تفسير سورة البلد

صفوة البيان لمعاني القرآن
تفسير سورة سورة البلد من كتاب صفوة البيان لمعاني القرآن .
لمؤلفه حسنين مخلوف . المتوفي سنة 1410 هـ
مكية، وآياتها عشرون

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ لا أقسم بهذا البلد ﴾ [ آية ١ القيامة ص ٤٨٤ ] أقسم سبحانه بالبلد الحرام وهو مكة ؛ لشرفها وحرمتها بالبيت المعظم – على أن الإنسان خلق مبتلى بالعمل، يكابد في المشاق، ويعاني الشدائد ؛ فلا بد له من العزم والجلد. وجواب القسم قوله : " لقد خلقنا الإنسان في كبد ". والمقصود تسليته صلى الله عليه وسلم.
﴿ وأنت حل... ﴾ أي وأنت حلال به ؛ أي في حل مما تصنع فيه في سبيل الله. تقتل إن شئت من أشرك بالله وأبى إلا المحاداة والمشاقة، وتدع قتله إن شئت. وقد حرم الله مكة يوم خلق السموات والأرض إلى أن تقوم الساعة، ولم يحلها إلا لنبيه صلى الله عليه وسلم ساعة من نهار يوم الفتح، ولن تحل لأحد بعده. يقال : هو حل وحلال ؛ وهو حرم وحرام، وهو محل وهو محرم. وفي هذه الجملة المعترضة بين القسم وجوابه بشارة النبي صلى الله عليه وسلم بفتح مكة على يديه، وحلها له في القتال ؛ وأن عاقبة الاحتمال الفتح والظفر. وقد أنجز الله ذلك يوم الفتح.
﴿ ووالد وما ولد ﴾ ثم أقسم بآدم عليه السلام وما تناسل منه ؛ لأنهم أعجب خلق الله على وجه الأرض ؛ لما ركز فيهم من العقل والإدراك، وقوة النطق والبيان، وكسب العلوم بالاجتهاد. وقد استخلف الله تعالى آدم أبا للبشر في الأرض، وأمر الملائكة بالسجود له تكرمة له. وقيل : هو قسم بآدم والصالحين من سلالته. وقيل : بإبراهيم وإسماعيل ومحمد ؛ صلى الله عليه وسلم أجمعين.
﴿ في كبد ﴾ في تعب ومشقة من مكابدة الهموم والشدائد في الدنيا، لا فرق في ذلك بين الصالحين وغير الصالحين، ولا بين أن تكون المشاق والمتاعب في خير أو شر. فالأنبياء والعبّاد والمجاهدون في سبيل الله في كبد في الدنيا، ولهم النعيم في الآخرة. والجاحدون للنبوة، والحاقدون والمفسدون في الأرض في كبد الدنيا، ولهم وراء ذلك كبد في الآخرة. والكبد : المشقة ؛ من المكابدة للشيء وهي تحمل المشاق في فعله. وأصله من كبد الرجل – من باب طرب – فهو أكبد : إذا وجعته كبده ؛ ثم استعمل في كل تعب ومشقة.
﴿ أيحسب أن لن... ﴾ أيحسب ذلك الإنسان الذي كان يكابد منه الرسول صلى الله عليه وسلم
ما يكابد ؛ وهو على ما قيل : الوليد بن المغيرة : أن لن يقدر على الانتقام منه أحد.
﴿ يقول ﴾ مفاخرا مباهيا. ﴿ أهلكت مالا لبدا ﴾ أنفقت مالا كثيرا. يرد كثرة ما أنفقه فيما كانوا يعدونه في الجاهلية مكارم. أو في عداوة محمد [ صلى الله عليه وسلم ]. يقال : مال لبد، أي كثير لا يخاف فناؤه ؛ كأنه التبد بعضه على بعض والتصق ؛ من تلبد الشيء : إذا اجتمع.
﴿ وهديناه النجدين ﴾ بينا له طريقي الخير والشر ؛ وهو كقوله : " إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا " ١. أو ألهمناه التمييز بينهما، ثم وهبناه الاختيار لأيهما. والنجد : الطريق المرتفع، وجمعه نجود ؛ ومنه سميت نجد ؛ لارتفاعها عن انخفاض تهامة. ووصف طريق الشر الرفعة إما هو على سبيل التغليب. وقيل النجدان : الثديان، وهما كالطريقين لحياة الولد ورزقه.
١ آية ٣ الدهر..
﴿ فلا اقتحم العقبة ﴾ أي فلا اكتسب ذلك الإنسان بماله الكثير الأعمال العظيمة التي لها عند الله رفعة ومنزلة ؛ وهي فك رقبة أو إطعام يتيم أو مسكين، بدل إنفاقها رياء وسمعة فيما لا يعتد به من الأعمال. أو في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم – ولا آمن بالله. والاقتحام في الأصل : الدخول في الشيء بسرعة وشدة من غير رؤية. يقال : قحم في الأمر قحوما – من باب نصر -، رمى بنفسه فيه من غير
روية. والعقبة في الأصل : الطريق الوعر في الجبل ؛ استعيرت للأعمال المذكورة لصعوبتها على النفوس. واقتحامها : فعلها وتحصيلها والدخول فيها. وقيل : العقبة النار أو جبل فيها. واقتحامها : مجاوزتها بمجاهدة النفس في طاعة الله في الدنيا. أو هي الصراط على متن جهنم ؛ واقتحامها : المرور والجواز عليه بسرعة. أي فلا فعل ما ينجو به ويجوز بسببه العقبة الكئود يوم القيامة.
﴿ وما أدراك ما العقبة ﴾ أي أيّ شيء أعلمك ما اقتحام العقبة ؟
﴿ فك رقبة ﴾ أي هو – أي اقتحامها – إعتاق رقبة وتخليصها من إسار الرق والعبودية. والفك : تخليص الشيء من الشيء.
﴿ ذي مسغبة ﴾ أي مجاعة. مصدر ميمي بمعنى السغب. يقال : سغب الرجل – كفرح ونصر – إذا جاع. ووصف اليوم بذلك على حد : نهاره صائم.
﴿ ذا مقربة ﴾ أي قرابة. مصدر ميمي ؛ من قرب في النسب. يقال : فلان ذو قرابتي وذو مقربتي ؛ بمعنى أن نسبي يتصل بنسبه.
﴿ ذا متربة ﴾ أي حاجة وافتقار شديد. مصدر ميمي ؛ من ترب الرجل – من باب طرب – إذا افتقر ؛ كأنه لصق بالتراب من الفقر، وليس له مأوى سوى التراب. وأما أترب فمعناه استغنى ؛ كأنه صار له مال كالتراب في الكثرة ؛ كما قيل في أثرى.
﴿ ثم كان من الذين آمنوا ﴾ عطف على " اقتحم " المنفي، فكأنه قيل : فلا اقتحم ولا آمن ؛ فتكون " لا " مكررة في المعنى. ﴿ وتواصوا بالمرحمة ﴾ أي بالرحم على عباده تعالى.
﴿ أولئك ﴾ الموصوفون بهذه الصفات الجليلة :﴿ أصحاب الميمنة ﴾ أي جهة اليمين التي فيها السعداء. أو جهة الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم.
﴿ أصحاب المشأمة ﴾ أي جهة الشمال التي فيها الأشقياء. أو جهة الذين يؤتون كتبهم بشمائلهم.
﴿ عليهم نار مؤصدة ﴾ أي مطبقة مغلقة أبوابها عليهم ؛ تشديدا في عذابهم. وقرئ بالواو ؛ من آصدت الباب وأوصدته : إذا أغلقته وأطبقته. والاسم فيهما الإصاد والوصاد. والمراد : أنه لا ضوء فيها ولا فرج، ولا خروج منها أبدا. والله أعلم
Icon