. مثل قوله تعالى «فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى» (٥- ١٠ الليل)..
وقوله سبحانه: «مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ» (٢٦١: البقرة).
فالشحّ هو الغالب على الناس، وليس السّخاء، ولا الإسراف فى هذا المقام، مقام التصدّق على الفقراء..
وعلى هذا، فإنه من غير المتفق مع دعوة القرآن، أن تحمل آياته دعوة إلى التحذير من الإسراف فى البذل والعطاء، للفقراء والمساكين.
وثالثا: إذا كان فى المؤمنين من يبالغ فى الإحسان، ويسرف فى البذل، فإن ذلك زيادة فى الخير، ومبالغة فى الإحسان، فلا تجىء دعوة سماوية
325
بالتحذير للمؤمن أن يعلى مقامه عند الله بالمبالغة فى الإحسان، وبذل العطاء للفقراء والمحتاجين..
ورابعا: إذا فرض أن الإسراف مكروه حتى فى باب الإحسان، فإن المسرفين هنا قلّة قليلة جدا، لا يحمل التحذير لها بهذه الصيغة العامّة المطلقة، التي تنسحب آثارها على المسرفين، والمعتدلين، بل وعلى الأشحّاء جميعا..
حيث يجد الشحيح مدخلا إلى المبالغة فى شحّه، حين يسمع دعوة تقول:
«وَلا تُسْرِفُوا».
وخامسا: إذا كان من الحكمة التحذير من الإسراف فى جميع الأحوال، فإنه مما يجانب الحكمة فى تلك الحال التي يطعم فيها الطاعمون من هذا الثمر الذي ملأ الله أيديهم منه- أن يدعوا إلى ترك الإسراف هنا- الذي يحمل فى مضامينه دعوة إلى الإمساك- وهم يطعمون، ويتخيّرون ألوانا مما يطعمون، وعيون الفقراء ترقبهم، ببطون خاوية، ولعاب يسيل!! وعلى هذا فإن الفهم الذي نستريح إليه لقوله تعالى: «وَلا تُسْرِفُوا» هو أنه قيد وارد على قوله سبحانه: «كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ».. أي كلوا من ثمره فى غير إسراف، حتى يكون فى أيديكم فضلة تؤدون فيها حق الله فى هذا الثمر الذي تطعمون منه، وحتى لا تمتلىء البطون، وتبلغ حدّ التخمة، فلا يذكر المرء حينئذ شهوة جائع إلى هذا الثمر.
أما قوله تعالى: «وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ» فهو معطوف على قوله تعالى: «كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ».. معترضا بين صاحب الحال وهو الفاعل فى الفعل «كلوا» وبين جملة الحال وهى قوله تعالى: «وَلا تُسْرِفُوا»..
ويكون المعنى: كلوا من ثمر هذه الجنات وتلك الزروع عند ما ينضج ثمرها،
326
وآتوا حق الله فى هذا الثمر الذين تأكلون منه، غير مسرفين فى الأكل..
والسرّ فى اقتران الأمر بالأكل من الثمر والأمر بإتيان حق الله منه، ذلك الاقتران الذي يفصل بين صاحب الحال والحال.. السرّ فى هذا هو- والله أعلم- تذكير بحق الله، وشغل النفس به، وهى تتذوق بواكير ثمر هذه الجنات وتلك الزروع، وذلك قبل أن تشبع وتتخم.. وهذا من شأنه أن يقيم فى كيان الإنسان عزيمة صادقة موثّقة على الوفاء به عند حصاد هذا الثمر، فى حين أن ذلك يدعو أيضا إلى المبادرة بإعطاء شىء من حق الله فيه قبل الحصاد، ومشاركة الفقراء، للآكلين من بواكيره، حتى لا يطول بهم الحرمان والانتظار إلى يوم الحصاد.. «كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ»..
فإذا جاء الحال بعد ذلك مقيّدا للأكل، وناهيا عن الإسراف فيه جاء هذا شاملا لجميع الأحوال التي يؤكل فيها هذا الثمر- فى حال نضجه، وصلاحيته للأكل وفى حال حصاده وجمعه، وما بعد حصاده وجمعه.
«وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ» فى أي حال من الأحوال.
وقوله تعالى: «وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً» معطوف على قوله سبحانه:
«جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ» أي أنه سبحانه أنشأ كذلك حمولة وفرشا من الأنعام، كما أنشأ جنات معروشات وغير معروشات من الزروع.
والمراد بالإنشاء هنا تيسير هذه النعم وتذليلها للإنسان، وهدايته إلى تسخيرها والانتفاع بها على هذه الوجوه.. فتلك نعم أخرى إلى نعمة إيجادها.. فالله سبحانه وتعالى، هو الذي أوجدها، ثم هو سبحانه الذي مكّن للإنسان من أن ينتفع بها، بما منحه من قوى عاقلة، تقدّر وتدبر، وتعرف كيف تسوس هذه النعم، وتستخرج بعض ما ضمت عليه من خير.
327
والحمولة من الأنعام: ما يحمل عليه من إبل، وخيل، وحمير..
والفرش: ما يتخذ من هذه الأنعام من جلد وصوف، ليفترش..
وقوله تعالى: «كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ» أي كلوا مما رزقكم الله من هذه الأنعام التي تتخذون منها حمولة وفرشا، «وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ» فيما يملى عليكم من أباطيل تحرّمون بها ما أحلّ الله لكم «إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ» يحرّم عليكم نعم الله، ويقيم بينكم وبينها حواجز باطلة، تفسد عليكم هذه النعم، فلا ترون فيها كمال النعمة، وسعة الإحسان..
وقوله سبحانه: «ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ» بدل من «حمولة وفرشا» أي «وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً.. ثمانية أزواج».. أو هو مفعول به لقوله تعالى: «كُلُوا» أي كلوا من هذا الذي رزقكم الله من الأنعام ثمانية أزواج، وقوله سبحانه:
«مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» هو بيان لهذه الأنعام التي سخّرها الله للناس، وأباح لهم أكلها، وما كان للمشركين من ادعاءات وافتراءات على الله فيها.
فهذه الأنعام التي أحلّ الله أكلها، هى ثمانية أزواج، أي ثمانية متزاوجة، أي هى أزواج.. ذكر وأنثى.. من الضأن اثنين: ذكر وأنثى، ومن المعز اثنين: ذكر وأنثى، ومن الإبل اثنين: ذكر وأنثى، ومن البقر اثنين: ذكر وأنثى.. فهى أربعة ذكور، وأربع إناث.. الضأن، والمعز، والإبل، والبقر.
وما يندرج معها من فصائلها.. وهى التي أحل أكلها دون غيرها من الأنعام..
328
وفى قوله تعالى: «قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ» إنكار على المشركين هذا الذي شرعوه من حلّ بعضها وحرمة بعضها، كما ذكر الله سبحانه وتعالى عنهم ذلك فى قوله سبحانه: «وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ».. وقوله سبحانه: «وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا».. فهذا هو حكم الله فيها.. الإباحة المطلقة. فمن أين جاءهم هذا القول الذي يقولونه فيها؟
«نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ».. وإنه لا علم عندهم، ولكنها أوهام وأباطيل..
وقوله سبحانه: «أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا؟» هو إنكار بعد إنكار.. فبعد أن أنكر الله عليهم أنهم ليس معهم علم من كتاب سماوى بهذا الذي يقولونه، أنكر عليهم أنهم كانوا ممن تلقوا هذا العلم من الله أو كانوا شهودا وحضورا عند تلقّيه! وإذن فلا حجة معهم على هذه المفتريات التي يفترونها على الله.. وإذن فهم مبطلون فيما يقولون فى هذه الأنعام، وهم بهذا الباطل ظالمون معتدون، يضلون أنفسهم، ويضلون غيرهم.. وإذن فليحملوا أوزارهم وأوزارا مع أوزارهم. «فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ».
الآيات: (١٤٥- ١٤٧) [سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٤٥ الى ١٤٧]
قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (١٤٦) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١٤٧)
329
التفسير: بعد أن أبطل الله سبحانه وتعالى مفتريات المشركين وما يقولونه فى مطاعمهم عن الأنعام، أمر النبىّ الكريم أن يلقاهم بما بين يديه من شريعة الله فى هذه المطاعم: «قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ..».. فالمطاعم من هذه الأنعام كلها مباح لا حرمة فيه، إلا ما كان ميتا غير مزكّى بالذبح، وإلا ما كان دما مسفوحا أي سائلا مراقا، أو ما كان من لحم الخنزير، فإنه رجس، أي دنس وقذر، أو كان مما لم يذكر اسم الله عليه. وأهلّ- أي ذكر- اسم غير اسم الله عند ذبحه، فإنه فسق وخروج به عن الإيمان بالله، وتلطيخ له بالشرك.. فهذه كلها محرمات مستثناة من عموم الحلّ، لما تلبّس بها من أوضار وأقذار، ما عدا الخنزير فإنه رجس فى أصله.
وفى قوله سبحانه «مَسْفُوحاً» قيد وارد على حرمة الدم، وهو أن يكون دما سائلا، مما يجرى فى عروق الحيوان.. فذلك هو الدم الحرام، على خلاف الدم المتجمد أصلا كالكبد والطحال، فهما حلالان، كما جاء فى الحديث الشريف: «أحلت لكم ميتتان ودمان: السمك والجراد، والكبد والطحال..»
330
وقوله تعالى: «أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ» معطوف على قوله تعالى:
«إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ» أي أو فسقا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ».. وقوله تعالى «فَإِنَّهُ رِجْسٌ» هو بيان للعلة فى حرمة لحم الخنزير.
أي فإن لحم الخنزير رجس، أي قذر أصلا، بخلاف المحرمات السابقة فإنها حلال أصلا، ولكن دخل عليها ما أفسدها وجعلها فسقا خارجا عن دائرة الحلال..
وقوله تعالى: «فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» هو استثناء من حرمة المحرّمات السابقة التي حرم الله على المسلمين أن يطعموا منها فى حياتهم المألوفة..
أما إذا وقع المسلم فى حال لا يجد فيها ما يأكله وخاف على نفسه التلف، فإنه قد أبيح له أن يتناول من تلك المحرمات ما يسد جوعته، ويحفظ حياته..
«غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ» أي غير متجاوز الحدّ الذي يدفع عنه ضراوة الجوع، وغير معرض نفسه لمثل هذا الموقف قصدا، ليستبيح لحم الخنزير مثلا..
وقوله تعالى: «فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» إشارة إلى سعة رحمة الله ومغفرته لعباده، وما لهما من أثر فى ضبط هذا الموقف الذي يضطر فيه الإنسان إلى الإلمام بهذه المحرمات..
فمن رحمة الله أنه عمل على صيانة النفس الإنسانية من التلف، فأباح لها المحظور عند الاضطرار والحاجة، بعد أن صانها من الدنس فحرم عليها الخبيث.
ومن واسع مغفرته أنه شمل هذه المحظورات فى حال الاضطرار، بالمغفرة.
وفى تقديم المغفرة على الرحمة كرم ولطف من رب العالمين، حيث جعل المغفرة إذنا يصحبه معه من يأكل من هذه المحظورات عند الاضطرار فلا يتأثم ولا يتحرّج قوله تعالى: «وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ»..
331
بعد أن بين الله سبحانه وتعالى ما أحل للمسلمين من طيبات، وما حرّم عليهم من خبائث- بين سبحانه ما حرم على اليهود من طيبات أحلها للمسلمين، وقد كانت حلّا لليهود من قبل أن تنزل التوراة، فحرمها الله عليهم، عقابا لهم ونكالا، إذ مكروا بآيات الله، وكفروا نعمه..
فحرّم الله عليهم كل ذى ظفر من الأنعام، أي كل ما كان منفرج الأصابع، كالإبل والنعام والدجاج والبط، كما حرم عليهم شحوم البقر والعنم، إلا الشحم الذي علق بظهورها، وما اشتملت عليه من الحوايا الشحم.. وهى الأمعاء، والكرش أو الشحم الذي اختلط بعظم كشحم الإلية.
وقوله تعالى: «ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ» هو تعليل لهذه العقوبة التي أخذهم الله بها، وضيق عليهم ما وسّعه على غيرهم من عباده، وذلك لأنهم بغوا واعتدوا، ولم يقفوا عند الحدود التي حددها الله لهم، فكان عقابهم أن أخذهم الله بالضيق، إذ طلبوا السعة من غير ما شرع الله..
وفى قوله تعالى: «وَإِنَّا لَصادِقُونَ» إشارة إلى أن ما تلقاه النبىّ من آيات ربه، وفيما أخبر به عن اليهود هنا، هو من الصدق الذي لا افتراء فيه، لأنه تنزيل من رب العالمين..
ونلمح فى قوله تعالى: «وَإِنَّا» وهى ضمير الجمع، المراد به الله سبحانه وتعالى فى جلاله وعظمته، نلمح فيه الرسول الكريم، مضافا إلى الله فى هذا الخطاب الموجه إلى اليهود، مؤكدا صدق الله وصدق الرسول.. «وَإِنَّا لَصادِقُونَ»..
وفى هذا تكريم للرسول أي تكريم..
وفى قوله سبحانه: «فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ» التفات إلى النبىّ الكريم، وتلقين له بكلمات الله التي يردّ بها على اليهود الذين يكذبون بما أخبر القرآن الكريم من تحريم ما حرّم الله
332
عليهم من طيبات، فإنهم سيزعمون مزاعم كثيرة، ويقولون فيما يقولون من زور وبهتان: إن الله لم يحرّم علينا هذا الذي يذكره محمد عنا فى قرآنه! وقد علم الله سبحانه منهم أنهم لن يسلّموا بما أخبر به النبىّ عنهم، ولهذا جاء قوله تعالى مؤكدا هذا الخبر بقوله سبحانه: «وَإِنَّا لَصادِقُونَ» وذلك ليكون لهم من هذا التوكيد رادع يردعهم عن التكذيب بخبر يعلمون صدقه.. فإن أبوا إلا لجاحا وعنادا، لقيهم الرسول بقوله تعالى: «رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ» وفى هذا وعيد لليهود، وتجريم لهم، وأنهم- مع سعة رحمة الله- لا ينالون هذه الرحمة، ولا يدخلون فيمن يرحمهم الله من عباده، لأنهم أجرموا فى حق الله، «وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ».
هذا، ويلاحظ أن الآية الكريمة لم تلقهم بالتجريم لقاء مباشرا، بل جاء الحكم على المجرمين حكما عاما، يشملهم ويشمل غيرهم من المجرمين- وذلك أن الآية مكية، والسورة كلها مكية، ولم يكن الرسول قد التقى باليهود التقاء مباشرا، وإنما هذه الإشارات البعيدة هى إرهاص بما سيكون بينهم وبين الرسول من لقاء مباشر، وأنهم لن يلقوا الرسول، بالسلام، والتسليم، بل سيلقونه- بما عرف عنهم- بالبهت والتكذيب..
وهذا من شأنه:
أولا: أن يهيىء نفس النبىّ للمعركة المنتظرة بينه وبين اليهود، وأنها معركة ستكون أسلحة اليهود فيها هى البهت والتكذيب، والافتراء والدس.
وثانيا: أن يلفت اليهود إلى النبىّ، وإلى ما سيكون له من شأن معهم، وأنه ليس رسولا إلى العرب وحدهم، بل هو رسول إلى كل من تبلغه رسالته، من عرب وغير عرب، من مشركين وأهل كتاب على السواء.
333
الآيات: (١٤٨- ١٥٠) [سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٤٨ الى ١٥٠]
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (١٤٨) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١٥٠)
التفسير: من مفتريات المشركين أنهم يمكرون بأنفسهم، ويسوّغون لها الباطل والضلال بمثل هذه الأقوال التي يقولونها عن مشيئة الله، ويعلقون بها كل آثامهم.. وذلك كقولهم حين يدعون إلى الإيمان، وترك ما هم فيه من شرك: «لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ».. وفى عطف آبائهم عليهم إشارة إلى أنّهم إنما يتبعون دين آبائهم، وأنهم إذا كانوا هم وآباؤهم على شرك، فذلك مما أراده الله لهم، ولو شاء الله لهم ألّا يشركوا ما أشركوا..».. هكذا يمكرون بآيات الله، وهكذا يتعلّلون بمشيئة الله، ويسترون شركهم بها..
وهم فى هذا القول كاذبون حتى مع أنفسهم.. فلو أنّهم كانوا مؤمنين بالله على تلك الصفة التي يؤمنون فيها بمشيئته، ويرون أنها المشيئة الغالبة التي يردّ إليها كل شىء- لو أنّهم آمنوا بالله على تلك الصفة لما كانوا مشركين، بل كان إيمانهم بالله إيمانا خالصا مبرأ من الشرك، إذ أضافوا إليه كلّ شىء،
334
وردّوا إلى إرادته ومشيئته كل شىء، ولو أنهم فعلوا ذلك لما كان لهم إلى هذه المعبودات التي عبدوها من دون الله وسيلة، ولكانوا هم وهذه المعبودات سواء عند الله، لا يملكون لأنفسهم ضرّا ولا نفعا.. ولكنهم إذ يقولون فى مشيئة الله هذا القول الذي يحسبون أنه يخليهم من مسئولية الشرك، بل ويعفيهم من كل إثم- لا يؤمنون بالله هذا الإيمان، ولا يرونه الإله المتفرد بكل شىء! وقد تحدثنا من قبل عن فساد هذا القول فى بحثنا الذي قدمناه، عن مشيئة الله، ومشيئة الإنسان، عند تفسير قوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ..» (الآية: ١١١) من هذه السورة.
وقوله تعالى: «كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا» إشارة إلى ما بين أصحاب القلوب المريضة، والنفوس الفاسدة، من تشابه فى التداعي إلى الشرّ، والتجاوب مع الضلال.. وأنه كما كذّب هؤلاء المشركون وقالوا «لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا» قال كثير ممن سبقوهم إلى الشرك هذا القول، فكان كفرهم وضلالهم ضربا من هذا المنطق الفاسد.
وفى قوله تعالى: «حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا» تهديد ووعيد لهؤلاء المشركين إذا هم ظلّوا على ما هم فيه من شرك وضلال، وأنهم سيلاقون ما لاقى أسلافهم الذين أشركوا، ولم تنفعهم العبر والمثلات، فأخذهم الله بذنوبهم، وصبّ عليهم العذاب فى الدنيا، وسيلقون العذاب الأليم فى الآخرة..
وقوله تعالى: «قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا» مواجهة للمشركين بتهمة الشرك الذي تلبّسوا به متذرّعين بتلك الحجة الفاسدة التي يلقون بها كل دعوة تدعوهم إلى ترك الشرك.. «لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا».
وهم مطالبون هنا بأن يقيموا هذا القول على علم من كتاب سماوى، أو من عقل سليم..
335
وإنه لا علم عندهم من هذا أو ذاك.
وإذ خرسوا فلم يردوا على هذا السؤال، فقد تولّى الله سبحانه وتعالى، الجواب المفحم لهم، الفاضح لسفههم وضلالهم: «إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ» وهو جواب يواجههم بالتهمة التي تدينهم، وتلقى بهم فى مهاوى الهالكين.
«والخرص» الأخذ بالشيء من غير علم محقق، يقال خرص النخلة. أي قدّر ما عليها من ثمر قبل أن ينضج، وهذا لا يكون إلا عن حدس وتوهّم، أشبه بالرجم بالغيب.
قوله تعالى: «قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ» هو ردّ زاجر على المشركين، وإدحاض لافترائهم على الله، والتعلل لشركهم بقولهم:
«لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا».. وكأنهم بهذا القول إنما يقيمون لهم حجّة على الله، فلا يؤاخذهم على ما يقع منهم من شرك أو غيره من الآثام، بحجة أن الله هو الذي أراد لهم الشرك، كما أراد لهم كل فعل منكر، إذ بيده كل شىء، وإليه يردّ كلّ شىء.. أليس هذا هو قول المؤمنين بالله عن الله. ؟
فكيف يراد من المشركين أن يخرجوا من شركهم؟ ألهم إرادة مع الله، أو مشيئة مع مشيئته.. هكذا يقولون!؟
وهذا من المشركين ضلال فى ضلال، إذ لو كانوا مؤمنين بالله- كما قلنا- على تلك الصّفة لكان لهم أن يقولوا فى مشيئته هذا القول.. ولكنهم إذ يجعلون لله شركاء يعبدونهم من دونه، لا يجعلون لمشيئته من يشاركه فيها، بل يجعلونها مطلقة، فلا مشيئة لأحد مع مشيئته.. وهذا تناقض مفضوح..
فإمّا إله متفرد بألوهيته، ومشيئته، وإذن فلا يشاركه أحد فى ألوهيته ومشيئته، وإما إله مع آلهة، يشاركونه المشيئة، كما يشاركونه الألوهية، وإذن
336
فلا يصحّ لهؤلاء المشركين أن يضيفوا إلى مشيئة الله ما يقع لهم من شر وشرك..
وقد ردّ الله عليهم حجتهم الفاسدة بقوله تعالى: «قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ» أي إن حجتكم التي تحتجون بها لشرككم بالله، وإضافة هذا الشرك إلى مشيئته هى حجة باطلة، لا تقيم لكم عند الله عذرا، ولا تدفع عنكم مغبة هذا الإثم الذي غرقتم فيه، ولا تزال حجّة الله قائمة عليكم، آخذة بنواصيكم إلى المصير المشئوم الذي أعدّ لكم.. «فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ» التي لا تنقض أبدا.. وقد أقام الله عليكم الحجة، بأن جعل لكم سمعا وأبصارا وأفئدة، ثم أرسل إليكم رسله مبشرين ومنذرين.. فلم يغن عنكم سمعكم ولا أبصاركم ولا أفئدتكم، ولم تستقبلوا بتلك الجوارح هذا النور المرسل لكم هدى ورحمة.. فحقّ عليكم العذاب، بما كنتم تكسبون..
وقوله تعالى: «فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ» إشارة إلى أن مشيئة الله عامة شاملة، فلا يقع فى الوجود شىء إلا بمشيئته، حتى شرك هؤلاء المشركين، هو واقع بمشيئة الله، كما يقول هؤلاء المشركون، الذين يقولون هذا القول هزؤا وسخرية، ومكرا وتخابثا.
ونعم: لو شاء الله ما أشركوا هم ولا آباؤهم.. ولكن قد طردهم الله من مواقع فضله وإحسانه، وعزلهم عن مجتمع أحبابه وأوليائه، لأنهم ليسوا أهلا لإحسانه، ولا موضعا لكرامته.. والله سبحانه وتعالى يقول: «إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ» (٢٢- ٢٣: الأنفال).
قوله تعالى: «قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا».
هلمّ: اسم فعل أمر، بمعنى هات، أو أحضر.
337
والخطاب هنا للمشركين، الذين يقولون: «لو شاء ما أشركنا نحن ولا آباؤنا ولا حرّمنا من شىء».. فهم مطالبون بأن يأتوا بمن يشهد لهم على هذا الزّور الذي يقولونه على الله، ويضيفونه إلى مشيئته.. فهل عندهم من يشهد لهم بأن الله حرّم هذه المطاعم، التي يقولون إنها حرّمت عليهم بمشيئة الله وتقديره؟
إن الله- سبحانه- لم يحرّم شيئا من هذا الذي حرموه هم.. وإذن فهم الذين شاءوا بمشيئتهم أن يكون لهم موقف مع هذه الأشياء، وأن يصدروا حكمهم عليها بالتحريم، فكيف ينكرون- بعد هذا- مشيئتهم العاملة معهم فى الحياة، فتحلّ لهم الخبائث، وتحرم عليهم الطيبات؟ أليس ذلك عن مشيئة وإرادة منهم؟ إنهم لو كانوا- كما يقولون- بلا مشيئة متحركة عاملة، لما كان لهم أن يبدّلوا ويغيروا شيئا وجدوه قائما على ما أوجده الله، ولكانوا كالحيوان الأعجم، الذي يحرى على طبيعته، ويأخذ الأشياء على ما بها..
فهم- والحال كذلك- أصحاب مشيئة، ولكنها مشيئة فاسدة ملتوية، يعترضون بها سنن الله، ويغيّرون بها شريعة الله، ومن ثمّ فهم معتدون آثمون، قد حقّ عليهم أن يؤخذوا باعتدائهم، وأن يعذبوا بآثامهم.
وقوله سبحانه: «فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ» تثبيت للنبى الكريم على طريقه المستقيم، الذي أقامه الله عليه، وألا يأخذ بشهادة من يشهدون على هذا الزور، فإن أهل الضلال الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، لا يتحرجون من الكذب والافتراء، ولا يتورّعون أن يدّعوا على الله الكذب والبهتان.
وقوله تعالى: «وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ» أي يشركون بربهم، ويجعلون
338
له أندادا، وأعدالا يساوونه، ويتوازنون معه عندهم.
وفى إضافتهم إلى «ربهم» توبيخ لهم، وتسفيه لعقولهم، إذ يسوّون ربهم الذي خلقهم، وسوّاهم، ورزقهم، ببعض مخلوقاته، من حيوان وجماد.
وهذا لا يكون إلا ممن سفه نفسه، وزهد فى عقله، واستسلم لهواه، واتبع شيطانه..
الآيات: (١٥١- ١٥٣) [سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٥١ الى ١٥٣]
قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣)
التفسير: بعد أن فضح الله سبحانه وتعالى حجة هؤلاء المشركين التي أجازوا بها هذا الضلال الذي هم فيه، من شرك بالله، وتحريم ما حرموا من الطيبات التي أحلّها الله لعباده- أمر الرسول الكريم أن يؤذّن فى الناس-
339
ومن بينهم هؤلاء المشركين- بما شرع الله لهم من دين، وما حرّم عليهم من محرّمات، وما أحلّ لهم من طيبات، وتلك هى شهادة الرسول عليهم، بعد أن دعوا إلى أن يأتوا بمن يشهد لهم على هذه المفتريات التي افتروها على الله..
وشهادة الرسول، هى مما تلقاه وحيا من ربّه، وليس منها شىء من عنده:
«قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ».
وسواء جاء هؤلاء المدعوون للاستماع إلى تلك الشهادة السماوية أم لم يجيئوا، فإن الرسول مأمور بأن يؤذن بشهادته فى الناس، وأن يبلغ ما أنزل إليه من ربه.. فمن كانت له أذنان فليسمع..!
«أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً» هذا هو رأس المحرمات التي حرّمها الله على عباده:
الشرك به، إذ هو كفران بمن خلق ورزق، وعدوان على صاحب الحق فى الولاء والخضوع له، من عباده.
وقد اضطرب المفسرون اضطرابا شديدا، واختلفت بهم مذاهب الرأى فى توجيه الآية الكريمة وجها يستقيم على فهم يوفق بين أمور تبدو فى ظاهر النظم متعارضة، إن هى جرت على قواعد اللغة والنحو..
فأولا: الجمع بين التحريم فى قوله سبحانه: «ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ» ثم وقوع هذا التحريم على النهى عن الشرك فى قوله تعالى: «أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً»..
وذلك أنه إذا أخذ بظاهر النظم كان معناه: «ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً» أي أن الذي حرمه ربكم عليكم هو أن تتركوا الشرك.. وهذا أمر بالشرك ودعوة إليه، وذلك ما ينزه كلام الله عنه..
وثانيا: مما وقع تحت حكم التحريم أمور واجبة شرعا، يرغّب الإسلام فيها، ويدعو إليها، وقد جاءت بصيغة الأمر فى قوله تعالى: «وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً».
340
وقوله سبحانه: «وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ»
.. وقوله جل شأنه:
«وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا»
.. «وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا»
..
وهذه الأشياء المأمور بها، على سبيل الوجوب، فى آيات كثيرة من كتاب الله- تبدو هنا فى ظاهر النظم كأنها دعوة إلى ترك هذه الواجبات، وإلباسها لباس المحرمات.. وهذا ما لا يستقيم أبدا..
وقد ذهب المفسرون- كما قلنا- مذاهب كثيرة مختلفة، من التأويل المتعسف، ومن افتراض الحذف والإضافة، والتقديم، والتأخير، وغير ذلك، مما يدخل على الآية الكريمة أجساما غريبة فيها، تفسد نظمها، وتحجب وجوه إعجازها..
ولا نعرض هنا لتلك المقولات، فهى مبثوثة فى كتب التفاسير ولا محصل منها لفهم سليم نستريح إليه.. وحسبنا أن ندلى بما عندنا من فهم للآية الكريمة وما فى نظمها الذي جاءت عليه، من إعجاز، لا يتحقق إلا بالنظر إليها، نظرا مباشرا، من غير أن يدخل عليها ما يغير من صورة نظمها، بحذف أو إضافة، أو تقديم أو تأخير..
فنقول- والله أعلم- إن الآية الكريمة والآيتان بعدها تضمنت مجموعة من النواهي والأوامر..
فمن النواهي: «أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً».. «وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ» «وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ».. «وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ».. «وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ»
..
ومن الأوامر: «وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً».. «وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ»
.. «وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا»
.. «وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا»
341
ثانيا: إذا لاحظنا أنّ الأمر والنهى هما الصميم من الشريعة الإسلامية، وعليهما تدور أحكام الشريعة ووصاياها- إذا لاحظنا ذلك وجدنا أن لهذا الجمع بين النواهي والأوامر التي حملتها تلك الآيات الثلاث، حكمته، إذ كان الرسول الكريم هنا فى مواجهة الناس جميعا، وخاصة المشركين، وهو فى هذا الموقف مطالب بأن يكشف أصول الشريعة التي جاء بها، وما أحلّ الله للناس وما حرّم عليهم.. وقد جاءت الآيات الثلاث بالأصول العامة لأحكام الشريعة كلها، فيما حرّمت وأحلّت.
عن عبادة بن الصامت رضى الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ «أيكم يبايعنى على ثلاث..» ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم..» حتى فرغ من الآيات قال: «فمن وفى فأجره على الله، ومن انتقص منهن شيئا فأدركه الله به فى الدنيا كانت عقوبته (أي كانت العقوبة كفارة له) ومن أخر إلى الآخرة، فأمره إلى الله، إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه».
وعن ابن عباس رضى الله عنهما، أن هذه الآيات محكمات، لم ينسخهن شىء من جميع الكتب، وأنهن أم الكتاب، من عمل بهن دخل الجنة، ومن تركهن دخل النار.
ثالثا: إذا لاحظنا أيضا أن الرسول الكريم لم يكن فى هذا الموقف يواجه الناس بأحكام جديدة، يكشف بها عن وجه رسالته، وإنما كانت تلك الأحكام قد تقررت من قبل، فيما جاء به القرآن، وقد كان ذلك معلوما كلّه هؤلاء المخاطبين، من مؤمنين ومشركين. - إذا لاحظنا ذلك وجدنا أنه لم يكن عمل الرسول هنا إلا تلاوة لنصوص أحكام كانت مقررة من قبل، ولهذا فقد أمر الرسول الكريم بأن يدعو الناس إليه، «قُلْ تَعالَوْا».. ثم يستحضر الدستور
342
الذي بين يديه من كتاب الله، ويتلو هذه الأحكام المقررة فيه، من أوامر ونواه: «قُلْ تَعالَوْا.. أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ»..
خامسا: وإذ كان المشركون قد شرعوا لأنفسهم شريعة مفتراة، حرّموا بها ما أحلّ الله من طيبات، فقد كانت المواجهة لهم أولا بما حرّم الله من منكرات، وما نهى عنه من خبائث..
وننظر فى الآيات الكريمة فنرى:
أولا: قوله تعالى: «قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ» يمثّل الرسول الكريم وقد جاء، وبين يديه، وعلى لسانه، كتاب الله الذي معه، يتلو منه ما حرّم الله على عباده من منكرات..
ثم ها هو ذا رسول الله يتلو عليهم ما حرم الله من منكرات، فيبدأ بقوله تعالى: «أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً». فهذا أول ما يجده الرسول الكريم من منكر نهى الله عنه فى آيات كثيرة أنزلها الله عليه، واستودعها قلبه.. مثل قوله تعالى: «وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً». وقوله سبحانه:
«فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً».
فهذا هو أول ما يتلوه الرسول من كتاب ربه: «أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً»..
والرسول فى هذه التلاوة غير ملتفت إلى تلك الدعوة التي دعا فيها الناس إلى أن يستمعوا إليه، وهو يتلو ما حرّم ربهم عليهم.. فتلك دعوة موجهة منه للناس أن يجتمعوا إليه، فإذا اجتمعوا، استقبلهم بما أنزل الله عليه من آياته، من منهيّات..
وإذن فلا اتصال فى النظم من جهة اللغة والنحو بين قوله تعالى: «قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ» وبين قوله سبحانه: «أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً».
343
فالأول عمل من أعمال الرسول لدعوة الناس إليه، والثاني تلاوة من كتاب الله الذي بين يديه.. ومن هنا نجد أكثر من فاصل يفصل بين المقطعين من الآية:
فهناك فاصل زمنىّ- حسىّ ومعنوى- بين الدعوة، وحضور المدعوّين، وبين إسماعهم ما حرّم الله عليهم فى كتابه.. وهناك فاصل اعتباري، حيث أن المقطع الأول هو- فى ظاهره- من كلام الرسول، ومن عمله، على حين أن الثاني من كتاب الله نصّا، يتلوه الرسول من مستودعات الله فى قلبه..
وثانيا: قوله تعالى «وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً» بالعطف على النهى قبله:
«أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً» هو من لوازم هذا النهى ومن مقتضياته.. فإن النهى فى حقيقته أمر سلبىّ، يقتضى الوقوف من المنهىّ عنه موقفا مجانبا له، أو منسحبا منه.. ومن تمام الحكمة أن يعقب تجنّب المنهىّ عنه، الخروج به من هذا الموقف السلبىّ إلى ما يقابله من عمل إيجابىّ.. فإذا امتثل الإنسان النهى عن الشرك بالله، وانخلع عن عبادة من عبدهم من دون الله، كان عليه أن يؤمن بالله، وأن يتقبل أوامره ويعمل بها..
ومن إعجاز القرآن الكريم هنا أن يجىء الأمر بالإحسان إلى الوالدين عقب النهى عن الشرك بالله، ليملأ هذا الفراغ الذي وجد بإجلاء الشرك عن قلوب المشركين، أو بغروب شخصه من آفاق المؤمنين..
فالأمر بالإحسان إلى الوالدين هنا، هو فى المكان الذي كان من المنتظر أن يحلّ فيه الإيمان بالله، محلّ الشرك، بعد أخلى مكانه، وزال شخصه.. وفى هذا ما فيه من تعظيم حق الوالدين، وجعل برهما والإحسان إليهما، أشبه بالإيمان بالله.. أما الإيمان بالله هنا فهو واقع لا شك فيه بعد أن جلا الشرك، الذي كان هو الحاجز الذي يحول بين المشركين وبين الإيمان بالله..
ثالثا: قوله تعالى: «وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ
344
وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ»
هو استكمال لما حرّمه الله من منكرات، مما يتلوا الرسول الكريم على الناس من كتاب ربه..
وفى النهى عن قتل الأولاد خشية الفقر، بعد أمر الأبناء ببرّ الآباء- فى هذا ما يكشف عن تلك المفارقة البعيدة بين ما يكون من الأبناء من برهم بآبائهم، وبين ما يأتيه هؤلاء الآباء من قتل أولئك الأبناء.. وفى هذا ما فيه ضلال وسفه، وخروج على مألوف الطبيعة، فيما بين الكائن الحىّ ومواليده..
من حيوان ونبات!! وفى قوله تعالى: «وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ» قدّم رزق الآباء على الأبناء، لأن الآباء هنا فى فقر واقع بهم، وفى ضيق استولى عليهم، فقتل فيهم مشاعر الإنسانية، حتى طوعت لهم أنفسهم قتل أولادهم، شفقة عليهم، وإراحة لهم من آلام الجوع، وقسوة المسغبة، فجاء قوله تعالى:
«نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ» ليشعر الآباء بأن الله متكفل برزقهم ورزق أبنائهم معا، وأن هذا الضيق الذي هم فيه سوف يعقبه فرج، وأن هذا الرزق الضيّق الذي هم فيه فعلا، هو قسمة بينهم وبين أبنائهم، فهم فيه سواء، وأنه ليس للآباء أن يقتلوا أولادهم وهم شركاؤهم فى هذا الرزق المحدود الذي فى أيديهم..
وقد جاء قوله تعالى فى سورة الإسراء: «وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ» بتقديم رزق الأبناء على الآباء، لأن الآباء فى تلك الحال ليسوا فى حال ضيق وفقر، وإنما هم على شعور الخوف من الفقر مستقبلا، فهم يقتلون أولادهم فى تلك الحال لا لفقر وقع، وإنما لخشية الفقر المتوقّع، الذي قد يكون وجود الأبناء سببا فى التعجيل به- فجاء قوله تعالى: «نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ» ليدفع هذا الشعور، وليقيم مكانه شعورا مضادا له، وهو أن
345
الأبناء لهم رزقهم عند الله، وأن هذا الرزق مقدم على رزق الآباء، وأن قتلهم حينئذ يكون عدوانا عليهم، وحبسا لهذا الرزق لذى سيرزقهم الله إياه..
وفى قوله تعالى: «وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ» نهى عن الفواحش، وهى المنكرات، وعلى رأسها لزنا، إذ كانت الصفة الملازمة له فى القرآن هى الفحش.. وما ظهر من الفواحش هو المعالن به منها، وهو فاحشة إلى فاحشة.. إذ كان الزنا فى أصله فاحشة، وكان الإعلان به فاحشة أخرى، لما فى لمعالنة من إذاعة الفاحشة، والتحريض عليها، والله سبحانه وتعالى يقول:
«لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ» فكيف بالجهر بالسوء من الفعل؟..
وما بطن من الفواحش، هو ما كان فى ستر وخفاء، فهو منكر فى ذاته، ولا يرفع عنه هذا المنكر إتيانه فى خفاء، إذ لا تخفى على الله خافية، وإن خفيت على الناس.
رابعا: قوله تعالى: «وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ»
. هو نهى عن العدوان على مال اليتيم الذي فى يد الأوصياء عليه، وفى النهى عن قربانه تحذير من الدنوّ منه بقصد السوء والعدوان، وفى قوله تعالى: «إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ»
استثناء من النهى العام بالاقتراب من مال اليتيم، إلا أن يكون ذلك لإصلاحه، واستثماره، أو الأخذ منه بالحق والإحسان، دون جور أو عدوان.. وفى قوله تعالى: «حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ»
هو بيان للغاية التي يمتد إليها النهى عن الاقتراب من مال اليتيم، لأنه إلى تلك الحال يكون فى يد الوصىّ، فإذا بلغ اليتيم أشده صار المال إلى يده، وخرج من يد الوصىّ، فلا سلطان له حينئذ للتسلط عليه كيتيم.. ويكون العدوان على ماله بعد هذا، هو عدوان على الإنسان من حيث هو إنسان لا ولاية لأحد عليه، الأمر الذي نهى الله عنه.
خامسا: قوله تعالى: «وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً
346
إِلَّا وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا
وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ».
هو أمر بعد النهى عن العدوان على مال اليتيم، وفى هذا الأمر تكتمل صورة النهى، ويتمّ المقصود منه..
فإذا امتنع الوصىّ عن العدوان على مال اليتيم، وكفّ يده عن الأخذ منه بغير حق، كان عليه أن يتبع هذا السلوك فى كل ما بينه وبين الناس من معاملات.. فإذا كان الشيء مكيلا أو موزونا، أوفى الكيل والميزان فيما يكيل أو يزن «بالقسط» أي بالعدل.. فإذا نقص المكيل أو الموزون شيئا ما، من غير قصد، فذلك مما عفى الله عنه، ورفع الحرج عن صاحبه.. «لا نكلف نفسا إلا وسعها» إذ ليس مما تتسع له النفس ويقدر عليه الإنسان أن يضبط الكيل والميزان ضبطا مطلقا، بل المطلوب هو تحرّى الحق، وعدم القصد إلى خيانة أو خسران فى الكيل والميزان..
وهذا الأمر وإن كان فى مواجهة الأوصياء، هو أمر عام لكل من يؤمن بالله، وإن كان الأوصياء أولى الناس بالاستجابة له، بعد تلك التجربة التي كانوا فيها مع اليتيم ومال اليتيم.
ومما هو من قبيل الأمانة، وتجنب الخيانة، الحكم بالعدل بين الناس، وقول كلمة الحق فى أداء الشهادة، وكذلك الوفاء بالعهود والمواثيق التي بين الإنسان وخالقه، أو بينه وبين العباد..
سادسا- قوله تعالى: «وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ» هو تعقيب على تلك النواهي والأوامر التي أمر الله سبحانه النبىّ الكريم أن يتلوها على الناس. فهذه المأمورات وتلك المنهيّات هى شريعة لله، وهى الصراط المستقيم الذي دعا لله عباده إلى الاستقامة عليه، فمن اجتنب المنهيات، وأنى المأمورات، فهو على صراط الله، وعلى شريعة الله، ومن
347
انحرف عن هذا الصراط، فقد ضلّ وغوى، وكان من الهالكين..
وفى قوله تعالى: «فَاتَّبِعُوهُ» أمر بإتيان الأوامر.. وفى قوله تعالى: «وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ» نهى عن إتيان المنهيات..
وفى التعبير عن سبيل الله «بالصراط» والتعبير عن الطرق الخارجة عنه بالسبل- إشارة إلى أن طريق الله «صراط» أي طريق معدّ ومهيأ للسالكين، تقوم عليه منارات هدى، وإشارات هداية.. أما هذه السبل التي لا نستقيم على هذا الصراط، فهى طرق لا معلم فيها، ولا شارة عليها، يركبها الراكب فيتخبط، ويتعثر، ويضلّ.. ولهذا جاء التعبير عن صراط الله بلفظ المفرد، لأنه واحد لا غير، إذ الحقّ حقّ.. وجهه واحد، وطريقه واحدة، وأما الباطل، فهو أباطيل.. متعدد الوجوه، مختلف السبل..
عن ابن مسعود رضى الله عنه قال: «خطّ رسول الله خطا بيده ثم قال:
«هذا سبيل الله تعالى مستقيما، ثم خط خطوطا عن يمين ذلك الخط وعن شماله، ثم قال:
«وهذه السبل ليس فيها سبيل إلا وعليه شيطان يدعو إليه، ثم قرأ:
«وأن هذا صراطى مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله»
.
الآيات: (١٥٤- ١٥٧) [سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٥٤ الى ١٥٧]
ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (١٥٧)
348
التفسير: فى العطف بثمّ هنا على الآيات السابقة ما يشير إلى أن هذا الخبر الذي تضمنته، متأخر زمنا عن الأحكام الواردة فى تلك الآيات.. وهذا يخالف الظاهر.. فإن ما نزل على النبىّ من آيات تلاها على الناس، هو متأخر زمنا عن الكتاب الذي نزل على موسى، وهو التوراة.. فما تأويل هذا؟
والجواب: أن هذا الذي يتلوه الرسول الكريم من كلمات ربه هو متقدم حكما على كتاب موسى، وإن جاء متأخرا زمنا.. ذلك أن القرآن الكريم هو أصل الكتب السماوية، وأنه جمع ما تفرق منها. وقد أشرنا إلى ذلك عند تفسير قوله تعالى: «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ» (٤٨: المائدة).
فإن ما أنزل الله على موسى، هو مما شرع الله من قبل للأمم السابقة، فيما جاء على لسان نوح وإبراهيم، وغيرهما من الأنبياء.. إذ أن شرع الله واحد، وهذا الذي تلاه النبىّ من كتاب الله هو أصل كل شريعة، وقوام كل دعوة سماوية، سبقت شريعة موسى، أو جاءت بعدها.
وقوله تعالى: «تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ» هو وصف للحال الذي نزل عليها الكتاب الذي جاء به موسى، وهو أنه جاء تاما على أحسن ما يكون عليه التمام، كما جاء مفصلا لكل شىء.. ففى التوراة بيان مفصل لكل جزئية جاءت بها الشريعة الموسوية، فيما يتصل بالعقيدة، أو بالأمور
349
الدنيوية، حيث لم تدع مجالا لتأويل أو تفسير، ولا مكانا لعقل ينظر ويجتهد..
وذلك:
أولا: ليسدّ على بنى إسرائيل الطريق إلى التأويلات الفاسدة، وإلقاء أهوائهم كلها على كلمات الله، إذا جاءتهم مجملة، تحمل أكثر من محمل.. وذلك لما عرف عنهم من المكر بايات الله والاستخفاف بحرماته..
وثانيا: ليلغى عقول هؤلاء القوم، وليمسك بهم فى دور الطفولة، جزاء لما استولى عليهم من طبائع خبيثة، لا تؤمن إلا بما يقع لأيديهم من محسوسات، فكانت التوراة بهذا التفصيل الذي جاءت به، أشبه بالمحسوسات فى وضوحها، وتحديد دلالاتها.. ومع هذا فقد خرجوا على حدودها، بما أدخلوا عليها من حذف وإضافة ومن تبديل وتحريف.
وقوله تعالى: «لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ» هو تعليل لهذا التفصيل الذي جاءت عليه التوراة، الأمر الذي لا يدع لهم سبيلا إلى التأويل والتخريج، والذي من شأنه أن يكشف لهم الطريق إلى الله، وإلى الإيمان به، وبالدار الآخرة، التي هم فى ذهول عنها، لما يشغلهم من أمور الدنيا، ويحبس عقولهم وقلوبهم عليها..
هذا، وفى خطاب اليهود بضمير الغائب، دون أن يجرى لهم ذكر يعود إليه هذا الضمير- استخفاف بهم، وإهمال لشأنهم، إذ كانوا فى هذا الشرود وذلك الذهول عن الله، وعن كلماته المفصّلة التي بين أيديهم..
قوله تعالى:
«وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» هو دعوة للمسلمين، إلى الله، وإلفات لهم إلى هذا الكتاب الذي جاءهم به رسول الله
350
من ربّه، يحمل البركة والخير والرحمة، لمن اتّصل به، وأخذ عنه..
وقوله سبحانه: «أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ».. بيان للحكمة من إنزال هذا الكتاب على الأمة العربية، بلسانها العربي، وعلى يد رسول عربى، دون إحالة لهم على ما عند غيرهم من أهل الكتاب.. وفى هذا فضل عظيم من الله على هؤلاء القوم، الذين خصهم الله برحمته، ومسهم بفضله، فجعلهم أهلا لخطابه، وموضعا لمغارس السماء فيهم.. فلا حجّة لهم بعد هذا، ولا مكان لقول يقولونه إذا هم حوسبوا على هذا الشرك وذلك الضلال الذي هم فيه، حيث يقولون: إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا، ولم ندرس ما عندهم، ولم نتلق عنهم، لأننا أمة لنا كيان واعتبار، وتأبى علينا أنفسنا أن نجىء إليهم متطفلين على ما فى أيديهم..
فها هو ذا الكتاب الذي كانوا يتطلعون إليه، قد جاءهم.. فما حجتهم إذا لم يتبعوه ويؤمنوا به؟.
والطائفتان اللتان سبقتا الأمة العربية بالكتب المنزلة، هما: اليهود والنصارى.. وقد خصّا بالذكر لأنهما كانا من المساكنين للأمة العربية، والمتصلين بها، زمانا ومكانا.
وقوله تعالى: «أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ» هو من المقولات التي كان يمكن أن يقولها مشركو العرب، لو لم ينزل عليهم القرآن الكريم.. وها هو ذا الكتاب المبارك قد نزل عليهم.. فماذا هم فاعلون به؟ وما حجتهم على الله إذا زهدوا فيه، أو وقفوا منه موقف العداوة، ونصبوا له الحرب، كما هم يفعلون الآن والنبي معهم؟.
وقوله تعالى: «فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها» هو وعيد لهؤلاء المشركين الذين استقبلوا آيات الله بالتكذيب بها، وبالصدّ عنها، فإنهم
351
قد ظلموا أنفسهم، وحرموها هذا الخير المرسل إليهم، وحجبوها عن تلك الرحمة المهداة لهم..
وقوله سبحانه: «سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ» هو حكم بالعقوبة الرادعة، والجزاء الأليم، لأولئك الذين كذّبوا بآيات الله وصدّوا عنها.. والصّدوف عن الشيء: التولي عنه، والمجانية له.
الآيات: (١٥٨- ١٦٠) [سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٥٨ الى ١٦٠]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٥٨) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (١٥٩) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦٠)
التفسير: بعد أن أعذر الله للمشركين من قريش ومن حولهم، بما بعث فيهم من رسول منهم، وبما أنزل إليهم من كتاب كانوا يتمنونه من قبل ليكونوا أهل كتاب كاليهود والنصارى، وبعد أن كان منهم هذا الذي استقبلوا به الكتاب والنبىّ الذي حمل إليهم الكتاب، من مشاقّة وعناد، وتكذيب- بعد هذا كله لم يكن لهم أن ينتظروا إلا أن يصيروا إلى هذا المصير الذي يقودهم إليه كفرهم وضلالهم، إذ لا هدى لهم بعد هذا الهدى، ولا كتاب بعد هذا الكتاب.. ولهذا جاء قوله تعالى: «هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ
352
أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ»
لينكر عليهم هذا العناد الذي هم فيه، وليدخل اليأس عليهم من أن ينتظروا جديدا، يطلع فى أفقهم بدعوة تدعوهم إلى الله، إذ ليس هناك دعوة أبلغ ولا أبين من هذه الدعوة التي بين أيديهم..
وأنهم إن كانوا ينتظرون أن تأتيهم الملائكة، أو يأتيهم الله، أو تأتيهم بعض آيات الله.. فلينتظروا..
أما الملائكة فلن يأتوا أبدا.. والله سبحانه وتعالى يقول: «قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا» (٩٥: الإسراء).
وأما الله سبحانه وتعالى، فهو معهم أينما كانوا، ولكنهم لن يروه عيانا، لأنه سبحانه منزّه عن أن يحدّ، ولو رؤى لكان محدودا..
وأما بعض آيات الله، وهى نذر الهلاك المرسل إليهم، أو علامات الساعة التي تكون بين يديها- فإنها إذا جاءت لم تكن من تلك المعجزات التي تكشف للناس طريق الإيمان إلى الله، وإنما هى آيات تطلع عليهم بالمهلكات، حيث لا فائدة للإيمان بعدها، ولا أثر له فى حياة صاحبها، لأنها تأتى لتنهى حياة الناس، لا لتجدّد لهم حياة طيبة فى الحياة.... وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ» فالإيمان عند استقبال الموت لا ينفع صاحبه، فهو كإيمان فرعون حين أدركه الغرق.
وقوله تعالى: «أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً».. الضمير فى إيمانها يعود إلى النفس التي آمنت عن مجىء نذر الله، ثم تراخى الموت قليلا عنها حتى ملكت أمرها، واستطاعت أن تتصرف فى الحياة- وهى مؤمنة- تصرفا
353
يجرى مع الإيمان فى طريق الخير والإحسان.. وهذا من رحمة الله بالناس وفضله عليهم، إذ لم يحرمهم ثمرة الإيمان الذي دخلوا فيه، وهم بين إرهاصات الموت ونذره..
وقوله تعالى: «قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ» هو وعيد للمشركين، وإبعاد لهم من الإيمان الذي دعوا إليه فصدّوا عنه، وتركهم وما هم فيه من ضلال، ينتظرون ما ينجلى عنه كفرهم وعنادهم، وما ينجلى عنه موقف النبي وأصحابه.. معهم! قوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ» هو إشارة إلى اليهود والنصارى، وما انتهى إليه أمرهم من تفرق واختلاف فى دينهم الذي بين أيديهم، وقد تفرقوا شيعا وأحزابا.. كلها على غير طريق الحق، لأن الحق طريق واحد، ومن استقام عليه قليل من كثير، وفرقة واحدة من جميع هذه الفرق..
وقد نبّه الله سبحانه وتعالى النبىّ إلى هذا الخلاف الذي بين اليهود واليهود، وبين النصارى والنصارى، ثم بين اليهود والنصارى، وأنه ليس للنبى أن يدخل معهم فى جدال، «إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ» أي يفصل بينهم فيما اختلفوا فيه، ويجزى كلّا بما كسب، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى بعد هذا: «مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» - هكذا رحمة الله، وكذلك عدله..
يجزى الحسنة بعشر أمثالها.. فضلا وكرما، ويجزى السيئة بمثلها.. عدلا وصدقا..
354
الآيات: (١٦١- ١٦٤) [سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٦١ الى ١٦٤]
قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤)
التفسير: بهذه الآيات، والآية التي بعدها تختم هذه السورة، التي كانت كلها دعوة إلى الله، ومعارض مختلفة للكشف عن قدرته، وعلمه، وحكمته..
فهى- وإن اختلفت مواقف الدعوة فيها إلى الله- تمثل جميعا موقفا واحدا، ينتهى النظر بعد ترداده فيها، وتطوافه حولها إلى التسليم بأن لهذا الوجود ربا، وأن لهذه الموجودات خالقا مبدعا، قائما على كل كبير وصغير منها..
هكذا ينتهى النظر فى هذه المعارض الكثيرة المختلفة التي عرضتها السورة هذا العرض المعجز المبين- ينتهى النظر وقد امتلأت قلوب المؤمنين إيمانا بالله، وخشية لجلاله وولاء لعظمته وقدرته.. أما المشركون، والكافرون، ومن فى قلوبهم مرض، فلا على المؤمنين من أمرهم شىء.. فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر..
والرسول الكريم هو إمام المؤمنين، وقدوة المهتدين، ولهذا فقد كان من فضل الله عليه، ورعايته له أن لقيه- سبحانه- بعد هذه المواقف المتزاحمة
355
بينه وبين المشركين- لقيه ربه بهذا الهدى السماوي، ليثبت به فؤاده، ويشرح به صدره..
«قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ».. فعلى هذا الصراط المستقيم أقام الله نبيه الكريم من أول خطوه فى الحياة.
وقوله تعالى: «دِيناً قِيَماً» هو بدل من «صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» على اعتبار أنه منصوب محلّا.. أي هدانى ربى صراطا مستقيما: «دِيناً قِيَماً.. مِلَّةَ إِبْراهِيمَ» وقوله تعالى: «مِلَّةَ إِبْراهِيمَ» بدل من قوله: تعالى «دِيناً قِيَماً» و «حَنِيفاً» حال من إبراهيم، «وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» حال أخرى...
وقوله تعالى: «قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ» هو بيان لهذا الصراط المستقيم الذي هو الدين القيم، والذي هو ملة إبراهيم، والذي من شأن من يستقيم على هذا الصراط، ويتبع هذا الدّين أن يكون ولاؤه كله لله، وعمله كله لله.. فلا يصلى إلّا له، ولا يتقرب بالطاعات والقربات إلا إليه وحده، وأن تكون حياته كلها لله، مسلما له وجهه، مفوضا إليه أمره، حتى إذا مات كان إلى الله مصيره، وبين يديه موقفه وحسابه..
تلك هى عقيدة من أقامه الله على صراطه المستقيم، وذلك هو ولاؤه لله رب العالمين.. وهكذا كان النبىّ، وهكذا ينبغى أن يقتدى به كل مؤمن بالله وبرسوله..
وقوله تعالى: «وَبِذلِكَ أُمِرْتُ» إشارة إلى أن هذا الذي عليه النبي، من إيمان بالله، وولاء له، ليس من عند ذاته، وإنما هو مما أمره الله به، وأمره أن يبلغ الناس إياه..
356
وقوله تعالى: «وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ» أي أول من استجاب لدعوة الله التي دعى إليها، وأمر أن يؤذّن بالناس فيها.. فالنبىّ هو صاحب الدعوة الإسلامية، فكان أول من لبس ثوبها، وتوّج بتاجها..
والسؤال هنا: هل كان النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- أول المسلمين عامة، أي أول الإنسانية كلها إسلاما.. أم هو أول المسلمين من أمة محمد وحدها؟.
والجواب على هذا- والله أعلم- أنّه- صلى الله عليه وسلم- أول المسلمين فى أمته، إذ أن «الإسلام» هو سمة الرسالة المحمدية وحدها، من بين الرسالات السماوية كلها، وأن «الإسلام» وإن كان هو دين الله، الذي جاءت به رسالاته كلها، إلا أنه لم يأخذ هذا الوصف إلا فى رسالة محمد، التي كانت مجتمع الرسالات، وخاتمتها، وأن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام قد دعوا الله بأن يجعل منهما أمة مسلمة، هى أمة محمد عليه الصلاة والسلام..
وفى هذا يقول الله على لسانيهما: «رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ».. (١٢٨: البقرة) :
ويقول سبحانه «مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ» (٧٨: الحج) وقوله تعالى:
«قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ» أمر من الله- سبحانه- للنبىّ أن ينكر على المشركين ما هم فيه من ضلال وشرك بالله، وأنهم إذا ابتغوا غير الله ربّا، فلن يبتغى هو غير الله ربّا، فالله هو ربّ كل شىء، واتخاذ غيره إلها، هو شرود عن الحق الذي استقام عليه الوجود كله..
357
وقوله سبحانه:
«وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى» هو تقرير لهذه الحقيقة التي استقام عليها النبىّ ومن تبعه من المؤمنين، إذ أن كل إنسان محاسب على ما عمل، ومجزيّ به، وما تكسبه كل نفس فهو محسوب عليها: «وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى» أي لا تحمل نفس ذنب نفس أخرى.
إذ كل نفس بما كسبت رهينة.
والوزر: الحمل الثقيل، ومنه قوله تعالى: «وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ».
وقوله تعالى: «ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» هو تذكير للناس جميعا بربهم الذي أنشأهم، وربّاهم، وأنهم سيعرضون عليه بأعمالهم، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
الآية: (١٦٥) [سورة الأنعام (٦) : آية ١٦٥]
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٥)
التفسير: بهذه الآية الكريمة تختم سورة الأنعام.. وهى سورة كلها نعم وأفضال، تحدّث كلماتها وآياتها بما لا يحصى من آلاء الله ونعمه المبثوثة فى الوجود، والتي من شأنها أن تطلع ذوى الأبصار والبصائر على ما فى ملكوت الله من آيات القدرة، وروائع الحكمة، فيخبتوا لله ويخشعوا..
وقوله تعالى: «هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ» بيان لنعمة من نعم الله الكبرى على بنى آدم خاصة، إذ جعلهم «خلائف الأرض» وفى هذا ما فيه من تكريم لهم، وإحسان إليهم..
358
وفى قوله تعالى: «خَلائِفَ» إشارة إلى مكانة الإنسان، وسموّ قدره، وأنه ليس مكرّما فى جنسه وحسب، بل هو مكرّم فى كل فرد من أفراده..
فكل إنسان هو خليفة الله فى هذه الأرض، وأنه- وإن كان عضوا فى المجتمع الإنسانى- فليس ذلك بالذي يذهب بشىء من مقومات شخصيته، أو يجور على هذا الوضع الكريم الذي وضعه الله فيه.. فهو خليفة الله، أيّا كان مكانه فى المجتمع.. غنيا أو فقيرا، عالما أو جاهلا، قويا أو ضعيفا.. إنه خليفة الله فى الأرض، ومن واجبه أن يعمل بمقتضى هذه الخلافة، ويجمع إلى يديه أسبابها ومقوّماتها..
هذا هو الإنسان كما تنظر إليه شريعة الإسلام.. إنسان كريم على الله، خلع عليه خلع الخلافة، وتوجه بتاجها، وجعل درة هذا التاج هو عقله الذي يستطيع به أن يبلغ من السموّ ما يشاء.
وإنه لمن ظلم الإنسان لنفسه، ومن استصغاره لوجوده، أن يسفّ وينحدر عن هذا المستوي الكريم الذي رفعه الله إليه، فيتحول إلى كائن حيوانىّ ذليل، يقاد فينقاد، ويستذل فيذلّ، حتى لينعزل عن العالم الإنسانى، ويصبح على غير الخلق السوىّ الذي خلقه الله عليه.. «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ..»
وفى قوله تعالى: «وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ» إشارة إلى أن هذا المستوي الكريم الذي وضع الله سبحانه الإنسان فيه- ليس على درجة واحدة، وإنما هو درجات، بعضها فوق بعض، وإن كان أدنى هذه الدرجات لا ينزل بالإنسان عن درجة الخلافة التي أعده الله لها. فإن نزل الإنسان عن هذه الدرجة فقد نزل عن إنسانيته، وتحلّى عن مكانه بين الناس..
أما هذا التفاوت الذي بين الناس فهو فى مراتب الفضل، ابتداء من
359
درجة الخلافة، إلى جميع الكمالات التي تمكّن من أسبابها وتؤكد من سلطانها.
وفى هذا التفاوت الذي بين الناس، وفى درجات التفاضل المقسومة بينهم، يتحرك الناس، فيلحق المتأخر بالمتقدم، ويسعى المتقدم ليلحق بمن تقدم عليه وفضله، أو ينزل عن مكانه الذي هو فيه ليأخذه غيره.. وهكذا يتحرك الناس فى الحياة صعودا وهبوطا، ويتبادلون المواقف، ويتنازعون منازل الفضل، وبهذا تظل ريح الحياة فى حركة دائمة مجدّدة. يتنفس فيها الناس أنفاس الأمل، والقوة، والحياة..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ» أي ليمتحنكم فيما أودع فى كل منكم من قوى، هى رصيد كل منكم فى سوق الحياة، وفى هذه السوق يكون العمل، فيربح من يربح، ويخسر من يخسر..
وفى قوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» إشارة إلى أن كل عمل يحمل جزاءه معه، جزاء معجّلا، يجده الإنسان فى الدنيا، قبل أن يلقى الجزاء عليه فى الآخرة.
فالأعمال الطيبة تفوح منها ريح طيبة على صاحبها، فيجد فيها رضى النفس، وراحة الضمير، وحسن الأحدوثة، وسلامة العاقبة.. والأعمال الخبيثة تهب منها على صاحبها ريح خبيثة تزكم أنفه، وتخنق صدره، وتفسد حياته، وتضلّ سعيه..
هذا هو الجزاء السريع العاجل فى الدنيا لكل عمل.. «إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ».
أما فى الآخرة، فهناك الحساب والجزاء، لأعمال الإنسان جميعها، حيث تسوّى أعماله خيرها وشرها، ويوفىّ الجزاء العادل عليها.
وهذا الجزاء المعجل والمؤجّل معا، تحفّه مغفرة الله، وتمسه رحمته، ولولا
360
ذلك لهلك الناس جميعا، ولما نجا منهم أحد.. «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ، وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ» :(٦١: النحل) وكون الله بصيرا بعباده، يقتضى أنه عالم بما فيهم من ضعف إنسانىّ، إن لم تمسسهم رحمة الله، وتحفّ بهم مغفرته لم يكن للناس جميعا سبيل إلى الخلاص والنجاة، وهذا ما يكشف عنه سرّ الجمع بين ما عند الله من عقاب سريع، وما عنده من مغفرة ورحمة: «إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ».
361
Icon